إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الصوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه، ورد أمله وخيب ظنه؛ إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجنة، وفتح لهم به أبواب الجنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وإن بقمعها تصبح النفس المطمئنة ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة، والصلاة على محمد قائد الخلق وممهد السنة وعلى آله وأصحابه ذوي الأبصار الثاقبة والعقول المرجحنة وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن الصوم ربع الإيمان بمقتضى قوله ﷺ "الصوم نصف الصبر" وبمقتضى قوله ﷺ "الصبر نصف الإيمان" ثم هو متميز بخاصية النسبة إلى الله تعالى من بين سائر الأركان إذ قال الله تعالى فيما حكاه عنه نبيه ﷺ "كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" وقد قال الله تعالى "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" والصوم نصف الصبر فقفد جاوز ثوابه قانون التقدير والحساب وناهيك في معرفة فضله قوله ﷺ "والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يقول الله عز وجل إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه لأجلي فالصوم لي وأنا أجزي به" وقال ﷺ "للجنة باب يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون وهو موعود بلقاء الله تعالى في جزء صومه" وقال ﷺ "للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه" وقال ﷺ "لكل شيء باب وباب العبادة الصوم" وقال ﷺ "نوم الصائم عبادة" وروي أبو هريرة رضي الله عنه "أنه ﷺ قال: إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين ونادى مناد يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر" وقال وكيع في قوله تعالى "كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" هي أيام الصيام إذ تركوا فيها الأكل والشرب وقد جمع رسول الله ﷺ في رتبة المباهاة بين الزهد في الدنيا وبين الصوم فقال "إن الله تعالى يباهي ملائكته بالشاب العابد فيقول: أيها الشاب التارك شهوته لأجلي المبذل شبابه لي أنت عندي كبعض ملائكتي" وقال ﷺ في الصائم "يقول الله عز وجل: انظروا يا ملائكتي إلى عبدي ترك شهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي" وقيل في قوله تعالى "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" قيل كان عملهم الصيام لأنه قال "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" فيفرغ للصائم جزاؤه إفراغاً ويجازف جزافاً فلا يدخل تحت وهم وتقدير، وجدير بأن يكون كذلك لأن الصوم إنما كان له ومشرفاً بالنسبة إليه وإن كانت العبادات كلها له كما شرف البيت بالنسبة إلى نفسه والأرض كلها له لمعنيين؛ أحدهما: أن الصوم كف وترك وهو في نفسه سر ليس فيه عمل يشاهد. وجميع أعمال الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى والصوم لا يراه إلا الله عز وجل فإنه عمل في الباطن بالصبر المجرد. والثاني: أنه قهر لعدو الله عز وجل فإن وسيلة الشيطان لعنة الله الشهوات؛ وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب. ولذلك قال ﷺ "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع" ولذلك قال ﷺ لعائشة رضي الله عنها "داومي قرع باب الجنة؛ قالت: بماذا? قال ﷺ: بالجوع" - وسيأتي فضل الجوع في كتاب: شره الطعام - وعلاجه من ربع المهلكات - فلما كان الصوم على الخصوص قمعاً للشيطان وسداً لمسالكه وتضييقاً لمجاريه استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل ففي قمع عدو الله نصرة لله سبحانه وناصر الله تعالى موقوف على النصرة له قال الله تعالى "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" فالبداية بالجهد من العبد والجزاء بالهداية من الله عز وجل ولذلك قال تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وقال تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وإنما التغير تكثير الشهوات فهي مرتع الشياطين ومرعاهم فما دامت مخصبة لم ينقطع ترددهم وما داموا يترددون لم ينكشف للعبد جلال الله سبحانه وكان محجوباً عن لقائه. وقال ﷺ "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات" فمن هذا الوجه صار الصوم باب العبادة وصار جنة وإذا عظمت فضيلته إلى هذا الحد فلابد من بيان شروطه الظاهرة والباطنة بذكر أركانه وسننه وشروطه الباطنة، ونبين ذلك بثلاثة فصول.