ثم هذا النظر يوجب نقصه وخروجه عن الفضل فضلا عن أن يستعلي عبدا أو يستطيل

وإن كان من الطائفة الأخرى مثل العجم أو غير قريش أو بني هاشم فليعلم أن تصديقه رسول الله فيما أخبر وطاعته فيما أمر ومحبة من أحبه والتشبه بمن فضله الله والقيام بالدين الحق الذي بعث الله به عبده ورسوله محمدا يوجب له أن يكون أفضل من جمهور الطائفة المفضلة وهذا هو الفضل الحقيقي

وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وضع الديوان وقالوا له يبدأ أمير المؤمنين بنفسه فقال لا ولكن وضعوا عمر حيث وضعه الله تعالى فبدأ بأهل بيت رسول الله ثم من يليهم حتى جاءت نوبته في بني عدي وهم متأخرون عن أكثر بطون قريش

ثم هذا الاتباع للحق ونحوه قدمه على عامة بني هاشم فضلا عن غيرهم من قريش

الثاني أن اسم العرب والعجم قد صار فيه اشتباه فإنا قد قدمنا أن اسم العجم يعم في اللغة كل من ليس من العرب ثم لما كان العلم والإيمان في أبناء فارس أكثر منه في غيرهم من العجم كانوا أفضل الأعاجم فغلب لفظ العجم في عرف العامة المتأخرين عليهم فصارت حقيقة عرفية عامية فيهم

واسم العرب في الأصل كان اسما لقوم جمعوا ثلاثة أوصاف

أحدها أن لسانهم كان باللغة العربية

الثاني أنهم كانوا من أولاد العرب

الثالث أن مساكنهم كانت أرض العرب وهي جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة ومن أقصى حجر باليمن إلى أوائل الشام بحيث تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله فلما جاء الإسلام وفتحت الأمصار سكنوا سائر البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب وإلى سواحل الشام وأرمينية وهذه كانت مساكن فارس والروم والبربر وغيرهم ثم انقسمت هذه البلاد قسمين

منها ما غلب على أهله لسان العرب حتى لا تعرف عامتهم غيره أو يعرفونه وغيره مع ما دخل على لسان العرب من اللحن وهذه غالب مساكن الشام والعراق ومصر والأندلس ونحو ذلك وأظن أرض فارس وخراسان كانت هكذا قديما

ومنها ما العجمة كثيرة فيهم أو غالبة عليهم كبلاد الترك وخراسان وأرمينية وأذربيجان ونحو ذلك فهذه البقاع انقسمت إلى ما هو عربي ابتداء وما هو عربي انتقالا وإلى ما هو عجمي وكذلك الأنساب ثلاثة أقسام

قوم من نسل العرب وهم باقون على العربية لسانا ودارا أو لسانا لا دارا أو دارا لا لسانا

وقوم من نسل العرب بل من نسل هاشم ثم صارت العربية لسانهم ودارهم أو أحدهما

وقوم مجهولو الأصل لا يدرون أمن نسل العرب هم أو من نسل العجم وهم أكثر الناس اليوم سواء كانوا عرب الدار واللسان أو عجما في أحدهما

وكذلك انقسموا في اللسان ثلاثة أقسام

قوم يتكلمون بالعربية لفظا ونغمة

وقوم يتكلموا بها لفظا لا نغمة وهم المتعربون الذين ما تعلموا اللغة ابتداء من العرب وإنما اعتادوا غيرها ثم تعلموها كغالب أهل العلم ممن تعلم العربية

وقوم لا يتكلمون بها إلا قليلا

وهذان القسمان منهم من تغلب عليه العربية ومنهم من تغلب عليه العجمة ومنهم من يتكافأ في حقه الأمران إما قدرة وإما عادة

فإذا كانت العربية قد انقسمت نسبا ولسانا ودارا فإن الأحكام تختلف باختلاف هذا الانقسام خصوصا النسب واللسان

فإن ما ذكرناه من تحريم الصدقة على بني هاشم واستحقاق نصيب من الخمس ثبت لهم باعتبار النسب وإن صارت ألسنتهم أعجمية

وما ذكرنا من حكم اللسان العربي وأخلاق العرب يثبت لمن كان كذلك وإن كان أصله فارسيا وينتفي عمن لم يكن كذلك وإن كان أصله هاشميا

والمقصود هنا أن ما ذكرته من النهي عن التشبه بالأعاجم إنما العبرة فيه بما كان عليه صدر الإسلام من السابقين الأولين فكل ما كان إلى هداهم أقرب فهو المفضل وكل ما خالف ذلك فهو المخالف سواء كان المخالف ذلك اليوم عربي النسب أو عربي اللسان وهكذا جاء عن السلف

فروى الحافظ أبو طاهر السلفي في فضل العرب بإسناده عن أبي شهاب الحناط حدثنا جبار بن موسى عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال من ولد في الإسلام فهو عربي

وهذا الذي يروى عن أبي جعفر لأن من ولد في الإسلام فقد ولد في دار العرب واعتاد خطابها وهكذا كان الأمر

وروى السلفي عن المؤتمر الساجي عن أبي القاسم الخلال أنبأنا أبو محمد الحسن بن الحسين التولخي حدثنا علي بن عبد الله بن بشر حدثنا محمد بن حرب النشائي حدثنا إسحاق الأزرق عن هشام بن حسان عن الحسن عن أبي هريرة يرفعه قال من تكلم بالعربية فهو عربي ومن أدرك له اثنان في الإسلام فهو عربي هكذا فيه وأظنه ومن أدرك له أبوان

فهنا إن صح هذا الحديث فقد علقت العربية فيه بمجرد اللسان وعلقت في النسب بأن يدرك له أبوان في الدولة الإسلامية العربية

وقد يحتج بهذا القول أبو حنيفة على أن من ليس له أبوان في الإسلام أو في الحرية ليس كفؤا لمن له أبوان في ذلك وإن كان في العجمية والعتاقة

ومذهب أبي يوسف ذو الأب الواحد كذي الأبوان

ومذهب الشافعي وأحمد لا عبرة بذلك ونص عليه أحمد

وقد روى السلفي من حديث الحسن بن رشيق حدثنا أحمد بن الحسن بن هارون حدثنا العلاء بن سالم حدثنا قرة بن عيسى الواسطي حدثنا أبو بكر الهذلي عن مالك بن أنس عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال جاء قيس بن مطاطة إلى حلقة فيها صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي فقال هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هؤلاء فقام معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه ثم أتى به إلى النبي فأخبره بمقالته فقام النبي مغضبا يجر رداءه حتى دخل المسجد ثم نودي إن الصلاة جامعة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس إن الرب رب واحد والأب أب واحدوالدين دين واحد وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم إنما هي لسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي فقام معاذ بن جبل فقال بم تأمرنا في هذا المنافق فقال دعه إلى النار فكان قيس ممن ارتد فقتل في الردة

هذا الحديث ضعيف وكأنه مركب على مالك لكن معناه ليس ببعيد بل هو صحيح من بعض الوجوه كما قدمناه

ومن تأمل ما ذكرناه في هذا الباب عرف مقصود الشريعة فيما ذكرناه من الموافقة المأمور بها والمخالفة المنهي عنها كما تقدمت الدلالات عليه وعرف بعض وجوه ذلك وأسبابه وبعض ما فيه من الحكمة

فصل

فإن قيل ما ذكرتموه من الأدلة معارض بما يدل على خلافه وذلك أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ولقوله تعالى فبهداهم اقتده وقوله اتبع ملة إبراهيم وقوله يحكم بها النبيون الذين أسلموا وغير ذلك من الدلائل المذكورة في غير هذا الموضع مع أنكم مسلمون لهذه القاعدة وهي قول عامة السلف وجمهور الفقهاء ومعارض بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله ما هذا اليوم الذي تصومونه قالوا هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه تعظيما له فقال رسول الله فنحن أحق بموسى منكم فصامه رسول الله وأمر بصيامه متفق عليه

وعن أبي موسى قال كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا فقال رسول الله فصوموه أنتم متفق عليه وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري تعظمه اليهود وتتخذه عيدا وفي لفظ له كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشاراتهم

وعن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رءوسهم وكان رسول الله يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء وسدل رسول الله ناصيته ثم فرق بعد متفق عليه

قيل أما المعارضة بكون شرع من قبلنا شرعا لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه فذاك مبني على مقدمتين كلتاهما منفية في مسألة التشبه بهم

إحداهما أن يثبت أن ذلك شرع لهم بنقل موثوق به مثل أن يخبرنا الله في كتابه أو على لسان رسوله أو ينقل بالتواتر ونحو ذلك فأما مجرد الرجوع إلى قولهم أو إلى ما في كتبهم فلا يجوز بالاتفاق والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان قد استخبرهم فأخبروه ووقف على ما في التوراة فإنما ذلك لأنه لا يروج عليه باطلهم بل الله سبحانه يعرفه ما يكذبون مما يصدقون كما أخبره بكذبهم غير مرة وأما نحن فلا نأمن أن يحدثونا بالكذب فيكون فاسق بل كافر قد جاءنا بنبأ فاتبعناه وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال إذا حدثكم اهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم

المقدمة الثانية أن لا يكون في شرعنا بيان ختص لذلك فأما إذا كان فيه بيان خاص بالموافقة أو بالمخالفة استغنى عن ذلك فيما ينهى عنه من موافقتهم ولم يثبت أنه شرع لمن كان قبلنا وإن ثبت فقد كان هدي نبينا وأصحابه بخلافه وبهم أمرنا نحن أن نتبع ونقتدي وقد أمرنا نبينا أن يكون هدينا مخالفا لهدي اليهود والنصارى وإنما تجيء الموافقة في بعض الأحكام العارضة لا في الهدي الراتب والشعار الدائم

ثم ذلك بشرط أن لا يكون قد جاء عن نبينا وأصحابه خلافه أو ثبت أصل شرعه في ديننا وقد ثبت عن نبي من الأنبياء أصله أو وصفه مثل فداء من نذر أو يذبح ولده بشاة ومثل الختان المأمور به في ملة إبراهيم عليه السلام ونحو ذلك وليس الكلام فيه

وأما حديث عاشوراء فقد ثبت أن رسول الله كان يصومه قبل استخباره لليهود وكانت قريش تصومه

ففي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية وكان رسول الله يصومه فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصومه فلما فرض شهر رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه وفي رواية وكان يوم تستر فيه الكعبة

وأخرجاه من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه

وفيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء وأن رسول الله صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما فرض رمضان قال رسول الله إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه

فإذا كان أصل صومه لم يكن موافقا لأهل الكتاب فيكون قوله فنحن أحق بموسى منكم تأكيدا لصومه وبيانا لليهود أن الذي تفعلونه من موافقة موسى نحن أيضا نفعله فنكون أولى بموسى منكم

ثم الجواب عن هذا وعن قوله كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء من وجوه

أحدها أن هذا كان متقدما ثم نسخ الله ذلك وشرع له مخالفة أهل الكتاب وأمره بذلك وفي متن هذا الحديث أنه سدل شعره موافقة لهم ثم فرق شعره بعد ولهذا صار الفرق شعار المسلمين وكان من الشروط المشروطة على أهل الذمة أن لا يفرقوا شعورهم وهذا كما أن الله شرع في أول الأمر استقبال بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب ثم إنه نسخ ذلك وأمر باستقبال الكعبة واخبر عن اليهود وغيرهم من السفهاء أنهم سيقولون ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وأخبر أنهم لا يرضون عن رسول الله حتى يتبع قبلتهم وأخبره أنه إن اتبع أهواءهم من بعد ما جاءه العلم ماله من الله من ولي ولا نصير وأخبره أنه إن اتبع أهواءهم بعد الذي جاءه من العلم إنه إذن لمن الظالمين وأخبره أن لكل وجهة هو موليها وكذلك أخبره في غير موضع أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا فالشعار من جملة الشرعة

والذي يوضح ذلك أن هذا اليوم عاشوراء الذي صامه وقال نحن أحق بموسى منكم قد شرع قبيل موته مخالفة اليهود في صومه وأمر بذلك ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو الذي كان يقول كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء وهو الذي روى قوله نحن أحق بموسى منكم أشد الصحابة رضي الله عنهم أمر بمخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء وقد ذكرنا أنه هو الذي روى شرع المخالفة

وروى أيضا مسلم في صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له أخبرني عن صيام يوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت هكذا كان يصومه محمد قال نعم

وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع يعني مع يوم عاشوراء

وقد مضى قول ابن عباس صم التاسع يعني والعاشر خالفوا اليهود هكذا ثبت عنه وعلله بمخالفة اليهود

قال يحيى بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع عطاء سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود

وروينا في فوائد داود بن عمرو عن إسماعيل بن علية قال ذكروا عند ابن أبي نجيح أن ابن عباس كان يقول يوم عاشوراء يوم التاسع فقال ابن أبي نجيح إنما قال ابن عباس أكره أن تصوم يوما فردا ولكن صوموا قبله يوما أو بعده يوما

ويحقق ذلك ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أمر رسول الله بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح

وروى سعيد بن منصور في سننه عن هشيم عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس قال قال رسول الله صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا يوما قبله أو يوما بعده رواه أحمد ولفظه صوموا قبله يوما أو بعده يوما

ولهذا نص أحمد على مثل ما رواه ابن عباس وأفتى به

فقال في رواية الأثر أنا أذهب في يوم عاشوراء إلى أن يصام يوم التاسع والعاشر لحديث ابن عباس صوموا التاسع والعاشر

وقال حرب سألت أحمد عن صوم يوم عاشوراء فقال نصوم التاسع والعاشر

وقال في رواية الميموني وأبي الحارث من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة ايام ابن سيرين يقول ذلك

وقد قال بعض أصحابنا إن الأفضل صوم التاسع والعاشر وإن اقتصر على العاشر لم يكره

ومقتضى كلام أحمد أنه يكره الاقتصار على العاشر لأنه سئل عنه فأفتى بصوم يومين وأمر بذلك وجعل هذا هو السنة لمن أراد صوم عاشوراء واتبع في ذلك حديث ابن عباس وابن عباس كان يكره إفراد العاشر على ما هو مشهور عنه

ومما يوضح ذلك أن كل ما جاء من التشبه بهم إنما كان في صدر الهجرة ثم نسخ ذلك لأن اليهود إذ ذاك كانوا لا يميزون عن المسلمين لا في شعور ولا في لباس لا بعلامة ولا غيرها

ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدى

وسبب ذلك أن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك

ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة

فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزمان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا

الوجه الثاني لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ فالنبي وهو الذي كان له أن يوافقهم لأنه يعلم حقهم من باطلهم بما يعلمه الله إياه ونحن نتبعه فأما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئا من الدين عنهم لا من أقوالهم ولا من أفعالهم بإجماع المسلمين المعلوم بالاضطرار من دين الرسول ولو قال رجل يستحب لنا موافقة أهل الكتاب الموجودين في زماننا لكان قد خرج عن دين الأمة

الوجه الثالث أن نقول بموجبه كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ثم إنه أمر بمخالفتهم وأمرنا نحن أن نتبع هديه وهدي أصحابه السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والكلام إنما هو في أنا منهيون عن التشبه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه فأما ما كان سلف الأمة عليه فلا ريب فيه سواء فعلوه أو تركوه فإنا لا نترك ما أمر الله به لأجل أن الكفار تفعله مع أن الله لم يأمرنا بشيء يوافقونا عليه إلا ولا بد فيه من نوع مغايرة يتميز بها دين الله المحكم عما قد نسخ أو بدل

فصل

قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار ما دل على أن التشبه بهم في الجملة منهي عنه وأن مخالفتهم في هديهم مشروع إما إيجابا وإما استحبابا بحسب المواضع وقد تقدم بيان أن ما أمرنا الله ورسوله به من مخالفتهم مشروع سواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم أو لم يقصد وكذلك ما نهى عنه من مشابهتهم يعم ما إذا قصدت مشابهتهم أو لم تقصد فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها وفيها مالا يتصور قصد المشابهة فيه كبياض الشعر وطول الشارب ونحو ذلك

ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام

قسم مشروع في ديننا مع كونه كان مشروعا لهم أولا نعلم أنه كان مشروعا لهم لكنهم يفعلونه الآن

وقسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن

وقسم لم يكن مشروعا بحال وإنما هم أحدثوه

وهذه الأقسام الثلاثة إما ان تكون في العبادات المحضة وإما أن تكون في العادات المحضة وهي الآداب وإما أن تجمع العبادات والعادات فهذه تسعة أقسام

فأما القسم الأول وهو ما كان مشروعا في الشريعتين أو ما كان مشروعا لنا وهم يفعلونه فهذا كصوم عاشوراء أو كأصل الصلاة والصيام فهنا تقع المخالفة في صفة ذلك العمل كما سن لنا صوم تاسوعاء وعاشوراء كما أمرنا بتعجيل الفطر والمغرب مخالفة لأهل الكتاب وبتأخير السحور مخالفة لأهل الكتاب وكما أمرنا بالصلاة في النعلين مخالفة لليهود وهذا كثير في العبادات وكذلك في العادات

قال رسول الله اللحد لنا والشق لغيرنا

وسن توجيه قبور المسلمين إلى الكعبة تمييزا لها عن مقابر الكافرين

فإن أصل الدفن من الأمور المشروعة في الأمور العادية

ثم قد اختلفت الشرائع في صفته وهو أيضا فيه عبادات

ولباس النعل في الصلاة فيه عبادات وعادة ونزع النعل في الصلاة شريعة

كانت لموسى عليه السلام وكذلك اعتزال الحائض ونحو ذلك من الشرائع التي جامعناهم في أصلها وخالفناهم في وصفها

القسم الثاني ما كان مشروعا ثم نسخ بالكلية كالسبت أو إيجاب صلاة أو صوم ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا سواء كان واجبا عليهم فيكون عبادة أو محرما علهم فيتعلق بالعادات فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين بذلك وكذلك ما كان مركبا منهما وهي الأعياد التي كانت مشروعة لهم فإن العيد مشروع يجمع عبادة وهو ما فيه من صلاة أو ذكر أو صدقة أو نسك ويجمع عادة وهو ما يفعل فيه من التوسع في الطعام واللباس وما يتبع ذلك من ترك الأعمال الواجبة واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب ونحو ذلك ولهذا قال النبي لما زجر أبو بكر رضي الله عنه الجاريتين عن الغناء في بيته قال دعهما يا ابا بكر فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا وكان الحبشة يلعبون بالحراب يوم العيد والنبي ينظر إليهم

فالأعياد المشروعة يشرع فيها وجوبا أو استحبابا من العبادات مالا يشرع في غيرها ويباح فيها أو يستحب أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ مالا يكون في غيرها كذلك ولهذا وجب فطر يوم العيدين وقرن بالصلاة في أحدهما الصدقة وقرن بها في الآخر الذبح وكلاهما من أسباب الطعام

فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات أو العادات أو كلاهما أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة كما سنذكره وفي الأول قد لا تكون إلا مكروهة

وأما القسم الثالث وهو ما أحدثوه من العبادات أو العادات أو كليهما فهو أقبح وأقبح فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحا فكيف إذا كان مما لم يشرعه نبي قط بل قد أحدثه الكافرون فالموافقة فيه ظاهرة القبح فهذا أصل

وأصل آخر وهو أن كل ما يتشابهون فيه من عبادة أو عادة أو كليهما فهو من المحدثات في هذه الأمة ومن البدع إذ الكلام فيما كان من خصائصهم وأما ما كان مشروعا لنا وقد فعله سلفنا السابقون فلا كلام فيه

فجميع الأدلة الدالة من الكتاب والسنة والاجماع على قبح البدع وكراهتها تحريما أو تنزيها تندرج هذه المشابهات فيها فيجتمع فيها أنها بدعة محدثه ومشابهة للكافرين وكل واحد من الوصفين يوجب النهي إذ المشابهة منهي عنها في الجملة ولو كانت في السلف والبدعة منهي عنها في الجملة ولو لم يفعلها الكفار فإذا اجتمع الوصفان صارا علتين مستقلتين في القبح والنهي

فصل

إذا تقرر هذا الأصل في مشابهة الكفار فنقول موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من الطريقين

الطريق الأول العام هو ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس من ديننا ولا عادة سلفنا فيكون فيه مفسدة موافقتهم وفي تركه مصلحة مخالفتهم حتى لو كانت موافقتهم في ذلك أمرا اتفاقيا ليس مأخوذا عنهم لكان المشروع لنا مخالفتهم لما في مخالفتهم من المصلحة لنا كما تقدمت الإشارة إليه فمن وافقهم فقد فوت على نفسه هذه المصلحة وإن لم يكن قد أتى بمفسدة فكيف إذا جمعهما

ومن جهة أنه من البدع المحدثة وهذه الطريق لا ريب في أنها تدل على كراهة التشبه بهم في ذلك فإن أقل أحوال التشبه بهم أن يكون مكروها

وكذلك أقل أحوال البدع أن تكون مكروهة ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد مثل قوله من تشبه بقوم فهو منهم فإن موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقا وكذلك قوله خالفوا المشركين ونحو ذلك مثل ما ذكرناه من دلالة الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الدلائل

فمن انعطف على ما تقدم من الدلائل العامة نصا وإجماعا وقياسا تبين له دخول هذه المسألة في كثير مما تقدم من الدلائل وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم الباطل وأن هذا محرم كله بخلاف مالم يكن من خصائص دينهم ولا شعارا له مثل نزع النعلين في الصلاة فإنه جائز كما أن لبسهما جائز وتبين له أيضا الفرق بين ما بقينا فيه على عادتنا لم نحدث شيئا نكون به موافقين لهم فيه وبين أن نحدث أعمالا أصلها مأخوذ عنهم وقصدنا موافقتهم أو لم نقصد

وأما الطريق الثاني الخاص في نفس أعياد الكفار فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار

أما الكتاب فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله تعالى والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما

فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى والذين يشهدون الزور قال هو الشعانين

وكذلك ذكر عن مجاهد قال هو أعياد المشركين

وكذلك عن الربيع بن أنس قال هو أعياد المشركين

وفي معنى هذا ما روي عن عكرمة قال لعب كان لهم في الجاهلية

وقال القاضي أبو يعلى مسألة في النهي عن حضور أعياد المشركين

وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن الضحاك في قوله تعالى والذين لا يشهدون الزور قال أعياد المشركين

وبإسناده عن أبي سنان عن الضحاك والذين لا يشهدون الزور كلام الشرك

وبإسناده عن جويبر عن الضحاك والذين لا يشهدون الزور قال أعياد المشركين

وروى بإسناده عن عمرو بن مرة لا يشهدون الزور لا يمالئون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم

وبإسناده عن عطاء بن يسار قال قال عمر إياكم ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم

وقول هؤلاء التابعين إنه أعياد الكفار ليس مخالفا لقول بعضهم إنه الشرك أو صنم كان في الجاهلية ولقول بعضهم إنه مجالس الخنا وقول بعضهم إنه الغناء لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا يذكر الرجل نوعا من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه أو لينبه به على الجنس كما لو قال العجمي ما الخبز فيعطى رغيفا ويقال له هذا بالإشارة إلى جنس لا إلى عين الرغيف

لكن قد قال قوم إن المراد شهادة الزور التي هي الكذب

وهذا فيه نظر فإنه قال لا يشهدون الزور ولم يقل لا يشهدون بالزور والعرب تقول شهدت كذا إذا حضرته كقول ابن عباس شهدت العيد مع رسول الله وقول عمر الغنيمة لمن شهد الوقعة وهذا كثير في كلامهم وأما شهدت بكذا فمعناه أخبرت به

ووجه تفسير التابعين المذكورين أن الزور هو المحسن المموه حتى يظهر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة ومنه قوله المتشبع بمالم يعط كلابس ثوبي زور لما كان يظهر ما يعظم به مما ليس عنده

والشاهد بالزور مظهر كلاما يخالف الباطن ولهذا فسره السلف تارة بما يظهر حسنه لشبهة أو لشهوة وهو قبيح في الباطن فالشرك ونحوه يظهر حسنه للشهوة والغناء نحوه يظهر حسنه للشهوة

وأما أعياد المشركين فجمعت الشبهة والشهوة والباطل ولا منفعة فيها في الدين وما فيها من اللذة العاجلة فعاقبتها إلى ألم فصارت زورا وحضورها شهودها

وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده

ثم مجرد هذه الآية فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم ذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم وغيرها من الزور ويقتضي الندب إلى ترك حضورها وقد يفيد كراهية حضورها لتسمية الله لها زورا

فأما تحريم شهودها من هذه الآية ففيه نظر

ودلالتها على تحريم فعلها أوجه لأن الله سماها زورا وقد ذم من يقول الزور وإن لم يضر غيره بقوله في المتظاهرين فقال وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وقال تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان اجتنبوا قول الزور ففاعل الزور كذلك

وقد يقال قول الزور أبلغ من فعله لأنه إذا مدحهم على مجرد تركهم شهوده دل على أن فعله مذموم عنده معيب إذ لو كان فعله جائزا والأفضل تركه لم يكن في مجرد شهوده أو ترك شهوده كبير مدح إذ شهود المباحات لا منفعة فيها وعدم شهودها قليل التأثير

وقد يقال هذا مبالغة في مدحهم إذ كانوا لا يحضرون مجالس البطالة وإن كانوا لا يفعلون هم الباطل والله تعالى قال وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا فجعل هؤلاء المنعوتين هم عباد الرحمن وعبودية الرحمن واجبة فتكون هذه الصفات واجبة وفيه نظر إذ قد يقال في هذه الصفات ما لا يجب ولأن المنعوتين وهم المستحقون لهذا الوصف على وجه الحقيقة والكمال قال الله تعالى إنما المؤمنون الذين إذ ذكر الله وجلت قلوبهم وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقوله ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان الحديث وقال ما تدعون المفلس ما تدعون الرقوب ونظائره كثيرة

فسواء كانت الآية دالة على تحريم ذلك أو كراهته أو استحباب تركه حصل أصل المقصود إذا المقصود بيان استحباب ترك موافقتهم أيضا فإن بعض الناس قد يظن استحباب فعل ما فيه موافقة لهم لما فيه من التوسيع على العيال أو من إقرار الناس على اكتسابهم ومصالح دنياهم فإذا علم استحباب ترك ذلك كان هو المقصود

وأما السنة فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال ما هذان اليومان قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر رواه أبو داود بهذا اللفظ حدثنا موسى بن إسمعيل ! حدثنا حماد عن حميد عن أنس ورواه أحمد والنسائي وهذا إسناد على شرط مسلم

فوجه الدلالة أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما كقوله تعالى أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا وقوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل وقوله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم وقوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب

ومنه الحديث في المقبور فيقال له أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به خيرا منه مقعدا في الجنة ويقال للآخر انظر إلى مقعدك من الجنة أبدلك الله به مقعدا من النار وقول عمر رضي الله عنه للبيد ما فعل شعرك قل أبدلني الله به البقرة وآل عمران وهذا كثير في الكلام

فقوله قد أبدلكم الله بهما خيرا يقتضي ترك الجمع بينهما لا سيما قوله خيرا منهما يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية

وايضا فقوله لهم إن الله قد أبدلكم لما سألهم عن اليومين فأجابوه إنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضا بيومي الإسلام إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسبا إذ أصل شرع اليومين الواجبين الإسلاميين كانوا يعملونه ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية

وفي قول أنس ولهم يومان يلعبون فيهما وقول النبي إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما دليل على أن أنسا رضي الله عنه فهم من قول النبي أبدلكم بهما تعويضا باليومين المبدلين

وأيضا فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله ولا عهد خلفائه ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه لكانوا قد بقوا على العادة إذ العادات لا تغير إلا بمغير يزيلها لا سيما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوقة إلى اليوم الذي يتخذونه عيدا للبطالة واللعب ولهذا قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم لقوة مقتضيها من نفوسهم وتوفر همم الجماهير على اتخاذها فلولا قوة المانع من رسول الله لكانت باقية ولو على وجه ضعيف فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا وهذا أمر بين لا شبهة فيه فإن مثل ذينك العيدين لو عاد الناس إليهما بنوع ما مما كان يفعل فيهما إن رخص فيه كان مراغمة بينه وبين ما نهى عنه فهو المطلوب

والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموما ولو لم يكن أشد منه فإنه مثله على ما لا يخفى إذ الشر الذي له فاعل موجود يخالف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي

الحديث الثاني ما رواه أبو داود حدثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو قلابة حدثني ثابت بن الضحاك قال نذر رجل على عهد رسول الله أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي فقال إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا قال فقال النبي أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم

أصل هذا الحديث في الصحيحين وهذا الإسناد على شرط الصحيحين وإسناده كلهم ثقات مشاهير وهو متصل بلا عنعنة

وبوانة بضم الباء الموحدة موضع قريب من مكة وفيه يقول وضاح اليمن

أيا نخلتي وادي بوانة حبذا ... إذا نام حراس النخيل جناكما ...

وسيأتي وجه الدلالة منه