إظهار الحق/المسلك السادس:إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته عليه السلام


(المسلك السادس) إخبار الأنبياء المتقدمين عليه، عن نبوته عليه السلام، ولما كان القسيسون يغلطون العوام في هذا الباب تغليطاً عظيماً استحسنت أن أقدم على نقل تلك الأخبار أموراً ثمانية تفيد للناظر بصيرة:

(الأمر الأول) أن الأنبياء الإسرائيلية مثل أشعيا وأرميا ودانيال وحزقيال وعيسى عليهم السلام، أخبروا عن الحوادث الآتية كحادثة بختنصر وقورش واسكندر وخلفائه وحوادث أرض أدوم ومصر ونينوى وبابل، ويبعد كل البعد أن لا يخبر أحد منهم عن خروج محمد الذي كان وقت ظهوره كأصغر البقول، ثم صار شجرة عظيمة تأوي طيور السماء في أغصانها، فكسر الجبابرة والأكاسرة وبلغ دينه شرقاً وبلغ دينه شرقاً وغرباً وغلب الأديان وامتد دهراً بحيث مضى على ظهوره مدة ألف ومائتين وثمانين إلى هذا الحين ويمتد إن شاء الله إلى آخر بقاء الدنيا، وظهر في أمته ألوف ألوف من العلماء الربانيين والحكماء المتقنين والأولياء ذوي الكرامات والمجاهدات والسلاطين العظام، وهذه الحادثة كانت أعظم الحوادث، وما كانت أقل من حادثة أرض أدوم ونينوى وغيرهما فكيف يجوز العقل السليم أنهم أخبروا عن الحوادث الضعيفة وتركوا الإخبار عن الحادثة العظيمة.

(الأمر الثاني) أن النبي المتقدم إذا أخبر عن النبي المتأخر، لا يشترط في إخباره أن يخبر بالتفصيل التام بأنه يخرج من القبيلة الفلانية في السنة الفلانية في البلد الفلاني، وتكون صفته كيت وكيت، بل يكون هذا الإخبار في غالب الأوقات مجملاً عند العوام، وأما عند الخواص فقد يصير جلياً بواسطة القرائن، وقد يبقى خفياً عليهم أيضاً لا يعرفون مصداقه إلا بعد ادعاء النبي اللاحق أن النبي المتقدم أخبر عني وظهور صدق ادعائه بالمعجزات وعلامات النبوة، وبعد الادعاء وظهور صدقه يصير جلياً عندهم بلا ريب ولذلك يعاتبون كما عاتب المسيح عليه السلام علماء اليهود بقوله: (ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم) كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل لوقا، وعلى مذاق المسيحيين قد يبقى خفياً على الأنبياء فضلاً عن العلماء بل قد يبقى خفياً على النبي المخبر عنه على زعمهم في الباب الأول من إنجيل يوحنا هكذا: 19 (وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت) 20 (فاعترف ولم ينكروا قرأني لست أنا المسيح) 21 (فسألوه ماذا إذاً أنت، إيلياء؟ فقال لست أنا إيلياء فسألوه أنت النبي فأجاب لا) 22 (فقالوا له من أنت لنعطي جواباً للذين أرسلونا ماذا تقول عن نفسك) 23 (قال أنا صوت صارخ في البرية قوّموا طريق الرب كما قال أشعيا النبي) 24 (وكان المرسلون من الفريسيين) 25 (فسألوه وقالوا له فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي). والألف واللام في لفظ النبي الواقع في الآية 21 و 25 للعهد، والمراد النبي المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام في الباب الثامن عشر من سفر الاستثناء على ما صرح به العلماء المسيحية، فالكهنة واللاويون كانوا من علماء اليهود وواقفين على كتبهم وعرفوا أيضاً أن يحيى عليه السلام نبي، لكنهم شكوا في أنه المسيح عليه السلام أو إيلياء عليه السلام أو النبي المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام، فظهر منه أن علامات هؤلاء الأنبياء الثلاثة لم تكن مصرحة في كتبهم بحيث لا يبقى الاشتباه للخواص فضلاً عن العوام فلذلك سألوا أولاً أنت المسيح فبعد ما أنكر يحيى عليه السلام عن كونه مسيحاً سألوه أنت إيلياء فبعد ما أنكر عن كونه إيلياء أيضاً سألوه أنت النبي المعهود.

ولو كانت العلامات مصرحة لما كان للشك محل بل ظهر منه أن يحيى عليه السلام لم يعرف نفسه أنه إيلياء حتى أنكر، فقال لست أنا وقد شهد عيسى أنه إيلياء في الباب الحادي عشر من إنجيل متى. قول عيسى عليه السلام في حق يحيى عليه السلام هكذا: (وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيلياء المزمع أن يأتي) وفي الباب السابع عشر من إنجيل متى هكذا: 10 (وسأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة أن إيلياء ينبغي أن يأتي أولاً) 11 (فأجاب يسوع وقال لهم أن إيلياء يأتي أولاً ويرد كل شيء) 12 (ولكني أقول لكم أن إيلياء قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم) 13 (حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان). وظهر من العبارة الأخيرة أن علماء اليهود لم يعرفوه بأنه إيلياء وفعلوا به ما فعلوا وأن الحواريين أيضاً لم يعرفوه بأنه إيلياء مع أنهم كانوا أنبياء في زعم المسيحيين وأعظم رتبة من موسى عليه السلام وكانوا اعتمدوا من يحيى ورأوه مراراً، وكان مجيئه ضرورياً قبل إلههم ومسيحهم.

وفي الآية 33 من الباب الأول من إنجيل يوحنا قول يحيى هكذا: (وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس) ومعنى قوله: (وأنا لم أكن أعرفه) على زعم القسيسين أنا لم أكن أعرفه معرفة جيدة بأنه المسيح الموعود، فعلم أن يحيى عليه السلام ما كان يعرف عيسى عليه السلام معرفة يقينية بأنه المسيح الموعود به إلى ثلاثين سنة ما لم ينزل الروح القدس، لعل كون ولادة المسيح من العذراء لم يكن من العلامات المختصة بالمسيح، وإلا فكيف يصح هذا، لكني أقطع النظر عن هذا وأقول أن يحيى أشرف الأنبياء الإسرائيلية بشهادة عيسى عليه السلام كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل متى وأن عيسى عليه السلام إلهه وربه على زعم المسيحيين، وكان مجيئه ضرورياً قبل المسيح، وكان كونه إيلياء يقينياً، فإذا لم يعرف هذا النبي الأشرف نفسه إلى آخر العمر، ولم يعرف إلهه وربه إلى المدة المذكورة، وكذا لم يعرف الحواريون الذين هم أفضل من موسى وسائر الأنبياء الإسرائيلية مدة حياة يحيى أنه إيلياء، فماذا رتبة العلماء والعوام عندهم في معرفة النبي اللاحق بخبر النبي المتقدم عنه وترددهم فيه، وقيافا رئيس الكهنة كان نبياً على شهادة يوحنا، كما هو مصرح به في الآية الحادية والخمسين من الباب الحادي عشر من إنجيله وهو أفتى بقتل عيسى عليه السلام وكفره وأهانه، كما هو مصرح به في الباب السابع والعشرين من إنجيل متى، ولو كانت علامات المسيح في كتبهم مصرحة بحيث لا يبقى الاشتباه على أحد، ما كان لهذا النبي المفتي بقتل إلهه وبكفره أن يفتي بقتله وكفره. ونقل متى ولوقا في الباب الثالث، ومرقس ويوحنا في الباب الأول من أناجيلهم خبر أشعيا في حق يحيى عليهما السلام، وأقر يحيى عليه السلام بأن هذا الخبر في حقه على ما صرح به يوحنا. وهذا الخبر في الآية الثالثة من الباب الأربعين من كتاب أشعيا هكذا: (صوت المنادي في البرية، سهلوا طريق الرب، أصلحوا في البوادي سبيلاً لإلهنا) ولم يذكر فيه شيء من الحالات المختصة بيحيى عليه السلام لا من صفاته ولا من زمان خروجه، ولا مكان خروجه، بحيث لا يبقى الاشتباه، ولو لم يكن ادعاء يحيى عليه السلام بأن هذا الخبر في حقه، وكذا ادعاء مؤلفي العهد الجديد، لما ظهر هذا للعلماء المسيحية وخواصهم فضلاً عن العوام، لأن وصف النداء في البرية يعم أكثر الأنبياء الإسرائيلية الذين جاؤوا من بعد أشعيا عليه السلام، بل يصدق على عيسى عليه السلام أيضاً. لأنه كان ينادي مثل نداء يحيى عليه السلام: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماء.

وسيظهر لك في الأمر السادس حال الإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، ولا ندعي أن الأنبياء الذين أخبروا عن محمد كان إخبار كل منهم بصفته مفصلاً بحيث لا يكون فيه مجال التأويل للمعاند.

قال الإمام الفخر الرازي في ذيل تفسير قوله تعالى: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} واعلم أن الأظهر في الباء في قوله بالباطل أنها باء [ص 220] الاستعانة كالتي في قولك كتبت بالقلم. والمعنى لا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد عليه السلام نصوصاً خفية تحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات). انتهى كلامه بلفظه.

قال المحقق عبد الحكيم السيالكوتي في حاشيته على البيضاوي: (هذا فصل يحتاج إلى مزيد شرح وهو يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بلفظة معرضة وإشارة مدرجة لا يعرفها إلا الراسخون في العلم وذلك لحكمة إلهية، وقد قال العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي ، لكن بإشارات، ولو كان منجلياً للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضاً بنقله من لسان إلى لسان من العبراني إلى السرياني ومن السرياني إلى العربي، وقد ذكرت محصلة ألفاظ من التوراة والإنجيل إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه السلام بتعريض هو عند الراسخين في العلم جلي وعند العامة خفي). انتهى كلامه بلفظه.

(الأمر الثالث) ادعاء أن أهل الكتاب ما كانوا ينتظرون نبياً آخر غير المسيح وإيلياء، ادعاء باطل لا أصل له بل كانوا منتظرين لغيرهما أيضاً، لما علمت في الأمر الثاني أن علماء اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام سألوا يحيى عليه السلام أولاً: أنت المسيح؟ ولما أنكر سألوه: أنت إيلياء؟ ولما أنكر سألوه: أنت النبي؟ أي النبي المعهود الذي أخبر به موسى، فعلم أن هذا النبي كان منتظراً مثل المسيح وإيلياء وكان مشهوراً بحيث ما كان محتاجاً إلى ذكر الاسم بل الإشارة إليه كانت كافية.

وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا بعد نقل قول عيسى عليه السلام هكذا: 40: (فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا هذا بالحقيقة هو النبي) 41: (وآخرون قالوا هذا هو المسيح) وظهر من هذا الكلام أيضاً أن النبي المعهود عندهم كان غير المسيح ولذلك قابلوا بالمسيح.

(الأمر الرابع) ادعاء أن المسيح خاتم النبيين ولا نبي بعده باطل، لما عرفت في الأمر الثالث أنهم كانوا منتظرين للنبي المعهود الآخر الذي يكون غير المسيح وإيلياء عليهم السلام، ولما لم يثبت بالبرهان مجيئه قبل المسيح فهو بعده ولأنهم يعترفون بنبوة الحواريين وبولس بل بنبوة غيرهم أيضاً.

وفي الباب الحادي عشر من كتاب الأعمال هكذا: 27 (في تلك الأيام انحدر الأنبياء من أورشليم إلى أنطاكية) 28 (وقام واحد معهم اسمه أغابوس وأشار بالروح أن جوعاً عظيماً كان عتيداً أن يصير على جميع المسكونة الذي صار في أيام كلوديوس) (قيصر) فهؤلاء كلهم كانوا أنبياء على تصريح إنجيلهم وأخبر واحد منهم اسمه أغابوس عن وقوع الجدب العظيم.

وفي الباب الحادي والعشرين من الكتاب المذكور هكذا: 10 (وبينما نحن مقيمون أياماً كثيرة انحدر من اليهودية نبي اسمه أغابوس) 11 (فجاء إلينا وأخذ منطقة بولس وربط يد نفسه ورجليه وقال هذا بقوله الروح القدس، الرجل الذي له هذه المنطقة، هكذا سيربطه اليهود في أورشليم ويسلمونه إلى أيدي الأمم).

وفي هذه العبارة أيضاً تصريح بكون أغابوس نبياً، وقد يتمسكون لإثبات هذا الادعاء بقول المسيح المنقول في الآية الخامسة عشر من الباب السابع من إنجيل متى هكذا: (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتوكم بثبات الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة) والتمسك به عجيب لأن المسيح عليه السلام أمر بالاحتراز من الأنبياء الكذبة لا الأنبياء الصدقة أيضاً ولذلك قيد بالكذبة، نعم لو قال احترزوا من كل نبي يجيء بعدي لكان بحسب الظاهر وجه للتمسك وإن كان واجب التأويل عندهم، لثبوت نبوة الأشخاص المذكورين، وقد ظهر الأنبياء الكذبة الكثيرون في الطبقة الأولى بعد صعوده كما يظهر من الرسائل الموجودة في العهد الجديد في الباب الحادي عشر من الرسالة الثانية إلى أهل قورنثيوس هكذا: 12 (ولكن ما أفعله لأقطع فرصة الذين يريدون فرصة كي يوجدوا كما نحن أيضاً فيما يفتخرون به) 13 (لأن مثل هؤلاء رسل كذبة فعله ماكرون مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح) فمقدسهم ينادي بأعلى نداء أن الرسل الكذبة الغدارين ظهروا في عهده وقد تشبهوا برسل المسيح.

وقال آدم كلارك المفسر في شرح هذا المقام: (هؤلاء الأشخاص كانوا يدعون كذباً أنهم رسل المسيح، وما كانوا رسل المسيح في نفس الأمر وكانوا يعظون ويجتهدون، لكن مقصودهم ما كان إلا جلب المنفعة).

وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا: (أيها الأحياء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله، لأن الأنبياء الكذبة كثيرون قد خرجوا إلى العالم). فظهر من العبارتين أن الأنبياء الكذبة قد ظهروا في عهد الحواريين.

وفي الباب الثامن من كتاب الأعمال هكذا: 9 (وكان قبلاً في المدينة رجل اسمه سيمون يستعمل السحر، ويدهش شعب السامرة قائلاً أنه شيء عظيم) 10 (وكان الجميع يتبعونه من الصغير إلى الكبير قائلين هذا هو قوة الله العظيمة).

وفي الباب الثالث عشر من الكتاب المذكور هكذا: (ولما اجتازا الجزيرة إلى باقوس وجدا رجلاً ساحراً نبياً كذاباً يهودياً اسمه باريشوع) وكذا سيظهر الدجالون الكذابون يدعي كل منهم أنه المسيح كما أخبر عيسى عليه السلام وقال: (لا يضلكم أحد فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو [ص 223] المسيح ويضلون كثيرين) كما هو مصرح به في الباب الرابع والعشرين من إنجيل متى فمقصود المسيح عليه السلام التحذير من هؤلاء الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة لا من الأنبياء الصادقين أيضاً، ولذلك قال بعد القول المذكور في الباب السابع (من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً).

ومحمد من الأنبياء الصادقين، كما يدل عليه ثماره على ما عرفت في المسالك المتقدمة، ولا اعتبار لمطاعن المنكرين كما ستعرف في الفصل الثاني، ولأن كل شخص يعلم أن اليهود ينكرون عيسى بن مريم عليهما السلام ويكذبونه وليس عندهم رجل أشر منه، من ابتداء العالم إلى زمان خروجه، وكذا ألوف من الحكماء والعلماء الذين هم من أبناء صنف القسيسين وكانوا مسيحيين ثم خرجوا عن هذه الملة لاستقباحهم إياها، ينكرونه ويستهزؤون به وبملته وألفوا رسائل كثيرة لإثبات آرائهم واشتهرت هذه الرسائل في أكناف العالم، ويزيد متبعوهم كل يوم في ديار أوربا، فكما أن إنكار اليهود وهؤلاء الحكماء والعلماء في حق عيسى عليه السلام غير مقبول عندنا، فكذا إنكار أهل التثليث في حق محمد غير مقبول عندنا.

(الأمر الخامس) الإخبارات التي نقلها المسيحيون في حق عيسى عليه السلام لا تصدق عليه، على تفاسير اليهود وتأويلاتهم، ولذلك هم ينكرونه أشد الإنكار، والعلماء المسيحية لا يلتفتون في هذا الباب إلى تفاسيرهم وتأويلاتهم ويفسرونها ويؤولونها بحيث تصدق في زعمهم على عيسى عليه السلام. قال صاحب ميزان الحق في الفصل الثالث من الباب الأول في الصفحة 46 من النسخة الفارسية المطبوعة سنة 1849: (المعلمون القدماء من الملة المسيحية ادعوا هذه الدعوى الصحيحة فقط أن اليهود أوّلوا الآيات التي كانت إشارة إلى يسوع المسيح بتأويلات غير صحيحة وغير لائقة وبينوها خلاف الواقع) انتهى.

وقوله ادّعوا هذه الدعوى الصحيحة فقط غلط يقيناً لأن المعلمين القدماء كما ادعوا هذه الدعوى ادعوا أن اليهود حرفوا الكتب تحريفاً لفظياً كما عرفت في الباب الثاني، لكني أقطع النظر عن هذا وأقول كما أن تأويلات اليهود في الآيات المذكورة مردودة غير صحيحة وغير لائقة عند المسيحيين، كذلك تأويلات المسيحيين في الإخبارات التي هي في حق محمد مردودة غير مقبولة عندنا، وسترى أن الإخبارات التي ننقلها في حق محمد أظهر صدقاً من الإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام، فلا بأس علينا إن لم نلتفت إلى تأويلاتهم الفاسدة، وكما أن اليهود ادعوا في حق بعض الإخبارات التي هي في حق عيسى عليه السلام على زعم المسيحيين أنها في حق مسيحهم المنتظر أو في حق غيره أو ليست في حق أحد، والمسيحيون يدعون أنها في حق عيسى عليه السلام ولا يبالون بمخالفتهم، فكذا نحن لا نبالي بمخالفة المسيحيين في حق بعض الإخبارات التي هي في حق محمد لو قالوا أنها في حق عيسى عليه السلام، وسترى أيضاً أن صدقها في حق محمد أليق من صدقها في حق عيسى عليه السلام، فادعاؤنا أحق من ادعائهم.

(الأمر السادس) مؤلفوا العهد الجديد باعتقاد المسيحيين ذوو إلهام وقد نقلوا الإخبارات في حق عيسى عليه السلام فيكون هذا النقل على زعمهم بالإلهام، فأذكر نبذاً منها بطريق الأنموذج ليقيس المخاطب حال هذه الإخبارات بالإخبارات التي أنقلها في هذا المسلك في حق محمد ، وإن سلك أحد من القسيسين مسلك الاعتساف وتصدى لتأويل الإخبارات التي أنقلها في هذا المسلك يجب عليه أن يوجه أولاً الإخبارات التي نقلها مؤلفوا العهد الجديد في حق عيسى عليه السلام، ليظهر للمنصف اللبيب حال الإخبارات التي نقلها الجانبان، ويقابلهما باعتبار القوة والضعف وإن غمض النظر عن توجيه الإخبارات العيسوية التي نقلها المؤلفون المذكورون.

وأول الإخبارات المحمدية التي أنقلها في هذا المسلك يكون محمولاً على عجزه وتعصبه، لأنك قد علمت في الأمر الثاني والخامس أن المعاند له مجال واسع للتأويل في أمثال هذه الإخبارات، وإنما اكتفيت على نبذ مما نقله مؤلفو العهد الجديد، لأنه إذا ظهر أن البعض منها غلط يقيناً، والبعض منها محرف، والبعض منها لا يصدق على عيسى عليه السلام إلا بالادعاء البحت والتحكم الصرف، ظهر أن حال الإخبارات الأخر التي نقلها المسيحيون الذين ليسوا ذوي إلهام روحي، يكون أسوأ، فلا حاجة إلى نقلها.

(الخبر الأول) ما هو المنقول في الباب الأول من إنجيل متى، وقد عرفت في بيان الغلط الخمسين في الفصل الثالث من الباب الأول أنه غلط، على أن كون مريم عذراء وقت الحبل غير مسلم عند اليهود والمنكرين، ولا يتم عليهم حجة، لأنها قبل ولادة عيسى عليه السلام، كانت في نكاح يوسف النجار على تصريح الإنجيل واليهود المعاصرون لعيسى عليه السلام، ويقولون أنه ولد يوسف النجار كما هو مصرح به في الآية 55 من الباب 13 من إنجيل متى والآية 45 من الباب 1 والآية 42 من الباب السادس من إنجيل يوحنا، وإلى الآن يقولون هكذا بل أشنع منه، والعلامة الأخرى المختصة بعيسى عليه السلام غير مذكورة في هذا الخبر.

(والخبر الثاني) ما هو المنقول في الآية السادسة من الباب الثاني من إنجيل متى، وهو إشارة إلى الآية الثانية من الباب الخامس من كتاب ميخا، ولا تطابق عبارة متى عبارة ميخا، وأحدهما محرفة، وقد عرفت في الشاهد الثالث والعشرين من المقصد الأول من الباب الثاني، أن محققيهم اختاروا تحريف عبارة ميخا، لكن ادعاؤهم هذا لأجل محافظة الإنجيل فقط، وعند المخالف باطل.

(والخبر الثالث) ما هو المنقول في الآية الخامسة عشر، من الباب المذكور من إنجيل متى.

(والخبر الرابع) ما هو منقول في الآية 17 و 18 من الباب المذكور.

(والخبر الخامس) ما هو المنقول في الآية الثالثة والعشرين من الباب المذكور. وهذه الأخبار الثلاثة غلط كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول.

(والخبر السادس) الآية التاسعة من الباب السابع والعشرين من إنجيل متى، وقد عرفت في الشاهد التاسع والعشرين من المقصد الثاني من الباب الثاني أنه غلط، على أن هذا الحال يوجد في الباب الحادي عشر من كتاب زكريا، ولا مناسبة له بالقصة التي نقلها متى، لأن زكريا عليه السلام بعد ما ذكر اسمي عصوين ورعى قطيع يقول هكذا ترجمة عربية سنة 1844: 12 (وقلت لهم إن حسن في أعينكم فهاتوا أجري وإلا فكفوا فوزنوا أجري ثلاثين من الفضة) 13 (وقال لي الرب ألقها إلى صناع التماثيل ثمناً كريماً أثموني به فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها في بيت الرب إلى صناع التماثيل). فظاهر كلام زكريا أنه بيان حال، لا إخبار عن الحادثة الآتية، وأن يكون آخذ الدراهم من الصالحين مثل زكريا عليه السلام لا من الكافرين مثل يهودا.

(والخبر السابع) ما نقله مقدسهم بولس في الآية السادسة من الباب الأول من الرسالة العبرانية، وقد عرفت حاله في الفصل الثالث أنه غلط لا يصدق على عيسى عليه السلام.

(والخبر الثامن) الآية الخامسة والثلاثون من الباب الثالث عشر من إنجيل متى هكذا: (لكي يتم ما قيل بالنبي القائل سأفتح بأمثال فمي وأنطق بمكتوبات منذ تأسيس العالم) وهو إشارة إلى الآية الثانية من الزبور الثامن والسبعين، لكنه ادعاء محض وتحكم بحت، لأن عبارة هذا الزبور هكذا: 2 (أفتح بالأمثال فمي وأنطق بالذي كان قديماً) 3 (كل ما سمعناه وعرفناه وآباؤنا أخبرونا) 4 (ولم يخفوه عن أولادهم إلى الجيل الآخر إذ يخبرون بتسابيح الرب وقواته وعجائبه التي صنع) 5 (إذ أقام الشهادة في يعقوب، ووضع الناموس في إسرائيل كل الذي أوصى آباؤنا ليعرفوا به أبناءهم) 6 (لكيما يعلم الجيل الآخر بينهم المولدين) 7 (فيقومون أيضاً ويخبرون به أبناؤهم) 8 (لكي يجعلوا اتكالهم على الله ولا ينسوا أعمال الله ويلتمسوا وصايا) 9 (لئلا يكونوا مثل آبائهم الجيل الأعرج المتمرد الذي لم يستقم قلبه ولا آمنت بالله روحه). وهذه الآيات صريحة في أن داود عليه السلام يريد نفسه، ولذا عبر عن نفسه بصيغة المتكلم، ويروي الحالات التي سمعها من الآباء ليبلغ إلى الأبناء على حسب عهد الله لتبقى الرواية محفوظة، وبين من الآية العاشرة إلى الخامسة والستين، حال إنعامات الله والمعجزات الموسوية، وشرارة بني إسرائيل وما لحقهم بسببها. ثم قال: 65 (واستيقظ الرب كالنائم مثل الجبار المفيق من الخمر) 66 (فضرب أعداءه في الوراء وجعلهم عاراً إلى الدهر) 67 (وأبعد محله يوسف ولم يختر سبط إفرام) 68 (بل اختار سبط يهوذا لجيل صهيون الذي أحب) 69 (وبنى مثل وحيد القرن قدسه وأسسه في الأرض إلى الأبد) 70 (واختار داود عبده وأخذه من مراعي الغنم) 71 (ومن خلف المرضعات، أخذه ليرعى يعقوب عبده وإسرائيل ميراثه) 72 (فرعاهم بدعة قلبه وبفهم يديه أهداهم). وهذه الآيات الأخيرة أيضاً دالة صراحة في أن هذا الزبور في حق داود عليه السلام فلا علاقة لهذا بعيسى عليه السلام.

(والخبر التاسع) في الباب الرابع من إنجيل متى هكذا: 14 (لكي يتم ما قيل بأشعيا النبي القائل) 15 (أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم) 16 (الشعب الجالس في ظلمة، أبصر نوراً عظيماً والجالسون في كورة الموت وظلاله، أشرق عليهم نور) وهو إشارة إلى الآية الأولى والثانية من الباب التاسع من كتاب أشعيا وعبارته هكذا: (في الزمان استخفت أرض زبلون وأرض نفتالي وفي الآخر تثقلت طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم) 2 (الشعب السالك في الظلمة رأى نوراً عظيماً، الساكنون في بلاد ظلال الموت أشرق عليهم نور). وفرق ما بين العبارتين فإحداهما محرفة ومع قطع النظر عن هذا، لا دلالة لكلام أشعيا على ظهور شخص، بل الظاهر أن أشعيا عليه السلام يخبر أن حال سكان أرض زبلون ونفتالي كان سقيماً في سالف الزمان ثم صار حسناً كما تدل عليه صيغ الماضي، أعني استخفت وتثقلت ورأى وأشرق وإن عدلنا عن الظاهر وحملنا على المجاز بمعنى المستقبل وقلنا أن رؤية النور وإشراقه عليهم، عبارة عن مرور الصلحاء بأرضهم، فادعاء أن مصداق هذا الخبر عيسى عليه السلام فقط تحكم صرف، لأن كثيراً من الأولياء والصلحاء مر بتلك الأرض، سيما أصحاب محمد وأولياء أمته أيضاً الذين زالت ظلمة الكفر والتثليث من هذه الديار بسببهم، وظهر نور التوحيد وتصديق المسيح كما ينبغي. وأكتفي خوفاً من التطويل على هذا القدر ونقلت الأخبار الأخر أيضاً في إزالة الأوهام وغيره من مؤلفاتي وبينت وجوه ضعفها.

(الأمر السابع) أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالباً الأسماء في تراجمهم ويوردون بدلها معانيها، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد وأنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام الذي هو كلام الله في زعمهم، ولا يشيرون إلى الامتياز. وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة وأنا أورد أيضاً بطريق الأنموذج بعضاً منها.

1- في الآية الرابعة عشر من الباب السادس عشر من سفر التكوين في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1831 وسنة 1844 هكذا: (لذلك دعت اسم تلك البيرني بير الحي الناظر، فترجموا اسم البئر الذي كان في العبراني بالعربي.

2- وفي الآية الرابعة عشر من الباب الثاني والعشرين من سفر التكوين في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (سمى إبراهيم اسم الموضع مكان يرحم الله زائره) وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844: (دعا اسم ذلك الرب يرى) فترجم المترجم الأول الاسم العبراني بمكان يرحم الله زائره والمترجم الثاني بالرب يرى.

3- وفي الآية العشرين من الباب الحادي والثلاثين من سفر التكوين في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 هكذا: (فكتم يعقوب أمره عن حميه) وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1825 لفظ لابان موضع حميه فوضع مترجمو العربية لفظ الحمى موضع الاسم.

4- وفي الآية العاشرة من الباب التاسع والأربعين من سفر التكوين في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844: (فلا يزول القضيب من يهودا والمدير من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم). فقوله (الذي له الكل) ترجمة لفظ شيلوه وهذه الترجمة موافقة الترجمة اليونانية. وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (فلا يزول القضيب من يهودا والرسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له وإليه يجتمع الشعوب). وهذا المترجم ترجم لفظ شيلوه (بالذي هو له) وهذه الترجمة موافقة للترجمة السريانية وترجم هذا اللفظ محققهم المشهور ليكلرك بعاقبته، وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1825 وقع لفظ شيلا، وفي الترجمة اللاتينية ولتكيت (الذي سيرسل). فالمترجمون ترجموا لفظ شيلوه بما ظهر وترجح عندهم وهذا اللفظ كان بمنزلة الاسم للشخص المبشر به.

5- وفي الآية الرابعة عشر من الباب الثالث من سفر الخروج في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 فقال الله لموسى (أهيه أشراهيه) وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (قال له الأزلي الذي لا يزال). فلفظ أهيه أشراهيه كان بمنزلة اسم الذات فترجمه المترجم الثاني بالأزلي الذي لا يزال.

6- وفي الآية الحادية عشر من الباب الثامن من سفر الخروج في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 هكذا: (تبقى في النهر فقط). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (تبقى في النيل فقط).

7- وفي الآية الخامسة عشر من الباب السابع من سفر الخروج في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1625 وسنة 1844 هكذا: (فابتنى موسى مذبحاً ودعا اسمه الرب عظمتي). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (وبنى مذبحاً وسماه الله علمي). وترجمة أردو موافقة لهذه الأخيرة، فأقول مع قطع النظر عن الاختلاف أن المترجمين ترجموا الاسم العبراني.

8- وفي الآية الثالثة والعشرين من الباب الثلاثين من سفر الخروج في الترجمتين المذكورتين هكذا: (من ميعة فائقة). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (من المسك الخالص، وبين الميعة والمسك فرق ما، ففسروا الاسم العبراني بما ترجح عندهم).

9- وفي الآية الخامسة من الباب الرابع والثلاثين من سفر الاستثناء في الترجمتين المذكورتين هكذا: (فمات هناك موسى عبد الرب). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (فمات هناك موسى رسول الله). فهؤلاء المترجمون لو بدلوا في البشارات المحمدية، لفظ رسول الله بلفظ آخر فلا استبعاد منهم.

10- وفي الآية الثالثة عشر من الباب العاشر من كتاب يوشع، في الترجمة المطبوعة سنة 1844 هكذا: (أليس هذا مكتوباً في سفر الأبرار). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (أليس هو مكتوباً في سفر المستقيم). وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1838 لفظ (يا صار) موضع الأبرار أو المستقيم. وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1845 لفظ (ياشر). وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1835 لفظ (يا شا لعل يا صار) أو (يا شر أو يا شا) اسم مصنف الكتاب، فترجم مترجمو العربية، هذا الاسم على آرائهم بالأبرار أو المستقيم.

11- وفي الباب الثامن من كتاب أشعيا، في الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1839 هكذا: 1 (وخدا وندمر افرمودكه لوحي بزرك بكيرواز قلم كند كاردر باب مهر شالال جاشنر بنويس) 3 (أورامهر شالال جشنر نام ينه). وترجمة أردو المطبوعة سنة 1825 توافقها. وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: 1 (وقال لي الرب خذ لك مدرجاً عظيماً واكتب فيه بكتابة إنسان انتهب مستعجلاً أسلب سريعاً) 3 (ادع اسمه أغنم بسرعة وانهب عاجلاً). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (وقال لي الرب: خذ لك مدرجاً صحيحاً صحيفة جديدة كبيرة، واكتب فيها بكتابة إنسان حاد ليضع نهب الغنائم لأنه حضر) 3 (ادع اسمه أغنم بسرعة وانهبوا نجده). فكان اسم الابن مهر شالال جاشنر، فترجم مترجمو العربية هذا الاسم على آرائهم، وخالفوا فيما بينهم. ومع قطع النظر عن المخالفة، زاد مترجم العربية المطبوعة سنة 1811 ألفاظاً من قبل نفسه، فأمثال هؤلاء لو بدلوا في البشارات المحمدية أسماء من أسماء النبي أو زادوا شيئاً، فلا استبعاد منهم، لأن هذا الأمر يصدر عنهم بحسب عادتهم.

12- وفي الآية الرابعة عشر من الباب الحادي عشر من إنجيل متى، في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 وسنة 1844 هكذا: (فإن أردتم أن تقبلوه فهو إيلياء المزمع أن يأتي)، وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816: (فإن أردتم أن تقبلوه فهذا هو المزمع بالإتيان). فالمترجم الأخير بدل لفظ إيلياء بهذا، فأمثال هؤلاء لو بدلوا اسماً من أسماءالنبي في البشارة، فلا عجب.

13- وفي الآية الأولى من الباب الرابع من إنجيل يوحنا في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811، وسنة 1831، وسنة 1844 هكذا: (لما علم يسوع). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816، وسنة 1860: (لما علم الرب). فبدل المترجمان الأخيران لفظ يسوع، الذي كان علم عيسى عليه السلام بالرب الذي هو من الألفاظ التعظيمية، فلو بدلوا اسماً من أسماء النبي بالألفاظ التحقيرية لأجل عادتهم وعنادهم، فلا عجب. وهذه الشواهد تدل على ترجمة الأسماء، وإيراد لفظ آخر بدلها.

[1] في الباب السابع والعشرين من إنجيل متى هكذا: (ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي، لما شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تركتني). وفي الباب الخامس عشر من إنجيل مرقس هكذا: (وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: الوى الوى لما شبقتني، الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني). فلفظ أي إلهي إلهي لماذا تركتني في إنجيل متى، وكذا لفظ الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني في إنجيل مرقس، ليسا من كلام الشخص المصلوب يقيناً، بل ألحقا بكلامه.

[2] في الآية السابعة عشر من الباب الثالث من إنجيل مرقس هكذا: (لقبهما ببوان رجس أي ابني الرعد). فلفظ أي ابني الرعد ليس من كلام عيسى عليه السلام بل هو إلحاقي.

[3] في الآية الحادية والأربعين من الباب الخامس من إنجيل مرقس هكذا: (وقال لها طليثا قومي الذي تفسيره يا صبية لك أقول قومي). فهذا التفسير إلحاقي ليس من كلام عيسى عليه السلام.

[4] في الآية الرابعة والثلاثين من الباب السابع من إنجيل مرقس في الترجمة المطبوعة سنة 1816: (ونظر إلى السماء وتأوه وقال افثا يعني انفتح)، وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (ونظر إلى السماء وتنهد وقال افاثا الذي هو انفتح). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (ونظر إلى السماء وتنهد وقال له انفتح الذي هو انفتح).

وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا: (ورفع نظره نحو السماء وأنّ وقال له افثا أي انفتح). ومن هذه العبارة، وإن لم يعلم صحة اللفظ العبراني أهو افثا أو افاثا، لأجل اختلاف التراجم التي منشأ اختلافها عدم صحة ألفاظ أصولها، لكنه يعلم يقيناً أن لفظ أي انفتح أو الذي هو انفتح، إلحاقي ليس من كلام عيسى عليه السلام. وهذه الأقوال المسيحية الأربعة التي نقلتها من الشاهد الأول إلى ههنا، تدل على أن المسيح عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني الذي كان لسان قومه، وما كان يتكلم باليوناني وهو قريب القياس أيضاً، لأنه كان عبرانياً ابن عبرانية، نشأ في قومه العبرانيين. فنقل أقواله في هذه الأناجيل في اليوناني نقل بالمعنى، وهذا أمر آخر زائد على كون أقواله مروية برواية الآحاد.

[5] في الآية الثامنة والثلاثين من الباب الأول، من إنجيل يوحنا هكذا: (فقالا له ربي الذي تفسيره يا معلم). فقوله الذي تفسيره يا معلم إلحاقي، ليس من كلامهما.

[6] في الآية الحادية والأربعين من الباب المذكور في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 وسنة 1844: (قد وجدنا مسيا الذي تأويله المسيح). وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1816: (ما مسيح راكه ترجمة آن كرسطوس ميبا شديا فتيم). وترجمة أردو المطبوعة سنة 1814 توافق الفارسية، فيعلم من الترجمتين العربيتين أن اللفظ الذي قاله أندراوس هو مسيا وأن المسيح ترجمته، ومن الترجمة الفارسية وأردو أن اللفظ الأصل هو المسيح وكرسطوس ترجمته، ويعلم من ترجمة أردو المطبوعة سنة 1839 أن اللفظ الأصل خرسته وأن المسيح ترجمته، فلا يعلم من كلامهم أن اللفظ الأصل أي لفظ كان أمسيا أو المسيح أو خرسته، وهذه الألفاظ وإن كان معناها واحداً لكن لا شك أن الذي قاله أندراوس هو واحد من هذه الثلاثة يقيناً، وإذا ذكر اللفظ والتفسير فلا بد من ذكر اللفظ الأصل أولاً ثم من ذكر تفسيره. لكني أقطع النظر عن هذا وأقول أن التفسير المشكوك أياً ما كان إلحاقياً ليس من كلام أندراوس.

[7] في الآية الثانية والأربعين من الباب الأول من إنجيل يوحنا، قول عيسى عليه السلام في حق بطرس الحواري في الترجمة العربية سنة 1811 هكذا: (أنت تدعى ببطرس الذي تأويله الصخرة). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816: (ستسمى أنت بالصفا المفسر ببطرس). وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1816: (ترابكيفاس كه ترجمة آن سنك است ندا خواهند كرد) أمطر الله حجارة على تحقيقهم وتصحيحهم لا يتميز من كلامهم المفسر عن المفسر، لكني أقطع النظر عن هذا وأقول أن التفسير ليس من كلام المسيح عليه السلام بل هو إلحاقي، وإذا كان حال تراجمهم وحال تحقيقهم في لقب إلههم ولقب خليفته كما علمت فكيف نرجو منهم صحة بقاء لفظ محمد أو أحمد أو لقب من ألقابه .

[8] في الآية الثانية من الباب الخامس من إنجيل يوحنا في حق البركة في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844: (تسمى بالعبرانية بيت صيدا). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860: (يقال لها بالعبرانية بيت حسدا). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (تسمى بالعبرانية بيت حصدا أي بيت الرحمة). فالاختلاف بين صيدا وحسدا وحصدا وإن كان ثمرة من ثمرات تصحيحهم الكتب السماوية، لكني أقطع النظر عنه وأقول المترجم الأخير زاد التفسير من جانب نفسه في الكلام الذي هو كلام الله في زعمه، فلو زادوا شيئاً بطريق التفسير من جانب أنفسهم في البشارات المحمدية فلا بعد منهم.

[9] في الآية السادسة والثلاثين من الباب التاسع من كتاب الأعمال هكذا: (وكان في يافا تلميذة اسمها طابيثا الذي ترجمته غزالة).

[10] في الآية الثامنة من الباب الثالث عشر من كتاب الأعمال، في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844: (فناصبهما اليماس الساحر لأن هكذا يترجم اسمه). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860: (فقاومهما عليم الساحر لأن هكذا يترجم). وفي بعض تراجم أردو لفظ الماس، وفي بعضها الماء، فمع قطع النظر عن الاختلاف في أن اسمه اليماس أو عليم أو الماس أو الماء، أقول أن ترجمة اسمه إلحاقية.

[11] في آخر رسالة بولس الأولى إلى أهل قورنثيوس، في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816: (ألا ومن لا يحب المسيح فليكن ملعوناً مارن أتى). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (ومن لا يحب ربنا يسوع المسيح فليكن محروماً ماران أتى). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860: (إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أنا ثيما ماران أثا). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811: (من لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن مفروزاً مارن أتى أي الرب قد جاء). فمع قطع النظر عن صحة اللفظ الأصل، أقول أن المترجم الأخير قد زاد من جانب نفسه التفسير وقال أي الرب قد جاء. وهذه شواهد التفسير فثبت مما ذكرنا أن ترجمة الأسماء أو تبديلها بألفاظ أخر، وكذا إلحاق التفسيرات من جانب أنفسهم، من عاداتهم الجبلية سلفاً وخلفاً، فلا بعد في أن ترجموا اسماً من أسماء النبي أو بدلوه بلفظ آخر، أو زادوا بطريق التفسير أو غير التفسير شيئاً بحيث يخل الاستدلال بحسب الظاهر، ولا شك أن اهتمامهم في هذا الأمر كان زائداً على الاهتمام الذي كان لهم في مقابلة فرقهم، وما قصروا في التحريف في مقابلتهم على ما عرفت في الباب الثاني من قول هورن: (أن هذا الأمر أيضاً محقق أن بعض التحريفات القصدية صدرت عن الذين كانوا من أهل الديانة والدين، وكانت هذه التحريفات ترجح بعدهم لتؤيد بها مسألة مقبولة أو يدفع بها الاعتراض الوارد، مثلاً ترك قصداً الآية الثالثة والأربعين من الباب الثاني والعشرين من إنجيل لوقا لأن بعض أهل الديانة ظنوا أن تقوية الملك للرب مناف لألوهيته، وتركت قصداً في الباب الأول من إنجيل متى، هذه الألفاظ قبل أن يجتمعا في الآية الثامنة عشر، وهذه الألفاظ ابنها البكر في الآية الخامسة والعشرين، لئلا يقع الشك في البكارة الدائمة لمريم عليها السلام، وبدل لفظ اثنتي عشرة بأحد عشر في الآية الخامسة من الباب الخامس عشر من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس، لئلا يقع إلزام الكذب على بولس، لأن يهوذا الأسخريوطي كان قد مات قبل وترك بعض الألفاظ في الآية الثانية والثلاثين من الباب الثالث عشر من إنجيل مرقس، ورد هذه الألفاظ بعض المرشدين أيضاً لأنهم تخيلوا أنها مؤيدة لفرقة أيرين وزيد بعض الألفاظ في الآية الخامسة والثلاثين من الباب الأول من إنجيل لوقا في الترجمة السريانية والفارسية والعربية واتهيوبك وغيرها من التراجم، وفي كثير من نقول المرشدين في مقابلة فرقة يؤتى كينس لأنها كانت تنكر أن عيسى فيه صفتان) انتهى كلامه.

فإذا كانت خصلة أهل الدين والديانة ما عرفت، فما ظنك بغير أهل الديانة بل الحق أن التحريف القصدي بالتبديل والزيادة والنقصان من خصالهم كلهم أجمعين، فبعض الإخبارات التي نقلها العلماء الأسلاف من أهل الإسلام مثل الإمام القرطبي وغيره، ولا تجدها موافقة في بعض الألفاظ للتراجم المشهورة الآن، فسببه غالباً هذا التغير، لأن هؤلاء العلماء من أهل الإسلام نقلوا عن الترجمة العربية التي كانت رائجة في عهدهم، وبعد زمانهم وقع الإصلاح في تلك الترجمة، ويحتمل أن يكون ذاك السبب، اختلاف التراجم، لكن الأول هو المعتمد لأنا نرى أن هذه العادة جارية إلى الآن في تراجمهم ورسائلهم ألا ترى إلى ميزان الحق أن نسخه ثلاث، الأولى النسخة القديمة ورد عليها صاحب الاستفسار، ولما رد عليها وتنبه مصنفها أصلح النسخة القديمة، فزاد في بعض المواضع ونقص في البعض وبدل في البعض، ثم طبع هذه النسخة المصلحة وكتب جواب الاستفسار وسماه بحل الإشكال، ثم كتبت الرد على تلك النسخة الثانية لميزان الحق، ونبهت في كل موضع خالفت فيه هذه النسخة الجديدة للنسخة القديمة، وسميته بمعدل اعوجاج الميزان. لكن كتابي هذا لم يطبع في الهند لأجل بعض الحوادث، وكتب بعض أحبابي الرد على حل الإشكال في جواب الاستفسار وسماه بالاستبشار، وطبع هذا الرد واشتهر في الهند وفي زمان طبعه واشتهاره كان مؤلف الميزان في الهند، ومضت مدةعشر سنين على طبعه وما كتب المؤلف المذكور في جوابه شيئاً، وسمعت من بعض الثقات أنه أصلح في المرة الثالثة الميزان الذي طبعه بالتركي وغير في المواضع التي رأى فيها التغير واجباً، مثل التغير في ابتداء الفصل الثاني من الباب الأول وغيره، ومن رأى الاستفسار ولم تصل إليه النسخة القديمة للميزان , بل وصلت إليه النسخة الثانية أو الثالثة، وأراد أن يصحح نقل صاحب الاستفسار كلام مؤلف الميزان بهاتين النسختين، وجده غير مطابق لهما في بعض المواضع، وكذا من رأى معدل اعوجاج الميزان، ولم تصل إليه النسخة الأولى ولا الثانية بل وصلت إليه النسخة الثالثة التركية، وأراد تصحيح النقل بهذه التركية، وجد في بعض المواضع النقل مطابق لها، فإن لم يكن واقفاً على هذا التغير والإصلاح، يظن أن الراد والناقل أخطأ في النقل، وليس كذلك بل حصل هذا الأمر من تغير المردود عليه وتحريفه والراد [و] الناقل مصيب، فالحاصل أن أمثال هذا الإصلاح والتحريفات جارية في كتبهم وتراجمهم ورسائلهم إلى هذا الحين.

(الأمر الثامن) أن بولس وإن كان عند أهل التثليث في رتبة الحواريين، لكنه غير مقبول عندنا ولا نعده من المؤمنين الصادقين، بل من المنافقين الكذابين ومعلمي الزور والرسل الخداعين، الذين ظهروا بالكثرة بعد عروج المسيح، كما عرفت في الأمر الرابع، وهو خرق الدين المسيحي، وأباح كل محرم لمعتقديه، وكان في ابتداء الأمر مؤذياً للطبقة الأولى من المسيحيين، جهراً، لكنه لما رأى أن هذا الإيذاء الجهري لا ينفع نفعاً معتداً به، دخل على سبيل النفاق في هذه الملة وادعى رسالة المسيح، وأظهر الزهد الظاهري. ففعل في هذا الحجاب ما فعل، وقبله أهل التثليث لأجل زهده الظاهري، ولأجل فراغ ذمتهم عن جميع التكاليف الشرعية. كما قبل أناس كثيرون من المسيحيين في القرن الثاني منتش الذي كان زاهداً مرتاضاً وادعى أنه هو الفارقليط الموعود به، فقبلوه لأجل زهده ورياضته كما سيجيء ذكره في البشارة الثامنة عشر، ورده المحققون من علماء الإسلام سلفاً وخلفاً.

قال الإمام القرطبي رحمه الله في كتابه في حق بولس هذا، مجيباً لبعض القسيسين في بحث مسألة الصوم هكذا: (قلنا ذلك) أي بولس (هو الذي أفسد عليكم أديانكم وأعمى بصائركم وأذهانكم، ذلك هو الذي غير دين المسيح الصحيح، الذي لم تسمعوا له بخبر ولا وقفتم منه على أثر، هو الذي صرفكم عن القبلة وحلل لكم كل محرم كان في الملة، ولذلك كثرت أحكامه عندكم وتداولتموها بينكم) انتهى كلامه بلفظه. وقال صاحب تخجيل من حرف الإنجيل في الباب التاسع من كتابه، في بيان فضائح النصارى في حق بولس هذا هكذا: (وقد سلبهم بولس هذا من الدين بلطيف خداعه إذ رأى عقولهم قابلة لكل ما يلقى إليها وقد طمس هذا الخبيث رسوم التوراة) انتهى كلامه بلفظه. وهكذا أقوال علمائنا الآخرين فكلامه عندنا مردود ورسائله المتضمنة بالعهد العتيق كلها واجبة الرد ولا نشتري قوله بحبة خردل فلا أنقل عن أقواله في هذا المسلك شيئاً ولا يكون قوله حجة علينا، وإذ عرفت هذه الأمور الثمانية أقول أن الإخبارات الواقعة في حق محمد توجد كثيرة إلى الآن أيضاً مع وقوع التحريفات في هذه الكتب، ومن عرف أولاً طريق أخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر على ما عرفت في الأمر الثاني، ثم نظر ثانياً بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات، وقابلها بالإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام، وقد عرفت نبذاً منها في الأمر السادس، جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة. وأنقل في هذا المسلك عن الكتب المعتبرة عند علماء بروتستنت ثماني عشرة بشارة.

(البشارة الأولى) في الباب الثامن عشر من سفر الاستثناء هكذا: 17 (فقال الرب لي نعم جميع ما قالوا) 18 (وسوف أقيم لهم نبياً مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ويكلمهم بكل شيء آمره به) 19 (ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا أكون المنتقم من ذلك) 20 (فأما النبي الذي يجترئ بالكبرياء ويتكلم في اسمي ما لم آمره بأنه يقوله أم باسم إلهه غيري فليقتل) 21 (فإن أحببت وقلت في قلبك كيف أستطيع أن أميز الكلام الذي لم يتكلم به الرب) 22 (فهذه تكون لك آية أن ما قاله ذلك النبي في اسم الرب ولم يحدث فالرب لم يكن تكلم به، بل ذلك النبي صورة في تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه).

وهذه البشارة ليست بشارة يوشع عليه السلام كما يزعم الآن أحبار اليهود، ولا بشارة عيسى عليه السلام كما زعم علماء بروتستنت، بل هي بشارة محمد لعشرة أوجه:

(الوجه الأول) قد عرفت في الأمر الثالث أن اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام كانوا ينتظرون نبياً آخر مبشراً به في هذا الباب، وكان هذا المبشر به عندهم غير المسيح، فلا يكون هذا المبشر به يوشع، ولا عيسى عليهما السلام.

(والوجه الثاني) أنه وقع في هذه البشارة لفظ مثلك ويوشع وعيسى عليهما السلام لا يصح أن يكونا مثل موسى عليه السلام، أما أولاً: فلأنهما من بني إسرائيل، ولا يجوز أن يقوم أحد من بني إسرائيل مثل موسى كما تدل عليه الآية العاشرة من الباب الرابع والثلاثين من سفر الاستثناء وهي هكذا: 5 (ولم يقم بعد ذلك من بني إسرائيل مثل موسى يوفه الرب وجهاً لوجه) فإن قام أحد مثل موسى بعده من بني إسرائيل، يلزم تكذيب هذا القول. وأما ثانياً: فلأنه لا مماثلة بين يوشع وبين موسى عليهما السلام لأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواهي، ويوشع ليس كذلك، بل هو متبع لشريعته، وكذا لا توجد المماثلة التامة بين موسى وعيسى عليهما السلام، لأن عيسى عليه السلام كان إلهاً ورباً على زعم النصارى وموسى عليه السلام كان عبداً له، وأن عيسى عليه السلام على زعمهم، صار ملعوناً لشفاعة الخلق كما صرح به بولس في الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية، وموسى عليه السلام ما صار ملعوناً لشفاعتهم، وأن عيسى عليه السلام دخل الجحيم بعد موته كما هو مصرح به في عقائد أهل التثليث، وموسى عليه السلام ما دخل الجحيم، وأن عيسى عليه السلام صلب على زعم النصارى ليكون كفارة لأمته، وموسى عليه السلام ما صار كفارة لأمته بالصلب، وأن شريعة موسى مشتملة على الحدود والتعزيزات وأحكام الغسل والطهارات والمحرمات من المأكولات والمشروبات، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام، فإنها فارغة عنها على ما يشهد به هذا الإنجيل المتداول بينهم، وأن موسى عليه السلام كان رئيساً مطاعاً في قومه نفاذاً لأوامره ونواهيه، وعيسى عليه السلام لم يكن كذلك.

(الوجه الثالث) أنه وقع في هذه البشارة لفظ من بين إخوتهم، ولا شك أن الأسباط الاثني عشر كانوا موجودين في ذاك الوقت مع موسى عليه السلام حاضرين عنده، فلو كان المقصود كون النبي المبشر به منهم، قال منهم لا من بين إخوتهم. لأن الاستعمال الحقيقي لهذا اللفظ أن لا يكون المبشر به له علاقة الصلبية والبطنية ببني إسرائيل كما جاء لفظ الأخوة بهذا الاستعمال الحقيقي في وعد الله هاجر في حق إسماعيل عليه السلام في الآية الثانية عشر من الباب السادس عشر من سفر التكوين، وعبارتها في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (وقبالة جميع إخوته ينصب المضارب) وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (بحضرة جميع أخوته يسكن). وجاء بهذا الاستعمال أيضاً، في الآية الثامنة عشر من الباب الخامس والعشرين من سفر التكوين في حق إسماعيل في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (منتهى إخوته جميعهم سكن). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 هكذا: (أقام بحضرة جميع أخوته). والمراد بالأخوة ههنا بنو عيسو وإسحاق وغيرهم من أبناء إبراهيم عليه السلام. وفي الآية الرابعة من الباب العشرين من سفر العدد هكذا: (ثم أرسل موسى رسلاً من قادس إلى ملك الروم قائلاً هكذا: (يقول أخوك إسرائيل أنك قد علمت كل البلاء الذي أصابنا) وفي الباب الثاني من سفر الاستثناء هكذا: 2 (وقال لي الرب 4 ثم أوص الشعب أنكم ستجوزون في تخوم أخوتكم بني عيسو الذين في ساعير وسيخشونكم 8 فلما جزنا أخوتنا بني عيسو الذين يسكنون ساعير الخ). والمراد بأخوة بني إسرائيل بنو عيسو، ولا شك أن استعمال لفظ أخوة بني إسرائيل في بعض منهم كما جاء في بعض المواضع من التوراة، استعمال مجازي ولا تترك الحقيقة ولا يصار إلى المجاز ما لم يمنع عن الحمل على المعنى الحقيقي مانع قوي، ويوشع وعيسى عليهما السلام كانا من بني إسرائيل، فلا تصدق هذه البشارة عليهما.

(الوجه الرابع) أنه وقع في هذه البشارة لفظ سوف أقيم، ويوشع عليه السلام كان حاضراً عند موسى عليه السلام، داخلاً في بني إسرائيل، نبياً في هذا الوقت، فكيف يصدق عليه هذا اللفظ.

(الوجه الخامس) أنه وقع في هذه البشارة لفظ أجعل كلامي في فمه، وهو إشارة إلى أن ذلك النبي ينزل عليه الكتاب، وإلى أنه يكون أمياً حافظاً للكلام، وهذا لا يصدق على يوشع عليه السلام لانتفاء كلا الأمرين فيه.

(الوجه السادس) أنه وقع في هذه البشارة، ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به، فأنا أكون المنتقم من ذلك. فهذا الأمر لما ذكر لتعظيم هذا النبي المبشر به فلا بد أن يمتاز ذلك المبشر به بهذا الأمر عن غيره من الأنبياء، فلا يجوز أن يراد بالانتقام من المنكر العذاب الأخروي، الكائن في جهنم، أو المحن والعقوبات الدنيوية التي تلحق المنكرين من الغيب، لأن هذا الانتقام لا يختص بإنكار نبي دون نبي، بل يعم الجميع فحينئذ يراد بالانتقام، الانتقام التشريعي، فظهر منه أن هذا النبي يكون مأموراً من جانب الله بالانتقام من منكره. فلا يصدق على عيسى عليه السلام لأن شريعته خالية عن أحكام الحدود، والقصاص، والتعزيز، والجهاد.

(الوجه السابع) في الباب الثالث من كتاب الأعمال في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (فتوبوا وارجعوا كي تمحى خطاياكم 20 حتى إذا تأتي أزمنة الراحة من قدام وجه الرب، ويرسل المنادي به لكم وهو يسوع المسيح 21 الذي إياه ينبغي للسماء أن تقبله إلى الزمان الذي يسترد فيه كل شيء تكلم به الله على أفواه أنبيائه القديسين منذ الدهر 22 أن موسى قال إن الرب إلهكم يقيم لكم نبياً من أخوتكم مثلي له تسمعون في كل ما يكلمكم به 23 ويكون كل نفس لا تسمع ذلك النبي تهلك من الشعب). وفي الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1816، وسنة 1828، وسنة 1841، وسنة 1842، هكذا: 19 (تونيه نما يدوباز كشت كند تاكه كناهان شمامحو شودتا كه زمان تازه كيراز حضور خداوند بيابيد) 20 (ويسوع مسيح راكه ندا بشمامي شودباز فرستد) 21 (زيراكه بايد كه آسمان أورنكا هدارد تاوقت ثبوت انجه خداوندبزبان بيغمبران مقدس خودازايام قديم فرموده است). 22 (كه موسى بيدران ما كفت كه خداى شماخداوند بيغمبري رامثل من ازبراى شما ازميان برادران شما مبعوث خواهد ثمود وهرجه أوبشما كويد شمار است كه أطاعت نماييد) 23 (واينجنين خواهد بودكه هركس كه سخن آن بيغمبر رانشنودازقوم بريده خواهدشد). فهذه العبارة سيما بحسب التراجم الفارسية تدل صراحة على أن هذا النبي غير المسيح عليه السلام، وأن المسيح لا بد أن تقبله السماء إلى زمان ظهور هذا النبي.

ومن ترك التعصب الباطل من المسيحيين، وتأمل في عبارة بطرس ظهر له هذا القول من بطرس يكفي لإبطال ادعاء علماء بروتستنت أن هذه البشارة في حق عيسى عليه السلام، وهذه الوجوه السبعة التي ذكرتها تصدق في حق محمد على أكمل صدق لأنه غير المسيح عليه السلام ويماثل موسى عليه السلام في أمور كثيرة:

[1] كونه عبد الله، ورسوله. [2] كونه ذا الوالدين. [3] كونه [ص 244] ذا نكاح وأولاد. [4] كون شريعته مشتملة على السياسات المدنية. [5] كونه مأموراً بالجهاد. [6] اشتراط الطهارة وقت العبادة في شريعته. [7] وجوب الغسل للجنب والحائض والنفساء في شريعته. [8] اشتراط طهارة الثوب من البول، والبراز. [9] حرمة غير المذبوح، وقرابين الأوثان. [10] كون شريعته مشتملة على العبادات البدنية، والرياضات الجسمانية. [11] أمره بحد الزنا. [12] تعيين الحدود، والتعزيرات، والقصاص. [13] كونه قادراً على إجرائها. [14] تحريم الربا. [15] أمره بإنكار من يدعو إلى غير الله. [16] أمره بالتوحيد الخاص. [17] أمره الأمة بأن يقولوا له عبد الله ورسوله، لا ابن الله أو الله والعياذ بالله. [18] موته على الفراش. [19] كونه مدفوناً كموسى. [20] عدم كونه ملعوناً لأجل أمته. وهكذا أمور أخر تظهر إذا تؤمل في شريعتهما، ولذلك قال الله تعالى في كلامه المجيد: {إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً}. وكان من أخوة بني إسرائيل لأنه من بني إسماعيل، وأنزل عليه الكتاب وكان أمياً جعل كلام الله في فمه، وكان ينطق بالوحي كما قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وكان مأموراً بالجهاد، وقد انتقم الله لأجله من صناديد قريش والأكاسرة والقياصرة وغيرهم، وظهر قبل نزول المسيح من السماء وكان للسماء أن تقبل المسيح عليه السلام إلى ظهوره ليرد كل شيء إلى أصله، ويمحق الشرك والتثليث وعبادة الأوثان ولا يرتاب أحد من كثرة أهل التثليث في هذا الزمان الأخير، لأن هذا الصادق المصدوق قد أخبرنا على أتم تفصيل وأكمل وجه، بحيث لا يبقى ريب ما بكثرتهم وقت قرب ظهور المهدي رضي الله عنه، وهذا الوقت قريب إن شاء الله، وسيظهر الإمام ويظهر الحق عن قريب، ويكون الدين كله للّه، جعلنا الله من أنصاره وخدامه آمين.

(الوجه الثامن) أنه صرح في هذه البشارة بأن النبي الذي ينسب إلى الله ما لم يأمره يقتل، فلو لم يكن محمد نبياً حقاً لكان يقتل، وقد قال الله في القرآن المجيد أيضاً: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} وما قتل بل قال الله في حقه: {والله يعصمك من الناس} وأوفى وعده ولم يقدر على قتله أحد حتى لقي الرفيق الأعلى ، وعيسى عليه السلام قتل وصلب على زعم أهل الكتاب. فلو كانت هذه البشارة في حقه لزم أن يكون نبياً كاذباً كما يزعمه اليهود والعياذ بالله.

(الوجه التاسع) أن الله بين علامة النبي الكاذب أن إخباره عن الغيب المستقبل لا يخرج صادقاً ومحمد أخبر عن الأمور الكثيرة المستقبلة كما علمت في المسلك الأول، وظهر صدقه فيها فيكون نبياً صادقاً لا كاذباً.

(الوجه العاشر) أن علماء اليهود سلموا كونه مبشراً به في التوراة لكن بعضهم أسلم وبعضهم بقي في الكفر، كما أن قيافا وكان رئيس الكهنة ونبياً على زعم يوحنا عرف أن عيسى هو المسيح الموعود به، ولم يؤمن بل أفتى بكفره وقتله، كما صرح به يوحنا في الباب الحادي عشر والثامن عشر من إنجيله من حديث مخيريق وكان حبراً عالماً كثير المال من النخل، وكان يعرف رسول الله بصفته، وغلبت عليه ألفة دينه فلم يزل على ذلك حتى كان يوم أحد وكان يوم السبت، فقال: يا معشر اليهود والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: فإن اليوم يوم السبت قال: لا سبت ثم أخذ سلاحه وخرج حتى أتى إلى النبي بأحد وكان يوم السبت وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فمالي لمحمد يصنع فيه ما أراه الله تعالى، فقاتل حتى قتل فكان رسول الله يقول: مخيريق خير يهودي، وقبض رسول الله أمواله، فعامة صدقات رسول الله بالمدينة منها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله بيت المدراس فقال: أخرجوا إلي أعلمكم، فقال: عبد الله بن صوريا، فخلا به رسول الله فناشده بدينه وبما أنعم الله عليهم وأطعمهم من المن والسلوى وظللهم من الغمام، أتعلم أني رسول الله قال: اللهم نعم، وأن القوم يعرفون ما أعرف وأن صفتك ونعتك لمبين في التوراة ولكن حسدوك قال: فما يمنعك أنت، قال: أكره خلاف قومي عسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم.

وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها، لما قدم رسول الله المدينة ونزل قباء، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مفلسين فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس فأتيا، كالين، كسلانين، ساقطين، يمشيان الهوينا، فهششت إليهما فالتفت إلى أحد منهما مع ما بهما من الهم فسمعت عمى أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو (أي المبشر به في التوراة) قال: نعم والله، قال: أتثبته وتعرفه قال: نعم، قال: فما في نفسك منه قال: عداوته والله ما بقيت أبداً فتلك عشرة كاملة فإن قيل أن أخوة بني إسرائيل لا تنحصر في بني إسماعيل لأن بني عيسو وبني أبناء قطورا زوجة إبراهيم عليهما السلام من أخوتهم أيضاً، قلت: نعم هؤلاء أيضاً من أخوة بني إسرائيل لكنهم لم يظهر أحد منهم يكون موصوفاً بالأمور المذكورة، ولم يكن وعد الله في حقهم أيضاً بخلاف بني إسماعيل فإنهم كان وعد الله في حقهم لإبراهيم ولهاجر عليهما السلام، مع أنه لا يصلح أن يكون مصداق هذا الخبر بني عيسو على ما هو مقتضى دعاء إسحاق عليه السلام المصرح به في الباب السابع والعشرين من سفر التكوين.

ولعلماء بروتستنت اعتراضان، نقلهما صاحب الميزان في كتابه المسمى بحل الإشكال في جواب الاستفسار.

الأول: أنه وقع في الآية الخامسة عشر من الباب الثامن عشر من سفر الاستثناء هكذا: (فإن الرب إلهك يقيم من بينك من بين أخوتك) الخ. فلفظ من بينك يدل دلالة ظاهرة على أن هذا النبي يكون من بني إسرائيل لا من بني إسماعيل.

والثاني: أن عيسى عليه السلام نسب هذه البشارة إلى نفسه فقال في الآية السادسة والأربعين من الباب الخامس من إنجيل يوحنا أن موسى كتب في حقي أقول آية الاستثناء على وفق التراجم الفارسية وتراجم أردو هكذا: (فإن الرب إلهك يقيم من بينك من بين أخوتك نبياً مثلي فاسمع منه) والقسيس أيضاً نقلها هكذا (والجواب) أن اللفظ المذكور لا ينافي مقصودنا لأن محمداً عليه السلام لما هاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره، وقد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم، فقد قام من بينهم ولأنه إذا كان من أخوتهم فقد قام من بينهم، ولأن قوله من بين أخوتك بدل من قوله من بينك، بدل اشتمال على رأي ابن الحاجب ومتبعيه القائلين بكفاية علاقة الملابسة غير الكلية والجزئية في تحقيق هذا البدل، نحو جاءني زيد أخوه وجاءني زيد غلامه، وبدل إضراب على رأي ابن مالك، وعلى كلا التقديرين المبدل منه غير مقصود ويدل على كونه غير مقصود، أن موسى عليه السلام لما أعاد هذا الوعد من كلام الله في الآية الثامنة عشر لا يوجد فيه لفظ من بينك، ونقل بطرس الحواري أيضاً هذا القول ولا يوجد فيه هذا اللفظ كما علمت في الوجه السابع، وكذا نقله استفانوس أيضاً ولا يوجد في نقله أيضاً هذا اللفظ كما صرح به في الباب السابع من كتاب الأعمال وعبارته هكذا: (هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من أخوتكم له تسمعون) فسقوطه في هذه المواضع دليل على كونه غير مقصود فاحتمال البدل قوي جداً. وقال صاحب الاستفسار: (إن لفظ من بينك إلحاقي زيد تحريفاً ويدل عليه ثلاثة أمور:

(الأول) أن المخاطبين في هذا الموضع كانوا بني إسرائيل كلهم لا البعض، فقوله من بينك خطاب إلى جميع القوم فصار لفظ من أخوتك لغواً محضاً لا معنى له، لكن لفظ من أخوتك جاء في الموضع الآخر فيكون صحيحاً، ولفظ من بينك إلحاقياً زيد تحريفاً.

(والثاني) أن موسى عليه السلام لما نقل كلام الله لإثبات قوله، لا يوجد فيه هذا اللفظ ولا يجوز أن يكون ما قال موسى مخالفاً لما قاله الله.

(والثالث) أن الحواريين كلما نقلوا هذا الكلام لا يوجد فيه لفظ من بينك، وإن قلتم: إن المحرف إذا حرف فَلِمَ لَمْ يحرف الكلام كله، قلت: نحن نرى في محكمات العدالة دائماً أن القبالجات المحرفة يثبت تحريف الألفاظ المحرفة فيها من مواضع أخرى منها غالباً، وأن شهود الزور يؤخذون ببعض بياناتهم، فالوجه الوجيه على أن عادة الله جارية بأنه لا يهدي كيد الخائنين ويظهر خيانة خائن الدين بمقتضى مرحمته، فبمقتضى هذه العادة يصدر عن الخائن شيء ما تظهر به خيانته، على أنه لا توجد ملة يكون أهلها كلهم خائنين، فالخائنون الذين حرفوا كتب العهدين كان لهم لحاظ ما من جانب بعض المتدينين فلذلك ما بدلوا الكل، انتهى.

أقول هذا الجواب بالنسبة إلى عادة أهل الكتاب النسيب كما عرفت في الأمر السابع وأقول في (الجواب) عن الاعتراض الثاني أن آية الإنجيل هكذا: (لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني) وليس فيها تصريح بأن موسى عليه السلام كتب في حقه في المواضع الفلاني، بل المفهوم منه أن موسى كتب في حقه، وهذا يصدق إذا وجد في موضع من مواضع التوراة إشارة إليه، ونحن نسلم هذا الأمر كما ستعرف في ذيل بيان البشارة الثالثة، لكنا ننكر أن يكون قوله إشارة إلى هذه البشارة للوجوه التي عرفتها وقد ادعى هذا المعترض في الفصل الثالث من الباب الثالث من الباب الثاني من الميزان أن الآية الخامسة عشر من الباب الثالث من سفر التكوين إشارة إليه، فهذا القدر يكفي لتصحيح قول عيسى عليه السلام، نعم لو قال عيسى عليه السلام أن موسى عليه السلام ما أشار في أسفاره الخمسة إلى نبي من الأنبياء إلا إليّ لكان لهذا التوهم مجال في ذلك الوقت.

(البشارة الثانية) الآية الحادية والعشرون من الباب الثاني والثلاثين من سفر الاستثناء هكذا: (هم أغاروني بغير إله وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة وأنا أيضاً أغيرهم بغير شعب وبشعب جاهل أغضبهم) والمراد بشعب جاهل العرب لأنهم كانوا في غاية الجهل والضلال، وما كان عندهم علم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية، وما كانوا يعرفون سوى عبادة الأوثان والأصنام، وكانوا محقرين عند اليهود لكونهم من أولاد هاجر الجارية. فمقصود الآية أن بني إسرائيل أغاروني بعبادة المعبودات الباطلة فأغيرهم باصطفاء الذين هم عندهم محقرون وجاهلون، فأوفى بما وعد فبعث من العرب النبي فهداهم إلى الصراط المستقيم كما قال الله تعالى في سورة الجمعة: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. وليس المرد بالشعب الجاهل اليونانيين كما يفهم من ظاهر كلام مقدسهم بولس في الباب العاشر من الرسالة الرومية، لأن اليونانيين قبل ظهور عيسى عليه السلام بأزيد من ثلثمائة سنة كانوا فائقين على أهل العالم كلهم في العلوم والفنون، وكان جميع الحكماء المشهورين مثل سقراط وبقراط وفيساغورس وأفلاطون وأرسطاطاليس وأرشميدس وبليناس وأقليدس وجالينوس وغيرهم الذين كانوا أئمة الإلهيات والرياضيات والطبيعيات وفروعها قبل عيسى عليه السلام، وكان اليونانيين في عهده على غاية درجة الكمال في فنونهم، وكانوا واقفين على أحكام التوراة وقصصها وسائر كتب العهد العتيق أيضاً بواسطة ترجمة سبتوجنت التي ظهرت باللسان اليوناني قبل المسيح بمقدار مائتين وست وثمانين سنة، لكنهم ما كانوا معتقدين للملة الموسوية وكانوا متفحصين عن الأشياء الحكمية الجديدة كما قال مقدسهم هذا في الباب الأول من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا: (لأن اليهود يسألون آية واليونانيين يطلبون حكمة) 23 (ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة) فلا يجوز أن يكون المراد بالشعب الجاهل اليونانيين، فكلام مقدسهم في الرسالة الرومية إما مؤوّل أو مردود وقد عرفت في الأمر الثامن أن قوله ساقط عن الاعتبار عندنا.

(البشارة الثالثة) في الباب الثالث والثلاثين من سفر الاستثناء في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (وقال جاء الرب من سينا وأشرق لنا من ساعيرا ستعلن من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سنة من نار).

فمجيئه من سيناء وإعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام وإشراقه من ساعير وإعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام، واستعلانه من جبل فاران إنزاله القرآن لأن فاران جبل من جبال مكة في الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا: 20 (وكان الله معه ونما وسكن في البرية وصار شاباً يرمي بالسهام 21 وسكن برية فاران وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر). ولا شك أن إسماعيل عليه السلام كانت سكونته بمكة، ولا يصح أن يراد أن النار لما ظهرت من طور سينا ظهرت من ساعير ومن فاران أيضاً فانتشرت في هذه المواضع، لأن الله لو خلق ناراً في موضع، لا يقال جاء الله من ذلك الموضع إلا إذا أتبع تلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة أو ما أشبه ذلك، وقد اعترفوا أن الوحي اتبع تلك في طور سيناء فكذا لا بد أن يكون في ساعير وفاران.

(البشارة الرابعة) في الآية العشرين من الباب السابع عشر من سفر التكوين، وعد الله في حق إسماعيل عليه السلام لإبراهيم عليه السلام في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844 هكذا: (وعلى إسماعيل أستجيب لك هو ذا أباركه وأكبره وأكثره جداً فسيلد اثني عشر رئيساً وأجعله لشعب كبير). وقوله أجعله لشعب كبير يشير إلى محمد لأنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لشعب كبير غيره وقد قال الله تعالى ناقلاً دعاء إبراهيم وإسماعيل في حقه عليهم السلام في كلامه المجيد أيضاً: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}.

وقال الإمام القرطبي في الفصل الأول من القسم الثاني من كتابه وقد تفطن بعض النبهاء ممن نشأ على لسان اليهود وقرأ بعض كتبهم، فقال يخرج مما ذكر من عبارة التوراة في موضعين اسم محمد بالعدد على ما يستعمله اليهود فيما بينهم الأول: قوله جداً جداً بتلك اللغة بمادماد وعدد هذه الحروف اثنان وتسعون لأن الباء اثنان والميم أربعون والألف واحد والدال أربعة والميم الثانية أربعون والألف واحد والدال أربعة، وكذلك الميم من محمد أربعون والحاء ثمانية والميم أربعون والدال أربعة. والثاني: قوله لشعب كبير بتلك اللغة لغوي غدول، فاللام عندهم ثلاثون والغين ثلاثة لأنه عندهم في مقام الجيم إذ ليس في لغتهم جيم ولا صاد والواو ستة والياء عشرة والغين أيضاً ثلاثة والدال أربعة والواو ستة واللام ثلاثون، فمجموع هذه أيضاً اثنان وتسعون انتهى كلامه.

بتلخيص ما وعبد السلام كان من أحبار اليهود ثم أسلم في عهد السلطان المرحوم بايزيد خان، وصنف رسالة صغيرة سماها بالرسالة الهادية فقال فيها: (أن أكثر أدلة أحبار اليهود بحرف الجمل الكبير وهو حرف أبجد، فإن أحبار اليهود حين بنى سليمان النبي عليه السلام بيت المقدس، اجتمعوا وقالوا يبقى هذا البناء أربعمائة وعشرة سنين ثم يعرض له الخراب، لأنهم حسبوا لفظة بزات) ثم قال: (واعترضوا [ص 252] على هذا الدليل بأن الباء في بمادماد ليست من نفس الكلمة بل هي أداة وحرف جيء به للصلة فلو أخرج منه اسم محمد لاحتاج إلى باء ثانية ويقال ببمادماد، قلنا من المشهور عندهم إذا اجتمع الباآن أحدهما أداة والآخر من نفس الكلمة تحذف الأداة وتبقى التي هي من نفس الكلمة، وهذا شائع عندهم في مواضع غير معدودة فلا حاجة إلى إيرادها) انتهى كلامه بلفظه. أقول قد صرح العلماء بأن أسمائه مادماد كما في شفاء القاضي عياض.

(البشارة الخامسة) الآية العاشرة من الباب التاسع والأربعين من سفر التكوين هكذا ترجمة عربية سنة 1722 وسنة 1831: (فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبر من فخذه حتى يجيء الذي له الكل وإياه تنتظر الأمم) وفي ترجمة عربية سنة 1811 (فلا يزول القضيب من يهوذا والرسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب). ولفظ الذي له الكل أو الذي هو له، ترجمة لفظ شيلوه، وفي ترجمة هذا اللفظ اختلاف كثير فيما بينهم وقد عرفت في الأمر السابع أيضاً، وقال عبد السلام في الرسالة الهادية هكذا: (لا يزول الحاكم من يهوذا ولا راسم من بين رجليه حتى يجيء الذي له وإليه تجتمع الشعوب).

وفي هذه الآية دلالة على أن يجيء سيدنا (محمد) بعد تمام حكم موسى وعيسى، لأن المراد من الحاكم هو موسى، لأنه بعد يعقوب ما جاء صاحب شريعة إلى زمان موسى إلا موسى، والمراد من الراسم هو عيسى، لأنه بعد موسى إلى زمان عيسى ما جاء صاحب شريعة إلا عيسى وبعدهما ما جاء صاحب شريعة إلا محمد، فعلم أن المراد من قول يعقوب في آخر الأيام هو نبينا محمد عليه السلام، لأنه في آخر الزمان بعد مضي حكم الحاكم والراسم ما جاء إلا سيدنا محمد عليه السلام، ويدل عليه أيضاً قوله حتى يجيء الذي له أي الحكم بدلالة مساق الآية وسياقها، وأما قوله: وإليه تجتمع الشعوب فهي علامة صريحة ودلالة واضحة على أن المراد منها هو سيدنا، لأنه ما اجتمع الشعوب إلا إليه وإنما لم يذكر الزبور لأنه لا أحكام فيه، وداود النبي تابع لموسى والمراد من خبر يعقوب هو صاحب الأحكام) انتهى كلامه بلفظه.

أقول إنما أراد من الحاكم موسى عليه السلام، لأن شريعته جبرية انتقامية، ومن الراسم عيسى عليه السلام، لأن شريعته ليست بجبرية ولا انتقامية، وأن أريد من القضيب السلطنة الدنيوية ومن المدبر الحاكم الدنيوي، كما يفهم من رسائل القسيسين من فرقة بروتستنت ومن بعض تراجمهم، فلا يصح أن يراد بشيلوه مسيح اليهود كما هو مزعومهم، ولا عيسى عليه السلام كما هو مزعوم النصارى.

أما الأول: فظاهر لأن السلطنة الدنيوية والحاكم الدنيوي زالا من آل يهوذا من مدة هي أزيد من ألفي سنة من عهد بختنصر ولم يسمع إلى الآن حسيس مسيح اليهود.

وأما الثاني: فلأنهما زالتا من آل يهوذا أيضاً قبل ظهور عيسى عليه السلام بمقدار ستمائة سنة من عهد بختنصر وهو أجلى بني يهوذا إلى بابل وكانوا في الجلاء ثلاثاً وستين سنة لا سبعين كما يقول بعض علماء بروتستنت تغليطاً للعوام وقد عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول، ثم وقع عليهم أنتيوكس ما وقع فإنه عزل أونياس حبر اليهود وباع منصبه لأخيه ياسون بثلثمائة وستين وزنة ذهب يقدمها له خراجاً كل سنة، ثم عزله وباع ذلك لأخيه مينالاوس بستمائة وستين وزنة، ثم شاع خبر موته فطلب ياسون أن يسترد لنفسه الكهنوت ودخل أورشليم بألوف من الجنود فقتل كل من كان يظنه عدواً له وهذا الخبر كان كاذباً فهجم أنتيوكس على أورشليم وامتلكها ثانية في سنة 170 قبل ميلاد المسيح وقتلمن أهلها أربعين ألفاً وباع مثل ذلك عبيداً، وفي الفصل العشرين من الجزء الثاني من مرشد الطالبين في بيان الجدول التاريخي في الصفحة 481 من النسخة المطبوعة سنة 1852 من الميلاد (أنه نهب أورشليم وقتل ثمانين ألفاً) انتهى. وسلب ما كان في الهيكل من الأمتعة النفيسة التي كانت قيمتها ثمانمائة وزنة ذهب وقرب خنزيرة وقوداً على المذبح للإهانة، ثم رجع إلى إنطاكية وأقام فيلبس أحد الأراذل حاكماً على اليهودية، وفي رحلته الرابعة إلى مصر أرسل أبولوينوس بعشرين ألفاً من جنوده وأمرهم أن يخربوا أورشليم ويقتلوا كل من بها من الرجال ويسبو النساء والصبيان فانطلقوا إلى هناك. وبينما كان الناس في المدينة مجتمعين للصلاة يوم السبت هجموا عليهم على غفلة فقتلوا الكل، إلا من أفلت إلى الجبال واختفى في المغاير، ونهبوا أموال المدينة وأحرقوها وهدموا أسوارها وأخربوا منازلها ثم ابتنوا لهم من بسائط ذلك الهدم قلعة حصينة على جبل اكرا، وكانت العساكر تشرف منها على جميع نواحي الهيكل ومن دنا منه يقتلونه، ثم أرسل انتيوكس أثانيوس ليعلم اليهود طقوس عبادة الأصنام اليونانية ويقتل كل من لا يمتثل ذلك الأمر، فجاء أثانيوس إلى أورشليم وساعده على ذلك بعض اليهود الكافرين، وأبطل الذبيحة اليومية ونسخ كل طاعة للدين اليهودي عموماً وخصوصاً، وأحرق كل ما وجده من نسخ كتب العهد العتيق بالفحص التام، وكرس الهيكل للمشتري ونصب صورة ذلك على مذبح اليهود وأهلك كل من وجده مخالف أمر انتيوكس، ونجا متاثياس الكاهن مع أبنائه الخمسة في هذه الداهية وفروا إلى وطنهم مودين في سبط دان فانتقم من هؤلاء الكفار انتقاماً ما قدروا عليه على استطاعته كما هو مصرح به في التواريخ، فكيف يصدق هذا الخبر على عيسى عليه السلام وإن قالوا أن المراد ببقاء السلطنة والحكومة امتياز القوم كما يقول بعضهم الآن، قلنا هذا الأمر كان باقياً إلى ظهور محمد ، وكانوا في أقطار العرب ذوي حصون وأملاك غير مطيعين لأحد مثل يهود خيبر وغيرهم كما يشهد به التواريخ، وبعد ظهور محمد ضربت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا في كل إقليم مطيعين للغير، فالأليق أن يكون المراد بشيلوه النبي لا مسيح اليهود ولا عيسى عليه السلام.

(البشارة السادسة) الزبور الخامس والأربعون هكذا: (فاض قلبي كلمة صالحة أنا أقول أعمالي للملك) 1 (لساني قلم كاتب سريع الكتابة) 2 (بهي في الحسن أفضل من بني البشر) 3 (انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك الله إلى الدهر) 4 (تقلد سيفك على فخذك أيها القوي بحسنك وجمالك) 5 (أستله وأنجح وأملك من أجل الحق والدعة والصدق وتهديك بالعجب يمينك) 6 (نبلك مسنونة أيها القوي في قلب أعداء الملك الشعوب تحتك يسقطون) 7 (كرسيك يا الله إلى دهر الداهرين عصا الاستقامة عصا ملكك) 8 (أحببت البر وأبغضت الإثم لذلك مسحك الله إلهك بدهن الفرح أفضل من أصحابك) 9 (المر والميعة والسليخة من ثيابك من منازلك الشريفة العاج التي أبهجتك) 10 (بنات الملوك في كرامتك قامت الملكة من عن يمينك مشتملة بثوب مذهب موشى) 11 (اسمعي يا بنت وانظري وأنصتي بأذنيك وانسي شعبك وبنت أبيك) 12 (فيشتهي الملك حسنك لأنه هو الرب إلهك وله تسجدين) 13 (بنات صور يأتينك بالهدايا لوجهك يصلي كل أغنياء الشعب) 14 (كل مجد ابنة الملك من داخل مشتملة بلباس الذهب الموشى) 15 (يبلغن إلى الملك عذارى في أثرها قريباتها إليك يقدمن) 16 (يبلغن بفرح وابتهاج يدخلن إلى هيكل الملك) 17 (ويكون بنوك عوضاً من آبائك وتقيمهم رؤساء على سائر الأرض) 18 (سأذكر اسمك في كل جيل وجيل من أجل ذلك تعترف لك الشعوب إلى الدهر والى دهر الداهرين).

وهذا الأمر مسلم عند أهل الكتاب أن داود عليه السلام يبشر في هذا الزبور بنبي يكون ظهوره بعد زمانه، ولم يظهر إلى هذا الحين عند اليهود نبي يكون موصوفاً بالصفات المذكورة في هذا الزبور، ويدعى علماء بروتستنت أن هذا النبي عيسى عليه السلام، ويدعي أهل الإسلام سلفاً وخلفاً أن هذا النبي محمد . فأقول أنه ذكر في هذا الزبور من صفات النبي المبشر به هذه الصفات:

[ص 256] [1] كونه حسناً. [2] كونه أفضل البشر. [3] كون النعمة منسكبة على شفتيه. [4] كونه مباركاً إلى الدهر. [5] كونه متقلداً بالسيف. [6] كونه قوياً. [7] كونه ذا حق ودعة وصدق. [8] كونه هداية يمينه بالعجب. [9] كون نبله مسنونة. [10] سقوط الشعب تحته. [11] كونه محباً للبر ومبغضاً للإثم. [12] خدمة بنات الملوك إياه. [13] إتيان الهدايا إليه. [14] انقياد كل أغنياء الشعب له. [15] كون أبنائه رؤساء الأرض بدل آبائهم. [16] كون اسمه مذكوراً جيلاً بعد جيل. [17] مدح الشعوب إياه إلى دهر الداهرين.

وهذه الأوصاف كلها توجد في محمد على أكمل وجه.

أما الأول: فلأن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله ، كأن الشمس تجري في وجهه وإذا ضحك يتلألأ في الجدار). وعن أم معبد رضي الله عنها قالت في بعض ما وصفته به: (أجمل الناس من بعيد وأحلاهم وأحسنهم من قريب).

وأما الثاني: فلأن الله تعالى قال في كلامه المحكم: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) الآية. وقال أهل التفسير أراد بقوله {ورفع بعضهم درجات} محمداً أي رفعه على سائر الأنبياء من وجوه متعددة، وقد أشبع الكلام في تفسير هذه الآية الإمام الهمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير. وقال : (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) أي لا أقول ذلك فخراً لنفسي بل تحدثاً بنعمة ربي.

وأما الثالث: فغير محتاج إلى البيان حتى أقر بفصاحته الموافق والمخالف، وقال الرواة في وصف كلامه: إنه كان أصدق الناس لهجة فكان من الفصاحة بالمحل الأفضل والموضع الأكمل.

وأما الرابع: فلأن الله تعالى قال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} وألوف ألوف من الناس يصلون عليه في الصلوات الخمس.

وأما الخامس: فظاهر وقد قال هو بنفسه أنا رسول الله بالسيف.

وأما السادس: فكانت قوته الجسمانية على الكمال، كما ثبت أن ركانة خلا برسول الله في بعض شعاب مكة قبل أن يسلم فقال: يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه. فقال: لو أعلم والله ما تقول حقاً لاتبعتك. فقال: أرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق قال: نعم، فلما بطش به صلى الله تعالى عليه وسلم أضجعه لا يملك من أمره شيئاً، ثم قال: يا محمد عد فصرعه أيضاً فقال: يا محمد إن ذا لعجب. فقال : وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله وتبعت أمري. قال: ما هو قال: أدعو لك هذه الشجرة فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يديه صلى الله تعالى عليه وسلم. فقال لها: ارجعي مكانك. فرجع ركانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف ما رأيت أسحر منه ثم أخبرهم بما رأى. وركانة هذا كان من الأقوياء والمصارعين المشهورين. وأما شجاعته فقد قال ابن عمر رضي الله عنهما: (ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود من رسول الله ) وقال علي كرم الله وجهه: (وإنا كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً).

وأما السابع: فلأن الأمانة والصدق من الصفات الجليلة له ، كما قال النضر بن الحارث لقريش: (قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة. حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم إنه ساحر، لا والله ما هو بساحر). وسأل هرقل عن حال النبي أبا سفيان فقال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال. قال: لا.

وأما الثامن: فلأنه رمى يوم بدر وكذا يوم حنين وجوه الكفار بقبضة تراب فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وتمكن المسلمون منهم قتلاً وأسراً فأمثال هذه من عجيب هداية يمينه.

وأما التاسع: فلأن كون أولاد إسماعيل أصحاب النبل في سالف الزمان، غير محتاج إلى البيان وكان هذا الأمر مرغوباً له وكان يقول: (ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه). ويقول: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً). ويقول عليه السلام: (من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا).

وأما العاشر: فلأن الناس دخلوا أفواجاً في دين الله في مدة حياته.

وأما الحادي عشر: فمشهور يعترف به المعاندون أيضاً، كما عرفت في المسلك الثاني.

وأما الثاني عشر: فقد صارت بنات الملوك والأمراء، خادمة للمسلمين في الطبقة الأولى، ومنها شهربانو بنت يزدجرد، كسرى فارس، كانت تحت الإمام الهمام الحسين رضي الله عنه.

وأما الثالث عشر والرابع عشر: فلأن النجاشي ملك الحبشة ومنذر بن ساوى ملك البحرين وملك عمان انقادوا وأسلموا، وهرقل قيصر الروم أرسل إليه بهدية، والمقوقس ملك القبط أرسل إليه ثلاث جوار، وغلاماً أسود وبغلة شهباء، وحمار أشهب، وفرساً وثياباً وغيرها.

وأما الخامس عشر: فقد وصل من أبناء الإمام الحسن رضي الله عنه إلى الخلافة، وألوف في أقاليم مختلفة من الحجاز واليمن ومصر والمغرب والشام وفارس والهند وغيرها. وفازوا بالسلطنة والإمارة العلية، وإلى الآن أيضاً في ديار الحجاز واليمن، وفي غيرهما توجد الأمراء والحكام من نسله ، وسيظهر إن شاء الله المهدي رضي الله عنه من نسله، ويكون خليفة الله في الأرض، ويكون الدين كله للّه في عهده الشريف.

وأما السادس عشر والسابع عشر: فلأنه ينادي ألوف ألوف جيلاً بعد جيل في الأوقات الخمسة، بصوت رفيع في أقاليم مختلفة: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله). ويصلي عليه في الأوقات المذكورة الغير المحصورين من المصلين، والقراء يحفظون منشوره، والمفسرين يفسرون معاني فرقانه، والوعاظ يبلغون وعظه، والعلماء والسلاطين يصلون إلى خدمته، ويسلمون عليه من وراء الباب، ويمسحون وجوههم بتراب روضته ويرجون شفاعته.

ولا يصدق هذا الخبر في حق عيسى عليه السلام. كما يدعيه علماء بروتستنت ادعاء باطلاً، لأنهم يدعون أن الخبر المندرج، في الباب الثالث والخمسين من كتاب أشعيا، في حق عيسى عليه السلام، ووقع في هذا الخبر في حقه هكذا: (ليس له منظر وجمال ورأيناه ولم يكن له منظر واشتهيناه مهاناً، وآخر الرجال رجل الأوجاع مختبراً بالأمراض، وكان مكتوماً وجهه ومزدولاً ولم نحسبه، ونحن حسبناه كأبرص ومضروباً من الله ومخضوعاً، والرب شاء أن يستحقه).

وهذه الأوصاف ضد الأوصاف التي في الزبور المذكور، فلا يصدق عليه كونه حسناً، ولا كونه قوياً. وكذا لا يصدق عليه كونه متقلداً بالسيف، ولا كون نبله مسنونة، ولا انقياد الأغنياء، ولا إرسالهم إليه الهدايا، بل هو على زعم النصارى، أخذوه وأهانوه واستهزؤوا به، وضربوه بالسياط، ثم صلبوه. وما كان له زوجة ولا ابن، فلا يصدق دخول البنات في بيته، ولا كون أبنائه بدل آبائه رؤساء الأرض.

(فائدة) ترجمة الآية الثامنة التي نقلتها مطابقة للترجمة الفارسية للزبور كانت عندي، ولتراجم أردو للزبور، وموافقة لنقل مقدسهم بولس، لأنه نقل هذه الآية في الباب الأول من رسالته العبرانية. هكذا ترجمة عربية سنة 1821، وسنة 1831، وسنة 1844: (أحببت البر وأبغضت الإثم، لذلك مسحك الله إلهك بدهن الفرح أفضل من أصحابك). والتراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816، وسنة 1828، وسنة 1841. وتراجم أردو المطبوعة سنة 1839، وسنة 1840، وسنة 1841. مطابقة للتراجم العربية. فالترجمة التي تكون مخالفة لما نقلت تكون غير صحيحة. ويكفي لردها إلزاماً كلام مقدسهم. وقد عرفت في مقدمة الباب الرابع أن إطلاق لفظ الإله والرب وأمثالهما، جاء على العوام فضلاً عن الخواص. والآية السادسة من الزبور الثاني والثمانين هكذا: (أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلى كلكم). فلا يرد ما قال صاحب مفتاح الأسرار أنه وقع في الآية المذكورة هكذا: (أحببت البر وأبغضت الشر، من أجل ذلك يا الله مسح إلهك بدهن البهجة أفضل من رفقائك، ولا يقال لشخص غير المسيح يا الله مسح إلهك) الخ، لأنا لا نسلم أولاً: صحة ترجمته لكونها مخالفة لكلام مقدسهم. وثانياً: لو قطعنا النظر عن عدم صحتها، أقول ادعاؤه صريح البطلان. لأن لفظ الله ههنا بالمعنى المجازي لا الحقيقي ويدل عليه قوله إلهك، لأن الإله الحقيقي لا إله له. فإذا كان بالمعنى المجازي يصدق في حق محمد كما يصدق في حق عيسى عليه السلام.

(البشارة السابعة) في الزبور المائة والتاسع والأربعين هكذا: 1 (سبحوا الرب تسبيحاً جديداً، سبحوه في مجمع الأبرار) 2 (فليفرح إسرائيل بخالقه، وبنو صهيون يبتهجون بملكهم) 3 (فليسبحوا اسمه بالمصاف بالطبل والمزمار يرتلوا له) 4 (لأن الرب يسر بشعبه ويشرف المتواضعين بالخلاص) 5 (تفتخر الأبرار بالمجد، ويبتهجون على مضاجعهم) 6 (ترفيع الله في حلوقهم وسيوف ذات فمين في أياديهم) 7 (انتقاماً في الأمم وتوبيخات في الشعوب) 8 (ليقيدوا ملوكهم بالقيود وأشرافهم بأغلال من حديد ليضعوا بهم حكماً مكتوماً) 9 (هذا المجد يكون تجميع الأبرار).

ففي هذا الزبور عبر عن المبشر به بالملك وعن مطيعه بالأبرار، وذكر من أوصافهم افتخارهم بالمجد وترفيع الله في حلوقهم، وكون سيوف ذات فمين في أياديهم، وانتقامهم من الأمم وتوبيخاتهم للشعوب، وأسرهم الملوك والأشراف بالقيود والأغلال من حديد. فأقول المبشر به محمد وأصحابه رضي الله عنهم ويصدق جميع الأوصاف المذكورة في هذا الزبور عليه وعلى أصحابه، وليس المبشر به سليمان عليه السلام لأنه ما وسع مملكته على مملكة أبيه على زعم أهل الكتاب، ولأنه صار مرتداً عابداً الأصنام في آخر عمره على زعمهم، ولا عيسى ابن مريم عليهما السلام لأنه بمراحل عن الأوصاف المذكورة فيه لأنه أسر ثم قتل على زعمهم، وكذا أسر أكثر حواريه بالقيود والأغلال، ثم قتلوا بأيدي الملوك والأشراف الكفار.

(البشارة الثامنة) في الباب الثاني والأربعين من كتاب أشعيا هكذا: 9 (التي قد كانت أولاها قد أتت وأنا مخبر أيضاً بأحداث قبل أن تحدث وأسمعكم إياها) 10 (سبحوا للرب تسبيحة جديدة حمده من أقاصي الأرض راكبين في البحر وملؤه الجزائر وسكانهن) 11 (يرتفع البرية ومدتها في البيوت نحل قيدار سبحوا يا سكان الكهف من رؤوس الجبال يصيحون) 12 (يجعلون للرب كرامة وحمده يخبرون به في الجزائر) 13 (الرب كجبار، يخرج مثل رجل مقاتل يهوش الغير يصوت ويصيح، على أعدائه يتقوى) 14 (سكت دائماً صمت صبرت صبراً فأتكلم مثل الطائفة ما بدد وابتلع معاً) 15 (أخرب الجبال والآكام وكل نباتهن أجفف واجعل الأنهار جزائر والبحيرات أجففهن) 16 (وأقيد العمى في طريف لم يعرفوها والسبل لم يعلموا أسيرهم فيها أصير أمامهم الظلمة نوراً والعقب سهلاً هذا الكلام صنعته لهم ولا أخذلهم) 17 (اندبروا إلى ورائهم والمتكلمون على المنحوتة القائلون للمسبوكة أنكم آلهتنا ليخزون خزياً). والآية السابعة عشر في الترجمة الفارسية هكذا: (كسانيكة برشكل تراشيده توكل دارند هزيمت وبشيماني تمام خواهند يافت).

وظهر من الآية التاسعة أن أشعيا عليه السلام أخبر أولاً عن بعض الأشياء، ثم يخبر عن الأخبار الجديدة الآتية في المستقبل، فالحال الذي يخبر عنه من هذه الآية إلى آخر الباب غير الحال الذي أخبر عنه قبلها، ولذلك قال في الآية الثالثة والعشرين هكذا: (من هو بينكم أن يسمع هذا يصغي ويسمع الآية). والتسبيحة الجديدة عبارة عن العبادة على النهج الجديد التي هي في الشريعة المحمدية، وتعميمها على سكان أقاصي الأرض وأهل الجزائر وأهل المدن والبراري، إشارة إلى عموم نبوته ، ولفظ قيدار أقوى إشارة إليه لأن محمداً في أولاد قيدار بن إسماعيل، وقوله من رؤوس الجبال يصيحون إشارة إلى العبادة المخصوصة التي تؤدى في أيام الحج، يصيح ألوف ألوف من الناس بلبيك اللهم لبيك، وقوله حمده يخبرون به في الجزائر إشارة إلى الآذان يخبر به ألوف ألوف في أقطار العالم في الأوقات الخمسة بالجهر، وقوله الرب كجبار يخرج مثل رجل مقاتل يهوش الغيرة يشير إلى مضمون الجهاد إشارة حسنة، بأن جهاده وجهاد تابعيه يكون للّه وبأمره، خالياً عن حظوظ الهوى النفسانية، ولذلك عبر الله عن خروج هذا النبي وخروج تابعيه بخروجه، وبين في الآية الرابعة عشر سبب مشروعية الجهاد وأشار في الآية السادسة عشر إلى حال العرب لأنهم كانوا غير واقفين على أحكام الله وكانوا يعبدون الأصنام وكانوا مبتلين بأنواع الرسوم القبيحة الجاهلية، كما قال الله تعالى في حقهم: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} وقوله لا أخذلهم إشارة إلى كون أمته مرحومة {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وإلى تأييد شريعته، وقوله والمتوكلون على المنحوتة القائلون للمسبوكة أنكم آلهتنا ليخزون خزياً، وعد بأن عابدي الأصنام والأوثان كمشركي العرب وعابدي الصليب وصور القديسين يحصل لهم الخزي والهزيمة التامة، ووفى بما وعد. فإن مشركي العرب وهرقل عظيم الروم وكسرى فارس ما قصروا في إطفاء النور الأحمدي لكنهم ما حصل لهم سوى الخزي التام وعاقبة الأمر، لم يبق أثر الشرك في إقليم العرب، وزالت دولة كسرى مطلقاً وزالت حكومة أهل الصليب من الشام مطلقاً. وأما في الأقاليم الأخر، فمن بعضها انمحى أثره مطلقاً كبخارى وكابل وغيرهما، ومن بعضها قل كالهند والسند وغيرهما وانتشر التوحيد شرقاً وغرباً.

(البشارة التاسعة) في الباب الرابع والخمسين من كتاب أشعيا هكذا: 1 ( سبحي أيتها العاقر التي لست تلدين انشدي بالحمد وهللي التي لم تلدي من أجل أن الكثيرين من بني الوحشة أفضل من بني ذات رجل يقول الرب) 2 (أوسعي موضع خيمتك وسرادق مضاربك ابسطي لا تشفقي طول حبالك ثبتي أوتادك) 3 (لأنك تنفذين يمنة ويسرة وزرعك يرث الأمم ويعمر المدن الخربة) 4 (لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلين فإنك لا تستحيين من أجل أنك خزي صبائك تنسين وعار ترملك لا تذكرين أيضاً) 5 (فإنه يتولى عليك الذي صنعك رب الجنود اسمه وفاديك قدوس إسرائيل إله جميع الأرض يدعى) 6 (إنما الرب دعاك مثل الامرأة المطلقة والحزينة الروح وزوجة منذ الصبا مرذولة قال إلهك) 7 (الساعة في قليل تركتك وبرحمات عظيمة أجمعك) 8 (في ساعة الغضب أخفيت قليلاً وجهي عنك وبالرحمة الأبدية رحمتك قال فاديك الرب) 9 (مثلما في أيام نوح لي هذا الذي حلفت له أن لا أصب مياه نوح على الأرض، هكذا حلفت أن لا أغضب عليك وأن لا أوبخك) 10 (فإن الجبال ترتجف والتلال تتزلزل ورحمتي لا تزول عنك، وعهد سلامي لا يتحرك قال رحيمك الرب) 11 (فقيرة مستأصلة بعاصف بلا تعزية ها أنا ذا أبلط بالرتبة حجارتك وأوئسسك بالسفير) 12 (وأجعل يسبا محاضك وأبوابك حجارة منقوشة وجميع حدودك الأحجار مشتهية) 13 (جميع بنيك متعلمين من الرب وكثرة السلام لبنيك) 14 (وبالبر تؤسسين فابتعدي من الظلم لأنك لا تخافين ومن الهيبة لأنها لا تقرب منك) 15 (ها يأتي الجار الذي لم يكن معي والذي قد كان قريباً يقترب إليك) 16 (ها أنا ذا خلقت صائغاً الذي ينفخ في النار جمراً ويخرج إناء لعمله وأنا خلقت قتولاً للإهلاك) 17 (كل إناء مجبول ضدك لا ينجح وكل لسان يخالفك في القضاء تحكمين عليه هذا هو ميراث عبيد الرب وعدلهم عندي يقول الرب).

فأقول: المراد بالعاقر في الآية الأولى مكة المعظمة، لأنها لم يظهر منها نبي بعد إسماعيل عليه السلام ولم ينزل فيها وحي، بخلاف أورشليم لأنه ظهر فيها الأنبياء الكثيرون، وكثر فيها نزول الوحي. وبني الوحشة عبارة عن أولاد هاجر لأنها كانت بمنزلة المطلقة المخرجة عن البيت ساكنة في البر، ولذلك وقع في حق إسماعيل في وعد الله هاجر (هذا سيكون إنساناً وحشياً) كما هو مصرح به في الباب السادس عشر من سفر التكوين. وبنو ذات رجل عبارة عن أولاد سارة. فخاطب الله مكة آمراً لها بالتسبيح والتهليل وإنشاد الشكر، لأجل أن كثيرين من أولاد هاجر صاروا أفضل من أولاد سارة، فحصلت الفضيلة لها بسبب حصول الفضيلة لأهلها، ووفى بماوعد بأن بعث محمداً رسولاً أفضل البشر خاتم النبيين من أهلها في أولاد هاجر، وهو المراد بالصائغ الذي ينفخ في النار جمراً، وهو القتول الذي خلق لإهلاك المشركين، وحصل لها السعة بواسطة هذا النبي وما حصل لغيرها من المعابد في الدنيا إذ لا يوجد معبد مثل الكعبة من ظهور محمد إلى هذا الحين، والتعظيم الذي يحصل لها من القرابين في كل سنة من مدة ألف ومائتين وثمانين، لم يحصل لبيت المقدس إلا مرتين، مرة في عهد سليمان عليه السلام لما فرغ من بنائه، ومرة في السنة الثامنة عشر من سلطنة يوشيا، ويبقى هذا التعظيم لمكة إلى آخر الدهر إن شاء الله كما وعد الله بقوله: (لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلين لأنك لا تستحين) وبقوله: (برحمات عظيمة أجمعك وبالرحمة الأبدية رحمتك) وبقوله: (حلفت أن لا أغضب عليك وأن لا أوبخك)، وبقوله: (رحمتي لا تزول عنك وعهد سلامي لا يتحرك)، وملك زرعها شرقاً وغرباً وورثوا الأمم وعمروا المدن في مدة قليلة لا تتجاوز اثنين وعشرين سنة من الهجرة، ومثل هذه الغلبة في مثل هذه المدة القليلة، لم يسمع من عهد آدم عليه السلام إلى زمان محمد لمن يدعي الدين الجديد. وهذا مفاد قول الله، وزرعك يرث الأمم، ويعمر المدن الخربة سلاطين الإسلام سلفاً وخلفاً اجتهدوا اجتهاداً تاماً في بناء الكعبة والمسجد الحرام وتزيينهما، وحفر الآبار والبرك والعيون في مكة ونواحيها، ومن المدة الممتدة هذه الخدمة الجليلة متعلقة بسلاطين آل عثمان، غفر الله لأسلافهم ورضي الله عنهم وزاد الله إقبال أخلافهم ووسع مملكتهم في الجهات، ووفقهم للعدل والحسنات، فهم خدموا ويخدمون الحرمين المعظمين أدام الله شرفهما من هذه المدة إلى هذا الحين كما هي، حتى صار لقب خادم الحرمين الشريفين عندهم أشرف الألقاب وأعزها، والغرباء يحبون مجاورتها من ظهور الإسلام إلى هذا الحين، سيما في هذا الزمان، وألوف من الناس يصلون إليها في كل سنة من أقاليم مختلفة وديار بعيدة، ووفى بما وعد بقوله كل إناء مجبول بضدك لا ينجح، لأن كل شخص من المخالف قام بضدها أذله الله كما وقع بأصحاب الفيل، روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم لما ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي، بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس وأراد أن يصرف إليها الحاج وحلف أن يهدم الكعبة، فخرج بالحبشة ومعه فيل له اسمه محمود وكان قوياً عظيماً وأفيال أخرى، فخرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى، وعبأ جيشه، وقدم الفيل فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل الله طيراً مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففروا وهلكوا في كل طريق ومنهل، وذوى أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره أبو يكسوم، وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتاً بين يديه، وقد أخبر الله عن حال هؤلاء في سورة الفيل وبحسب الوعد المذكور لا يدخل الأعور الدجال مكة ويرجع خائباً كما جاء في الأحاديث الصحيحة.

(البشارة العاشرة) في الباب الخامس والستين من كتاب أشعيا هكذا: 1 (طلبني الذين لم يسألوني قبل ووجدني الذين لم يطلبوني قلت ها أنا ذا إلى الأمة الذين لم يدعوا باسمي) 2 (بسطت يدي طول النهار إلى شعب غير مؤمن الذي يسلك بطريق غير صالح وراء أفكارهم) 3 (الشعب الذي يغضبني أمام وجهي دائماً الذين يذبحون في البساتين ويذبحون على اللبن) 4 (الذين يسكنون في القبور في مساجد الأوثان يرقدون الذين يأكلون لحم الخنزير والمرق المنجس في آنيتهم) 5 (الذين يقولون أبعد عني لا تقرب مني لأنك نجس هؤلاء يكونون دخاناً في رجزي ناراً متقدة طول النهار) 6 (ها مكتوب قدامي لا أسكت بل أردوا كافي جزاء في حضنهم). فالمراد بالذين لم يسألوني والذين لم يطلبوني العرب، لأنهم كانوا غير واقفين على ذات الله وصفاته وشرائعه، فما كانوا سائلين عن الله وطالبين له كما قال الله تعالى في سورة آل عمران: {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. ولا يجوز أن يراد بهم اليونانيين كما عرفت في البشارة الثانية، والوصف المذكور في الآية الثانية والثالثة يصدق على كل واحد من اليهود والنصارى، والأوصاف المذكورة في الآية الرابعة ألصق بحال النصارى، كما أن الوصف المذكور في الخامسة ألصق بحال اليهود فردهم الباري واختار الأمة المحمدية.

(البشارة الحادية عشر) في الباب الثاني من كتاب دانيال في حال الرؤيا التي رآها بختنصر ملك بابل ونسي، ثم بين دانيال عليه السلام بحسب الوحي تلك الرؤيا وتفسيرها. 31: (فكنت أنت الملك ترى وإذ تمثال واحد جسيم وكان التمثال عظيماً ورفيع القامة واقفاً قبالك ومنظره مخوفاً) 32: (رأس هذا التمثال هو من ذهب إبريز والصدر والذراعان من فضة والبطن والفخذان من نحاس) 33: (والساقان من حديد والقدمان قسم منهما من حديد وقسم منهما من خزف) 34: (فكنت ترى هكذا حتى انقطع حجر من جبل لا بيدين وضرب التمثال في قدميه من حديد ومن خزف فسحقهما) 35: (فانسحق حينئذ مع الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب وصارت كغبار البيدر في الصيف فذرتها الريح ولم يوجد لها مكان والحجر الذي قد ضرب التمثال صار جبلاً وملأ الأرض بأسرها) 36: (فهذا هو الحلم وتنبئ أيضاً قدامك يا أيها الملك بتفسيره) 37: (أنت هو ملك الملوك وإله السماء أعطاك الملك والقوة والسلطان والمجد). 38: (وجميع ما يسكن فيه بنو الناس ووحوش الحقل وأعطى بيدك طير السماء أيضاً وجعل جميع الأشياء تحت سلطانك فأنت هو الرأس من الذهب) 39: (وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك من فضة ومملكة ثالثة أخرى من نحاس وتتسلط على جميع الأرض) 40: (والمملكة الرابعة تكون مثل الحديد كما أن الحديد يسحق ويغلب الجميع هكذا هي تسحق وتكسر جميع هذه) 41: (أما فيما رأيت قسم القدمين وأصابعهما من الخزف الفاخوري وقسماً من حديد تكون المملكة مفترقة وإن كان يخرج من نصبة الحديد حسبما رأيت الحديد مختلطاً بالخزف من طين) 42: (وأصابع القدمين قسم من حديد وقسم من خزف فتكون المملكة بقسم صلبة وبقسم مسحوقة) 43: (فيما رأيت الحديد مختلطاً بالخزف من طين أنهم يختلطون بزرع بشري بل لا يتلاصقون مثل ما ليس بممكن أن يمتزج الحديد بالخزف) 44: (فأما في أيام تلك الممالك يبعث إله السماء مملكة وهي لن تنقضي قط، ملكها لا يعطى لشعب آخر وهي تسحق وتفنى جميع هذه الممالك أجمعين وهي تثبت إلى الأبد) 45: (وكما رأيت أن من جبل انقطع حجر لا بيدين وسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب، فالإله العظيم أظهر للملك ما سيأتي من بعد والحلم هو حقيقي وتفسيره صحيح). فالمراد بالمملكة الأولى سلطنة بختنصر، وبالمملكة الثانية سلطنة المادئين الذين تسلطوا بعد قتل بلشاصر بن بختنصر كما هو مصرح به في الباب الخامس من الكتاب المذكور، وسلطنتهم كانت ضعيفة بالنسبة إلى سلطنة الكلدانيين، والمراد بالمملكة الثالثة سلطنة الكيانيين لأن قورش ملك إيران الذي هو بزعم القسيسين كيخسر وتسلط على بابل قبل ميلاد المسيح بخمسمائة وست وثلاثين سنة، ولما كان الكيانيون على السلطنة القاهرة فكأنهم كانوا متسلطين على جميع الأرض والمراد بالمملكة الرابعة سلطنة اسكندر بن فيلفوس الرومي الذي تسلط على ديار فارس قبل ميلاد المسيح بثلثمائة وثلاثين سنة، فهذا السلطان كان في القوة بمنزلة الحديد ثم جعل هذا السلطان سلطنة فارس منقسمة على طوائف الملوك فبقيت هذه السلطنة ضعيفة إلى ظهور الساسانيين ثم صارت قوية بعد ظهورهم فكانت ضعيفة تارة وقوية تارة وتولد في عهد نوشيروان (محمد بن عبد الله) وأعطاه الله السلطنة الظاهرية والباطنية وقد تسلط متبعوه في مدة قليلة شرقاً وغرباً وعلى جميع ديار فارس التي كانت هذه الرؤيا وتفسيرها متعلقين بها، فهذه هي السلطنة الأبدية التي لا تنقضي وملكها لا يعطى لشعب آخر وسيظهر كمالها عن قريب في زمان الإمام المهدي رضي الله عنه لكن الوهن والضعف يقع قبل ظهوره بمدة قليلة كما يشاهد بعض علاماته الآن ثم يزول بظهوره ويكون الدين كله للّه، فهذا الحجر الذي انقطع لا بيدين من جبل وسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب وصار جبلاً عظيماً وملأ الأرض بأسرها هو محمد .

(البشارة الثانية عشر) نقل يهوذا الحواري في رسالته الخبر الذي تكلم به أخنوخ الرسول الذي كان سابعاً من آدم عليه السلام ومن عروجه إلى ميلاد المسيح مدة ثلاثة آلاف وسبع عشرة سنة على زعم مؤرخيهم. وأنا أنقل عبارته من الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844: (الرب قد جاء في ربواته المقدسة ليدائن الجميع ويبكت جميع المنافقين على كل أعمال نفاقهم التي نافقوا فيها وعلى كل الكلام الصعب الذي تكلم به ضد الله الخطاة المنافقون) وقد عرفت في مقدمة الباب الرابع أن استعمال لفظ الرب بمعنى المخدوم والمعلم شائع فلا حاجة إلى الإعادة، وأما لفظ المقدس أو القديس فيطلق في العهدين على المؤمن الموجود في الأرض إطلاقاً شائعاً.

[1] الآية الأولى من الباب الخامس من سفر أيوب هكذا: (فادع الآن أن كان لك مجيب وإلى أحد من القديسين التفت) فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون على الأرض، أما عند علماء بروتستنت فظاهروا ما عند علماء كاتلك فلأن مطهرهم الذي هو موضع آلام أرواح الصالحين إلى أن يحصل لها النجاة بمغفرة البابا، وجد بعد المسيح عليه السلام ولم يكن في زمن أيوب.

[2] والآية الثانية من الباب الأول من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا: (إلى جماعة الله التي بقورنثية المقدسين بيسوع المسيح المدعوين قديسين) الخ. فالمراد بالمقدسين والقديسين المؤمنون بالمسيح الموجودون في قورنثية.

[3] والآية الثالثة عشر من الباب الثاني عشر من الرسالة الرومية هكذا: (مشاركين لحاجة القديسين) الخ.

[4 ، 5] في الباب الخامس عشر منها هكذا: (ولكن الآن أنا ذاهب إلى أورشليم لأخدم القديسين) 26 (لأن أهل مكدونية واحائية استحسنوا أن يصنعوا توزيعاً لفقراء القديسين الذين في أورشليم فالمراد بالقديسين في الموضعين المؤمنون الموجودون في أورشليم.

[6] والآية الأولى من الباب الأول من الرسالة إلى أهل فيلبسيوس هكذا: (من بولس وطيماثاوس عبدي يسوع المسيح إلى جميع القديسين بيسوع المسيح بفيلبسيوس) الخ. فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون بفيلبسيوس).

[7] ووقع في الآية العاشرة من الباب الخامس من الرسالة الأولى إلى طيماثاوس في حال الشماسات هكذا: (غسلت أرجل القديسين) فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون على الأرض بوجهين: الأول: أن القديسين الموجودون في السماء أرواح ليس لهم أرجل والثاني: أن الشماسات لا يمكنهن العروج إلى السماء وإذا عرفت استعمال لفظ الرب والمقدس أو القديس فأقول إن المراد بالرب محمد وبالربوات المقدسة الصحابة والتعبير عن مجيئه بقد جاء لكونه أمراً يقينياً فجاء محمد في ربواته المقدسة فدان الكفار، وبكت المنافقين والخطاة على أعمال النفاق وعلى أقوالهم القبيحة في الله ورسله، فبكت المشركين لعدم تسليم توحيد الله ورسالة رسله مطلقاً وعبادتهم الأصنام والأوثان، وبكت اليهود على تفريطهم في حق عيسى ومريم عليهما السلام وبعض عقائدهم الواهية، وبكت أهل التثليث مطلقاً على تفريطهم في توحيد الله وإفراطهم في حق عيسى عليه السلام، وبكت أكثرهم على عبادة الصليب والتماثيل وبعض عقائدهم الواهية.

(البشارة الثالثة عشر) في الباب الثالث من إنجيل متى هكذا: (وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية) 2 (قائلاً توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات). وفي الباب الرابع من إنجيل متى هكذا: 12 (ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل) 17 (من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات) 23 (وكان يسوع يطوف كل الجليل ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت الخ). وفي الباب السادس من إنجيل متى في بيان الصلاة التي علمها عيسى عليه السلام تلاميذه هكذا: (ليأت ملكوتك) ولما أرسل الحواريين إلى البلاد الإسرائيلية للدعوة والوعظ، وصاهم بوصايا منها هذه الوصية أيضاً: (وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السماوات) كما هو مصرح به في الباب العاشر من إنجيل متى ووقع في الباب التاسع من إنجيل لوقا هكذا: 1 (ودعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء أمراض) 2 (وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله يشفوا المرضى). وفي الباب العاشر من إنجيل لوقا هكذا: (وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضاً وأرسلهم) الخ (فقال لهم) الخ 8 (وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم فكلوا مما يقدم لكم) 9 (واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم قد اقترب منكم ملكوت الله) 10 (وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا) 11 (حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم ولكن اعلموا هذا أنه قد اقترب منكم ملكوت الله). فظهر أن كلاً من يحيى وعيسى والحواريين والتلاميذ السبعين بشر بملكوت السماوات، وبشر عيسى عليه السلام بالألفاظ التي بشر بها يحيى عليه السلام، فعلم أن هذا الملكوت كما لم يظهر في عهد يحيى عليه السلام فكذلك لم يظهر في عهد عيسى عليه السلام ولا في عهد الحواريين والسبعين بل كل منهم مبشر به ومخبر عن فضله ومترجّ لمجيئه، فلا يكون المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة عيسى عليه السلام، وإلا لما قاله عيسى عليه السلام والحواريون والسبعون أن ملكوت السماوات قد اقترب، ولما علم التلاميذ أن يقولوا في الصلاة وليأت ملكوتك لأن هذه طريقة قد ظهرت بعد ادعاء عيسى عليه السلام النبوة بشريعته، فهو عبارة عن طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد ، فهؤلاء كانوا يبشرون بهذه الطريقة الجليلة، ولفظ ملكوت السماوات بحسب الظاهر يدل على أن هذا الملكوت يكون في صورة السلطنة لا في صورة المسكنة، وأن المحاربة والجدال فيه مع المخالفين يكونان لأجله، وأن مبنى قوانينه لا بد أن يكون كتاباً سماوياً، وكل من هذه الأمور يصدق على الشريعة المحمدية، وما قال العلماء المسيحية أن المراد بهذا الملكوت، شيوع الملة المسيحية في جميع العالم وإحاطتها كل الدنيا بعد نزول عيسى عليه السلام، فتأويل ضعيف خلاف الظاهر، ويرده التمثيلات المنقولة عن عيسى عليه السلام في الباب الثالث عشر من إنجيل متى، مثلاً قال: (يشبه ملكوت السماوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله)، ثم قال: (يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله)، ثم قال: (يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع). فشبه ملكوت السماوات بإنسان زارع لا بنمو الزراعة وحصادها، وكذلك شبه بحبة خردل لا بصيرورتها شجرة عظيمة، وشبه بخميرة لا باختمار جميع الدقيق. وكذا يرد هذا التأويل قول عيسى عليه السلام بعد بيان التمثيل المنقول في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا: (لذلك أقول أن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره) فإن هذا القول يدل على أن المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة نفسها لا شيوعها في جميع العالم وإحاطتها كل العالم، وإلا لا معنى لنزع الشيوع والإحاطة من قوم وإعطائهما لقوم آخرين، فالحق أن المراد بهذا الملكوت هي المملكة التي أخبر عنها دانيال عليه السلام في الباب الثاني من كتابه، فمصداق هذا الملكوت، وتلك المملكة نبوة محمد والله أعلم وعلمه أتم.

(البشارة الرابعة عشر) في الباب الثالث عشر من إنجيل متى هكذا: 31 (قدم لهم مثلاً آخر قائلاً يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله) 32 (وهي أصغر جميع البذور ولكن متى نمت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتأوي في أغصانها)، فملكوت السماء طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد ، لأنه نشأ في قوم كانوا حقراء عند العالم لكونهم أهل البوادي غالباً، وغير واقفين على العلوم والصناعات، محرومين عن اللذات الجسمانية والتكلفات الدنيوية سيما عند اليهود لكونهم من أولاد هاجر، فبعث الله منهم محمداً فكانت شريعته في ابتداء الأمر بمنزلة حبة خردل أصغر الشرائع بحسب الظاهر، لكنها لعمومها نمت في مدة قليلة وصارت أكبرها وأحاطت شرقاً وغرباً، حتى أن الذين لم يكونوا مطيعين لشريعة من الشرائع تشبثوا بذيل شريعته.

(البشارة الخامسة عشر) في الباب العشرين من إنجيل متى هكذا: 1 (فإن ملكوت السماوات يشبه رجلاً رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعلة لكرمه) 2 (فاتفق مع العملة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه) 3 (ثم خرج نحو الساعة الثالثة، ورأى آخرين قياماً في السوق بطالين) 4 (فقال لهم اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم فمضوا) 5 (وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك) 6 (ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياماً بطالين فقال لهم لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين) 7 (قالوا له لأنه لم يستأجرنا أحد قال لهم اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم) 8 (فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله ادع الفعلة وأعطهم الأجر مبتدئاً من الآخرين إلى الأولين) 9 (فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا ديناراً ديناراً) 10 (فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم ديناراً ديناراً) 11 (وفيما هم يأخذون تذمروا على رب البيت) 12 (قائلين هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر) 13 (فأجاب وقال لواحد منهم يا صاحب ما ظلمتك أما اتفقت معي على دينار) 14 (فخذ الذي لك واذهب فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك) 15 (أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بما لي أم عينك شريرة لأني أنا صالح) 16 (هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون).

فالآخرون أمة محمد فهم يقدمون في الأجر، وهم الآخرون الأولون كما قال النبي : (نحن الآخرون السابقون) وقال: (إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي).

(البشارة السادسة عشر) في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا: 33 (اسمعوا مثلاً آخر كان إنسان رب بيت غرس كرماً وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجاً وسلمه إلى كرامين وسافر) 34 (ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين وسافر ليأخذ أثماره) 35 (فأخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً) 36 (ثم أرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين ففعلوا بهم كذلك) 37 (فأخبرا أرسل إليهم ابنه قائلاً يهابون ابني) 38 (وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه) 39 (فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه) 40 (فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين) 41 (قالوا له أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها) 42 (قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب، الحجر الذي رفضه البناءون، هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا) 43 (لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره) 44 (ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه) 45 (ولما سمع رؤساء الكهنة، والفريسيون أمثاله، عرفوا أنه تكلم عليهم).

أقول: إن رب بيت كناية عن الله، والكرم كناية عن الشريعة، وإحاطته بسياج وحفر المعصرة فيه وبناء البرج، كنايات عن بيان المحرمات والمباحات والأوامر والنواهي، وأن الكرامين الطاغين كناية عن اليهود، كما فهم رؤساء الكهنة، والفريسيون، أنه تكلم عليهم، والعبيد المرسلين كناية عن الأنبياء عليهم السلام، والابن كناية عن عيسى عليه السلام، وقد عرفت في الباب الرابع أنه لا بأس بإطلاق هذا اللفظ عليه، وقد قتله اليهود أيضاً في زعمهم. والحجر الذي رفضه البناءون كناية عن محمد ، والأمة التي تعمل أثماره كناية عن أمته ، وهذا هو الحجر الذي كل من سقط عليه ترضض، وكل من سقط هو عليه سحقه، وما ادعى العلماء المسيحية بزعمهم، أن هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام، فغير صحيح لوجوه:

(الأول) أن داود عليه السلام، قال في الزبور المائة والثامن عشر هكذا: 22 (الحجر الذي رذله البناءون هو صار رأساً للزاوية) 23 (من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا). فلو كان هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام وهو من اليهود من آل يهوذا من آل داود عليه السلام، فأي عجب في أعين اليهود عموماً لكون عيسى عليه السلام رأس الزاوية سيما في عين داود عليه السلام خصوصاً لأن مزعوم المسيحيين، أن داود عليه السلام يعظم عيسى عليه السلام في مزاميره تعظيماً بليغاً، ويعتقد الألوهية في حقه بخلاف آل إسماعيل، لأن اليهود كانوا يحقرون أولاد إسماعيل غاية التحقير، وكان كون أحد منهم رأساً للزاوية عجيباً في أعينهم.

(والثاني) أنه وقع في وسط هذا الحجر كل من سقط على هذا الحجر ترضض، وكل من سقط هو عليه سحقه، ولا يصدق هذا الوصف على عيسى عليه السلام لأنه قال: (وإن سمع أحد كلامي، ولم يؤمن، فأنا لا أدينه لأني لم آت لأدين العالم، بل لأخلص العالم). كما هو في الباب الثاني عشر من إنجيل يوحنا، وصدقه على محمد غير محتاج إلى البيان، لأنه كان مأموراً بتنبيه الفجار الأشرار، فإن سقطوا عليه ترضضوا، وإن سقط هو عليهم سحقهم.

(الثالث) قال النبي : (مثلي ومثل الأنبياء، كمثل قصر أحسن بنيانه، وترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار، يتعجبون من حسن بنيانه، إلا موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان، وختم بي الرسل). ولما ثبتت نبوته بالأدلة الأخرى كما ذكرت نبذاً منها في المسالك السابقة، فلا بأس بأن استدل في هذه البشارة بقوله أيضاً.

(والرابع) أن المتبادر من كلام المسيح أن هذا الحجر غير الابن.

(البشارة السابعة عشر) في الباب الثاني من المشاهدات هكذا: 26 (ومن يغلب، ويحفظ أعمالي إلى النهاية، فسأعطيه سلطاناً على الأمم) 27 (فيرعاهم بقضيب من حديد، كما تكسر آنية من خزف، كما أخذت أيضاً من عند أبي) 28 (وأعطيه كوكب الصبح) 29 (من له أذن فليسمع ما يقول الروح بالكنائس). فهذا الغالب الذي أعطى سلطاناً على الأمم، ويرعاهم بالقضيب من حديد، هو محمد . كما قال الله في حقه: {وينصرك الله نصراً عزيزاً} وقد سماه سطيح الكاهن صاحب الهراوة، روى أن ليلة ولادته انشق إيوان كسرى أنو شروان، وسقط من ذلك أربع عشرة شرافة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغارت بحيرة ساوة بحيث صارت يابسة، ورأى الموبذان في نومه أن إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً فقطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فخاف كسرى من حدوث هذه الأمور وأرسل عبد المسيح إلى سطيح الكاهن الذي كان في الشام، ولما وصل عبد المسيح إليه، وجده في سكرات الموت فذكر هذه الأمور عنده، فأجاب سطيح: (إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاماً، ولا الشام لسطيح مناماً، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرافات، وكل ما هو آت آت). ثم مات سطيح من ساعته، ورجع عبد المسيح، فأخبر أنو شروان بما قال سطيح، قال كسرى إلى أن يملك أربعة عشر ملكاً، كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه، فهلك آخرهم يزدجر في خلافته. والهراوة بكسر الهاء العصا الضخمة، وكوكب الصبح عبارة عن القرآن، قال الله تعالى في سورة النساء: {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً}، وفي سورة التغابن: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا}. قال صاحب صولة الضيغم بعد نقل هذه البشارة، قلت للقسيسين ويت، ووليم عند المناظرة: إن صاحب هذا القضيب من حديد محمد ، فاضطربا بسماع هذا الأمر، وقالا: إن عيسى عليه السلام، حكم بهذا الكنيسة ثياثيراً، فلا بد أن يكون ظهور مثل هذا الشخص هناك، ومحمد ما راح هناك، قلت: هذه الكنيسة في أية ناحية كانت. فرجعا إلى كتب اللغة، وقالا: كانت في أرض الروم، قريبة من استانبول. قلت: راح أصحاب محمد في خلافة الفاروق الأعظم، عمر رضي الله عنه، إلى هذه البلاد، وفتحوها، وبعد الصحابة، رضي الله عنهم، كان المسلمون أيضاً متسلطين عليها في أكثر الأوقات، ثم تسلط سلاطين آل عثمان، أدام الله سلطنتهم من المدة المديدة، وهم متسلطون إلى هذا الحين، فهذا الخبر صريح في حق محمد، ، انتهى كلامه.

قلت: الفاضل عباس علي الجاجموي الهندي، صنف أولاً كتاباً، كبيراً في رد أهل التثليث، وسماه صولة الضيغم على أعداء ابن مريم، ثم ناظر هو رحمه الله ويت، ووليم القسيسين في البلد كانفور من بلاد الهند وألزمهما، ثم اختصر كتابه، وسمىّ المختصر خلاصة صولة الضيغم، ومناظرته كانت قبل أن ناظر صاحب ميزان الحق في أكبر آباد بمقدار اثنتين وعشرين سنة.

(البشارة الثامنة عشر) وهذه البشارة واقعة في آخر أبواب إنجيل يوحنا، وأنا أنقل عن التراجم العربية المطبوعة سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844 في بلدة لندن، فأقول: في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 15 (إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي) 16 (وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد) 17 (روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه لأنه مقيم عندكم وهو ثابت فيكم) 26 (والفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم) 30 (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون). وفي الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق هو يشهد لأجلي) 27 (وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء). وفي الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 7 (لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن انطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم) 8 (فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطية وعلى بر وعلى حكم) 9 (أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي) 10 (وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد) 11 (وأما على الحكم فإن أركون هذا العالم قد دين) 12 (وأن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن) 13 (وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي) 14 (وهو يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم) 15 (جميع ما هو الأب فهو لي فمن أجل هذا قلت أن مما هو لي يأخذ ويخبركم). وأنا أقدم قبل بيان وجه الاستدلال بهذه العبارات أمرين:

الأمر الأول: أنك قد عرفت في الأمر السابع، أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم أن يترجموا غالباً الأسماء، وأن عيسى عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني لا باليوناني، فإذاً لا يبقى شك في أن الإنجيلي الرابع ترجم اسم المبشر به باليوناني بحسب عادتهم، ثم مترجمو العربية عربوا اللفظ اليوناني بفارقليط، وقد وصلت إلى رسالة صغيرة في لسان أردو من رسائل القسيسين في سنة ألف ومائتين وثمان وستين من الهجرة، وكانت هذه الرسالة طبعت في كلكته وكانت في تحقيق لفظ فارقليط، وادعى مؤلفها أن مقصوده أن ينبه المسلمين على سبب وقوعهم في الغلط من لفظ فارقليط، وكان ملخص كلامه: (أن هذا اللفظ معرب من اللفظ اليوناني فإن قلنا أن هذا اللفظ اليوناني الأصل باراكلي طوس فيكون بمعنى المعزي والمعين والوكيل، وإن قلنا أن اللفظ الأصل بيركلو طوس يكون قريباً من معنى محمد وأحمد، فمن استدل من علماء الإسلام بهذه البشارة فهم أن اللفظ الأصل بيركلو طوس ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد، فادعى أن عيسى عليه السلام أخبر بمحمد أو أحمد لكن الصحيح أنه باراكلي طوس) انتهى ملخصاً من كلامه.

فأقول أن التفاوت بين اللفظين يسير جداً وأن الحروف اليونانية كانت متشابهة، فتبدل بيركلو طوس بياراكلي طوس في بعض النسخ من الكاتب قريب القياس، ثم رجح أهل التثليث المنكرين هذه النسخة على النسخ الأخر، ومن تأمل في الباب الثاني من هذا الكتاب والأمر السابع من هذا المسلك السادس بنظر الإنصاف، اعتقد يقيناً بأن مثل هذا الأمر من أهل الديانة من أهل التثليث ليس ببعيد، بل لا يبعد أن يكون من المستحسنات.

والأمر الثاني: أن البعض ادعوا قبل ظهور محمد ، أنهم مصاديق لفظ، فارقليط مثلاً منتنس المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد، وكان مرتاضاً شديداً وأتقى عهده، ادعى في قرب سنة 177 من الميلاد في آسيا الصغير الرسالة وقال إني هو الفارقليط الموعود به الذي وعد بمجيئه عيسى عليه السلام وتبعه أناس كثيرون في ذلك كما هو مذكور في بعض التواريخ.

وذكر وليم ميور حاله وحال متبعيه في القسم الثاني من الباب الثالث من تاريخه بلسان أردو المطبوع سنة 1848 من الميلاد هكذا: (أن البعض قالوا أنه ادعى أني فارقليط يعني المعزي روح القدس وهو كان أتقى ومرتاضاً شديداً ولأجل ذلك قبله الناس قبولاً زائداً) انتهى كلامه. فعلم أن انتظار فارقليط كان في القرون الأولى المسيحية أيضاً ولذلك كان الناس يدعون مصاديقه وكان المسيحيون يقبلون دعاويهم. وقال صاحب لب التواريخ: (أن اليهود والمسيحيين من معاصري محمد كانوا منتظرين لنبي فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم لأنه ادعى أني هو ذاك المنتظر) انتهى ملخص كلامه. فيعلم من كلامه أيضاً أن أهل الكتاب كانوا منتظرين لخروج نبي في زمان النبي ، وهو الحق لأن النجاشي ملك الحبشة لما وصل إليه كتاب محمد (فقال أشهد بالله أنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب) وكتب الجواب وكتب في الجواب (أشهد أنك رسول الله صادقاً ومصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك أي جعفر بن أبي طالب، وأسلمت على يديه للّه رب العالمين) وهذا النجاشي قبل الإسلام كان نصرانياً، وكتب المقوقس ملك القبط في جواب كتاب النبي هكذا: (لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعوا إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك) والمقوقس هذا وإن لم يسلم لكنه أقر في كتابه أني قد علمت أن نبياً قد بقي وكان نصرانياً، فهذان الملكان ما كانا يخافان في ذلك الوقت من محمد لأجل شوكته الدنيوية، وجاء الجارود بن العلاء في قومه إلى رسول الله فقال: والله لقد جئت بالحق ونطقت بالصدق، والذي بعثك بالحق نبياً لقد وجدت وصفك في الإنجيل وبشر بك ابن البتول فطول، التحية لك والشكر لمن أكرمك، لا أثر بعد عين ولا شك بعد يقين، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله)، ثم آمن قومه وهذا الجارود كان من علماء النصارى وقد أقر بأنه قد بشر بك ابن البتول أي عيسى عليه السلام، فظهر أن المسيحيين أيضاً كانوا منتظرين لخروج نبي بشر به عيسى عليه السلام، فإذا علمت ذلك فأقول أن اللفظ العبراني الذي قاله عيسى عليه السلام مفقود، واللفظ اليوناني الموجود ترجمة، لكني أترك البحث عن الأصل، وأتكلم على هذا اللفظ اليوناني الأصل بيركلو طوس فالأمر ظاهر، وتكون بشارة المسيح في حق محمد بلفظ هو قريب من محمد، وأحمد، وهذا وإن كان قريب القياس بلحاظ عاداتهم لكني أترك هذا الاحتمال، لأنه لا يتم عليهم إلزاماً وأقول إن كان اللفظ اليوناني الأصل بارا كلي طوس كما يدعون فهذا لا ينافي الاستدلال أيضاً، لأن معناه المعزي، والمعين، والوكيل، على ما بين صاحب الرسالة، أو الشافع، كما يوجد في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816، وهذه المعاني كلها تصدق على محمد . وأنا أبين الآن أولاً أن المراد بفارقليط النبي المبشر به أعني محمداً لا الروح النازل على تلاميذ عيسى عليه السلام يوم الدار، الذي جاء ذكره في الباب الثاني من كتاب الأعمال. وأذكر ثانياً شبهات العلماء المسيحية وأجيب عنها فأقول:

أما الأول: فيدل عليه أمور:

[1] أن عيسى عليه السلام قال: (أولاً، إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي) ثم أخبر عن فارقليط فمقصوده عليه السلام، أن يعتقد السامعون بأن ما يلقى عليهم يعد ضروري واجب الرعاية، فلو كان فارقليط عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كانت الحاجة إلى هذه الفقرة، لأنه ما كان مظنوناً أن يستبعد الحواريون نزول الروح عليهم مرة أخرى، لأنهم كانوا مستفيضين به من قبل أيضاً، بل لا مجال للاستبعاد أيضاً لأنه إذا نزل على قلب أحد وحل فيه يظهر أثره لا محالة ظهوراً بيناً، فلا يتصوّر إنكار المتأثر منه وليس ظهوره عندهم في صورة يكون فيه مظنة يكون الاستبعاد، فهو عبارة عن النبي المبشر به، فحقيقة الأمر أن المسيح عليه السلام لما علم بالتجربة وبنور النبوّة أن الكثيرين من أمته ينكرون النبي المبشر به عند ظهوره، فأكد أولاً بهذه الفقرة ثم أخبر عن مجيئه.

[2] أن هذا الروح متحد بالأب مطلقاً وبالابن، نظراً إلى لاهوته اتحاداً حقيقياً فلا يصدق في حقه (فارقليط آخر) بخلاف النبي المبشر به فإنه يصدق هذا القول في حقه بلا تكلف.

[3] أن الوكالة والشفاعة من خواص النبوّة لا من خواص هذا الروح المتحد بالله، فلا يصدقان على الروح ويصدقان على النبي المبشر به بلا تكلف.

[4] أن عيسى عليه السلام قال: (هو يذكركم كل ما قلته لكم). ولم يثبت من رسالة من رسائل العهد الجديد، أن الحواريين كانوا قد نسوا ما قاله عيسى عليه السلام، وهذا الروح النازل يوم الدار ذكرهم إياه.

[5] أن عيسى عليه السلام قال: (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون). وهذا يدل على أن المراد به ليس الروح لأنك قد عرفت في الأمر الأول أنه ما كان عدم الإيمان مظنوناً منهم وقت نزوله، بل لا مجال للاستبعاد أيضاً، فلا حاجة إلى هذا القول، وليس من شأن الحكيم العاقل أن يتكلم بكلام فضول فضلاً عن شأن النبي العظيم الشأن، فلو أردنا به النبي المبشر به يكون هذا الكلام في محله، وفي غاية الاستحسان لأجل التأكيد مرة ثانية.

[6] أن عيسى عليه السلام قال: (هو يشهد لأجلي). وهذا الروح ما شهد لأجله بين يدي أحد، لأن تلاميذه الذين نزل عليهم ما كانوا محتاجين إلى الشهادة، لأنهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة قبل نزوله أيضاً، فلا فائدة للشهادة بين أيديهم، والمنكرون الذين كانوا محتاجين للشهادة فهذا الروح ما شهد بين أيديهم بخلاف محمد فإنه شهد لأجل المسيح عليه [ص 284] السلام وصدقه وبرأه عن ادعاء الألوهية، الذي هو أشد أنواع الكفر والضلال، وبرأ أمه عن تهمة الزنا، وجاء ذكر براءتهما في القرآن في مواضع متعددة، وفي الأحاديث في مواضع غير محصورة.

[7] أن عيسى عليه السلام قال: (وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء، وهذه الآية في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 هكذا: (وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم كنتم معي من الابتداء). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا: (وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء) فيوجد في هذه التراجم الثلاث لفظ أيضاً، وكذا يوجد في التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 وفي ترجمة أردو المطبوعة سنة 1814 ترجمة لفظ أيضاً، فلفظ أيضاً سقط من التراجم التي نقلت عنها عبارة يوحنا سهواً أو قصداً، فهذا القول يدل دلالة ظاهرة على أن شهادة الحواريين غير شهادة فارقليط، فلو كان المراد به الروح النازل يوم الدار فلا توجد مغايرة الشهادتين، لأن الروح المذكور لم يشهد شهادة مستقلة غير شهادة الحواريين، بل شهادة الحواريين هي شهادته بعينها، لأن هذا الروح مع كونه إلهاً متحداً بالله اتحاداً حقيقياً برياً من النزول والحلول والاستقرار والشكل التي هي من عوارض الجسم والجسمانيات، نزل مثل ريح عاصفة وظهر في أشكال ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم يوم الدار، فكان حالهم كحال من عليه أثر الجن، فكما أن قول الجن يكون قوله في تلك الحالة فكذلك كانت شهادة الروح هي شهادة الحواريين، فلا يصح هذا القول بخلاف ما إذا كان المراد به النبي المبشر به، فإن شهادته غير شهادة الحواريين.

[8] أن عيسى عليه السلام قال: (إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم). فعلق مجيئه بذهابه وهذا الروح عندهم نزل على الحواريين في حضوره لما أرسلهم إلى البلاد الإسرائيلية، فنزوله ليس بمشروط بذهابه، فلا يكون مراداً بفارقليط، بل المراد به شخص لم يستفض منه أحد من الحواريين قبل زمان صعوده، وكان مجيئه موقوفاً على ذهاب عيسى عليه السلام، ومحمد كان كذلك، لأنه جاء بعد ذهاب عيسى عليه السلام، وكان مجيئه موقوفاً على ذهاب عيسى عليه السلام، لأن وجود رسولين ذوي شريعتين مستقلتين في زمان واحد غير جائز، بخلاف ما إذا كان الآخر متبعاً لشريعة الأول أو يكون كل من الرسل متبعاً لشريعة واحدة، لأنه يجوز في هذه الصورة وجود اثنين أو أكثر في زمان واحد ومكان واحد، كما ثبت وجودهم ما بين زمان موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام.

[9] أن عيسى عليه السلام قال: (يوبخ العالم). فهذا القول بمنزلة النص الجلي لمحمد ، لأنه وبخ العالم سيما اليهود على عدم إيمانهم بعيسى عليه السلام توبيخاً لا يشك فيه إلا معاند بحت، وسيكون ابنه الرشيد محمد المهدي رفيقاً لعيسى عليه السلام في زمان قتل الدجال الأعور ومتابعيه، بخلاف الروح النازل يوم الدار، فإن توبيخه لا يصح على أصول أحد، وما كان التوبيخ منصب الحواريين بعد نزوله أيضاً، لأنهم كانوا يدعون إلى الملة بالترغيب والوعظ، وما قال رانكين في كتابه المسمى بدافع البهتان الذي هو بلسان أردو في رده على خلاصة صولة الضيغم: (إن لفظ التوبيخ لا يوجد في الإنجيل ولا في ترجمة من تراجم الإنجيل، وهذا المستدل أورد هذا اللفظ ليصدق على محمد صدقاً بيناً لأجل أن محمد وبخ وهدد كثيراً، إلا أن مثل هذا التغليط ليس من شأن المؤمنين والخائفين من الله) انتهى كلامه فمردوده. وهذا القسيس إما جاهل غالط أو مغلط ليس له إيمان ولا خوف من الله، لأن هذا اللفظ يوجد في التراجم العربية المذكورة التي نقلت عنها عبارة يوحنا، وفي الترجمة المطبوعة 1671 في الرومية العظمى، وعبارة الترجمة العربية المطبوعة في بيروت سنة 1860 هكذا: (ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية الخ). وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1825، وفي التراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1828 وسنة 1841 يوجد لفظ الإلزام، ولفظ التبكيت والإلزام أيضاً قريبان من التوبيخ لكن لا شكاية منه، لأن مثل هذا الأمر من عادات علماء بروتستنت ولذلك ترى أن مترجمي الفارسية وأردو تركوا لفظ فارقليط لشهرته عند المسلمين في حق محمد ، ومترجم ترجمة أردو المطبوعة سنة 1839 فإن هؤلاء أسلافه أيضاً، حيث أرجع إلى الروح ضمائر المؤنث ليحصل الاشتباه للعوام أن مصداق هذا اللفظ مؤنث وليس بمذكر.

[10] قال عيسى عليه السلام: (أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي) وهذا يدل على أن فارقليط يكون ظاهراً على منكري عيسى عليه السلام موبخاً لهم على عدم الإيمان به، والروح النازل يوم الدار ما كان ظاهراً على الناس موبخاً لهم.

[11] قال عيسى عليه السلام: (إن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن). وهذا ينافي إرادة الروح النازل يوم الدار لأنه ما زاد حكماً على أحكام عيسى عليه السلام، لأنه على زعم أهل التثليث كان أمر الحواريين بعقيدة التثليث وبدعوة أهل العالم كله، فأي أمر حصل لهم أزيد من أقواله التي قال لهم إلى زمان صعوده. نعم بعد نزول هذا الروح، أسقطوا جميع أحكام التوراة التي هي ما عدا بعض الأحكام العشرة المذكورة في الباب العشرين من سفر الخروج، وحللوا جميع المحرمات وهذا الأمر لا يجوز في حقه أن يقال أنهم ما كانوا يستطيعون حمله، لأنهم استطاعوا حمل سقوط حكم تعظيم السبت الذي هو أعظم أحكام التوراة، الذي كان اليهود ينكرون كون عيسى عليه السلام مسيحاً موعوداً به لأجل عدم مراعاته هذا الحكم، فقبول سقوط جميع الأحكام كان أهون عندهم، نعم قبول زيادة الأحكام لأجل ضعف الإيمان، وضعف القوة إلى زمان صعوده كما يعترف به علماء بروتستنت، كان خارجاً عن استطاعتهم. فظهر أن المراد بفارقليط نبي تزاد في شريعته أحكام بالنسبة إلى الشريعة العيسوية ويثقل حملها على المكلفين الضعفاء وهو محمد .

[12] أن عيسى عليه السلام قال: (ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع).

وهذا يدل على أن فارقليط يكون بحيث يكذبه بنو إسرائيل، فاحتاج عيسى عليه السلام أن يقرر حال صدقه فقال هذا القول، ولا مجال لمظنة التكذيب في حق الروح النازل يوم الدار، على أن هذا الروح عندهم عين الله فلا معنى لقوله بل يتكلم بما يسمع. فمصداقه محمد ، فإنه كان في حقه مظنة التكذيب وليس هو عين الله وكان يتكلم بما يوحى إليه كما قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وقال: {إن اتبع إلا ما يوحى إليَّ}.

[13] أن عيسى عليه السلام قال: (أنه يأخذ مما هو لي). وهذا لا يصدق على الروح، لأنه عند أهل التثليث قديم وغير مخلوق وقادر مطلق ليس له كمال منتظر بل كل كمال من كمالاته حاصل له بالفعل، فلا بد أن يكون الموعود به من الجنس الذي يكون له كمال منتظر، ولما كان هذا الكلام موهماً أن يكون هذا النبي متبعاً لشريعته، دفعه بقوله فيما بعد: (جميع ما للأب فهو لي فلأجل هذا قلت مما هو لي يأخذ). يعني أن كل شيء يحصل لفارقليط من الله فكأنه يحصل مني، كما اشتهر من كان للّه كان الله له، فلأجل هذا قلت أن مما هو لي يأخذ.

وأما الثاني أعني الشبهات التي توردها علماء بروتستنت فخمسة:

(الشبهة الأولى) جاء في هذه العبارة تفسير فارقليط بروح القدس وروح الحق وهما عبارتان عن الأفنوم الثالث، فكيف يصح أن يراد بفارقليط محمد أقول في الجواب: أن صاحب ميزان الحق يدعي في تأليفاته كون ألفاظ روح الله وروح القدس وروح الحق وروح الصدق وروح فم الله بمعنى واحد، وقال في الفصل الأول من الباب الثاني من مفتاح الأسرار في الصفحة 53 من النسخة الفارسية المطبوعة سنة 1850: (أن لفظ روح الله ولفظ روح القدس في التوراة والإنجيل بمعنى واحد) انتهى. فادعى أن هذين اللفظين يستعملان بمعنى واحد في العهدين وقال في حل الإشكال في جواب كشف الأستار: (من له شعور ما بالتوراة والإنجيل فهو يعرف أن ألفاظ روح القدس وروح الحق وروح فم الله وغيرها بمعنى روح الله فلذلك ما رأيت إثباته ضرورياً) انتهى. فإذا عرفت هذا القول نحن نقطع النظر عن صحة ادعائه وعدم صحته ههنا ونسلم ترادف هذه الألفاظ على زعمه لكنا ننكر أن استعمالها في كل موضع من مواضع العهدين بمعنى الأقنوم الثالث ونقول قولاً مطابقاً لقوله من له شعور ما بكتب العهدين، يعرف أن هذه الألفاظ تستعمل في غير الأقنوم كثيراً، في الآية الرابعة عشر من الباب السابع والثلاثين من كتاب حزقيال قول الله تعالى في خطاب ألوف من الناس الذين أحياهم بمعجزة حزقيال عليه السلام هكذا: (فأعطى فيكم روحي). ففي هذا القول روح الله بمعنى النفس الناطقة الإنسانية لا بمعنى الأقنوم الثالث الذي هو عين الله على زعمهم، وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا ترجمة عربية سنة 1760: 1 (أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله، لأن الأنبياء الكذبة كثيرون قد خرجوا إلى العالم) 2 (بهذا تعرفون روح الله، كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله) 6 (نحن من الله فمن يعرف الله يسمع لنا، ومن ليس من الله لا يسمع لنا، من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال). وهذه الجملة الواقعة في الآية الثانية: (بهذا تعرفون روح الله).

وفي التراجم الأخر هكذا ترجمة عربية سنة 1821، وسنة 1831، وسنة 1844: (وبهذا يعرف روح الله). ترجمة عربية سنة 1825: (فإنكم تميزون روح الله ولفظ روح الله في الآية الثانية، ولفظ روح الحق في الآية السادسة، بمعنى الواعظ الحق لا بمعنى الأقنوم الثالث، ولذلك ترجم مترجم ترجمة أردو المطبوعة سنة 1845 لفظ كل روح بكل واعظ، ولفظ الأرواح بالواعظين في الآية الأولى ولفظ روح في الآية الثانية بالواعظ من جانب الله، ولفظ روح الحق في الآية السادسة بالواعظ الصادق، وترجم لفظ روح الضلال بالواعظ المضل، وليس المراد بروح الله وروح الحق الأقنوم الثالث الذي هو عين الله على زعمهم وهو ظاهر فتفسير فارقليط بروح القدس وروح الحق لا يضرنا لأنهما بمعنى الواعظ الحق، كما أن لفظ روح الحق وروح الله بهذا المعنى في الرسالة الأولى ليوحنا، فيصح إطلاقهما على محمد بلا ريب.

(الشبهة الثانية) أن المخاطبين بضميرهم الحواريون، فلا بد أن يظهر فارقليط في عهدهم، ومحمد لم يظهر في عهدهم، أقول هذا أيضاً ليس بشيء، لأن منشأه أن الحاضرين وقت الخطاب لا بد أن يكونوا مراضين بضمير الخطاب وهو ليس بضروري في كل موضع، ألا ترى أن قول عيسى عليه السلام في الآية الرابعة والستين من الباب السادس والعشرين من إنجيل متى في خطاب رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع هكذا: (وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء). وهؤلاء المخاطبون قد ماتوا ومضت على موتهم مدة هي أزيد من ألف وثمانمائة سنة، وما رأوه آتياً على سحاب السماء، فكما أن المراد بالمخاطبين ههنا الموجودون من قومهم وقت نزوله من السماء، فكذلك فيما نحن فيه المراد الذين يوجدون وقت ظهور فارقليط.

(الشبهة الثالثة) أنه وقع في حق فارقليط أن العالم لا يراه ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه وهو لا يصدق على محمد ، لأن الناس رأوه وعرفوه أقول هذا أيضاً ليس بشيء، وهم أحوج الناس تأويلاً في هذا القول بالنسبة إلينا، لأن روح القدس عين الله عندهم والعالم يعرف الله أكثر من معرفة محمد ، فلا بد أن نقول أن المراد بالمعرفة المعرفة الحقيقية الكاملة، ففي صورة التأويل لا اشتباه في صدق هذا القول على محمد ، ويكون المقصود أن العالم لا يعرفه معرفة حقيقية كاملة، وأنتم تعرفونه معرفة حقيقية كاملة، والمراد بالرؤية المعرفة، ولذا لم يعد عيسى عليه السلام لفظ الرؤية بعد لفظ أنتم بل قال وأنتم تعرفونه.

ولو حملنا الرؤية على الرؤية البصرية يكون نفي الرؤية محمولاً على ما هو المراد في قول الإنجيلي الأول في الباب الثالث عشر من إنجيله، وأنقل عبارته عن الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1825: 13 (فلذلك أضرب لهم الأمثال لأنهم ينظرون ولا يبصرون، ويسمعون ولا يستمعون ولا يفهمون) 14 (وقد كمل فيهم تنبأ أشعيا حيث قال إنكم تستمعون سمعاً ولا تفهمون وتنظرون نظراً ولا تبصرون). فلا إشكال أيضاً وأمثال هذين الأمرين وإن كانت معاني مجازية لكنها بمنزلة الحقيقة العرفية. ووقعت في كلام عيسى عليه السلام كثيراً: في الآية السابعة والعشرين من الباب الحادي عشر من إنجيل متى هكذا: (وليس أحد يعرف الابن إلا الأب ولا أحد يعرف الأب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له).

وفي الآية الثامنة والعشرين من الباب السابع من إنجيل يوحنا هكذا: (الذي أرسلني حق الذي أنتم لستم تعرفونه).

وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا: (لستم تعرفوني أنا ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً) 55 (ولستم تعرفونه أي الله) الخ.

وفي الآية الخامسة والعشرين من الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (أيها الأب إن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك).

وفي الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 7 (لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه) 8 (قال له فيلبس يا سيد أرنا الأب وكفانا) 9 (قال له يسوع أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس الذي رآني فقد رأى الأب، فكيف تقول أنت أرنا الأب).

فالمراد في هذه الأقوال بالمعرفة المعرفة الكاملة وبالرؤية المعرفة، وإلا لا تصح هذه الأقوال يقيناً، لأن العوام من الناس كانوا يعرفون عيسى عليه السلام فضلاً عن رؤساء اليهود، والكهنة، والمشايخ، والحواريين، ورؤية الله بالبصر في هذا العالم ممتنعة عند أهل التثليث أيضاً.

(الشبهة الرابعة) أنه وقع في حق فارقليط: (أنه مقيم عندكم، وثابت فيكم). ويظهر من هذا القول أن فارقليط كان في وقت الخطاب مقيماً عند الحواريين، وثابتاً فيهم، فكيف يصدق على محمد .

أقول: إن هذا القول في التراجم الأخرى هكذا ترجمة عربية سنة 1816، وسنة 1825: (لأنه مستقر معكم، وسيكون فيكم). والتراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816، وسنة 1828، وسنة 1841. وترجمة أردو المطبوعة سنة 1814، وسنة 1839، كلها مطابقة لهاتين الترجمتين، وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا: (ماكث معكم، ويكون فيكم). فظهر أن المراد بقوله ثابت فيكم الثبوت الاستقبالي يقيناً، فلا اعتراض به لوجه من الوجوه، وبقي قوله مقيم عندكم فأقول: لا يصح حمل هذا القول على معنى هو مقيم عندكم الآن، لأنه ينافي قوله: (أنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر)، وقوله: (قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان تؤمنون)، وقوله: (إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط)، وإذا أُول نقول أنه بمعنى الاستقبال، كما أن القول الذي بعده بمعنى الاستقبال، ومعناه يكون مقيماً عندكم في الاستقبال، فلا خدشة في صدقه أيضاً على محمد . والتعبير عن الاستقبال بالحال بل بالماضي في الأمور المتيقنة كثير في العهدين، ألا ترى أن حزقيال عليه السلام أخبر أولاً عن خروج يأجوج ومأجوج، في الزمان المستقبل، وإهلاكهم حين وصولهم إلى جبال إسرائيل.

ثم قال في الآية الثامنة من الباب التاسع والثلاثين من كتابه هكذا: (ها هو جاء وصار يقول الرب الإله هذا هو اليوم الذي قلت عنه). فانظروا إلى قوله ها هو جاء وصار، وهذا القول في الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1839 هكذا: (ابنك رسيد وبوقوع يبوست) فعبر عن الحال المستقبل بالماضي لكونه يقيناً لا شك فيه وقد مضت مدة أزيد من ألفين وأربعمائة وخمسين سنة ولم يظهر خروجهم.

وفي الآية الخامسة والعشرين من الباب الخامس من إنجيل يوحنا هكذا: (الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون) فانظروا إلى قوله وهي الآن وقد مضت مدة أزيد من ألف وثمانمائة ولم تجيء هذه الساعة والى الآن أيضاً مجهولة لا يعرف أحد متى تجيء.

(الشبهة الخامسة) في الباب الأول من كتاب الأعمال هكذا: 4 (وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الأب الذي سمعتموه مني) 5 (لأن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير). وهذا يدل على أن فارقليط، هو الروح النازل يوم الدار. لأن المراد بوعد الأب هو فارقليط، أقول الادعاء بأن المراد بموعد الأب هو فارقليط، ادعاء محض، بل هو غلط لثلاثة عشر وجهاً وقد عرفتها، بل الحق أن الإخبار عن فارقليط شيء، والوعد بإنزال الروح عليه مرة أخرى شيء آخر وقد وفى الله بالوعدين، وقد عبر بالوعد الأول بمجيء فارقليط، وههنا بموعد الأب. غاية الأمر أن يوحنا نقل بشارة فارقليط، ولم ينقلها الإنجيليون الباقون، ولوقا نقل موعد نزول الروح الذي نزل يوم الدار ولم ينقله يوحنا. ولا بأس فيه فإنهم قد يتفقون في نقل الأقوال الخسيسة، كركوب عيسى عليه السلام على الحمار وقت الذهاب إلى أورشليم، اتفق على نقله الأربعة، وقد يتخالفون في نقل الأحوال العظيمة، ألا ترى أن لوقا انفرد بذكر إحياء ابن الأرملة من الأموات في نابين، وبذكر إرسال عيسى عليه السلام سبعين تلميذاً، وبذكر إبراء عشرة برص، ولم يذكر هذه الحالات أحد الإنجيليين مع أنها من الحالات العظيمة، وأن يوحنا انفرد بذكر وليمة العرس في قانا الجليل وظهر من يسوع فيه معجزة تحويل الماء خمراً، وهذه المعجزة أول معجزاته، وسبب ظهور مجده وإيمان التلاميذ به، وبذكر إبراء السقيم في بيت صيدا في أورشليم، وهذه أيضاً معجزة عظيمة، والمريض كان مريضاً من ثمان وثلاثين سنة، وبذكر قصة امرأة أخذت في زنا، وبذكر إبراء الأكمه وهذا أيضاً من أعظم معجزاته، وهي مصرحة بهما في الباب التاسع، وبذكر إحياء العاذار من بين الأموات، ولم يذكرها أحد من الإنجيليين مع أنها حالات عظيمة. وهكذا حال متى ومرقس فإنهما انفردا بذكر بعض المعجزات والحالات التي لم يذكرهما غيرهما.

ولما طال البحث في هذا المسلك، فلنقتصر على هذا القدر من البشارات التي نقلتها عن كتبهم المعتبرة عندهم في زماننا، وأما البشارات التي توجد في كتب أخرى هي ليست معتبرة عندهم في زماننا فما نقلتها. وبعد ما فرغت أنقل عنها بشارة واحدة أيضاً على سبيل الأنموذج.

فأقول: القسيس سيل نقل في مقدمة ترجمته للقرآن المجيد من إنجيل برنايا بشارة محمدية هكذا: (اعلم يا برنابا أن الذنب وإن كان صغيراً يجزي الله عليه لأن الله غير راض عن الذنب، ولما اجتنى أمي وتلاميذي لأجل الدنيا سخط الله لأجل هذا الأمر، وأراد باقتضاء عدله أن يجزيهم في هذا العالم على هذه العقيدة الغير اللائقة ليحصل لهم النجاة من عذاب جهنم، ولا يكون لهم أذية هناك، وإني وإن كنت برياً لكن بعض الناس لما قالوا في حقي أنه الله وابن الله، كره الله هذا القول واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة علي ولا يستهزئون بي، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس) انتهت ترجمة كلامه.

(أقول) هذه البشارة عظيمة وإن اعترضوا أن هذا الإنجيل رده مجالس علمائنا السلف (أقول) لا اعتبار لردهم وقبولهم كما علمت بما لا مزيد عليه في الباب الأول، وهذا الإنجيل من الأناجيل القديمة ويوجد ذكره في كتب القرن الثاني والثالث، فعلى هذا كتب هذا الإنجيل قبل ظهور محمد بمئتين سنة، ولا يقدر أحد أن يخبر بغير الإلهام بمثل هذا الأمر قبل وقوعه بمئتين سنة، فلا بد أن يكون هذا قول عيسى عليه السلام، وإن قالوا أن أحداً من المسلمين حرف هذا الإنجيل بعد ظهور محمد ، قلت: هذا الاحتمال بعيد جداً لأن المسلمين ما التفتوا إلى هذه الأناجيل الأربعة أيضاً، فكيف إلى إنجيل برنابا، ويبعد أن يؤثر تحريف أحد من المسلمين في إنجيل برنابا تأثيراً يتغير به النسخ الموجودة عند المسيحيين أيضاً، وهم يزعمون أن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين أسلموا، نقلوا عن كتب العهدين البشارات المحمدية وحرفوها، فعلى زعمهم أقول أن هؤلاء العلماء الكبار حرفوا على زعمهم، ولم يؤثر تحريف هؤلاء في كتبهم التي كانت موجودة عندهم في مواضع هذه البشارات، فكيف أثر تحريف بعض المسلمين في إنجيل برنابا في النسخ التي كانت عندهم، فهذا الاحتمال واه ضعيف جداً واجب الرد.

(تنبيه) نقلنا هذا الإخبار أولاً في الكتاب الإعجاز العيسوي، عن الترجمة المطبوعة سنة 1850 من الميلاد، وطبع هذا الكتاب سنة 1271 من الهجرة وسنة 1854 من الميلاد واشتهر في أقطار الهند وتراجمهم، وكتبهم تتغير في الطبع المتأخر بالنسبة إلى الطبع المتقدم تغيراً ما، كما قد نبهت في مقدمة الكتاب أيضاً، فإن لم يجد الناظر هذه البشارة في بعض نسخ الترجمة المذكورة المطبوعة في سنة غير السنة المذكورة لا يقع في شك سيما إذا كان هذا البعض من النسخ المطبوعة في سنة متأخرة عن ألف وثمانمائة وأربع وخمسين من الميلاد، لأن علماء بروتستنت لو أسقطوا في طبعهم هذه البشارة من الترجمة المذكورة فلا يستبعد من عادتهم التي صارت، بمنزلة الأمر الطبيعي لهم.

وقال الفاضل حيدر علي القرشي في كتابه المسمى بخلاصة سيف المسلمين الذي هو بلسان أردو في الصفحة 63 و 64: (أن القسيس أو سكان الأرمني ترجم كتاب أشعيا باللسان الأرمني في سنة ألف وستمائة وست وستين سنة، وطبعت هذه الترجمة في سنة ألف وسبعمائة وثلاث وثلاثين في مطبع انتوني بورتولي ويوجد في هذه الترجمة في الباب الثاني والأربعين هذه الفقرة: (سبحوا الله تسبيحاً جديداً وأثر سلطنة على ظهره واسمه أحمد) انتهت. وهذه الترجمة موجودة عند الأرامن فانظروا فيها) انتهى كلامه.

(أقول) هذه الترجمة لم تصل إلي وما اطلعت عليها لكن هذا الفاضل لعله رآها واطلع عليها، ولا شك أن هذه الفقرة عظيمة النفع، وإن لم تكن هذه الترجمة معتبرة عند علماء بروتستنت، ومن أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين، مثل عبد الله بن سلام وابني سعية وبنيامين ومخيريق وكعب الأحبار وغيرهم، من علماء اليهود، ومثل بحير اونسطور الحبشي وضفاطر وهو الأسٍقف الرومي الذي أسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه، والجارود، والنجاشي، والسوس، والرهبان الذين جاؤوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيرهم من علماء النصارى، وقد اعترف بصحة نبوته، وعموم رسالته، هرقل قيصر الروم، ومقوقس صاحب مصر، وابن صوريا، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم ممن حملهم الحسد على الشقاء، ولم يسلموا.

وروي أنه عليه السلام لما أراد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم، فقال عليه السلام: إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم، فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فلما رجعوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم نبوته، وقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا وإن أبيتم إلا ألف دينكم. فوادعوا الرجل وانصرفوا، فأتوا رسول الله ، وقد غدا محتضناً الحسين، وآخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي رضي الله عنه خلفها، وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا. فقال أسقفهم: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً، لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا. فأذعنوا لرسول الله وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعاً من حديد. فقال عليه الصلاة والسلام: لو باهلوا لمسخوا قردة، وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله، حتى الطير على الشجر، وهذه الواقعة دلت على نبوته بوجهين:

(الأول) أنه عليه الصلاة والسلام خوّفهما بنزول العذاب عليهم، ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه، لأنه لو باهل ولم ينزل العذاب ظهر كذبه، ومعلوم أنه كان من أعقل الناس، فلا يليق به أن يعمل عملاً يفضي إلى ظهور كذبه، فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقاً بوعد الله.

(والثاني) أن القوم كانوا يبذلون النفوس، والأموال، في المنازعة مع الرسول ، فلو لم يعرفوا أنه نبي لما تركوا مباهلته

إظهار الحق

تمهيد | مقدمة | بيان كتب العهد العتيق والجديد | أسماؤها وتعدادها | لا سند متصل عندهم لكتبهم | كتبهم مملوءة من الاختلافات والأغلاط | بيان الاختلافات | بيان الأغلاط | ادعاء الإلهام | القول في التوراة والإنجيل | إثبات التحريف | إثبات التحريف اللفظي بالتبديل | إثبات التحريف بالزيادة | إثبات التحريف بالنقصان | إثبات النسخ | إبطال التثليث | مقدمة | إبطال التثليث بالبراهين العقلية | إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام | إبطال ألوهية المسيح عليه السلام | إثبات أن القرآن الكريم كلام الله | رفع شبهات القسيسين | إثبات صحة الأحاديث النبوية | دفع شبهات القسيسين على الأحاديث | إثبات نبوة محمد | دفع المطاعن | الخاتمة