إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الزكاة/الفصل الثاني



الفصل الثاني

في الأداء وشروطه الباطنة والظاهرة


اعلم أنه يجب على مؤدى الزكاة خمسة أمور الأول النية: وهو أن ينوي بقلبه زكاة الفرض ويسن عليه تعيين الأموال. فإن كان له مال غائب فقال هذا عن مالي الغائب إن كان سالماً وإلا فهو نافلة جاز؛ لأنه إن لم يصرح به فكذلك يكون عند إطلاقه. ونية الولي تقوم مقام نية المجنون والصبي. ونية السلطان تقوم مقام نية المالك الممتنع عن الزكاة ولكن في ظاهر حكم الدنيا - أعني في قطع المطالبة عنه - أما في الآخرة فلا بل تبقى ذمته مشغولة إلى أن يستأنف الزكاة وإذا وكل بأداء الزكاة ونوى عند التوكل أو وكل بالنية كفاه لأن توكيله بالنية نية الثاني البدار عقيب الحول وفي زكاة الفطر لا يؤخرها عن يوم الفطر. ويدخل وقت وجوبها بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان. ووقت تعجيلها شهر رمضان كله. ومن أخر زكاة ماله مع التمكن عصى ولم يسقط عنه بتلف ماله وتمكنه بمصادفة المستحق. وإن أخر لعدم المستحق فتلف ماله سقطت الزكاة عنه. وتعجيل الزكاة جائز بشرط أن يقع بعد كما النصاب وانعقاد الحول. ويجوز تعجيل زكاة حولين. ومهما عجل فمات المسكين قبل الحول أو ارتد أو صار غنياً بغير ما عجل إليه أو تلف مال المالك أو مات، فالمدفوع ليس بزكاة واسترجاعه غير ممكن إلا إذا قدي الدفع بالاسترجاع فليكن المعجل مراقباً آخر الأمور وسلامة العاقبة الثالث أن لا يخرج بدلاً باعتبار القيمة بل يخرج المنصوص عليه، فلا يجزىء ورق عن ذهب ولا ذهب عن ورق وإن زاد عليه في القيمة. ولعل بعض من لا يدرك غرض الشافعي رضي الله عنه يتساهل في ذلك ويلاحظ المقصود من سد الخلة وما أبعده عن التحصيل، فإن سد الخلة مقصود وليس هو كل المقصود بل واجبات الشرع ثلاثة أقسام: قسم هو تعبد محصن لا مدخل للحظوظ والأغراض فيه. وذلك كرمي الجمرات مثلاً إذ لا حظ للجمرة في وصول الحصى إليها، فمقصود الشرع فيه الابتلاء بالعمل ليظهر العبد رقه وعبوديته بفعل ما لا يعقل له معنى، لأن ما يعقل معناه فقد يساعده الطبع عليه ويدعوه إليه فلا يظهر به خلوص الرق والعبودية، إذ العبودية تظهر بأن تكون الحركة لحق أمر المعبود فقط لا لمعنى آخر. وأكثر أعمال الحج كذلك ولذلك قال في إحرامه "لبيك بحجة حقاً تعبداً ورقاً" تنبيهاً على أن ذلك إظهار للعبودية بالانقياد لمجرد الأمر وامتثاله كما أمر من غير استئناس العقل منه بما يميل إليه ويحث عليه. القسم الثاني: من واجبات الشرع ما المقصود منه حظ معقول وليس يقصد منه التعبد كقضاء دين الآدميين ورد المغصوب فلا جرم لا يعتبر فيه فعله ونيته. ومهما وصل الحق إلى مستحقه بأخذ المستحق أو ببدل عنه عند رضاه تأدى الوجوب وسقط خطاب الشرع. فهذان قسمان لا تركيب فيهما يشترك في دركهما جميع الناس والقسم الثالث: هو المركب الذي يقصد منه الأمران جميعاً وهو حظ العباد وامتحان المكلف بالاستعباد، فيجتمع فيه تعبد رمي الجمار وحظ رد الحقوق فهذا قسم في نفسه معقول، فإن ورد الشرع به وجب الجمع بين المعنيين ولا ينبغي أن ينسى أدق المعنيين وهو التعبد والاسترقاق بسبب أجلاهما، ولعل الأدق هو الأهم والزكاة من هذا القبيل ولم ينتبه له غير الشافعي رضي الله عنه فحظ الفقير مقصود في سد الخلة وهو جلي سابق إلى الأفهام وحق التعبد في اتباع التفاصيل مقصود للشرع. وباعتباره صارت الزكاة قرينة للصلاة والحج في كونها من مباني الإسلام. ولاشك في أن على المكلف تعباً في تمييز أجناس ماله وإخراج حصة كل مال من نوعه وجنسه وصفته. ثم توزيعه على الأصناف الثمانية كما سيأتي. والتساهل فيه غير قادح في حظ الفقير لكنه قادح في التعبد. ويدل على أن التعبد مقصود بتعيين الأنواع أمور ذكرناها في كتب الخلاف من الفقيهات. ومن أوضحها أن الشرع أوجب في خمس من الإبل شاة فعدل من الإبل إلى الشاة ولم يعدل إلى النقدين والتقويم وإن قدر أن ذلك لقلة النقود في أيدي العرب بطل بذكره عشرين درهماً في الجبران مع الشاتين فلم يذكر في الجبران قدر النقصان من القيمة? ولم قدر بعشرين درهماً وشاتين? وإن كانت الثياب والأمتعة كلها في معناها. فهذا وأمثاله من التخصيصات يدل على أن الزكاة لم تترك خالية عن التعبدات كما في الحج ولكن جمع بين المعنيين. والأذهان الضعيفة تقصر عن درك المركبات فهذا شأن الغلط فيه الرابع أن لا ينقل الصدقة إلى بلد آخر فإن أعين المساكين في كل بلد تمتد إلى أموالها، وفي النقل تخييب للظنون. فإن فعل ذلك أجزأه في قول ولكن الخروج عن شبهة الخلاف أولى فليخرج زكاة كل مال في تلك البلدة. ثم لابأس أن يصرف إلى الغرباء في تلك البلدة الخامس أن يقسم ماله بعدد الأصناف الموجودين في بلده، فإن استيعاب الأصناف واجب وعليه يدل ظاهر قوله تعالى "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" الآية فإنه يشبه قول المريض إنما ثلث مالي للفقراء والمساكين وذلك يقتضي التشريك في التمليك. والعبادات ينبغي أن يتوقى عن الهجوم فيها على الظواهر. وقد عدم من الثمانية صنفان في أكثر البلاد: وهم المؤلفة قلوبهم والعاملون على الزكاة. ويوجد في جميع البلاد أربعة أصناف: الفقراء والمساكين والغارمون والمسافرون - أعني أبناء السبيل - وصنفان يوجدان في بعض البلاد دون البعض: وهم الغزاة والمكاتبون. فإن وجد خمسة أصناف مثلاً قسم بينهم زكاة ماله بخمسة أقسام متساوية أو متقاربة وعين لكل صنف قسم. ثم قسم كل قسم ثلاثة أسهم فما فوقه إما متساوية أو متفاوتة وليس عليه التسوية بين آحاد الصنف فإن له أن يقسمه على عشرة وعشرين فينقص نصيب كل واحد. وأما الأصناف فلا تقبل الزيادة والنقصان فلا ينبغي أن ينقص في كل صنف عن ثلاثة إن وجد. ثم لو لم يجب إلا صاع للفطرة ووجد خمسة أصناف فعليه أن يوصله إلى خمسة عشر نفراً. ولو نقص منهم واحد مع الإمكان غرم نصيب ذلك الواحد. فإن عسر عليه ذلك لقلة الواجب فليتشارك جماعة ممن عليهم الزكاة وليخلط مال نفسه بمالهم وليجمع المستحقين وليسلم إليهم حتى يتساهموا فيه فإن ذلك لابد منه.

بيان دقائق الآداب الباطنة في الزكاة

اعلم أن على مريد طريق الآخرة بزكاته وظائف الوظيفة الأولى: فهم وجوب الزكاة ومعناها ووجه الامتحان فيها وأنها لم جعلت من مباني الإسلام مع أنها تصرف مالي وليست من عبادة الأبدان وفيه ثلاث معان؛ الأول: أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد وشهادة بإفراد المعبود وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد فإن المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى وإنما يمتحن به درجة المحب بمفارقة المحبوب والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت مع أن فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب واستنزلوا عن المال الذي هو مرقومهم ومعشوقهم. ولذلك قال الله تعالى "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" وذلك بالجهاد وهو مسامحة بالمهجة شوقاً إلى لقاء الله عز وجل والمسامحة بالمال أهون. ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم فلم يدخروا ديناراً ولا درهماً فأبوا أن يتعرضوا الوجوب الزكاة عليهم حتى قيل لبعضهم كم يجب من الزكاة في مائتي درهم? فقال: أما على العوام بحكم الشرع فخمسة دراهم، وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع. ولهذا تصدق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله وعمر رضي الله عنه بشطر ماله فقال "ما أبقيت لأهلك" فقال: مثله، وقال لأبي بكر رضي الله عنه "ما أبقيت لأهلك" قال الله ورسوله، فقال "بينكما ما بين كلمتيكما" فالصديق وفي بتمام الصدق فلم يمسك سوى المحبوب عنده وهو الله ورسوله. القسم الثاني: درجتهم دون درجة هذا وهم الممسكون أموالهم المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات، فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها، وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة. وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقاً سوى الزكاة كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد. قال الشعبي بعد أن قيل له هل في المال حق سوى الزكاة? قال: نعم أما سمعت قوله عز وجل "وآتى المال على حبه ذوي القربى" الآية واستدلوا بقوله عز وجل "ومما رزقناهم ينفقون" وبقوله تعالى "وأنفقوا مما رزقناكم" وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة بل هو داخل في حق المسلم على المسلم، ومعناه أنه يجب على الموسر مهما وجد محتاجاً أن يزيل حاجته فضلاً عن مال الزكاة والذي يصح في الفقه من هذا الباب أنه مهما أرهقته حاجته كانت إزالتها فرض كفاية إذ لا يجوز تضييع مسلم، ولكن يحتمل أن يقال ليس على الموسر إلا تسليم ما يزيل الحاجة قرضاً ولا يلزمه بذله بعد أن أسقط الزكاة عن نفسه، ويحتمل أن يقال يلزمه بذله في الحال ولا يجوز له الاقتراض أي لا يجوز له تكليف الفقير قبول القرض وهذا مختلف فيه، والاقتراض نزول إلى الدرجة الأخيرة من درجات العوام وهي درجة القسم الثالث الذين يقتصرون على أداء الواجب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون عنه وهي أقل الرتب وقد اقتصر جميع العوام عليه لبخلهم بالمال وميلهم إليه وضعف حبهم للآخرة قال الله تعالى "إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا" يحفكم أي يستقص عليكم فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله؛ فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عباده ببذل الأموال المعنى الثاني: التطهير من صفة البخل فإنه من المهلكات قال "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه" وقال تعالى "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وسيأتي في ربع المهلكات وجه كونه مهلكاً وكيفية التقصي منه، وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير ذلك اعتياداً. فالزكاة بهذا المعنى طهرة أي تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك وإنما طهارته بقدر بذله وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى. المعنى الثالث: شكر النعمة فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن والمالية شكر لنعمة المال. وما أخس من ينظر إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق وأحوج إليه ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله.

الوظيفة الثانية: في وقت الأداء؛ ومن آداب ذوي الدين التعجيل عن وقت الوجوب إظهاراً للرغبة في الامتثال بإيصال السرور إلى قلوب الفقراء ومبادرة لعوائق الزمان أن تعوقه عن الخيرات وعلماً بأن في التأخير آفات مع ما يتعرض العبد له م العصيان لو أخر عن وقت الوجوب. ومهما ظهرت داعية الخير من الباطن فينبغي أن يغتنم فإن ذلك لمة الملك "وقل المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" فما أسرع تقلبه والشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر. وله لمة عقيب لمة الملك فليغتنم الفرصة فيه وليعين لزكاتها إن كان يؤديها جميعاً شهراً معلوماً وليجتهد أن يكون من أفضل الأوقات ليكون ذلك سبباً لنماء قربته وتضاعف زكاته. وذلك كشهر المحرم فإنه أول السنة وهو من الأشهر الحرم أو رمضان فقد كان أجود الخلق وكان في رمضان كالريح المرسلة لا يمسك فيه شيئاً ولرمضان فضيلة ليلة القدر وأنه أنزل فيه القرآن. وكان مجاهد يقول: لا تقولوا رمضان فإنه اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان. وذو الحجة أيضاً من الشهور الكثيرة الفضل فإنه شهر حرام وفيه الحج الأكبر وفيه الأيام المعلومات وهي العشر الأول والأيام المعدودات وهي أيام التشريق. وأفضل أيام شهر رمضان العشر الأواخر. وأفضل أيام ذي الحجة العشر الأول.

الوظيفة الثالثة: الإسرار؛ فإن ذلك أبعد عن الرياء والسمعة قال "أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر" وقال بعض العلماء. ثلاث من كنوز البر منها إخفاء الصدقة وقد روي أيضاً مسنداً. وقال "إن العبد ليعمل عملاً في السر فيكتبه الله له سراً فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب رياء وفي الحديث المشهور "سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطت يمينه" وف الخبر "صدقة السر تطفىء غضب الرب" وقال تعالى "وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم" وفائدة الإخفاء الخلاص من آفات الرياء والسمعة فقد قال "لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان والمتحدث بصدقته يطلب السمعة والمعطي في ملأ من الناس يبغي الرياء والإخفاء والسكوت هو المخلص منه" وقد بالغ في فضل الإخفاء جماعة حتى اجتهدوا أن لا يعرف القابض المعطي فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى وبعضهم يلقيه في طريق الفقير وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي وبعضهم كان يصره في ثوب الفقير وهو نائم. وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره بحيث لا يعرف المعطي وكان يستكتم المتوسط شأنه ويوصيه بأن لا يفشيه: كل ذلك توصلاً إلى إطفاء غضب الرب سبحانه واحترازاً من الرياء والسمعة. ومهما لم يتمكن إلا بأن يعرفه شخص واحد فتسليمه إلى وكيل ليسلم إلى المسكين والمسكين لا يعرف أولى؛ إذ في معرفة المسكين الرياء والمنة جميعاً وليس في معرفة المتوسط إلا الرياء. ومهما كانت الشهرة مقصودة له حبط عمله لأن الزكاة إزالة للبخل وتضعيف لحب المال. وحب الجاه أشد استيلاء على النفس من حب المال وكل واحد منهما مهلك في الآخرة؛ ولكن صفة البخل تتقلب في القبر في حكم المثال عقرباً لادغاً، وصفة الرياء تقلب في القبر أفعى من الأفاعي وهو مأمور بتضعيفهما أو قتلهما لدفع أذاهما أو تخفيف أذاهما فمهما قصد الرياء والسمعة فكأنه جعل بعض أطراف العقرب مقوياً للحية فبقدر ما ضعف من العقرب زاد في قوة الحية ولو ترك الأمر كما كان لكان الأمر أهون عليه. وقوة هذه الصفات التي بها قوتها العمل بمقتضاها، وضعف هذه الصفات بمجاهدتها ومخالفتها والعمل بخلاف مقتضاها فأي فائدة في أن يخالف دواعي البخل ويجيب دواعي الرياء فيضعف الأدنى ويقوي الأقوى? وستأتي أسرار هذه المعاني في ربع المهلكات.

الوظيفة الرابعة: أن يظهر حيث يعلم أن في إظهاره ترغيباً للناس في الاقتداء ويحرس سره من داعية الرياء بالطريق الذي سنذكره في معالجة الرياء في كتاب الرياء فقد قال الله عز وجل "إن تبدوا الصدقات فنعما هي" وذلك حيث يقتضي الحال الإبداء إما للاقتداء وإما لأن السائل إنما سأل على ملأ من الناس فلا ينبغي أن يترك التصدق خيفة من الرياء في الإظهار بل ينبغي أن يتصدق ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان، وهذا لأن في الإظهار محذوراً ثالثاً سوى المن والرياء وهو هتك ستر الفقير "فإنه ربما يتأذى بأن يرى في صورة المحتاج فمن أظهر السؤال فهو الذي هتك ستر نفسه. فلا يحذر هذا المعنى في إظهاره وهو كإظهار الفسق على من تستر به فإنه محظور، والتجسس فيه والاعتياد بذكره منهي عنه: فأما من أظهره فإقامة الحد عليه إشاعة ولكن هو السبب فيها. وبمثل هذا المعنى قال "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له" وقد قال الله تعالى "وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية" ندب إلى العلانية أيضاً لما فيها من فائدة الترغيب فليكن العبد دقيق التأمل في وزن هذه الفائدة بالمحذور الذي فيه فإن ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص" فقد يكون الإعلان في بعض الأحوال لبعض الأشخاص أفضل. ومن عرف الفوائد والغوائل ولم ينظر بعين الشهوة اتضح له الأولى والأليق بكل حال.

الوظيفة الخامسة: أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى قال الله تعالى "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" واختلفوا في حقيقة المن والأذى فقيل المن أن يذكرها والأذى أن يظهرها: وقال سفيان: من من فسدت صدقته فقيل له كيف المن، فقال: أن يذكره ويتحدث به. وقيل: المن أن يستخدمه بالعطاء، والأذى أن يعيره بالفقر. وقيل: المن أن يتكبر عليه لأجل عطائه، والأذى أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة. وقد قال "لا يقبل الله صدقة منان" وعندي أن المن له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته: ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح فأصله أن يرى نفسه محسناً إليه ومنعماً عليه، وحقه أن يرى الفقير محسناً إليه بقبول حق الله عز وجل منه الذي هو طهرته ونجاته من النار، وأنه لو يقبله لبقي مرتهناً به فحقه أن يتقلد منه الفقير إذ جعل كفه نائباً عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل. قال رسول الله "إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل" فليتحقق أنه مسلم إلى عز وجل حقه والفقير آخذ من الله تعالى. رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل. ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه لكان اعتقاد مؤدى الدين كون القابض تحت منته سفهاً وجهلاً، فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه. أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه فهو ساع في حق نفسه فلم يمن به على غيره. ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها في فهم وجوب الزكاة أو أحدها لم ير نفسه محسناً إلا إلى نفسه؛ إما ببذل ما له إظهاراً لحب الله تعالى أو تطهيراً لنفسه عن رذيلة البخل أو شكراً على نعمة المال طلباً للمزيد. وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسناً إليه، ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسناً إليه تفرع منه على ظاهره ما ذكر في معنى المن وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء والخدمة والتوقير والتعظيم والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس والمتابعة في الأمور؛ فهذه كلها ثمرات المنة، ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه. وأما الأذى: فظاهره التوبيخ والتعبير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار وفنون الاستخفاف، وباطنه وهو منبعه أمران؛ أحدهما: كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة. والثاني: رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه وكلاهما منشؤه الجهل. أما كراهية تسليم المال فهو حمق لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يساوي ألفاً فهو شديد الحمق. ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل والثواب في الدار الآخرة وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل أو شكراً لطلب المزيد. وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها. وأما الثاني: فهو أيضاً جهل لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته، فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام. ولذلك قال "هم الأخسرون ورب الكعبة فقال أبو ذر: من هم? قال: هم الأكثرون أمولاً" الحديث? ثم كيف يستحقر الفقير وقد جعله الله تعالى متجرة له? إذ يكتسب المال بجهده ويستكثر منه ويجتهد في حفظه بمقدار الحاجة وقد ألزم أن يسلم إلى الفقير قدر حاجته ويكف عنه الفاضل الذي يضره لو سلم إليه؛ فالغني مستخدم للسعي في رزق الفقير ويتميز عليه بتقليد المظالم والتزام المشاق وحراسة الفضلات إلى أن يموت فيأكله أعداؤه، فإن مهما انتقلت الكراهية وتبدلت بالسرور والفرح بتوفيق الله تعالى له أداء الواجب وتفضيله الفقير حتى يخلصه عن عهدته بقبوله منه انتفى الأذى والتوبيخ وتقطيب الوجه وتبدل بالاستبشار والثناء وقبول المنة فهذا منشأ المن والأذى. فإن قلت: فرؤيته نفسه في درجة المحسن أمر غامض فهل من علامة يمتحن بها قلبه فيعرف بها أنه لم ير نفسه محسناً? فاعلم أن علامة دقيقة واضحة وهو أن يقدر أن الفقير لو جنى عليه جناية أو مالاً عدوا له عليه مثلاً هل كان يزيد استنكاره واستبعاده له على استنكاره قبل التصدق? فإن زاد لم تخل صدقته عن شائبة المنة لأنه توقع بسببه ما لم يكن يتوقعه قبل ذلك. فإن قلت، فهذا أمر غامض ولا ينفك قلب أحد عنه فما دواؤه? فاعلم أن له دواء باطناً ودواء ظاهراً: أما الباطن: فالمعرفة بالحقائق التي ذكرناها في فهم الوجوب وأن الفقير هو المحسن إليه في تطهيره بالقبول. وأما الظاهر: فالأعمال التي يتعاطاها متقلد المنة فإن الأفعال التي تصدر عن الأخلاق تصبغ القلب بالأخلاق - كما سيأتي أسراره في الشطر الأخير من الكتاب - ولهذا كان بعضهم يضع الصدقة بين يدي الفقير ويتمثل قائماً بين يديه يسأله قبولها حتى يكون هو في صورة السائلين وهو يستشعر مع ذلك كراهية لو رده. وكان بعضهم يبسط كفه ليأخذ الفقير من كفه وتكون يد الفقير هي العليا. وكانت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما إذا أرسلتا معروفاً إلى فقير قالتا للرسول: احفظ ما يدعو به ثم كانتا تردان عليه مثل قوله، وتقولان: هذا بذاك حتى تخلص لنا صدقتنا. فكانوا لا يتوقعون الدعاء لأنه شبه المكافأة وكانوا يقابلون الدعاء بمثله. وهكذا فعل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما. وهكذا كان أرباب القلوب يداوون قلوبهم ولا دواء من حيث الظاهر إلا هذه الأعمال الدالة على التذلل والتواضع وقبول المنة ومن حيث الباطن المعارف التي ذكرناها؛ هذا من حيث العمل وذلك من حيث العلم. ولا يعالج القلب إلا بمعجون العلم والعمل، وهذه الشريطة من الزكوات تجري مجرى الخشوع من الصلاة وثبت ذلك بقوله "ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها". وهذا كقوله "لا يتقبل الله صدقة من منان" وكقوله عز وجل "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" وأما فتوى الفقيه بوقوعها موقعها وبراءة ذمته عنها دون هذا الشرط فحديث آخر وقد أشرنا إلى معناه في كتاب الصلاة.

الوظيفة السادسة: أن يستصغر العطية فإنه إن استعظمها أعجب بها والعجب من المهلكات وهو محبط للأعمال قال تعالى "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً" ويقال إن الطاعة كلما استصغرت عظمت عند الله عز وجل. والمعصية كلما استعظمت صغرت عند الله عز وجل. وقيل لا يتم المعروف إلا بثلاثة أمور: تصغيره وتعجيله وستره. وليس الاستعظام هو المن والأذى، فإنه لو صرف ماله إلى عمارة مسجد أو رباط أمكن فيه الاستعظام ولا يمكن فيه المن والأذى بل العجب والاستعظام يجري في جميع العبادات ودواؤه علم وعمل. أما العلم: فهو أن يعلم أن العشر أو ربع العشر قليل من كثير وأنه قد قنع لنفسه بأخس درجات البذل - كما ذكرنا في فهم الوجوب - فهو جدير بأن يستحي منه فكيف يستعظمه? وإن ارتقى إلى الدرجة العليا فبذل كل ماله أو أكثره فليتأمل أنه من أين له المال وإلى ماذا يصرفه? فالمال لله عز وجل وله المنة عليه إذ أعطاه ووفقه لبذله فلم يستعظم في حق الله تعالى ما هو عين حق الله سبحانه? وإن كان مقامه يقتضي أن ينظر إلى الآخرة وأنه يبذله للثواب فلم يستعظم بذل ما ينتظر عليه أضعافه? وأما العمل: فهو أن يعطيه عطاء الخجل من بخله بإمساك بقية ماله عن الله عز وجل فتكون هيئته الانكسار والحياء، كهيئة من يطالب برد وديعة فيمسك بعضها ويرد البعض، لأن المال كله لله عز وجل وبذل جميعه هو الأحب عند الله سبحانه، وإنما لم يأمر به عبده لأنه يشق عليه بسبب بخله كما قال الله عز وجل "فيحفكم تبخلوا".

الوظيفة السابعة: أن ينتقي من ماله أجوده وأحبه إليه وأجله وأطيبه فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً. وإذا كان المخرج من شبهة فربما لا يكون ملكاً له مطلقاً فلا يقع الموقع. وفي حديث أبان عن أنس بن مالك "طوبى لعبد أنفق من مال اكتسبه من غير معصية" وإذا لم يكن المخرج من جيد المال فهو من سوء الأدب إذ قد يمسك الجيد لنفسه أو لعبده أو لأهله فيكون قد آثر على الله عز وجل غيره، ولو فعل هذا بضيفه وقدم إليه أردأ طعام في بيته لأوغر بذلك صدره، هذا إن كان نظره إلى الله عز وجل، وإن كان نظره إلى نفسه وثوابه في الآخرة فليس بعاقل من يؤثر غيره على نفسه، وليس له من ماله إلا ما تصدق به فأبقى أو أكل فأفنى، والذي يأكله قضاء وطر ف الحال فليس من العقل قصر النظر على العاجلة وترك الادخار وقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" أي لا تأخذوه إلا مع كراهية وحياء وهو معنى الإغماض فلا تؤثروا به ربكم. وفي الخبر "سبق درهم مائة ألف درهم" وذلك بأن يخرجه الإنسان وهو من أحل ماله وأجوده فيصدر ذلك عن الرضا والفرح بالبذل، وقد يخرج مائة ألف درهم مما يكره من ماله فيدل ذلك على أنه ليس يؤثر الله عز وجل بشيء مما يحبه. وبذلك ذم الله تعالى قوماً جعلوا لله ما يكرهون فقال تعالى "ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا" وقف بعض القراء على النفي تكذيباً لهم، ثم ابتدأ وقال "جرم أن لهم النار" أي كسب لهم جعلهم لله ما يكرهون النار.

الوظيفة الثامنة: أن يطلب لصدقته من تزكو به الصدقة ولا يكتفى بأن يكون من عموم الأصناف الثمانية فإن في عمومهم خصوص صفات فليراع خصوص تلك الصفات وهي ستة. الأولى: أن يطلب الأتقياء المعرضين عن الدنيا المتجردين لتجارة الآخرة قال "لا تأكل إلا طعام تقي ولا يأكل طعامك إلا تقي". وهذا لأن التقي يستعين به على التقوى فتكون شريكاً في طاعته بإعانتك إياه، وقال "أطعمعوا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين" وفي لفظ آخر "أضف بطعامك من تحبه في الله تعالى" وكان بعض العلماء يؤثر بالطعام فقراء الصوفية دون غيرهم فقيل له: لو عممت بمعروفك جميع الفقراء لكان أفضل. فقال: لا هؤلاء قوم هممهم لله سبحانه فإذا طرقتهما فاقة تشتت هم أحدهم فلأن أرد همة واحد إلى الله عز وجل أحب إلي من أن أعطي ألفاً ممن همته الدنيا، فذكر هذا الكلام للجنيد فاستحسنه وقال: هذا ولي من أولياء الله تعالى وقال ما سمعت منذ زمان كلاماً أحسن من هذا، ثم حكى أن هذا الرجل اختل حاله وهم بترك الحانوت فبعث إليه الجنيد مالاً وقال: اجعله بضاعتك ولا تترك الحانوت فإن التجارة لا تضر مثلك، وكان هذا الرجل بقالاً لا يأخذ من الفقراء ثمن ما يبتاعون منه. الصفة الثانية: أن يكون من أهل العلم خاصة فإن ذلك إعانة له على العلم، والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية. وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم فقيل له: لو عممت، فقال: إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم فتفريغهم للعلم أفضل. الصفة الثالثة: أن يكون صادقاً في تقواه وعلمه بالتوحيد. وتوحيده أنه إذا أخذ العطاء حمد الله عز وجل وشكره ورأى أن النعمة منه ولم ينظر إلى واسطة فهذا هو أشكر العباد لله سبحانه وهو أن يرى أن النعمة كلها منه. وفي وصية لقمان لابنه: لا تجعل بينك وبين الله منعماً واعدد نعمة غيره عليك مغرماً. ومن شكر غير الله سبحانه فكأنه لم يعرف المنعم ولم يتيقن أن الواسطة مقهور مسخر بتسخير الله عز وجل إذ سلط الله تعالى عليه دواعي الفعل ويسر له الأسباب فأعطى وهو مقهور، ولو أراد تركه لم يقدر عليه بعد أن ألقى الله عز وجل في قلبه أن صلاح دينه ودنياه في فعله. فمهما قوي الباعث أوجب ذلك جزم الإرادة وانتهاض القدرة ولم يستطع العبد مخالفة الباعث القوي الذي لا تردد فيه والله عز وجل خالق للبواعث ومهيجها ومزيل للضعف والتردد عنها ومسخر القدرة للانتهاض بمقتضى البواعث. فمن تيقن هذا لم يكن له نظر إلا إلى مسبب الأسباب: وتيقن مثل هذا العبد أنفع للمعطي من ثناء غيره وشكره، فذلك حركة لسان يقل في الأكثر جدواه وإعانة مثل هذا العبد الموحد لا تضيع. وأما الذي يمدح بالعطاء ويدعو بالخير فسيذم بالمنع ويدعو بالشر عند الإيذاء وأحواله متفاوتة. وقد روي أنه بعث معروفاً إلى بعض الفقراء وقال للرسول احفظ ما يقول؛ فلما أخذ قال الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يضيع من شكره. ثم قال اللهم إنك لم تنس فلاناً - يعني نفسه - فاجعل فلاناً لا ينساك - يعني بفلان نفسه - فاخبر رسول الله بذلك فسر وقال : علمت أنه يقول ذلك" فانظر كيف قصر التفاته على الله وحده "وقال لرجل: تب فقال أتوب إلى الله وحده ولا أتوب إلى محمد فقال عرف الحق لأهله" ولما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قال أبو بكر رضي الله عنه: قومي فقبلي رأس رسول الله فقالت والله لا أفعل ولا أحمد إلا الله فقال : دعها يا أبا بكر"وفي لفظ آخر "أنها رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد صاحبك" فلم ينكر رسول الله عليها ذلك مع أن الوحي وصل إليها على لسان رسول الله . ورؤية الأشياء من غير الله سبحانه وصف الكافرين قال الله تعالى "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون" ومن لم يصف باطنه عن رؤية الوسائط إلا من حيث إنهم وسائط فكأنه لم ينفك عن الشرك الخفي سره. فليتق الله سبحانه في تصفية توحيده عن كدورات الشرك وشوائبه. الصفة الرابعة: أن يكون مستتراً مخفياً حاجته لا يكثر البث والشكوى أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته فهو يتعيش في جلباب التجمل قال الله تعالى "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً" أي لا يلحون في السؤال لأنهم أغنياء بيقينهم أعزة بصبرهم، وهذا ينبغي أن يطلب بالتفحص عن أهل الدين في كل محلة ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال. الصفة الخامسة: أن يكون معيلاً أو محبوساً بمرض أو بسبب من الأسباب فيوجد فيه معنى قوله عز وجل "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" أي حبسوا في طريق الآخرة بعيلة أو ضيق معيشة أو إصلاح قلب "لا يستطيعون ضرباً في الأرض" لأنهم مقصوصو الجناح مقيدو الأطراف. فبهذه الأسباب كان عمر رضي الله عنه يعطي أهل البيت القطيع من الغنم - العشرة فما فوقها - وكان يعطي العطاء على مقدار العيلة وسأل عمر رضي الله عنه عن جهد البلاء فقال كثرة العيال وقلة المال. الصفة السادسة: أن يكون من الأقارب وذوي الأرحام فتكون صدقة وصلة رحم وفي صلة الرحم من الثواب ما لا يحصى. قال علي رضي الله عنه: لأن أصل أخاً من إخواني بدرهم أحب إلي من أن أتصدق بعشرين درهماً ولأن أصله بعشرين درهماً أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم ولأن أصله بمائة درهم أحب إلي من أن أعتق رقبة. والأصدقاء وإخوان الخير أيضاً يقدمون على المعارف كما يتقدم الأقارب على الأجانب؛ فليراع هذه الدقائق فهذه هي الصفات المطلوبة، وفي كل صفة درجات فينبغي أن يطلب أعلاها، فإن وجد من جمع جملة من هذه الصفات فهي الذخيرة الكبرى والغنيمة العظمى. ومهما اجتهد في ذلك وأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، فإن أحد أجريه في الحال تطهيره نفسه عن صفة البخل وتأكيد حب الله عز وجل في قلبه واجتهاده في طاعته، وهذه الصفات هي التي تقوي في قلبه فتشوقه إلى لقاء الله عز وجل. والأجر الثاني ما يعود إليه من فائدة دعوة الآخذ وهمته فإن قلوب الأبرار لها آثار في الحال والمآل، فإن أصاب حصل الأجران وإن أخطأ حصل الأول دون الثاني فبهذا يضاعف أجر المصيب في الاجتهاد ههنا وفي سائر المواضع والله أعلم.