الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثاني: تأثير آراء الجموع ونتائجها


الفصل الثاني

لتأثير آراء الجموع ونتائجها.


١ – صفات الآراء الشعبية.

شأن الجموع الزائد في الحياة السياسية يجعل البحث عن الآراء الشعبية ذا أهمية، ولما فسرتها كتيبة من المحامين والاساتذة الذين حرفوها واخفوا تقلباتها وعدم اتساقها وسذاجتها ظلت معروفة قليلاً، وقد بلغ تملقهم للشعب ذي السيادة مبلغ التذال لأشد الملوك استبداداً في الماضي ، ولا يزالون معجبين بحرصه الدنيء وشهواته ذات الجلبـة والضجيج ورغائبه الخرقاء ، ولا قيمة للحوادث والحقائق عندهم ، فهم يرون أنه يجب على الطبيعة أن تخضع لأهواء العدد .

وتتصف الروح الشعبية التي بحثت عنها في مؤلفات أخرى بكونها تخضع للمبادىء العاطفية والمبادىء الدينية خضوعا تاما ، وما فيها من اندفاعات مصدرها المشاعر والدين فلا يزجره أي دليل عقلى ، ولذلك فإنها تسير حسب هذه الاندفاعات غير مترددة .

جهة الدين في روح الجماعات أشد نمواً من جهة العاطفة ، وهذا هو علة احتياجها الشديد إلى عبادة معبود ربا كان أم صنما أم وجيها أم مذهبا ، والاحتياج المذكور يتدفق اليوم نحو الاشتراكية التي هي دين جديد قادر على تجديد البشر ! وقد شوهد التدين الشعبي في جميع الأجيال ، واذا لم يتجل في المعتقدات اللاهوتية فانه يستولى على المبادىء السياسية ، فكل صفحة صفحات تاريخ الثورة الفرنسوية تدعم قولنا .

أعود فأقول إن عجز العقل عن التأثير في الجموع هو أهم صفاتها ، فالافكار التي تؤثر فيها هي المشاعر التي صبت في قالب أفكار لا الافكار العقلية ، ومع أنه وجب أن تكون هذه الحقائق معروفة عند الجميع فان ساسة العرق اللاتيني يثبتون بسيرهم أنهم لا يزالون غير مدركين لها ، وسيظلون في الفوضى حتى يطلعوا عليها .

١ – ۲ – كيف بين شيء من الثبات في الشعب على رغم تقلب آرائه

تصادف في الآراء الشعبية صفتين متباينتين : التقلب والثبات ، فالتقلب يظهر أنه هو القاعدة ، إلا أنه ينطوي تحت هذا التقلب عناصر هي غاية في الثبات ، كما أنه يوجد تحت أمواج البحر المحيط السطحية مياه البحر الساكنة ، و يتجلى لنا جميع ذلك عند النظر الى ما طرأ علينا من التقلب منذ عصر .

حقاً يوجد خلف تقلب الجموع الدائم وغيظها الشديد وحماستها وغضبها العظيم وأحقادها التي أوجبت انقلابات عديدة غرائز محافظة متينة ثابتة ، فقد ظلت أشد الجموع اللاتينية ثورة شديدة المحافظة كثيرة التمسك بالتقاليد ، ولذلك لم تلبث أن أعادت النظم التي حطمتها باسماء جديدة .

ولم يفقـه زعماء الجماعات أنها وإن كانت تأتى بالثورة فعلا إلا أنها محافظة بمشاعرها ، فقد يسهل تحريك روحها بآراء سياسية يومية ، وأما مزاجها النفسي الأساسي فالزمان وحده هو الذي يؤثر فيه .

والعمـل الآتي الذي قامت به الحكومة الانكليزية حديثا يثبت لنا جهل الساسة للروح الشعبية وما ينطوي تحت تقلبها من ثبات وهو : لما تم انتخاب مجلس نواب جديد في انكلترا لم يمنج الحكومة اكثرية كافية لاصلاح مجلس اللوردات ظنت أنها بخوضها معركة انتخابية حامية الوطيس تقدر على جعل الجموع الانكليزية تنتخب نوابا موالين يكفون لتنفيذ برنامجها ، ولكن على رغم ما أتت به من ضغط عنيف لم ينتخب الشعب سوى أعضاء المجلس السابق ، إذ إن الأكثرية التي كانت تستند اليها الحكومة قبل الحل بعد أن كانت ١٢٤ نائبا اصبحت ١٢٦ نائبا ، أي إن ما أتت به الحكومة من مجهود كبير لم يؤد إلا إلى زيادة عضوين مواليين .

وما كان الوزراء بحاجة الى وقوف كبير على علم النفس كى يعلموا تلك النتيجة قبل وقوعها ، وكيف ظنوا أنهم – بعد أن استعملوا في المرة الأولى ما بأيديهم من وسائل ليؤثروا في روح الشعب – يستطيعون في بضعة أشهر أن ينالوا غير النتيجة السابقة ؟ أتاهم ذلك الظن من اطلاعهم على سرعة التقلب في الجموع ناسين أن الثبات هو رائدها في عدد من المواضيع الجوهرية ، ومن هذه المواضيع المبدأ الذي اتخذ أساساً المعركة الانتخابية الثانية والذي يلائم مناحي الانكليز التقليدية التي يتعذر تحويليها.

وتصعب إدارة الروح الشعبية من غير أن يُنْفَذ فيها ، وقد أثبت مرات عديدة كيف يجهل أولو الأمر كنهها ، فقد أتى قانون تقاعد العمال الجديد ليؤيد صحة أقوالنا دفعة أخرى ، وجهل هؤلاء الساسة لروح الأمم الأخرى أشد وأنكي ، يدل على ذلك سياسة الإدغام والتمثيل التي يسيرون عليها في حكم مستعمراتنا .

٣ – قوة الآراء الشعبية قبل الجيل الحديث .

لم ينحصر تأثير الآراء الشعبية في الوقت الحاضر وحده بل أجرى حكمه العظيم في أدوار التاريخ المختلفة ، والسبب في كوننا لم نطلع على ذلك ، أن تاريخ الأمم لم يبحث إلا عن الملوك ، فكأن ما حدث في أيام دولتهم من وقائع وأعمال قد تم بمشيئتهم ، ومع أن الكتب أغفلت أمر البحث في تأثير الآراء الشعبية فان شأن هذه الآراء كان عظيماً في جميع الأزمنة ، ومتى يأخذ التاريخ في درس هذه الشعوب بعد أن يفرغ من الاهتمام بأمر الملوك يظهر لنا أن الجموع هي التي أوجبت بالحقيقة وقوع الحوادث الخالدة كالحروب الصليبية والحروب الدينيـة وملحمة سان بارتامى والغاء مرسوم نانت وإعادة الملكية وتوطيد حكم نابليون الخ ، فلولا الآراء الشعبية لما استطاع ملك أن يأمر بوقوع مذبحة سان بارتلمى ولما قدر لويس الرابع عشر صاحب السلطان المطلق على الغاء مرسوم نانت

ومن غير أن أخوض غمار التفصيل في الموضوع اكتفى بأن اشير الى أن لويس الرابع عشر لم يفعل تلك الفعلة إلا بتأثير الرأي العام ، قال فاغيه : « لاشيء يدل على الشعبية مثل الغاء مرسوم نانت ، فهو تدبير أملته السيادة القومية، وهو عمل جارت به الأكثرية على الأقلية ، وهو اسلوب ديموقراطي من كل وجه »

إن أكثر الحوادث التي سعى الجموع في وقوعها هي أشد حوادث التاريخ شؤماً ، ومن حسن الحظ أن البلايا الصادرة عنها قليلة والفضل في ذلك لصفوة الرجال الذين

ضعف نفوذهم الآن ولكنه كان قبلاً قادراً في الغالب على تحديد تقلبات المدد وهيجانه

٤ – زيادة تأثير الجموع الحاضرة في تكوين الآراء و نتائج ذلك.

لما كان تأثير سلطان الجموع الزائد أحد العوامل التي لا مناص منها في الحياة الحديثة فانه يقتضى أن نعرف كيف نعانيه، وقد سلم ( باسكال ) بذلك حيث قال : « لماذا تتبع الأكثرية ؟ ألأنها اكثر عقلاً ؟ لا، بل لأنها أعظم قوة» .

و بناء على ما في العدد من قوة أوعلى ما أعطى قادة العدد من سطوة تعتقد الجماعة التي هي العدد قادرة على فعل كل شيء، وبذلك زاد عدد مصانعيها حتى أصبح الوزراء والمشترعون عبيداً لها، وما أضعف رجال السياسة امام صخب الجموع وهزيزها، فاكثرهم اعتدالاً يذعنون لها وفرائصهم ترتعد فرقاً، ولا يتأخرون - كما لوحظ في بر است - عن التوقيع على بيان لترويج مرشح للبرلمان مجرد عن الوطنية اذا أمرتهم بذلك لجان الانتخاب الساقطة.

على أن تلك العبودية هي الناموس السائد لجميع الأجيال، فمتى طمع شعب في الحرية أو تقهقر الى الاستعباد فانه يجد أساتذة ومحامين يبررون اندفاعاته تبر برا عقليا مهما تكن هذه الاندفاعات خطرة ذات أهوال، واليوم آراء الجموع هي التي تملى على المشترعين أمر من القوانين، وبما أن الاهواء الموقتة لا الضرورة هي مصدر القوانين المذكورة فان عاقبتها القضاء على الحياة الصناعية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد، وأما أولو الأمر الإداريون فانهم يقتصرون على اتباع تقلبات الرأي لشعورهم بالعجز عن تكييفه فيزيدون ضغنا على إيالة.

يشاهد وقوع ذلك كل يوم، ومن الأمثلة المحزنة في هذا البـاب هو اعتصاب الملاحين الأخير الذي كاد يقضى على تجارة بلاد الجزائر، فمنذ إعلان الاعتصاب المذكور أصبحت الجزائر في حالة حصار بحري، وهكذا قطعت المواصلات بين الجزائر والاقطار الأخرى ثلاثة أشهر سنة ١٩٠٤ وشهراً واحداً سنة ١٩٠٧ وشهرين سنة ١٩٠٩ وقد كان يكفى لمعالجة ذلك الحصار أن تعدل الدولة موقتا عن نظام احتكار الملاحة الفرنسوية لبلاد الجزائر وأن تسمح للمراكب الأجنبية بأن تكون صلة اتجار بين الجزائر وفرنسا لأجل معين، غير أن ميل النواب الى مداراة النواتي ذوى الحق في الانتخابات النيابية أوجب عدم اكتراثهم لخسارة الجزائر التي تقدر بملايين كثيرة.

فراء تلك الطاعة العمياء لأوامر الجموع أصبحت هذه الجموع أكثر نجبراً من ذي قبل ، وبما أن الروادع التي كانت تزجرها قد تحطمت على هذا الشكل فانهـا ترغم النواب على من قوانين لا تلائم قاعدة العدل والانصاف ، ويقتضى الاتيان بشيء من التفصيل لاثبات الكيفية التي تتدرج بها الزواجر الاجتماعية الى الانفصام بعدما كانت في الماضي تسكن أهواء الجماعات واندفاعاتها .

تشتق روح التمرد في الجموع من المبدا القائل إن الوعيد والتخريب يكفيان لجعل أصحاب الأمر والنهي يخضعون لها ، والحوادث التي تدل على انتحاء تلك الروح كثيرة الى الغاية ، فهذه الحوادث تثبت ما طرأ على المزاج النفسي من تبدل أدى إلى زعرعته مبادى، الحقوق التي كانت تعتبر حصينة منيعة الجانب ، وإني اكتفى على سبيل المثال بذكر قانون كان يظهر عند سنه - أيام اعتصاب موظفي الخطوط الحديدية - أنه متين ذو مقصد انساني إلا أنه اوجب في نهاية الأمر شللا ،وقتا في حياة الأمة .

كانت الشركات تؤدى الى مستخدميها رواتب تقاعد أعظم مما يناله موظفو الدولة ، فإذا اعتبرنا الأرقام التي ذكرت في مجلس النواب ترى أن راتب تقاعـد المحطات كان ٣,٥٠٠ فرنك مع أن الحد الأعظم لرواتب تقاعد المعدنين ٣٦٠ فرنكا ولرواتب معلمي المدارس الابتدائية ١١٠٠ فرنك ولرواتب أساتذة المدارس الثانوية ٣٨٥را فرنكاً ، ثم قال الخطيب الذي أورد هذه الأرقام ان راتب تقاعد مستخدمي الخطوط الحديدية ليس ممَّا تجب زيادته .

ولكن لما كان مستخدمو الخطوط الحديدية ذوى شأن في الانتخابات وتذرعوا بأنواع التهديد على صفحات الجرائد ظن ممثلو الشعب في البرلمان أنه يسهل تنفيذ مطاليبهم ، فاقترعوا على زيادة رواتب تقاعدهم من دخل مساهمي الشركة ، وقلما يجرؤ مستبد على اتخاذ هـذه الطريقة قائلاً للمساهمين : يحسن بي أن اخفض دخلكم القليل لأزيد رواتب طبقة . من المستخدمين أنا في احتياج اليهم ، فأطيعونى وأدوا ما أفرضه عليكم .

ان الخطوط الحديدية هي عبارة عن مشاريع خاصة قامت على عقود لا يقدر على تنفيها غير العاقدين ، ومع أنه كان يقتضى أن يتأمل في هذه الحقيقة مشترعون ، م تعميم النظرية القائلة أن الدولة التي تمثل الجموع قادرة على فعل كل شيء ، لم يظهر في مجلس الشيوخ سوى الموسيو ( ريمون بوانكاره ) لبيان ما ينتج عن مداخلة البرلمان التي تربى الى سلب طبقة من طبقات الأمة في سبيل طبقة أخرى من نتائج سيئة ، وما كان هذا السياسي الفاضل واثقاً كثيراً بصحة كلامه ، فبعد أن بين محاذير لائحة الحكومة الخطرة كان من أول المقترعين لها ، وبذلك أعان على اختراق حرمة مبادىء الحقوق الجوهرية .

وقد رأى موظفو الخطوط الحديدية في نجاح وعيدهم ما شجعهم على المطالبة بزيادة رواتبهم زيادة عظيمة ، فأزمعت الشركات على المقاومة فنشأ عن ذلك أن أتى أولئك الموظفون باعتصاب أخل بجميع خطوطنا الحديدية .

ولم يكن ذلك كله سوى فاتحة أمور أخرى ، اذ إن العال ذوى الرواتب المؤلفة من مثنى أو ثلاثمئة فرنك لم يرضوا طبعا بهذه الرواتب بعد أن رأوا زملاءهم الموظفين في الخطوط الحديدية سينالون بالعنف رواتب تقاعد مقدارها ألفا أو ثلاثة آلاف فرنك ، وعلى ذلك أخذ معبدو الطرق وعمال دور الصناعة والمعدنون ولفافو التبغ يكثرون من رغباتهم التي طلبوا فيها زيادة رواتب تقاعدهم زيادة نسبية، ولكن ما العمل وقد أعمت المنافع الانتخابية أبصار النواب عن إدراك ما ستلده الأيام من أمور مخيفة .

وبالعصيان الجديد الذي وقع في مدن احدى المديريات وحدث به نهب وحرائق تجلّت زيادة عنف الجموع عندما لا تطاع في الحال ، والذي يجعل الجموع تتمادى في سيرها هو نذالة المشترعين الذين يؤيدونها في جميع ما تأمرهم به ، وقد غفل المشترعون عن حدود الممكنات والحقائق فظنوا أنهم يسيرون بنا الى الرقى والحرية ، ولو فكروا في الأمر قليلا لرأوا أنهم يقودوننا الى الاستعباد والانحطاط وما ينشأ عنهما من الاستبداد .