إحياء علوم الدين/كتاب ذم البخل وذم حب المال


وهو الكتاب السابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مستوجب الحمد برزقه المبسوط، وكاشف الضر بعد القنوط، الذي خلق الخلق، ووسع الرزق، وأفاض على العالمين أصناف الأموال، وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال، ورددهم فيها بين العسر واليسر، والغنى والفقر، والطمع واليأس، والثروة والإفلاس، والعجز والاستطاعة، والحرص والقناعة، والبخل والجود، والفرح بالموجود، والأسف على المفقود، والإيثار والإنفاق، والتوسع والإملاق، والتبذير والتقتير، والرضا بالقليل واستحقار الكثير، كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وينظر أيهم آثر الدنيا على الآخرة بدلاً، وابتغى عن الآخرة عدولاً وحولاً، واتخذ الدنيا ذخيرة وخولا، والصلاة على محمد الذي نسخ بملته مللاً، وطوى بشريعته أدياناً ونحلاً، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبيل ربهم ذللاً، وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد: فإن فتن الدنيا كثيرة الشعب والأطراف واسعة الأرجاء والأكناف، ولكن الأموال أعظم فتنها وأطم محنها، وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها، ثم إذا وجدت فلا سلامة منها، فإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، وإن وجد حصل منه الغطيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلى خسرا. وبالجملة فهي لا تخلو من الفوائد والآفات، وفوائدها من المنجيات، وآفاتها من المهلكات، وتمييز خيرها عن شرها من المعوصات التي لا يقوى عليها إلا ذوو البصائر في الدين من العلماء الراسخين دون المسترسمين المغترين. وشرح ذلك مهم على الانفراد، فإن ما ذكرناه في كتاب ذم الدنيا لم يكن نظراً في المال خاصة بل في الدنيا عامة؛ إذ الدنيا تتناول كل حظ عاجل، والمال بعض أجزاء الدنيا، والجاه بعضها، واتباع شهوة البطن والفرج بعضها، وتشفي الغيظ بحكم الغضب والحسد بعضها، والكبر وطلب العلو بعضها. ولها أبعاض كثيرة. ويجمعها كل ما كان للإنسان فيه حظ عاجل. ونظرنا الآن في هذا الكتاب في المال وحده، إذ فيه آفات وغوائل. وللإنسان من فقده صفة الفقر، ومن وجوده وصف الغنى. وهما حالتان يحصل بهما الاختبار والامتحان.

ثم للفاقد حالتان: القناعة والحرص، وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة. وللحريص حالتان: طمع فيما في أيدي الناس، وتشمر للحرف والصناعات مع اليأس عن الخلق، والطمع شر الحالتين.

وللواجد حالتان: إمساك بحكم البخل والشح، وإنفاق. وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة. وللمنفق حالتان: تبذير واقتصاد، والمحمود هو الاقتصاد.

وهذه أمور متشابهة وكشف الغطاء عن الغموض فيها مهم. ونحن نشرح ذلك في أربعة عشر فصلاً إن شاء الله تعالى وهو: بيان ذم المال، ثم مدحه ثم تفصيل فوائد المال وآفاته ثم ذم الحرص والطمع ثم علاج الحرص والطمع. ثم فضيلة السخاء. ثم حكايات الأسخياء، ثم ذم البخل، ثم حكايات البخلاء. ثم الإيثار وفضله. ثم حد السخاء والبخل. ثم علاج البخل. ثم مجموع الوظائف في المال. ثم ذم الغنى ومدح الفقر؛ إن شاء الله تعالى.

بيان ذم المال وكراهة حبه

قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون" وقال تعالى "إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم" فمن اختار ماله وولده على ما عند الله فقد خسر وغبن خسراناً عظيماً. وقال عز وجل "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها" الآية. وقال تعالى "إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى" فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال تعالى "ألهاكم التكاثر".

وقال رسول الله "حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال "ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفساداً فيها من حب الشرف والمال والجاه في دين الرجل المسلم وقال "هلك المكثرون إلا من قال به في عباد الله هكذا وهكذا وقليل ما هم وقيل: يا رسول الله أي أمتك شر? قال "الأغنياء وقال "سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها ويركبون فره الخيل وألوانها وينكحون أجمل النساء وألوانها ويلبسون أجمل الثياب وألوانها، لهم بطون من القليل لا تشبع وأنفس بالكثير لا تقنع، عاكفون على الدنيا يغدون ويروحون إليها، اتخذوها آلهة من دون إلههم ورباً دون ربهم، إلى أمرها ينتهون ولهواهم يتبعون، فعزيمة من محمد بن عبد الله لمن أدركه ذلك الزمان من عقب عقبكم وخلف خلفكم أن لا يسلم عليهم ولا يعود مرضاهم ولا يتبع جنائزهم ولا يوقر كبيرهم، فمن فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام وقال "دعوا الدنيا لأهلها، من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر وقال "يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت? وقال رجل: يا رسول الله مالي لا أحب الموت! فقال "هل معك من مال?" قال: نعم يا رسول الله؛ قال "قدم مالك فإن قلب المؤمن مع ماله، إن قدمه أحب أن يلحقه وإن خلفه أحب أن يتخلف معه وقال "أخلاء بن آدم ثلاثة. واحد يتبعه إلى قبض روحه، والثاني إلى قبره، والثالث إلى محشرة. فالذي يتبعه إلى قبض روحه فهو ماله، والذي يتبعه إلى قبره فهو أهله، والذي يتبعه إلى محشره فهو عمله .

وقال الحواريون لعيسى عليه السلام: مالك تمشي على الماء ولا نقدر على ذلك? فقال لهم؛ ما منزلة الدينار والدرهم عندكم? قالوا: حسنة، قال: لكنهما والمدر عندي سواء. وكتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما: يا أخي إياك أن تجمع من الدنيا مالاً تؤدي شكره، فإني سمعت رسول الله يقول "يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها وماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله امض فقد أديت حق الله في، ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها وماله بين كتفيه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله ويلك ألا أديت حق الله في فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور .

وكل ما أوردناه في كتاب الزهد والفقر في ذم الغنى ومدح الفقر يرجع جميعه إلى ذم المال، فلا نطول بتكريره، وكذا كل ما ذكرناه في ذم الدنيا فيتناول ذم المال بحكم العموم، لأن المال أعظم أركان الدنيا. وإنما نذكر الآن ما ورد في المال خاصة.

قال "إذا مات العبد قالت الملائكة ما قدم وقال الناس ما خلف وقال "لا تتخذوا الضيعة فتحبوا الدنيا .

الآثار: روي أن رجلاً نال من أبي الدرداء وأراه سوءاً فقال: اللهم من فعل بي سوءاً فأصح جسمه وأطل عمره وأكثر ماله. فانظر كيف رأى كثرة المال غاية البلاء مع صحة الجسم وطول العمر? لأنه لا بد وأن يفضي إلى الطغيان ووضع علي كرم الله وجهه درهماً على كفه ثم قال: أما إنك ما لم تخرج عني لا تنفعني. وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينت بنت جحش بعطائها فقالت: ما هذا? قالوا: أرسل إليك عمر بن الخطاب، قال: غفر الله له، ثم سلت ستراً كان لها فقطعته وجعلته صرراً وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها، ثم رفعت يديها وقالت اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا. فكانت أول نساء رسول الله لحوقاً به. وقال الحسن: والله ما أعز الدرهم أحد إلا أذله الله. وقيل: إن أول ما ضرب الدينار والدرهم رفعها إبليس ثم وضعهما على جبهته ثم قبلهما وقال. من أحبكما فهو عبدي حقاً. وقال سميط بن عجلان: إن الدراهم والدنانير أزمة المنافقين يقادون بها إلى النار. وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه، قيل: وما رقيته? قال: أخذه من حله ووضعه في حقه. وقال العلاء بن زياد: تمثلت لي الدنيا وعليها من كل زينة فقلت: أعوذ بالله من شرك فقالت: إن سرك أن يعيذك الله مني فابغض الدرهم والدينار. وذلك لأن الدرهم والدينار هما الدنيا كلها إذ يتوصل بهما إلى جميع أصنافها، فمن صبر عنهما صبر عن الدنيا وفي ذلك قيل: إني وجدت فلا تظنوا غيره أن التورع عند هذا الدرهم

فإذا قدرت عليه ثم تركتـه فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم

وفي ذلك قيل أيضاً: لا يغرنك من الـمـر قيمـص رقـعــه

أو إزار فوق عظم الس اق مـنـه رفـعـه

أو جـبـين لاح فـيه أثـر قـد خـلـعـه

أره الدرهم تـعـرف حبـه أو ورعـــه

ويروى عن مسلمة بن عبد الملك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته فقال يا أمير المؤمنين صنعت صنيعاً لم يصنعه أحد قبلك، تركت ولدك ليس له درهم ولا دينار -وكان له ثلاثة عشر من الولد- فقال عمر: أقعدوني! فأقعدوه فقال: أما قولك لم أدع لهم ديناراً ولا درهماً فإني لم أمنعهم حقاً لهم ولم أعطهم حقاً لغيرهم! وإنما ولدي أحد رجلين: إما مطيع لله فالله كافيه والله يتولى الصالحين، وإما عاص لله فلا أبالي على ما وقع. وروي أن محمد بن كعب القرظي أصاب مالاً كثيراً فقيل له: لو ادخرته لولدك من بعدك? قال: لا ولكني أدخره لنفسي عند ربي وأدخر ربي لولدي. ويروى أن رجلاً قال لأبي عبد ربه: يا أخي لا تذهب بشر وتترك أولادك بخير! فأخرج أبو عبد ربه من ماله مائة ألف درهم. وقال يحيى بن معاذ: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته، قيل: وما هما? قال: يؤخذ منه كله ويسئل عنه كله.

بيان مدح المال والجمع بينه وبين الذم

اعلم أن الله تعالى قد سمى المال خيراً في مواضع من كتابه العزيز فقل جل وعز "إن ترك خيراً" الآية وقال رسول الله "نعم المال الصالح للرجل الصالح وكل ما جاء في ثواب الصدقة والحج فهو ثناء على المال إذ لا يمكن الوصول إليهما إلا به. وقال تعالى "ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك" وقال تعالى ممتناً على عباده "ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً" وقال "كاد الفقر أن يكون كفراً وهو ثناء على المال. ولا تقف على وجه الجمع بعد الذم والمدح إلا بأن تعرف حكمة المال ومقصوده وآفاته وغوائله؛ حتى ينكشف لك أنه خير من وجه وشر من وجه، وأنه محمود من حيث هو خير ومذموم من حيث هو شر، فإنه ليس بخير محض ولا شر محض، بل هو سبب للأمرين جميعاً وما هذا وصفه فيمدح لا محالة تارة ويذم أخرى، ولكن البصير المميز يدرك أن المحمود منه غير المذموم، وبيانه بالاستمداد مما ذكرناه في كتاب الشكر من بيان الخيرات وتفصيل درجات النعم، والقدر المقنع فيه هو أن مقصد الأكياس وأرباب البصائر سعادة الآخرة التي هي النعيم الدائم والملك والمقيم. والقصد إلى هذا دأب الكرام والأكياس، إذ قيل لرسول الله : من أكرم الناس وأكيسهم? فقال "أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم له استعداداً وهذه السعادة لا تنال إلا بثلاث وسائل في الدنيا وهي الفضائل النفسية، كالعلم وحسن الخلق، والفضائل البدنية: كالصحة والسلامة، والفضائل الخارجة عن البدن: كالمال وسائر الأسباب. وأعلاها النفسية، ثم البدنية، ثم الخارجة.

فالخارجة أخسها والمال من جملة الخارجات،وأدناها الدراهم والدنانير، فإنهما خادمان ولا خادم لهما، ومرادان لغيرهما. ولا يرادان لذاتهما؛ إذ النفس هي الجوهر النفيس المطلوب سعادتها، وأنها تخدم العلم والمعرفة ومكارم الأخلاق لتحصلها صفة في ذاتها، والبدن يخدم النفس بواسطة الحواس والأعضاء، والمطاعم والملابس تخدم البدن. وقد سبق أن المقصود من المطاعم إبقاء البدن. ومن المناكح إبقاء النسل، ومن البدن تكميل النفس وتزكيتها وتزيينها بالعلم والأخلاق. ومن عرف هذا الترتيب فقد عرف قدر المال ووجه شرفه، وأنه من حيث هو ضرورة المطاعم والملابس التي هي ضرورة بقاء البدن الذي هو ضرورة كمال النفس الذي هو خير ومن عرف فائدة الشيء وغايته ومقصده واستعمله لتلك الغاية ملتفتاً إليها غير ناس لها فقد أحسن وانتفع، وكان ما حصل له الغرض محموداً في حقه، فإذا المال آلة ووسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يتخذ آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة وهي المقاصد الصادة عن سعادة الآخرة وتسد سبيل العلم والعمل. فهو إذا محمود مذموم، محمود بالإضافة إلى المقصد المحمود، ومذموم بالإضافة إلى المقصد المذموم. فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر كما ورد به الخبر.

ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله وكان المال مسهلاً لها وآلة إليها، عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية فاستعاذ الأنبياء من شره حتى قال نبينا عليه الصالة والسلام "الله اجعل قوت آل محمد كفافاً فلم يطلب من الدنيا غلا ما يتمحض خيره وقال "الله أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين واستعاذ إبراهيم فقال "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" وعنى بها هذين الحجرين الذهب والفضة، إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى عليها أن تعتقد الإلهية في شيء من هذه الحجارة، إذ قد كفى قبل النبوة مع الصغر، وإنما معنى عبادتهما حبهما والاغترار بهما والركون إليهما قال نبينا تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم تعس ولا انتعش وإذا شيك فلا انتفش فبين أن محبهما عابد لهما ومن عبد حجراً فهو عابد صنم. بل كل من كان عبداً لغير الله فهو عابد صنم، أي قطعه ذلك عن الله تعالى وعن أداء حقه فهو كعابد صنم، وهو شرك إلا أن الشرك شركان: شرك خفي لا يوجب الخلود في النار وقلما ينفك عنه المؤمنون فإنه أخفى من دبيب النمل، وشرك جلي يوجب الخلود في النار نعوذ بالله من الجميع.

بيان تفصيل آفات المال وفوائده

اعلم أن المال مثل حية فيها سم وترياق، ففوائده ترياقه، وغوائله سمومه. فمن عرف غوائله وفوائده أمكنه أن يحترز من شره ويستدر من خيره.

أما الفوائد: فهي تنقسم إلى دنيوية ودينية: أما الدنيوية فلا حاجة إلى ذكرها فإن معرفتها مشهورة مشتركة بين أصناف الخلق، ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها. وأما الدينية فتنحصر جميعها في ثلاثة أنواع.

النوع الأول أن ينفقه على نفسه إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة. أما في العبادة: فهو كالاستعانة به على الحج والجهاد فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال، وهما من أمهات القربات والفقير محروم من فضلهما. وأما فيما يقويه على العبادة: فذلك هو المطعم والملبس والمسكن والمنكح وضرورات المعيشة فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر كان القلب مصروفاً إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين، ومالا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة، فأخذ الكفاية من الدنيا لأجل الاستعانة على الدين من الفوائد الدينية. ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة عن الحاجة فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط.

النوع الثاني ما يصرفه إلى الناس، وهو أربعة أقسام: الصدقة، والمروءة، ووقاية العرض، وأجرة الاستخدام.

أما الصدقة فلا يخفى ثوابها وإنها لتطفئ غضب الرب تعالى، وقد ذكرنا فضلها فيما تقدم.

وأما المروءة فنعني بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وإعانة ما يجري مجراها، فإن هذه لا تسمى صدقة، بل الصدقة ما يسلم إلى المحتاج إلا أن هذا من الفوائد الدينية إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء وبه يكتسب صفة السخاء ويلتحق بزمرة الأسخياء. فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف ويسلك سبيل المروءة والفتوة، وهذا أيضاً مما يعظم الثواب فيه فقد وردت أخبار كثيرة في الهدايا والضيافات وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها.

وأما وقاية العرض فنعني بها بذل المال لدفع هجو الشعراء وثلب السفهاء وقطع ألسنتهم ودفع شرهم، وهو أيضاً مع تنجز فائدته في العاجلة من الحظوظ الدينية. قال رسول الله "وما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة وكيف لا وفيه منع المغتاب عن معصية الغيبة واحتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكافأة والانتقام على مجاوزة حدود الشريعة.

وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة، ولو تولاه بنفسه ضاعت أوقاته وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين، ومن لا مال له فيفتقر إلى أن يتولى بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام وطحنه وكنس البيت حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه، وكل ما يتصور أن يقوم به غيرك ويحصل به غرضك فأنت متعوب إذا اشتغلت به، إذ عليك من العلم والعمل والذكر والفكر ما ر يتصور أن يقوم به غيرك فتضييع الوقت في غيره خسران.

النوع الثالث ما لا يصرفه إلى إنسان معين ولكن يحصل به خير عام كبناء المساجد والقناطر والرباطات ودور المرضى ونصب الجباب في الطريق، وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات، وهي من الخيرات المؤبدة الدارة بعد الموت المستجلبة بركة أدعية الصالحين إلى أوقات متمادية، وناهيك بها خيراً. فهذه جملة فوائد المال في الدين سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة من الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، والوصول إلى العز والمجد بين الخلق، وكثرة الإخوان والأعوان والأصدقاء، والوقار والكرامة في القلوب، فكل ذلك مما يقتضيه المال من الحظوظ الدنيوية.

وأما الآفات فدينية ودنيوية أما الدينية فثلاث.

الأول أن تجر إلى المعاصي فإن الشهوات متفاضلة والعجز قد يحول بين المرء والمعصية، ومن العصمة أن لا يجد. ومهما كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته، فإذا استشعر القدرة عليها انبعث داعيته والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور، فإن اقتحم ما اشتهاه هلك وإن صبر وقع في شدة؛ إذ الصبر مع القدرة أشد، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.

الثانية أن يجر إلى التنعم في المباحات، وهذا أول الدرجات، فمتى يقدر صاحب المال على أن يتناول خبز الشعير ويلبس الثوب الخشن ويترك لذائذ الأطعمة كما كا يقدر عليه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في ملكه فأحسن أحواله أن لا يتنعم بالدنيا ويمرن عليها نفسه، فيصير التنعم مألوفاً عنده ومحبوباً لا يصبر عنه، ويجره البعض منه إلى البعض، فإذا اشتد أنسه به ربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال فيقتحم الشبهات ويخوض في المراءاة والمداهنة والكذب والنفاق وسائر الأخلاق الرديئة، لينتظم له أمر دنياه ويتيسر له تنعمه، فإن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس، ومن احتاج إلى الناس فلا بد وأن ينافقهم ويعصي الله في طلب رضاهم، فإن سلم الإنسان من الآفة الأولى وهي مباشرة الحظوظ فلا يسلم عن هذه أصلاً. ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة، وينشأ عنه الحسد والحقد والرياء والكبر والكذب والنميمة والغيبة وسائر المعاصي التي تخص القلب واللسان، ولا يخلو عن التعدي أيضاً إلى سائر الجوارح. وكل ذلك يلزم من شؤم المال والحاجة إلى حفظه وإصلاحه.

الثالثة وهي التي لا ينفك عنها أحد وهو أنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله تعالى، وكل ما شغل العبد عن الله فهو خسران، ولذلك قال عيسى عليه الصلاة والسلام: في المال ثلاث آفات، أن يأخذه من غير حله، فقيل: إن أخذه من حله? فقال: يضعه في غير حقه، فقيل: إن وضعه في حقه? فقال: يشغله إصلاحه عن الله تعالى. وهذا هو الداء العضال. فإن أصل العبادات ومخها وسرها ذكر الله والتفكر في جلاله، وذلك يستدعي قلباً فارغاً وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته، وفي خصومة الشركاء ومنازعتهم في الماء والحدود، وخصومة أعوان السلطان في الخراج، وخصومة الأجراء على التقصير في العمارة، وخصومة الفلاحين في خيانتهم وسرقتهم. وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل وتضييعه للمال. وكذلك صاحب المواشي. وهكذا سائر أصناف الأموال. وأبعدها عن كثرة الشغل: النقد المكنوز تحت الأرض، ولا يزال الفكر متردداً فيما يصرف إليه وفي كيفية حفظه وفي الخوف مما يعثر عليه وفي دفع أطماع الناس عنه. وأودية أفكار الدنيا لا نهاية لها، والذي معه قوت يومه في سلامة من جميع ذلك. فهذه جملة الآفات الدنيوية سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن والغم والهم والتعب في دفع الحساد وتجشم المصاعب في حفظ المال وكسبه، فإذن ترياق المال أخذ القوت منه وصرف الباقي إلى الخيرات وما عدا ذلك سموم وآفات. نسأل الله تعالى السلامة وحسن العون بلطفه وكرمه إنه على ذلك قدير.

بيان ذم الحرص والطمع

ومدح القناعة واليأس مما في أيدي الناس

اعلم أن الفقر محمود -كما أوردناه في كتاب الفقر- ولكن ينبغي أن يكون الفقير قانعاً منقطع الطمع عن الخلق غير ملتفت إلى ما في أيديهم ولا حريصاً على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس والمسكن، ويقتصر على أقله قدراً وأخسه نوعاً، ويرد أمله إلى يومه أو إلى شهره، ولا يشغل قلبه بما بعد شهر. فإن تشوق إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة وتدنس لا محالة بالطمع وذل الحرص، وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات، وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع وقلة القناعة. قال رسول الله "لو كان لبن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وعن أبي واقد الليثي قال: كان رسول الله إذا أوحىإليه أتيناه بعلمنا مما أوحى إليه، فجئته ذات يوم فقال "إن الله عز وجل يقول: إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون له ثان ولو كان له الثاني لأحب أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وقال أبو موسى الأشعري: نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها: إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب . وقال "منهومان لا يشعبان منهوم العلم ومنهوم المال وقال "يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الأمل وحب المال" أو كما يقال .

ولما كانت هذه جبلة للآدمي مضلة وغريزة مهلكه أثنى الله تعالى ورسوله على القناعة فقال "طوبى لمن هدى للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به وقال "ما من أحد فقير ولا غني إلا ود يوم القيامة أن كان أوتى قوتاً في الدنيا وقال "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ونهى عن شدة الحرص والمبالغة في الطلب فقال "أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة وروى أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى فقال: أي عبادك أغنى? قال: أقنعهم مما أعطيته، قال: فأيهم أعدل? قال: من أنصف من نفسه. وقال ابن مسعود: قال رسول الله "إن روح القدس نفث في روعى إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب وقال أبو هريرة: قال لي رسول الله "يا أبا هريرة إذا اشتد بك الجوع فعليك برغيف وكوز من ماء وعلى الدنيا الدمار" وقال أبو هريرة رضي الله عنه. قال رسول الله "كن ورعاً، تكن أعبد الناس وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً ونهى رسول الله عن الطمع فيما رواه أبو أبو أيوب الأنصاري: أن أعرابياً أتى النبي فقال" يا رسول الله عظني وأوجز فقال "إذا صليت فصل صلاة مودع ولا تحدثن بحديث تعتذر منه غداً، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس وقال عوف بن مالك الأشجعي: كنا عند رسول الله -تسعة أو ثمانية أو سبعة- فقال "ألا تبايعون رسول الله" قلنا: أوليس قد بايعناك يا رسول الله? ثم قال "ألا تبايعون رسول الله" فبسطنا أيدينا فبايعناه فقال قائل منا: قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك? قال "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتصلوا الخمس، وأن تسمعوا وتطيعوا" وأسر كلمة خفية "ولا تسألوا الناس شيئاً قال: فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه.

الآثار: قال عمر رضي الله عنه: إن الطمع فقر وإن اليأس غنى وإنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى? قال: قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك، وفي ذلك قيل: العيش ساعـات تـمـر وخطـب أيام تـكـر

أقنع بعيشـك تـرضـه واترك هواك تعيش حر

فلرب حتـف سـاقـه ذهـب وياقـوت ودر

وكان محمد بن واسع يبل الخبز بالماء ويأكل ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد. وقال سفيان: خير دنياكم ما لم تبتلوا به وخير ما ابتليتم به ما خرج من أيديكم وقال ابن مسعود: ما من يوم إلا ومسلك ينادى؛ يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك. وقال سميط بن عجلان: إنما بطنك يا بن آدم شبر فلم يدخلك النار? وقيل لحكيم: ما مالك? قال: التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس. ويروى أن الله عز وجل قال: يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت، وإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على غيرك فأنا إليك محسن. وقال ابن مسعود: إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلباً يسيراً ولا يأتي الرجل فيقول: إنك وإنك فيقطع ظهره، فإنما يأتيه ما قسم له من الرزق أو ما رزق. وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم -يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه- فكتب إليه: قد رفعت حوائجي إلى موالاي فما أعطاني منها قبلت وما أمسك عني قنعت. وقيل لبعض الحكماء: أي شيء أسر للعاقل وإيما شيء أعون على دفع الحزن? فقال: أسرها إليه ما قدم من صالح العمل، وأعونها له على دفع الحزن الرضا بمحتوم القضاء وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود، وأهنأهم عيشاً القنوع، وأصبرهم على الأذى الحريص إذ طمع، وأخفضهم عيشاً أرفضهم للدنيا، وأعظمهم ندامة العالم المفرط. وفي ذلك قيل: آرفه ببال فتى أمسى على ثقة أن الذي قسم الأرزاق يرزقه

فالعرض منه مصون لا يدنسه والوجه منه جديد ليس يخلقه

إن القناعة من يحلل بساحتهـا لم يلق في دهره شيئاً يؤرقه

وقد قيل أيضاً: حتى متى أنـا فـي حـل وتـرحـال وطـول سـعـي وإدبـار إقـبــال

ونازح الدار لا أنـفـك مـغـتـربـاً عن الأحـبة لا يدرون مـا حـالــي

بمشرق الأرض طوراً ثم مغـربـهـا لا يخطر الموت من حرصي على بالي

ولو قنعت أتانـي الـرزق فـي دعـه إن القنوع الغنى لا كـثـرة الـمـال

وقال عمر رضي الله عنه: ألا أخبركم بما أستحل من مال الله تعالى: حلتان لشتائي وقيظي، وما يسعني من الظهر لحجي وعمرتي، وقوتي بعد ذلك كقوت رجل من قريش لست بأرفعهم ولا بأوضعهم، فوالله ما أدري أيحل ذلك أم لا? كأنه شك في أن هذا القدر هل هو زيادة على الكفاية التي تجب القناعة بها? وعاتب أعرابي أخاه على الحرس فقال يا أخي أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته وتطلب أنت ما قد كفيته، وكأن ما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه، كأنك يا أخي لم تر حريصاً محروماً وزاهداً مرزوقاً. وفي ذلك قيل: أراك يزيدك الإثراء حرصاً على الدنيا كأنك لا تمـوت

فهل لك غاية إن صرت يوماً إليها قلت حسبي قد رضيت

وقال الشعبي: حكي أن رجلاً صاد قنبرة فقالت: ما تريد أن تصنع بي? قال: أذبحك وآكلك، قالت: والله ما أشفى من قرم ولا أشبع من جوع ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي: أما واحدة: فأعلمك وأنا في يدك، وأما الثانية: فإذا صرت على الشجرة، وأما الثالثة: فإذا صرت على الجبل، قال: هات الأولى، قالت: لا تلهفن على ما فاتك، فخلاها فلما صارت على الشجرة قال: هات الثانية: لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون، ثم طارت فصارت على الجبل فقالت: يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين زنة كل درة عشرون مثقالاً، قال: فعض على شفته وتلهف وقال: هات الثالثة: قالت: أنت قد نسيت اثنتين فكيف أخبرك الثالثة? ألم أقل لك لا تلهفن على ما فاتك ولا تصدقن بما لا يكون أن يكون، أنا لحمي ودمي وريش لا يكون عشرين مثقالاً فكيف يكون في حوصلتي درتان كل واحدة عشرون مثقالاً? ثم طارت فذهبت. وهذا مثال لفرط طمع الآدمي فإنه يعميه عن درك الحق حتى يقدر ما لا يكون أنه يكون. وقال ابن السماك: إن الرجاء حبل في قلبك وقيد في رجلك فأخرج الرجاء من قلبك يخرج القيد من رجلك. وقال أبو محمد اليزيدي: دخلت على الرشيد فوجدته ينظر في ورقة مكتوب فيها بالذهب، فلما رآني ابتسم، فقلت: فائدة أصلح الله أمير المؤمنين? قال: نعم وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما وقد أضفت إليهما ثالثاً. وأنشدني:

إذا سد باب عنك من دون حاجة فدعه لأخرى ينفتح لك بابـهـا

فإن قراب البطن يكفيك ملـؤه ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها

ولا تك مبذالاً لعرضك واجتنب ركوب المعاصي يجتنبك عقابها

وقال عبد الله بن سلام لكعب: ما يذهب العلوم من قلوب العلماء إذ وعوها وعقلوها? قال: الطمع وشره النفس وطلب الحوائج. وقال رجل للفضيل: فسر لي قول كعب، قال: يطمع الرجل في الشيء يطلبه فيذهب عليه دينه، وأما الشره فشره النفس في هذا حتى لا تحب أن يفوتها شيء، ويكون لك إلى هذا حاجة وإلى هذا حاجة فإذا قضاها لك خرم أنفك وقادك حيث شاء واستمكن منك وخضعت له. فمن حبك للدنيا سلمت عليه إذا مررت به وعدته إذا مرض؛ لم تسلم عليه لله عز وجل ولم تعده لله، فلو لم يكن لك إليه حاجة كان خيراً لك. ثم قال: هذا خير لك من مائة حديث عن فلان عن فلان. قال بعض الحكماء: من عجيب أمر الإنسان أنه لو نودي بدوام البقاء في أيام الدنيا لم يكن في قوى خلقته من الحرص على الجمع أكثر مما قد استعمله مع قصر مدة التمتع وتوقع الزوال. وقال عبد الواحد بن زيد: مررت براهب فقلت له: من أين تأكل? قال: من بيدر اللطيف الخبير، الذي خلق الرحا يأتيها بالطحين -وأومأ بيده إلى رحل أضراسه- فسبحان القدير الخبير.

بيان علاج الحرص والطمع

والدواء الذي يكتسب به صفة القناعة

اعلم أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان: الصبر والعلم والعمل، ومجموع ذلك خمسة أمور: الأول: وهو العمل؛ الاقتصاد في المعيشة والرفق في الإنفاق، فمن أراد عز القناعة فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخروج ما أمكنه ويرد نفسه إلا ما لا بد له منه، فمن كثر خرجه واتسع إنفاقه لم تمكنه القناعة، بل إن كان وحده فينبغي أن يقنع بثوب واحد خشن، ويقنع بأي طعام كان؛ ويقلل من الإدم ما أمكنه، ويوطن نفسه عليه وإن كان له عيال فيرد كل واحد إلى هذا القدر؛ فإن هذا القدر يتيسر بأدنى جهد. ويمكن معه الإجمال في الطلب والاقتصاد في المعيشة وهو الأصل في القناعة؛ ونعني به الرفق في الإنفاق وترك الخرق فيه، قال رسول الله "إن الله يحب الرفق الأمر كله" وقال "ما عال من اقتصد وقال "ثلاث منجيات؛ خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب وروي أن رجلاً أبصر أبا الدرداء يلتقط حباً من الأرض وهو يقول: إن من فقهك رفقك في معيشتك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي "الاقتصاد وحسن السمت والهدى الصالح جزء من بضع وعشرين جزءاً من النبوة .

وفي الخبر "التدبير نصف المعيشة وقال "من اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن ذكر الله عز وجل أحبه الله وقال "إذا أردت أمراً فعليك بالتؤدة حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً والتؤدة في الإنفاق من أهم الأمور.

الثاني: أنه إذا تيسر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل، والتحقق بأن الرزق الذي قدر له لا بد وأن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، فإن شدة الحرص ليست هي السبب لوصول الأرزاق، بل ينبغي أن يكون واثقاً بوعد الله تعالى إذ قال عز وجل "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" وذلك لأن الشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء ويقول: إن لم تحرص على الجمع والادخار فربما تمرض وربما تعجز وتحتاج إلى احتمال الذل في السؤال، فلا يزال طول العمر يتعبه في الطلب خوفاً من الفقر، ويضحك عليه في احتماله التعب نقداً مع الغفلة عن الله لتوهم تعب في ثاني الحال وربما لا يكون وفي مثله قيل: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل: الفقـر

وقد دخلا ابنا خالد على رسول الله فقال لهما، "لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله تعالى ومر رسول الله بابن مسعود وهو حزين فقال له "لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك وقال "ألا أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة ولا ينفك الإنسان عن الحرص إلا بحسن ثقته بتدبير الله تعالى في تقدير أرزاق العباد، وأن ذلك يحصل لا محالة مع الإجمال في الطلب، بل ينبغي أن يعلم أن رزق الله للعبد من حيث لا يحتسب أكثر قال الله تعالى "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب" فإذا انسد عليه الباب كان ينتظر الرزق منه فلا ينبغي أن يضطرب قلبه لأجله، وقال "أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب وقال سفيان: اتق الله فما رأيت تقياً محتاجاً. أي لا يترك التقى فاقداً لضرورته، بل يلقى الله في قلوب المسلمين أن يوصلوا إليه رزقه. وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي من أين معاشك? قال نذر الحاج، قلت: فإذا صدروا، فبكى وقال: لو لم نعش إلا من حيث ندري لم نعش. وقال أبو حازم رضي الله عنه: وجدت الدنيا شيئين: شيئاً منهما هو لي، فيما أعجله قبل وقته ولو طلبته بقوة السماوات والأرض. وشيئاً منهما هو لغيري فلذلك لم أنله فيما مضى فلا أرجوه فيما بقى، يمنع الذي لغيري مني كما يمنع الذي لي من غيري، ففي أي هذين أفني عمري? فهذا دواء من جهة المعرفة لا بد منه لدفع تخويف الشيطان. وإنذاره بالفقر.

الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء وما في الحرص والطمع من الذل، فإذا تحقق عنده ذلك انبعث رغبته إلى القناعة لأنه في الحرص لا يخلو من تعب، وفي الطمع لا يخلو من ذل. وليس في القناعة إلا ألم الصبر عن الشهوات والفضول. وهذا ألم لا يطلع عليه أحد إلا الله وفيه ثواب الآخرة. وذلك مما يضاف إليه نظر الناس وفيه الوبال والمأثم. ثم يفوته عز النفس والقدرة على متابعة الحق فإن من كثر طمعه وحرصه كثرت حاجته إلى الناس فلا يمكنه دعوتهم إلى الحق ويلزمه المداهنة، وذلك يهلك دينه ومن لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل ناقص الإيمان، قال "عز المؤمن استغناؤه عن الناس ففي القناعة الحرية والعز. ولذلك قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره.

الرابع: أن يكثر تأمله في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى من الأكراد والأعراب الأجلاف ومن لا دين لهم ولا عقل. ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء وإلى سمت الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة والتابعين ويستمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم. ويخير عقله بين أن يكون على مشابهة أراذل الناس أو على الاقتداء بمن هو أعز أصناف الخلق عند الله، حتى يهون عليه بذلك الصبر على الضنك والقناعة باليسير، فإنه إن تنعم في البطن فالحمار أكثر أكلاً منه وإن تنعم في الوقاع فالخنزير أعلى رتبة منه، وإن تزين في الملبس والحلي ففي اليهود من هو أعلى رتبة منه، وإن قنع بالقليل ورضي به لم يساهمه في رتبته إلا الأنبياء والأولياء.

الخامس: أن يفهم ما في جمع المال من الخطر -كما ذكرنا في آفات المال- وما فيه من خوف السرقة والنهب والضياع؛ وما في خلو اليد من الأمن والفراغ، ويتأمل ما ذكرناه في آفات المال مع ما يفوته من المدافعة عن باب الجنة إلى خمسمائة عام، فإنه إذا لم يقنع مما يكفيه ألحق بزمرة الأغنياء وأخرج من جريدة الفقراء. ويتم ذلك بأن ينظر أبداً إلى من دونه في الدنيا لا إلى من فوقه، فإن الشيطان أبداً يصرف نظره في الدنيا إلى من فوقه فيقول: لم تفتر عن الطلب وأرباب الأموال يتنعمون في المطاعم والملابس? ويصرف نظره في الدين إلى من دونه فيقول: ولم تضيق على نفسك وتخاف الله وفلان أعلم منك وهو لا يخاف الله? والناس كلهم مشغولون بالتنعم فلم تريد أن تتميز عنهم? قال أبو ذر: أوصاني خليلي صلوات الله عليه أن أنظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي أي في الدنيا. وقال أبو هريرة: قال رسول الله "إذا نظر أحدكم إلى من فضله الله عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه فبهذه الأمور يقدر على اكتساب خلق القناعة. وعماد الأمر الصبر وقصر الأمل، وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل للتمتع دهراً طويلاً، فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لشدة طعمه في انتظار الشفاء.

بيان فضيلة السخاء

اعلم أن المال إن كان مفقوداً فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص، وإن كان موجوداً فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء واصطناع المعروف والتباعد عن الشح والبخل، فإن السخاء من أخلاق الأنبياء عليهم السلام وهو أصل من أصول النجاة. وعنه عبر النبي حيث قال "السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية إلى الأرض فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة وقال جابر. قال رسول الله "قال جبريل عليه السلام. قال الله تعالى إن هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما استطعتما وفي رواية "فأكرموه بهما ما صحبتموه" وعن عائشة الصديقية رضي الله عنها قال. قال رسول الله "ما جبل الله تعالى ولياً له إلا على حسن الخلق والسخاء وعن جابر قال. قيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل? قال "الصبر والسماحة وقال عبد الله بن عمرو. قال رسول الله "خلقان يحبهما الله عز وجل وخلقان يبغضهما الله عز وجل، فأما اللذان يحبهما الله تعالى فحسن الخلق والسخاء، وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل، وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله في قضاء حوائج الناس وروى المقدام بن شريح عن أبيه عن جده قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال "إن موجبات المغفرة بذل الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام وقال أبو هريرة: قال رسول الله "السخاء شجرة في الجنة فمن كان سخياً أخذ بغصن منها فلم يتركه ذلك الغصن حتى يدخله الجنة وقال أبو سعيد الخدري. قال النبي "يقول الله تعالى أطلبوا الفضل من الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي وعن ابن عباس قال. قال رسول الله "تجافوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيده كلما عثر وقال ابن مسعود قال "الرزق إلى مطعم الطعام أسرع من السكين إلى ذروة البعير وإن الله تعالى لباهى بمطعم الطعام الملائكة عليهم السلام وقال "إن الله جواد يحب الجود ويحب مكارم الأخلاق ويكرف سفسافها وقال أنس. إن رسول الله لم يسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، وأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، فرجع قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة وقال ابن عمر: قال صلى الله عليهوآله وسلم "إن لله عباداً يخصهم بالنعم لمنافع العباد، فمن يخل بتلك المنافع على العباد نقلها الله تعالى عنه وحولها إلى غيره وعن الهلالي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسرى من بني العنبر فأمر بقتلهم وأفرد منهم رجلاً، فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يا رسول الله الرب واحد والدين واحد والذنب واحد فما بال هذا من بينهم? فقال صلى الله عليه وآله وسلم "نزل علي جبريل فقال "اقتل هؤلاء واترك هذا فإن الله تعالى شكر له سخاء فيه وقال صلى الله عليه وآله وسلم "إن لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح وعن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله "طعام الجواد دواء وطعام البخيل داء وقال "من عظمن نعمة الله عنده عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل تلك المؤنة عرض تلك النعمة للزوال. وقال عيسى عليه السلام: استكثروا من شيء لا تأكله النار، وقيل: وما هو? قال: المعروف. وقالت عائشة رضي الله عنها. قال رسول الله "الجنة دار الأسخياء وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد عن النار، وإن البخيل بعيد من الله من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، وجاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل، وأدوأ الداء البخل وقال "اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس بأهله، فإن أصبت أهله فقد أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله وقال صلى الله تعالى عليه وسلم "إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بصلاة ولا صيام ولكن دخلوها بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للمسلمين وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله "إن الله عز

وجل جعل للمعروف وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه كما يسر الغيث إلى البلدة الجدية فيحييها ويحيي به أهلها وقال "كل معروق صدقة وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو له صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها وقال "كل معروف فعلته إلى غني أو فقير صدقة وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام لا تقتل السامري فإنه سخي وقال جابر: بعث رسول الله بعثاً عليهم قيس بن سعد بن عبادة فجهدوا فنحر لهم قيس تسع ركائب فحدثوا رسول الله بذلك فقال "إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت . الآثار: قال علي كرم الله وجهه: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عليك فأنفق منها فإنها لا تبقى وأنشد: لا تبخلن بدنيا وهي مـقـبـلة فليس ينقصها التبذير والسرف

وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

وسأل معاوية الحسن بن علي رضي الله عنهم عن المروءة والنجدة والكرم فقال: أما المروءة فحفظ الرجل دينه وحذره نفسه وحسن قيامه بضيفه وحسن المنازعة والأقدام في الكراهية. وأما النجد فالذب عن الجار والصبر في المواطن وأما الكرم فالتبرع بالمعروف قبل السؤال والإطعام في المحل والرأفة بالسائل مع بذل النائل. ورفع رجل إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما رقعة فقال حاجتك مقضية فقيل له يا ابن رسول الله لو نظرت في رقعته ثم رددت الجواب على قدر ذلك فقال يسألني الله عز وجل عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأ رقعته. وقال ابن السماك عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه. وسئل بعض الأعراب من سيدكم فقال من احتمل شتمنا وأعطى سائلنا وأغضى عن جاهلنا وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما من وصف ببذل ماله لطلابه لم يكن سخياً وإنما السخي من يبتدئ بحقوق الله تعالى في أهل طاعته ولا تنازعه نفسه إلى حب الشكر له إذا كان يقينه بثواب الله تعالى تاماً. وقيل للحسن البصري ما السخاء? فقال أن تجود بمالك في الله عز وجل. قيل فما الحزم? قال أن تمنع مالك فيه قيل فما الإسراف? قال الإنفاق لحب الرياسة. وقال جعفر الصادق رحمة الله عليه لا مال أعون من العقل ولا مصيبة أعظم من الجهل ولا مظاهرة كالمشاورة ألا وإن الله عز وجل يقول: إني جواد كريم لا يجاورني لئيم واللؤم من الكفر وأهل الكفر في النار والجود والكرم من الإيمان وأهل الإيمان في الجنة. وقال حذيفة رضي الله عنه رب فاجر في دينه أخرق في معيشته يدخل الجنة بسماحته. وروي أن الأحنف بن قيس رأى رجلاً في يده درهم فقال لمن هذا الدرهم فقال لي فقال أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك وفي معناه قيل: أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك

وسمي واصل بن عطاء: الغزال، لأنه كان يجلس إلى الغزلين؛ فإذا رأى امرأة ضعيفة أعطاها شيئاً. وقال الأصمعي كتب الحسن بن علي إلى الحسين بن علي رضوان الله عليهم يعتب عليه في إعطاء الشعراء فكتب إليه خير المال ما وقي به العرض. وقيل لسفيان بن عيينة ما السخاء? قال السخاء البر بالإخوان والجود بالمال. قال وورث أبي خمسين ألف درهم فبعث بها صرراً إلى إخوانه. وقال قد كنت أسأل الله تعالى لإخواني الجنة في صلاتي أفأبخل عليهم بالمال? وقال الحسن بذل المجهود في بذل الموجود منتهى الجود. وقيل لبعض الحكماء من أحب الناس إليك? قال: من كثرت أياديه عندي، قيل: فإن لم يكن، قال من كثرت أيادي عنده. وقال عبد العزيز بن مروان إذا الرجل أمكنني من نفسه حتى أضع معروف عنده فيده عندي مثل يدي عنده. وقال المهدي لشبيب بن شبة كيف رأيت الناس في داري? فقال يا أمير المؤمنين إن الرجل منهم ليدخل راجياً ويخرج راضياً وتمثل متمثل عند عبد الله بن جعفر فقال: إن الصنيعة لا تكون صـنـيعة حتى يصاب بها طريق المصنع

فإذا اصطنعت صنيعة فاعمد بها لله أو لـذوي الـقـرابة أو دع

فقال عبد الله بن جعفر إن هذين البيتين ليبخلان الناس، ولكن أمطر المعروف مطراً، فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً وإن أصاب اللئام كنت له أهلاً.

حكايات الأسخياء

عن محمد بن المنكدر عن أم درة -وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها- قالت إن معاوية بعث إليها بمال في غرارتين ثمانين ومائة ألف درهم، فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس، فلما أمست قالت يا جارية هلم فطوري فجاءتها بخبز وزيت فقالت لها أم درة. ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه? فقالت: لو كنت ذكرتيني لفعلت.

وعن أبان بن عثمان قال أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عباس فأتى وجوه قريش فقال يقول لكم عبيد الله تغدوا عندي اليوم، فأتوه حتى ملئوا عليه الدار، فقال ما هذا? فأخبر الخبر، فأمر عبيد الله بشراء فاكهة، وأمر قوماً فطبخوا وخبزوا، وقدمت الفاكهة إليهم فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد فأكلوا حتى صدروا، فقال عبيد الله لوكلائه أو موجود لنا هذا كل يوم? قالوا: نعم، قال فليتغد عندنا هؤلاء في كل يوم.

وقال مصعب بن الزبير حج معاوية فلما انصرف مر بالمدينة، فقال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه، فلما خرج معاوية، قال الحسن إن علينا ديناً فلا بد لنا من إتيانه فركب في أثره ولحقه فسلم عليه وأخبره بدينه، فمروا عليه ببخي عليه ثمانون ألف دينار وقد أعيا وتخلف عن الإبل وقوم يسوقونه، فقال معاوية ما هذا? فذكر له، فقال اصرفوه بما عليه إلى أبي محمد.

وعن واقد بن محمد الواقدي قال حدثن يأبي أنه رفع رقعة إلى المأمون يذكر فيها كثرة الدين وقلة صبره عليه، فوقع المأمون على ظهر رقعته إنك رجل اجتمع فيك خصلتان، السخاء والحياء، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي يمنعك عن تبليغنا ما أنت عليه، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم فإن كنت قد أصبت فازدد في بسط يدك، وإن لم أكن قد أصبت فجنايتك على نفسك. وأنت حدثتني وكنت على قضاء الرشيد؛ عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس: أن النبي قال للزبير بن العوام "يا زبير اعلم أن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش يبعث الله عز وجل إلى كل عبد بقدر نفقته، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له وأنت أعلم قال الواقدي: فوالله لمذاكرة المأمون إياي بالحديث أحب إلى من الجائزة وهي مائة ألف درهم.

وسأل رجل الحسن بن علي رضي الله عنهما حاجة فقال له: يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لدي ومعرفتي بما بحب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله تعالى قليل، وما في ملكي وفاه لشكرك، فإن قبلت الميسور ورفعت عني مؤنة الاحتمال والاهتمام لما أتكلفه من واجب حقك فعلت، فقال: يا ابن رسول الله أقبل وأشكر العطية، وأعذر علي المنع، فدعا الحسن بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال: هات الفضل من الثلثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفاً قال: فما فعلت بالخمسمائة دينار? قال: هي عندي، قال أحضرها، فأحضرها فدفع الدنانير والدراهم إلى الرجل وقال: هات من يحملها لك، فأتاه بحمالين فدفع إليه الحسن رداءه لكراء الحملين، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم! فقال: أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم.

واجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس وهو عامل بالبصرة فقالوا: لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله، وقد زوج بنته من ابن أخيه وهو فقير وليس عنده ما يجهزها به، فقام عبد الله بن عباس فأخذ بأيديهم وأدخلها داره وفتح صندوقاً فأخرت من ست بدر فقال: احملوا، فحملوا فقال: ابن عباس ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن قيامه وصيامه، ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها فليس للدنيا من القدر ما يشغل مؤمناً عن عبادة ربه، وما بنا من الكبر ما لا نخدم أولياء الله تعالى ففعل وفعلوا.

وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر وعبد الحميد بن سعد أميرهم فقال: والله لأعلمن الشيطان أني عدوه؛ فعال محاويجهم إلى أن رخصت الأسعار، ثم عزل عنهم فرحل وللتجار عليه ألف ألف درهم، فرهنهم بها حلي نسائه وقيمتها خمسمائة ألف ألف، فلما تعذر عليه ارتجاعها كتب إليهم ببيعها ودفع الفاضل منها عن حقوقهم إلى من لم تنله صلاته.

وكان أبو طاهر بن كثير شيعياً فقال له رجل. بحق عليبن أبي طالب لما وهب لي نخلتك بموضع كذا وكذا، فقال: قد فعلت، وحقه لأعطينك ما يليها، وكان ذلك أضعاف ما طلب الرجل.

وكان أبو مرثد أحد الكرماء فمدحه بعض الشعراء فقال للشاعر: والله ما عندي ما أعطيك ولكن قدمني إلى القاضي وادع علي بعشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها ثم احبسني، فإن أهلي لا يتركوني محبوساً، ففعل ذلك فلم يمس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم وأخرج أبو مرثد من الحبس.

وكان معن بن زائدة عاملاً على العراقين بالبصرة فحضر بابه شاعر فأقام مدة وأراد الدخول على معن فلم يتهيأ له فقال يوماً لبعض خدام معن: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، فلما دخل الأمير البستان أعلمه، فكتب الشاعر بيتاً على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان وكان معن على رأس المال فلما بصر بالخشبة أخذها وقرأها فإذا مكتوب عليها: أيا جود معن ناج معنا بحاجتي فما لي إلى معن سواك شفيع

فقال: من صاحب هذه? فدعي بالرجل، فقال له: كيف قلت? فقال له، فأمر له بعشر بدر، فأخذها ووضع الأمير الخشية تحت بساطه، فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط وقرأها ودعا بالرجل فدفع إليه مائة ألف درهم، فلما أخذها الرجل تفكر وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه فخرج، فلما كان في اليوم الثالث قرأ ما فيها ودعا بالرجل فطلب فلم يوجد فقال معن: حق علي أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي ولا دينار.

وقال أبو الحسن المدائني: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجاً ففاتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا، فمروا بعجوز في خباء لها فقالوا: هل من شراب? فقالت نعم، فأناخوا إليها وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك ثم قالوا لها: هل من طعام? قالت: لا، إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهيئ لكم ما تأكلون، فقام إليها أحدهم وذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا وأقاموا حتى أبردوا فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا فإنا صانعون بك خيراً ثم ارتحلوا وأقبل زوجها فأخبرته بخبر القوم والشاة فغضب الرجل وقال: ويلك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم، ثم تقولين نفر من قريش? قال: ثم بعد مدة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة، فدخلاها وجعلا ينقلان البعر إليها ويبيعانه ويتعيشان بثمه، فمرت العجوز ببعض سكك المدينة، فإذا الحسن بن علي جالس على باب داره فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث غلامه فدعا بالعجوز وقال لها: يا أمة الله أتعرفيني? قالت: لا، قال: أنا ضيفك يوم كذا ويوم كذا، فقالت العجوز: بأبي أنت وأمي أنت هو? قال: نعم. ثم أمر الحسن فاشتروا لها من شياه الصدقة ألف شاة، وأمر لها معها بألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى الحسين فقال لها الحسين: بكم وصلك أخي? قالت: بألف شاة وألف دينار، فأمر لها الحسين أيضاً بمثل ذلك ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر، فقال لها بكم وصلك الحسن والحسين? قالت: بألفي شاة وألفي دينار، فأمر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار، وقال لها: لو بدأت بي لأتعبتهما، فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف شاة وأربعة آلاف دينار.

وخرج عبد الله بن عامر بن كريز من المسجد يريد منزله وهو وحده، فقام إليه غلام من ثقيف فمشى إلى جانبه فقال له عبد الله: ألك حاجة يا غلام? قال: صلاحك وفلاحك رأيتك تمشي وحدك فقلت أقيك بنفسي وأعوذ بالله إن طار بجنابك مكروه، فأخذ عبد الله بيده ومشى معه إلى منزله، ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام وقال: استنفق هذه فنعم ما أدبك أهلك.

وحكي أن قوماً من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم للزيارة، فنزلوا عند قبره وباتوا عنده وقد كانوا جاءوا من سفر بعيد؛ فرأى رجل منهم في النوم صاحب القبر وهو يقول له: هل لك أن تبادل بعيرك بنجيبي? وكان السخي الميت قد خلف نجيباً معروفاً به، ولهذا الرجل بعير سمين، فقال له في النوم: نعم، فباعه في النوم بعيره بنجيبه، فملا وقع بينهما العقد عمد هذا الرجل إلى بعيره فنحره في النوم، فانتبه الرجل من نومه فإذا الدم يثج من نحر بعيره، فقام الرجل فنحره وقسم لحمه فطبخوه وقضوا حاجتهم منه ثم رحلوا وساروا، فلما كان اليوم الثاني وهم في الطريق استقبلهم ركب، فقال رجل منهم: من فلان بن فلان منكم? -باسم ذلك الرجل- فقال: أنا، فقال له هل بعث من فلان بن فلان شيئاً? وذكر الميت صاحب القبر، قال: نعم بعث بعيري بنجيبه في النوم، فقال: خذ هذا نجيبه، ثم قال: هو أبي وقد رأيته في النوم وهو يقول: إن كنت ابني فادفع نجيبي إلى فلان بن فلان وسماه.

وقدم رجل من قريش من السفر فمر برجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضر به المرض، فقال: يا هذا أعنا على الدهر فقال الرجل لغلامه: ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه، فصب الغلام في حجر الأعرابي أربعة آلاف درهم، فذهب لينهض فلم يقدر من الضعف، فبكى فقال له الرجل ما يبكيك لعلك استقللت ما أعطيناك? قال: لا، ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني.

واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد فقال لأهله: ما لهؤلاء? قالوا يبكون لدارهم، فقال يا غلام ائتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً.

وقيل بعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس رحمه الله بخمسمائة دينار، فبلغ ذلك الليث بن سعد فأنفذ إليه ألف دينار، فغضب هارون وقال أعطيته خمسمائة وتعطيه ألفاً وأنت من رعيتي? فقال يا أمير المؤمنين إن لي من غلتي كل يوم ألف دينار؛ فاستحييت أن أعطى مثل أقل من دخل يوم. وحكي أنه لم تجب عليه الزكاة مع أن دخله كل يوم ألف دينار. وحكي أن امرأة سألت الليث بن سعد رحمة الله عليه شيئاً من عسل، فأمر لها بزق من عسل، فقيل له إنها كانت تقنع بدون هذا? فقال: إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر النعمة علينا. وكان الليث ابن سعد لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلثمائة وستين مسكيناً.

وقال الأعمش: اشتكت شاة عندي فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشي ويسألني هل استوفت علفها? وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها? وكان تحت لبد أجلس عليه فإذا خرج قال: خذ ما تحت اللبد، حتى وصل إلي في علة الشاة أكثر من ثلثمائة دينار من بره حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ.

وقال عبد الملك بن مروان لأسماء بن خارجة: بلغني عنك خصال فحدثني لها، فقال: هي من غيري أحسن منها مني، فقال: عزمت عليك إلا حدثتني بها? فقال: يا أمير المؤمنين ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط، ولا صنعت طعاماً قد فدعوت عليه قوماً إلا كانوا أمن علي مني عليهم، ولا نصب لي رجل وجهه قط يسألني شيئاً فاستكثرت شيئاً أعطيته إياه.

ودخل سعيد بن خالد على سليمان بن عبد الملك وكان سعيد رجلاً جواداً فإذا لم يجد شيئاً كتب لمن سأله صكاً على نفسه حتى يخرج عطاؤه، فلما نظر إليه سليمان تمثل بهذا البيت فقال: إني سمعت مع الصباح منـاديا يا من يعين على الفتى المعوان

ثم قال: ما حاجتك? قال: ديني، قال: وكم هو? قال: ثلاثون ألف درهم، قال: لك دينك ومثله.

وقيل مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل لهم: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزي الله ما لا يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً فنادى من كان عليه لقيس بن سعد حق فهو منه بريء، قال: فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من زاره وعاده.

وعن أبي إسحاق قال: صليت العصر في مسجد الأشعث بالكوفة أطلب غريماً لي، فلما صليت وضع بين يدي حلة ونعلان، فقلت: لست أهل هذا المسجد، فقالوا: إن الأشعث بن قيس الكندي قدم البارحة من مكة فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعلين.

وقال الشيخ أبو سعد الحركوشي النيسابوري رحمه الله: سمعت محمد بن محمد الحافظ يقول، سمعت الشافعي المجاور بمكة يقول: كان بمصر رجل عرف بأن يجمع للفقراء شيئاً، فولد لبعضهم مولود قال: فجئت إليه وقلت له: ولد لي مولود وليس معي شيء فقام معي ودخل على جماعة فلم يفتح بشيء، فجاء إلى قبر رجل وجلس عنده وقال: رحمك الله كنت تفعل وتصنع وإني درت اليوم على جماعة فكلفتهم دفع شيء لمولود فلم يتفق لي شيء، قال: ثم قام وأخرج ديناراً وقسمه نصفين وناولني نصفه، وقال: هذا دين عليك إلى أن يفتح الله عليك بشيء، قال: فأخذته وانصرفت فأصلحت ما اتفق لي به قال: فرأى ذلك المحتسب تلك الليلة ذلك الشخص في منامه فقال: سمعت جميع ما قلت وليس لنا إذن في الجواب، ولكن أحضر منزلي وقل لأولادي يحفروا مكان الكانون يخرجوا قرابة فيها خمسمائة دينار فاحملها إلى هذا الرجل فلما كان من الغد تقدم إلى منزل الميت وقص عليهم القصة فقالوا له: اجلس وحفروا الموضع وأخرجوا الدنانير وجاءوا بها فوضعوها بين يديه، فقال: هذا مالكم وليس لرؤياي حكم، فقالوا: هو يتسخى ميتاً ولا نتسخى نحن أحياء? فلما ألحوا عليه حمل الدنانير إلى رجل صاحب المولود وذكر له القصة، قال: فأخذ منها ديناراً فكسره نصفين فأعطاه النصف الذي أقرضه وحمل النصف الآخر، وقال: يكفيني هذا وتصدق به على الفقراء، فقال أبو سعيد: فلا أدري أي هؤلاء أسخى?

وروي أن الشافعي رحمه الله لما مرض مرض موته بمصر قال: مروا فلاناً يغسلني، فلما توفي بلغه خبر وفاته فحضر وقال: ائتوني بتذكرته، فأتي بها فنظر فيها فإذا على الشافعي سبعون ألف درهم دين، فكتبها على نفسه وقضاها عنه، وقال هذا غسلي إياه؛ أي أراد به هذا. وقال أبو سعيد الواعظ الحركوشي لما قدمت مصر طلبت منزل ذلك الرجل فدلوني عليه، فرأيت جماعة من أحفاده وزرتهم فرأيت فيهم سيما الخير وآثار الفضل فقلت بلغ أثره في الخير إليهم وظهرت بركته فيهم مستدلاً بقوله تعالى "وكان أبوهما صالحاً" وقال الشافعي رحمه الله لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان لشيء بلغني عنه أنه كان ذات يوم راكباً حماره فحركه فانقطع زره، فمر على خياط فأراد أن ينزل إليه ليسوي زره فقال الله والله لا نزلت فقام الخياط إليه فسوى زره فأخرج إليه صرة فيها عشرة دنانير فسلمها إلى الخياط واعتذر إليه من قلتها، وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه: يا لهف قلب على مال أجـود بـه على المقلين من أهل المـروءات

إن اعتذاري إلى من جاء يسألـنـي ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات

وعن الربيع بن سليمان قال أخذ رجل بركاب الشافعي رحمه الله فقال يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعتذر إليه عني وقال الربيع سمعت الحميدي يقول قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة ونثرها على ثوب، ثم أقبل على كل من دخل عليه يقبض له قبضة ويعطيه حتى صلى الظهر ونفض الثوب وليس عنده شيء. وعن أبي ثور قال أراد الشافعي الخروج إلى مكة ومعه مال، وكان قلما يمسك شيئاً من سماحته، فقلت له ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة تكون لك ولولدك، قال فخرج ثم قدم علينا فسألته عن ذلك المال، فقال ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها بمعرفتي بأصلها وقد وقفف أكثرها، ولكني بنيت بمنى مضرباً يكون لأصحابنا إلى حجوا أن ينزلوا فيه. وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه يقول: أرى نفسي تتوق إلى أمور يقصر دون مبلغهن مالي

فنفسي لا تطاوعني ببخـل ومالي لا يبلغني فعالـي

وقال محمد بن عباد المهبلي: دخل أبي على المأمون فوصله بمائة ألف درهم فلما قام من عنده تصدق بها فأخبر بذلك المأمون، فلما عاد إليه عاتبه المأمون في ذلك فقال: يا أمير المؤمنين منع الموجود سوء ظن بالمعبود، فوصله بمائة ألف أخرى.

وقام رجل إلى سعيد بن العاص فسأله فأمر له بمائة ألف درهم فبكى، فقال له سعيد: ما يبكيك! قال: أبكي على الأرض أن تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى.

ودخل أبو تمام على إبراهيم بن شكلة بأبيات امتدحه بها فوجده عليلاً فقبل منه المدحة وأمر حاجبه بنيله ما يصلحه، وقال: عسى أن أقوم من رضي فأكافئه، فأقام شهرين فوحشه طول المقام فكتب إليه يقول: إن حـرامـاً قـبـول مـدحــتـــنـــا وتـرك مـا نـرتـجـي مـن الـصـفـد

كما الدراهم والدنانير في البيع حرام إلا يدا بيد

فلما وصل البيتان إلى إبراهيم قال لحاجبه. كم أقام بالباب? قال: شهرين، قال: أعطه ثلاثين ألفاً وجئني بدواة، فكتب إليه: أعجبتنا فأتاك عاجل برنـا قلا ولو أمهلتنا لم نقـلـل

فخذ القلي وكن كأنك لم تقل ونقول ونحن كأننا لم نفعل

وروي أنه كان لعثمان على طلحة رضي الله عنهما خمسون ألف درهم، فخرج عثمان يوماً إلى المسجد فقال له طلحة. قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك. وقالت سعدى بنت عوف: دخلت على طلحة فرأيت منه ثقلاً فقلت له مالك? فقال اجتمع عندي مال وقد غمني، فقلت وما يغمك ادع قومك? فقال يا غلام علي بقومي، فقسمه فيهم فسألت الخادم كم كان? قال: أربعمائة ألف. وجاء أعرابي إلى طلحة فسأله وتقرب إليه برحم فقال: إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلثمائة ألف فإن شئت فاقبضها، وإن شئت فعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن، فقال: الثمن، فباعها من عثمان ودفع إليه الثمن.

وقيل بكى علي كرم الله وجهه يوماً فقيل: ما يبكيك? فقال: لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام، أخاف أن يكون الله قد أهانيي.

وأتى رجل صديقاً له فدفق عليه الباب فقال، ما جاء بك? قال علي أربعمائة درهم دين، فوزن أربعمائة درهم وأخرجها إليه وعاد يبكي، فقالت امرأته لم أعطيته إذ شق عليك? فقال إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتيحي. فرحم الله من هذه صفاتهم وغر لهم أجمعين.

بيان ذم البخل

قال الله تعالى "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وقال تعالى "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة" وقال تعالى "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله" وقال "إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم وقال "إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم وقال "لا يدخل الجنة بخيل ولا خب ولا خائن لا سيئ الملكة وفي رواية "ولا جبار" وفي رواية "ولا منان" وقال "ثلاث مهلكات؛ شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وقال "إن الله يبغض ثلاثة: الشيخ الزاني، والبخيل المنان، والمعيل المختال وقال "مثل المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق شيئاً إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا قلصت ولزمت كل حلقه مكانه حتى أخذت بتراقيه فهو يوسعها ولا تتسع وقال "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق وقال "اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى ارذل العمر وقال "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحشين، وإياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم الشح أمرهم بالكذب فكذبوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وقال "شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع وقتل شهيد على عهد رسول الله فبكته باكية فقالت: واشهيداه! فقال "وما يدريك أنه شهيد فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يبخل بما لا ينقصه وقال جبير بن مطعم: بينا نحن نسير مع رسول الله ومعه الناس مقفلة من خيبر إذا علقت برسول الله الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف فقال "أعطوني ردائي فوالذي نفسي بيده لو كان لي عدد هذه العصاة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً وقال عمر رضي الله عنه: قسم رسول الله قسماً فقلت غير هؤلاء كان أحق به منهم? فقال "إنهم يخيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل وقال أبو سعيد الخدري: دخل رجلان على رسول الله فسألاه ثمن بعير فأعطاهما دينارين؛ فخرجا من عنده فلقيهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأثنيا وقالا معروفاً وشكراً ما صنع بهما، فدخل عمر على رسول الله فأخبره بما قالا. فقال "لكن فلان أعطيته ما بين عشرة إلى مائة ولم يقل ذلك إن أحدكم ليسألني فينطلق في مسألته متأبطها وهي نار؛ فقال عمر فلم تعطهم ما هو نار؛ فقال "يأبون إلا أن يسألون ويأبى الله لي البخل وعن ابن عباس قال: قال رسول الله "الجود من جود الله تعالى فجودوا يجد الله لكم ألا إن الله عز وجل خلق الجود فجعله في صورة رجل وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة طوبى، وشد أغصانها بأغصان سدرة المنتهى، ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا، فمن تعلق بغضن منه أدخله الجنة، ألا إن السخاء من الإيمان، والإيمان في الجنة. وخلق البخل من مقته وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة الزقوم ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا فمن تعلق بغصن منها أدخله النار، ألا إن البخل من الكفر والكفر في النار وقال "السخاء شجرة تنبت في الجنة فلا يلج الجنة إلا سخي، والبخل شجرة تنبت في النار فلا يلج النار إلا بخيل وقال أبو هريرة: قال رسول الله لوفد بني لحيان "من سيدكم يا بني لحيان?" قالوا: سيدنا جد بن قيس إلا أنه رجل فيه بخل، فقال "وأي داء أدوأ من البخل ولكن سيدكم عمرو بن الجموح وفي رواية أنهم قالوا: سيدنا جد بن قيس، فقال "بما تسودونه?" قالوا: إنه أكثر مالاً وأنا على ذلك لنرى منه البخل، فقال عليه

السلام "وأي داء أدوأ من البخل ليس ذلك سيدكم" قالوا" فمن سيدنا يا رسول الله? قال "سيدكم بشر بن البراء" وقال علي رضي الله عنه: قال رسول الله "إن الله يبغض البخيل في حياته السخي عند موته وقال أبو هريرة: قال رسول الله السخي الجهول أحب إلى الله من العابد البخيل وقال أيضاً: قال "الشح والإيمان لا يجتمعان في قلب عبد وقال أيضاً "خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق وقال "لا ينبغي لمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً وقال "يقول قائلكم الشحيح أعذر من الظالم وأي ظلم أظلم عند الله من الشح، حلف الله تعالى بعزته وعظمته وجلاله لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل .

وروي أن رسول الله : كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: بحرمة هذا البيت إلا غفرت لي ذنبي فقال "وما ذنبك صفه لي?" فقال: هو أعظم من أن أصفه لك! فقال "ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون?" فقال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال: "فذنبك أعظم أم الجبال?" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم البحار?" قال" بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم السموات?" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم العرش?" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم الله?" قال: بل الله أعظم وأعلى، قال "ويحك فصف لي ذنبك" قال: يا رسول الله إني رجل ذو ثروة من المال وإن السائل ليأتيني يسألني فكأنما يستقبلني بشعلة من نار، فقال "إليك عني لا تحرقني بنارك فو الذي بعثني بالهداية والكرامة لو قمت بين الركن والمقام ثم صلت ألفي ألف عام ثم بكيت حتى تجري من دموعك الأنهار وتسقى بها الأشجار ثم مت وأنت لئيم لأكبك الله في النار، ويحك! أما علمت أن البخل كفر وأن الكفر في النار، ويحك! أما علم أن الله تعالى يقول "ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه... ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" .

الآثار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما خلق الله جنة عدن قال لها تزيني فتزينت، ثم قال لها: أظهري أنهارك فأظهرت عين السلسبيل وعين الكافور وعين التنسيم فتفجر منها في الجنان أنهار الخمر وأنها العسل واللبن ثم قال لها أظهري سررك وحجالك وكراسيك وحليك وحللك وحور عينك فأظهرت فنظر إليها فقال تكلمى فقالت طوبى لمن دخلني فقال الله تعالى وعزتي لا أسكنك بخيلاً. وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: أف للبخيل لو كان البخل قميصاً ما لبسته ولو كان طريقاً ما سلكته. وقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: إنا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاً لكننا نتبصر. وقال محمد بن المنكدر: كان يقال إذا أراد الله بقوم شراً أمر الله عليهم شرارهم وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم. وقال علي كرم الله وجهه في خطبته: إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما فيده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى "ولا تنسوا الفضل بينكم" وقال عبد الله بن عمرو: الشح أشد من البخل لأن الشحيح هو الذي يشح على ما في يد غيره حتى يأخذه ويحش بما في يده فيحبسه، والبخيل هو الذي يبخل بما في يده. وقال الشعبي لا أدري أيهما أبعد غوراً في نار جهنم البخل أو الكذب? وقيل ورد على أنوشروان حكيم الهند وفيلسوف الروم فقال للهندي: تكلم، فقال: خير الناس من ألفى سخياً وعند الغضب وقوراً وفي القول متأنياً وفي الرفعة متواضعاً وعلى كل ذي رحم مشفقاً. وقام الرومي فقال: من كان بخيلاً ورث عدوه ماله ومن قل شكره لم ينل النجح وأهل الكذب مذمومون وأهل النميمة يموتون فقراء ومن لم يرحم سلط عليه من لا يرحمه. وقال الضحاك في قوله تعالى "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً" قال: البخل، أمسك الله تعالى أيديهم عن النفقة في سبيل الله فهم لا يبصرون الهدى. وقال كعب: ما من صباح إلى وقد وكل به ملكان يناديان اللهم عجل لممسك تلفاً وعجل لمنفق خلفاً. وقال الأصمعي سمعت أعرابياً وقد وصف رجلاً فقال لقد صغر فلان في عيني لعظم الدنيا في عينه، وكأنما يرى السائل ملك الموت إذا أتاه. وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أرى أن أعدل بخيلاً لأن البخل يحمله على الاستقصاء فيأخذ فوق حقه خيفة من أن يغبن، فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة. وقال علي كرم الله وجهه والله ما استقصى كريم قط حقه. قال الله تعالى "عرف بعضه وأعرض عن بعض" وقال الجاحظ ما بقي من اللذات إلا ثلث ذم البخلاء، وأكل القديد، وحك الجرب. وقال بشر بن الحارث البخيل لا غيبة له قال النبي "إنك إذاً لبخيل" ومدحت امرأة عند رسول الله فقالوا صوامة قوامة إلا أنها فيها بخلاً قال "فما خيرها إذاً وقال بشر النظر إلى البخيل يقسي القلب ولقاء البخلاء كرب على قلوب المؤمنين. وقال يحيى بن معاذ ما في القلب للأسخياء إلا حب ولو كانوا فجاراً، وللبخلاء إلا بعض ولو كانوا أبراراً. وقال ابن المغتر: أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه، ولقي يحيى بن زكريا عليهما السلام. إبليس في صورته فقال له: يا إبليس أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك قال: أحب الناس إلي المؤمن البخيل، وأبغض الناس إلي الفاسق السخي، قال له: لم? قال: لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله، ثم ولى وهو يقول لولا أنك يحيى لما أخبرتك.

حكايات البخلاء

قيل كان بالبصرة رجل موسر بخيل، فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة بببيض فأكل منه فأكثر وجعل يشرب الماء فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت، فجعل يتلوى فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب فقال: لا بأس عليك، تقيأ ما أكلت، فقال: هاه! أتقيأ طباهجة ببيض!? الموت ولا ذلك. وقيل: أقبل أعرابي يطلب رجلاً، وبين يديه تين فغطى التين بكسائه، فجلس الأعرابي فقال له الرجل: هل تحسن من القرآن شيئاً? قال: نعم، فقرأ "...والزيتور وطور سينين" فقال: وأين التين? قال: هو تحت كسائك. ودعا بعضهم أخاً له ولم يطعمه شيئاً، فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه وأخذه مثل الجنون، فأخذ صاحب البيت العود وقال له: بحياتي أي صوت تشتهي أن أسمعك? قال: صوت المقلى. ويحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل، فسئل نسيب له كان يعرفه عنه فقال له قائل: صف لي مائدته فقال: هي فتر في فتر، وصحافه منقورة من حب الخشخاش، قيل فمن يحضرها? قال: الكرام الكاتبون! قال: فما يأكل معه أحد? قال: بلى الذباب، فقال: سوأتك بدت وأنت خاص به وثوبك مخرق، قال أنا والله ما أقدر على إبرة أخطيه بها، ولو ملك محمد بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوءاً إبراً، ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يطلبون منه إبرة ويسألونه إعارتهم إياها ليخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر ما فعل ويقال كان مروان بن أبي حفصة لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم غليه فإذا قرم غليه أرسل غلامه فاشترى له رأساً فأكله فقيل له. نراك لا تأكل إلا الرؤوس في الصيف والشتاء فلم تختار ذلك? قال نعم الرأس أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا يستطيع أن يغبنني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه، إن مس عيناً أو أذناً أو خداً وقفت على ذلك، وآكل منه ألواناً، عينه لوناً، وأذنه لوناً، ولسانه لوناً، وغلصمته لوناً، ودماغه لوناً، وأكفي مؤونة طبخه؛ فقد اجتمعت لي فيه مرافق. وخرج يوماً يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن رجعت بالجائزة? فقال: إن أعطيت مائة ألف أعطيتك درهماً! فأعطي ستين ألفاً فأعطاها أربعة دوانق. واشترى مرة لحماً بدرهم فدعاه صديق له فرد اللحم إلى القصاب بنقصان دانق! وقال: أكره الإسراف. وكان للأعمش جار وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول: لو دخلت فأكلت كسرة وملحاً! فيأبى عليه الأعمش فعرض عليه ذات يوم فوافق جوع الأعمش فقال: سر بنا، فدخل منزله فقرب إليه كسرة وملحاً، فجاء سائل فقال له رب المنزل: بورك فيك، فأعاد عليه المسألة فقال له بورك فيك، فلما سأل الثالثة قال له اذهب والله وإلا خرجت إليك بالعصا! قال فناداه الأعمش وقال اذهب ويحك! فلا والله ما رأيت أحداً أصدق مواعيد منه! هو منذ مدة يدعوني على كسرة وملح فوالله ما زادني عليهما!.

بيان الإيثار وفضله

اعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات. فأرفع درجة السخاء الإيثار، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة. وإنما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه لمحتاج أو لغير محتاج، والبذل مع الحاجة أشد. وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن؛ ولو وجدها مجاناً لأكلها. فهذا بخيل على نفسه مع الحاجة؛ وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه. فانظر ما بين الرجلين? فإن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء وليس بعد الإيثار درجة في السخاء. وقد أثنى الله على الصحابة رضي الله عنهم به فقال "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" وقال النبي "أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له وقالت عائشة رضي الله عنها ما شبع رسول الله ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا ونزل برسول الله ضيف فلم يجد عند أهله شيئاً، فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله، ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل، حتى أكل الضيف، فلما اصبح قال له رسول الله "لقد عجب الله من صنيعكم الله إلى ضيفكم" ونزلت "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فالسخاء خلق من أخلاق الله تعالى؛ والإيثار أعلى درجات السخاء. وكان ذلك من أدب رسول الله حتى سماه الله تعالى عظيماً فقال تعالى "وإنك لعلى خلق عظيم" وقلا سهل بن عبد الله التستري قال موسى عليه السلام، يا رب أرني بعض درجات محمد وأمته! فقال يا موسى إنك لن تطيق ذلك، ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي، قال فكشف له عن ملكوت السموات فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله تعالى، فقال: يا رب بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة? قال: بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار، يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمره إلا استحييت من محاسبته، وبوأته من جنتي حيث يشاء: وقيل خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيه؛ إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله، ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم? قال ما رأيت! قال فلم آثرت به هذا الكلب? قال ما هي بأرض كلاب، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت أن أشبع وهو جائع! قال فما أنت صانع اليوم? قال: أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر ألام على السخاء! إن هذا الغلام لأسخى مني، فاشترى الحائط والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه. وقال عمر رضي الله عنه: أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله رأس شاة فقال: إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث به إليه، فلم يزل واحد يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول. وبات علي كرم الله وجهه على فراش رسول الله فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل عليهما السلام: إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة? فاختارا كلاهما الحياة وأحباها؛ فأوحى الله عز وجل إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة? اهطبا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل عليه السلام يقول: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب والله تعالى يباهى بك الملائكة! فأنزل الله تعالى "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد" وعن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفساً -وكانوا في قرية بقرب الري- ولهم أرغفة معدودة لم تشبع جميعهم "فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع فإذا الطعام بحاله ولم يأكل أحد منه شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه. وروي أن شعبة جاءه سائل وليس عنده شيء؛ فنزع خشبة

من سقف بيته فأعطاه ثم اعتذر غليه: وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به فقلت: أسقيك? فأشار إلي أن نعم، فإذا رجل يقول: آه.. فأشار ابن عمي إلى أن أنطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك? فسمع به آخر فقال: آه... فأشار هشام انطق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات رحمة الله عليهم أجمعين. وقال عباس بن دهقان: ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلى بشر بن الحرث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه، واستعار ثوباً فمات فيه. وعن بعض الصوفية قال: كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة وخرجنا إلى باب الجهاد، فتبعنا كلب من البلد، فلما بلغنا ظاهر الباب إذا نحن بدابة ميتة فصعدنا إلى موضع عال وقعدنا. فلما نظر الكلب إلى الميتة رجع إلى البلد ثم عاد بعد ساعة ومعه مقدار عشرين كلباً، فجاء إلى تكل الميتة وقعد ناحية ووقعت الكلاب في الميتة، فما زالت تأكلها وذلك الكلب قاعد ينظر إليها حتى أكلت الميتة وبقي العظم ورجعت الكلاب إلى البلد، فقام ذلك الكلب وجاء إلى تلك العظام فأكل مما بقي عليها قليلاً ثم انصرف.

وقد ذكرنا جملة من أخبار الإيثار وأحوال الأولياء في كتاب الفقر والزهد فلا حاجة إلى الإعادة ههنا وبالله التوفيق وعليه التوكل فيما يرضيه عز وجل.

بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما

لعلك تقول: قد عرف بشواهد الشرع أن البخل من المهلكات، ولكن ما حد البخل وبماذا يصير الإنسان بخيلاً? وما من إنسان وهو يرى نفسه سخياً وربما يراه غيره بخيلاً، وقد يصدر فعل من إنسان فيختلف فيه الناس فيقول قوم: هذا بخل ويقول آخرون ليس هذا من البخل. وما من إنسان إلا ويجد من نفسه حباً للمال ولأجله يحفظ المال ويمسكه، فإن كان يصير بإمساك المال بخيلاً فإذا لا ينفك أحد عن البخل. وإذا كان الإمساك مطلقاً لا يوجب البخل، ولا معنى للبخل إلا الإمساك فما البخل الذي يوجب الهلاك? وما حد السخاء الذي يستحق به البعد صفة السخاوة وثوابها? فنقول: قد قال قائلون حد البخل منه الواجب، فكل من أدى مايجب عليه فليس ببخيل، وهذا غير كاف؛ فإن من يرد اللحم مثلاً إلى القصاب والخبز للخباز بنقصان حبة أو نصف حبة فإنه يعد بخيلاً بالاتفاق. وكذلك من يسلم إلى عياله القدر الذي يفرضه القاضي ثم يضايقهم في لقمة ازدادوها عليه أو تمرة أكلوها من ماله يعد بخيلاً. ومن كان بين يديه رغيف فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه عد بخيلاً. وقال قائلون البخيل هو الذي يستصعب العطية، وهو أيضاً قاصر، فإنه إن أريد به أنه يستصعب كل عطية فكم من بخيل لا يستصعب العطية القليلة كالحبة وما يقرب منها، ويستصعب ما فوق ذلك? وإن أريد به أن يستصعب بعض العطايا فما من جواد إلا وقد يستصعب بعض العطايا? وهو ما يستغرق جميع ماله أو المال العظيم. فهذا لا يوجب الحكم بالبخل. وكذلك تكلموا في الجود، فقيل الجور عطاء بلا منن وإسعاف من غير روية. وقيل: الجود عطاء من غير مسألة على رؤية التقليل. وقيل: الجود السرور بالسائل والفرح بالعطاء لما أمكن. وقيل: الجود عطاء على رؤية أن المال لله تعالى والعبد لله عز وجل فيعطى عبد الله مال الله على غير رؤية الفقر. وقيل: من أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئاً فهو صاحب جود، ومن قاسى الضر وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب إيثار، ومن لم يبذل شيئاً فهو صاحب بخل.

وجملة هذه الكلمات غير محيطة بحقيقة الجود والبخل، بل نقول: المال خلق لحكمة ومقصود وهو صلاحه لحاجات الخلق، ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إليه، ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه، ويمكن التصرف فيه بالعدل، وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ، ويبذل حيث يجب البذل. فالإمساك حيث يجب البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير. وبينهما وسط وهو المحمود وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه؛ إذ لم يؤمر رسول الله إلا بالسخاء، وقد قيل له "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" وقال تعالى "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً" فالجود وسط بين الإسراف والإقتار وبين البسط والقبض، وهو أن يقدر بذله وإمساكه بقدر الواجب، ولا يكفي أن يفعل ذلك بجوارحه ما لم يكن قلبه طيباً به غير منازع له فيه. فإن بذل في محل وجوب البذل ونفسه تنازعه وهو يصابرها فهو متسخ وليس بسخي، بل ينبغي أن لا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له وهو صرفه إلى ما يجب صرفه إليه.

فإن قلت: فقد صار هذا موقوفاً على معرفة الواجب فما الذي يجب بذله? فأقول: إن الواجب قسمان: واجب بالشرع، وواجب بالمروءة والعادة. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة، فإن منع واحداً منهما فهو بخيل، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع عياله وأهله النفقة، أو يؤديها ولكنه يشق عليه، فإنه بخيل بالطبع، وإنما يتسخى بالتكلف، أو الذي يتيمم الخبيث من ماله ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله، أو من وسطه، فهذا كله بخل.

وأما واجب المروءة فهو ترك المضايقة والاستقصاء، فإن ذلك مستقبح، واستقباح ذلك يخلف بالأحوال والأشخاص. فمن كثر ماله استقبح منه مالا يستقبح مع العبد، ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح في المعاملة، فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة أو معاملة وبما به المضايقة من طعام أو ثوب، إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها، ويستقبح في شراء الكفن مثلاً أو شراء الأضحية أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة. وكذلك بمن معه المضايقة من صديق أو أخ أو قريب أو زوجة أو ولد أو أجنبي. وبمن منه المضايقة من صبي أو امرأة أو شيخ أو شاب أو عالم أو جاهل أو موسر أو فقير.

فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم المروءة، وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره. ولعل حد البخل هو إمساك المال عن غرض، ذلك الغرض هو أهم من حفظ المال، فإن صيانة الدين أهم من حفظ المال، فمانع الزكاة والنفقة بخيل. وصيانة المروءة أهم من حفظ المال، والمضايق في الدقائق مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحب المال فهو بخيل. ثم تبقى درجة أخرى، وهو أن يكون الرجل ممن يؤدي الواجب ويحفظ المروءة ولكن معه مال كثير قد جمعه ليس يصرفه إلى الصدقات وإلى المحتاجين، فقد تقابل غرض حفظ المال ليكون له عدة على نوائب الزمان وغرض الثواب ليكون رافعاً لدرجاته في الآخرة، وإمساك المال عن هذا الغرض بخل عند الأكياس وليس ببخل عند عوام الخلق، وذلك لأن نظر العوام مقصور على حظوظ الدنيا فيرون إمساكه لدفع نوائب الزمان مهماً، وربما يظهر عند العوام أيضاً سمة البخل عليه إن كان في جواره محتاج فمنعه وقال: قد أديت الزكاة الواجبة وليس على غيرها. ويختلف استقباح ذلك باختلاف مقداره ما له، وباختلاف شدة حاجة المحتاج وصلاح دينه واستحقاقه. فمن أدى واجب الشرع وواجب المروءة اللائقة به فقد تبرأ من البخل. نعم لا يتصف بصفة الجود والسخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك لطلب الفضيلة ونيل الدرجات، فإذا اتسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع ولا تتوجه إليه الملامة في العادة فهو جواد بقدر ما تتسع له نفسه من قليل أو كثير. ودرجات ذلك لا تحصر وبعض الناس أجود من بعض، فاصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة والمروءة هو الجود، ولكن بشرط أن يكون عن طيب نفس ولا يكون طمع ورجاء خدمة أو مكافأة أو شكر أو ثناء فإن من طمع في الشكر والثناء فهو بياع وليس بجواد، فإنه يشتري المدح بماله والمدح لذيذ وهو مقصود في نفسه، والجود هو بذل الشيء من غير عوض. هذا هو الحقيقة ولا يتصور ذلك إلا من الله تعالى، أما الآدمي فاسم الجود عليه مجاز إذ لا يبذل الشيء إلا لغرض، ولكنه إذا لم يكن غرضه إلا الثواب في الآخرة أو اكتساب فضيلة الجود وتطهير النفس عن رذالة البخل فيسمى جواداً، فإن كان الباعث عليه الخوف من الهجاء مثلاً أو من ملامة الخلق أو ما يتوقعه من نفع يناله من المنعم عليه فكل ذلك ليس من الجود، لأنه مضطر إليه بهذه البواعث، وهي أعواض معجلة له عليه فهو معتاض لا جواد، كما روي عن بعض المتعبدات أنها وقفت على حيان بن هلال وهو جالس مع أصحابه فقالت: هل فيكم من أسأله عن مسألة? فقالوا لها: سلي عما شئت -وأشاروا إلى حيان بن هلال- فقالت: ما السخاء عندكم? قالوا: العطاء والبذل والإيثار، قالت: هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين? قالوا: أن نعبد الله سبحانه سخية بها أنفسنا غير مكرهة، قالت: فتريدون على ذلك أجراً? قالوا: نعم، قالت ولم? قالوا لأن الله تعالى وعدنا بالحسنة عشر أمثاله، قالت سبحان الله! فإذا أعطيتم واحدة وأخذتم عشرة فبأي شيء تسخيتم عليه? قالوا لها فما السخاء عندك يرحمك الله? قالت السخاء عندي أن تعبدوا الله متنعمين متلذذين بطاعته غير كارهين ولا تريدون على ذلك أجراً حتى يكون مولاكم يفعل بكم ما يشاء! ألا تستحيون من الله أن يطلع على قلوبكم فيعلم منها أنكم تريدون شيئاً بشيء? إن هذا في الدنيا لقبيح! وقالت بعض المتعبدات أتحسبون أن السخاء في الدرهم والدينار فقط? قيل ففيم? قالت السخاء عندي في المهج. وقال المحاسبي السخاء في الدين أن تسخو بنفسك تتلفها لله عز وجل ويسخو قلبك ببذل مهجبتك وإهراق دمك لله تعالى بسماحة من غير إكراه، ولا تريد بذلك ثواباً عاجلاً ولا آجلاً، وإن كنت غير مستغن عن الثواب ولكن يغلب على ظنك حسن كمال السخاء بترك الاختيار على الله، حتى يكون مولاك هو الذي يفعل لك ما لا تحسن أن تختار لنفسك.

بيان علاج البخل

اعلم أن البخل سبب حب المال. ولحب المال سببان أحدهما حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، فإن الإنسان لو علم أنه يموت بعد يوم ربما أنه كان لا يبخل بما له، إذ القدر الذي يحتاج إليه في يوم أو في شهر أو في سنة قريب، وإن كان قصير الأمل ولكن كان له أولاد أقام الولد مقام طول الأمل،فإنه يقدر بقاءهم كبقاء نفسه فيمسك لأجلهم. ولذلك قال عليه السلام "الولد مبخلة مجبنة مجهلة فإذا انضاف إلى ذلك خوف الفقر وقلة الثقة بمجيء الرزق قوي البخل لا محالة.

السبب الثاني: أن يحب عين المال؛ فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره إذا اقتصر على ما جرت به عادته بنفقته وبتفضل آلاف وهو شيخ بلا ولد ومعه أموال كثيرة ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة ولا بمداواة نفسه عند المرض بل صار محباً للدنانير عاشقاً لها يلتذ بوجودها في يده وبقدرته عليها، فيكنزها تحت الأرض وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها أعداؤه، ومع هذا فلا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق منها بحبة واحدة، وهذا مرض للقلب، عظيم عسير العلاج لا سيما في كبر السن، وهو مرض مزمن لا يرجى علاجه. ومثال صاحبه: مثال رجل عشق شخصاً فأحب رسوله لنفسه ثم نسي محبوبه واشتغل برسوله، فإن الدنانير رسول يبلغ إلى الحاجات فصارت محبوبة لذلك، لأن الموصل إلى اللذيذ لذيذ، ثم قد تنسى الحاجات ويصير الذهب عنده كأنه محبوب في نفسه وهو غاية الضلال، بل من رأى بينه وبين الحجر فرقاً فهو جاهل إلا من حيث قضاء حاجته به، فالفاضل عن قدر حاجته والحجر بمثابة واحدة. فهذه أسباب حب المال. وإنما علاج كل علة بمضادة سببها، فتعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر، وتعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت والنظر في موت الأقران وطول تعبهم في جمع المال وضياعه بعدهم، وتعالج التفات القلب إلى الولد بأن خالقه خلق معه رزقه، وكم من ولد ولم يرث من أبيه مالاً وحاله أحسن ممن ورث? وبأن يعلم أنه يجمع المال لولده يريد أن يترك ولده بخير وينقلب هو إلى شر، وأن ولده إن كان تقياً صالحاً فالله كافيه، وإن كان فاسقاً فيستعين بماله على المعصية وترجع مظلمته إليه. ويعالج أيضاً قلبه بكثرة التأمل في الأخبار الواردة في ذم البخل ومدح السخاء وما توعد الله به على البخل من العقاب العظيم. ومن الأدوية النافعة: كثرة التأمل في أحوال البخلاء ونفرة الطبع عنهم واستقباحهم له، فإنه ما من بخيل إلا ويستقبح البخل من غيره، ويستثقل كل بخيل من أصحابه، فيعلم أنه مستثقل ومستقذر في قلوب الناس مثل سائر البخلاء في قلبه. ويعالج أيضاً قلبه بأن يتفكر في مقاصد المال، وأنه لماذا خلق? ولا يحفظ من المال إلا بقدر حاجته إليه والباقي يدخره لنفسه في الآخرة بأن يحصل له ثواب بذله. فهذه الأدوية من جهة المعرفة والعلم، فإذا عرف بنور البصيرة أن البذل خير له من الإمساك في الدنيا والآخرة هاجت رغبته في البذل إن كان عاقلاً، فإن تحركت الشهوة فينبغي أن يجيب الخاطر الأول ولا يتوقف، فإن الشيطان يعده الفقر ويخوفه ويصده عنه.

حكي أن أبا الحسن البوشنجي كان ذات يوم في الخلاء فدعا تلميذاً له وقال: انزع عني القميص وادفعه إلى فلان، فقال: هلا صبرت حتى تخرج? قال: لم آمن على نفسي أن تتغير، وكان قد لي بذله! ولا تزول صفة البخل إلا بالبذل تكلفاً كما لا يزول العشق إلا بمفارقة المعشوق بالسفر عن مستقره؛ حتى إذا سافر وفارق تكلفاً وصبر عنه مدة تسلى عنه قلبه، فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفاً بأن يبذله، بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له. ومن لطائف الحيل فيه أن يخدع نفسه بحسن الاسم والاشتهار بالسخاء، فيبذل على قصد الرياء حتى تسمح نفسه بالبذل طمعاً في حشمة الجود، فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل واكتسب بها خبث الرياء، ولكن ينعطف بعد ذلك على الرياء ويزيله بعلاجه، ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال، كما يسلي الصبي عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير وغيرها لا ليخلى واللعب، ولكن لينفك عن الثدي إليه، ثم ينقل عنه إلى غيره، فكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض كما تسلط الشهوة على الغضب وتكسر سورته بها، ويسلط الغضب على الشهوة وتكسر رعونتها به، إلا أن هذا مفيد في حق من كان البخل أغلب عليه من حب الجاه والرياء، فيبذل الأقوى بالأضعف، فإن كان الجاه محبوباً عنده كالمال فلا فائدة فيه فإن يقلع من علة ويزيد في أخرى مثلها، إلا أن علامة ذلك أن لا يثقل عليه البذل لأجل الرياء، فلذلك يتبين أن الرياء أغلب عليه، فإن كان البذل يشق عليه مع الرياء فينبغي أن يبذل فإن ذلك يدل على أن مرض البخل أغلب على قلبه.

ومثال دفع هذه الصفات بعضها ببعض ما يقال إن الميت تستحيل جميع أجزائه دوداً ثم يأكل بعض الديدان البعض، حتى يقل عددها ثم يأكل بعضها بعضاً حتى ترجع إلى اثنتين قويتين عظيمتين، ثم لا تزالان تتقاتلان إلى أن تغلب إحداهما الأخرى فتأكلها وتسمن بها، ثم لا تزال تبقى جائعة وحدها إلى أن تموت، فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعضها على بعض حتى يقمعها، ويجعل الأضعف قوتاً للأقوى إلى أن لا يبقى إلا واحدة، ثم تقع العناية بمحوها وإذابتها بالمجاهدة وهو منع القوت عنها. ومنع القوت عن الصفات أن لا يعمل بمقتضاها، فإنها تقتضي لا محالة أعمالاً، وإذا خولفت خمدت الصفات وماتت. مثل البخل فإنه يقتضي إمساك المال فإذا منع مقتضاه وبذل المال مع الجهد مرة بعد أخرى ماتت صفة البخل وصار البذل طبعاً وسقط التعب فيه، فإن علاج البخل بعلم وعمل، فالعلم يرجع إلى معرفة آفة البخل وفائدة الجود، والعمل يرجع إلى الجود والبذل على سبيل التكلف، ولكن قد يقوى البخل بحيث يعمي ويصم فيمنع تحقق المعرفة فيه، وإذا لم تتحقق المعرفة لم تتحرك الرغبة فلم يتيسر العمل فتبقى العلة مزمنة، كالمرض الذي يمنع معرفة الدواء وإمكان استعماله فإنه لا حيلة فيه إلا الصبر إلى الموت.

وكان من عادة بعض شيوخ الصوفية في معالجة علة البخل في المريدين أن يمنعهم من الاختصاص بزواياهم. وكان إذا توهم في مريد فرحه بزاويته وما فيها، نقله إلى زاوية غيرها، ونقل زاوية غيره إليه وأخرجه عن جميع ما ملكه، وإذا رآه يلتفت إلى ثوب جديد يلبسه أو سجادة يفرح بها يأمره بتسليمها إلى غيره ويلبسه ثوباً خلقاً لا يميل إليه قلبه.

فبهذا يتجافى القلب عن متاع الدنيا. فمن لم يسلك هذا السبيل أنس بالدنيا وأحبها، فإن كان له أفل متاع كل له ألف محبوب، ولذلك إذا سرق كل واحد منه ألمت به مصيبة بقدر حبه له، فإذا مات نزل به ألف مصيبة دفعة واحدة لأنه كان يحب الكل وقد سلب عنه، بل هو في حياته على خطر بالفقد والهلاك.

حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجواهر لم ير له نظير، ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً فقال لبعض الحكماء عنده. كيف ترى هذا? قال: أراه مصيبة أو فقراً، قال: كيف? قال: إن كسر كان مصيبة لا جبر لها وإن سرق صرت فقيراً إليه ولم تجد مثله، وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر، ثم اتفق يوماً أن كسر أو سرق وعظمت مصيبة الملك عليه فقال: صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا! وهذا شأن جميع أسباب الدنيا فإن الدنيا عدوة لأعداء الله تسوقهم إلى النار، وعدوة أولياء الله إذ تغمهم بالصبر عنها، وعدوة الله إذ تقطع طريقه على عباده، وعدوة نفسها فإنها تأكل نفسها، فإن المال لا يحفظ إلا بالخزائن والحراس. والخزائن والحراس لا يمكن تحصيلها إلا بالمال وهو بذل الدراهم والدنانير، فالمال يأكل نفسه ويضاد ذاته حتى يفنى، ومن عرف آفة المال لم يأنس به ولم يفرح ولم يأخذ منه إلا بقدر حاجته، ومن قنع بقدر الحاجة فلا يبخل لأن ما أمسكه لحاجته فليس ببخل، ولا يحتاج إليه، فلا يتعب نفسه بحفظه فيبذله، بل هو كالماء على شط الدجلة إذ لا يبخل به أحد لقناعة الناس منه بمقدار الحاجة.

بيان مجموع الوظائف التي على العبد في ماله

اعلم أن المال كما وصفناه خير من وجه وشر من وجه. ومثاله مثال حية يأخذها الراقي ويستخرج منها الترياق، ويأخذها الغافل فيقتله سمها من حيث لا يدري ولا يخلو أحد عن سم المال إلا بالمحافظة على خمس وظائف.

الأولى: أن يعرف مقصود المال وأنه لماذا خلق وأنه لم يحتج إليه حتى يكتسب ولا يحفظ إلا قدر الحاجة، ولا يعطيه من همته فوق ما يستحقه.

الثانية: أن يراعي جهة دخل المال فيجتنب الحرام المحض، وما الغالب عليه الحرام كمال السلطان، ويجتنب الجهات المكروهة القادحة في المروءة كالهدايا التي فيها شوائب الرشوة، وكالسؤال الذي فيه الذلة وهتك المروءة وما يجري مجراه.

الثالثة: في المقدار الذي يكتسبه فلا يستكثر منه ولا يستقل، بل القدر الواجب ومعياره الحاجة، والحاجة ملبس ومسكن ومطعم. ولكل واحد ثلاث درجات: أدنى، وأوسط، وأعلى. وما دام مائلاً إلى جانب القلة ومتقرباً من حد الضرورة كان محقاً ويجيء من جملة المحقين، وإن جاوز ذلك وقع في هاوية لا آخر لعمقها. وقد ذكرنا تفصيل هذه الدرجات في كتاب الزهد.

الرابعة: أن يراعي جهة المخرج ويقتصد في الإنفاق غير مبذر ولا مقتر كما ذكرناه، فيضع ما اكتسبه من حله في حقه ولا يضعه في غير حقه، فإن الإثم في الأخذ من غير حقه والوضع في غير حقه سواء.

الخامسة: أن يصلح نيته في الأخذ والترك والإنفاق والإمساك، فيأخذ ما يأخذ ليستعين به على العبادة، ويترك ما يترك زهداً فيه واستحقاراً له إذا فعل ذلك لم يضره وجود المال، ولذلك قال علي رضي الله عنه: لو أن رجلاً أخذ جميع ما في الأرض وأراد به وجه الله تعالى فهو زاهد، ولو أنه ترك الجميع ولم يرد به وجه الله تعالى فليس بزاهد. فلتكن جميع حركاتك وسكناتك لله مقصورة على عبادة أو ما يعين على العبادة، فإن أبعد الحركات عن العبادة الأكل وقضاء الحاجة وهما معينان على العبادة، فإذا كان ذلك قصدك بهما صار ذلك عبادة في حقك. وكذلك ينبغي أن تكون نيتك في كل ما يحفظ من قميص وإزار وفراش وآنية، لأن كل ذلك مما يحتاج إليه في الدين، وما فضل من الحاجة ينبغي أن يقصد به أن ينتفع به عبد من عباد الله ولا يمنعه منه عند حاجته، فمن فعل ذلك فهو الذي أخذ من حية المال جوهرها وترياقها واتقى سمها فلا تضره كثرة المال، ولكن لا يتأتى ذلك إلا لمن رسخ في الدين قدمه وعظم فيه علمه. والعامي إذا تشبه بالعالم في الاستكثار من المال وزعم أنه يشبه أغنياء الصحابة شابه الصبي الذي يرى المعزم الحاذق يأخذ الحية ويتصرف فيها فيخرج ترياقها فيقتدي به، ويظن أنه أخذها مستحسناً صورتها وشكلها ومستليناً جلدها، فيأخذها اقتداء به فتقتله في الحال، إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل، وقتيل المال قد لا يعرف. وقد شبهت الدنيا بالحية فقيل: هي دنيا كحية تنفث السم وإن كانت المجسة لانت

وكما يستحيل أن يتشبه الأعمى بالبصير في تخطي قلل الجبال وأطراف البحر والطرق المشوكة فمحال أن يتشبه العامي بالعالم الكامل في تناول المال.

بيان ذم الغنى ومدح الفقر

اعلم أن الناس قد اختلفوا في تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر -وقد أوردنا ذلك في كتاب الفقر والزهد وكشفنا عن تحقيق الحق فيه- ولكنا في هذا الكتب ندل على أن الفقر أفضل وأعلى من الغني على الجملة من غير التفات إلى تفصيل من الأغنياء، حيث احتج بأغنياء الصحابة وبكثرة مال عبد الرحمن بن عوف وشبه نفسه بهم والمحاسبي رحمه الله حبر الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات، وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه. وقد قال بعد كلام له في الرد على علماء السوء: بلغنا أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: يا علماء السوء تصومون وتصلون وتصدقون ولا تفعلون ما تؤمرون، وتدرسون ما لا تعملون فيا سوء ما تحكمون، تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة، بحق أقول لكم لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة؛ كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم؛ يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته? بحق أقول لكم إن قلوبكم تبكي من أعمالكم، جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم؛ بحق أقول لكم أفسدتم آخرتكم فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة؛ فأي الناس أخسر منكم لو تعلمون? ويلكم حتام تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محل المتحيرين! كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم، مهلاً مهلاً! ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم? كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة متعطلة! يا عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام؛ توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم، ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم تدفعكم من خلفكم حتى تسلمكم إلى الملك الديان عراة فرادى، فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم. ثم قال الحارث رحمه الله: إخواني فهؤلاء علماء السوء شياطين الإنس وفتنه على الناس، رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة، وأدلوا الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين، وفي الآخرة هم الخاسرون أو يعفو الكريم بفضله.

وبعد: فإني رأيت الهالك المؤثر للدنيا سروره ممزوج بالتنغيص، فيتفجر عنه أنواع الهموم وفنون المعاصي وإلى البوار والتلف مصيره، فرح الهالك برجائه فلم تبق له دنياه ولم يسلم له دينه "خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين" فيا لها من مصيبة ما أفظعها ورزية ما أجلها، ألا فراقبوا الله إخواني ولا يغرنكم الشيطان وأولياؤه من الآنسين بالحجج الداحضة عند الله، فإنهم يتكالبون على الدنيا ثم يطلبون لأنفسهم المعاذير والحجج، ويزعمون أن أصحاب رسول الله كانت لهم أموال فيتزين المغرورون بذكر الصحابة ليعذرهم الناس على جمع المال، ولقد دهاهم الشيطان وما يشعرون. ويحك أيها المفتون إن احتجاجك بمال عبد الرحمن بن عوف مكيدة من الشيطان ينطق بها على لسانك فتهلك! لأنك متى زعمت أن أخيار الصحابة أرادوا المال للتكاثر والشرف والزينة فقد اغتبت السادة ونسبتهم إلى أمر عظيم، ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد ازدريت محمداً والمرسلين? ونسبتهم إلى قلة الرغبة والزهد في هذا الخير الذي رغبت فيه أنت وأصحابك من جمع المال، ونسبتهم إلى الجهل إذ لم يجمعوا المال كما جمعت، ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى من تركه، فقد زعمت أن رسول الله لم ينصح للأمة إذ نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير للأمة? فقد غشهم بزعمك حين نهاهم عن جمع المال، كذبت ورب السماء على رسول الله ! فلقد كان للأمة ناصحاً وعليهم مشفقاً وبهم رؤوفاً. ومتى زعمت أن جمع المال أفضل فقد زعمت أن الله عز وجل لم ينظر لعباده حين نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير لهم? أو زعمت أن الله تعالى لم يعلم أن الفضل في الجمع فلذلك نهاهم عنه، وأنت عليم بما في المال من الخير والفضل لذلك رغبت في الاستكثار كأنك أعلم بموضع الخير والفضل من ربك تعالى الله عن جهلك أيها المفتون? تدبر بعقلك ما دهاك به الشيطان حين زين لك الاحتجاج بمال الصحابة! ويحك ما نفعك الاحتجاج بمال عبد الرحمن بن عوف وقد ود عبد الرحمن بن عوف في القيامة أنه لم يؤت من الدنيا إلا قوتاً? وقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال أناس من أصحاب رسول الله : إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك! فقال كعب: سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن كسب طيباً وأنفق طيباً وترك طيبا! فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضباً يريد كعباً فمر بعظم لحي بعير فأخذه بيده ثم انطق يريد كعباً، فقيل لكعب. إن أبا ذر يطلبك، فخرج هارباً حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر، وأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر، فقال له أبو ذر: هيه يا بن اليهودية! تزعم أن لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف، ولقد خرج رسول الله يوماً نحو أحد وأنا معه فقال "يا أبا ذر" فقلت: لبيك يا رسول الله فقال "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله وقدامه وخلفه وقليل ما هم" ثم قال "يا أبا ذر" قلت: نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قال "ما يسرني أن لي مثل أحد أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وأترك منه قيراطين" قلت أو قنطارين يا رسول الله? قال "بل قيراطان" ثم قال "يا أبا ذر أنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل فرسول الله يريد هذا وأنت تقول يا ابن اليهودية لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف? كذبت وكذب من قال! فلم يرد عليه خوفاً حتى خرج.

وبلغنا أن عبد الرحمن بن عوف قدمت عليه عير من اليمن فضجت المدينة ضجة واحدة فقالت عائشة رضي الله عنها: ما هذا? قيل عير قدمت لعبد الرحمن، قالت: صدق الله ورسوله ، فبلغ ذلك عبد الرحمن فسألها فقالت سمعت رسول الله يقول: "إني رأيت الجنة فرأيت فقراء المهاجرين والمسلمين يدخلون سعياً، ولم أرد أحداً من الأغنياء يدخلها معهم إلا عبد الرحمن بن عوف يدخلها معهم حبوا فقال عبد الرحمن: إن العير وما عليها في سبيل الله، وإن إرقاءها أحراراً لعلي أدخلها معهم سعياً.

وبلغنا أن النبي قال لعبد الرحمن بن عوف "أما إنك أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي وما كدت أن تدخلها إلا حبواً .

ويحك أيها المفتون، فما احتجاجك بالمال وهذا عبد الرحمن في فضله وتقواه وصنائعه المعروف وبذله الأموال في سبيل الله مع صبحته لرسول الله وبشراه بالجنة أيضاً يوقف في عرصات القيامة وأهوالها بسبب مال كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف، وأنفق منه قصداً، وأعطي في سبيل الله سمحاً، منع من السعي إلى الجنة مع الفقراء المهاجرين وصار يحبو في آثارهم حبواً? فما ظنك بأمثالها الغرقى في فتن الدنيا? وبعد: فالعجب كل العجب لك يا مفتون تمرغ في تخاليط الشبهات والسحت، وتتكالب على أوساخ الناس، وتتقلب في الشهوات والزينة والمباهاة، وتتقلب في فتن الدنيا ثم تحتج بعبد الرحمن وتزعم أنك إن جمعت المال فقد جمعه الصحابة كأنك أشبهت السلف وفعلهم? ويحك إن هذا من قياس إبليس ومن فتياه لأوليائه! وسأصف لك أحوالك وأحوال السلف لتعرف فضائحك وفضل الصحابة. ولعمري لقد كان لبعض الصحابة أموال أرادوها للتعفف والبذل في سبيل الله، فكسبوا حلالاً وأكلوا طيباً وأنفقوا قصداً، وقدموا فضلاً، ولم يمنعوا منها حقاً، ولم يبخلوا بها، لكنهم جادوا لله بأكثرها، وجاد بعضهم بجميعها، وفي الشدة آثروا الله على أنفسهم كثيراً، فبالله أكذلك أنت? والله إنك لعبيد الشبه بالقوم.

وبعد: فإن أخيار الصحابة كانوا للمسكنة محبين، ومن خوف الفقر آمنين، وبالله في أرزاقهم واثقين، وبمقادير الله مسرورين، وفي البلاء راضين، وفي الرخاء شاكرين، وفي الضراء صابرين، وفي السراء حامدين، وكانوا لله متواضعين، وعن حب العلو والتكاثر ورعين. لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم بالبلغه منها وزجوا الدنيا وصبروا على مكارهها وتجرعوا مرارتها وزهدوا في نعميها وزهرتها. فبالله أكذلك أنت? ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا وقالوا: ذنب عجلت عقوبته من الله، وإذا رأوا الفقر مقبلاً قالوا: مرحباً بشعار الصالحين. وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيباً حزيناً، وإذا لم يكن عندهم شيء أصبح فرحاً مسروراً، فقيل له: إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا، وإذا كان عندهم شيء فرحوا، وأنت لست كذلك! قال: إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت إذ كان لي برسول الله أسوة، وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت إذ لم يكن لي بآل محمد أسوة. وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا: ما لنا وللدنيا وما يراد بها فكأنهم على جناح خوف، وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا وقالوا: الآن تعاهدنا ربنا. فهذه أحوال السلف ونعتهم وفيهم من الفضل أكثر مما وصفنا. فبالله أكذلك أنت? إنك لبعيد الشبه بالقوم.

وسأصف لك أحوالك أيها المفتون ضداً لأحوالهم، وذلك أنك تطغي عند الغنى، وتبطر عند الرخاء، وتمرح عند السراء، وتغفل عن شكر ذي النعماء، وتقنط عن الضراء، وتسخط عند البلاء، ولا ترضى بالقضاء. نعم وتبغض الفقر وتأنف من المسكنة؛ وذلك فخر المرسلين وأنت تأنف من فخرهم. وأنت تدخر المال وتجمعه خوفاً من الفقر وذلك من سوء الظن بالله عز وجل وقلة اليقين بضمانه، وكفى به إثماً، وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها وشهواتها ولذاتها. ولقد بلغنا أن رسول الله قال "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم فربت عليهم أجسامهم وبلغنا أن بعض أهل العلم قال: ليجيء يوم القيامة قوم يطلبون حسنات لهم فيقال لهم "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها" وأنت في غفلة قد حرمت نعيم الآخرة بسبب نعيم الدنيا فيا لها حسرة ومصيبة! نعم وعساك تجمع المال للتكاثر والعلو والفخر والزينة في الدنيا، وقد بلغنا أنه من طلب الدنيا للتكاثر أو للتفاخر لقي الله وهو عليه غضبان، وأنت غير مكترث بما حل بك من غضب ربك حين أردت التكاثر والعلو نعم عساك المكث في الدنيا أحب إليك من النقلة إلى جوار الله، فأنت تكره لقاء الله والله للقائك أكره، وأنت في غفلة وعساك تأسف على ما فاتك من عرض الدنيا؛ وقد بلغنا أن رسول الله قال "من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة شهر. وقيل سنة." وأنت تأسف على ما فاتك غير مكترث بقربك من عذاب الله. نعم ولعلك تخرج من دينك أحياناً لتوفير دنياك وتفرح بإقبال الدنيا عليك وترتاح لذلك سروراً بها، وقد بلغنا أن رسول الله قال "من أحب الدنيا وسر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه وبلغنا أن بعض أهل العلم قال إنك تحاسب على التحزن على ما فاتك من الدنيا، وتحاسب بفرحك في الدنيا إذا قدرت عليها وأنت فرح بدنياك وقد سلبت الخوف من الله تعالى، وعساك تعنى بأمور دنياك أضعاف ما تعنى بأمور آخرتك، وعساك ترى مصيبتك في معاصيك أهون من مصيبتك في انتقاص دنياك، ونعم وخوفك من ذهاب مالك أكثر من خوفك من الذنوب، وعساك تبذل للناس ما جمعت من الأوساخ كلها للعلو والرفعة في الدنيا، وعساك ترضى المخلوقين مساخطاً لله تعالى كيما تكرم وتعظم. ويحك! فكأن احتقار الله تعالى لك في القيامة أهون عليك من احتقار الناس إياك، وعساك تخفى من المخلوقين مساويك ولا تكترث باطلاع الله عليك فيها فكأن الفضيحة عند الله أهون عليك من الفضيحة عند الناس، فكأن العبيد أعلى عندك قدراً من الله، تعالى الله عن جهلك! فكيف تنطق عند ذوي الألباب وهذه المثالب فيك? أف لك! متلوثاً بالأقذار وتحت بمال الأبرار? هيهات هيهات ما أبعدك عن السلف الأخيار، والله لقد بلغني أنهم كانوا فيما أحل لهم أزهد منكم لكبائر المعاصي، فليت صومك على مثال إفطارهم? وليت اجتهادك في العبادة مثل فتورهم ونومهم? وليت جميع حسناتك مثل واحدة من سيئاتهم، فمن لم يكن كذلك فليس معهم في الدنيا ولا معهم في الآخرة، فسبحان الله! كم بين الفريقين من التفاوت? فريق خيار الصحابة في العلو عند الله وفريق أمثالكم في السفالة، أو يعفو الله الكريم بفضله.

وبعد: فإنك إن زعمت أنك متأس بالصحابة بجمع المال للتعفف والبذل في سبيل الله فتدبر أمرك، ويحك هل تجد من الحلال في دهرك كما وجدوا في دهرهم? أو تحسب أنك محتاط في طلب الحلال كما احتاطوا، لقد بلغني أن بعض الصحابة قال: كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام، أفتطمع من نفسك في مثل هذا الاحتياط? لا ورب الكعبة ما أحسبك كذلك! ويحك! كن على يقين أن جمع المال لأعمال البر مكر من الشيطان ليوقعك بسبب البر في اكتساب الشبهات الممزوجة بالسحت والحرام، وقد بلغنا أن رسول الله قال "من اجترأ على الشبهات أوشك أن يقع في الحرام أيها المغرور، أما علمت أن خوفك من اقتحام الشبهات أعلى وأفضل وأعظم لقدرك عند الله من اكتساب الشبهات، وبذلها في سبيل الله وسبيل البر? بلغنا ذلك عن بعض أهل العلم قال: لأن تدع درهماً واحداً مخافة أن لا يكون حلالاً خير لك من أن تتصدق بألف دينار من شبهة لا تدري أيحل لك أم لا? فإن زعمت أنك أتقى وأورع من أن تتلبس بالشبهات وإنما تجمع المال بزعمك من الحلال للبذل في سبيل الله! ويحك! إن كنت كما زعمت بالغاً في الورع فلا تتعرض للحاسب، فإن خيار الصحابة خافوا المسألة، وبلغنا أن بعض الصحابة قال: ما سرني أن أكتسب كل يوم ألف دينار من حلال وأنفقها في طاعة الله ولم يشغلني الكسب عن صلاة الجمعة، قالوا: ولم ذاك رحمك الله? قال: لأني غني عن مقام يوم القيامة فيقول عبدي من أين اكتسبت وفي أي شيء أنفقت? فهؤلاء المتقون كانوا في جدة الإسلام والحلال موجود لديهم، تركوا المال وجلا من الحساب مخافة أن لا يقوم خير المال بشره، وأنت بغاية الأمن والحلال في دهرك مفقود. تتكالب على الأوساخ ثم تزعم أنك تجمع المال من حلال، ويحك! أين الحلال فتجمعه.

وبعد: فلو كان الحلال موجوداً لديك أما تخاف أن يتغبر عند الغنى قلبك، وقد بلغنا أن بعض الصحابة كان يرث المال الحلال فيتركه مخافة أن يفسد قلبه? أفتطمع أن يكون قلبك أنقى من قلوب الصحابة فلا يزول عن شيء من الخلق في أمرك وأحوالك? لئن ظننت ذلك لقد أحسنت الظن بنفسك الأمارة بالسوء، ويحك! إني لك ناصح أرى لك أن تقنع بالبلغة ولا تجمع المال لأعمال البر ولا تتعرض للحساب، فإنه بلغنا عن رسول الله أنه قال "من نوقش الحساب عذب وقال عليه السلام "يؤتى برجل يوم القيامة وقد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار، ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار، ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حلال فيقال اذهبوا به إلى النار، ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حلال فيقال له: قف لعلك قصرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها، وفرطت في شيء من ركوعها وسجودها ووضوئها فيقول: لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في حلال ولم أضيع شيئاً فرضت علي، فيقال: لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب أو ثوب باهيت به فيقول: لا يا رب لم أختل ولم أباه في شيء، فيقال: لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فيقول: لا يا رب كسبت من حلال وأنفق في حلال ولم أضيع شيئاً مما فرضت علي ولم أختل ولم أباه ولم أضيع حق أحد أمرتني أن أعطيه، قال: فيجيء أولئك فيخاصمونه فيقولون: يا رب أعطيته وأغنيته وجعلته بين أظهرنا وأمرته أن يعطينا، فإن كان أعطاهم وما ضيع من ذلك شيئاً من الفرائض ولم يختل في شيء فيقال: قف، الآن هات شكر كل نعمة أنعمتها عليك من أكلة أو شربة أو لذة فلا يزال يسئل ويحك فمن ذا الذي يتعرض لهذه المسألة التي كانت لهذا الرجل الذي تقلب في الحلال وقام بالحقوق كلها وأدى الفرائض بحدودها، حوسب هذه المحاسبة فكيف ترى يكون حال أمثالها الغرقى في فتن الدنيا وتخاليطها وشبانها وشهواتها وزينتها? ويحك لأجل هذه المسائل يخاف المتقون أن يتلبسوا بالدنيا فرضوا بالكفاف منها وعملوا بأنواع البر من كسب المال، فلك ويحك بهؤلاء الأخيار أسوة، فإن أبيت ذلك وزعمت أنك بالغ من الورع والتقوى، ولم تجمع المال إلا من حلال -بزعمك- للتعفف والبذل في سبيل الله، ولم تنفق شيئاً من الحلال إلا بحق، ولم يتغير بسبب المال قلبك عما يحب الله، ولم تسخط الله في شيء من سرائرك وعلانيتك ويحك فإن كنب كذلك، ولست كذلك، فقد ينبغي لك أن ترضى بالبلغة وتعتزل ذوي الأموال إذا وقفوا للسؤال وتسق مع الرعيل الأول في زمرة المصطفى، لا حبس عليك للمسألة والحساب، فإما سلامة وإما عطب. فإنه بلغنا أن رسول الله قال "يدخل صعاليك المهاجرين قبل أغنيائهم الجنية بخمسمائة عام وقال عليه السلام "يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيأكلون ويتمتعون والآخرون جثاة على ركبهم فيقولون قبلكم طلبتي أنتم حكام الناس وملوكهم فأروني ماذا صنعتم فيما أعطيتكم .

وبلغنا أن بعض أهل العلم قال: ما سرني أن لي حمر النعم ولا أكون في الرعيل الأول مع محمد عليه السلام وحزبه. يا قوم فاستبقوا السباق مع المخفين في زمرة المرسلين عليهم السلام، وكونوا وجلين من التخلف والانقطاع عن رسول الله وجل المتقين. لقد بلغني أن بعض الصحابة وهو أبو بكر رضي الله عنه عطش فاستسقى فأتي بشربة من ماء وعسل فلما ذاقه خنقته العبرة ثم بكى وأبكى، ثم مسح الدموع عن وجهه وذهب ليتكم فعاد في البكاء، فلما أكثر البكاء قيل له: أكل هذا من أجل هذه الشربة? قال: نعم، بينا أنا ذات يوم عند رسول الله وما معه أحد في البيت غيري، فجعل يدفع عن نفسه وهو يقول "إليك عني!" فقلت له: فداك أبي وأمي ما أرى بين يديك أحداً فمن تخاطب? فقال "هذه الدنيا تطاولت إلي بعنقها ورأسها فقالت لي: يا محمد خذني، فقلت: إليك عني، فقالت: إن تنج مني يا محمد فإنه لا ينجو مني من بعدك" فأخاف أن تكون هذه قد لحقتني تقطعني عن رسول الله يا قوم فهؤلاء الأخبار بكوا وجلا أن تقطعهم عن رسول الله شربة من حلال! ويحك أنت في أنواع من النعم والشهوات من مكاسب السحت والشبهات لا تخشى الانقطاع? أف لك ما أعظم جهلك! ويحك فإن تخلفت في القيامة عن رسول الله محمد المصطفى لتنظرن إلى أهوال جزعت منها الملائكة والأنبياء، ولئن قصرت عن السباق فليطولن عليك اللحاق، ولئن أردت الكثرة لتصيرن إلى حساب عسير، ولئن لم تقنع بالقليل لتصيرن إلى وقوف طويل وصراخ وعويل؛ ولئن رضيت بأحوال المتخلفين لتقطعن عن أصحاب اليمين وعن رسول رب العالمين ولتبطئن عن نعيم المتنعمين، ولئن خالفت أحوال المتقين لتكونن من المحتسبين في أهوال يوم الدين. فتدب رويحك ما سمعت وبعد. فإن زعمت أنك في مثال خيار السلف، قانع بالقليل، زاهد في الحلال، بذول لما لك، مؤثر على نفسك، لا تخشى الفقر ولا تدخر شيئاً لغدك، مبغض للتكاثر والغنى، راض بالفقر والبلاء، فرح بالقلة والمسكنة، مسرور بالذل والضعة، كاره للعلو والرفعة قوي في أمرك لا يتغير عن الرشد قلبك، قد حاسبت نفسك في الله، وحكمت أمورك كلها على ما وافق رضوان الله ولن توقف في المسألة، ولن يحاسب مثلك من المتقين. وإنما تجمع المال الحلال للبذل في سبيل الله، ويحك أيها المغرور فتدبر الأمر وأمعن النظر! أما علمتأن ترك الاشتغال بالمال وفراغ القلب للذكر والتذكر والتذكار والفكر والاعتبار. أسلم للدين وأيسر للحساب وأخف للمسألة وآمن من روعات القيامة وأجزل للثواب وأعلي لقدرك عند الله أضعافاً. بلغنا عن بعض الصحابة أنه قال: لو أن رجلاً في حجره دنانير يعطيها والآخر يذكر الله لكان الذاكر أفضل. وسئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر قال تركه أبر به. وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عن رجلين، أحدهما طلب الدنيا حلالاً فأصابها، فوصل بها رحمه وقدم لنفسه. وأما الآخر فإنه جانبها فلم يطلبها ولم يتناولها، فأيهما أفضل? قال: بعيد والله ما بينهما الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها. ويحك فهذا الفضل لك بترك الدنيا على من طلبها، ولك في العاجل إن تركت الاشتغال بالمال، وإن ذلك أروح لبدنك وأقل لتعبك وأنعم لعيشك وأرضى لبالك وأقل لهمومك، فما عذرك في جمع المال وأنت بترك المال أفضل ممن طلب المال لأعمال البر? نعم وشغلك بذكر الله أفضل من بذل المال في سبيل الله فاجتمع لك راحة العاجل مع السلامة والفضل في الآجل.

وبعد: فلو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى بنبيك إذ هداك الله به، وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا. ويحك! تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا، فسر مع لواء المصطفى سابقاً إلى جنة المأوى. فإنه بلغنا أن رسول الله قال "سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء، وإذا استقرض لم يجد قرضاً، وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه، ولم يقدر على أن يكتسب ما يغنيه، يمسي مع ذلك ويصبح راضياً عن ربه "فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً" ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر وللفضل تجمعه، لا! ولكنك خوفاً من الفقر تجمعه، وللنعم والزينة والتكاثر والفخر والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه، ثم تزعم إنك لأعمال البر تجمع المال: راقب الله واستحي من دعواك أيها المغرور. ويحك إن كنت مفتوناً بحب المال والدنيا فكن مقراً أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة ومجانبة الفضول، نعم وكن عن جمع المال مزرياً على نفسك معترفاً بإساءتك وجلا من الحساب، فذلك أنجى لك وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال. إخواني اعلموا أن دهر الصحابة كان الحال فيه موجوداً وكانوا مع ذلك من أورع الناس وأزهدهم في المباح لهم، ونحن في دهر الحلال فيه مفقوداً وكيف لنا من الحلال مبلغ القوت وستر العورة. فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه.

وبعد: فأين لنا بمثل تقوى الصحابة وورعهم ومثل زهدهم واحتياطهم? وأين لنا مثل ضمائرهم وحسن نياتهم? دهينا ورب السماء بأدواء النفوس وأهوائها، وعن قريب يكون الورود؛ فيا سعادة المخفين يوم النشور وحزن طويل لأهل التكاثر والتخاليط، وقد نصحت لكم إن قبلتم والقابلون فهذا قليل. وفقنا الله وإياكم فكل خير برحمته آمين. هذا آخر كلامه وفيه كفاية في إظهار فضل الفقر على الغنى ولا مزيد عليه. ويشهد لذلك جميع الأخبار التي أوردناها في كتاب ذم الدنيا، وفي كتاب الفقر والزهد.

ويشهد له أيضاً ما روي عن أبي أمامة الباهلي: أن ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، قال "يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، قال "يا ثعلبة أما لك في أسوة أما ترضى أن تكون مثل نبي الله تعالى? أما والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة لسارت" قال: والذي بعثك بالحق نبياً لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، ولأفعلن ولأفعلن، قال رسول الله "اللهم ارزق ثعلبة مالاً" فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة ويدع ما سواهما، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الجماعة إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة، وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة فيسألهم عن الأخبار في المدينة، وسأل رسول الله عنه فقال "ما فعل ثعلبة بن حاطب?" فقيل يا رسول الله اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة؛ وأخبر بأمره كله، فقال "يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة" قال وأنزل الله تعالى "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" وأنزل الله تعالى فرائض الصدقة، فبعث رسول الله رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سليم على الصدقة، وكتب لهما كتاباً بأخذ الصدقة وأمرهما أن يخرجا فيأخذا من المسلمين: وقال "مرا بثعلبة بن حاطب وبفلان -رجل من بني سليم- وخذا صدقاتهما: فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية! انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي فانطلقا نحو السليمي فسمع بهما فقام إلى خيار أسنان إبله فعز لها للصدقة، ثم استقبلهما بها؛ فلما رأوها قالوا: لا يجب عليك ذلك وما نريد نأخذ هذا منك، قال بلى خذوها، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال: أروني كتابكما، فنظر فيه فقال: هذه أخت الجزية! انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي فلما رآهما قال "يا ويح ثعلبة" قبل أن يكلماه ودعا للسليمي فأخبراه بالذي صنع ثعلبة وبالذي صنع السليمي فأنزل الله تعالى في ثعلبة "ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون" وعند رسول الله رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ما أنزل الله فيه، فخرج حتى أتى ثعلبة فقال: لا أم لك يا ثعلبة! قد أنزل الله فيك كذا، فخرج ثعلبة حتى أتي النبي فسأله أن يقبل منه صدقته فقال "إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك، فجعل يحثو على التراب على رأسه فقال رسول الله "هذا عملك أمرتك فلم تطعني" فلما أبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله، فلما قبض رسول الله جاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله، فلما قبض جاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه، وجاء بها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه، وتوفي ثعلبة بعد في خلافه عثمان فهذا طغيان المال وشؤمه وقد عرفته من هذا الحديث، ولأجل بركة الفقر وشؤم الغني آثر رسول الله الفقر لنفسه ولأهل بيته، حتى روى عن عمران بن حصين رضى الله عنه أنه قال: كانت لي من رسول الله منزلة وجاه فقال "يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاهاً فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله ?" فقلت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقام وقمت معه حتى وقفت بباب منزل فاطنة فقرع الباب وقال "السلام عليكم أأدخل? "فقالت: ادخل يا رسول الله قال أنا ومن معي?" قالت ومن معك يا رسول الله? فقال عمران بن حصين، فقالت: والذي بعثك بالحق نبياً ما علي إلا عباءة! فقال، اصنعي بها هكذا وهكذا، وأشار بيده، فقالت: هذا جسدي فقد واريته، فكيف برأسي? فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال "شدي بها على رأسك" ثم أذنت له فدخل،

فقال "السلام عليك يا بنتاه كيف أصبحت?" قالت: أصبحت والله وجعة وزادني وجعاً على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله، فقد أجهدني الجوع، فبكى رسول الله وقال "لا تجزعي يا بنتاه فوالله ما ذقت طعاماً منذ ثلاثة، وإني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي لأطعمني، ولكني آثرت الآخرة على الدنيا ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها "أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة" فقالت: فأين آسية امرأة فرعون ومريم ابنة فرعون? فقال "آسية سيدة نساء عالمها، ومريم سيد نساء عالمها، وخديجة سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك، إنكن في بيوت منن قصب لا أذى فيها ولا صخب، ثم قال لها "اقنعي بابن عمك فواالله لقد زوجتك سيداً في الدنيا سيداً في الآخرة فانظر الآن إلى حال فاطمة رضي الله عنها وهي بضعة من رسول الله كيف آثرت الفقر وتركت المال? ومن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم وما ورد من أخبارهم وآثارهم؛ لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات؛ إذ أقل ما فيه من أداء الحقوق والتوقي من الشبهات والصرف إلى الخيرات اشتغال الهم بإصلاحه وانصرافه عن ذكر الله، إذ لا ذكر إلا مع الفراغ، ولا فراغ مع شغل المال.

وقد روي عن جرير عن ليث قال: صحب رجل عيسى ابن مريم عليه السلام فقال: أكون معك وأصحابك، فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة، فأكلا رغيفين وبقي رغيف ثالث، فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: من أخذ الرغيف? فقال: لا أدري، قال: فانطلق ومعه صاحبه فرأى ظبية ومعها خشفان لها، قال: فدعا أحدهما فأتاه، فذبحه فاشتوى منه فأكل هو وذلك الرجل، ثم قال للخشف: ثم بإذن الله فقام فذهب، فقال للرجل: أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف? فقال: لا أدري، ثم انتهيا إلى وادي ماء، فأخذ عيسى بيد الرجل فمشيا على الماء، فلما جاوزوا قال له أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف? فقال لا أدري، فانتهيا إلى مفازة فجلسا، فأخذ عيسى عليه السلام يجمع تراباً وكثيباً ثم قال كن ذهباً بإذن الله تعالى، فصار ذهباً، فسمه ثلاثة أثلاث ثم قال ثلث لي وثلث لك وثلث لمن أخذ الرغيف، فقال أنا الذي أخذت الرغيف، فقال كله لك، وفارقه عيسى عليه السلام، فانتهى إليه رجلان في المفازة ومعه المال فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه، فقال هو بيننا أثلاثاً، فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري لنا طعاماً نأكله، قال فبعثوا أحدهم فقال الذي بعث لأي شيء أقاسم هؤلاء هذا المال? لكني أضع في هذا الطعام سماً فأقتلهما وآخذ المال وحدي، قال ففعل، وقال ذانك الرجلان لأي شيء نجعل لهذا ثلث المال? ولكن إذا رجع قتلناه واقتسمنا المال بيننا، قال فلما رجع إليهما قتلاه وأكلا الطعام فماتا، فبقي ذلك المال في المفازة وأولئك الثلاثة عنده قتلى، فمر بهم عيسى عليه السلام على تلك الحالة فقال لأصحابه هذه الدنيا فاحذروها.

وحكي أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس بأيديهم شيء مما يستمتع به الناس من دنياهم قد احتفروا قبرواً، فإذا أصبحوا تعهدوا تلك القبور وكنسوها وصلوا عندها ورعوا البقل كما ترعى البهائم، وقد قيض لهم في ذلك معايش من نبات الأرض، وأرسل ذو القرنين إلى ملكهم فقال له أجب ذو القرنين، فقال ما لي إليه حاجة، فإن كان له حاجة فليأتني! فقال ذو القرنين صدق فأقبل إليه ذو القرنين وقال له أرسلت إليك لتأتيني فأبيت، فها أنا قد جئت، فقال لو كان لي إليك حاجة لأتيتك، فقال له ذو القرنين ما لي أراكم على حالة لم أر أحداً من الأمم عليها? قال وما ذاك? قال ليس لكم دنيا ولا شيء أفلا اتخذتم الذهب والفضة فاستمتعتم بهما? قالوا إنما كرهناهما لأن أحداً لم يعط منهما شيئاً إلا تاقت نفسه ودعته إلى ما هو أفضل منه. فقال ما بالكم قد احتقرتم قبوراً فإذا أصبحتم تعاهدتموها فكنستموها وصليتم عندها? قالوا أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل. قال وأراكم لا طعام لكم إلا البقل من الأرض. أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها وركبتموها فاستمتعتم بها? قالوا كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً لها ورأينا في نبات الأرض بلاغاً وإنما يكفي ابن أدنى العيش من الطعام وأيما ما جاوز الحنك من الطعام لم نجد له طعماً كائناً ما كان من الطعام? ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين فتناول جمجمة؛ فقال: يا ذا القرنين أتدري من هذا? قال: لا؛ ومن هو? قال: ملك من ملوك الأرض أعطاه الله سلطاناً على أهل الأرض فغشم وظلم وعتا؛ فلما رأى الله سبحانه ذلك منه جسمه بالموت فصار كالحجر الملقى؛ وقد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته. ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال: يا ذا القرنين هل تدري من هذا? قال: لا أدري ومن هو? قال: هذا ملك ملكه الله بعده؛ قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالناس من الغشم والظلم والتجبر؛ فتواضع وخشع لله عز وجل وأمر بالعدل في أهل مملكته؛ فصار كما ترى قد أحصى الله عليه عمله، حتى يجزيه في آخرته. ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال: وهذه الجمجمة قد كانت كهذين فانظر يا ذا القرنين ما أنت صانع? فقال له ذو القرنين: هل لك في صبحتي فأتخذك أخاً ووزيراً وشريكاً فيما أتاني الله من هذا المال? قال: ما أصلح أنا وأنت في مكان ولا أن نكون جميعاً، قال ذو القرنين: ولم? قال: من أجل أن الناس كلهم لك عدو ولي صديق، قال: ولم? قال: يعادونك لما في ديك من الملك والمال والدنيا! ولا أجد أحداً يعاديني لرفضي لذلك ولما عندي من الحاجة وقلة الشيء، قال: فانصرف عنه ذو القرنين متعجباً منه ومتعظاً به، فهذه الحكايات تدلك على آفات الغنى مع ما قدمناه من قبل وبالله التوفيق.

تم كتاب ذم المال والبخل بحمد الله تعالى وعونه، ويليه كتاب ذم الجاه والرياء.