إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الحج/الباب الثالث
بيان دقائق الآداب
وهي عشرة
الأول أن تكون النفقة حلالاً وتكون اليد خالية من تجارة تشغل القلب وتفرق الهم حتى يكون الهم مجرداً لله تعالى والقلب مطمئناً منصرفاً إلى ذكر الله تعالى وتعظيم شعائره. وقد روي في خبر من طريق أهل البيت "إذا كان آخر الزمان خرج الناس إلى الحج أربعة أصناف سلاطينهم للنزهة وأغنياؤهم للتجارة وفقراؤهم للمسألة وقراؤهم للسمعة" وفي الخبر إشارة إلى جملة أغراض الدنيا التي يتصور أن تتصل بالحج، فكل ذلك مما يمنع فضيلة الحج ويخرجه من حيز حج الخصوص؛ لاسيما إذا كان متجرداً بنفس الحج بأن يحج لغيره بأجرة فيطلب الدنيا بعمل الآخرة. وقد كره الورعون وأرباب القلوب ذلك إلا أن يكون قصده المقام بمكة ولم يكن له ما يبلغه فلابأس أن يأخذ ذلك على هذا القصد، لا ليتوصل بالدين إلى الدنيا بل بالدنيا إلى الدين. فعند ذلك ينبغي أن يكون قصده زيارة بيت الله عز وجل ومعاونة أخيه المسلم بإسقاط الفرض عنه. وفي مثله ينزل قول رسول الله ﷺ "يدخل الله سبحانه بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة: الموصي بها والمنفذ لها ومن حج بها عن أخيه" ولست أقول لا تحل الأجرة أو يحرم ذلك بعد أن أسقط فرض الإسلام عن نفسه، ولكن الأولى أن لا يفعل ولايتخذ ذلك مكسبه ومتجره فإن الله عز وجل يعطي الدنيا بالدين ولا يعطي الدين بالدنيا. وفي الخبر "مثل الذي يغزو في سبيل الله عز وجل ويأخذ أجراً مثل أم موسى عليه السلام ترضع ولدها وتأخذ أجرها" فمن كان مثاله في أخذ الأجرة على الحج مثال أم موسى فلابأس بأخذه فإنه يأخذ ليتمكن من الحج والزيارة فيه، وليس يحج ليأخذ الأجرة بل يأخذ الأجرة ليحج كما كانت تأخذ أم موسى ليتسير لها الإرضاع بتلبيس حالها عليهم الثاني أن لا يعاون أعداء الله سبحانه بتسليم المكس وهم الصادون عن المسجد الحرام من أمراء مكة والأعراب المترصدين في الطريق. فإن تسليم المال إليهم إعانة على الظلم وتيسير لأسبابه عليهم فهو كالإعانة بالنفس؛ فليتلطف في حيلة الخلاص فإن لم يقدر فقد قال بعض العلماء - ولابأس بما قال - إن ترك التنفل بالحج والرجوع عن الطريق أفضل من إعانة الظلمة فإن هذه بدعة أحدثت وفي الانقياد لها ما يجعلها سنة مطردة وفيه ذل وصغار على المسلمين ببذل جزية. ولا معنى لقول القائل إن ذلك يؤخذ مني وأنا مضطر فإنه لو قعد في البيت أو رجع من الطريق لم يؤخذ منه شيء بل ربما يظهر أسباب الترفه فتكثر مطالبته فلو كان في زي الفقراء لم يطالب فهو الذي ساق نفسه إلى حالة الاضطرار الثالث التوسع في ازلاد وطيب النفس بالبذل والإنفاق من غير تقتير ولا إسراف بل على اقتصاد، وأعني بالإسراف التنعم بأطيب الأطعمة والترفه بشرب أنواعها على عادة المترفين. فأما كثرة البذل فلا سرف فيه. إذ لا خير في السرف ولا سرف في الخير، كما قيل. وبذل الزاد في طريق الحج نفقته في سبيل الله عز وجل والدرهم بسبعمائة درهم. قال ابن عمر رضي الله عنهما: من كرم الرجل طيب زاده في سفره. وكان يقول أفضل الحاج أخلصهم نية وأزكاهم نفقة وأحسنهم يقيناً. وقال ﷺ "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فقيل له يا رسول الله ما بر الحج? فقال: طيب الكلام وإطعام الطعام" الرابع ترك الرفث والفسوق والجدال كما نطق به القرآن. والرفث اسم جامع لكل لغو وخنى وفحش من الكلام ويدخل فيه مغازلة النساء ومداعبتهن والتحدث بشأن الجماع ومقدماته، فإن ذلك يهيج داعية الجماع المحظور والداعي إلى المحظور محظور. والفسق اسم جامع لكل خروج عن طاعة الله عز وجل. والجدال هو المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن ويفرق في الحال الهمة ويناقض حسن الخلق. وقد قال سفيان: من رفث فسد حجه، وقد جعل رسول الله ﷺ طيب الكلام مع إطعام الطعام من بر الحج. والمماراة تناقض طيب الكلام فلا ينبغي أن يكون كثير الاعتراض على رفيقه وجماله وعلى غيره من أصحابه بل يلين جانبه ويخفض جناحه للسائرين إلى بيت الله عز وجل ويلزم حسن الخلق وليس حسن الخلق كف الأذى بل احتمال الأذى وقيل سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال. ولذلك قال عمر رضي الله عنه لمن زعم أنه يعرف رجلاً: هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق? قال: لا، فقال: ما أراك تعرفه الخامس أن يحج ماشياً إن قدر عليه فذلك الأفضل. أوصى عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما بنيه عند موته فقال: يا بني حجوا مشاة فإن للحاج الماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل وما حسنات الحرم? قال: الحسنة بمائة ألف والاستحباب في المشي في المناسك والتردد من مكة إلى الموقف وإلى منى آكد منه في الطريق. وإن أضاف إلى المشي الإحرام من دويرة أهله فقد قيل إن ذلك من إتمام الحج قاله عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم في معنى قوله عز وجل "وأتموا الحج والعمرة لله" وقال بعض العلماء: الركوب أفضل لما فيه من الإنفاق والمؤنة ولأنه أبعد عن ضجر النفس وأقل لأذاه وأقرب إلى سلامته وتمام حجه. وهذا عند التحقيق ليس مخالفاً للأول بل يبنغي أن يفصل. ويقال من سهل عليه المشي فهو أفضل فإن كان يضعف ويؤدي به ذلك إلى سوء الخلق وقصور عن عمل فالركوب له أفضل، كما أن الصوم للمسافر أفضل وللمريض ما لم يفض إلى ضعف وسوء خلق. وسئل بعض العلماء عن العمرة: أيمشي فيها أو يكتري حماراً بدرهم? فقال: إن كان وزن الدرهم أشد عليه فالكراء أفضل من المشي، وإن كان المشي أشد عليه كالأغنياء فالمشي له أفضل؛ فكأنه ذهب فيه إلى طريق مجاهدة النفس وله وجه. ولكن الأفضل له أن يمشي ويصرف ذلك الدرهم إلى خير فهو أولى من صرفه إلى المكاري عوضاً عن ابتذال الدابة. فإذا كانت لا تتسع نفسه للجمع بين مشقة النفس ونقصان المال فما ذكره غير بعيد فيه السادس أن لا يركب إلا زاملة أما المحمل فليجتنبه إلا إذا كان يخاف على الزاملة أن لا يستمسك عليها لعذر وفيه معنيان أحدهما: التخفيف على البعير فإن المحمل يؤذيه. والثاني: اجتنات زي المترفين المتكبرين "حج رسول الله ﷺ على راحلة وكان تحته رحل رث وقطيفة خلقة قيمتها أربعة دراهم وطاف على الراحلة لينظر الناس إلى هديه وشمائله" وقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم "خذوا عني مناسككم" وقيل إن هذه المحامل أحدثها الحجاج وكان العلماء في وقته ينكرونها. فروى سفيان الثوري عن أبيه أنه قال: برزت من الكوفة إلى القادسية للحج ووافيت الرفاق من البلدان فرأيت الحاج كلهم على زوامل وجوالقات ورواحل وما رأيت في جميعهم إلا محملين. وكان ابن عمر إذا نظر إلى ما أحدث الحجاج من الزي والمحامل يقول الحاج قليل والركب كثير ثم نظر إلى رجل مسكين رث الهيئة تحته جوالق فقال: هذا نعم من الحجاج.
السابع أن يكون رث الهيئة أشعث أغبر غير مستكثر من الزينة ولا مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر فيكتب في ديوان المتكبرين والمترفهين ويخرج عن حزب الضعفاء والمساكين وخصوص الصالحين، فقد أمر ﷺ بالشعث والاختفاء ونهى عن التنعيم والرفاهية في حديث فضالة بن عبيد وفي الحديث "إنما الحاج الشعث النفث ويقول الله تعالى "انظروا إلى زوار بيتي قد جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق" وقال تعالى "ثم ليقضوا تفثهم" والتفث الشعث والاغبرار، وقضاؤه بالحلق وقص الشارب والأظفار. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد: اخلولقوا واخشوشنوا. أي البسوا الخلقان واستعملوا الخشونة في الأشياء. وقد قيل: زين الحجيج أهل اليمن لأنهم على هيئة التواضع والضعف وسيرة السلف. فينبغي أن يجتنب الحمرة في زيه على الخصوص والشهرة كيفما كانت على العموم. فقد روي "أنه ﷺ كان في سفر فنزل أصحابه منزلاً فسرحت الإبل فنظر إلى أكسية حمر على الأقتاب فقال ﷺ أرى هذه الحمرة قد غلبت عليكم قالوا فقمنا إليها ونزعناها عن ظهورها حتى شرد بعض الإبل" الثامن أن يرفق بالدابة فلا يحملها ما لا تطيق والمحمل خارج عن حد طاقتها والنوم عليها يؤذيها ويثقل عليها كان أهل الورع لا ينامون على الدواب إلا غفوة عن قعود وكانوا لا يقفون عليها الوقوف الطويل قال ﷺ "لا تتخذوا ظهور دوابكم كراسي" ويستحب أن ينزل عن دابته غدوة وعشية يروحها بذلك فهو سنة وفيه آثار عن السلف. وكان بعض السلف يكتري بشرط أن لا ينزل ويوفي الأجرة ثم كان ينزل عنها ليكون بذلك محسناً إلى الدابة، فيكون في حسناته ويوضع في ميزانه لا في ميزان المكاري. وكل من آذى بهيمة وحملها ما لا تطيق طولب به يوم القيامة. قال أبو الدرداء لبعير له عند الموت: يا أيها البعير لا تخاصمني إلى ربك فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك. وعلى الجملة في كل كبد حراء أجر فليراع حق الدابة وحق المكاري جميعاً وفي نزوله ساعة ترويح الدابة وسرور قلب المكاري. قال رجل لابن المبارك: احمل لي هذا الكتاب معك لتوصله فقال: حتى استأمر الجمال فإني قد اكتريت. فانظر كيف تورع من استصحاب كتاب لا وزن له، وهو طريق الحزم في الورع فإنه إذا فتح باب القليل انجر إلى الكثير يسيراً يسيراً التاسع أن يتقرب بإراقة دم وإن لم يكن واجباً عليه ويجتهد أن يكون من سمين النعم ونفيسه، وليأكل منه إن كان تطوعاً ولا يأكل منه إن كان واجباً. قيل في تفسير قوله تعالى "ذلك ومن يعظم شعائر الله" إنه تحسينه وتسمينه. وسوق الهدي من الميقات أفضل إن كان لا يجهده ولا يكده. وليترك المكاس في شرائه فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن: الهدي والأضحية والرقبة، فإن أفضل ذلك أغلاه ثمناً وأنفسه عند أهله، وروى ابن عمر "أن عمر رضي الله عنهما أهدى بختية فطلبت منه بثلمائة دينار فسأل رسول الله ﷺ أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك وقال بل أهداها" وذلك لأن القيل الجيد خير من الكثير الدون. وفي ثلثمائة دينار قيمة ثلاثين بدنة وفيها تكثير اللحم ولكن ليس المقصود اللحم إنما المقصود تزكية النفس وتطهيرها عن صفة البخل وتزيينها بجمال التعظم لله عز وجل ف "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وذلك يحصل بمراعاة النفاسة في القيمة كثر العدد أو قل "وسأل رسول الله ﷺ ما بر الحج فقال العج والثج" والعج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج هو نحر البدن. وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال "ما عمل آدمي يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من إهراقه دماً وأنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وإن الدم يقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع بالأرض فطيبوا بها نفساً" وفي الخبر "لكم بكل صوفة من جلدها حسنة وكل قطرة من دمها حسنة وإنها لتوضع في الميزان فابشروا" وقال ﷺ "استنجدوا هداياكم فإنها مطاياكم يوم القيامة" العاشر أن يكون طيب النفس بما أنفقه من نفقة وهدي وبما أصابه من خسران ومصيبة في مال أو بدن إن أصابه ذلك فإن ذلك من دلائل قبول حجه. فإن المصيبة في طريق الحج تعدل النفقة في سبيل الله عز وجل الدرهم بسبعمائة درهم بمثابة الشدائد في طريق الجهاد فله بكل أذى احتمله وخسران أصابه ثواب فلا يضيع منه شيء عند الله عز وجل. ويقال إن من علامة قبول الحج أيضاً ترك ما كان عليه من المعاصي وأن يتبدل بإخوانه البطالين إخواناً صالحين، وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة.
بيان الأعمال الباطنة ووجه الإخلاص في النية وطريق الاعتبار بالمشاهد الشريفة وكيفية الافتكار فيها والتذكر لأسرارها ومعانيها من أول الحج إلى آخره
اعلم أن أول الحج الفهم - أعني فهم موقع الحج في الدين - ثم الشوق إليه ثم العزم عليه ثم قطع العلائق المانعة منه ثم شراء ثوب الإحرام ثم شراء الزاد ثم اكتراء الراحلة ثم الخروج ثم المسير في البادية ثم الإحرام من الميقات بالتلبية ثم دخول مكة ثم استتمام الأفعال كما سبق. وفي كل واحد من هذه الأمور تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر وتنبيه للمريد الصادق وتعريف وإشارة للفطن. فلنرمز إلى مفاتحها حتى إذا انفتح بابها وعرفت أسبابها انكشفت لكل حاج من أسرارها ما يقتضيه صفا قلبه وطهارة باطنه وغزارة فهمه.
أما الفهم: اعلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه عن الشهوات والكف عن اللذات والاقتصار على الضرورات فيها والتجرد لله سبحانه في جميع الحركات والسكنات. ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السالفة عن الخلق وانحازوا إلى قلل الجبال وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله عز وجل فتركوا لله عز وجل اللذات الحاضرة وألزموا أنفسهم بالمجاهدات الشاقة طمعاً في الآخرة وأثنى الله عز وجل عليهم في كتابه فقال "ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون" فلما اندرس ذلك وأقبل الخلق على اتباع الشهوات وهجروا التجرد لعبادة الله عز وجل وفتروا عنه بعث الله عز وجل نبيه محمداً ﷺ لإحياء طريق الآخرة وتجديد سنة المرسلين في سلوكها. فسأله أهل الملل عن الرهبانية والسياحة في دينه فقال ﷺ: أبدلنا الله بها الجهاد والتكبير على كل شرف يعني الحج "وسئل ﷺ عن السائحين فقال: هم الصائمون" فأنعم الله عز وجل على هذه الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم فشرف البيت العتيق بالإضافة إلى نفسه تعالى. ونصبه مقصداً لعباده وجعل ما حواليه حرماً لبيته تفخيماً لأمره. وجعل عرفات كالميزاب على فناء حوضه: وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره. ووضعه على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق ومن كل أوب سحيق شعثاً غبراً متواضعين لرب البيت ومستكينين له خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته. مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت أو يكتنفه بلد ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم وأتم في إذعانهم وانقيادهم. ولذلك وظف عليهم فيها أعمالاً لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار. وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية. فإن الزكاة إرفاق ووجهه مفهوم وللعقل إليه ميل. والصوم كسر للشهوة التي هي آلة عدو الله وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل. والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أنس بتعظيم الله عز وجل. أما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط. وفيه عزل للعقل عن تصرفه وصرف النفس والطبع عن محل أنسه فإن كل ما أدرك العقل معناه؛ مال الطبع إليه ميلاً ما. فيكون ذلك الميل معيناً للأمر وباعثاً معه على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد. ولذلك قال ﷺ في الحج على الخصوص "لبيك بحجة حقاً تعبداً ورقاً" ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها. وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم وأن يكون زمامها بيد الشرع فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد. كان ما لا يهتدي إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق. مقتضى الاسترقاق. وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات. وهذا القدر كاف في تفهم أصل الحج إن شاء الله تعالى.
وأما الشوق: فإنما ينبعث بعد الفهم والتحقق بأن البيت بيت الله عز وجل وأنه وضع على مثال حضرة الملوك فقاصده قاصد إلى الله عز وجل وزائر له وأن من قصد البيت في الدنيا جدير بأن لا يضيع زيارته فيرزق مقصود الزيارة في ميعاده المضروب له وهو النظر إلى وجه الله الكريم في دار القرار، من حيث إن العين القاصرة الفانية في دار الدنيا لا تتهيأ لقبول النظر إلى وجه الله عز وجل ولا تطيق احتماله ولا تستعد للاكتحال به لقصورها، وأنها إن أمدت في الدار الآخرة بالبقاء ونزهت عن أسباب التغير والفناء استعدت للنظر والإبصار ولكنها بقصد البيت والنظر إليه تستحق لقاء رب البيت بحكم الوعد الكريم. فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة، هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة والبيت مضاف إلى الله عز وجل فبالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة فضلاً عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل.
وأما العزم: فليعلم أنه بعزمه قاصداً إلى مفارقة الأهل والوطن ومهاجرة الشهوات واللذات متوجهاً إلى زيارة بيت الله عز وجل. وليعظم في نفسه قدر البيت وقدر رب البيت وليعلم أنه عزم على أمر رفيع شأنه خطير أمره وأن من طلب عظيماً خاطر بعظيم. وليجعل عزمه خالصاً لوجه الله سبحانه بعيداً عن شوائب الرياء والسمعة "وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص وإن من أفحش الفواحش أن يقصد بيت الله وحرمه والمقصود غيره. فليصحح مع نفسه العزم وتصحيحه بإخلاصه وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة فليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
وأما قطع العلائق: فمعناه رد المظالم والتوبة الخالصة لله تعالى عن جملة المعاصي مظلمة علاقة وكل علاقة مثل غريم حاضر متعلق بتلابيبه ينادي عليه ويقول؛ إلى أين تتوجه أتقصد بيت ملك الملوك وأنت مضيع أمره في منزلك هذا ومستهين به ومهمل له? أولا تستحي أن تقدم عليه قدوم العبد العاصي فيردك ولا يقبلك? فإن كنت راغباً في قبول زيارتك فنفذ أوامره ورد المظالم وتب إليه أولاً من جميع المعاصي واقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك لتكون متوجهاً إليه بوجه قلبك كما أنك متوجه إلى بيته بوجه ظاهرك. فإن لم تفعل ذلك لم يكن لك من سفرك أولاً إلا النصب والشقاء وآخراً إلا الطرد والرد. وليقطع العلائق عن وطنه انقطع من قطع عنه وقدر أن لا يعود إليه وليكتب وصيته لأولاده وأهله فإن المسافر وماله لعلى خطر إلا من وقى الله سبحانه. وليتذكر عند قطعه العلائق لسفر الحج قطع العلائق لسفر الآخرة فإن ذلك بين يديه على القرب وما يقدمه من هذا السفر طمع في تيسير ذلك السفر فهو المستقر وإليه المصير. فلا ينبغي أن يغفل عن ذلك السفر عند الاستعداد بهذا السفر.
وأما الزاد: فليطلبه من موضع حلال وإذا أحس من نفسه الحرص على استكثاره وطلب ما يبقى منه على طول السفر ولا يتغير ولا يفسد قبل بلوغ المقصد فليتذكر أن سفر الآخرة أطول من هذا السفر، وأن زاده التقوى وأن ما عداه مما يظن أنه زاده يتخلف عنه عند الموت ويخونه فلا يبقى معه، كالطعام الرطب الذي فيسد في أول منازل السفر فيبقى وقت الحاجة متحير محتاجاً لا حيلة له. فليحذر أن تكون أعماله التي هي زاده إلى الآخرة لا تصحبه بعد الموت بل يفسدها شوائب الرياء وكدورات التقصير.
وأما الراحلة: إذا أحضرها فليشكر الله بقلبه على تسخير الله عز وجل له الدواب لتحمل عنه الأذى وتخفف عنه المشقة. وليتذكر عنده المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة وهي الجنازة التي يحمل عليها. فإن أمر الحج من وجه يوازي أمر السفر إلى الآخرة ولينظر أيصلح سفره على هذا المركب لأن يكون زاداً له لذلك السفر على ذلك المركب? فما أقرب ذلك منه. وما يدريه لعل الموت قريب ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه للجمل. وركوب الجنازة مقطوع به وتيسر أسباب السفر مشكوك فيه فكيف يحتاط في أسباب السفر المشكوك فيه ويستظهر في زاده وراحلته ويهمل أمر السفر المستيقن? وأما شراء ثوبي الإحرام: فليتذكر عنده الكفن ولفه فيه فإنه سيرتدي ويتزر بثوبي الإحرام عند القرب من بيت الله عز وجل وربما لا يتم سفره إليه. وأنه سيلقى الله عز وجل ملفوفاً في ثياب الكفن لا محالة. فكما لا يلقى بيت الله عز وجل إلا مخالفاً عادته في الزي والهيئة فلا يلقى الله عز وجل بعد الموت إلا في زي مخالف لزيا لدنيا. وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن.
وأما الخروج من البلد: فليعلم عنده أنه فارق الأهل والوطن متوجهاً إلى الله عز وجل في سفر لا يضاهي أسفار الدنيا. فليحضر في قلبه أنه ماذا يريد وأين يتوجه وزيارة من يقصد? وأنه متوجه إلى ملك الملوك في زمرة الزائرين له الذين نودوا فأجابوا وشوقوا فاشتاقوا واستنهضوا فنهضوا وقطعوا العلائق وفارقوا الخلائق واقبلوا على بيت الله عز وجل الذي فخم أمره وعظم شأنه ورفع قدره تسلياً بلقاء البيت عن لقاء رب البيت إلى أن يرزقوا منتهى مناهم ويسعدوا بالنظر إلى مولاهم. وليحضر في قلبه رجاء الوصول والقبول لا إدلالاً بأعماله في الارتحال ومفارقة الأهل والمال ولكن ثقة بفضل الله عز وجل وافداً إليه إذ قال جل جلاله "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله".
وأما دخول البادية إلى الميقات ومشاهدت تلك العقبات: فليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة وما بينهما من الأهوال والمطالبات. وليتذكر من هول قطاع الطريق هول سؤال منكر ونكير ومن سباع البوادي عقارب القبر وديدانه وما فيه من الأفاعي والحيات ومن انفراده من أهله وأقاربه وحشة القبر وكربته ووحدته. وليكن في هذه المخاوف في أعماله وأقواله متزوداً لمخاوف القبر.
وأما الإحرام والتلبية من الميقات: فليعلم أن معناه إجابة نداء الله عز وجل فارج أن تكون مقبولاً واخش أن يقال لك لا لبيك ولا سعديك فكن بين الرجاء والخوف متردداً وعن حولك وقوتك متبرئاً وعلى فضل الله عز وجل وكرمه متكلاً. فإن وقت التلبية هو بداية الأمر وهي محل الخطر. قال سفيان بن عيينة: حج علي ابن الحسين رضي الله عنهما فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وانتفض ووقعت عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبي فقيل له: لم لا تلبي? فقال: أخشى أن يقال لي لا لبيك ولا سعديك. فلما لبى غشي عليه ووقع عن راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه وقال أحمد بن أبي الحواري: كنت مع أبي سليمان الداراني رضي الله عنه حين أراد الإحرام فلم يلب حتى سرنا ميلاً فأخذته الغشية ثم أفاق وقال: يا أحمد إن الله سبحانه أوحى إلى موسى عليه السلام مر ظلمة بني إسرائيل أن يقلوا من ذكري فإني أذكر من ذكرني منهم باللعنة. ويحك يا أحمد بلغني أن من حج من غير حله ثم لبى قال الله عز وجل لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك فما نأمن أن يقال لنا ذلك. وليتذكر الملبي عند رفع الصوت بالتلبية في الميقات إجابته لنداء الله عز وجل إذ قال "وأذن في الناس بالحج" ونداء الخلق بنفخ الصور وحشرهم من القبور وازدحامهم في عرصات القيامة مجيبين لنداء الله سبحانه؛ ومنقسمين إلى مقربين وممقوتين. ومقبولين ومردودين. ومترددين في أول الأمر بين الخوف والرجاء تردد الحاج في الميقات حيث لا يدرون أيتيسر لهم إتمام الحج وقبوله أم لا? وأما دخول مكة: فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمناً وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل وليخش أن لا يكون أهلاً للقرب فيكون بدخوله الحرم خائباً ومستحقاً للمقت. وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالباً فالكرم عميم والرب رحيم وشرف البيت عظيم وحق الزائر مرعي وذمام المستجير اللائذ غير مضيع.
وأما وقوع البصر على البيت: فينبغي أن يحضر عنده عظمة البيت في القلب ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه إياه. وارج أن يرزقك الله تعالى النظر إلى وجهه الكريم كما رزقك الله النظر إلى بيته العظيم. واشكر الله تعالى على تبليغه إياك هذه الرتبة وإلحاقه إياك بزمرة الوافدين عليه. واذكر عند ذلك انصباب الناس في القيامة إلى جهة الجنة آملين لدخولها كافة ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول ومصروفين انقسام الحاج إلى مقبولين ومردودين. ولا تغفل عن تذكر أمور الآخرة في شيء مما تراه فإن كل أحوال الحاج دليل على أحوال الآخرة.
وأما الطواف بالبيت: فاعلم أنه صلاة فأحضر في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة ما فصلناه في كتاب الصلاة. واعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله. ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت حتى لا تبتدىء الذكر إلا منه ولا تختم إلا به كما تبتدىء الطواف من البيت وتختم بالبيت. واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية. وأن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر وهي عالم الملكوت، كما أن البدن مثال ظاهر في عالم الشهادة للقلب الذي لا يشاهد بالبصر وهو في عالم الغيب. وأن عالم الملك والشهادة مدركة إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح الله له الباب وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة بأن البيت المعمور في السموات بإزاء الكعبة. فإن طواف الملائكة به كطواف الأنس بهذا البيت. ولما قصرت رتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف أمروا بالتشبه بهم بحسب الإمكان ووعدوا بأن من تشبه بقوم فهو منهم والذي يقدر على مثل ذلك الطواف هو الذي يقال إن الكعبة تزوره وتطوف به على ما رآه بعض المكاشفين لبعض أولياء الله سبحانه وتعالى.
وأما الاستلام: فاعتقد عنده أنك مبايع لله عز وجل على طاعته فصمم عزيمتك على الوفاء ببيعتك فمن عذر في المبايعة استحق المقت. وقد روى ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال "الحجر الأسود يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها خلقه كما يصافح الرجل أخاه".
وأما التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم: فلتكن نيتك في الالتزام طلب القرب حباً وشوقاً للبيت ولرب البيت وتبركاً بالمماسة ورجاء للتحصن عن النار في كل جزء من بدنك لا في البيت. ولتكن نيتك في التعلق بالستر الإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان كالمذنب المتعلق بثياب من أذنب إليه المتضرع إليه في عفوه عنه المظهر له أنه لا ملجأ له منه إلا إليه ولا مفزع له إلا كرمه وعفوه وأنه لا يفارق ذيله إلا بالعفو وبذل الأمن في المستقبل.
وأما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت: فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى إظهاراً للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة كالذي دخل على الملك وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد? فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يرحم في الثانية إن لم يرحم في الأولى. وليتذكر عند تردده بين الصفا والمروة تردده بين كفتي الميزان في عرصات القيامة وليمثل الصفا بكفة الحسنات والمروة بكفة السيئات. وليتذكر تردده بين الكفتين ناظراً إلى الرجحان والنقصان متردداً بين العذاب والغفران.
وأما الوقوف بعرفة: فاذكر - بما ترى من ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات واتباع الفرق أئمتهم في الترددات على المشاعر اقتفاء لهم وسيراً بسيرهم - عرصات القيامة واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة واقتفاء كل أمة نبيها وطمعهم في شفاعتهم وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول. وإذا تذكرت ذلك فألزم قلبك الضراعة والابتهال إلى الله عز وجل فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين وحقق رجاءك بالإجابة فالموقف شريف والرحمة إنما تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق بواسطة القلوب العزيزة من أوتاد الأرض. ولا ينفك الموقف عن طبقة من الأبدال والأوتاد وطبقة من الصالحين وأرباب القلوب. فإذا اجتمعت هممهم وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم وارتفعت إلى الله سبحانه أيديهم وامتدت إلى أعناقهم وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة فلا تظنن أنه يخيب أملهم ويضيع سعيهم ويدخر عنهم رحمة تغمرم. ولذلك قيل: إن من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات ويظن أن الله تعالى لم يغفر له. وكأن اجتماع الهمم والاستظهار بمجاورة الأبدال والأوتاد المجتمعين من أقطار البلاد هو سر الحج وغاية مقصوده فلا طريق إلى استدرار رحمة الله سبحانه مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد.
وأما رمي الجمار: فاقصد به الانقياد للأمر إظهاراً للرق والعبودية وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه. ثم اقصد به التشبه بإبراهيم عليه السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة أو يفتنه بمعصية فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله. فإن خطر لك: أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان? فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه وأنه يضاهي اللعب فلم تشغل به? فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه برغم أنف الشيطان. واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيماً له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه.
وأما ذبح الهدي: فاعلم أنه تقرب إلى الله تعالى بحكم الامتثال فأكمل الهدي وارج أن يعتق الله بكل جزء منه جزءاً منك من النار فهكذا ورد الوعد. فكلما كان الهدي أكبر وأجزاؤه أوفر كان فداؤك من النار أعم.
وأما زيارة المدينة: فإذا وقع بصرك على حيطانها فتذكر أنها البلدة التي اختارها الله عز وجل لنبيه ﷺ وجعل إليها هجرته وأنها داره التي شرع فيها فرائض ربه عز وجل وسنته وجاهد عدوه وأظهر بها دينه إلى أن توفاه الله عز وجل. ثم جعل تربته فيها وتربة وزيريه القائمين بالحق بعده رضي الله عنهما. ثم مثل في نفسك مواقع أقدام رسول الله ﷺ عند تردداته فيها وأنه ما من موضع قدم تطؤه إلا وهو موضع أقدامه العزيزة فلا تضع قدمك عليه إلا عن سكينة ووجل. وتذكر مشيه وتخطيه في سككها وتصور خشوعه وسكينته في المشي وما استودع الله سبحانه قلبه من عظيم معرفته ورفعة ذكره تعالى حتى قرنه بذكر نفسه وإحباطه عمل من هتك حرمته ولو برفع صوته فوق صوته. ثم تذكر ما من الله تعالى به على الذين أدركوا صحبته وسعدوا بمشاهدته واستماع كلامه وأعظم تأسفك على ما فاتك من صحبته وصحبة أصحابه رضي الله عنهم. ثم اذكر أنك قد فاتتك رؤيته في الدنيا وأنك من رؤيته في الآخرة على خطر. وأنك ربما لا تراه إلا بحسرة وقد حيل بينك وبين قبوله إياك بسوء عملك كما قال ﷺ "يرفع الله إلي أقواماً فيقولون يا محمد فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول بعداً وسحقاً" فإن تركت حرمة شريعته ولو في دقيقة من الدقائق فلا تأمن أن يحال بينك وبينه بعدولك عن محجته. وليعظم مع ذلك رجاؤك أن لا يحول الله تعالى بينك وبينه بعد أن رزقك الإيمان وأشخصك من وطنك لأجل زيارته من غير تجارة ولا حظ في دنيا بل لمحض حبك له وشوقك إلى أن تنظر إلى آثاره وإلى حائط قبره؛ إذ سمحت نفسك بالسفر بمجرد ذلك لما فاتتك رؤيته فما أجدرك بأن ينظر الله تعالى إليك بعين الرحمة. فإذا بلغت المسجد فاذكر أنها العرصة التي اختارها الله سبحانه لنبيه ﷺ ولأول المسلمين وأفضلهم عصابة. وإن فرائض الله سبحانه أول ما أقيمت في تلك العرصة. وأنها جمعت أفضل خلق الله حياً وميتاً فليعظم أملك في الله سبحانه أن يرحمك بدخولك إياه فادخله خاشعاً معظماً. وما أجدر هذا المكان بأن يستدعي الخشوع من قلب كل مؤمن كما حكي عن أبي سليمان أنه قال: حج أويس القرني رضي الله عنه ودخل المدينة فلما وقف على باب المسجد قيل له: هذا قبر النبي ﷺ فغشي عليه. فلما أفاق قال: أخرجوني فليس يلذ لي بلد فيه محمد ﷺ مدفون.
وأما زيارة رسول الله ﷺ: فينبغي أن تقف بين يديه كما وصفنا وتزوره ميتاً كما تزوره حياً ولا تقرب من قبره إلا كما كنت تقرب من شخصه الكريم لو كان حياً. وكما كنت ترى الحرمة في ان لا تمس شخصه ولا تقبله بل تقف من بعد ماثلاً بين يديه فكذلك فافعل فإن المس والتقبيل للمشاهد عادة النصارى واليهود. واعلم أنه عالم بحضورك وقيامك وزيارتك وأنه يبلغه سلامك وصلاتك: فمثل صورته الكريمة في خيالك موضوعاً في اللحد بإزائك وأحضر عظيم رتبته في قلبك فقد روي عنه ﷺ "أن الله تعالى وكل بقبره ملكاً يبلغه سلام من سلم عليه من أمته" هذا في حق من لم يحضر قبره فكيف بمن فارق الوطن وقطع البوادي شوقاً إلى لقائه واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاته مشاهدة غرته الكريمة? وقد قال ﷺ "من صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشراً" فهذا جزاؤه في الصلاة عليه بلسانه فكيف بالحضور لزيارته ببدنه? ثم ائت منبر الرسول ﷺ وتوهم صعود النبي ﷺ المنبر ومثل في قلبك طلعته البهية كأنها على المنبر وقد أحدق به المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم وهو ﷺ يحثهم على طاعة الله عز وجل بخطبته وسل الله عز وجل أن لا يفرق في القيامة بينك وبينه فهذه وظيفة القلب في أعمال الحج. فإذا فرغ منها كلها فينبغي أن يلزم قلبه الحزن والهم والخوف وأنه ليس يدري أقبل منه حجه وأثبت في زمرة المحبوبين أم رد حجه وألحق بالمطرودين? وليتعرف ذلك من قلبه وأعماله فإن صادف قلبه قد ازداد تجافياً عن دار الغرور وانصرافاً إلى دار الأنس بالله تعالى ووجد أعماله قد اتزنت بميزان الشرع فليثق بالقبول فإن الله تعالى لا يقبل إلا من أحبه؛ ومن أحبه تولاه وأظهر عليه آثار محبته وكف عنه سطوة عدوه إبليس لعنه الله. فإذا ظهر ذلك عليه دل على القبول، وإن كان الأمر بخلافه فليوشك أن يكون حظه من سفره: العناء والتعب نعوذ بالله سبحانه وتعالى من ذلك.
تم كتاب: أسرار الحج. يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب آداب تلاوة القرآن.