إرشاد الفحول - الجزء الأول2

الفصل الرابع في المعرب هل هو موجود في القرآن أم لا والمراد به ما كان موضوعاً لمعنى عند غير العرب ثم استعملته العرب في ذلك المعنى كإسماعيل وإبراهيم ويعقوب ونحوها ومثل هذا لا ينبغي أن يقع فيه خلاف والعجب ممن نفاه ، وقد حكى ابن الحاجب وشراح كتابه النفي لوجوده عن الأكثرين ولم يتمسكوا بشيء سوى تجويز أن يكون ما وجد في القرآن من المعرب مما اتفق فيه اللغتان العربية والعجمية وما أبعد هذا التجويز ولو كان يقوم بمثله الحجة في مواطن الخلاف لقال من شاء ما شاء بمجرد التجويز وتطرق المبطلون إلى دفع الأدلة الصحيحة بمجرد الاحتمالات البعيدة واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله وقد أجمع أهل العربية على أن العجمة علة من العلل المانعة للصرف في كثير من الأسماء الموجودة في القرآن فلو كان لذلك التجويز البعيد تأثير لما وقع منهم هذا الإجماع وقد استدل النافون بأنه لو وجد فيه ما ليس هو بعربي لزم أن لا يكون كله عربياً وقد قدمنا الجواب عن هذا . وبالجملة فلم يأت الأكثرون بشيء يصلح للاستدلال به في محل النزاع وفي القرآن من اللغات الرومية والهندية والفارسية والسريانية ما لا يجحده جاحد ولا يخالف فيه مخالف حتى قال بعض السلف إن في القرآن من كل لغة من اللغات ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليبحث كتب التفسير في مثل المشكاة والإستبرق والسجيل والقسطاس والياقوت والأباريق والتنور . ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

============
عدل

المقصد الثاني في السنة ، وفيه أبحاث البحث الأول : في معنى السنة لغة وشرعاً . وأما لغة فهي الطريقة المسلوكة وأصلها من قولهم : سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سناً أي طريقاً ، وقال الكسائي : معناها الدوام فقولنا سنة معناه الأمر بالأدامة من قولهم سننت الماء إذا واليت في صبه . قال الخطابي : أصلها الطريقة المحمودة فإذا أطلقت انصرفت إليها وقد يستعمل في غيرها مقيدة كقوله من سن سنة سيئة . وقيل هي الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أو سيئة كما في الحديث الصحيح من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، وأما معناها شرعاً أي في اصطلاح أهل الشرع فهي قول النبي صضص وفعله وتقريره وتطلق بالمعنى العام على الواجب وغيره في عرف أهل اللغة والحديث وأما في عرف أهل الفقه فإنما يطلقونها على ما ليس بواجب وتطلق على ما يقابل البدعة كقولهم : فلان من أهل السنة . قال ابن فارس في فقه اللغة العربية : وكره العلماء قول من قال سنة أبي بكر وعمر وإنما يقال سنة الله وسنة رسوله ويجاب عن هذا بأن النبي صضص قد قال في الحديث الصحيح عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ . ويمكن أن يقال إنه صضص أراد بالسنة هنا الطريقة . وقيل في حدها اصطلاحاً هي ما يرجح جانب وجوده على جانب عدمه ترجيحاً ليس معه المنع من النقيض . وقيل هي ما واظب على فعله النبي صضص مع ترك ما بلا عذر . وقيل هي في العبادات النافلة وفي الأدلة ما صدر عن النبي صضص من غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير وهذا هو المقصود بالبحث عنه في هذا العلم . ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

=======
عدل

البحث الثاني اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المظهرة مستقلة بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام وقد ثبت عنه صضص أنه قال : ألا وأني أوتيت القرآن ومثله معه أي أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن وذلك كتحريم لحوم الحمر الأهلية وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وغير ذلك مما لم يأت عليه الحصر ، وأما ما يروى من طريق ثوبان في الأمر بعرض الأحاديث على القرآن فقال يحيى بن معين أنه موضع وضعته الزنادقة ، وقال الشافعي ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير ، وقال ابن عبد البر في كتاب الله جامع العلم : قال عبد الرحمن بن مهدي : الزنادقة والخوارج وضعوا حديث ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف فلم أقله . وقد عارض حديث العرض قوم فقال : وعرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله فخالفه لأنا وجدنا في كتاب الله وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ووجدنا فيه قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ووجدنا فيه من يطع الرسول فقد أطاع الله . قال الأوزاعي : الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب . قال ابن عبد البر : إنها تقضي عليه وتبين المراد منه . وقال يحيى بن أبي كثير : السنة قاضية على الكتاب . والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

=======
عدل

البحث الثالث ذهب الأكثر من أهل العلم إلى عصمة الأنبياء بعد النبوة من الكبائر وقد حكى القاضي أبو بكر إجماع المسلمين على ذلك ، وكذا حكاه ابن الحاجب وغيره من متأخري الأصوليين وكذا حكوا الإجماع على عصمتهم بعد النبوة مما يزري بمناصبهم كرذائل الأخلاق والدناءات وسائر ما ينفر عنهم وهي التي يقال لها صغائر الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة وإنما اختلفوا في الدليل على ذلك الشرع والعقل لأنها منفرة عن الاتباع فيستحيل وقوعها منهم عقلاً وشرعاً ونقله إمام الحرمين في البرهان عن طبقات الخلق قال وإليه مصير جماهير أئمتنا وقال ابن فورك إن ذلك ممتنع من مقتضى المعجزة . قال القاضي عياض : وإليه ذهب الأستاذ أبو إسحاق ومن تبعه وقال القاضي أبو بكر وجماعة من محققي الشافعية والحنفية إن الدليل على امتناعها السمع فقط وروى عن القاضي أبي بكر أنه قال إنها ممتنعة سمعاً والإجماع دل عليه قال ولو رددنا ذلك إلى العقل فليس فيه ما يحيلها واختار هذا إمام الحرمين و الغزالي والكيا وابن برهان . قال الهندي هذا الخلاف فيما إذا لم يسنده إلى المعجزة في التحدي فإن أسنده إليها كان امتناعه عقلاً ، وهكذا وقع الإجماع على عصمتهم بعد النبوة من تعمد الكذب في الأحكام الشرعية لدلالة المعجزة على صدقهم وأما الكذب غلطاً فمنعه الجمهور وجوزه القاضي أبو بكر واستدل الجمهور بأن المعجزة تدل على امتناعه واستدل القاضي بأن المعجزة إنما تدل على امتناعه عمداً لا خطأ وقول الجمهور أولى . وأما الصغائر التي لا تزري بالمنصب ولا كانت من الدناءات فاختلفوا هل تجوز عليهم وإذا جازت هل وقعت منهم أم لا ؟ فنقل إمام الحرمين والكيا عن الأكثرين الجواز عقلاً وكذا نقل ذلك عن الأكثرين ابن الحاجب ونقل إمام الحرمين وابن القشيري عن الأكثرين أيضاً عدم الوقوع قال إمام الحرمين الذي ذهب إليه المحصلون أنه ليس في الشرع قاطع في ذلك نفياً أو إثباتاً والظواهر مشعرة بالوقوع ونقل القاضي عياض تجويز الصغائر ووقوعها عن جماعة من السلف منهم أبو جعفر الطبري جماعة من الفقهاء والمحدثين ، قالوا ولا بد من تنبيههم عليه إما في الحال على رأي جمهور المتكلمين أو قبل وفاتهم على رأي بعضهم ، ونقل ابن حزم في الملل والنحل عن أبي إسحاق الإسفرائيني وابن فورك أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر جميعاً ، وقال إنه الذين ندين الله به واختاره ابن برهان وحكاه النووي في زوائد الروضة عن المحققين . قال القاضي حسين وهو الصحيح مذهب أصحابنا يعني الشافعية وما ورد من ذلك فيحمل على ترك الأولى . قال القاضي عياض يحمل على ما قبل النبوة أو على أنهم فعلوه بتأويل واختار الرازي العصمة عمداً وجوزها سهواً . واختلفوا في معنى العصمة فقيل هو أن لا يمكن المعصوم من الإتيان بالمعصية ، وقيل هو أن يختص في نفسه أو بدنه بخاصية تقتضي امتناع إقدامه عليها وقيل إنها القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية ، وقيل إن الله منعهم منها بألطافه بهم فصرف دواعيهم عنها ، وقيل إنها بتهيئة العبد للموافقة مطلقاً وذلك يرجع إلى خلق القدرة على كل طاعة . فإن قلت : فما تقول فيما ورد في القرآن الكريم منسوباً إلى جماعة من الأنبياء وأولهم أبونا آدم عليه السلام ، فإن الله يقول وعصى آدم ربه فغوى قلت : قد قدمنا وقوع الإجماع على امتناع الكبائر منهم بعد النبوة فلا بد من تأويل ذلك بما يخرجه عن ظاهره بوجه من الوجوه ، وهكذا يحمل ما وقع من إبراهيم عليه السلام من قوله إني سقيم ، وقوله بل فعله كبيرهم ، وقوله في سارة أنها أخته على ما يخرجه عن محض الكذب لوقوع الإجماع على امتناعه منهم بعد النبوة ، وهكذا في قوله سبحانه وتعالى في يونس عليه السلام إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه لا بد من تأويله بما يخرجه عن ظاهره وهكذا ما فعله أولاد يعقوب بأخيهم يوسف وهكذا يحمل ما ورد عن نبينا صضص أنه كان يستغفر الله في كل يوم وأنه كان يتوب إليه في كل يوم على أن المراد رجوعه من حالة إلى أرفع منها . وأما النسيان فلا يمتنع وقوعه من الأنبياء قيل إجماعاً ، وقد صح عن رسول الله صضص أنه قال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني . قال قوم ولا يقرون عليه بل ينبهون . قال الآمدي ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني وكثير من الأئمة إلى امتناع النسيان . قال الزركشي في البحر : وأما الإمام الرازي في بعض كتبه فادعى الإجماع على الامتناع ، وحكى القاضي عياض الإجماع على امتناع السهو والنسيان في الأقوال البلاغية وخص الخلاف بالأفعال وأن الأكثرين ذهبوا إلى الجواز وتأول المانعون الأحاديث الواردة في سهوه صضص على أنه تعمد ذلك وهذا التأويل باطل بعد قوله أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ، وقد اشترط جمهور المجوزين للسهو والنسيان اتصال التنبيه بالواقعة . وقال إمام الحرمين يجوز التأخير ، وأما قبل الرسالة فذهب الجمهور إلى أنه لا يمتنع من الأنبياء ذنب كبير ولا صغير ، وقالت الروافض يمتنع قبل الرسالة منهم كل ذنب ، وقالت المعتزلة يمتنع الكبائر دون الصغائر واستدل المانعون مطلقاً أو مقيداً بالكبائر بأن وقوع الذنب منهم قبل النبوة منفر عنهم عند أن يرسلهم الله فيخل بالحكمة من بعثهم ، وذلك قبيح عقلاً ، ويجاب عنه بأنا لا نسلم ذلك والكلام على هذه المسألة مبسوط في كتب الكلام .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

البحث الرابع : في أفعاله صضص اعلم أن أفعاله صضص تنقسم إلى سبعة أقسام : الأول : ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فهذا القسم لا يتعلق به أمر باتباع ولا نهي عن مخالفة وليس فيه أسوة ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح . القسم الثاني : ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة كالقيام والقعود ونحوهما فليس فيه تأس ولا به اقتداء ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور ونقل القاضي أبو بكر الباقلاني عن قوم أنه مندوب ، وكذا حكاه الغزالي في المنخول ، وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا ويقتدي به كما هو معروف عنه منقول في كتب السنة المطهرة . القسم الثالث : ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف ووجه مخصوص كالأجل والشرب واللبس والنوم فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة على فرض أنه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل ، وأما إذا وقع منه صضص الإرشاد إلى بعض الهيئات كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب واللبس والنوم فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي ، وفي هذا القسم قولان للشافعي ومن معه يرجع فيه إلى الأصل وهو عدم التشريع أو إلى الظاهر وهو التشريع والراجح الثاني ، وقد حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن أكثر المحدثين فيكون مندوباً . القسم الرابع : ما علم اختصاصه به صضص كالوصال والزيادة على أربع فهو خاص به لا يشاركه فيه غيره وتوقف إمام الحرمين في أنه هل يمنع التأسي به أم لا ؟ وقال ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون به صضص في هذا النوع ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك فهذا محل التوقف وفرق الشيخ أبو شامة المقدسي في كتابه في الأفعال بين المباح والواجب ، فقال ليس لأحد الاقتداء به فيما هو مباح له كالزيادة على الأربع ويستحب الاقتداء به في الواجب عليه كالضحى والوتر ، وكذا فيما هو محرم عليه كأكل ذي الرائحة الكريهة وطلاق من تكره صحبته . والحق أنه لا يقتدي به فيما صرح لنا بأنه خاص به كائناً ما كان إلا بشرع يخصنا ، فإذا قال مثلاً هذا واجب علي مندوب لكم كان فعلنا لذلك الفعل لكونه أرشدنا إلى كونه مندوباً لنا لا لكونه واجباً عليه ، وإن قال هذا مباح لي أو حلال ولم يزد على ذلك لم يكن لنا أن نقول هو مباح لنا أو حلال لنا وذلك كالوصال فليس لنا أن نواصل هذا على فرض عدم ورود ما يدل على كراهة الوصال لنا أما لو ورد ما يدل على ذلك كما يثبت أنه صضص واصل أياماً تنكيلاً لمن لم ينته عن الوصال فهذا لا يجوز لنا فعله بهذا الدليل الذي ورد عنه ولا يعتبر باقتداء من اقتدى به فيه كابن الزبير ، وأما لو قال هذا حرام علي وحدي ولم يقل حلال لكم فلا بأس بالتنزه عن فعل ذلك الشيء أما لو قال حرام علي حلال لكم فلا يشرع التنزه عن فعل ذلك الشيء فليس في ترك الحلال وره . القسم الخامس : ما أبهمه صضص لانتظار الوحي كعدم تعيين نوع الحج مثلاً ، فقيل يقتدي به في ذلك وقيل لا . قال إمام الحرمين في النهاية وهذا عندي هفوة ظاهرة ، فإن إبهام رسول الله صضص محمول على انتظار الوحي قطعاً فلا مساغ للاقتداء به من هذه الجهة . القسم السادس : ما يفعله مع غيره عقوبة له فاختلفوا هل يقتدي به فيه أم لا فقيل يجوز وقيل لا يجوز وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب ، وهذا هو الحق فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله عند وجود مثل ذلك السبب وإن لم يظهر السبب لم يجز ، وأما إذا فعله بين شخصين متداعيين فهو جار مجرى القضاء فتعين علينا القضاء بما قضى به . القسم السابع : الفعل المجرد عما سبق . فإن ورد بياناً كقوله صضص صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم وكالقطع من الكوع بياناً لآية السرقة فلا خلاف أنه دليل في حقنا وواجب علينا ، وإن ورد بيان لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمل من وجوب وندب كأفعال الحج وأفعال العمرة وصلاة الفرض وصلاة الكسوف ، وإن لم يكن كذلك بل ورد ابتداء فإن علمت صفته في حقه من وجوب أو ندب أو إباحة فاختلفوا في ذلك على أقوال : الأول أن أمته مثله في ذلك الفعل إلا أن يدل عليه اختصاصه وهذا هو الحق . والثاني أن أمته مثله في العبادات دون غيرها . والثالث الوقف . والرابع لا يكون شرعاً لنا إلا بدليل ، وإن لم تعلم صفته في حقه وظهر فيه قصد القربة فاختلفوا فيه على أقوال . الأول : أنه للوجوب وبه قال جماعة من المعتزلة وابن شريح وأبو سعيد الأصطخري وابن خيران وابن أبي هريرة واستدلوا على ذلك بالقرآن والإجماع والمعقول : أما القرآن فبقوله وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقوله إن كنتم تحبون الله فاتبعوني وقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره وقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وقوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأما الإجماع فلكون الصحابة كانوا يقتدون بأفعاله ، وكانوا يرجعون إلى رواية من يروى لهم شيئاً منها في مسائل كثيرة منهم أنهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة : فعلته أنه ورسول الله صضص فرجعوا إلى ذلك وأجمعوا عليه . وأما المعقول فلكون الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه . وأجيب عن الآية الأولى بمنع تناول قوله وما آتاكم الرسول للأفعال بوجهين الأول أن قوله وما نهاكم عنه فانتهوا يدل على أنه أراد بقوله ما آتاكم ما أمركم . الثاني : أن الإتيان إنما يأتي في القول . والجواب عن الآية الثانية أن المراد بالمتابعة فعل مثل ما فعله فلا يلزم وجوب فعل كل ما فعله ما لم يعلم أن فعله على وجه الوجوب والمفروض خلافه . والجواب عن الآية الثالثة أن لفظ الأمر حقيقة في القول بالإجماع ولا نسلم أنه يطلق على الفعل على أن الضمير في أمره يجوز أن يكون راجعاً إلى الله سبحانه لأنه أقرب المذكورين . والجواب عن الآية الرابعة أن التأسي هو الإتيان بمثل فعل الغير في الصورة والصفة حتى لو فعل صضص شيئاً على طريق التطوع وفعلناه على طريق الوجوب لم نكن متأسين به فلا يلزم وجوب ما فعله إلا إذا أدل دليل آخر على وجوبه فلو فعلنا الفعل الذي فعله مجرداً عن دليل الوجوب معتقدين أنه واجب علينا لكان ذلك قادحاً في التأسي . والجواب عن الآية الخامسة أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور أو المراد على اختلاف المذهبين فلا يدل ذلك على وجوب أفعاله صضص . وأما الجواب عن دعوى إجماع الصحابة فهم لم يجمعوا على كل فعل يبلغهم بل أجمعوا على الاقتداء بالأفعال على صفتها التي هي ثابتة لها من وجوب أو ندب أو نحوهما والوجوب في تلك الصورة لمذكورة مأخوذ من الأدلة الدالة على وجوب الغسل من الجنابة . وأما الجواب عن المعقول فالاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن الغرر قطعاً وهاهنا ليس كذلك لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حراماً على الأمة وإذا احتمل لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطاً . القول الثاني : أنه للندب ، وقد حكاه الجويني في البرهان عن الشافعي ، فقال وفي كلام الشافعي ما يدل عليه ، وقال الرازي في المحصول إن هذا القول نسب إلى الشافعي ، وذكر الزركشي في البحر أنه حكاه عن القفال وأبي حامد المروزي واستدلوا بالقرآن والإجماع والمعقول . أما القرآن فقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولو كان التأسي واجباً لقال عليكم فلما قال لكم دل على عدم الوجوب ولما أتت الأسوة دل على رجحان جانب الفعل على الترك وإن يكن مباحاً . وأما الإجماع فهو أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء بالنبي صضص وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب لأنه أقل ما يفيده جانب الرجحان . وأما المعقول فهو أن فعله إما أن يكون راجحاً على العدم أو مساوياً له أو دونه ، والأول متعين ، لأن الثاني والثالث مستلزمان أن يكون فعله عبثاً وهو باطل وإذا تعين أنه راجح على العدم فالراجح على العدم قد يكون واجباً وقد يكون مندوباً والمتيقن هو الندب . وأجيب عن الآية بأن التأسي هو إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه فلو فعله واجباً أو مباحاً وفعلناه مندوباً لما حصل التأسي . وأجيب عن الإجماع بأنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل لاحتمال أنهم وجدوا مع الفعل قرائن أخر . وأجيب عن المعقول بأنا لا نسلم أن فعل المباح عبث لأن العبث هو الخالي عن الغرض فإذا حصل في المباح منفعة ناجزة لم يكن عبثاً من حيث حصول النفع به وخرج عن العبث ثم حصول الغرض في التأسي بالنبي صضص ومتابعة أفعاله بين فلا يعد من أقسام البعض . القول الثالث : أن للإباحة . قال الرازي في المحصول : وهو قول مالك ولم يحك الجويني قول الإباحة هاهنا لأن قصد القربة لا يجامع استواء الطرفين لكن حكاه غيره كما قدمنا عن الرازي وكذلك حكاه ابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب حملاً على أقل الأحوال . واحتج من قال بالإباحة بأنه قد ثبت أن فعله صضص لا يجوز أن يكون صادراً على وجه يقتضي الإثم لعصمته فثبت أنه لا بد أن يكون إما مباحاً أو مندوباً أو واجباً ، وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل ، فأما رجحان الفعل فلم يثبت على وجوده دليل فثبت بهذا أنه لا حرج في فعله كما أنه لا رجحان في فعله فكان مباحاً وهو المتيقن فوجب التوقف عنده وعدم مجاوزته إلى ما ليس بمتيقن ويجاب عنه بأن محل النزاع كما عرفت هو كون ذلك الفعل قد ظهر فيه قصد القربة وظهورها ينافي مجرد الإباحة وإلا لزم أن لا يكون لظهورها معنى يعتد به . القول الرابع : الوقف . قال الرازي في المحصول : وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة وهو المختار انتهى . وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أكثر أصحاب الشافعي ، وحكاه أيضاً عن الدقاق واختاره القاضي أبو الطيب الطبري ، وحكاه في اللمع عن الصيرفي وأكثر المتكلمين . وعندي أنه لا معنى للوقف في الفعل الذي قد ظهر فيه قصد القربة فإن قصد القربة يخرجه عن الإباحة إلى ما فوقها والمتيقن مما هو فوقها الندب . وأما إذا لم يظهر فيه قصد القربة بل كان مجرداً مطلقاً فقد اختلفوا فيه بالنسبة إلينا على أقوال . الأول : أنه واجب علينا ، وقد روي هذا عن ابن سريج قال الجويني وابن خيران وابن أبي هريرة والطبري وأكثر متأخري الشافعية ، وقال سليم الرازي أنه ظاهر مذهب الشافعي واستدلوا بنحو ما استدل به القائلون بالوجوب مع ظهور قصد القربة ويجاب عنهم بما أجيب به عن أولئك بل الجواب عن هؤلاء بتلك الأجوبة أظهر لعدم ظهور قصد القربة في هذا الفعل وقد اختار هذا القول أبو الحسين بن القطان والرازي في المعالم . قال القرافي : وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم الأصولية والفروعية ونقله القاضي أبو بكر عن أكثر أهل العراق . القول الثاني : أنه مندوب . قال الزركشي في البحر وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة ونقله القاضي وابن الصباغ عن الصيرفي والقفال الكبير . قال الروياني هو قول الأكثرين ، وقال ابن القشيري في كلام الشافعي ما يدل عليه . قلت هو الحق لأن فعله صضص وإن لم يظهر فيه قصد القربة فهو لا بد أن يكون لقربة وأقل ما يتقرب به هو المندوب ولا دليل يدل على زيادة على الندب فوجب القول به ولا يجوز القول بأنه يفيد الإباحة فإن إباحة الشيء بمعنى استواء طرفيه موجودة قبل ورود الشرع به . فالقول بها إهمال للفعل الصادر منه صضص فهو تفريط كما أن حمل فعله المجرد على الوجوب إفراط الحق بن المقصر والمغالي . القول الثالث : أنه مباح نقله الدبوسي في التقويم عن أبي بكر الرازي ، وقال إنه الصحيح واختاره الجويني في البرهان وهو الراجح عند الحنابلة ويجاب عنه بما ذكرناه قريباً . القول الرابع : الوقف حتى يقوم دليل . نقله ابن السمعاني عن أكثر الأشعرية قال واختاره الدقاق وأبو القاسم بن كج قال الزركشي وبه قال جمهور أصحابنا وقال ابن فورك أنه الصحيح وكذا صححه القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية واستدلوا بأنه لما كان محتملاً للوجوب والندب والإباحة مع احتمال أن يكون من خصائصه كان التوقف متعيناً ويجاب عنهم بمنع احتماله للإباحة لما قدمنا منع احتمال الخصوصية لأن أفعاله كلها محمولة على التشريع ما لم يدل دليل على الاختصاص وحينئذ فلا وجه للتوقف والعجب من اختيار مثل الغزالي والرازي له .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

======
عدل

البحث الخامس : في تعارض الأفعال اعلم أنه لا يجوز التعارض بين الأفعال بحيث يكون البعث منها ناسخاً لبعض أو مخصصاً له لجواز أن يكون الفعل في ذلك الوقت واجباً وفي مثل ذلك الوقت بخلافه لأن الفعل لا عموم له فلا يشمل جميع الأوقات المستقبلة ولا يدل على التكرار . هكذا قال جمهور أهل الأصول على اختلاف طبقاتهم وحكى ابن العربي في كتاب المحصول ثلاثة أقوال : الأول التخيير . الثاني تقديم المتأخر . كالأقوال إذا تأخر بعضها . الثالث حصول التعارض وطلب الترجيح من خارج . قال كما أنفق في صلاة الخوف صليت على أربع وعشرين صفة قال مالك والشافعي إنه يرجح من هذه الصفات ما هو أقرب إلى هيئة الصلاة وقدم بعضهم الأخير منها إذا علم انتهى . وحكي عن ابن رشد أن الحكم في الأفعال كالحكم في الأقوال وقال القرطبي يجوز التعارض بين الفعلين عند من قال بأن الفعل يدل على الوجوب فإن علم التاريخ فالمتأخر ناسخ وإن جهل فالترجيح وإلا فهما متعارضان كالقولين وأما على القول بأنه يدل على الندب أو الإباحة فلا تعارض وقال الغزالي في المنخول إذا قال فعل وحمل على الوجوب ثم نقل فعل يناقضه فقال القاضي لا يقطع بأنه ناسخ لاحتمال أنه انتهى مدة الفعل الأول . قال وذهب ابن مجاهد إلى أنه نسخ وتردد في القول الطارئ على الفعل وجزم الكيا بعدم تصور تعارض الفعلين ثم استثنى من ذلك ما إذا علم بدليل أنه أريد به إدامته في المستقبل بأنه يكون ما بعده ناسخاً له قال وعلى مثله بنى الشافعي مذهبه في سجود السهو قبل السلام وبعده . والحق أنه لا يتصور تعارض الأفعال فإنه لا صيغ لها يمكن النظر فيها والحكم عليها بل هي مجرد أكوان متغايرة واقعة في أوقات مختلفة وهذا إذا لم تقع بيانات للأقوال أما إذا وقعت بيانات للأقوال فقد تتعارض في الصورة ولكن التعارض في الحقيقة راجع إلى المبينات من الأقوال لا إلى بيانها من الأفعال وذلك كقوله صضص صلوا كما رأيتموني أصلي فإن آخر الفعلين ينسخ الأول كآخر القولين لأن هذا الفعل بمثابة القول قال الجويني وذهب كثير من الأئمة فيما إذا نقل عن النبي صضص فعلان مؤرخان مختلفان أن الواجب التمسك بآخرهما واعتقاد كونه ناسخاً للأول قال وقد ظهر ميل الشافعي إلى هذا ثم ذكر ترجيحه للمتأخر من صفات صلاة الخوف وينبغي حمل هذا على الأفعال التي وقعت بياناً كما ذكرنا فإن صلاة الخوف على اختلاف صفاتها واقعة بياناً وهكذا ينبغي حمل ما نقله المازري عن الجمهور من أن المتأخر من الأفعال ناسخ عن ما ذكرنا .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

==========
عدل

البحث السادس : إذا وقع التعارض بين قول النبي صضص وفعله وفيه صور وبين ذلك أن ينقسم أولاً إلى ثلاثة أقسام : أحدها : أن يعلم تقدم القول على الفعل . ثانيها أن يعلم تقدم الفعل على القول . ثالثهما أن يجهل التاريخ وعلى الأولين إما أن يتعقب الثاني الأول بحيث لا يتخلل بينهما زمان أو يتراخى أحدهما عن الآخر وهذان قسمان إلى الثلاثة المتقدمة يكون الجميع خمسة أقسام وعلى الثلاثة الأول إما أن يكون القول عاماً للنبي صضص ولأمته أو خاصاً به أو خاصاً بأمته فتكون الأقسام ثمانية . ثم الفعل إما أن يدل دليل على وجوب تكراره في حقه صضص ووجوب تأسي الأمة به أو لا يدل دليل على واحد منهما أو يقوم دليل على التكرار دون التأسي أو يقوم دليل على التأسي دون التكرار ، فإذا ضربت الأقسام الأربعة وهي التي يعلم فيها تعقب الفعل للقول وتراخيه عنه وتعقب القول للفعل وتراخيه عنه في الثلاثة التي ينقسم إليها القول من كونه يعم النبي صضص وأمته أو يخصه أو يخص أمته حصل منها اثنا عشر قسماً نضربها في أقسام الفعل الأربعة بالنسبة إلى التكرار والتأسي أو عدمهما أو وجود أحدهما دون الآخر فيحصل ثمانية وأربعون قسماً . وقد قيل إن الأقسام تنتهي إلى ستين قسماً وما ذكرناه أولى وأكثر هذه الأقسام غير موجود في السنة فلنتكلم هاهنا على ما يكثر وجوده فيها وهي أربعة عشر قسماً . الأول : أن يكون القول مختصاً به مع عدم وجود دليل على التكرار والتأسي وذلك نحو أن يفعل صضص فعلاً ثم يقول بعده لا يجوز لي مثل هذا الفعل فلا تعارض بين القول والفعل لأن القول في هذا الوقت لا تعلق له بالفعل في الماضي إذ الحكم يختص بما بعده ولا في المستقبل إذ لا حكم للفعل في المستقبل لأن الغرض عدم التكرار له . القسم الثاني : أن يتقدم القول مثل أن يقول لا يجوز لي الفعل في وقت كذا ثم يفعله فيه فيكون الفعل ناسخاً لحكم القول . القسم الثالث : أن يكون القول خاصاً به ويجهل التاريخ فلا تعارض في حق الأمة وأما في حقه صضص ففيه خلاف وقد رجح الوقف . القسم الرابع : أن يكون القول مختصاً بالأمة وحينئذ فلا تعارض لأن القول والفعل لم يتواردا على محل واحد . القسم الخامس : أن يكون القول عاماً له وللأمة فيكون الفعل على تقدير تأخره مخصصاً له من عموم القول وذلك كنهيه عن الصلاة بعد العصر ثم صلاته الركعتين بعدها قضاء لسنة الظهر ومداومته عليهما وإلى ما ذكرنا من اختصاص الفعل به صضص ذهب الجمهور قالوا وسواء تقدم الفعل أو تأخر وقال الأستاذ أبو منصور إن تقدم الفعل دل على نسخه القول عند القائلين بدخول المخاطب في عموم خطابه هذا إذا كان القول شاملاً له صضص بطريق الظهور كأن يقول لا يحل لأحد أو لا يجوز لمسلم أو لمؤمن وأما إذا كان متناولاً له على سبيل التنصيص كأن يقول لا يحل لي ولا لكم فيكون الفعل ناسخاً للقول في حقه صضص لا في حقنا فلا تعارض . القسم السادس : أن يدل دليل على تكرار الفعل وعلى وجوب التأسي فيه ويكون القول خاصاً به وحينئذ فلا معارضة في حق الأمة وأما في حقه فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ فإن جهل التاريخ فقيل يؤخذ بالقول في حقه وقيل بالفعل وقيل بالوقف . القسم السابع : أن يكون القول خاصاً بالأمة مع قيام دليل التأسي والتكرار في الفعل فلا تعارض في حقه صضص وأما في حق الأمة فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ وإن جهل التاريخ فقيل يعمل بالفعل وقيل بالقول وهو الراجح لأن دلالته أقوى من دلالة الفعل وأيضاً هذا القول الخاص بأمته أخص من الدليل العام الدال على التأسي . والخاص مقدم على العام ولم يأت من قال بتقدم الفعل بدليل يصلح للاستدلال به . القسم الثامن : أن يكون القول عاماً له وللأمة مع قيام الدليل على التكرار والتأسي فالمتأخر ناسخ في حقه صضص وكذلك في حقنا وإن جهل التاريخ فالراجح تقدم القول لما تقدم . القسم التاسع : أن الدليل على التكرار في حقه صضص دون التأسي به ويكون القول خاصاً بالأمة وحينئذ فلا تعارض أصلاً لعدم التوارد على محل واحد . القسم العاشر : أن يكون خاصاً به صضص مع قيام الدليل على عدم التأسي به فلا تعارض أيضاً . القسم الحادي عشر : أن يكون القول عاماً له وللأمة مع عدم قيام الدليل على التأسي به في الفعل فيكون الفعل مخصصاً له من العموم ولا تعارض بالنسبة إلى الأمة لعدم وجود دليل يدل على التأسي به وأما إذا جهل التاريخ فالخلاف في حقه صضص كما تقدم في ترجيح القول على الفعل أو العكس أو الوقف . القسم الثاني عشر : إذا دل الدليل على التأسي دون التكرار أو يكون القول مخصصاً به فلا تعارض في حق الأمة وأما في حقه فإن تأخر القول فلا تعارض وإن تقدم فالفعل ناسخ في حقه وإن جهل فالمذاهب الثلاثة في حقه كما تقدم . القسم الثالث عشر : أن يكون القول خاصاً بالأمة ولا تعارض في حقه صضص وأما في حق الأمة فالمتأخر ناسخ لعدم الدليل على التأسي . القسم الرابع عشر : أن يكون القول عاماً له وللأمة مع قيام الدليل على التأسي دون التكرار ففي حق الأمة المتأخر ناسخ ، وأما في حقه صضص فإن تقدم الفعل فلا تعارض وإن تقدم القول فالفعل ناسخ ، ومع جهل التاريخ فالراجح القول في حقنا وفي حقه صضص لقوة دلالته وعدم احتماله أو لقيام الدليل هاهنا على عدم التكرار واعلم أن لا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي بل يكفي ما ورد في الكتاب العزيز من قوله سبحانه : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وكذلك سائر الآيات الدالة على الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه ولا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي به في كل فعل من أفعاله بل مجرد فعله لذلك الفعل بحيث يطلع عليه غيره من أمته ينبغي أن يحمل على قصد التأسي به إذا لم يكن من الأفعال التي لا يتأسى به فيها كأفعال الجبلة كما قررناه في البحث الذي قبل هذا البحث .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

========
عدل

البحث السابع : التقرير وصورته أن يسكت النبي صضص عن إنكار قول قيل بين يديه أو في عصره وعلم به ، أو سكت عن إنكار فعل فعل بين يديه أو في عصره وعلم به . فإن ذلك يدل على الجواز وذلك كأكل العنب بين يديه قال ابن القشيري : وهذا مما لا خلاف فيه وإنما اختلفوا في شيئين أحدهما إذا دل التقرير على انتفاء الحرج فهل يختص بمن قرر أو يعم سائر المكلفين ؟ فذهب القاضي إلى الأول لأن التقرير ليس له صيغة تعم ولا يتعدى إلى غيره ، وقيل يعم للإجماع على أن التحريم إذا ارتفع في حق واحد ارتفع في حق الكل وإلى هذا ذهب الجويني وهو الحق لأنه في حكم خطاب الواحد وسيأتي أنه يكون غير المخاطب بذلك الحكم من المكلفين كالمخاطب به ونقل هذا القول المازري عن الجمهور هذا إذا لم يكن التقرير مخصصاً لعموم سابق أما إذا كان مخصصاً لعموم سابق فيكون لمن قرر من واحد أو جماعة وأما إذا كان التقرير في شيء قد سبق تحريمه فيكون ناسخاً لذلك التحريم كما صرح به جماعة من أهل الأصول وهو الحق ومما يندرج تحت التقرير إذا قال الصحابي كنا نفعل كذا أو كانوا يفعلون كذا وأضافه إلى عصر رسول الله صضص وكان مما لا يخفى مثله عليه ، وإن كان مما يخفى مثله عليه فلا ولا بد أن يكون التقرير على القول والفعل منه صضص مع قدرته على الإنكار كذا قال جماعة من الأصوليين ، وخالفهم جماعة من الفقهاء فقالوا إن في خصائصه صضص عدم سقوط وجوب تغيير المنكر بالخوف على النفس لإخبار الله سبحانه بعصمته في قوله : والله يعصمك من الناس ولا بد أن يكون المقرر منقاد للشرع فلا يكون تقرير الكافر على قول أو فعل دالاً على الجواز . قال الجويني ويلحق بالكافر المنافق وخالفه المازري وقال إنا نجري على المنافق أحكام الإسلام ظاهراً لأنه من أهل الإسلام في الظاهر . وأجيب عنه بأن النبي صضص كان كثيراً ما يسكت عن المنافقين لعلمه أن الموعظة لا تنفعهم وإذا وقع من النبي صضص الاستبشار بفعل أو قول فهو أقوى في الدلالة على الجواز . ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

==============
عدل

البحث الثامن : ما هم به صضص ولم يفعله كما روي عنه بأنه هم بمصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة . ونحو ذلك فقال الشافعي ومن تابعه إنه يستحب الإتيان بما هم به صضص ولهذا جعل أصحاب الشافعي الهم من جملة أقسام السنة وقالوا يقدم القول ثم الفعل ثم التقرير ثم الهم والحق أنه ليس من أقسام السنة لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تنجيز له وليس ذلك مما آتانا الرسول ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه وقد يكون إخباره صضص بما هم به للزجر كما صح عنه أنه قال لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم . ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

البحث التاسع : الإشارة والكتابة كإشارته صضص بأصابعه العشر إلى أيام الشهر ثلاث مرات وقبض في الثالثة واحدة من أصابعه وكتابه صضص إلى أعماله في الصدقات ونحوها ولا خلاف في أن ذلك من جملة السنة ومما تقوم به الحجة . ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

البحث العاشر : تركه صضص للشيء كفعله له في التأسي به فيه قال ابن السمعاني : إذا ترك الرسول صضص شيئاً وجب علينا متابعته فيه ألا ترى أنه صضص لما قدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه وأذن لهم في أكله وهكذا تركه صضص لصلاة الليل جماعة خشية أن تكتب على الأمة . ويتفرع على هذا البحث إذا حدثت حادثة بحضرة النبي صضص ولم يحكم فيها بشيء هل يجوز لنا أن نحكم في نظائرها الصحيح أنه يجوز خلافاً لبعض المتكلمين في قولهم تركه صضص للحكم في حادثة يدل على وجوب ترك الحكم في نظائرها . ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.

========
عدل

البحث الحادي عشر : في الأخبار وفي أنواع النوع الأول : في معنى الخبر لغة واصطلاحاً أما معناه لغة فهو مشتق من الخبار وهي الأرض الرخوة لأن الخبر يثير الفائدة كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه وهو نوع مخصوص من القول وقسم من الكلام اللساني وقد يستعمل في غير القول كقول الشاعر : تخبرك العينان ما القلب كاتم وقول المعري : نبي من الغربان ليس على شرع يخبرنا أن الشعوب إلى صدع ولكنه استعمال مجازي لا حقيقي لأن من وصف غيره بأنه أخبر بكذا لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول . وأما معناه اصطلاحاً فقال الرازي في المحصول ذكروا في حده أمور ثلاثة . الأول أنه الذي يدخله الصدق أو الكذب . والثاني أنه الذي يحتمل التصديق والتكذيب . والثالث ما ذكره أبو الحسين البصري أنه كلام مفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفياً أو إثباتاً قال واحترزنا بقولنا بنفسه عن الأمر فإنه يفيد وجوب الفعل لكن لا بنفسه لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر ثم إنها تفيد كون الفعل واجباً تبعاً لذلك وكذلك القول في دلالة النهي والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر ثم إنها تفيد كون الفعل واجباً تبعاً لذلك وكذلك القول في دلالة النهي على قبح الفعل . قال الرازي : واعلم أن هذه التعريفات دورية . أما الأول فلأن الصدق والكذب نوعان تحت جنس الخبر والجنس جزء من ماهية النوع وأعرف منها فإذا لا يمكن تعريف الصدق والكذب إلا بالخبر فلو عرفنا الخبر بهما لزم الدور . وأجيب عن هذا بمنع كونهما لا يعرفان إلا بالخبر بل هما ضروريان ، ثم قال واعترضوا عليه أيضاً في ثلاثة أوجه : الأول : أن كلمة أو للترديد وهو ينافي التعريف ولا يمكن إسقاطها هاهنا لأن الخبر الواحد لا يكون صدقاً وكذباً معاً . الثاني : أن كلام الله تعالى لا يدخله الكذب فكان خارجاً عن هذا التعريف . الثالث : من قال محمد صضص ومسيلمة صادقان فهذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب ويمكن أن يجاب عن الأول بأن المعرف لماهية الخبر أمر واحد وهو إمكان تطرق هذين الوصفين إليه وذلك لا ترديد فيه وعن الثاني أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه وخبر الله تعالى كذلك لأنه صدق وعن الثالث بأن قوله محمد ومسيلمة صادقان خبران وإن كانا في اللفظ خبراً واحداً لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد صضص وإضافته إلى مسيلمة وأحد الخبرين صادق والثاني كاذب . سلمنا أنه خبر واحد لكنه كاذب لأنه يقتضي إضافة الصدق إليهما معاً وليس الأمر كذلك فكان كاذباً لا محالة . وأما التعريف الثاني فالاعتراض عليه أن التصديق والتكذيب عبارة عن كون الخبر صدقاً أو كذباً فقولنا الخبر ما يحتمل التصديق والتكذيب جار مجرى قولنا الخبر هو الذي يحتمل الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب فيكون هذا تعريفاً للخبر وبالصدق والكذب والأول هو تعريف الشيء بنفسه والثاني تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به . وأما التعريف الثالث فالاعتراض عليه من ثلاثة وجوه . الأول : أن وجود الشيء عند أبي الحسين عين ذاته فإذا قلنا السواد موجود فهذا خبر مع أنه لا يفيد إضافة الشيء إلى شيء آخر . والثاني : إنا إذا قلنا الحيوان الناطق يمشي فقولنا الحيوان الناطق يقتضي نسبة الناطق إلى الحيوان مع أنه ليس بخبر لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة . والثالث : أن قولنا نفياً وإثباتاً يقتضي الدور لأن النفي هو الخبر عن عدم الشيء والإثبات هو الأخبار عن وجود فتعريف الخبر بهما دور . قال الرازي وإذا بطلت هذه التعريفات فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر غني عن الحد والرسم بدليلين . الأول : أن كل أحد يعلم بالضرورة إما أنه موجود وإما أنه ليس بمعدوم وأن الشيء الواحد لا يكون موجوداً ومعدوماً معاً ومطلق الخبر جزء من الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء فلو كان تصور ماهية مطلق الخبر موقوفاً على الاكتساب لكان تصور الخبر الخاص أولى بأن يكون كذلك فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضرورياً ولما لم يكن كذلك علمنا صحة ما ذكرنا . الثاني : أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصوراً بديهياً لم يكن الأمر كذلك . فإن قلت الخبر نوع من أنواع الألفاظ وأنواع الألفاظ ليست تصوراتها بديهية فكيف قلت أن ماهية الخبر متصورة تصوراً بديهياً ؟ قلت حكم الذهن بين أمرين بأن أحدهما له الآخر وليس له الآخر معقول واحد لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وكل واحد يدرك من نفسه ويجد تفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية في ألمه ولذته وجوعه وعطشه ، وإذا ثبت هذا فنقول إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي مركوز في فطرة العقل وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية فالإشكال غير وارد أيضاً ، لأن مطلق اللفظ الدال على المعنى بديهي التصور انتهى . ويجاب عنه بأن المراد اللفظ الدال والإشكال وارد ولا نسلم أن مطلق اللفظ الدال بديهي التصور ، وقد أجيب عما ذكره بأن كون العلم ضرورياً كيفية لحصوله وأنه يقبل الاستدلال عليه والذي لا يقبله هو نفس الحصول الذي هو معروض الضرورة فإنه يمتنع أن يكون حاصلاً بالضرورة والاستدلال لتنافيهما . وأجيب أيضاً بأن المعلوم ضرورة إنما هو نسبة الوجود إليه إثباتاً وهو غير تصور النسبة التي هي ماهية الخبر فلا يلزم أن تكون ماهية الخبر ضرورية ، وقيل إن الخبر لا يحد لتعسره وقد تقدم بيانه في تعريف العلم . وقيل الأولى في حد الخبر أن يقال هو الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية والمراد بالخارج ما هو خارج عن كلام النفس المدلول عليه بذلك اللفظ فلا يرد عليه قم لأن مدلوله الطلب نفسه وهو المعنى القائم بالنفس من غير أن يشعر بأن له متعلقاً واقعاً في الخارج ، وكذا يخرج جميع المركبات التقييدية والإضافية واعترض على هذا الحد بأنه إن كان المراد أن النسبة أمر موجود في الخارج لم يصح في مثل اجتماع الضدين وشريك الباري معدوم محال ، وأجيب بأن المراد النسبة الخارجية عن المدلول سواء قامت تلك النسبة الخارجية بالذهن كالعلم أو بالخارج عن الذهن كالقيام أو لم تقم بشيء منهما نحو شريك الباري ممتنع والأولى أن يقال في حد الخبر هو ما يصح أن يدخله الصدق والكذب لذاته وهذا الحد لا يرد عليه شيء مما سبق . وقد اختلف هل الخبر حقيقة في اللفظي والنفسي أم الحقيقة في اللفظي مجاز في النفسي أم العكس كما وقع الخلاف في الكلام على هذه الثلاثة الأقوال لأن الخبر قسم من أقسامه وإذا عرفت الاختلاف في تعريف الخبر عرفت بأن ما لا يكون كذلك ليس بخبر ويسمونه إنشاءً وتنبيهاً ويندرج فيه الأمر والنهي والاستفهام والنداء والتمني والعرض والترجي والقسم . النوع الثاني : إن الخبر ينقسم إلى صدق وكذب . وخالف في ذلك القرافي وادعى أن العرب لم تضع الخبر إلا للصدق وليس لنا خبر كذب واحتمال الصدق والكذب إنما هو من جهة المتكلم لا من جهة الواضع ونظيره قولهم الكلام يحتمل الحقيقة والمجاز وقد أجمعوا على أن المجاز ليس من الوضع الأول ثم استدل على ذلك باتفاق اللغويين والنحاة على أن معنى قولنا « قام زيد » حصول القيام له في الزمن الماضي ولم يقل أحد إن معناه صدور القيام أو عدمه وإنما احتماله له من جهة المتكلم لا من جهة اللغة . وأجيب عنه بأنه مصادم للإجماع على أن الخبر موضوع لأعم من ذلك وما ادعاه من أن معنى قام زيد حصول القيام له في الزمن الماضي باتفاق أهل اللغة والنحو ممنوع فإن مدلوله الحكم بحصول القيام وذلك يحتمل الصدق والكذب ويجاب عن هذا الجواب بأن هذا الاحتمال إن كان من جهة المتكلم فلا يقدح على القرافي بل هي معترف به كما تقدم عنه وإن كان من جهة اللغة فذلك مجرد دعوى ويقوي ما قاله القرافي إجماع أهل اللغة قبل ورود الشرع وبعده على مدح الصادق وذم الكاذب ولو كان الخبر موضوعاً لهما لما كان على من تكلم بما هو موضوع من بأس . ثم اعلم أنه قد ذهب الجمهور إلى أنه لا واسطة بين الصدق والكذب لأن الحكم إما مطابق للخارج أو لا . والأول الصدق والثاني الكذب وأثبت الجاحظ الواسطة بينهما ، فقال الخبر إما مطابق للخارج أو لا مطابق والمطابق إما مع اعتقاده أنه مطابق أو لا وغير المطابق إما مع اعتقاد أنه غير مطابق أو لا والثاني منهما وهو ما ليس مع الاعتقاد ليس بصدق ولا كذب واستدل بقوله تعالى : أفترى على الله كذبا أم به جنة ووجه الاستدلال بالآية أنه حصر ذلك في كونه افتراء أو كلام مجنون فعلى تقدير كونه كلام مجنون لا يكون صدقاً لأنهم لا يعتقدون كونه صدقاً وقد صرحوا بنفي الكذب عنه لكونه قسيمة وما ذاك إلا أن المجنون لا يقول عن قصد واعتقاد . وأجيب بأن المراد من الآية أفترى أم لم يفتر فيكون مجنوناً لأن المجنون لا افتراء له والكذب من غير قصد يكون مجنوناً أو المراد أقصد فيكون مجنوناً أم لم يقصد فلا يكون خبراً . والحاصل أن الافتراء أخص من الكذب ومقابلة قد يكون كذباً وإن سلم فقد لا يكون خبراً فيكون هذا حصراً للكذب في نوعيه الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد . قال الرازي في المحصول والحق أن المسألة لفظية لأنا نعلم بالبديهة أن كل خبر فإما أن يكون مطابقاً للمخبر عنه أو لا يكون مطابقاً فإن أريد بالصدق الخبر المطابق كيف كان وبالكذب الخبر الغير المطابق كيف كان وجب القطع بأنه لا واسطة بين الصدق والكذب وإن أريد بالصدق ما يكون مطابقاً مع أن المخبر يكون عالماً بكونه مطابقاً وبالكذب الذي لا يكون مطابقاً مع أن المخبر يكون عالماً بأنه غير مطابق كان هناك قسم ثالث بالضرورة وهو الخبر الذي لا يعلم قائله أنه مطابق أم لا فثبت أن المسألة لفظية انتهى . وقال النظام ومن تابعه من أهل الأصول والفقهاء إن الصدق مطابقة الخبر للاعتقاد والكذب عدم مطابقته للاعتقاد واستدل بالنقل والعقل . أما النقل فبقوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فإن الله سبحانه حكم في هذه الآية حكماً مؤكداً بأنهم كاذبون في قولهم إنك لرسول الله مع مطابقته للواقع فلو كان للمطابقة للواقع أو لعدمها مدخل في الصدق والكذب لما كانوا كاذبين لأن خبرهم هذا مطابق للواقع ولا واسطة بن الصدق والكذب . وأجيب بأن التكذيب راجع إلى خبر تضمنه معنى نشهد أنك لرسول الله وهو أن شهادتهم هذه من صميم القلب وخلوص الاعتقاد لأن ذلك معنى الشهادة سيما بعد تأكيده بأن واللام والجملة الاسمية . وأجيب أيضاً بأن التكذيب راجع إلى زعمهم الفاسد واعتقادهم الباطل لأنهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع . وأجيب أيضاً بأن التكذيب راجع إلى حلفهم المدلول عليه بقوله : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولا يخفى ما في الأجوبة من مزيد التكلف ولكنه ألجأ إلى المصير إليها الجمع بين الأدلة ، وأما العقل فمن وجهين : الأول : أن من غلب على ظنه أن زيداً في الدار ثم ظهر أنه ما كان كذلك لم يقل أحد أنه كذب في هذا الخبر بل يقال أخطأ أو وهم . الثاني : أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة فلو كان الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه كذباً لتطرق إلى كلام الشارع . واحتج الجمهور على ما قالوه من أن صدق الخبر مطابقته وكذبه عدمها بقوله سبحانه لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد فكذبهم الله سبحانه مع كونهم يعتقدون ذلك وبقوله وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين والآيات في هذا المعنى كثيرة . ويدل لذلك من السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع وقد قال للنبي صضص أن جماعة من الصحابة قالوا بطل عمل عامر لما رجع سيفه على نفسه فقتله فقال صضص كذب من قال ذلك بل له أجر مرتين . فكذبهم صضص مع أنهم أخبروا بما كان في اعتقادهم . وفي البخاري وغيره أن أبا سفيان قال للنبي صضص يوم الفتح إن سعد بن عبادة قال اليوم تستحل الكعبة فقال صضص كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة . واحتجوا بالإجماع على تكذيب اليهود والنصارى في كفرياتهم مع أنا نعلم أنهم يعتقدون صحة تلك الكفريات وكذلك وقع الإجماع على تكذيب الكافر إذا قال الإسلام باطل مع مطابقته لاعتقاده . والذي لي أن الخبر لا يتصف بالصدق إلا إذا جمع بين مطابقة الواقع والاعتقاد فإن خالفهما أو أحدهما فكذب فيقال في تعريفهما هكذا الصدق ما طابق الواقع والاعتقاد . والكذب ما خالفهما أو أحدهما ولا يلزم على هذا ثبوت واسطة لأن المعتبر هو كلام العقلاء فلا يرد كلام الساهي والمجنون والنائم وجميع أدلة الأقوال المتقدمة تصلح للاستدلال بها على هذا ولا يرد عليه شيء مما ورد عليها . فإن قلت من جملة ما استدل به الجمهور الإجماع على تصديق الكافر إذا قال الإسلام حق وهو إنما طابق الواقع لا الاعتقاد . قلت ليس النزاع إلا في مدلول الصدق والكذب لغة لا شرعاً وهذا الإجماع إنما هو من أهل الشرع لا من أهل اللغة والدليل الذي هو إجماعهم شرعي لا لغوي ولكن الكذب المذموم شرعاً هو المخالف للاعتقاد سواء طابق الواقع أو خالفه وذلك لا يمنع من صدق وصف ما خالف الواقع وطابق الاعتقاد بالكذب . النوع الثالث : في تقسيم الخبر لغة من حيث هو محتمل للصدق والكذب لكن قد يقطع بصدقه وقد يقطع بكذبه لأمور خارجة وقد لا يقطع بواحد منهما لفقدان ما يوجب القطع فهذه ثلاثة أقسام . القسم الأول : المقطوع بصدقه وهو إما أن يعلم بالضرورة أو النظر فالمعلوم بالضرورة بنفسه وهو المتواتر أو بموافقة العلم الضروري وهي الأوليات كقولنا الواحد نصف الاثنين ، وأما المعلوم بالنظر فهو ضربان : الأول : أن يدل الدليل على صدق الخبر نفسه فيكون كل من يخبر به صادقاً كقولنا العالم حادث . والضرب الثاني : أن يدل الدليل على صدق المخبر فيكون كل ما يخبر به متحققاً وهو ضروب : الأول خبر من دل الدليل على أن الصدق وصف واجب له وهو الله عز وجل . الثاني من دلت المعجزة على صدقه وهم الأنبياء صلوات الله عليهم . الثالث من صدقه الله سبحانه أو رسوله وهو خبر كل الأمة على القول بأن الإجماع حجة قطعية . القسم الثاني : المقطوع بكذبه وهو ضروب الأول المعلوم خلافه إما بالضرورة كالإخبار باجتماع النقيضين أو ارتفاعهما . الثاني المعلوم خلافه إما بالاستدلال كالإخبار بقدم العالم أو بخلاف ما هو من قطعيات الشريعة . الثالث الخبر الذي لو كان صحيحاً لتوفرت الدواعي على نقله متواتراً إما لكونه من أصول الشريعة وإما لكونه أمر غريباً كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة . الرابع خبر مدعي الرسالة من غير معجزة . الخامس كل خبر استلزم باطلاً ولم يقبل التأويل ومن ذلك الخبر الآحادي إذا خالف القطعي كالمتواتر . القسم الثالث : ما لا يقطع بصدقه ولا كذبه وذلك كخبر المجهول فإنه لا يترجح صدقه ولا كذبه وقد يترجح صدقه ولا يقطع بصدقه وذلك كخبر العدل وقد يترجح كذبه ولا يقطع بكذبه كخبر الفاسق . النوع الرابع : أن الخبر باعتبار آخر ، ينقسم إلى متواتر وآحاد القسم : الأول المتواتر وهو في اللغة عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما مأخوذ من الوتر وفي الاصطلاح خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم وقيل في تعريفه هو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه وقيل خبر جمع عن محسوس يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم فقولهم من حيث كثرتهم لإخراج خبر قوم يستحيل كذبهم بسبب أمر خارج عن الكثرة كالعلم بمخبرهم ضرورة أو نظراً وكما يخرج من هذا الحد بذلك القيد ما ذكرنا كذلك يخرج من قيد بنفسه في الحد الذي قبله . وقد اختلف في العلم الحاصل بالتواتر هل هو ضروري أو نظري فذهب الجمهور إلى أنه ضروري . وقال الكعبي وأبو الحسين البصري إنه نظري ، وقال الغزالي إنه قسم ثالث ليس أولياً ولا كسبياً بل من قبيل القضايا التي قياساتها معها ، وقال المرتضى والآمدي بالوقف . والحق قول الجمهور للقطع بأنا نجد نفوسنا جازمة بوجود البلاد الغائبة عنا ووجود الأشخاص الماضية قبلنا جزماً خالياً عن التردد جارياً مجرى جزمنا بوجود المشاهدات . فالمنكر لحصول العلم الضروري بالتواتر كالمنكر لحصول العلم الضروري بالمشاهدات وذلك سفسطة لا يستحق صاحبها المكالمة وأيضاً لو لم يكن ضرورياً لافتقر إلى توسيط المقدمتين واللازم منتف لأنا نعلم بذلك قطعاً مع انتفاء المقدمتين لحصوله بالعادة لا بالمقدمتين فاستغنى عن الترتيب واستدل القائل بأنه لا يفيد العلم بقولهم لا ننكر حصول الظن القوي بوجود ما ذكرتم لكن لا نسلم حصول اليقين وذلك لأنا إذا عرضنا على عقولنا وجود المدينة الفلانية أو الشخص الفلاني مما جاء التواتر بوجودهما وعرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين وجدنا الجزم بالثاني أقوى من الجزم بالأول وحصول التفاوت بينهما يدل على تطرق النقيض إلى المرجوح وأيضاً جزمنا بهذه الأمور المنقولة بالتواتر ليس بأقوى من جزمنا بأن هذا الشخص الذي رأيته اليوم هو الذي رأيته أمس مع أن هذا الجزم ليس بيقين ولا ضروري لأنه يجوز أن يوجد شخص مساو له في الصورة من كل وجه ويجاب عن هذا بأنه تشكيك في أمر ضروري فلا يستحق صاحبه الجواب كما أن من أنكر المشاهدات لا يستحق الجواب فإنا لو جوزنا أن هذا الشخص المرئي اليوم غير الشخص المرئي أمس لكان ذلك مستلزماً للتشكيك في المشاهدات والقائلون بأنه نظري بقولهم لو كان ضرورياً لعلم بالضرورة أنه ضروري وأجيب بالمعارضة بأنه لو كان نظرياً لعمل بالضرورة كونه نظرياً كغيره من النظريات وبالحل وذلك أن الضرورية والنظرية صفتان للعمل ولا يلزم من ضرورية العلم ضرورية صفته . واحتج الجمهور أيضاً بأن العلم الحاصل بالتواتر لو كان نظرياً لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر كالصبيان المراهقين وكثير من العامة ، فلما حصل ذلك لهم علمنا أنه ليس بنظري وكما يندفع بأدلة الجمهور قول من قال أنه نظري يندفع أيضاً قول من قال أنه قسم ثالث وقول من قال بالوقف لأن سبب وقفة ليس إلا تعارض الأدلة عليه وقد اتضح بما ذكرنا أنه لاتعارض فلا وقف . واعلم أنه لم يخالف أحد من أهل الإسلام ولا من العقلاء في أن خبر التواتر يفيد العلم وما روي من الخلاف في ذلك عن السمنية والبراهمة فهو خلاف باطل لا يستحق قائله الجواب عليه . ثم اعلم أن الخبر المتواتر لا يكون مفيداً للعلم الضروري إلا بشروط منها ما يرجع إلى المخبرين . ومنها ما يرجع إلى السامعين فالتي ترجع إلى المخبرين أمور أربعة : الأول : أن يكونوا عالمين بما أخبروا به غير مجازفين فلو كانوا ظانين لذلك فقط لك يفد القطع هكذا اعتبر هذا الشرط جماعة من أهل العلم منهم القاضي أبو بكر الباقلاني ، وقيل أنه غير محتاج إليه لأنه إن أريد وجوب علم الكل به فباطل لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين به مقلداً فيه أو ظاناً له أو مجازفاً وإن أريد وجوب علم البعض فمسلم ولكنه مأخوذ من شرط كونهم مستندين إلى الحس . الشرط الثاني : أن يعلموا ذلك عن ضرورة من مشاهدة أو سماع لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه . قال الأستاذ أبو منصور فأما إذا تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه واعتقدوه بالنظر والاستدلال أو عن شبهة فإن ذلك لا يوجب علماً ضرورياً لأن المسلمين مع تواترهم يخبرون الدهرية بحدوث العالم وتوحيد الصانع ويخبرون أهل الذمة بصحة نبوة نبينا محمد صضص فلا يقع لهم العلم الضروري بذلك لأن العلم به من طريق الاستدلال دون الاضطرار انتهى . ومن تمام هذا الشرط أن لا تكون المشاهدة والسماع على سبيل غلط الحس كما في أخبار النصارى بصلب المسيح عليه السلام وأيضاً لا بد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك لم يوثق بخبرهم ولا يلتفت إليه . الشرط الثالث : أن يبلغ عددهم إلى مبلغ يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب ولا يقيد ذلك بعدد معين بل ضابطه حصول العلم الضروري به فإذا حصل ذلك علمنا أنه متواتر وإلا فلا وهذا قول الجمهور وقال قوم منهم القاضي أبو الطيب الطبري يجب أن يكونوا أكثر من الأربعة لأنه لو كان خبر الأربعة يوجب العلم لما احتاج الحاكم إلى السؤال عن عدالتهم إذا شهدوا عنده وقال ابن السمعاني ذهب أصحاب الشافعي إلى أنه لا يجوز أن يتواتر الخبر بأقل من خمسة فما زاد وحكاه الأستاذ أبو منصور عن الجبائي واستدل بعض أهل هذا القول بأن الخمسة عدد أولي العزم من الرسل على الأشهر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من الضعف مع عدم تعلقه بمحل النزاع بوجه من الوجوه وقيل يشترط أن يكونوا سبعة بعدد أهل الكهف وهو باطل ، وقيل يشترط عشرة وبه قال الاصطخري واستدل على ذلك بأن ما دونها جمع قلة وهذا استدلال ضعيف أيضاً وقيل يشترط أن يكونوا اثني عشر بعدد النقباء لموسى عليه السلام لأنهم جعلوا كذلك لتحصيل العلم بخبرهم وهذا استدلال ضعيف أيضاً وقيل يشترط أن يكونوا عشرين لقوله سبحانه إن يكن منكم عشرون صابرون وهذا مع كونه في غاية الضعف خارج عن محل النزاع وإن قال المستدل به بأنهم إنما جعلوا كذلك ليفيد خبرهم العلم بإسلامهم فإن المقام ليس مقام خبر ولا استخبار وقد روي هذا القول عن أبي الهذيل وغيره من المعتزلة وقيل يشترط أن يكونوا أربعين كالعدد المعتبر في الجمعة وهذا مع كونه خارجاً عن محل النزاع باطل الأصل فضلاً عن الفرع وقيل يشترط أن يكونوا سبعين لقوله واختار موسى قومه سبعين رجلاً وهذا أيضاً استدلال باطل . وقيل يشترط أن يكونوا ثلاثمائة وبضعة عشر بعدد أهل بدر وهذا أيضاً استدلال باطل خارج عن محل النزاع . وقيل يشترط أن يكونوا خمس عشرة مائة بعدد بيعة أهل الرضوان وهذا أيضاً باطل . وقيل سبع عشرة مائة لأنه عدد أهل بيعة الرضوان . وقيل أربع عشرة مائة لأنه عدد أهل بيعة الرضوان . وقيل يشترط أن يكونوا جميع الأمة كالإجماع حكي هذا القول عن ضرار بن عمرو وهو بطال ، وقال جماعة من الفقهاء لا بد أن يكونوا بحيث لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد . ويالله العجب من جري أقلام العلم بمثل هذه الأقوال التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل ولا يوجد بينها وبين محل النزاع جامع وإنما ذكرناه ليعتبر بها المعتبر ويعلم أن القيل والقال قد يكون من أهل العلم في بعض الأحوال من جنس الهذيان فيأخذ عند ذلك حذره من التقليد ويبحث عن الأدلة التي هي من شرع الله الذي شرعه لعباده فإنه لم يشرع لهم إلا ما في كتابه وسنة رسوله . الشرط الرابع : وجود العدد المعتبر في كل الطبقات فيروى ذلك العدد عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه وقد اشترط عدالة النقلة لخبر التواتر فلا يصح أن يكونوا أو بعضهم غير عدول وعلى هذا لا بد أن لا يكونوا كفاراً ولا فساقاً ولا وجه لهذا الاشتراط فإن حصول العلم الضروري بالخبر المتواتر لا يتوقف على ذلك بل يحصل بخبر الكفار والفساق والصغار المميزين والأحرار والعبيد وذلك هو المعتبر وقد اشترط أيضاً اختلاف أنساب أهل التواتر واشترط أيضاً اختلاف أديانهم واشترط أيضاً اختلاف أوطانهم واشترط أيضاً كون المعصوم منهم كما يقول الإمامية ولا وجه لشيء من هذه الشروط . وأما الشروط التي ترجع إلى السامعين فلا بد أن يكونوا عقلاء إذ يستحيل حصول العلم لمن لا عقل له والثاني أن يكونوا عالمين بمدلول الخبر والثالث أن يكونوا خالين عن اعتقاد ما يخالف ذلك الخبر لشبهة تقليد أو نحوه . القسم الثاني : الآحاد وهو خبر لا يفيد بنفسه العلم سواء كان لا يفيد أصلاً أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه فلا واسطة بين المتواتر والآحاد وهذا قول الجمهور وقال أحمد بن حنبل إن خبر الواحد يفيد بنفسه العلم وحكاه ابن حزم في كتاب الأحكام عن داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارث المحاسبي . قال وبه نقول وحكاه ابن خوازمنداد عن مالك بن أنس واختاره وأطال في تقريره ونقل الشيخ في التبصرة عن بعض أهل الحديث أنها منها ما يوجب العلم كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر وما أشبهه ، وحكى صاحب المصادر عن أبي بكر القفال أنه يوجب العلم الظاهر وقيل في تعريفه هو ما لم ينته بنفسه إلى التواتر سواء كثر رواته أو قلوا وهذا كالأول في نفي الواسطة بين التواتر والآحاد وقيل في تعريفه هو ما يفيد الظن واعترض عليه بما لم يفد الظن من الأخبار ورد بأن الخبر الذي لا يفيد الظن لا يراد دخوله في التعريف إذ لا يثبت به حكم والمراد تعريف ما يثبت به الحكم . وأجيب عن هذا الرد بأن الحديث الضعيف الذي لم ينته تضعيفه إلى حد يكون به باطلاً موضوعاً يثبت به الحكم مع كونه لا يفيد الظن ويرد هذا الجواب بأن الضعيف الذي يبلغ ضعفه إلى حد لا يحصل معه الظن لا يثبت به الحكم ولا يجوز الاحتجاج به في إثبات شرع عام وإنما يثبت الحكم بالصحيح والحسن لذاته أو لغيره لحصول الظن بصدق ذلك وثبوته عن الشارع وقد ذهب الجمهور إلى وجوب العمل بخبر الواحد وأنه وقع التعبد به وقال القاشاني والرافضة وابن داود لا يجب العمل به وحكاه الماوردي عن الأصم وابن علية وقال إنهما قالا لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات ويقبل في غيره من أدلة الشرع . وحكى الجويني في شرح الرسالة عن هشام والنظام أنه لا يقبل خبر الواحد إلا بعد قرينة تنضم إليه وهو علم الضرورة بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق ، وقال وإليه ذهب أبو الحسين بن اللبان الفرضي قال بعد حكاية هذا عنه فإن تاب فالله يرحمه وإلا فهو مسألة التكفير لأنه إجماع فمن أنكره يكفر ، قال ابن السمعاني واختلفوا يعني القائلين بعدم وجوب العمل بخبر الواحد في المانع من القبول فقيل منع منع العقل وينسب إلى ابن علية والأصم وقال القاشاني من أهل الظاهر والشيعة منع الشرع فقالوا أنه لا يفيد إلا الظن وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً ويجاب عن هذا بأنه عام مخصص لما ثبت في الشريعة من العلم بأخبار الآحاد ، ثم اختلف الجمهور في طريق إثباته فالأكثر منهم قالوا يجب بدليل السمع ، وقال أحمد بن حنبل والقفال وابن شريح وأبو الحسين البصري من المعتزلة وأبو جعفر الطوسي من الإمامية والصيرفي من الشافعية إن الدليل العقلي دل على وجوب العمل لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر الوارد عن الواحد ، وأما دليل السمع فقد استدلوا من الكتاب بمثل قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ وبمثل قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ومن السنة بمثل قصة أهل قبا لما أتاهم واحد فأخبرهم أن القبلة قد تحولت فتحولوا وبلغ ذلك النبي صضص فلم ينكر عليهم وبمثل بعثه لعماله واحداً بعد واحد وكذلك بعثه بالفرد من الرسل يدعو الناس إلى الإسلام ومن الإجماع بإجماع الصحابة والتابعين على الاستدلال بخبر الواحد وشاع ذلك وذاع ولم ينكره أحد ولو أنكره لنقل إلينا وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح ، قال ابن دقيق العيد ومن تتبع أخبار النبي والصحابة والتابعين وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعاً انتهى . وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العلم بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال فلذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة الصحة أو تهمة للراوي أو وجود معارض راجح أو نحو ذلك . واعلم أن الآحاد تنقسم إلى أقسام فمنها خبر الواحد وهو هذا الذي تقدم ذكره . والقسم الثاني : المستفيض وهو ما رواه ثلاثة فصاعداً وقيل ما زاد على الثلاثة وقال أبو إسحاق الشيرازي أقل ما ثبت به الاستفاضة اثنان . قال السبكي والمختار عندنا أن المستفيض ما يعده الناس شائعاً . القسم الثالث : المشهور وهو ما اشتهر ولو في القرن الثاني أو الثالث إلى حد ينقله ثقات لا يتوهم تواطؤهم على الكذب ولا يعتبر الشهرة بعد القرنين ، هكذا قال الحنفية فاعتبروا التواتر في بعض طبقاته وهي الطبقة التي روته في القرن الثاني أو الثالث فقط فبينه وبين المستفيض عموم وخصوص من وجه لصدقهما على ما رواه الثلاثة فصاعداً ولم يتواتر في القرن الأول ثم تواتر في أحد القرنين المذكورين وانفرد المستفيض إذا لم ينته في أحدهما إلى التواتر وانفراد المشهور فيما رواه اثنان في القرن الأول ثم تواتر في الثاني والثالث وجعل الجصاص المشهور قسماً من المتواتر ووافقه جماعة من أصحاب الحنفية ، وأما جمهورهم فجعلوه قسيماً للمتواتر لا قسماً منه كما تقدم . واعلم أن الخلاف الذي ذكرناه في أول هذا البحث من إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم مقيد بما إذا كان خبر واحد لم ينضم إليه ما يقويه ، وأما إذا انضم إليه ما يقويه أو كان مشهوراً أو مستفيضاً فلا يجري فيه الخلاف المذكور ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول فكانوا بين عامل به ومتأول له ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم فإن الأمة تلقت ما فيهما بالقبول ومن لم يعلم بالبعض من ذلك فقد أوله والتأويل فرع القبول والبحث مقرر بأدلته في غير هذا الموضع . قيل ومن خبر الواحد المعلوم صدقه أن يخبر به في حضور جماعة هي نصاب التواتر ولم يقدحوا في روايته مع كونهم ممن يعرف علم الرواية ولا مانع يمنعهم من القدح في ذلك وفي هذا نظر . واختلفوا في خبر الواحد المحفوف بالقرائن فقيل يفيد العلم . وقيل لا يفيده وهذا خلاف لفظي لأن القرائن إن كانت قوية بحيث يحصل لكل عاقل عندها العلم كان من المعلوم صدقه أيضاً إذا أخبر مخبر بحضرته صضص بخبر يتعلق بالأمور الدينية وسمعه صضص ولم ينكر عليه إلا إذا كان الخبر يتعلق بغير الأمور الدينية .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ليصالحوا ، فلما رأى النبي سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب . ( قوله : فدعا النبي الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب . ( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي بذلك. ( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله  : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين . وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب . ( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته . ( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله . ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين . قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه . ( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا . ( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. (قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية . (قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. (قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح. (قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. (قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي . (قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. (قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. (قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي : أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.