إحياء علوم الدين/كتاب كسر الشهوتين


وهو الكتاب الثالث من ربع المهلكات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المنفرد بالجلال في كبريائه وتعاليه، المستحق للتحميد والتقديس والتسبيح والتنزيه، القائم بالعدل فيما يبرمه ويقضيه، المتطول بالفضل فيما ينعم به ويسديه، المتكفل بحفظ عبده في جميع موارده ومجاريه، المنعم عليه بما يزيد على مهمات مقاصده بل بما يفي بأمانيه، فهو الذي يرشده ويهديه، وهو الذي يميته ويحييه، وإذا مرض فهو يشفيه، وإذا ضعف فهو يقويه، وهو الذي يوفقه للطاعة ويرتضيه، وهو الذي يطعمه ويسقيه، ويحفظه من الهلاك ويحميه، ويحرسه بالطعام والشراب عما يهلكه ويرديه، ويمكنه من القناعة بقليل القوت ويقربه حتى تضيق به مجاري الشيطان الذي يناويه، ويكسر به شهوة النفس التي تعاديه، فيدفع شرها ثم يعبد ربه ويتقيه، هذا بعد أن يوسع عليه ما يلتذ به ويشتهيه، ويكثر عليه ما يهيج بواعثه ويؤكد دواعيه، كل ذلك يمتحنه به ويبتليه، فينظر كيف يؤثره على ما يهواه وينتحيه، وكيف يحفظ أوامره وينتهي عن نواهيه، ويواظب على طاعته وينزجر عن معاصيه. والصلاة على محمد عبده النبيه، ورسوله الوجيه، صلاة تزلفه وتحظيه، وترفع منزلته وتعليه، وعلى الأبرار من عترته وأقربيه، والأخيار من صحابته وتابعيه.

أما بعد: فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها أخرج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؛ إذ نهيا عن الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما. والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات، إذ يتبعها شهوة الفرج وشدة الشبق إلى المنكوحات؛ ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال اللذين هما وسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات؛ ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات؛ ثم يتولد بينهما آفة الرياء وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثم يتداعى ذلك إلى الحقد والحسد والعداوة والبغضاء، ثم يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء، وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء، ولو ذلل العبد نفسه بالجوع وضيق به مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة الله عز وجل ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم ينجز به ذلك إلى الانهماك في الدنيا وإيثار العاجلة على العقبى ولم يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا، وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحد وجب شرح غوائلها وآفاتها تحذيراً منها، ووجب إيضاح طريق المجاهدة لها والتنبيه على فضلها ترغيباً فيها، وكذلك شرح شهوة الفرج فإنها تابعة لها. ونحن نوضح ذلك بعون الله تعالى في فصول يجمعها بيان فضيلة الجوع ثم فوائده، ثم طريق الرياضة في كسر شهوة البطن بالتقليل من الطعام والتأخير، ثم بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته باختلاف أحوال الناس، ثم بيان الرياضة في ترك الشهوة، ثم القول في شهوة الفرج، ثم بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله؛ ثم بيان فضيلة من يخالف شهوة البطن والفرج والعين.

بيان فضيلة الجوع وذم الشبع

قال رسول الله "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله وأنه ليس من عمل أحب إلى الله من جوع وعطش.1 وقال ابن عباس: قال النبي "لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه" .2

وقيل يا رسول الله أي الناس أفضل? قال "من قل مطعمه وضحكه ورضي مما يستر به عورته 3

وقال النبي "سيد الأعمال الجوع وذل النفس لباس الصوف. 4

وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله "البسوا وكلوا واشربوا في أنصاف البطون فإنه جزء من النبوة. 5

وقال الحسن: قال النبي "الفكر نصف العبادة وقلة الطعام هي العبادة. 5

وقال الحسن أيضاً: قال رسول الله "أفضلكم عند الله منزلة يوم القيامة أطولكم جوعاً وتفكراً في الله سبحانه، وأبغضكم عند الله عز وجل يوم القيامة كل نؤوم أكول شروب. 6

وفي الخبر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجوع من غير عوز أي مختاراً لذلك وقال "إن الله تعالى يباهي الملائكة بمن قل مطعمه ومشربه في الدنيا يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي ابتليته بالطعام والشراب في الدنيا فصبر وتركهما اشهدوا يا ملائكتي ما من أكلة يدعها إلا أبدلته بها درجات في الجنة 7

وقال "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء 8 وقال "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه وإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرباه وثلث لنفسه 9

وفي حديث أسامة بن زيد وحديث أبي هريرة الطويل ذكر فضيلة الجوع إذ قال فيه "إن أقرب الناس من الله عز وجل يوم القيامة من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا، الأحفياء الأتقياء الذين إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، تعرفهم بقاع الأرض وتحف بهم ملائكة السماء نعم الناس بالدنيا ونعموا بطاعة الله عز وجل، افترش الناس الفرش الوثيرة وافترشوا الجباه والركب، ضيع الناس فعل النبيين وأخلاقهم وحفظوها هم، تبكي الأرض إذا فقدتهم ويسخط الجبار على كل بلدة ليس فيها منهم أحد لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف أكلوا العلق ولبسوا الخرق شعثاً غبراً يراهم الناس فيظنون أن بهم داء وما بهم داء، ويقال قد خولطوا فذهبت عقولهم وما ذهبت عقولهم ولكن نظر القوم بقلوبهم إلى أمر الله الذي أذهب عنهم الدنيا، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول عقلوا حين ذهبت عقول الناس، لهم الشرف في الآخرة، يا أسامة إذا رأيتهم في بلدة فاعلم أنهم أمان لأهل تلك البلدة ولا يعذب الله قوماً هم فيهم. الأرض بهم فرحة والجبار عنهم راض. اتخذهم لنفسك إخواناً عسى أن تنجو بهم. وإن استطعت إن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فافعل. فإنك تدرك بذلك شرف المنازل وتحل مع النبيين. وتفرح بقدوم روحك الملائكة ويصلي عليك الجبار 10

روى الحسن بن أبي هريرة: أن النبي قال "البسوا الصوف وشمروا وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء11 وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين أجيعوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل وروي ذلك أيضاً عن نبينا رواه طاوس.12 وقيل مكتوب في التوراة: إن الله ليبغضن الحبر السمين لأن السمين يدل على الغفلة وكثرة الأكل وذلك قبيح خصوصاً بالحبر. ولأجل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى يبغض القارئ السمين وفي خبر مرسل "إن الشيطان لجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش وفي الخبر "إن الأكل على الشيع يورث البرص وقال "المؤمن يأكل في معي واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء13 أي يأكل سبعة أضعاف ما يأكل المؤمن أو تكون شهوته سبعة أضعاف شهوته وذكر المعي كناية عن الشهوة لأن الشهوة هي التي تقبل الطعام وتأخذه كما يأخذ المعي. وليس المعنى زيادة عدد معي المنافق على معي المؤمن. وروى الحسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول "أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم" فقلت: كيف نديم قرع باب الجنة? قال "بالجوع والظمأ وروى "أنا أبا جحيفة تجشأ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له "أقصر من جشائك فإن أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تمتلئ قط شبعاً وربما بكيت رحمة مما أرى به من الجوع فأمسى بطنه بيدي وأقول: نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك ويمنعك من الجوع? فيقول "يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا مضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غداً دونهم فالصبر أياماً يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غداً في الآخرة وما من شيء أحب إلي من اللحوق بأصحابي وإخواني" قالت عائشة: فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله إليه وعن أنس قال: جاءت فاطمة رضوان الله عليها بكسرة خبر إلى رسول الله فقال "ما هذه الكسرة" قالت: قرص خبزته ولم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام وقال أبو هريرة: ما أشبه النبي أهله ثلاثة أيام تباعاً من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا وقال صلى الله عليه وآله وسلم "إن أهل الجوع في الدنيا هم أهل الشبع في الآخرة وإن أبغض الناس إلى الله المتخمون الملأى وما ترك عبد أكلة يشتهيها إلا كانت له درجة في الجنة .

وأما الآثار: فقد قال عمر رضي الله عنه: إياكم والبطنة فإنها ثقل في الحياة نتن في الممات. وقال شقيق البلخي العبادة حرفة حانوتها الخلوة وآلتها المجاعة. وقال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه: أي شيء تخافين? أتخافين أن تجوعي? لا تخافي ذلك: أنت أهون على الله من ذلك إنما يجوع محمد وأصحابه. وكان كهمس يقول إلهي أجعتني وأعريتني وفي ظلم الليالي بلا مصباح أجلستني فبأي وسيلة بلغتني ما بلغتني? وكان فتح الموصلي إذا اشتد مرضه وجوعه يقول: إلهي ابتليتني بالمرض والجوع وكذلك تفعل بأوليائك فبأي عمل أؤدي شكر ما أنعمت به علي? وقال مالك بن دينار: قلت لمحمد بن واسع يا أبا عبد الله طوبى لمن كانت له غليلة تقوته وتغنيه عن الناس فقال لي يا أبا يحيى طوبى لمن أمسى وأصبح جائعاً وهو عن الله راض. وكان الفضيل بن عياض يقول: إلهي أجعتني وأجعت عيالي وتركتني في ظلم الليالي بلا مصباح وإنما تفعل ذلك بأوليائك فبأي منزلة نلت هذا منك? وقال يحيى بن معاذ: جوع الراغبين منبهة وجوع التائبين تجربة وجوع المجتهدين كرامة وجوع الصابرين سياسة وجوع الزاهدين حكمة. وفي التوراة اتق الله وإذا شبعت فاذكر الجياع: وقال أبو سليمان: لأن أترك لقمة من عشائي أحب إلي من قيام ليلة إلى الصبح، وقال أيضاً: الجوع عند الله في خزائنه لا يعطيه إلا من أحبه. وكان سهل بن عبد الله التستري يطوي نيفاً وعشرين يوماً لا يأكل، وكان يكفيه لطعامه في السنة درهم، وكان يعظم الجوع ويبالغ فيه حتى قال: لا يوافى القيامة عمل بر أفضل من ترك فضول الطعام اقتداء بالنبي في أكله. وقال: لم ير الأكياس شيئاً أنفع من الجوع للدين والدنيا. وقال: لا أعلم شيئاً أضر على طلاب الآخرة من الأكل. وقال: وضعت الحكمة والعلم في الجوع ووضعت المعصية والجهل في الشبع. وقال ما عبد الله بشيء أفضل من مخالفة الهوى في ترك الحلال. وقد جاء في الحديث "ثلث للطعام فمن زاد عليه فإنما يأكل من حسناته وسئل عن الزيادة فقل: لا يجد الزيادة حتى يكون الترك أحب إليه من الأكل، ويكون إذا جاع ليلة سأل الله أن يجعلها ليلتين، فإذا كان ذلك وجد الزيادة. وقال صار الأبدال أبدالاً إلا بإخماص البطون والسهر والصمت والخلوة. وقال: رأس كل بر نزل من السماء إلى الأرض الجوع، ورأس كل فجور بينهما الشبع. وقال: من جوع نفسه انقطعت عنه الوساوس. وقال: إقبال الله عز وجل على العبد بالجوع والسقم والبلاء إلا من شاء الله. وقال: اعلموا أن هذا زمان لا ينال أحد فيه النجاة إلا بذبح نفسه وقتلها بالجوع والسهر والجهد. وقال: ما مر على وجه الأرض أحد شرب من هذا الماء حتى روي فسلم من المعصية -وإن شكر الله تعالى- فكيف الشبع من الطعام? وسئل حكيم بأي قيد أقيد نفسي? قال: قيدها بالجوع والعطش، وذللها بإخمال الذكر وترك العز، وصغرها بوضعها تحت أرجل أبناء الآخرة، واكسرها بترك زي القراء عن ظاهرها، وانج من آفاتها بدوام سوء الظن بها، واصحبها بخلاف هواها. وكان عبد الواحد بن زيد يقسم بالله تعالى إن الله تعالى ما صافي أحداً إلا بالجوع ولا مشوا على الماء إلا به، ولا طويت لهم الأرض إلا بالجوع، ولا تولاهم الله تعالى إلا بالجوع، وقال أبو طالب المكي: مثل البطن مثل المزهر وهو العود المجوف ذو الأوتار -غنما حسن صوته لخفته ورقته لأنه أجوف غير ممتلئ، وكذلك الجوف إذا خلا كان أعذب للتلاوة وأدوم للقيام وأقل للمنام. وقال أبو بكر بن عبد الله المزني: ثلاثة يحبهم الله تعالى؛ رجل قليل النوم قليل الأكل قليل الراحة. وروي أن عيسى عليه السلام مكث يناجي ربه ستين صباحاً لم يأكل فخطر بباله الخبز فانقطع عن المناجاة فإذا رغيف موضوع بين يديه، فجلس يبكي على فقد المناجاة وإذا شيخ قد أظله فقال له عيسى: بارك الله فيك يا ولي الله ادع الله تعالى فإني كنت في حالة فخطر ببالي الخبز فانقطعت عني، فقال الشيخ: اللهم إن كنت تعلم أن الخبز خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي، بل كان إذا حضر لي شيء أكلته من غير فكر وخاطر. وروي أن موسى عليه السلام لما قربه الله عز وجل نجياً كان قد ترك الأكل أربعين يوماً -ثلاثين ثم عشراً- على ما ورد به القرآن؛ لأنه أمسك

بغير تبييت يوماً فزيد عشرة لأجل ذلك.

بيان فوائد الجوع وآفات الشبع

قال رسول الله "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك" ولعلك تقول: هذا الفضل العظيم للجوع أين هو? وما سببه? وليس فيه إلا إيلام المعدة ومقاساة الأذى! فإن كان كذلك فينبغي أن يعظم الأجر في كل ما يتأذى به الإنسان من ضربه لنفسه وقطعه للحمه وتناوله الأشياء المكروهة وما يجري مجراه? فاعلم أن هذا يضاهي قول من شرب دواء فانتفع به وظن أن منفعته لكراهة الدواء ومرارته، فأخذ يتناول كل ما يكرهه من المذاق وهو غلظ، بل نفعه في خاصية في الدواء وليس كونه مراً، وإنما يقف على تلك الخاصية الأطباء، فكذلك لا يقف على علة نفع الجوع إلا سماسرة العلماء ومن جوع نفسه مصدقاً لما جاء في الشرع من مدح الجوع انتفع به وإن لم يعرف علة المنفعة، كما أن من شرب الدواء انتفع به وإن لم يعله وجه كونه نافعاً.

ولكنا نشرح لك إن أردت أن ترتقي من درجة الإيمان إلى درجة العلم قال الله تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" فنقول: في الجوع عشر فوائد.

الفائدة الأولى: صفاء القلب وإيقاد القريحة وإنفاذ البصيرة، فإن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ويكثر البخار في الدماغ شبه السكر حتى يحتوي على معادن الفكر فيثقل القلب بسبب عن الجريان في الأفكار وعن سرعة الإدراك، بل الصبي إذا أكثر الأكل بطل حفظه وفسد ذهنه وصار بطيء الفهم والإدراك. وقال أبو سليمان الداراني: عليك بالجوع فإنه مذلة للنفس ورقة للقلب وهو يورث العلم السماوي. وقال "أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع وطهروها بالجوع تصفو وترق ويقال: مثل الجوع مثل الرعد، ومثل القناعة مثل السحاب، والحكمة كالمطر. وقال النبي "من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه وقال ابن عباس: قال النبي "من شبع ونام قسا قلبه" ثم قال "لكل شيء زكاة وزكاة البدن الجوع وقال الشبلي: ما جعت لله يوماً إلا رأيت في قلبي باباً مفتوحاً من الحكمة والعبرة ما رأيته قط. وليس يخفى أن غاية المقصود من العبادات الفكر الموصل إلى المعرفة والاستبصار بحقائق الحق، والشبع يمنع منع والجوع يفتح بابه، والمعرفة باب من أبواب الجنة فبالحرى أن تكون ملازمة الجوع قرعاً لباب الجنة. ولهذا قال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. وقال أبو يزيد البسطامي: الجوع سحاب فإذا جاع العبد أمطر القلب الحكمة. وقال النبي "نور الحكمة الجوع، والتباعد من الله عز وجل الشبع، والقربة إلى الله عز وجل حب المساكين والدنو منهم. لا تشبعوا فتطفئوا نور الحكمة من قلوبكم ومن بات في خفة من الطعام بات الحور حوله حتى يصبح .

الفائدة الثانية: رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المثابرة والتأثر بالذكر، فكم من ذكر يجري على اللسان مع حضور القلب ولكن القلب لا يلتذ به ولا يتأثر حتى كأن بينه وبينه حجاباً من قسوة القلب، وقد يرق في بعض الأحوال فيعظم تأثره بالذكر وتلذذه بالمناجاة، وخلو المعدة هو السبب الأظهر فيه، وقال أبو سليمان الداراني: أحلى ما تكون إلى العبادة إذا التصق ظهري ببطني. وقال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة. وقال أبو سليمان: إذا جاع القلب وعطش صبا ورق، وإذا شبع عمى وغلط، فإذا تأثر القلب بلذة المناجاة أمر وراء تيسير الفكر واقتناص المعرفة على فائدة ثانية.

الفائدة الثالثة: الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى، فلا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع فعنده تسكن لربها وتخشع له وتقف على عجزها وذلها إذا ضعفت منتها وضاقت حيلتها بلقيمة طعام فاتتها، وأظلمت عليها الدنيا لشربة ماء تأخرت عنها وما لم يشاهد الإنسان ذل نفسه وعجزه لا برى عزة مولاه ولا قهره، وإنما سعادته في أن يكون دائماً مشاهداً نفسه بعين الذل والعجز ومولاه بعين العز والقدرة والقهر، فليكن دائماً جائعاً مضطراً إلى مولاه مشاهداً للاضطرار بالذوق، ولأجل ذلك لما عرضت الدنيا وخزائنها على النبي قال "لا بل أجوع يوماً وأشبع يوماً فإذا جعت صبر وتضرعت وإذا شبعت شكرت أو كما قال "فالبطن والفرج باب من أبواب النار وأصله الشبع. والذي والانكسار باب من أبواب الجنة وأصله الجوع. ومن أغلق باباً من أبواب النار فقد فتح باباً من أبواب الجنة بالضرورة لأنهما متقابلاً كالمشرق والمغرب، فاقرب من أحدهما بعد من الآخر.

الفائدة الرابعة: أن لا ينسى بلاء الله وعذابه؛ ولا ينسى أهل البلاء فإن الشبعان ينسى الجائع وينسى الجوع، والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا ويتذكر بلاء الآخرة، فيذكر من عطشه عطش الخلق في عرصات القيامة، ومن جوعه جوع أهل النار، حتى إنهم ليجوعون فيطعمون الضريع والزقوم ويسقون الغساق والمهل، فلا ينبغي أن يغيب عن العبد عذاب الآخرة وآلامها، فإنه هو الذي يهيج الخوف، فمن لم يكن في ذلة ولا علة ولا قلة ولا بلاء، وأولى ما يقاسيه من البلاء والجوع فإن فيه فوائد جمة سوى تذكر عذاب الآخرة. وهذا أحد الأسباب الذي اقتضى اختصاص البلاء بالأنبياء والأولياء والأمثل فالأمثل. ولذلك قيل ليوسف عليه السلام: لم تجوع وفي يديك خزائن الأرض? فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. فذكر الجائعين والمحتاجين إحدى فوائد الجوع فإن ذلك يدعو إلى الرحمة والإطعام والشفقة على خلق الله عز وجل. والشبعان في غفلة عن ألم الجائع.

الفائدة الخامسة -وهي من أكبر الفوائد-: كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى. ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة. وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه، وكما أنك لا تملك الدابة الجموع إلا بضعف الجوع فإذا شبعت قويت وشردت وجمحت، فكذلك النفس. كما قيل لبعضهم: ما بالك مع كبرك لا تتعهد بدنك وقد انهد? فقال: لأنه سريع المرح فاحش الأشر فأخاف أن يجمع بي فيورطني، فلأن أحمله على الشدائد أحب إلي من أن يحملني على الفواحش. وقال ذو النون: ما شبعت قط غلا عصيب أو هممت بمعصية: وقالت عائشة رضي الله عنها: أول بدعة حدثت بعد رسول الله : الشبع.

إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا وهذه ليست فائدة واحدة بل هي خزائن الفوائد. ولذلك قيل: الجوع خزانة من خزائن الله تعالى وأقل ما يندفع بالجوع: شهوة الفرج وشهوة الكلام، فإن الجائع لا يتحرك عليه شهوة فضول الكلام فيتخلص به من آفات اللسان كالغيبة والفحش والكذب والنميمة وغيرها، فيمنعه الجوع من كل ذلك وإذا شبع افتقر إلى فاكهة فيتفكه لا محالة بأعراض الناس، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.

وأما شهوة الفرج: فلا تخفى غائلتها، والجوع يكفي شرها. وإذا شبع الرجل لم يملك فرجه، وإن منعته التقوى فلا يملك عينه، فالعين تزني كما أن الفرج يزني، فإن ملك عينه بغض الطرف فلا يملك فكره، فيخطر له من الأفكار الرديئة وحديث النفس بأسباب الشهوة ما يتشوش به مناجاته، وربما عرض له ذلك في أثناء الصلاة.

وإنما ذكرنا آفة اللسان والفرج مثالاً، وإلا فجميع معاصي الأعضاء السبعة سببها القوة الحاصلة بالشبع. قال حكيم: كل مريد صبر على السياسة فيصبر على الخبز البحت سنة لا يخلط به شيئاً من الشهوات ويأكل في نصف بطنه رفع الله عنه مؤنة النساء.

الفائدة السادسة: دفع النوم ودوام السهر، فإن من شبع شرب كثيراً، ومن كثر شربه كثر نومه. ولأجل ذلك كان بعض الشيوخ يقول عند حضور الطعام: معاشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا كثيراً. وأجمع رأي سبعين صديقاً على أن كثرة النوم من كثرة الشرب. وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبع وقساوة القلب، والعمر أنفس الجواهر وهو رأس مال العبد فيه يتجر، والنوم موت فتكثيره ينقص العمر، ثم فضيلة التهجد لا تخفى وفي النوم فواتها. ومهما غلب النوم فإن تهجد حلاوة العبادة، ثم المتعزب إذا نام على الشبع احتلم ويمنعه ذلك أيضاً من التهجد، ويحوجه إلى الغسل إما بالماء البارد فيتأذى به أو يحتاج إلى الحمام وربما لا يقدر عليه بالليل، فيفوته الوتر إن كان قد آخره إلى التهجد، ثم يحتاج إلى مؤنة الحمام وربما تقع عينه على عورة في دخول الحمام، فإن فيه أخطاراً ذكرناها في كتاب الطهارة وكل ذلك أثر الشبع. وقد قال أبو سليمان الداراني: الاحتلام عقوبة. وإنما قال ذلك لأن يمنع من عبادات كثيرة لتعذر الغسل في كل حال. فالنوم منبع الآفات، والشبع مجلبة له؛ والجوع مقطعة له.

الفائدة السابعة: تيسير المواظبة على العبادة فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام وطبخه، ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال، ثم يكثر ترداده إلى بيت الماء لكثرة شربه. والأوقات المصروفة إلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه. قال السري رأيت مع علي الجرجاني سويقاً يستف منه فقلت: ما حملك على هذا? قال: إني حبست ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة. فانظر كيف أفق على وقته ولم يضيعه في المضغ. وكل نفس من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها فينبغي أن يستوفى منه خزانة باقية في الآخرة لا آخر لها وذلك بصرفه إلى ذكر الله وطاعته.

ومن جملة ما يتعذر بكثرة الأكل الدوام على الطهارة وملازمة المسجد، فإنه يحتاج إلى الخروج لكثرة شرب الماء وإراقته. ومن جملته الصوم فإنه يتيسر لمن تعود الجوع، فالصوم ودوام الاعتكاف ودوام الطهارة وصرف أوقات شغله بالأكل وأسبابه إلى العبادة أرباح كثيرة، وإنما يستحقرها الغافلون الذين لم يعرفوا قدر الدين لكن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون".

وقد أشار أبو سليمان الداراني إلى ست آفات من الشبع فقال: من شبع دخل عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة وتعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشباع يدورون حول المزابل.

الفائدة الثامنة: يستفيد من قلة الأكل صحة البدن ودفع الأمراض، فإن سببها كثرة الأكل وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق. ثم المرض يمنع من العبادات ويشوش القلب ويمنع من الذكر والفكر وينغص العيش ويحوج إلى الفصد والحجامة والدواء والطبيب، وكل ذلك يحتاج إلى مؤن ونفقات لا يخلو الإنسان منها بعد التعب عن أنواع من المعاصي واقتحام الشهوات، وفي الجوع ما يمنع ذلك كله.

حكي أن الرشيد جمع أربعة أطباء: هندي، ورومي، وعراقي، وسوادي. وقال ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه. فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الإهليلج الأسود. وقال العراقي: هو حب الرشاد الأبيض وقال الرومي هو عندي الماء الحار. وقال السوادي -وكان أعلمهم- الإهليلج يعفص المعدة وهذا داء، وحب الرشاد يزلق المعدة وهذا داء، والماء الحار يرخي المعدة وهذا داء. قالوا: فما عندك? فقال الدواء الذي لا داء معه عندي أن لا تأكل الطعام حتى تشتهيه؛ وأن ترفع يدك عنه وأنت تشتهيه. فقالوا: صدقت وذكر لبعض الفلاسفة من أطباء أهل الكتاب قول النبي "ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس فتعجب منه وقال ما سمعت كلاماً في قلة الطعام أحكم من هذا وإنه لكلام حكيم. وقال "البطنة أصل لداء والحمية أصل الدواء وعودوا كل جسم ما اعتاد وأظن تعجب الطبيب جرى من هذا الخبر لا من ذاك. وقال ابن سالم: من أكل خبز الحنطة بحتا بأدب لم يعتل إلا علة الموت. قيل: وما الأدب? قال: تأكل بعد الجوع وترفع قبل الشبع. وقال بعض أفاضل الأطباء في ذم الاستكثار: إن أنفع ما أدخل الرجل بطنه الرمان وأضر ما أدخل معدته المالح؛ ولأن يقلل من المالح خير له من أن يستكثر من الرمان. وفي الحديث صوموا تصحوا ففي الصوم والجوع وتقليل الطعام صحة الأجسام وصحة القلوب من سقم الطغيان والبطر وغيرهما.

الفائدة التاسعة: خفة المؤونة فإن من تعود قلة الأكل كفاه من الماء قدر يسير، والذي تعود الشبع صار بطنه غريماً ملازماً له آخذاً بمخفته في كل يوم، فيقول ماذا تأكل اليوم فيحتاج إلى أن يدخل المداخل، فيكتسب من الحرام فيعصي أو من الحلال فيذل. وربما يحتاج إلى أن يمد أعين الطمع إلى الناس وهو غاية الذل والقماءة والمؤمن خفيف المؤنة. وقال بعض الحكماء: إني لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون ذلك أروح لقلبي. وقال آخر: إذا أردت أن أستقرض من غيري لشهوة أو زيادة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي. وكان إبراهيم ابن أدهم رحمه الله يسأل أصحابه عن سعر المأكولات فيقول إنها غالية فيقول: أرخصوها بالترك. وقال سهل رحمه الله: الأكول مذموم في ثلاثة أحوال، إن كان من أهل العبادة فيكسل، وإن كان مكتسباً فلا يسلم من الآفات وإن كان ممن يدخل عليه شيء فلا ينصف الله تعالى من نفسه.

وبالجملة سبب هلاك الناس حرصهم على الدنيا، وسبب حرصهم على الدنيا البطن والفرج، وسبب شهوة الفرج، شهوة البطن. وفي تقليل الأكل ما يحسم هذه الأحوال كلها وهي أبواب النار وفي حسمها فتح أبواب الجنة كما قال "أديموا قرع باب الجنة بالجوع" فمن قنع برغيف في كل يوم قنع في سائر الشهوات أيضاً وصار حراً واستغنى عن الناس واستراح من التعب، وتخلى لعبادة الله عز وجل وتجارة الآخرة، فيكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإنما لا تلهيهم لاستغنائهم عنها بالقناعة، وأما المحتاج فتلهيه لا محالة.

الفائدة العاشرة: أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين، فيكون يوم القيامة في ظل صدقته كما ورد به الخبر: فما يأكله كان خزانته الكنيف وما يتصدق به كان خزانته فضل الله تعالى، فليس للعبد من ماله إلا ما تصدق فأبقى أو اكل فأفني أو لبس فأبلى، فالتصدق بفضلات الطعام أولى من التخمة والشبع. وكان الحسن رحمة الله عليه إذا تلا قوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا" قال عرضها على السموات السبع الطباق والطرائق التي زينها بالنجوم وحملة العرش العظيم فقال لها سبحانه وتعالى: هل تحملين الأمانة بما فيها? قالت: وما فيها? قال: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت، فقالت: لا، ثم عرضها على الإنسان فحملها إنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر ربه. فقد رأيناهم والله اشتروا الأمانة بأموالهم فأصابوا آلافاً فماذا صنعوا فيها? وسعوا بها دورهم وضيقوا بها قبورهم، وأسمنوا براذينهم وأهزلوا دينهم، وأتعبوا أنفسهم بالغدو والرواح إلى باب السلطان يتعرضوا للبلاء وهم من الله في عافية، يقول أحدهم تبيعني أرض كذا وكذا وأزيدك كذا وكذا، يتكئ على شماله ويأكل من غير ماله، حديثه سخرة وماله حرام حتى إذا أخذته الكظة ونزلت به البطنة قال: يا غلام ائتني بشيء أهضم به طعامي، يالكع أطعامك تهضم? إنما تهضم دينك، أين الفقير أين الأرملة أين المسكين أين اليتيم الذي أمرك الله تعالى بهم? فهذه إشارة إلى هذه الفائدة وهو صرف فاضل الطعام إلى الفقير ليدخر به الأجر فذلك خير له من أن يأكله حتى يتضاعف الوزر عليه. ونظر رسول الله إلى رجل سمين البطن فأومأ إلى بطنه بإصبعه وقال: والله لقد أدركت أقواماً كان الرجل منهم يمسي وعنده من الطعام ما يكفيه ولو شاء لأكله فيقول: والله لا أجعل هذا كله لبطني حتى أجعل بعض لله.

فهذه عشرة فوائد للجوع يتشعب من كل فائدة فوائد لا ينحصر عددها ولا تتناهى فوائدها، فالجوع خزانة عظيمة لفوائد الآخرة. ولأجل هذا قال بعض السلف: الجوع مفتاح الآخرة وباب الزهد، والشبع مفتاح الدنيا وباب الرغبة. بل ذلك صريح في الأخبار التي رويناها بالوقوف على تفصيل هذه الفوائد تدرك معاني تلك الأخبار إدراك علم وبصيرة. فإذا لم تعرف هذا وصدقت بفضل الجوع كانت لك رتبه المقلدين في الإيمان والله أعلم بالصواب.

بيان طريق الرياضة في كسر شهوة البطن

اعلم أن على المريد في بطنه ومأكوله أربع وظائف: الأول أن يأكل إلا حلالاً فإن العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار. وقد ذكرنا ما تجب مراعاته من درجات الورع في كتاب الحلال والحرام، وتبقى ثلاث وظائف خاصة بالأكل وهو تقدير قدر الطعام في القلة والكثرة وتقدير وقته في الإبطاء والسرعة وتعيين الجنس المأكول في تناول المشتهيات وتركها.

أما الوظيفة الأولى: في تقليل الطعام، فسبيل الرياضة فيه التدريج. فمن اعتاد الأكل الكثير وانتقل دفعة واحدة إلى القليل لم يحتمله مزاجه وضعف وعظمت مشقته، فينبغي أن يتدرج إليه قليلاً قليلاً وذلك بأن ينقص قليلاً قليلاً من طعامه المعتاد. فإن كان يأكل رغيفين مثلاً وأراد أن يرد نفسه إلى رغيف واحد فينقص كل يوم ربع سبع رغيف، وهو أن ينقص جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً، أو جزءاً من ثلاثين جزءاً، فيرجع إلى رغيف في شهر، ولا يستضر به ولا يظهر ثره، فإن شاء فعل في ذلك بالوزن وإن شاء بالمشاهدة، فيترك كل يوم مقدار قلمة وينقصه عما أكله بالأمس. ثم هذا فيه أربع درجات.

أقصاها: أن يرد نفسه إلى قدر القوام الذي لا يبقى دونه وهو عادة الصديقين. وهو اختيار سهل التستري رحمة الله عليه إذ قال: إن الله استعبد الخلق بثلاث، بالحياة، والعقل، والقوة. فإن خاف العبد على اثنين منها وهي الحياة والعقل، أكل وأفطر إن كان صائماً. وتكلف الطلب إن كان فقيراً. وإن لم يخف عليهما بل على القوة قال، فينبغي أن لا يبالي. ولو ضعف حتى صلى قاعداً وأرى أن صلاته قاعداً مع ضعف الجوع أفضل من صلاته قائماً مع كثرة الأكل. وسئل سهل عن بدايته وما كان يقتات به فقال. كان قوتي في كل سنة ثلاثة دراهم، كنت آخذ بدرهم دبساً، وبدرهم دقيق الأرز، وبدرهم سمناً. وأخلط الجميع وأسوي منه ثلثمائة وستين أكرة، آخذ في كل ليلة أكرة أفطر عليها، فقيل له: فالساعة كيف تأكل? قال: بغير حد ولا توقيت: ويحكى عن الوهابين أنهم قد يردون أنفسهم إلى مقدار دره من الطعام.

الدرجة الثانية: أن يرد نفسه بالرياضة في اليوم والليلة إلى نصف مد، وهو رغيف وشيء مما يكون الأربعة منه منا ويشبه أن يكون هذا مقدار ثلث البطن في حق الأكثرين -كما ذكر النبي - وهو فوق اللقيمات لأن هذه الصيغة في الجمع للقلة فهو لما دون العشرة، وقد كان ذلك عادة عمر رضي الله عنه إذ كان يأكل سبع لقم أو تسع لقم.

الدرجة الثالثة: أن يردها إلى مقدار المد، وهو رغيفان ونصف، وهذا يزيد على ثلث البطن في حق الأكثرين، ويكاد ينتهي إلى ثلثي البطن، ويبقى ثلث للشراب ولا يبقى شيء للذكر. وفي بعض الألفاظ "ثلث للذكر" بدل قوله "للنفس".

الدرجة الرابعة: أن يزيد على المد إلى المن، ويشبه أن يكون ما وراء المن إسرافاً مخالفاً لقوله تعالى "ولا تسرفوا" أعني في حق الأكثرين، فإن مقدار الحاجة إلى الطعام يختلف بالسن، والشخص، والعمل الذي يشتغل به. وههنا طريق خامس لا تقدير فيه ولكنه موضع غلط، وهو أن يأكل إذا صدق جوعه ويقبض يده وهو على شهوة صادقة بعد، ولكن الأغلب أن من لم يقدر لنفسه رغيفاً أو رغيفين فلا يتبين له حد الجوع الصادق، ويشتبه عليه ذلك بالشهوة الكاذبة.

وقد ذكر للجوع الصادق علامات؛ إحداها: أن لا تطلب النفس الأدم بل تأكل الخبز وحده بشهوة -أي خبز كان- فمهما طلبت نفسه خبزاً بعينه أو طلبت أدماً فليس ذلك بالجوع الصادق. وقد قيل: من علامته أن يبصق فلا يقع الذباب عليه؛ أي لم يبق فيه دهنية ولا دسومة فيدل ذلك على خلو المعدة، ومعرفة ذلك غامض فالصواب للمريد أن يقدر مع نفسه القدر لذي لا يضعفه عن العبادة التي هو بصددها فإذا انتهى إليه وقف وإن بقيت شهوته.

وعلى الجملة: فتقدير الطعام لا يمكن لأنه يختلف بالأحوال والأشخاص. نعم قد كان قوت جماعة من الصحابة صاعاً من حنطة في كل جمعة، فإذا أكلوا التمر اقتاتوا منه صاعاً ونصفاً، وصاع الحنطة أربع أمداد، فيكون كل كل يوم قريباً من نصف مد -وهو ما ذكرناه أنه قدر ثلث البطن- واحتيج في التمر إلى زيادة لسقوط النوى منه. وقد كان أبو ذر رضي الله عنه يقول: طعامي في كل جمعة صاع من شعير على عهد رسول الله والله لا أزيد عليه شيئاً حتى ألقاه فإني سمعته يقول "أقربكم مني مجلساً يوم القيامة وأحبكم إلي من مات على ما هو عليه اليوم وكان يقول -في إنكاره على بعض الصحابة: قد غيرتم، ينخل لكم الشعير ولم يكن ينخل، وخبزتم المرقق وجمعتم بين إدامين واختلف عليكم بألوان الطعام، وغدا أحدكم في ثوب وراح في آخر. ولم يكونوا هكذا على عهد رسول الله وكان قوت أهل الصفة مداً من تمر بين اثنين في كل يوم والمد رطل وثلث ويسقط منه النوى. وكان الحسن رحمة الله عليه يقول المؤمن مثل العنيزة يكفيه الكف من الحشف والقبضة من السويق والجرعة من الماء، والمنافق مثل السبع الضاري بلعاً بلعاً وسرطاً سرطاً لا يطوي بطنه لجاره ولا يؤثر أخاه بفضله، وجهوا هذه الفضول أمامكم. وقال سهل لو كانت الدنيا دماً عبيطاً لكان قوت المؤمن منها حلالاً لأن أكل المؤمن عند الضرورة بقدر القوام فقط.

الوظيفة الثانية: في وقت الأكل ومقدار تأخيره وفيه أيضاً أربع درجات:

الدرجة العليا: أن يطوى ثلاثة أيام فما فوقها، وفي المريدين من رد الرياضة إلى الطي لا إلى المقدار، حتى انتهى بعضهم إلى ثلاثين يوماً وأربعين يوماً، وانتهى إليه جماعة من العلماء يكثر عددهم منهم: محمد بن عمرو المقرني، وعبد الرحمن بن إبراهيم، ورحيم، وإبراهيم التيمي، وحجاج بن فرافصة، وحفص العابد المصيصي، والمسلم بن سعيد، وزهير، وسليمان الخواص، وسهل بن عبد الله التستري، وإبراهيم بن أحمد الخواص، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطوي ستة أيام، وكان عبد الله بن الزبير يطوي سبعة أيام، وكان أبو الجوزاء صاحب ابن عباس يطوي سبعاً. وروي أن الثوى وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثاً ثلاثاً، كل ذلك كانوا يستعينون بالجوع على طريق الآخرة.

قال بعض العلماء من طوى لله أربعين يوماً ظهرت له قدرة من الملكوت أي كوشف ببعض الأسرار الإلهية. وقد حكي أن بعض أهل هذه الطائفة مر براهب فذاكره بحاله وطمع في إسلامه وترك ما هو عليه من الغرور، فكلمه في ذلك كلامً كثيراً إلى أن قال له الراهب: إن المسيح كان يطوي أربعين يوماً وإن ذلك معجزة لا تكون إلا لنبي أو صديق، فقال له الصوفي: فإن طويت خمسين يوماً تترك ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام وتعلم أنه حق وأنلك على باطل? قال؛ نعم، فجلس لا يبرح إلا حيث يراه حتى طوى خمسين يوماً، ثم قال؛ وأزيدك أيضاً فطوى إلى تمام الستين، فتعجب الراهب منه وقال؛ ما كنت أظن أن أحداً يجاوز المسيح? فكان ذلك سبب إسلامه. وهذه درجة عظيمة قل من يبلغها إلا مكاشف محمول بمشاهدة ما قطعه عن طبعه عن طبعه وعادته استوفى نفسه في لذته وأنساه جوعته وحاجته.

الدرجة الثانية: أن يطوى يومين إلى ثلاثة وليس ذلك خارجاً عن العادة بل هو قريب يمكن الوصول إليه بالجد والمجاهدة.

الدرجة الثالثة: وهي أدناها أن يقتصر في اليوم والليلة على أكلة واحدة وهذا هو الأقل وما جاوز ذلك إسراف ومداومة للشبع حتى لا يكون له حالة جوع، وذلك فعل المترفين وهو بعيد من السنة، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي كان إذا تغدى لم يتعش وإذا تعشى لم يتغد وكان السلف يأكلون في كل يوم أكلة، وقال النبي لعائشة "إياك والسرف، فإن أكلتين في يوم من السرف، وأكلة واحدة في كل يومين إقتار، وأكلة في كل يوم قوام بين ذلك وهو المحمود في كتاب الله عز وجل.

ومن اقتصر في اليوم على أكلة واحدة فيستحب له أن يأكلها سحراً قبل طلوع الفجر فيكون أكله بعد التهجد وقبل الصبح، فيحصل له جوع النهار للصيام وجوع الليل للقيام، وخلو القلب لفراغ المعدة ورقة الفكر، واجتماع الهم وسكون النفس إلى المعلوم، فلا تنازعه قبل وقته. وفي حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما قام رسول الله قيامكم هذا قط، وإن كان ليقوم حتى تورم قدماه، وما واصل وصالكم هذا قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحر وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي يواصل إلى السحر فإن كان يلتفت قلب الصائم بعد المغرب إلى الطعام وكان ذلك يشغله عن حضور القلب في التهجد فالأولى أن يقسم طعامه نصفين، فإن كان رغيفين مثلاً أكل رغيفاً عند الفطر ورغيفاً عند السحر، لتسكن نفسه ويخف بدنه عند التهجد ولا يشتد بالنهار جوعه لأجل التسحر، فيستعين بالرغيف الأول على التهجد وبالثاني على الصوم. ومن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فلا بأس أن يأكل كل يوم فطره وقت الظهر، ويوم صومه وقت السحر، فهذه الطرق في مواقيت الأكل وتباعده وتقاربه.

الوظيفة الثالثة: في نوع الطعام وترك الإدام، وأعلى الطعام مخ البر فإن نخل فهو غاية الترفه، وأوسطه شعير منخول، وأدناه شعير لم ينخل. وأعلى الأدم اللحم والحلاوة، وأدناه الملح والخل، وأوسطه المزورات بالأدهان من غير لحم. وعادة سالكي طريق الآخرة الامتناع من الإدام على الدوام بل الامتناع عن الشهوات، فإن كل لذيذ يشتهيه الإنسان وأكله اقتضى ذلك بطراً في نفسه وقسوة في قلبه وأنساً له بلذات الدنيا حتى يألفها ويكره الموت ولقاء الله تعالى، وتصير الدنيا جنة في حقه ويكون الموت سجناً له. وإذا منع نفسه عن شهواتها وضيق عليها وحرمها لذاتها صارت الدنيا سجناً عليه ومضيقاً له فاشتهت نفسه الإفلات منها، فيكون الموت إطلاقها. وإليه الإشارة بقول يحيى ابن معاذ حيث قال: معاشر الصديقين جوعوا أنفسكم لوليمة الفردوس فإن شهوة الطعام على قدر تجويع النفس. فكل ما ذكرناه من آفات الشبع فإنه يجري في كل الشهوات وتناول اللذات فلا نطول بإعادته، فلذلك يعظم الثواب في ترك الشهوات من المباحات ويعظم الخطر في تناولها، حتى قال "شرار أمتي الذين يأكلون مخ الحنطة وهذا ليس بتحريم بل هو مباح على معنى أن من أكله مرة أو مرتين لم يعص، ومن دام عليه أيضاً فلا يعصي بتناوله، ولكن تتربى نفسه بالنعيم فتأنس بالدنيا وتألف اللذات وتسعى في طلبها فيجرها ذلك إلى المعاصي فهم شرار الأمة، لأن مخ الحنطة يقودهم إلى اقتحام أمور، تلك الأمور معاص. وقال "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسامهم وإنما همتهم ألوان الطعام وأنواع اللباس ويتشدقون في الكلام. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام اذكر أنك ساكن القبر فإن ذلك يمنعك من كثير الشهوات. وقد اشتد خوف السلف من تناول لذيذ الأطعمة وتمرين النفس عليها ورأوا أن ذلك علامة الشقاوة، ورأوا منع الله تعالى منه غاية السعادة، حتى روى أن وهب بن منبه قال: التقى ملكان في السماء الرابعة فقال أحدهما للآخر: من أين? قال: أمرت بسوق حوت من البحر اشتهاه فلان اليهودي لعنه الله، وقال الآخر: أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد. فهذا تنبيه على أن تيسير أسباب الشهوات ليس من علامات الخير. ولهذا امتنع عمر رضي الله عنه عن شربة ماء بارد بعسل وقال: اعزلوا عني حسابها. فلا عبادة لله تعالى أعظم من مخالفة النفس في الشهوات وترك اللذات - كما أوردناه في كتاب رياضة النفس- وقد روى نافع أبن ابن عمر رضي عنهما كان مريضاً فاشتهى سمكة طرية فالتمست له بالمدينة فلم توجد، ثم وجدت بعد كذا وكذا، فاشتريت له بدرهم ونصف فشويت وحملت إليه على رغيف فقام سائل على الباب فقال للغلام: لفها برغيفها وادفعها له، فقال له الغلام: أصلحك الله قد اشتهيتها منذ كذا وكذا فلم نجدها فلما وجدتها اشتريتها بدرهم ونصف، فنحن نعطيه ثمنها، فقال: لفها وادفعها إليه، ثم قال الغلام للسائل: هل لك أن تأخذ درهماً وتتركها? قال: نعم فأعطاه درهماً وأخذها وأتى بها فوضعها بين يديه وقال: قد أعطيته درهماً وأخذتها منه، فقال: لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم،فإني سمعت رسول الله يقول "أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له وقال "إذا سددت كلب الجوع برغيف وكوز من الماء القراح فعلى الدنيا وأهلها الدمار أشار إلى أن المقصود رد ألم الجوع والعطش ودفع ضررهما دون التنعم بلذات الدنيا، وبلغ عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان يأكل أنواع الطعام فقال عمر لمولى له: إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني، فأعمله فدخل عليه فقرب عشاؤه فأتوه بثريد لحم فأكل معه عمر، ثم قرب الشواء وبسط يزيد يده وكف عمر يده وقال: يا يزيد بن أبي سفيان أطعام بعد طعام? والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم. وعن يسار بن عمير قال: ما نخلت لعمر دقيقاً قط إلا وأنا له عاص. وروي أن عتبة الغلام كان يعجن دقيقه ويجففه في الشمس، ثم يأكله ويقول كسرة وملح حتى يتهيأ في الآخرة الشواء والطعام الطيب. وكان يأخذ الكوز فيغرف به من جب كان في الشمس نهاره فتقول مولاة له: يا عتبة لو أعطيتني دقيقك فخبزته لك وبردت لك الماء? فيقول لها: يا أم فلان قد شردت عني كلب الجوع.

قال شقيق ابن إبراهيم: لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة في سوق الليل - عند مولد النبي - يبكى وهو جالس بناحية من الطريق فعدلت إليه وقعدت عنده وقلت: إيش هذا البكاء يا أبا إسحق? فقال: خير، فعاودته مرة واثنتين وثلاثاً، فقال: يا شقيق استر علي فقلت يا أخي قل ما شئت، فقال لي: اشتهت نفسي منذ ثلاثين سنة سكباجاً فمنعتها جهدي، حتى إذا كان البارحة كنت جالساً وقد غلبني النعاس إذ أنا بفتى شاب بيده قدح أخضر يعلو منه بخار ورائحة سكباج، قال: فاجتمعت بهمتي عنه فقربه وقال: يا إبراهيم كل، فقلت: ما آكل قد تركته لله عز وجل، فقال لي: قد أطعمك الله كل، فما كان لي جواب إلا أني بكيت، فقال لي: كل رحمك الله، فقلت: قد أمرنا أن لا نطرح في وعائنا إلا من حيث نعلم، فقال: كل عافاك الله فإنما أعطيته، فقيل لي يا خضر اذهب بهذا وأطعمه نفس إبراهيم بن أدهم فقد رحمها الله من طول صبرها على ما يحملها من منعها. اعلم يا إبراهيم أني سمعت الملائكة يقولون: من أعطى فلم يأخذ طلب فلم يعط، فقلت: إن كان كذلك فها أنا بين يديك لأجل العقد مع الله تعالى، ثم التفت فإذا أنا بفتى آخر ناوله شيئاً وقال: يا خضر لقمه أنت، فلم يزل يلقمني حتى نعست فانتبهت وحلاوته في فمي، قال شقيق: فقلت أرني كفك، فأخذت بكفه فقبلتها وقلت: يا من يطعم الجياع الشهوات إذا صححوا المنع، يا من يقدح في الضمير اليقين، يا من يشفى قلوبهم من محبته، أترى لشقيق عندك حالاً? ثم رفعت يد إبراهيم إلى السماء وقلت: بقدر هذا الكف عندك وبقدر صاحبه وبالجود الذي وجد منك جد على عبدك الفقير إلى فضلك وإحسانك ورحمتك وإن لم يستحق ذلك، قال: فقام إبراهيم ومشى حتى أدركنا البيت.

وروي عن مالك بن دينار أنه بقي أربعين سنة يشتهي لبناً فلم يأكله. وأهدى إليه يوماً رطب فقال لأصحابه: كلوا فما ذقته منذ أربعين سنة. وقال أحمد بن أبي الحواري: اشتهى أبو سليمان الداراني رغيفاً حاراً بملح فجئت به إليه فعض منه عضة ثم طرحه وأقبل يبكي وقال: عجلت إلى شهوتي بعد إطالة جهدي واشقوتي قد عزمت على التوبة فأقلني! قال أحمد: فما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى. وقال مالك بن ضيغم مررت بالبصرة في السوق فنظرت إلى البقل فقالت لي نفسي: لو أطعمتني الليلة من هذا فأقسمت أن لا أطعمها إياه أربعين ليلة ومكث مالك بن دينار بالبصرة خمسين سنة ما أكل رطبة لأهل البصرة ولا بسرة قط وقال: يا أهل البصرة عشت فيكم خمسين سنة ما أكلت لكم رطبة ولا بسرة فما زاد فيكم ما نقص مني ولا نقص مني ما زاد فيكم. وقال: طلقت الدنيا، منذ خمسين سنة، اشتهت نفسي لبناً منذ أربعين سنة فوالله لا أطعمها حتى ألحق بالله تعالى. وقال حماد بن أبي حنيفة: أتيت داود الطائي والباب مغلق عليه فسمعته يقول: نفسي اشتهيت جزراً فأطعمتك جزراً، ثم اشتهيت تمراً فآليت أن لا تأكليه أبداً، فسلمت ودخلت فإذا وحده. ومر أبو حازم يوماً في السوق فرأى الفاكهة فاشتراها، فقال لابنه. اشتر لنا من هذه الفاكهة المقطوعة الممنوعة لعلنا نذهب إلى الفاكهة التي لا مقطوعة ولا ممنوعة، فلما اشتراها وأتى بها إليه قال لنفسه: قد خدعتيني حتى نظرت واشتهيت وغلبتيني حتى اشتريت والله لأذيقنه فبعث بها إلى يتامى من الفقراء وعن موسى الأشج أنه قال: نفسي تتشتهي ملحاً جريشاً منذ عشرين سنة. وأحمد بن خليفة قال: نفسي تشتهي منذ عشرين سنة ما طلبت مني إلا الماء حتى تروى فما أرويتها. وروي أي عتبة الغلام اشتهى لحماً سبع سنين فلما كان بعد ذلك قال استحييت من نفسي أن أدافعها منذ سبع سنين - سنة بعد سنة - فاشتريت قطعة لحم على خبز وشويتها وتركتها على رغيف فلقيت صباً فقلت، ألست أنت ابن فلان وقد مات أبوك? قال: بلى. فناولته إياها قالوا: وأقبل يبكي ويقرأ "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا" ثم لم يذقه بعد ذلك. ومكث يشتهي تمراً سنين، فلما كان ذات يوم اشترى تمراً بقيراط ورفعه إلى الليل ليفطر عليه قال: فهبت ريح شديدة حتى أظلمت الدنيا ففزع الناس فأقبل عتبة على نفسه يقول: هذا لجراءتي عليك وشرائي التمر بقيراط، ثم قال لنفسه: ما أظن أخذ الناس إلا بذنبك? على أن لا تذوقيه. واشترى داود الطائي بنصف فلس بقلاً وبفلس خلاً، وأقبل ليلته كلها يقول لنفسه. ويلك يا داود ما أطول حسابك يوم القيامة، ثم لم يأكل بعده إلا قفاراً،وقال عتبة الغلام يوماً لعبد الواحد بن زيد. إن فلاناً يصف من نفسه منزلة ما أعرفها من نفسي فقال: لأنك تأكل مع خبزك تمراً وهو لا يزيد على الخبز شيئاً قال: فإن أنا تركت أكل التمر عرفت تلك المنزلة? قال: نعم؛ وغيرها فأخذ يبكي فقال له بعض أصحابه لا أبكى الله عينك أعلى التمر تبكي? فقال عبد الواحد دعه؛ فإن نفسه قد عرفت صدق عزمه في الترك، وهو إذا ترك شيئاً لم يعاوده. وقال جعفر بن نصر: أمرني الجنيد أن أشتري له التين الوزيري، فلما اشتريته أخذ واحدة عند الفطور فوضعها في فمه ثم ألقاها وجعل يبكي، ثم قال: احمله فقلت له في ذلك فقال: هتف بي هاتف أما تستحي? تركته من أجلي ثم تعود إليه! وقال صالح المري: قلت لعطاء السلمي إني متكلف لك شيئاً فلا ترد على كرامتي، فقال: افعل ما تريد، قال: فبعثت إليه مع ابني شربة من سويق قد لتته بسمن وعسل، فقلت: لا تبرح حتى يشربها، فلما كان من الغد جعله له نحوها فردها ولم يشربها، فعاتبته ولمته على ذلك وقلت. سبحان الله رددت على كرامتي! فلما رأى وجدي لذلك قال: لا يسوءك هذا، إني قد شربتها أول مرة وقد راودت نفسي في المرة الثانية على شربها فلم أقدر على ذلك، كلما أردت ذلك ذكرت قوله تعالى "يتجرعه ولا يكاد يسيغه" الآية قال صالح: فبكيت وقلت في نفسي: أنا في واد وأنت في واد آخر. وقال السري السقطي: نفسي منذ ثلاثين سنة تطالبني أن أمس جزرة في دبس فما أطعمتها. وقال أبو بكر الجلاء. أعرف رجلاً تقول له نفسه أنا أصبر لك على طي عشرة أيام وأطعمني بعد ذلك شهوة أشتهيها، فيقول لها: لا أريد أن تطوى عشرة أيام ولكن اتركي هذه الشهوة. وروي أن عابداً دعا بعض إخوانه

فقرب إليه رغفاناً فجعل أخوه يقلب الأرغفة ليختار أجودها فقال له العابد. مه أي شيء تصنع! أما علمت أن في الرغيف الذي رغبت عنه كذا وكذا حكمة وعمل فيه كذا وكذا صانعاً، حتى استدار من السحاب الذي يحمل الماء والماء الذي يسقي الأرض والرياح والأرض والبهائم وبني آدم حتى صار إليك، ثم أنت بعد هذا تقلبه ولا ترضى به.

وفي الخبر "لا يستدير الرغيف ويوضع بين يديك حتى يعمل في ثلثمائة وستون صانعاً أولهم ميكائيل عليه السلام الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجي السحاب والشمس والقمر والأفلاك وملائكة الهواء ودواب الأرض، وآخرهم الخباز "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقال بعضهم: أتيت قاسماً الجرعي فسألته عن الزهد أي شيء هو? فقال: أي شيء سمعت فيه? فعددت أقوالاً فسكت فقلت: وأي شيء تقول أنت? فقال: اعلم أن البطن دنيا العبد فبقدر ما يملك من بطنه يملك من الزهد، وبقدر ما يملكه بطنه تملكه الدنيا وكان بشر بن الحرث قد اعتل مرة، فأتى عبد الرحمن الطبيب يسأله عن شيء يوافقه من المأكولات، فقال: تسألني فإذا وصفت لك لم تقبل مني، صف لي حتى أسمع، قال: تشرب سكنجبيناً وتمص سفرجلاً وتأكل بعد ذلك اسفيذباجا، فقال له بشر: هل تعلم شيئاً اقل من السكنجبين يقوم مقامه، قال: لا، قال: أنا أعرف، قال: ما هو? قال: الهندبا بالخل، ثم قال: أتعرف شيئاً اقل من السفرجل يقوم مقامه? قال: لا، قال أنا أعرف قال: ما هو? قال: الخرنوب الشامي، قال: فتعرف شيئاً أقل من الاسفيذباج يقوم مقامه? قال: لا، قال: أنا أعرف؛ ماء الحمص بسمن البقر في معناه، فقال له عبد الرحمن: أنت أعلم مني بالطب؛ فلم تسألني? فقد عرفت بهذا أن هؤلاء امتنعوا من الشهوات ومن الشبع من الأقوات، وكان امتناعهم للفوائد التي ذكرناها، وفي بعض الأوقات لأنهم كانوا لا يصفو لهم الحلال فلم يرخصوا لأنفسهم إلا في قدر الضرورة، والشهوات ليست من الضرورات حتى قال أبو سليمان: الملح شهوة لأنه زيادة على الخبز وما وراء الخبز شهوة. هذا هو النهاية. فمن لم يقدر على ذلك فينبغي أن لا يغفل عن نفسه ولا ينهمك في الشهوات، فكفى بالمرء إسرافاً أن يأكل كل ما يشتهيه، ويفعل كل ما يهواه فينبغي أن لا يواظب على أكل اللحم. وقال علي كرم الله وجهه من ترك اللحم أربعين يوماً ساء خلقه ومن داوم عليه أربعين يوماً قسا قلبه. وقيل أن للمداومة على اللحم ضراوة كضراوة الخمر. ومهما كان جائعاً وتاقت نفسه إلى الجماع فلا ينبغي أن يأكل ويجامع، فيعطي نفسه شهوتين فتقوى عليه، وربما طلبت النفس الأكل لينشط في الجماع. ويستحب أن لا ينام على الشبع فيجمع بين غفلتين فيعاد الفتور ويقسو قلبه لذلك، ولكن ليصل أو ليجلس فيذكر الله تعالى فإنه أقرب إلى الشكر. وفي الحديث "أذيبوا طعامكم بالذكر والصلاة ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم وأقل ذلك أن يصلي أربع ركعات أو يسبح مائة تسبيحة أو يقرأ جزءاً من القرآن عقيب أكله. فقد كان أبو سفيان الثوري إذا شبع ليلة أحياها، وإذا شبع في يوم واصله بالصلاة والذكر، وكان يقول: أشبع الزنجي وكده ومرة يقول: أشبع الحمار وكده. ومهما اشتهى شيئاً من الطعام وطيبات الفواكه فينبغي أن يترك الخبز ويأكلها بدلاً منه لتكون قوتاً، ولا تكون تفكها لئلا يجمع للنفس بين عادة وشهوة. نظر سهل إلى ابن سالم وفي يده خبز وتمر فقال له: ابدأ بالتمر فإن قامت كفايتك به وإلا أخذت من الخبز بعده بقدر حاجتك. ومهما وجد طعاماً لطيفاً وغليظاً فليقدم اللطيف فإنه لا يشتهي الغليظ بعده. ولو قدم الغليظ لأكل اللطيف أيضاً للطافته. وكان بعضهم يقول لأصحابه: لا تأكلوا الشهوات فإن أكلتموها فلا تطلبوها فإن طلبتموها فلا تحبوها، وطلب بعض أنواع الخبز شهوة. قال عبد الله ابن عمر رحمة الله عليهما: ما تأتينا من العراق فاكهة أحب إلينا من الخبز فرأى ذلك الخبز فاكهة.

وعلى الجملة لا سبيل إلى إهمال النفس في الشهوات المباحات وأتباعها بكل حال فبقدر ما يستوفي العبد من شهوته يخشى أن يقال له يوم القيامة "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها" وبقدر ما يجاهد نفسه ويترك شهوته يتمتع في الدار الآخر بشهواته. قال بعض أهل البصرة: نازعتني نفسي خبز أرز وسمكاً فمنعتها، فقويت مطالبتها واشتدت مجاهدتي لها عشرين سنة، فلما مات قال بعضهم: رأيته في المنام فقلت ماذا فعل الله بك? قال: لا أحسن أن أصف ما تلقاني به ربي من النعم والكرامات، وكان أول شيء استقبلني به خبز أرز وسمكاً. وقال: كل اليوم شهوتك هنيئاً بغير حساب. وقد قال تعالى "كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" وكانوا قد أسلفوا ترك الشهوات. ولذلك قال أبو سليمان: ترك شهوة من الشهوات أنفع للقلب من صيام سنة وقيامها. وفقنا الله لما يرضيه.

بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته

واختلاف أحوال الناس فيه

اعلم أن المطلوب الأقصى في جميع الأمور والأخلاق: الوسط، إذ خير الأمور أوساطها وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وما أوردناه في فضائل الجوع ربما يومئ إلى أن الإفراط فيه مطلوب وهيهات، ولكن من أسرار حكمة الشريعة أن كل ما يطلب الطبع فيه الطرف الأقصى وكان فيه فساد جاء الشرع بالمبالغة في المنع فيه، على وجه يومئ عند الجاهل إلى أن المطلوب مضادة ما يقتضيه الطبع بغاية الإمكان. والعالم يدرك أن المقصود الوسط، لأن الطبع إذا طلب غاية الشبع فالشرع ينبغي أن يمدح غاية الجوع، حتى يكون الطبع باعثاً والشرع مانعاً فيتقاومان ويحصل الاعتدال، فإن من يقدر على قمع الطبع بالكلية بعيد فيعلم أنه لا ينتهي إلى الغاية؛ فإنه إن أسرف مسرف في مضادة الطبع كان في الشرع أيضاً ما يدل على إساءته، كما أن الشرع بالغ في الثناء على قيام الليل وصيام النهار، ثم لما علم النبي من حال بعضهم أنه يصوم الدهر كله ويقوم الليل كله نهى عنه فإذا عرفت هذا فاعلم أن الأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة ولا يحس بألم الجوع، بل ينسى بطنه فلا يؤثر فيه الجوع أصلاً، فإن مقصود الأكل بقاء الحياة وقوة العبادة، وثقل المعدة يمنع من العبادة وألم الجوع أيضاً يشغل القلب ويمنع منها. فالمقصود أن يأكل أكلاً لا يبقى المأكول فيه أثر ليكون متشبهاً بالملائكة فإنهم مقدسون عن ثقل الطعام وألم الجوع، وغاية الإنسان الاقتداء بهم. وإذا لم يكن للإنسان خلاص من الشبع والجوع فأبعد الأحوال عن الطرفين الوسط وهو الاعتدال.

ومثال طلب الآدمي البعد عن هذه الأطراف المتقابلة بالرجوع إلى الوسط مثال نملة ألقيت في وسط حلقة محمية على النار مطروحة على الأرض، فإن النملة تهرب من حرارة الحلقة وهي محيطة بها لا تقدر على الخروج منها. فلا تزال تهرب حتى تستقر على المركز الذي هو الوسط، فلو ماتت ماتت على الوسط لأن الوسط هو أبعد المواضع عن الحرارة التي في الحلقة المحيطة: فكذلك الشهوات محيطة بالإنسان إحاطة تلك الحلقة بالنملة، والملائكة خارجون عن تلك الحلقة، ولا مطمع للإنسان في الخروج وهو يريد أن يتشبه بالملائكة في الخلاص، فأشبه أحواله بهم البعد، وأبعد الموضع عن الأطراف الوسط، فصار الوسط مطلوباً في جميع هذه الأحوال المتقابلة. وعنه عبر بقوله "خير الأمور أوساطها وإليه الإشارة بقوله تعالى "وكلوا وشربوا ولا تسرفوا" ومهما لم يحس الإنسان بجوع ولا شبع تيسرت له العبادة والفكر وخف في نفسه وقوي على العمل مع خفته، ولكن هذا بعد اعتدال الطبع.

أما في بداية الأمر إذا كانت النفس جموحاً متشوقة إلى الشهوات مائلة إلى الإفراط فالاعتدال لا ينفعها بل لا بد من المبالغة في إيلامها بالجوع، كما يبالغ في إيلام الدابة التي ليست مروضة بالجوع والضرب وغيره إلى أن تعتدل، فإذا ارتاضت واستوت ورجعت إلى الاعتدال ترك تعذيبها وإيلامها. ولأجل هذا السر يأمر الشيخ مريده بما لا يتعاطاه هو في نفسه فيأمره بالجوع وهو لا يجوع، ويمنعه الفواكه والشهوات، وقد لا يمتنع هو منها، لأنه قد فرغ من تأديب نفسه فاستغنى عن التعذيب. ولما كان أغلب أحوال النفس الشره والشهوة والجماح والامتناع عن العبادة، كان الأصلح لها الجوع الذي تحس بألمه في أكثر الأحوال لتنكسر نفسه. والمقصود أن تنكسر حتى تعتدل فترد بعد ذلك الغذاء أيضاً إلى الاعتدال. وإنما يمتنع من ملازمة الجوع من سالكي طريق الآخرة: إما صديق وإما مغرور أحمق.

أما الصديق المستقيم: فلاستقامة نفسه على الصراط المستقيم واستغنائه عن أن يساق بسياط الجوع إلى الحق. وأما المغرور: فلظنه بنفسه أنه الصديق المستغني عن تأديب نفسه الظان بها خيراً. وهذا غرور عظيم وهو الأغلب. فإن النفس قلما تتأدب تأدباً كاملاً، وكثيراً ما تغتر فتنظر إلى الصديق ومسامحته نفسه في ذلك فيسامح نفسه، كالمريض ينظر إلى من قد صح من مرضه فيتناول ما يتناوله ويظن بنفسه الصحة فيهلك. والذي يدل على أن تفسير الطعام بمقدار يسير- في وقت مخصوص ونوع مخصوص - ليس مقصوداً في نفسه - وإنما هو مجاهدة نفس متنائية عن الحق غير بالغة رتبة الكمال - أن رسول الله لم يكن له تقدير وتوقيت لطعامه.

قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وكان يدخل على أهله فيقول "هل عندكم من شيء" فإن قالوا نعم أكل وإن قالوا له قال "إني إذن صائم وكان يقدم إليه الشيء فيقول "أما إني قد أردت الصوم" ثم يأكل وخرج يوماً وقال "إني صائم" فقالت له عائشة رضي الله عنها: قد أهدي إلينا حيس فقال "كنت أردت الصوم ولكن قربيه .

ولذلك حكي عن سهل أنه قيل له: كيف كنت في بدايتك? فأخبر بضروب من الرياضات، منها: أنه كان يقتات ورق النبق مدة. ومنها: أنه أكل دقاق التين مدة ثلاث سنين، ثم ذكر أنه اقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنين فقيل له: فكيف أنت في وقتك هذا? فقال: آكل بلا حد ولا توقيت. وليس المراد بقوله بلا حد ولا توقيت: أني آكل كثيراً، بل أني لا أقدر بمقدار واحد ما آكله. وقد كان معروف الكرخي يهدى إليه طيبات الطعام فيأكل، فقيل له: إن أخاك بشراً لا يأكل مثل هذا? فقال: إن أخي بشراً قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة، ثم قال: إنما أنا ضيف في دار مولاي فإذا أطعمني أكلت وإذا جوعني صبرت، مالي والاعتراض والتمييز? ودفع إبراهيم بن أدهم إلى بعض إخوانه دراهم وقال: خذ لنا بهذه الدراهم زبداً وعسلاً وخبزاً حوار يا فقيل: يا أبا إسحاق بهذا كله? قال ويحك إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وأصلح ذات يوم طعاماً كثيراً ودعا إليه نفراً يسيراً فيهم الأوزاعي والثوري فقال له الثوري: يا أبا إسحق أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً? فقال: ليس في الطعام إسراف إنما الإسراف في اللباس والأثاث.

فالذي أخذ العلم من السماع والنقل تقليداً يرى هذا من إبراهيم بن أدهم ويسمع عن مالك بن دينار أنه قال ما دخل بيتي الملح منذ عشرين سنة. وعن سري السقطي أنه منذ أربعين سنة يشتهي أن يغمس جزرة في دبس فما فعل فيراه متناقضاً فيتحير أو يقطع بأن أحدهما مخطئ. والبصير بأسرار القول يعلم أن كل ذلك حق ولكن بالإضافة إلى اختلاف الأحوال ثم هذه الأحوال المختلفة يسمعها فطن محتاج أو غبي مغرور. فيقول المحتاط: ما أنا من جملة العارفين حتى أسامح نفسي فليس أطوع من نفس سري السقطي ومالك بن دينار، وهؤلاء من الممتنعين عن الشهوات فيقتدى بهم. والمغرور يقول: ما نفسي بأعصى علي من نفس معروف الكرخي وإبراهيم بن أدهم فاقتدى بهم وأرفع التقدير في مأكولي، فأنا أيضاً ضيف في دار مولاي فما لي وللاعتراض? ثم إنه لو قصر أحد في حقه وتوقيره أو في ماله وجاهه بطريقة واحدة قامت القيامة عليه واشتغل بالاعتراض، وهذا مجال رحب للشيطان مع الحمقى، بل رفع التقدير في الطعام والصيام وأكل الشهوات لا يسلم إلا لمن ينظر من مشكاة الولاية والنبوة، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس عن طاعة الهوى والعادة بالكلية، حتى يكون أكله إذا أكل على نية كما يكون إمساكه بنية، فيكون عاملاً لله في أكله وإفطاره، فينبغي أن يتعلم الحزم من عمر رضي الله عنه فإنه كان يرى رسول الله يحب العسل ويأكله ثم لم يقس نفسه عليه، بل لما عرضت عليه شربة باردة ممزوجة بعسل جعل يدير الإناء في يده ويقول: أشربها وتذهب حلاوتها وتبقى تبعتها. اعزلوا عني حسابها، وتركها.

وهذه الأسرار لا يجوز لشيخ أن يكاشف بها مريده بل يقتصر على مدح الجوع فقط، ولا يدعوه إلى الاعتدال فإنه يقصر لا محالة عما يدعوه إليه. فينبغي أن يدعوه إلى غاية الجوع حتى يتيسر له الاعتدال. ولا يذكر له أن العارف الكامل يستغني عن الرياضة،فإن الشيطان يجد متعلقاً من قلبه فيلقى إليه كل ساعة: إنك عارف كامل، وما الذي فاتك من المعرفة والكمال، بل كان من عادة إبراهيم الخواص أن يخوض مع المريد في كل رياضة كان يأمره بها، كيلا يخطر بباله أن الشيخ يأمره بما لم يفعل فينفره ذلك من رياضته. والقوي إذا اشتغل بالرياضة وإصلاح الغير لزمه النزول إلى حد الضعفاء تشبهاً بهم وتلطفاً في سياقتهم إلى السعادة. وهذا ابتلاء عظيم للأنبياء والأولياء وإذا كان الاعتدال خفياً في حق كل شخص فالحزم والاحتياط ينبغي أن لا يترك في كل حال. ولذلك أدب عمر رضي الله عنه ولده عبد الله إذ دخل عليه فوجده يأكل لحماً مأدوماً بسمن، فعلاه بالدرة وقال: لا أم لك كل يوماً خبزاً ولحماً، ويوماً خبزاً ولبناً، ويوماً خبزاً وسمناً، ويوماً خبزاً وزيتاً، ويوماً خبزاً وملحاً، ويوماً خبزاً قفاراً. وهذا هو الاعتدال، فأما المواظبة على اللحم والشهوات فإفراط وإسراف، ومهاجرة اللحم بالكلية إقتار. وهذا قوام بين ذلك والله تعالى أعلم.

بيان آفة الرياء المتطرق

إلى من ترك أكل الشهوات وقلل الطعام

اعلم أنه يدخل على تارك الشهوات آفتان عظيمتان هما أعظم من أكل الشهوات؛ إحداهما: أن لا تقدر النفس على ترك بعض الشهوات فتشتهيها، ولكن لا يريد أن يعرف بأنه يشتهيها فيخفي الشهوة ويأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة. وهذا هو الشرك الخفي، سئل بعض العلماء عن بعض الزهاد فسكت عنه فقيل له: هل تعلم به بأساً? قال يأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة. وهذه آفة عظيمة، بل حق العبد إذا ابتلى بالشهوات وحبها أن يظهرها فإن هذا صدق الحال، وهو بدل عن فوات المجاهدات بالأعمال، فإن إخفاء النقص وإظهار ضده من الكمال هو نقصانان متضاعفان، والكذب مع الإخفاء كذبان، فيكون مستحقاً ولا يرضى منه إلا بتوبتين صادقتين. ولذلك شدد أمر المنافقين فقال تعالى "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" لأن الكافر كفر وأظهر وهذا كفر وستر، فكان ستره لكفره كفراً آخر لأنه استخف بنظر الله سبحانه وتعالى إلى قلبه وعظم نظر المخلوقين فمحا الكفر عن ظاهره. والعارفون يبتلون بالشهوات بل بالمعاصي ولا يبتلون بالرياء والغش والإخفاء. بل كمال العارف أن يترك الشهوات لله تعالى ويظهر من نفسه الشهوة إسقاطاً لمنزلته من قلوب الخلق. وكان بعضهم يشتري الشهوات ويعلقها في البيت وهو فيها من الزاهدين، وإنما يقصد به تلبيس حاله ليصرف عن نفسه قلوب الغافلين حتى لا يشوشون عليه حاله.

فنهاية الزهد: الزهد في الزهد بإظهار ضده وهذا عمل الصديقين. فإنه جمع بين صدقين كما أن الأول جمع بين كذبين. وهذا قد حمل على النفس ثقلين وجرعها كأس الصبر مرتين مرة بشربه ومرة برميه؛ فلا جرم أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا. وهذا يضاهي طريق من يعطي جهراً فيأخذ ويرد سراً ليكسر نفسه بالذل جهراً وبالفقر سراً. فمن فاته هذا فلا ينبغي أن يفوته إظهار شهوته ونقصانه والصدق فيه. ولا ينبغي أن يغره قول الشيطان: إنك إذا أظهرت اقتدى بك غيرك فاستره إصلاحاً لغيرك، فإنه لو قصد إصلاح غيره لكان إصلاح نفسه أهم عليه من غيره. فهذا إنما يقصد الرياء المجرد ويروجه الشيطان عليه في معرض إصلاح غيره، فلذلك ثقل عليه ظهور ذلك منه واعلم أن من اطلع عليه ليس يقتدى به في الفعل أو لا ينزجر باعتقاده أنه تارك للشهوات.

الآفة الثانية: أن يقدر على ترك الشهوات لكنه يفرح أن يعرف به فيشتهر بالتعفف عن الشهوات، فقد خالف شهوة ضعيفة وهي شهوة الأكل وأطاع شهوة هي شر منها وهي شهوة الجاه، وتلك هي الشهوة الخفية فمهما أحس بذلك من نفسه فكسر هذه الشهوة آكد من كسر شهوة الطعام فليأكل فهو أولى له. قال أبو سليمان: إذا قدمت إليك شهوة وقد كنت تاركاً لها فأصب منها شيئاً يسيراً ولا تعط نفسك مناها، فنكون قد أسقطت عن نفسك الشهوة وتكون قد نغصت عليها إذ لم تعطها شهوتها. وقال محمد بن جعفر الصادق: إذا قدمت إلى شهوة نظرت إلى نفسي فإن هي أظهرت شهوتها أطعمتها منها وكان ذلك أفضل من منعها، وإن أخفت شهوتها وأظهرت العزوب عنها عاقبتها بالترك ولم أنلها منها شيئاً، وهذا طريق في عقوبة النفس على هذه الشهوة الخفية.

وبالجملة من ترك شهوة الطعام ووقع في شهوة الرياء كان كمن هرب من عقرب وفزع إلى حية؛ لأن شهوة الرياء أضر كثيراً من شهوة الطعام والله ولي التوفيق.

القول في شهوة الفرج

اعلم أن شهوة الوقاع سلطت على الإنسان لفائدتين؛ إحداهما: أن يدرك لذته فيقيس به لذات الآخرة. فإن لذة الوقاع لو دامت لكانت أقوى لذات الأجساد، كما أن النار وآلامها أعظم آلام الجسد. والترغيب والترهيب يسوق الناس إلى سعادتهم وليس ذلك إلا بألم محسوس ولذة محسوسة مدركة، فإن ما لا يدرك بالذوق لا يعظم إليه الشوق.

الفائدة الثانية: بقاء النسل ودوام الوجود فهذه فائدتها. ولكن فيها من الآفات ما يهلك الدين والدنيا إن لم تضبط ولم تقهر ولم ترد إلى حد الاعتدال. وقد قيل في تأويل قوله تعالى "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" معناه شدة الغلبة، وعن ابن عباس: في قوله تعالى "ومن شر غاسق إذا وقب" قال: هو قيام الذكر. وقد أسنده بعض الرواة إلى رسول الله إلا أنه قال في تفسيره: الذكر إذا دخل. وقد قيل: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله . وكان يقول في دعائه "اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وهني ومني وقال عليه السلام "النساء حبائل الشيطان ولولا هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال .

روي أن موسى عليه السلام كان جالساً في بعض مجالسه إذا أقبل إليه إبليس وعليه برنس يتلون فيه ألواناً؛ فلما دنا منه خلع البرنس فوضعه، ثم أتاه فقال: السلام عليك يا موسى، فقال له موسى من أنت? فقال: أنا إبليس، فقال: لا حياك الله ما جاء بك? قال: جئت أسلم عليك لمنزلتك من الله ومكانتك منه، قال: فما الذي رأيت عليك? قال: برنس أختطف به قلوب بني آدم قال: فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله ونسي ذنوبه، وأحذرك ثلاثاً: لا تخل بامرأة لا تحل لك فإن ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها وأفتنها به، ولا تعاهد الله عهداً إلا وفيت به، ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتها فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء بها. ثم ولى وهو يقول: علم موسى ما يحذر به بني آدم. وعن سعيد بن المسيب قال: ما بعث الله نبياً فيما خلا إلا لم ييأس إبليس أن يهلكه بالنساء ولا شيء أخوف عندي منهن، وما بالمدينة بيت أدخله إلا بيتي وبيت ابنتي أغتسل فيه يوم الجمعة ثم أروح. وقال بعضهم: إن الشيطان يقول للمرأة أنت نصف جندي وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطئ، وأنت موضع سري وأنت رسولي في حاجتي. فنصف جنده الشهوة ونصف جنده الغضب.

وأعظم الشهوات شهوة النساء. وهذه الشهوة أيضاً لها إفراط وتفريط واعتدال، فالإفراط: ما يقهر العقل حتى يصرف همة الرجال إلى الاستمتاع بالنساء والجواري، فيحرم عن سلوك طريق الآخرة أو يقهر الدين حتى يجر إلى اقتحام الفواحش. وقد ينتهي إفراطها بطائفة إلى أمرين شنيعين: أحدهما: أن يتناولوا ما يقوى شهواتهم على الاستكثار من الوقاع -كما قد يتناول بعض الناس أودية تقوى المعدة لتعظم شهوة الطعام- وما مثال ذلك إلا كمن ابتلى بسباع ضارية وحيات عادية فتنام عنه في بعض الأوقات فيحتال لإثارتها وتهييجها ثم يشتغل بإصلاحها وعلاجها، فإن شهوة الطعام والوقاع على التحقيق آلام يريد الإنسان الخلاص منها فيدرك لذة بسبب الخلاص.

فإن قلت فقد روى في غريب الحديث أن رسول الله قال "شكوت إلى جبرائيل ضعف الوقاع فأمرني بأكل الهريسة ? فاعلم أنه كان تحته تسع نسوة ووجب عليه تحصينهن بالإمتاع، وحرم على غيره نكاحهن وإن طلقهن، فكان طلبه القوة لهذا لا للتمتع.

والأمر الثاني: أنه قد تنتهي هذه الشهوة ببعض الضلال إلى العشق وهو غاية الجهل بما وضع له الوقاع، وهو مجاوزة في البهيمية لحد البهائم لأن المتعشق ليس يقنع بإراقة شهوة الوقاع وهي أقبح الشهوات وأجدرها أن يستحيي منه حتى أعتقد أن الشهوة لا تنقضي إلا من محل واحد، والبهيمة تقضي الشهوة أين اتفق فتكتفي به? وهذا لا يكتفي إلا بشخص واحد معين حتى يزداد به ذلاً إلى ذل وعبودية إلى عبودية، وحتى يستسخر العقل لخدمة الشهوة وقد خلق ليكون مطاعاً لا ليكون خادماً للشهوة ومحتالاً لأجلها وما العشق إلا سعة إفراط الشهوة وهو مرض قلب فارع لا هم له. وإنما يجب الاحتراز من أوائله بترك معاودة النظر والفكر، وإلا فإذا استحكم عسر دفعه. فكذلك عشق المال والجاه والعقار والأولاد حتى حب اللعب بالطيور والنرد والشطرنج، فإن هذه الأمور قد تستولي على طائفة بحيث تنغص عليهم الدين والدنيا ولا يصبرون عنها البتة.

ومثال من يكثر سورة العشق في أول انبعاثه مثال من يصرف عنان الدابة عند توجهها إلى باب لتدخله، وما أهون منعها بصرف عنانها. ومثال من يعالجها بعد استحكامها مثال من يترك الدابة حتى تدخل وتجاوز الباب ثم يأخذ بذنبها ويجرها إلى ورائها. وما أعظم التفاوت بين الأمرين في اليسر والعسر، فليكن الاحتياط في بدايات الأمور فأما في أواخرها فلا تقبل العلاج إلا بجهد جهيد يكاد يؤدي إلى نزع الروح.

فإذن إفراط الشهوة أن يغلب العقل إلى هذا الحد وهو مذموم جداً. وتفريطها: بالعفة أو بالضعف عن إمتاع المنكوحة، وهو أيضاً مذموم. وإنما المحمود أن تكون معتدلة ومطيعة للعقل والشرع في انقباضها وانبساطها. ومهما أفرطت فكسرها بالجوع والنكاح قال "معاشر الشباب عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فالصوم له وجاء .

بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله

اعلم أن المريد في ابتداء أمره ينبغي أن لا يشغل نفسه بالتزويج فإن ذلك شغل شاغل يمنعه من السلوك ويستجره إلى الأنس بالزوجة. ومن أنس بغير الله تعالى شغل عن الله ولا يغرنه كثرة نكاح رسول الله فإنه كان لا يشغل قلبه جميع ما في الدنيا عن الله تعالى فلا تقاس الملائكة بالحدادين. ولذلك قال أبو سليمان الداراني: من تزوج فقد ركن إلى الدنيا? وقال: ما رأيت مريداً تزوج فثبت على حاله الأول. وقيل له مرة: ما أحوجك إلى امرأة تأنس بها? فقال: لا آنسني الله بها، أي أن الأنس بها يمنع الأنس بالله تعالى، وقال أيضاً: كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشؤوم. فكيف يقاس غير رسول الله به? وقد كان استغراقه بحب الله تعالى بحيث كان يجد احتراقه فيه إلى حد كان يخشى منه في بعض الأحوال أن يسري ذلك إلى قالبه فيهدمه. ولذلك كان يضرب بيده على فخذ عائشة أحياناً ويقول "كلميني يا عائشة" لتشغله بكلامها عن عظيم ما هو فيه لقصور طاقة قالبه عنه فقد كان طبعه الأنس بالله عز وجل، وكان أنسه بالخلق عارضاً رفقاً ببدنه، ثم إنه كان لا يطيق الصبر مع الخلق إذا جالسهم فإذا ضاق صدره قال "أرحنا بها يا بلال حتى يعود إلى ما هو قرة عينه فالضعيف إذا لاحظ أحواله في مثل هذه الأمور فهو مغرور لأن الأفهام تقصر عن الوقوف على أسرار أفعاله . فشرط المريد العزبة في الابتداء إلى أن يقوى في المعرفة، هذا إذا لم تغلبه الشهوة فإن غلبته الشهوة فليكسرها بالجوع الطويل والصوم الدائم، فإن لم تنقمع الشهوة بذلك وكان بحيث لا يقدر على حفظ العين مثلاً وإن قدر على حفظ الفرج فالنكاح له أولى لتسكن الشهوة، وإلا فمهما لم يحفظ عينه لم يحفظ عليه فكره يوتفرق عليه همه، وربما وقع في بلية لا يطيقها. وزنا العين من كبائر الصغائر وهو يؤدي إلى القرب على الكبيرة الفاحشة وهي زنا الفرج. ومن لم يقدر على غض بصره لم يقدر على حفظ فرجه. قال عيسى عليه السلام: إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة. وقال سعيد بن جبير: إنما جاءت الفتنة لداود عليه السلام من قبل النظرة. ولذلك قال لابنه عليه السلام: يا بني امش خلف الأسد والأسود ولا تمش خلف المرأة وقيل ليحيى عليه السلام: ما بدء الزنا? قال: النظر والتمني. وقال الفضيل: يقول إبليس هو قوسي القديمة وسهمي الذي لا أخطئ به يعني النظر. وقال رسول الله "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها خوفاً من الله تعالى أعطاه الله تعالى إيماناً يجد حلاوته في قلبه وقال "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وقال "اتقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من قبل النساء وقال تعالى "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" الآية وقال عليه السلام "لكل ابن آدم حظ من الزنا فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والفم يزني وزناه القبلة، والقلب يهم أو يتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه وقالت أم سلمة: استأذن ابن أم مكتوم الأعمى على رسول الله وأنا وميمونة جالستان، فقال عليه السلام "احتجبا" فقلنا: أوليس بأعمى لا يبصر? فقال "وأنتما لا تبصرانه? وهذا يدل على أنه لا يجوز للنساء مجالسة العميان كما جرت به العادة في المآتم والولائم، فيحرم على الأعمى الخلوة بالنساء، ويحرم على المرأة مجالسة الأعمى وتحديث النظر إليه لغير حاجة، وإنما جوز للنساء محادثة الرجال والنظر إليهم لأجل عموم الحاجة، وإن قدر على حفظ عينه عن النساء ولم يقدر على حفظها عن الصبيان فالنكاح أولى به، فإن الشر في الصبيان أكثر، فإنه لو مال قلبه إلى امرأة أمكنه الوصول إلى استباحتها بالنكاح. والنظر إلى وجه الصبي بالشهوة حرام، بل كل من يتأثر قلبه بجمال صورة الأمرد بحيث يدرك التفرقة بينه وبين الملتحي لم يحل له النظر إليه.

فإن قلت: كل ذي حس يدرك التفرقة بين الجميل والقبيح لا محالة ولم تزل وجوه الصبان مكشوفة? فأقول لست أعني تفرقة العين فقط، بل ينبغي أن يكون إدراكه التفرقة كإدراكه التفرقة بين شجرة خضراء وأخرى يابسة، وبين ماء صاف وماء كدر، وبين شجرة عليها أزهارها وأنوارها وشجرة تساقطت أوراقها، فإنه يميل إلى إحداهما بعينه وطبعه ولكن ميلاً خالياً عن الشهوة، ولأجل ذلك لا يشتهي ملامسة الأزهار والأنوار وتقبيلها، ولا تقبيل الماء الصافي، وكذلك الشيبة الحسنة قد تميل العين إليها وتدرك التفرقة بينها وبين الوجه القبيح ولكنها تفرقة لا شهوة فيها. ويعرف ذلك بميل النفس إلى القرب والملامسة. فمهما وجد ذلك الميل في قلبه وأدرك تفرقة بين الوجه الجيل وبين النبات الحسن والأثواب المنقشة والسقوف المذهبة فنظره نظر شهوة فهو حرام، وهذا مما يتهاون به الناس ويجرهم ذلك إلى المعاطب وهم لا يشعرون.

قال بعض التابعين ما أنا بأخوف من السبع الضاري على الشاب الناسك من غلام أمرد يجلس إليه. وقال سفيان: لو أن رجلاً عبث بغلام بين إصبعين من أصابع رجله يريد الشهوة لكان لواطاً. وعن بعض السلف قال: سيكون في هذه الأمة ثلاثة أصناف لوطيون: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون.

فإذن آفة النظر إلى الأحداث عظيمة، فمهما عجز المريد عن غض بصره وضبط فكره فالصواب له أن يكسر شهوته بالنكاح، فرب نفس لا يسكن توقانها بالجوع.

وقال بعضهم: غلبت على شهوتي في بدء إرادتي بما لم أطق فأكثرت الضجيج إلى الله تعالى فرأيت شخصاً في المنام فقال: مالك? فشكوت إليه فقال: تقدم إلي، فتقدمت إليه فوضع يده على صدري فوجدت بردها في فؤادي وجميع جسدي، فأصبحت وقد زال ما بي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني ذلك فأكثرت الاستغاثة فأتاني شخص في المنام فقال لي: أتحب أن يذهب ما تجده وأضرب عنقك? قلت: نعم، فقال: مد رقبتك، فمددتها فجرد سيفاً من نور فضرب به عنقي فأصبح وقد زال ما بي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني ذلك أو أشد منه فرأيت كأن شخصاً فيما بين جنبي وصدري يخاطبني ويقول: ويحك كم تسأل الله تعالى رفع ما لا يحب رفعه? قال: فتزوجت فانقطع ذلك عني وولد لي.

ومهما احتاج المريد إلى النكاح فلا ينبغي أن يترك شرط الإرادة في ابتداء النكاح ودوامه، أما في ابتدائه فبالنية الحسنة، وفي دوامه بحسن الخلق وسداد السيرة والقيام بالحقوق الواجبة -كما فصلنا جميع ذلك في كتاب آداب النكاح فلا نطول بإعادته- وعلامة صدق إرادته أن ينكح فقيرة متدينة ولا يطلب الغنية. قال بعضهم: من تزوج غنية كان له منها خمس خصال، مغالاة الصداق، وتسويف الزفاف، وفوت الخدمة، وكثرة النفقة. وإذا أراد طلاقها لم يقدر خوفاً على ذهاب مالها. والفقيرة بخلاف ذلك. وقال بعضهم: ينبغي أن تكون المرأة دون الرجل بأربع وإلا استحقرته: بالسن، والطول، والمال، والحسب، وأن تكون فوقه بأربع: بالجمال، والأدب، والورع والخلق وعلامة صدق الإرادة في دوام النكاح الخلق.

تزوج بعض المريدين بامرأة فلم يزل يخدمها حتى استحيت المرأة وشكت ذلك إلى أبيها وقالت: قد تحيرت في هذا الرجل أنا في منزله منذ سنين ما ذهبت إلى الخلاء قط إلى وحمل الماء قبلي إليه? وتزوج بعضهم امرأة ذات جمال فلما قرب زفافها أصابها الجدري فاشتد حزن أهلها لذلك خوفاً من أن يستحقبحها، فأراهم الرجل أنه قد أصابه رمد، ثم اراهم أن بصره قد ذهب حتى زفت إليه فزال عنهم الحزن، فبقيت عنده عشرين سنة ثم توفيت ففتح عينيه حين ذلك، فقيل له في ذلك فقال تعمدته لأجل أهلها حتى لا يحزنوا، فقيل له: قد سبقت إخوانك بهذا الخلق. وتزوج بعض الصوفية امرأة سيئة الخلق فكان يصبر عليها فقيل له: لم لا تطلقها? فقال: أخشى أن يتزوجها من لا يصبر عليها فيتأذى بها، فإن تزوج المريد فهكذا ينبغي أن يكون، وإن قدر على الترك فهو أولى له، إذ لم يمكنه الجمع بين فضل النكاح وسلوك الطريق وعلم أن ذلك يشغله عن حاله، كما روي أن محمد بن سليمان الهاشمي كان يملك من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم، فكتب إلى أهل البصرة وعلمائها في امرأة يتزوجها فأجمعوا كلهم على رابعة العدوية رحمها الله تعالى فكتب إليها: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الله تعالى قد ملكني من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم، وليس تمضي الأيام والليالي حتى أتمها مائة ألف وأنا أصير لك مثلها ومثلها فأجيبيني. فكتبت إليه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فإذا أتاك كتابي هذا فهيئ زادك وقدم لمعادك وكن وصي نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك ليقتسموا تراثك؛ فصم الدهر وليكن فطرك الموت. وأما أنا فلو أن الله تعالى خولني أمثال الذي خولك وأضعافه ما سرني أن أشتغل عن الله طرفة عين.

وهذه إشارة إلى أن كل ما يشغل عن الله تعالى فهو نقصان، فلينظر المريد إلى حاله وقلبه فإن وجده في العزوبة فهو الأقرب، وإن عجز عن ذلك فالنكاح أولى به. ودواء هذه العلة ثلاثة أمور: الجوع، وغض البصر، والاشتغال بشغل يستولي على القلب. فإن لم تنفع هذه الثلاثة فالنكاح هو الذي يستأصل مادتها فقط. ولهذا كان السلف يبادرون إلى النكاح وإلى تزويج البنات، قال سعيد بن المسيب ما أيس إبليس من أحد إلا وأتاه من قبل النساء، وقال سعيد أيضاً -وهو ابن أربع وثمانين سنة، وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى- ما شيء أخوف عندي من النساء، وعن عبد الله بن أبي وداعة قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب فتفقدني أياماً فلما أتيته قال أين كنت? قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها? قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة? فقلت: يرحمك الله تعالى ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة? فقال: أنا، فقلت: وتفعل? قال: نعم، فحمد الله تعالى وصلى النبي وزوجني على درهمين -أو قال ثلاثة- قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح? فصرت إلى منزلي وجعلت أفكر ممن آخذ وممن أستدين فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي فأسرجت، وكنت صائماً فقدمت عشائي لأفطر -وكان خبزاً وزيتاً- وإذا بابي يقرع فقلت: من هذا? قال: سعيد، قال: فأفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب -وذلك أنه لم ير أربعين سنة إلا بين داره والمسجد- قال: فخرجت إليه فإذا به سعيد بن المسيب فظنت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد لو أرسلت إلي لأتيتك? فقال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمر? قال: إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك، وهذه امرأتك، وإذا هي قائمة خلفه في طوله في أخذ بيدها فدفعها في الباب ورده فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب ثم تقدمت إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت فوضعتها في ظل السراج لكيلا تراه؛ ثم صعدت السطح فرميت الجيران فجاءوني وقالوا: ما شأنك? قتل: ويحكم زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم وقد جاء بها الليلة على غفلة فقالوا: أو سعيد زوجك? قلت: نعم؛ قالوا وهي في الدار? قلت: نعم، فنزلوا إليها وبلغ ذلك أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام؛ قال: فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها؛ فإذا هي من أجمل النساء وأحفظ الناس لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله وأعرفهم بحق الزوج? قال: فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه؛ فلما كان بعد الشهر أتيته وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تفرق الناس من المجلس، فقال: ما حال ذلك الإنسان? فقلت: بخير يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك منه أمر فدونك والعصا فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم. قال عبد الله بن سليمان: وكانت بنت سعيد بن المسيب هذه قد خطبها منه عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف. فاستعجال سعيد في الزفاف تلك الليلة يعرفك غائلة الشهوة ووجوب المبادرة في الدين إلى تطفئة نارها بالنكاح رضي الله تعالى عنه ورحمه.

بيان فضيلة من يخالف شهوة الفرج والعين

اعلم أن هذه الشهوة هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل، إلا أن مقتضاها قبيح يستحيا منه ويخشى من اقتحامه، وامتناع أكثر الناس عن مقتضاها إما لعجز أو لخوف أو لحياء أو لمحافظة على جسمه، وليس في شيء من ذلك ثواب فإنه إيثار حظ من حظوظ النفس على حظ آخر. نعم من العصمة أن لا يقدر ففي هذه العوائق فائدة وهي دفع الإثم، فإن من ترك الزنا اندفع عنه إثمه بأي سبب كان تركه? وإنما الفضل والثواب الجزيل في تركه خوفاً من الله تعالى مع القدرة وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب، لا سيما عند صدق الشهوة وهذه درجة الصديقين. ولذلك قال "من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد وقال عليه السلام "سبعة يظلمهم الله يوم القيامة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله -وعد منهم" رجل دعته امرأة ذات جمال وحسب إلى نفسها فقال إني أخاف الله رب العالمين وقصة يوسف عليه السلام وامتناعه من زليخا مع القدرة ومع رغبتها معروفة، وقد أثنى الله تعالى عليه بذلك في كتابه العزيز، وهو إمام لكل من وفق لمجاهدة الشيطان في هذه الشهوة العظيمة.

وروي أن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجهاً فدخلت عليه امرأة فسألته نفسه فامتنع عليها وخرج هارباً من منزله وتركها فيه. قال سليمان: فرأيت تلك الليلة في المنام يوسف عليه السلام وكأني أقول له أنت يوسف? قال: نعم أنا يوسف الذي هممت وأنت سليمان الذي لم تهم أشار إلى قوله تعالى "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه" وعنه أيضاً ما هو أعجب من هذا. وذلك أنه خرج من المدينة حاجاً ومعه رفيق له حتى نزلا بالأبواء فقام رفيقه وأخذ السفرة وانطلق إلى السوق ليبتاع شيئاً، وجلس سليمان في الخيمة وكان من أجمل الناس وجهاً وأورعهم، فبصرت به أعرابية من قلة الجبل وانحدرت إليه حتى وقفت بين يديه -وعليها البرقع والقفازان- فأسفرت عن وجه لها كأنه فلقة قمر وقالت أهنئني؛ فظن أنها تريد طعاماً فقام إلى فضلة السفرة ليعطيها فقالت: لست أريد هذا إنما أريد ما يكون من الرجل إلى أهله? فقال: جهزك إبليس? ثم وضع رأسه بين ركبتيه وأخذ في النحيب فلم يزل يبكي فلما رأت منه ذلك سدلت البرقع على وجهها وانصرفت راجعة حتى بلغت أهلها. وجاء رفيقه فرآه وقد انتفخت عيناه من البكاء وانقطع حلقه فقال ما يبكيك? قال: خير ذكرت صبيتي. قال: لا والله إلا أن لك قصة إنما عهدك بصبيتك منذ ثلاث أو نحوها، فلم يزل به حتى أخبره خبر الأعرابية، فوضع رفيقه السفرة وجعل يبكي بكاء شديداً فقال سليمان: وأنت ما يبكيك? قال: أنا أحق بالبكاء منك لأني أخشى أن لو كنت مكانك لما صبرت عنها، فلم يزالا يبكيان، فلما انتهى سليمان إلى مكة فسعى وطاف ثم أتى الحجر، فاحتبى بثوبه فأخذته عينه فنام وإذا رجل وسيم طوال له شارة حسنة ورائحة طيبة فقال له سليمان: رحمك الله من أنت? قال له: أنا يوسف، قال: يوسف الصديق? قال: نعم، قال: إن في شأنك وشأن امرأة العزيز لعبجا! فقال له يوسف: شأنك وشأن صاحبة الأبواء أعجب.

وروي عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله يقول "انطلق ثلاثة نفر مما كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوا فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم فقال رجل منهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ومالاً، فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبية يتضاغون حول قدمي فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه. وقال الآخر: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي من أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك ففرج عنها ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة عنهم غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم إن استأجرت أجراء وأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد فإنه ترك الأجر الذي له وذهب فنميت له أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أعطني أجري، فقلت كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق؛ فقال يا عبد الله أتهزأ بي? فقلت: لا أستهزئ بك فخذه، فاستاقه وأخذه كله ولم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون .

فهذا فضل من تمكن من قضاء هذه الشهوة فعف وقريب منه من تمكن من قضاء شهوة العين، فإن العين مبدأ الزنا فحفظها مهم، وهو عسر من حيث إنه قد يستهان به ولا يعظم الخوف منه والآفات كلها منه تنشأ. والنظرة الأولى إذا لم تقصد لا يؤاخذ بها والمعاودة يؤاخذ بها قال "لك الأولى وعليك الثانية أي النظرة. وقال العلاء بن زياد. لا تتبع بصرك رداء المرأة فإن النظر يزرع في القلب شهوة، وقلما يخلو الإنسان في ترداده عن وقوع البصر على النساء والصبيان. فمهما تخايل إليه الحسن تقاضى الطبع المعاودة وعنده ينبغي أن يقرر في نفسه هذه المعاودة عين الجهل، فإنه إن حقق النظر فاستحسن ثارت الشهوة وعجز عن الوصول فلا يحصل له إلا التحسر، وإن استقبح لم يلتذ وتألم لأنه قصد الالتذاذ فقد فعل ما آلمه، فلا يخلو في كلتا حالتيه عن معصية وعن تألم وعن تحسر. ومهما حفظ العين بهذا الطريق اندفع عن قلبه كثير من الآفات، فإن أخطأت عينه وحفظ الفرج مع التمكن فذلك يستدعي غاية القوة ونهاية التوفيق. فقد روي عن أبي بكر بن عبد الله المزني: أن قصاباً أولع بجارية لبعض جيرانه فأرسلها أهلها في حاجة لهم إلى قرية أخرى فتبعها وراودها عن نفسها فقالت له: لا تفعل لأنا أشد حباً لك منك لي ولكني أخاف الله، قال: فأنت تخافينه وأنا لا أخافه! فرجع تائباً فأصابه العطش حتى كاد يهلك فإذا برسول لبعض أنبياء بني إسرائيل فسأله فقال: مالك? قال: العطش، قال: تعال حتى ندعو الله بأن تظلنا سحابة حتى ندخل القرية، قال: ما لي من عمل صالح فأدعوا، فادع أنت، قال: أنا أدعو وأمن أنت على دعائي فدعا الرسول وأمن هو فأظلتهما سحابة حتى انتهيا إلى القرية، فأخذ القصاب إلى مكانه فمالت السحابة معه فقال له الرسول : زعمت أن ليس لك عمل صالح وأنا الذي دعوت وأنت الذي أمنت فأظلتنا سحابة ثم تبعتك، لتخبرني بأمرك، فأخبره فقال الرسم: إن التائب عند الله تعالى بمكان ليس أحد من الناس بمكانه. وعن أحمد بن سعيد العابد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب متعبد لازم المسجد الجامع لا يكاد يفارقه، وكان حسن الوجه حسن القامة حسن السمت، فنظرت غليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به وطال عليها ذلك، فلما كان ذات يوم وقفت له الطريق وهو يريد المسجد فقالت له: يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها ثم اعمل ما شئت، فمضى ولم يكلمها، ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله فقالت له: يا فتي اسمع مني كلمات أكلمك بها، فأطرق ملياً وقال لها: هذا موقف تهمة وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعاً، فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في مثل هذا الأمر بنفسي لمعرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم معاشر العباد على مثال القوارير أدني شيء يعيبها، وجملة ما أقول لك إن جوارحي كلها مشغولة بك ف في أمري وأمرك، قال: فمضى الشاب إلى منزله وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي! فأخذ قرطاساً وكتب كتاباً ثم خرج من منزله وإذا بالمرأة واقفة في موضعها فألقى الكتاب إليها ورجع إلى منزله، وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم اعلمي أيتها المرأة أن الله عز وجل إذا عصاه العبد حلم فإذا عادة إلى المعصية مرة أخرى ستره، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضق منها السموات والأرض والجبال والشجر والدواب فمن ذا يطيق غضبه، فإن كان ما ذكرت باطلاً فإني أذكرك يوماً تكون السماء فيه كالمهل وتصير الجبال كالعهن وتجثوا الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف بإصلاح غيري? وإن كان ما ذكرت حقاً فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة والأوجاع المرمضة ذلك الله رب العالمين فاقصديه بصدق المسألة فإني مشغول عنك بقوله تعالى "وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" فأين المهرب من هذه الآية? ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله كيلا يراها فقالت: يا فتى لا ترجع فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبداً إلا غداً بين يدي الله تعالى، ثم بكت بكاء شديداً وقالت: اسأل لك الله الذي بيده مفاتيح

قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك، ثم إنها تبعته وقالت: امنن علي بموعظة أحملها عنك وأوصني بوصية أعمل عليها، فقال لها: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك وأذكرك قوله تعالى "وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار" قال: فأطرقت وبكت بكاء شديداً أشد من بكائها الأول، ثم إنها أفاقت ولزمت بيتها وأخذت في العبادة فلم تزل على ذلك حتى ماتت كمداً، فكان الفتى يذكرها بعد موتها ثم يبكي، فيقال له: مما بكاؤك وأنت قد أيأستها من نفسك? فيقول: إني قد ذبحت طمعها في أول أمرها وجعلت قطيعتها ذخيرة لي عند الله تعالى فأنا أستحي منه أن أسترد ذخيرة ادخرتها عنده تعالى.

تم كتاب كسر الشهوتين بحمد الله تعالى وكرمه. يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب آفات اللسان، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلاته على سيدنا محمد خير خلقه وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وسلم تسليماً كثيراً.


هامش

  1. قال الألباني في السلسلة الضعيفة:باطل لا أصل له
  2. قال السبكي الإبن في طبقات الشافعية الكبرى: لم أجد له اسنادا، وقال العراقي في تخريج الاحياء: لم أجده
  3. قال المحدث العراقي في تخريج الإحياء: لم أجد له أصلا
  4. قال السبكي الإبن في طبقات الشافعية الكبري: لم أجد له أسنادا وقال العراقي في تخريج الإحياء: لم أجد له أصلا
  5. 5٫0 5٫1 قال العراقي في تخريج الإحياء: لم أجد له أصلا
  6. قال الألباني في السلسلة الضعيقة: لا أصل له
  7. لا توجد نتائج لتخريج هذا الحديث
  8. قال العراقي في تخريج الإحياء: لم أقف له على أصل
  9. قال محمد جار الله الصعدي في النوافح العطرة: حسن
  10. قال العراقي في تخريج الإحياء : فيه حباب بن عبد الله بن جبلة أحد الكذابين وفيه من لا يعرف وهو منقطع أيضا
  11. قال السبكي (الابن) في طبقات الشافعية الكبرى : لم أجد له إسنادا وقال العراقي في تخريج الإحياء : إسناده ضعيف
  12. قال العراقي في تخريج الإحياء: لم أجده
  13. عدة احاديث موجودة بهذا المعنى منها حديث عبدالله بن عمر في صحيح البخاري: إن المؤمن يأكل في معى واحد ، وإن الكافر ، أو المنافق - فلا أدري أيهما قال عبيد الله - يأكل في سبعة أمعاء. خلاصة الدرجة: صحيح . وفي صحيح مسلم: المؤمن يأكل في معي واحد. والكافر يأكل في سبعة أمعاء. والراوي عبدالله بن عمر رضى الله عنهما