الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثاني: العدوى النفسية


الفصل الثاني

العدوى النفسية.


١ – اشكال العدوى النفسية.

العدوى النفسية هي أمر روحي ينشأ عنه التسليم ببعض الآراء والمعتقدات تسليماً غير إرادي ، ومصدرها دائرة اللاشعور ، ولذلك لا يؤثر فيها أي دليل او تأمل ، وتشاهد في البشر والحيوانات ولا سيما عندما يكونون في حالة جماعة ، وهي من التأثير بحيث تسيطر على التاريخ .

حقاً إن العدوى النفسية هي العنصر الأساسي في انتشار الآراء والمعتقدات ، وقد تبلغ بقوتها مبلغا يجعل الانسان يضحى بأكثر منافعه الشخصية وضوحاً ، يؤيد ذلك أخبار الشهداء والمنتحر بن والجدع الخ الذين لم يأتوا بما أتوا به الا بفعل العدوى النفسية.

وقد تكون مظاهر الحياة النفسية جميعها سارية ولكن الانفعالات هي التي تنتشر بالعدوى على الخصوص ، وتستطيع الإرادة في الأحوال العادية أن تحدد تأثيرها ، غير أن ظهور احدى العلل - كتحول البيئة أيام الثورة تحولاً عنيفا وتحريض الشعب الخ – المبطلة لعمل الإرادة تجمل حكم العدوى يجرى بسهولة محولاً ذوى الميول السلمية الى رجال أشداء محاربين وأبناء الطبقة الوسطى الودعاء الى أشياع متعصبين ، وبتأثير العدوى أيضا يغير هؤلاء أحزابهم فيأتون لإخماد الثورة بنشاط كالذي أوقدوا به نيرانها .

ولا تسرى العدوي بتماس الافراد تماسا مباشراً، بل قد تنتشر بالكتب والجرائد والحوادث البرقية حتى بالشائعات البسيطة ، وكلما زادت وسائل النشر والإذاعة تداخلات العزائم وأثر بعضها في بعض ، على هذا الوجه ترتبط كل يوم بمن يحيطون بنا أكثر من ذي قبل وتكتسب النفسية الفردية شكلاً جامعاً .

وإني أعد الزمرة الاجتماعية التي تنتسب اليها أقوى أشكال العدوى النفسية خيراً ، إذ لا تقدر أية إرادة على التخلص منها ، فهي قلي في الغالب "راءنا وأحكامنا من حيث لا ندري .

۲ -امثلة مختلفة على العدوى النفسية .

المشاعر خيراً كانت أم شراً تنتشر بالعدوى ، فلذا نرى الوسط ذا تأثيراً عظيم ع في التربية ، ولقد أصاب من قال : « عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدى » و بتأثير العدوى النفسية تأسست جماعة بحرمة كبيرة من الشبان الذين طردوا من المصانع ، فلما أعيت هؤلاء الحيل في بدء الأمر ولم يكن لهم عمل سوى الجولان في الاسواق اختلطوا بزملاء يسرقون من معارض السلع ما يسهل نشله فقلدوهم ، وقد كثرت أهمية هذه الأسلاب بالتدريج فتشكلت جمعيات تشبه العصابات في غايتها ، وهكذا لا يلبث الجوال أن يتخذ اللصوصية مهنة فيعرض نفسه للسجن ، وقد يبلغ رضاه بمصيره الذي هو ابن العدوى مبلغا لا تنفع معه اشد الزواجر وتنشأ العدوى الجارمة أيضا عما تنشره الصحف من حوادث القتل المحركة للمشاعر ، فقد كان لجاك الباقر البطون كثير من المقلدين في مدن انكلترا . والحوادث التي تدل على العدوى النفسية غير محتاجة الى إيضاح ، غير أن القرار المشهور الذي قرره مجلس الوزراء والقائل بادخال الرعاع في سلاك الجندية يدلنا على مقدار جهل الحكومات لأمر تلك العدوى . . ا والخوف هو أشد المشاعر سريانا بالعدوى ، وليس شأنه الكبير في حياة الأفراد والشعوب بالأمر المجهول ، فهو وإن لم يكف لإيجاد الآلهة كما قال ( لوكريس ) فان تأثيره باد في تكوينها ، وهو لمحافظته على نفوذه الذي كان له في بدء التاريخ يوجب الهزيمة في الحروب وكثيراً ما يدفع المرء الى الانتحار ، فالرعب الذي أحدثه النجم المذئب الأخير الذي قيل إنه سيصدم الأرض جعل بعض الناس ينتحرون ، والخوف لا يسير الافراد والجماعات فقط بل يسير رجال السياسة أيضا ، وقد اثبت في كتابي المسمى « روح السياسة » أن الخوف هو علة كثير القوانين التي سنت منذ عشرين سنة والتي لا تزال تأتى بنتائج مشؤومة ، ويمكننا أن نقول إن شبح الخوف في أيام الفتن الذى يتسلط على المجالس السياسية فيملى عليها آراءها وانتحاءها ، وعنه صدرت اشد تدابیر دور العهد قسوة وبتأثيره كان ( كار به ) يقتل ضحاياه شر قتل وكان ( فوكيه تنقيل ) يرسل المتهمين الى المقصلة زرافات ووحدانا . واكثر الانفعالات تنتشر كالخوف بالعدوى ، ويعرف أعاظم الخطباء ذلك ، فليس سبب اقتراع مجلس النواب لإسقاط وزارة (كليانسو ) سوى انفعال نفسى أحدثه أحد خطباء المعارضين في النواب بفعل العدوى ، وكذلك حركات الرجل و بيانه وأوضاع وجهه ذات تأثير في المخاطب بالعدوى ، فمن الحكمة أن يكون الرجل ذا وجه طليق عند الإستعطاف بدلاً من أن يقطب ، إذ إنه بعدوى ذلك يستميل في الغالب مخاطبة و يكسب عطفه

۳ - سلطان العدوى النفسية .

العدوى النفسية أمر عام يشاهد في الحيوان كما في الانسان ، ولذلك لا تلبث الرعشة التي تستحوذ على حصان الاصطبل أن تسرى الى الأحصنة الأخرى ، ولا تلبث الكلاب أن تنبح بعد أن ينبح احدها وعندما يهرب الضائن تتبعه بقية الضأن . تلك الطريقة وقد تشتد قوة العدوى النفسية فتتغلب على غريزة المحافظة وتدفع الانسان الى التضحية بنفسه ، ومن هذا القبيل قصة الخمسة عشر كسيحا الذين شنقوا أنفسهم بكلاب واحد وقصة الجنود الذين انتحروا في كوخ واحد ، وحوادث مثل هـذه كثيرة جداً ، فهاك ما قاله الدكتور ( ناص ) : « وقتها تنشر الصحف خبر انتحار عاطفي مفصلة طريقة حدوثه ينتحر بعض مختلى الشعور حسب هذا النوع ما وقع في اليوم الثاني المختلين أنفسهم بالغاز ، ونمد روسيا أكثر البلاد التي انتحر الناس فيها ، فقد كان الرسل في روسيا أيام الاضطهادات الدينية يأمرون أشياعهم بحرق أنفسهم ، وقد حدث أن ألقى ستمئة شخص أنفسهم في النار دفعة واحدة ، وعند أحد مؤرخي الأديان الروسية أن عدد الذين حرقوا أنفسهم في روسيا منـذ سنة 1675 حتى سنة ومن من ( سيفتون ) حيث خنق كثير من ا حادثة 1191 عشرون الف شخص ، ومما ذكره الموسيو ( ستوكين ) أن ٢٫٥٠٠ شخص روسي طرحوا أنفسهم في موقد واحد طامعين في الآخرة » وقد ينشأ . ، فقد العدوى النفسية وهم خيالي لا يلبث أن يتحول الى حقيقة جاء في تقرير حديث للدكتور ( بيكيه ) أحد علماء الجراحة أنه على أثر موت ضابط بالزائدة الدودية لزم الفراش 15 ضابطا من بين ضباط إحدى الكتائب البالغ عددهم خمسة وعشرين الظهور علائم المرض المذكور فيهـم ، وما عرفى هؤلاء المصابون الا بالتلقين فقط

٤ - شأن العدوى في انتشار المعتقدات الدينية والسياسية

السابقة نستدل على شأن العدوى النفسية في انتشار الآراء والمعتقدات من الملاحظات ، فالمعتقدات سياسية كانت ام دينية تسري بين الجماعات بالمدوى على الخصوص ، وعلى نسبة افراد الجماعة يكون تأثير العدوى شديداً ، ولا يلبث المعتقد الضعيف أن يصبح قويا بعد أن يكتسب الأفراد الذين يعتنقونه صفة الجماعة والمعتقد بعد أن ينتشر بالعدوى لا يلتفت الى قيمته المقلية ، إذ لما كانت العدوى تؤثر في دائرة اللاشعور فانه لا شأن للعقل فيها ، وفي الغالب تكون العدوى ذات تأثير في من هم أرفع من الجماعة ، ولذلك يجب أن لا نعجب من وجود علماء يدافعون عن أكثر المعتقدات شؤماً ومخالفة للصواب ، وما أكثر الرجال الذين هم كمدير العرائض الذي ناضل في مجلس شورى الدولة عن اعتصابات الموظفين أيام كان اعتصاب موظفى البريد يهدد كيان فرنسا . ا ا و بالعدوى النفسية يعاني أرباب المال والقلم والعلم آراء الجموع ، ومن أجل ذلك نرى العدوي قادرة على استعباد الذكاء ، وكما في انتقال الأمراض الجثمانية لا يستطيع أن يقاوم العدوى النفسية سوى اولى القوة والبسطة وقليلا ماهم . وقد نشأت حوادث الدين التاريخية عن العدوى النفسية ، ومع ذلك لم يكن تأثيرها في احد الازمنة الماضية كما هو في الوقت الحاضر ، وسببة أولا :ان السلطة أخـذت تنتقل بالتدريج الى الجماعات بفعل المبادى، الديموقراطية ، وثانيا ا

ان تعميم وسائل النشر يؤدى الى سرعة ذيوع الحركات الشعبية ، وما من أحـد

حول كيفية انتشار اعتصابات موظفى البريد والثورات التي اشتعلت في روسيا وتركيا والبرتغال .

والحكومات الضعيفة تكون عاجزة أمام سلطان العدوك ، ولم يقتصر الأمر على اذعان الحكومات لكل ما تأمرها به الجماعات بل سرعان ما تدعم هذه الأوامر من قبل كتائب من المتعلمين جعلتهم العدوى يعتبرون عدلا مافيها من ظلم واحجاف. على هذا الوجه أصبحت أهواء الجموع الطائشة في نظر تلك الكتائب مبادىء جديرة بالاحترام كما كانت رغائب الملوك في الماضي مقدسة عند بطائنهم .

والآراء التي انتشرت بتأثير العدوى لا تزول الا بآراء مخالفة تنتشر بالعـدوي أيضا ، الى هذه القاعدة النفسية يلتجئ رجال السياسة فيفاون العدوى بالعدوى ، ولكن بما أن البحث في هذه النقطة يبعدنا من الموضوع فإننا لا نطنب فيه الآن .