إحياء علوم الدين/كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/الباب الرابع
قد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف وأن أوله التعريف، وثانيه الوعظ، وثالثه التخشين في القول، ورابعه المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة. والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان وهما: التعريف والوعظ. وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان، فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر، ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه فذاك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه. فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذلك شهادة. قال رسول الله ﷺ "خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك" وقال ﷺ "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" ووصف النبي ﷺ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم وتركه قوله الحق ماله من صديق" ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار، قدموا على ذلك موطنين أنفسهم وطريق وعظ السلاطين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما نقل علماء السلف، وقد أوردنا جملة من ذلك في باب الدخول على السلاطين في كتاب الحلال والحرام، و نقتصر الآن على حكايات يعرف وجه الوعظ وكيفية الإنكار عليهم.
فمنها ما روي من إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أكابر قريش حين قصوا رسول الله ﷺ بالسوء. وذلك ما روي عن عروة رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو ما أكثر ما رأيت قريشاً نالت من رسول الله ﷺ فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل سفه أحلامنا وشتم أباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا، ولقد صبرنا منه على أمر عظيم - أو كما قالوا - فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله ﷺ فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله ﷺ ثم مضى، فلما مر الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه عليه السلام ثم مضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها حتى وقف ثم قال: "أتسمعون يا معشر قريش: أما والذي نفس محمد بيده فقد جئتكم بالذبح" قال: فأطرق القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى أن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً قال: فانصرف رسول الله ﷺ حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه؛ فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله ﷺ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا? أنت الذي تقول كذا? لما كان قد بلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، قال: فيقول رسول الله ﷺ "نعم أنا الذي أقول ذلك" قال: فلقد رأيت رجل منهم أخذ بمجامع ردائه قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول - وهو يبكي - ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله?: ثم انصرفوا عنه وإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه وفي رواية أخرى عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: بينا رسول الله ﷺ بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ﷺ فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله ﷺ وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم? وروي أن معاوية رضي الله عنه حبس العطاء فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له: يا معاوية إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك. قال: فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال لهم: مكانكم! وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول " الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليغتسل" وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم أنه ليس من كدي ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم. وروي عن ضبة بن محصن العنزي قال كان عينا أبو موسى الأشعري أمير بالبصرة فكان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ﷺ وأنشأ يدعو لعمر رضي الله عنه قال: فغاظني ذلك منه، فقمت إليه فقلت له: أين أنت من صاحبه تفضله عليه? فضع ذلك جمعاً ثم كتب إلى عمر يشكوني يقول: إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض لي في خطبتي. فكتب إليه عمر: أن أشخصه إلي. قال: فاشخصني إليه فقدمت فضربت عليه الباب لخرج إلي فقال: من أنت? فقلت: أنا ضبة فقال لي: لا مرحباً ولا أهلاً، قلت: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال. فبماذا استحللت يا عمر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته ولا شيء أتيته? فقال: ما الذي شجر بينك وبين عاملي? قال: قلت الآن أخبرك به، إنه كان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ﷺ ثم أنشأ يدعو لك فغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له أين أنت من صاحبه تفضله عليه? فضع ذلك جمعاً ثم كتب إليك يشكوني. قال: فاندفع عمر رضي الله عنه باكياً وهو يقول أنت والله أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك? قال: قلت غفر الله لك يا أمير المؤمنين. قال: ثم اندفع باكياً وهو يقول: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه. قلت: نعم، قال:
أما الليلة: فإن رسول الله ﷺ لما أراد الخروج من مكة هارباً من المشركين خرج ليلاً فتبعه أبو بكر، فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره، فقال رسول الله ﷺ "ما هذا يا أبا بكر? ما أعرف هذا من فعلك" فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك، لا آمن عليك. قال: فمشي رسول الله ﷺ ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت؛ فلما رأى أبو بكر أنها قد حفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد به حتى أتى فمم الغار فأنزله، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، قال: فدخل فلم ير فيه شيئاً فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع فألقمه أبو بكر قدمه مخافة أن يخرج منه شيء إلى رسول الله ﷺ فيؤذيه، وجعلن يضربن أبا بكر في قدمه وجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألم ما يجد ورسول الله ﷺ يقول له "يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا"، فأنزل الله سكينته عليه والطمأنينة لأبي بكر فهذه ليلته.
وأما يومه فلما توفي رسول الله ﷺ ارتدت العرب فقال بعضهم: نصلي ولا نزكي فأتيته لا آلوه نصحاً فقلت: يا خليفة رسول الله ﷺ تألف الناس وارفق بهم. فقال لي: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام? فبماذا أتألفهم? قبض رسول الله ﷺ وارتفع الوحي فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه، قال: فقاتلنا عليه فكان والله رشيد الأمر. فهذا يومه. ثم كتب إلى أبي موسى يلومه.
وعن الأصمعي قال: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان - وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن وذلك بمكة في وقت حجة في خلافته - فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال له: يا أبا محمد ما حاجتك? فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق بابك دونهم. فقال له: أجل أفعل، ثم نهض وقام. فقبض عليه عبد الملك فقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها فما حاجتك أنت? فقال: مالي إلى مخلوق حاجة. ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف! وقد روي أن الوليد بن عبد الملك قال لحاجبه يوماً: قف على الباب فإذا مر بك رجل فأدخله علي ليحدثني. فوقف الحاجب على الباب مدة فمر به عطاء بن أبي رباح وهو لا يعرفه فقال له: يا شيخ أدخل إلى أمير المؤمنين فإنه أمر بذلك؛ فدخل عطاء على الوليد على حاجبه وقال له. ويلك أمرتك أن تدخل إلى رجلاً يحدثني ويسامرني فأدخلت إلي رجلاً لم يرضى أن يسميني بالاسم الذي اختاره الله لي. فقال له حاجبه: ما مر بي أحد غيره، ثم قال لعطاء: اجلس، ثم أقبل عليه يحدثه فكان فيما حدثه به عطاء أن قال له: بلغنا أن في جهنم وادياً يقال له هبهب أعده الله لكل إمام جائر في حكمه. فصعق الوليد من قوله، وكان جالساً بين يدي عتبة باب المجلس فوقع على قفاه إلى جوف المجلس مغشياً عليه؛ فقال عمر لعطاء: قتلت أمير المؤمنين. فقبض عطاء على ذراع عمر ابن عبد العزيز فغمزه غمرة شديدة وقال له: يا عمر إن الأمر جد فجد، ثم قام عطاء وانصرف. فبلغنا عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: مكنت سنة أجد ألم غمزته في ذراعي. وكان ابن أبي شميلة يوصف بالعقل والأدب؛ فدخل على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك: تكلم، قال: بم أتكلم وقد علمت أن كل كلام تكلم به المتكلم عليه وبال إلا ما كان لله? فبكي عبد الملك ثم قال: يرحمك الله لم يزل الناس يتواعظون ويتواصون، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الناس في القيامة لا ينجون من غصص مرارتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه؛ فبكى عبد الملك ثم قال: لا جرم لأجعلن هذه الكلمات مثالاً نصب عيني ما عشت. ويروى عن ابن عائشة أن الحجاج دعا بفقهاء البصرة وفقهاء الكوفة فدخلنا عليه، ودخل الحسن البصري رحمه الله آخر من دخل، فقال الحجاج مرحباً بأبي سعيد إلي إلي، ثم دعا بكرس فوضع إلى جنب سريره فقعد عليه؛ فجعل الحجاج يذاكرنا ويسألنا إذ ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مقاربة له وفرقاً من شره؛ والحسن ساكت عاض على إبهامه؛ فقال: يا أبا سعيد مالي أراك ساكتاً? قال: ما عسيت أن أقول? قال: أخبرني برأيك في أبي تراب، قال: سمعت الله جل ذكره يقول: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم" فعلي ممن هدى الله من أهل الإيمان، فأقول: ابن عم النبي عليه السلام وختنه على ابنته وأحب الناس إليه وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحظرها عليه ولا يحول بينه وبينها. وأقول: إن كانت لعلي هناة فالله حسبه والله ما أجد فيه قولاً أعدل من هذا. فبسروجه الحجاج وتغير وقام عن السرير مغضباً فدخل بيتاً خلفه وخرجنا. قال عامر الشعبي: فأخذت بيد الحسن فقلت: يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره، فقال: إليك عني يا عامر، يقول الناس عامر الشعبي عالم أهل الكوفة. أتيت شيطاناً من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر الشعبي عالم أهل الكوفة. أتيت شيطاناً من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر هلا اتقيت إن سئلت فصدقت، أو سكت فسلمت? قال عامر: يا أبا سعيد قد قلتها وأنا أعلم ما فيها، قال الحسن: فذاك أعظم من الحجة عليك وأشد في التبعة. قال: وبعث الحجاج إلى الحسن فلما دخل عليه قال: أنت الذي تقول قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدينار
والدرهم? قال: نعم، قال ما حملك على هذا? قال: ما أخذ الله على العلماء من المواثيق "ليبيننه للناس ولا يكتمونه" قال يا حسن أمسك عليك لسانك وإياك أن يبلغني عنك ما أكره فأفرق بين رأسك وجسدك. وحكى أن حطيطاً الزيات جيء به إلى الحجاج فلما دخل عليه قال: أنت حطيط? قال: نعم، سل عما بدا لك، فإني عاهدت الله - عند المقام - على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن. قال: فما تقول في? قال: أقول إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة. قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان? قال: أقول إنه أعظم جرماً منك وإنما أنت خطيئة من خطاياه. قال: فقال الحجاج، ضعوا عليه العذاب. قال: فانتهى به العذاب إلى أن شقق له القصب ثم جعلوه على لحمه وشدوه بالحبال ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه فما سمعوه يقول شيئاً. قال: فقيل للحجاج إنه في آخر رمق فقال: أخرجوه فارموا به في السوق. قال جعفر: فأتيته أنا وصاحب له فقلنا له: حطيط ألك حاجة? قال: شربة ماء فأتوه بشربة ثم مات، وكان ابن ثمان عشرة سنة رحمة الله عليه. وروى أن عمر بن هبيرة دعا بفقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها فجعل يسألهم وجعل يكلم عامر الشعبي فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علماً، ثم أقبل على الحسن البصري فسأله، ثم قال: هما هذان، هذا رجل أهل الكوفة - يعني الشعبي - وهذا رجل أهل البصرة - يعني الحسن - فأمر الحاجب فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن. فأقبل على الشعبي فقال: يا أبا عمرو إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم فأنا أحب حفظهم وتعهد ما يصلحهم مع النصيحة لهم، وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم فيه فأقبض طائفة من عطائهم فأضعه في بيت المال ومن نيتي أن أرده عليهم، فيبلغ أمير المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا إنفاذ كتابه، وإنما أنا رجل مأمور على الطاعة. فهل علي في هذا تبعة وفي أشباهه من الأمور والنية فيها على ما ذكرت? قال الشعبي. فقلت أصلح الله الأمير إنما السلطان والد يخطئ ويصيب، قال. فسر بقولي وأعجب به ورأيت البشر على وجهه وقال فلله الحمد، ثم أقبل على الحسن فقال: ما تقول يا أبا سعيد قال: قد سمعت قول الأمير يقول إنه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لما يصلحهم، وحق الرعية لازم لك وحق عليك أن تحوطهم بالنصيحة وإني سمعت عبد الرحمن بن سمرة القرشي صاحب رسول الله ﷺ يقول: قال رسول الله ﷺ "من استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة" ويقول: إني ربما قبضت من عطائهم إرادة صلاحهم واستصلاحهم وأن يرجعوا إلى طاعتهم، فيبلغ أمير المؤمنين أني قبضتها على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه، وحق الله ألزم من حق أمير المؤمنين والله أحق أن يطاع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فأعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل فإن وجدته موافقاً لكتاب الله فخذ به وإن وجدته مخالفاً لكتاب الله فانبذه؛ يا ابن هبيرة اتق الله فإنه يوشك أن يأتيك رسول من رب العالمين يزيلك عن سريك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فتدع سلطانك ودنياك خلف ظهرك وتقدم على ربك وتنزل على عملك؛ يا ابن هبيرة إن الله ليمنعك من يزيد ولا يمنعك يزيد من الله وإن أمر الله فوق كل أمر وإنه لا طاعة في معصية الله وإني أحذرك بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين. فقال ابن هبيرة: أربع على ظلعك أيها الشيخ وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين؛ فإن أمير المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحكم وصاحب الفضل وإنما ولاه الله تعالى ما ولاه من أمر هذه الأمة لعلمه به وما يعلمه من فضله ونيته. فقال الحسن: يا ابن هبيرة، الحساب من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد، يا ابن هبيرة: إنك إن تلق من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر آخرتك خير من أن تلقي رجلاً يغريك ويمنيك. فقام ابن هبيرة وقد بسر وجهه وتغير لونه. قال الشعبي: فقلت يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره
وحرمتنا معروفه وصلته فقال: إليك عني يا عامر، قال: فخرجت إلى الحسن التحف والطرف وكانت له المنزلة واستخف بنا وجفينا فكان أهلاً لما أدى إليه كنا أهلاً أن يفعل ذلك بنا. فما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف وما شهدنا مشهد إلا برز علينا. وقال لله عز وجل وقلنا مقاربة لهم. قال عامر الشعبي: وأنا أعاهد الله أن لا أشهد سلطاناً بعد هذا المجلس فأحابيه. ودخل محمد بن واسع على بلال بن أبي بردة فقال له: ما تقول في القدر? فقال: جيرانك أهل القبور فتفكر فيهم فإن فيهم شغلاً عن القدر.
وعن الشافعي رضي الله عنه قال: حدثني عمي محمد بن علي قال: إني لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب، وكان والي المدينة الحسن بن زيد قال: فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبي جعفر شيئاً من أمر الحسن ابن زيد، فقال الحسن: يا أمير المؤمنين سل عنهم ابن أبي ذؤيب قال: فسأله، فقال: ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب? فقال: أشد أنهم أهل تحطم في أعراض الناس كثير والأذى لهم. فقال أبو جعفر: قد سمعتم، فقال الغفاريون: يا أيمر المؤمنين سله عن الحسن بن زيد. فقال: يا ابن أبي ذؤيب ما تقول في الحسن بن زيد? فقال: أشهد عليه أنه يحكم بغير الحق ويتبع هواه، فقال: قد سمعت يا حسن ما قال فيك ابن أبي ذؤيب وهو الشيخ الصالح? فقال: يا أمير المؤمنين أسأله عن نفسك. فقال: مما تقول في? قال: تعفيني يا أمير المؤمنين، قال: أسألك بالله إلا أخبرتني. قال: تسألني بالله كأنك لا تعرف نفسك? قال: والله لتخبرني، قال: أشهد أنك أخذت هذا المال من غير حقه فجعلته في غير أهله، وأشهد أن الظلم ببابك فاش. قال: فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي ذؤيب فقبض عليه ثم قال له: أما والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم والديلم والترك بهذا المكان منك! قال: فقال ابن أبي ذؤيب يا أمير المؤمنين قد ولي أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا آنافهم، قال: فخلى أبو جعفر قفاه وخلى سبيله وقال: والله لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك، فقال ابن أبي ذؤيب: والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك المهدي، قال: فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لما انصرف من مجلس المنصور لقيه سفيان الثوري فقال له: يا أبا الحرث لقد سرني ما خاطبت به هذا الجبار ولكن ساءني قولك له ابنك المهدي، فقال: يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي كلنا كان في المهد.
وعن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو قال: بعث إلى أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد علي واستجلسني ثم قال لي: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي? قال: قلت وما الذي تريد يا أمير المؤمنين? قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم قال: فقلت فانظر يا أمير المؤمنين أن لا تجهل شيئاً مما أقول لك، قال: وكيف أجهله وأنا أسألك عنه وفيه وجهت إليك وأقدمتك له? قال: قلت أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به، قال: فاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة فطابت نفسي وانبسطت في الكلام. فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله ﷺ "أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه وإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثماً يزداد الله بها سخطاً عليه" يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن ياسر قال: قال رسول الله ﷺ "أيما وال مات غاشا لرعيته حرم الله عليه الجنة" يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله. إن الله هو الحق المبين. إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله ﷺ وقد كان بهم رءوفاً رحيماً مواسياً لهم بنفسه في ذات يده محموداً عند الله وعند الناس فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق. وأن تكون بالقسط له فيهم قائماً ولعوراتهم ساتراً. لا تغلق عليك دونهم الأبواب ولا تقم دونهم الحجاب. تبتهج بالنعمة عندهم. وتبتئس بما أصابهم من سوء. يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم - أحمرهم وأسودهم مسلمهم وكافرهم - وكل له عليك نصيب من العدل فكيف بك إذا انبعث منهم فئام وراء فئمام وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها إليه? يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال: كانت بيد رسول الله ﷺ جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال له: يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك وملأت قلوبهم رعباً? فكيف بمن شقق أستارهم وسفك دماءهم وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم وغيبهم الخوف منه? يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن زياد عن حارثة عن حبيب بن مسلمة "أن رسول الله ﷺ دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابياً لم يتعمده فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك جباراً ولا متكبراً. فدعا النبي ﷺ الأعرابي فقال: "اقتضي مني" فقال الأعرابي: قد أحللتك؛ بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبداً ولو أتيت على نفسي. فدعا له بخير" يا أمير المؤمنين رض نفسك لنفسك وخذ لها الأمان من بربك وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله ﷺ "لقيد قوس أحدكم من الجنة خير له من الدنيا وما فيها" يا أمير المؤمنين إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذا لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك. يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك "ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" قال الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك، فكيف بما عملته الأيدي وحصدته الألسن? يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك? يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" قال الله تعالى في الزبور: يا داود إذا قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له فيفلح على صاحبه فأمحوك عن نبوتي ثم لا تكون خلفتي ولا كرامة، يا داود إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل لعلهم بالرعاية ورفقهم بالسياسة ليجبرو الكسير ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء. يا أمير المؤمنين إنك قد بليت بأمر لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه، يا أيمر المؤمنين حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن عمرة الأنصاري: أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة فرآه بعد أيام مقيماً فقال له: ما منعك من الخروج إلى عملك? أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله قال: لا، قال: وكيف ذلك? قال: إنه بلغني أن رسول الله ﷺ قال "ما من وال يلي شيئاً من أمور الناس إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه لا يفكها إلا عدله فيوقف على جسر من النار ينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه ثم يعاد فيحاسب فإن كان محسناً نجا بإحسانه وإن كان مسيئاً انخرق به الجسر فيهوي به في النار سبعين خريفاً" فقال له عمر رضي الله عنه ممن سمعت هذا? قال: من أبي ذر وسلمان فأرسل إليهما عمر فسألهما فقالا: نعم سمعناه من رسول اله ﷺ فقال عمر: وا عمراء من يتولاها بما فيها? فقال أبو ذر رضي الله عنه: من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض. قال: فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني. ثم قلت: يا أمير المؤمنين قد سأل جدك العباس النبي ﷺ إمارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال له النبي ﷺ "يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها" نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئاً إذ أوحى الله إليه "وأنذر عشيرتك الأقربين" فقال: يا عباس ويا صفية عمي النبي ويا فاطمة بنت محمد إني لست أغني عنكم من الله شيئاً إن لي عمل ولكم عملكم وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل أريب العقد لا يطلع منه على عورة ولا يخاف منه على حرة ولا تأخذه في الله لومة لأئم. وقال: الأمراء أربعة؛ فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله يد الله باسطة عليه بالرحمة، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله ﷺ "شر الرعاة الحطمة فهو الهالك وحده" وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعاً.
وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي ﷺ فقال: "أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار فوضعت على النار تسعر ليوم القيامة، فقال له: يا جبريل صف لي النار فقال: إن الله تعالى أمر بها فأوقد عيها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهبها، والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أن ذنوباً من شرابها صب في مياه الأرض جميعاً لقتل من ذاقه ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلت، ولو أن رجلاً أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه؛ فبكى النبي ﷺ وبكى جبريل عليه السلام لبكائه فقال: أتبكي يا محمد وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر? فقال: "أفلا أكون عبداً شكوراً ولم بكيت يا جبريل وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه" قال: أخاف أن أبتلي به هاروت وماروت فهو الذي منعني من اتكالي على منزلتي عند ربي فأكون قد أمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتى نوديا من السماء: يا جبريل ويا محمد إن الله قد آمنكما أن تعصياه فيعذبكما وفضل محمد على سائر الأنبياء كفضل جبريل على سائر الملائكة" وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من مال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين. يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وأنه من طالب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلب بمعصية الله أذله الله ووضعه. فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك. ثم نهضت فقال لي: إلى أين? فقلت: إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله، فقال: قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة. قلت: أفعل إن شاء الله.
قال محمد بن مصعب: فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال: أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا. وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك.
وعن ابن المهاجر قال: قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجاً، فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به، فإذا طلع الفجر رجع إلى جار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فصلى بالناس، فخرج ذات اليلة حين اسخر فبينا هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع. فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له: أجب أمير المؤمنين؛ فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور؛ ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض ومنا يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم؛ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني? فقال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل، فقال له: أنت آمن على نفسك فقال: الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت. فقال: ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي? قال: وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين? إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاجاً من الجص والآجر وأبواباً من الحديد وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها منهم وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها واتخذت وزراء وأعواناً ظلمة إن نسيت من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق فلما رآك هؤلائ النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك
وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبى الأموال ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا? فأئتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمراً إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك من بالهدايا والأموال ليتقؤوا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية فامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل؛ فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ووقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم؛ فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه ما يريد خوفاً منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه؛ فإذا جهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضرباً مبرحاً ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير؛ فما بقاء الإسلام وأهله على هذا؛ ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رفعت ظلامته إليهم فينصف؛ ولقد كان الرجل يأتي من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي: يا أهل الإسلام فيبتدرونه مالك مالك فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف؛ ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي فقال له وزراؤه: مالك تبكي لا بكت عيناك? فقال: أما إني لست أبكي على المصيبة التي نزلت بي ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس: ألا لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى مظلوماً فينصفه? هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه، وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك؛ فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاثة؛ إن قلت اجمعها لولدي فقد أراك الله عبرا في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ولست الذي تعطي بل الله يعطي من يساء، وإن قلت: أجمع المال لأشيد سلطاني. فقد أراك الله عبراً فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع وما ضرك وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد. وإن قلت أجمع المال. لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد. وإن قلت أجمع المال. لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد القتل? قال: لا، قال: فكيف تصنع بالملك الذي خولك الله وما أنت عليه من ملك الدنيا وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك? فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب? هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه ما شححت عليه من ملك الدنيا? فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال: يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئاً، ثم قال: من ملك الدنيا? فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال. يا ليتني لم أخلق ولم أرك شيئاً، ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائناً? قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك، ولكن افتح الأبواب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم من الظالم وامنع المظالم وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل وأنا ضامن على أن من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك. فقال المنصور. اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل. وجاء المؤذنون فسلموا
عليه وأقيمت الصلاة فخرج فصلى بهم ثم قال للحرس: عليك بالرجل يصلي في بعض الشعاب فقعد حتى صلى ثم قال: يا ذا الرجل أما تتقي الله? قال: بلى، قال. أما تعرفه? قال: بلى، قال: فانطلق معي إلى الأمير فقد آلى أن يقتلني إن لم آته بك، قال: ليس لي إلى ذلك من سبيل، قال: يقتلني، قال: لا، قال: كيف? قال: تحسن تقرأ، قال: لا، فأخرج من مزود كان معه رقاً مكتوب فيه شيء فقال: خذه فجعله في جيبك فإن فيه دعاء الفرج، قال: وما دعاء الفرج? قال: لا يرزقه إلا الشهداء، قلت: رحمك الله قد أحسنت إلي فإن رأيت أن تخبرني ما هاذ الدعاء وما فضله? قال: من دعابه مساء وصباحاً هدمت ذنوبه ودام سروره ومحيت خطاياه واستجيب دعاؤه وبسط له رزقه وأعطى أمله وأعين على عدوه وكتب عند الله صديقاً ولا يموت إلا شهيداً، تقول: اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك، وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك وعلانية القول كالسر في عملك، وانقاد كل شيء لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك اجعل لي من كل هم أمسيت فيه فرجاً ومخرجاً. اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه مما قصرت فيه أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً وإنك المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك تتودد إلي بنعمتك وأتبغض إليك بالمعاصي ولكن القى بك حملتني على غير الجراءة عليك فعد بفضلك وإحسانك على إنك أنت التواب الرحيم. قال: فأخذته صيرته في جيبي ثم لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه فنظر إلي وتبسم ثم قال: ويلك وتحسن السحر? فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ فقال: هات الرق الذي أعطاك، ثم جعل يبكي وقال: وقد نجوت، وأمر بنسخه وأعطاني عشرة آلاف، ثم قال: أتعرفه? قلت: لا، قال ذلك الخضر عليه السلام.
وعن أبي عمران الجوني قال: لما ولي هارون الرشيد الخلافة زاره العلماء فهنوه بما صار إليه من أمر الخلافة ففتح بيوت الأموال وأقبل يجيزهم بالجوائز السنية، وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد، وكان يظهر النسك والتقشف، وكان مؤاخياً لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديماً فهجره سفيان ولم يزره، فاشتاق هرون إلى زيارته ليخلوا به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه، فاشتد ذلك على هرون فكتب إليه كتاباً يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هرون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر أما بعد، يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين المؤمنين وجعل ذلك فيه وله واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك ولم أقطع منها ودك وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوا لما أجد لك في قلبي من المحبة، واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهناني بما صرت إليه وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني وإني استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت لك كتاباً شوقاً مني إليك شديداً، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل مؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد عليه كتابي فالعجل العجل. فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته فقال: علي برجل من الباب، فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني. فقال: يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور، ثم سل عن سفيان الثوري فإذا رأيته فالق كتابي هذا إليه وع بسمعك وقلبك جميع ما يقول فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به. فأخذ عباد الكتاب وانطلق به حتى ورد الكوفة فسأل عن القبيلة فأرشد إليها ثم سأل عن سفيان فقيل له هو في المسجد قام يصلي ولم يكن وقت صلاة، فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون ن عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا السلام علي برءوس الأصابع، فبقيت واقفاً فما منهم أحد يعرض على الجلوس وقد علاني من هيبتهم الرعدة ومددت عيني إليهم فقلت إن المصلي هو سفيان فرميت بالكتاب إليه. فما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه فركع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه، فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال: يأخذه بعضكم يقرؤون فإني أستغفر الله أن أمس شيئاً مسه ظالم بيده. قال عباد: فأخذه بعضهم فخله كأنه خائف من فم حية تنهشه، ثم فضه وقرأه، وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب فلما فرغ من قراءته قال: اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو كتبت إليه في قرطاس نقي. فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا. فقيل له: ما نكتب? فقال: اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم، ن العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هرون الرشيد الذي سلب حلاوة الإيمان. أما بعد: فإني قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك فإنك قد جلعتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك. أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غداً بين يدي الله تعالى، يا هرون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم هل رضي بغفك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل? أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والآرامل والأيتام? أم هل رضي بذلك خلق من
رعيتك? فشد يا هرون منزرك وأعد للمسألة جواباً وللبلاء جلباباً، واعلم أنك تقف بين يدي الحكم العدل فقد رزئت في نفسك إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً وللظالمين إماماً، يا هرون قعدت على السرير ولبست الحرير وأسبلت ستراً دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون? يشربون الخمور ويضربون من يشربها! ويزنون ويحدون الزاني? ويسرقون ويقطعون السارق! أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على الناس? فكيف بك يا هرون غداً إذا نادى المنادي من قبل الله تعالى: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" أي الظلمة وأعوان الظلمة فقدمت بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك، والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار، كأني بك يا هرون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك زيادة عن سيئاتك، بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة، فاحتفظ بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح غاية، فاتق الله يا هرون في رعيتك واحفظ محمد ﷺ في أمته وأحسن الخلافة عليهم، واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحد بعد واحد فمنهم من تزود زاداً نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا هرون ممن خسر دنياه وآخرته فإياك إياك أن تكتب لي كتاباً بعد هذا فلا أجيبك عنه والسلام. قال عباد: فألقي إلي الكتاب منشوراً غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة وقد وقعت الموعظة من قلبي فناديت: يا أهل الكوفة، فأجابوني فقلت لهم: يا قوم من يشتري رجلاً هرب من الله إلى الله? فأقبلوا إلي بالدنانير والدراهم، فقلت: لا حاجة لي في المال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية، قال: فأتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين هرون حافياً راجلاً، فهزأ بي من كان على باب الخليفة. ثم استؤذن لي فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد، ثم قام قائماً وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحزن ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسل مالي وللدنيا مالي ولملك يزول عني سريعاً? ثم ألقيت الكتاب إليه منشوراً كما دفع إلي. فأقبل هرون يقرؤه ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن كنت تجعله عبرة لغيره. فقال هرون: اتركونا يا عبيد الدنيا، المغرور من غررتموه والشقي من أهلكتموه، وإن سفيان أمة وجده فاتركوا سفيان وشأنه. ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هرون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله. فرحم الله عبداً نظر لنفسه واتقى الله فيما يقدم عليه غداً من عمله فإنه عليه يحاسب وبه يجازى والله ولي التوفيق.
وعن عبد الله بن مهران قال: حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أياماً ثم ضرب بالرحيل، فخرج الناس، وخرج بهلول المجنون فيمن خرج بالكناسة والصبيان يؤذونه ويولعون به؛ إذ أقلت هوادج هرون فكف الصبيان عن الولوع به فلما جاء هرون نادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين فكثف هرون السجاف بيده عن وجهه فقال: لبيك يا بهلول فقال: يا أمير المؤمنين؛ حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي ﷺ منصرفاً من عرفة على ناقة له صهباء؛ لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وتواضعك في سفرك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك. قال: فبكى هرون حتى سقطت دموعه على الأرض، ثم قال: يا بهلول زدنا رحمك الله قال: نعم يا أمير المؤمنين، رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله وعف في جماله كتب في خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار. قال: أحسنت يا بهلول، ودفع له جائزة: فقال: أردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها، قال: يا بهلول فإن كان عليك دين قضيناه، قال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز. قال: يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك أو يقيمك، قال: فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال: يا أمير المؤمنين أنا وأنت من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني. قال: فأسبل هرون السجاف ومضى.
وعن أبي العباس الهاشمي عن صالح بن المأمون قال: دخلت على الحرث المحاسبي رحمه الله فقلت له: يا أبا عبد الله هل حاسبت نفسك? فقال: كان هذا مرة، قلت له: فاليوم? قال: أكاتم حالي? إني لأقرأ آية من كتاب الله تعالى فأضن بها أن تسمعها نفسي ولولا أن يغلبني فهيا فرح ما أعلنت بها. ولقد كنت ليلة قاعداً في محرابي فإذا أنا بفتى حسن الوجه طيب الرائحة فسلم علي ثم قعد بين يدي فقلت له من أنت? فقال: أنا واحد من السياحين أقصد المتعبدين في محاريبهم ولا أرى لك اجتهاداً فأي شيء عملك? قال: قلت له: كتمان المصائب واستجلاب الفوائد، قال: فصاح وقال: ما علمت أن أحداً بين جنبي المشرق والمغرب هذه صفته? قال الحرث: فأردت أن أزيد عليه فقلت له: أما علمت أن أهل القلوب يخفون أحوالهم ويكتمون أسرارهم ويسألون الله كتمان ذلك عليهم فمن أين تعرفهم? قال: فصاح صيحة غشي عليه منها فمكث عندي يومين لا يعقل، ثم أفاق وقد أحدث في ثيابه، فعلمت إزالة عقله فأخرجت له ثوباً جديداً وقلت له: هذا كفني قد آثرتك به فاغتسل وأعد صلاتك فقال: هات الماء فاغتسل وصلى ثم التحف بالثوب وخرج فقلت له: أين تريد? فقال لي? قم معي، فلم يزل يمشي حتى دخل على المأمون فسلم عليه وقال: يا ظالم أنا ظالم إن لم أقل لك يا ظالم، أستغفر الله من تقصيري فيك، أما تتقي الله تعالى فيما قد ملكك? وتكلم بكلام كثير ثم أقبل يريد الخروج وأنا جالس بالباب فأقبل عليه المأمون وقال: من أنت? قال: أنا رجل من السياحين فكرت فيما عمل الصديقون قبلي فلم أجد لنفسي فيه حظاً فتعلقت بموعظتك لعلي ألحقهم، قال: فأمر بضرب عنقه، فأخرج وأنا قاعد على الباب ملقوفاً في ذلك الثوب ومناد ينادي: من ولي هذا فليأخذه، قال الحرث: فاختبأت عنه فأخذه أقوام غرباء فدفنوه وكنت معهم لا أعلمهم بحاله. فأقمت في مسجد بالمقابر محزوناً على الفتى فغلبتني عيناي فإذا هو بين وصائف لم أر أحسن منهن وهو يقول: يا حارث أنت والله من الكاتمين الذين يخفون أحوالهم ويطيعون ربهم، قلت: وما فعلوا? قال الساعة يلقونك، فنظرت إلى جماعة ركبان فقلت: من أنتم? قالوا: الكاتمون أحوالهم حرك هذا الفتى كلامك له فلم يكن في قلبه مما وصفت شيء فخرج للأمر والنهي وإن الله تعالى أنزله معنا وغضب لعبده.
وعن أحمد بن إبراهيم المقري قال؛ كان أبو الحسين النوري رجلاً قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكراً غيره ولو كان فيه تلفه، فنزل ذات يوم إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة إذ رأى زورقاً فيه ثلاثون دنا مكتوب عليها بالقار "لطف" فقرأه وأنكره لأنه لم يعلم في التجارات ولا في البيوع شيئاً يعبر عنه بلطف. فقال للملاح: إيش في هذه الدنان? قال: وإيش عليك امض في شغلك? فلما سمع النوري من الملاح هذا القول ازداد تعطشاً إلى معرفته فقال: أحب أن تخبرني إيش في هذه الدنان؛ قال: وإيش عليك أنت والله صوفي فضولي، هذا خمر للمعتضد يريد أن يعم به مجلسه? فقال النوري: وهذا خمر? قال: نعم، فقال: أحب أن تعطيني ذلك المدري، فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه: أعطه حتى انظر ما يصنع، فلما صارت المدري في يده صعد إلى الزورق ولم يزل يكسرها دناً دناً حتى أتى على آخرها إلا دناً واحداً، والملاح يستغيث، إلى أن ركب صاحب الجسر وهو يومئذ ابن بشر أفلح فقبض على النوري وأشخصه إلى حضرة المعتضد - وكان المعتضد سيفه قبل كلامه ولم يشك الناس في أنه سيقتله - قال أبو الحسين: فأدخلت عليه وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه فلما رآني قال: من أنت? قلت: محتسب، قال: ومن ولاك الحسبة? قلت: الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت? فقلت: شفقة يا أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت? فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت عنه وقال فأطرق مفكراً في كلامي ثم رفع رأسه إلي وقال: كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة الدنان? فقلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن، فقال: هات خبرني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني أقبلت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحال إلى أن صرت إلى هذا الدن، فاستشعرت نفسي كبراً على أني أقدمت على مثلك فمنعت ولو أقدمت عليه بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنان لكسرتها ولم أبال، فقال المعتضد: اذهب فقد أطلقنا يدك غير ما أحببت أن تغيره من المنكر. قال أبو الحسين فقلت: يا أمير المؤمنين بغض إلى التغيير لأني كنت أغير عن الله تعالى وأنا الآن أغير عن شرطي فقال المعتضد: ما حاجتك? فقلت: يا أمير المؤمنين تأمر بإخراجي سالماً فأمر له بذلك وخرج إلى البصرة، فكان أكثر أيامه بها خوفاً من أن يسأله أحد حاجة يسألها المعتضد، فأقام بالبصرة إلى توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد.
فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين لكونهم، اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعلى أن يزقهم الشهادة، فلما أخصلوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها. وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا. ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر? والله المستعان على كل حال.
تم كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحمد الله ودونه وحسن توفيقه