إحياء علوم الدين/كتاب العلم/الباب السابع
بيان شرف العقل
عدلاعلم أن هذا مما لا يحتاج إلى تكلف في إظهاره لاسيما وقد ظهر شرف العلم من قبل العقل والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس والرؤية من العين فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة? أو كيف يستراب فيه والبهيمة مع قصور تمييزها تحتشم العقل حتى إن أعظم البهائم بدناً وأشدها ضراوة وأقواها سطوة إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه لشعوره باستيلائه عليه لما خص به من إدراك الحيل. ولذلك قال ﷺ "الشيخ في قومه كالنبي في أمته" وليس ذلك لكثرة ماله ولا لكبر شخصه ولا لزيادة قوته بل لزيادة تجربته التي هي ثمرة عقله. ولذلك ترى الأتراك والأكراد وأجلاف العرب وسائر الخلق مع قرب منزلتهم من رتبة البهائم يوقرون المشايخ بالطبع. ولذلك حين قصد كثير من المعاندين قتل رسول الله ﷺ فلما وقعت أعينهم عليه واكتحلوا بغرته الكريمة هابوه وتراءى لهم ما كان يتلألأ على ديباجة وجهه من نور النبوة وإن كان ذلك باطناً في نفسه بطون العقل فشرف العقل ما يدرك بالضرورة؛ وإنما القصد أن نورد ما وردت به الأخبار والآيات في ذكر شرفه وقد سماه الله نوراً في قوله تعالى "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة" وسمى العلم المستفاد منه روحاً ووحياً وحياة فقال تعالى "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" وقال سبحانه "أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس" وحيث ذكر النور والظلمة أراد به العلم والجهل كقوله "يخرجهم من الظلمات إلى النور" وقال ﷺ "يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم واعلموا أن العاقل من أطاع الله وإن كان دميم المنظر حقير الخطر دنيء المنزلة رث الهيئة، وأن الجاهل من عصى الله تعالى وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر شريف المنزلة حسن الهيئة فصيحاً نطوقاً فالقردة والخنازير أعقل عند الله تعالى ممن عصاه، ولا تغتر بتعظيم أهل الدنيا إياهم فإنهم من الخاسرين". وقال ﷺ "أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال الله عز وجل وعزتي وجلالي ما خلقت أكرم منك، بك آخذ وبك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب". فإن قلت: فهذا العقل إن كان عرضاً فكيف خلق قبل الأجسام? وإن كان جوهراً فكيف يكون جوهر قائم بنفسه ولا يتحيز? فأعلم أن هذا من علم المكاشفة فلا يليق ذكره بعلم المعاملة، وغرضنا الآن ذكر علوم المعاملة. وعن أنس رضي الله عنه قال "أثنى قوم على رجل عند النبي ﷺ حتى بالغوا فقال ﷺ كيف عقل الرجل? فقالوا: نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله? فقال ﷺ: "إن الأحمق يصيب بجهله أكثر من فجور الفاجر وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات الزلفى من ربهم على قدر عقولهم". وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله" وقال ﷺ "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك تم إيمانه وأطاع ربه وعصى عدوه إبليس" وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ "لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجار في النار "لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لتميم الداري "ما السودد فيكم? فقال: العقل" وعن البراء ابن عازب رضي الله عنه قال: كثرت المسائل يوماً على رسول الله ﷺ فقال "يا أيها الناس إن لكل شيء مطية ومطية المرء العقل وأحسنكم دلالة ومعرفة بالحجة أفضلكم عقلاً" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال "لما رجع رسول الله ﷺ من غزوة أحد سمع الناس يقولون: فلان أشجع من فلان وفلان أبلى ما لم يبل فلان ونحو هذا فقال رسول الله ﷺ: أما هذا فلا علم لكم به، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله? فقال ﷺ: إنهم قاتلوا على قدر ما قسم الله لهم من العقل وكانت نصرتهم ونيتهم على قدر عقولهم" وعن البراء بن عازب أنه ﷺ قال "جد الملائكة واجتهدوا في طاعة الله سبحانه وتعالى بالعقل وجد المؤمنون من بني آدم على قدر عقولهم فأعملهم بطاعة الله عز وجل أوفرهم عقلاً" وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت يا رسول الله بما يتفاضل الناس في الدنيا? قال: بالعقل، قلت: وفي الآخرة? قال: بالعقل، قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم? فقال ﷺ: يا عائشة وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم عز وجل من العقل? فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم وبقدر ما عملوا يجزون" وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ "لكل شيء آلة وعدة وإن آلة المؤمن العقل ولكل شيء مطية ومطية المرء العقل ولكل شيء دعامة ودعامة الدين العقل ولكل قوم غاية وغاية العباد العقل ولكل قوم داع وداعي العابدين العقل ولكل تاجر بضاعة وبضاعة المجتهدين العقل ولكل أهل بيت قيم وقيم بيوت الصديقين العقل ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل، ولكل امرىء عقب ينسب إليه ويذكر به وعقب الصديقين الذي ينسبون إليه ويذكرون به العقل ولكل سفر فسطاط وفسطاط المؤمنين العقل" وقال ﷺ "إن أحب المؤمنين إلى الله عز وجل من نصب في طاعة الله عز وجل ونصح لعباده وكمل عقله ونصح نفسه فأبصر وعمل به أيام حياته فأفلح ونجح" وقال ﷺ "أتمكم عقلاً أشدكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمركم به ونهى عنه نظراً وإن كان أقلكم تطوعاً".
بيان حقيقة العقل وأقسامه
عدلاعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقاً على معان مختلفة فصار ذلك سبب اختلافهم. والحق الكاشف للغطاء فيه أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان - كما يطلق اسم العين مثلاً على معان عدة وما يجري هذا المجرى فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد بل يفرد كل قسم بالكشف عنه - فالأول: الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل: إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية وكأنه نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء ولم ينصف من أنكر هذا ورد العقل إلى مجرد العلوم الضرورية فإن الغافل عن العلوم والنائم يسميان عاقلين باعتبار وجود هذه الغريزة فيهما مع فقد العلوم. وكما أن الحياة غريزة بها يتهيأ الجسم للحركات الاختيارية والإدراكات الحسية فكذلك العقل غريزة بها تتهيأ بعض الحيوانات للعلوم النظرية ولو جاز أن يستوي بين الإنسان والحمار في الغريزة والإدراكات الحسية. فيقال لا فرق بينهما إلا أن الله تعالى بحكم إجراء العادة يخلق في الإنسان علوماً وليس يخلقها في الحمار والبهائم لجاز أن يسوي بين الحمار والجماد في الحياة، ويقال لا فرق إلا أن الله عز وجل يخلق في الحمار حركات مخصوصة بحكم إجراء العادة. فإنه لو قدر الحمار جماداً ميتاً لوجب القول بأن كل حركة تشاهد منه فالله سبحانه وتعالى قادر على خلقها فيه على الترتيب المشاهد. وكما وجب أن يقال لم يكن مفارقته للجماد في الحركات إلا بغريزة اختصت به عبر عنها بالحياة فكذا مفارقة الإنسان البهيمة في إدراك العلوم النظرية بغريزة يعبر عنها بالعقل وهو كالمرآة التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصور والألوان بصفة اختصت بها وهي الصقالة. وكذلك العين تفارق الجبهة في صفات وهيئات بها استعدت للرؤية فنسبة هذه الغريزة إلى العلوم كنسبة العين إلى الرؤية ونسبة القرآن والشرع إلى هذه الغريزة في سياقها إلى انكشاف العلوم لها كنسبة نور الشمس إلى البصر فهكذا ينبغي أن تفهم هذه الغريزة. الثاني: هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد، وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في حد العقل: إنه بعض العلوم الضرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وهو أيضاً صحيح في نفسه لأن هذه العلوم موجودة وتسميتها عقلاً ظاهر وإنما الفاسد أن تنكر تلك الغريزة ويقال لا موجود إلا هذه العلوم. الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال فإن من حنكته التجارب وهذبته المذاهب يقال إنه عاقل في العادة ومن لا يتصف بهذه الصفة فيقال إنه غبي غمر جاهل، فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلاً. الرابع: أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها فإذا حصلت هذه القوة سمى صاحبها عاقلاً من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة وهذه أيضاً من خواص الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوان، فالأول: هو الأس والسنخ والمنبع. والثاني: هو الفرع الأقرب إليه. والثالث: فرع الأول والثاني؛ إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب والرابع: هو الثمرة الأخيرة وهي الغاية القصوى، فالأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب. ولذلك قال علي كرم الله وجهه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع كما لاتنفع الشمس وضوء العين ممنوع والأول هو المراد بقوله ﷺ "ما خلق الله عز وجل خلقاً أكرم عليه من العقل" والأخير هو المراد بقوله ﷺ "إذا تقرب الناس بأبواب البر والأعمال الصالحة فتقرب أنت بعقلك" وهو المراد بقول رسول الله ﷺ لأبي الدرداء رضي الله عنه "ازدد عقلاً تزدد من ربك قرباً، فقال: بأبي أنت وأمي! وكيف لي بذلك? فقال: اجتنب محارم الله تعالى وأد فرائض الله سبحانه تكن عاقلاً واعمل بالصالحات من الأعمال تزدد في عاجل الدنيا رفعة وكرامة وتنل في آجل العقبى بها من ربك عز وجل القرب والعز" وعن سعيد بن المسيب "أن عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة رضي الله عنهم دخلوا على رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله من أعلم الناس? قال العاقل قالوا: اليس العاقل من تمت مروءته وظهرت فصاحته وجادت كفه وعظمت منزلته? فقال ﷺ "وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين" إن العاقل هو المتقي وإن كان في الدنيا خسيساً ذليلاً" قال ﷺ في حديث آخر "إنما العاقل من آمن بالله وصدق رسله وعمل بطاعته" ويشبه أن يكون أصل الاسم في أصل اللغة لتلك الغريزة وكذلك في الاستعمال وإنما أطلق على العلوم من حيث إنها ثمرتها كما يعرف الشيء بثمرته فيقال: العلم هو الخشية والعالم من يخشى الله تعالى. فإن الخشية ثمرة العلم فتكون كالمجاز لغير تلك الغريزة ولكن ليس الغرض البحث عن اللغة. والمقصود أن هذه الأقسام الأربعة موجودة والاسم يطلق على جميعها ولا خلاف في وجود جميعها إلا في القسم الأول، والصحيح وجودها بل هي الأصل. وهذه العلوم كأنه مضمنة في تلك الغريزة بالفطرة ولكن تظهر في الوجود إذا جرى سبب يخرجها إلى الوجود حتى كأن هذه العلوم ليست بشيء وارد عليها من خارج وكأنها كانت مستكنة فيها فظهرت، ومثاله الماء في الأرض فإنه يظهر بحفر البئر ويجتمع ويتميز بالحس لا بأن يساق إليها شيء جديد، وكذلك الدهن في اللوز، وماء الورد في الورد ولذلك قال تعالى "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" فالمراد به إقرار نفوسهم لا إقرار الألسنة فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث وجدت الألسنة والأشخاص إلى مقر وإلى جاحد ولذلك قال تعالى "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" معناه إن اعتبرت أحوالهم شهدت بذلك نفوسهم وبواطنهم "فطرة الله التي فطر الناس عليها" أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله عز وجل بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه أعني أنها كالمضمنة فيها لقرب استعدادها للإدراك. ثم لما كان الإيمان مركزاً في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى قسمين: إلى من أعرض فنسي وهم الكفار، وإلى من أجال خاطره فتذكر فكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها. ولذلك قال عز وجل "لعلهم يتذكرون - وليتذكر أولوا الألباب - واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به - ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" وتسمية هذا النمط تذكراً ليس ببعيد فكأن التذكر ضربان؛ أحدهما: أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه لكن غابت بعد الوجود. والآخر: أن يذكر صورة كانت مضمنة فيه بالفطرة. وهذه حقائق ظاهرة للناظر بنور البصيرة ثقيلة على من يستر وجه السماع والتقليد دون الكشف والعيان. ولذلك تراه يتخبط في مثل هذه الآيات ويتسعف وفي تأويل التذكر بإقرار النفوس أنواعاً من التعسفات ويتخايل إليه في الأخبار والآيات ضروب من المناقضات وربما يغلب ذلك عليه حتى ينظر إليها بعين الاستحقار ويعتقد فيها التهافت. ومثاله مثال الأعمى الذي يدخل داراً فيعثر فيها بالأواني المصفوفة في الدار فيقول: ما لهذه الأواني لا ترفع من الطريق وترد إلى مواضعها? فيقال له: إنها في مواضعها وإنما الخلل في بصرك. فكذلك خلل البصيرة يجري مجراه وأطم منه وأعظم إذ النفس كالفارس والبدن كالفرس وعمى الفارس أضر من عمى الفرس ولمشابهة بصيرة البان لبصيرة الظاهر قال الله تعالى "ما كذب الفؤاد ما رأى" وقال تعالى "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض" الآية وسمي ضده عمى فقال تعالى "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً" وهذه الأمور التي كشفت للأنبياء بعضها كان بالبصر وبعضها كان بالبصيرة وسمي الكل رؤية. وبالجملة من لم تكن بصيرته الباطنة ثاقبة لم يعلق به من الدين إلا قشوره وأمثلته دون لبابه وحقائقه. فهذه أقسام ما ينطلق اسم العقل عليها.
بيان تفاوت النفوس في العقل
عدلقد اختلف الناس في تفاوت العقل ولا معنى للاشتغال بنقل كلام من قل تحصيله بل الأولى والأهم المبادرة إلى التصريح بالحق. والحق الصريح فيه أن يقال إن التفاوت يتطرق إلى الأقسام الأربعة سوى القسم الثاني: وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. فإن من عرف أن الاثنين أكثر من الواحد عرف أيضاً استحالة كون الجسم في مكانين وكون الشيء الواحد قديماً حادثاً وكذا سائر النظائر وكل ما يدركه إدراكاً محققاً من غير شك، وأما الأقسام الثلاثة فالتفاوت يتطرق إليها، أما القسم الرابع وهو استيلاء القوة على قمع الشهوات فلا يخفى تفاوت الناس فيه بل لا يخفى تفاوت أحوال الشخص الواحد فيه، وهذا التفاوت يكون تارة لتفاوت الشهوة إذ قد يقدر العاقل ترك بعض الشهوات دون بعض ولكن غير مقصور عليه. فإن الشاب قد يعجز عن ترك الزنا وغذا كبر وتم عقله قدر عليه وشهوة الرياء والرياسة تزداد قوة بالكبر لا ضعفاً، وقد يكون سببه التفاوت في العلم المعرف لغائلة تلك الشهوةن ولهذا يقدر البيب على الاحتماء عن بعض الأطعمة المضرة وقدم من يساويه في العقل على ذلك إذا لم يكن طبيباً وإن كان يعتقد على الجملة فيه مضرة لكن إذا كان علم الطبيب أتم كان خوفه أشد فيكون الخوف جنداً للعقل وعدة له في قمع الشهوات وكسرها وكذلك يكون العالم أقدر على ترك المعاصي من الجاهل لقوة علمه بضرر المعاصي وأعني به العالم الحقيقي دون أرباب الطيالسة وأصحاب الهذيان. فإن كان التفاوت من جهة الشهوة لم يرجع إلى تفاوت العقل وإن كان من جهة العلم فقد سمينا هذا الضرب من العلم عقلاً أيضاً فإنه يقوي غريزة العقل فيكون التفاوت فيما رجعت التسمية إليه وقد يكون بمجرد التفاوت في غريزة العقل فإنها إذا قويت كان قمعها للشهوة لا محالة أشد. وأما القسم الثالث وهو علوم التجارب فتفاوت الناس فيها لا ينكر فإنهم يتفاوتون بكثرة الإصابة وسرعة الإدراك ويكون سببه إما تفاوتاً في الغريزة وإما تفاوتاً في الممارسة، فأما الأول وهو الأصل أعني الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى حجده فإنه مثل نور يشرق على النفس ويطلع صبحه ومبادي إشراقه عند سن التمييز ثم لا يزال ينمو ويزداد نمواً خفي التدريج إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة؛ ومثاله نور الصبح فإن أوائله تخفى خفاء يشق إدراكه ثم يتدرج إلى الزيادة إلى أن يكمل بطلوع قرص الشمس. وتفاوت نور البصيرة كتفاوت نور البصر والفرق مدرك بين الأعمش وبين حاد البصر بل سنة الله عز وجل جارية في جميع خلقه بالتدريج في الإيجاد حتى إن غريزة الشهوة لا تظهر في الصبي عند البلوغ دفعة وبغتة بل تظهر شيئاً فشيئاً على التدريج وكذلك جميع القوى والصفات، ومن أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة فكأنه منخلع عن ربقة العقل، ومن ظن أن عقل النبي ﷺ مثل عقل آحاد السوادية وأجلاف البوادي فهو أخس في نفسه من آحاد السوادية وكيف ينكر تفاوت الغريزة ولولاه لما اختلف الناس في فهم العلوم ولما انقسموا إلى بليد لا يفهم بالتفهيم إلا بعد تعب طويل من المعلم وإلى ذكي يفهم بأدنى رمز وإشارة وإلى كامل تنبعث من نفسه حقائق الأمور بدون التعليم? كما قال تعالى "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور" وذلك مثل الأنبياء عليهم السلام إذ يتضح لهم في بواطنهم أمور غامضة من غير تعلم وسماع ويعبر عن ذلك بالإلهام، وعن مثله عبر النبي ﷺ حيث قال "إن روح القدس نفث في روعي: أحبب من أحببت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزي به" وهذا النمط من تعريف الملائكة للأنبياء يخالف الوحي الصريح الذي هو سماع الصوت بحاسة الأذن ومشاهدة الملك بحاسة البصر ولذلك أخبر عن هذا بالنفث في الروع، ودرجات الوحي كثيرة والخوض فيها لا يليق بعلم المعاملة بل هو من علم المكاشفة. ولا تظنن أن معرفة درجات الوحي تستدعي منصب الوحي إذ لا يبعد أن يعرف الطبيب المريض درجات الصحة ويعلم العالم الفاسق درجات العدالة وإن كان خالياً عنها فالعلم شيء ووجود المعلوم شيء آخر فلا كل من عرف النبوة والولاية كان نبياً ولا ولياً ولا كل من عرف التقوى والورع ودقائقه كان تقياً. وانقسام الناس إلى من يتنبه من نفسه ويفهم وإلى من لا يفهم إلا بتنبيه وتعليم وإلى من لا ينفعه التعليم أيضاً ولا التنبيه كانقسام الأرض إلى ما يجتمع فيه الماء فيقوى فيتفجر بنفسه عيوناً وإلى ما يحتاج إلى الحفر ليخرج إلى القنوات وإلى ما لا ينفع فيه الحفر وهو اليابس وذلك لاختلاف جواهر الأرض في صفاتها فكذلك اختلاف النفوس في غريزة العقل. ويدل على تفاوت العقل من جهة النقل: ما روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه سأل النبي ﷺ في حديث طويل في آخره وصف عظم العرش وأن الملائكة قالت "يا ربنا هل خلقت شيئاً أعظم من العرش? قال: نعم: العقل، قالوا: وما بلغ من قدره? قال: هيهات لا يحاط بعلمه هل لكم علم بعدد الرمل? قالوا: لا، قال الله عز وجل: فإني خلقت العقل أصنافاً شتى كعدد الرمل فمن الناس من أعطي حبة ومنهم من أعطي حبتين ومنهم من أعطي الثلاث والأربع ومنهم من أعطي فرقاً ومنهم من أعطي وسقاً ومنهم من أعطي أكثر من ذلك" فإن قلت: فما بال أقوام المتصولة يذمون العقل والمعقول? فاعلم أن السبب فيه أن الناس نقلوا اسم العقل المعقول إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات وهو صنعة الكلام فلم يقرروا عندهم أنكم أخطأتم في التسمية إذ كان لا ينمحي عن قلوبهم بعد تداول الألسنة به ورسوخه في القلوب فذموا العقل والمعقول وهو المسمى به عندهم. فأما نور البصيرة التي بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسله فكيف يتصور ذمه وقد أثنى الله تعالى عليه وإن ذم فما الذي بعده يحمد? فإن كان المحمود هو الشرع فبم علم صحة الشرع? فإن علم بالعقل المذموم الذي لا يوثق به فيكون الشرع أيضاً مذموماً ولا يلتفت إلى من يقول: إنه يدرك بعين اليقين ونور الإيمان لا بالعقل. فإنا نريد بالعقل: ما يريده بعين اليقين ونور الإيمان، وهي الصفة الباطنة التي يتميز بها الآدمي عن البهائم حتى أدرك بها حقائق الأمور: وأكثر ههذ التخبيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ؛ فهذا القدر كاف في بيان العقل والله أعلم.
تم كتاب العلم بحمد الله تعالى ومنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء. يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب قواعد العقائد والحمد لله وحده أولاً وآخراً.