الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الخامس: كيف تموت المعتقدات؟


الفصل الخامس

كيف تموت المعتقدات


١ – دور المعتقدات الخطر وانحلالها.

عنوان هذا الفصل صحيح من الوجهة التاريخية أكثر منه من الوجهة الفلسفية ، لأن المعتقدات – وهي تشبه الحركة التي بحثت عنها كتب الحكمة الطبيعية - تتحول أحيانا ولكن من غير أن تموت ، أي أن المعتقدات تغير اسمها ، وهـذا التغيير هو الذي نسميه موتا .

فبعد ان تشيخ المعتقدات ترد مورد السنة العامة أي سنة الخمود والانطفاء ، وقبيل هذا الانطفاء وبتعبير أصح قبيل هذا التحول يظهر دورها الخطر أي دور الانقلابات .

يثبت علماء الطبيعة أن الجرم عندما يدنو من دوره الخطر تؤثر فيه تقلبات الجو الحقيقية فتحوله من غاز الى مائع ومن مائع الى غاز ، ويشاهد مثل هذا الدور الخطر في كثير من الحوادث الاجتماعية مثال ذلك كون القطر الذي يستورد ذهبا وبضعة أنواع من السلع لا يلبث أن يصبح بفعل بعض المؤثرات الطفيفة ذا صادرات ، وما يقع في عالم الطبيعة والاقتصاد السياسي يحدث مثله في عالم المعتقدات ، أعنى أنها متى تتقلقل ويعمل فيها البلى والدروس تدخل في الغالب في طور الخطر فتصبح مستعدة للتحول فجأة .

ويحدث هذا الطور الذي يتجاور فيه الشك واليقين عندما تتزعزع المعقتدات بفعل الزمان أو غيره وذلك قبل أن يتم تكوين المعتقدات التي ستحل مكانها ، وفي تلك الأثناء يرتبط أنصار المعتقدات بها ارتباط اليأس والقنوط خائفين كما قال بوسو به « من الغم الذي يصيب الناس وقتها يضيعون حب الله

والواقع أن هذا الحب لا يزول من قلوبهم ، إِذ ما من اله يموت إلَّا ويقوم مقامه اله جديد ، غير أن الانتقال من عبادة اله الى عبادة اله آخر لا يقع بسهولة ، يؤيد ذلك - 159 - ما حدث في الأزمنة التي انقرضت فيها الوثنية من الحادثات ذات الشأن العظام واليوم نمر من جيل تتجاذب الشعوب فيه آلهتها القديمة والآلهة التي لم يتم تكوينها بعد ، ولذا كان زماننا من أدوار المعتقدات الخطرة ، والروح الشعبية لبينها تعتنق دينا كبيراً ثابتا تتراوح الآن بين معتقدات هي على شيء من القوة مع كونها موقتة ، اذ تدافع عنها جموع ولجان وأحزاب كثيرة ، والدليل على تلك القوة ما لأندية الثورة الفرنسوية والجمعيات الماسونية من التأثير في أبناء الطبقات الوسطى وما للنقابات الشأن في صنوف العمال وما لاجان الانتخابات من النفوذ في المدن من ا ۲ – تحول المعتقدات الدينية الى معتقدات سياسية . يظهر أن الجيل الحاضر قد غير مقاييس القيمة ، والحقيقة هي أنه بدل اسماءها على الخصوص ، ويشكو أنصار العبادات الشائخة ضعف ايمان الأجيال الحديثة ، مع أن الجموع لم تظهر احتياجها الى الإعتقاد كما تظهره اليوم ، فالايمان الديني بتحوله الى ايمان سياسي لم يتبدل منه سوى شيء قليل ، وما القدرة التي نعزوها الآن الى الحكومة الا من نوع القدرة التي كنا نعزوها إلى الآلهة . هو من عمل الايمان ، وتطبيق هذا العمل على موجود عال أو ألوهية يعبر عن احتياج الانسان الى الخضوع والعبادة ، فالمؤمن يميل بطبيعته الى تأليه الشيء بالعبادة ، ومن ذلك أن (مارا ) الذي كان يجب أن تقذف جيفته في بالوعة المرحاض لم يلبث بث أن أله بعد قتله ووضعت أوراد لتقديسه ، وقد كان ( نابليون ) الها إن المعتقد قاهراً لا يغلبه أحد في نظر جنوده . ولا يكون المعتقد شعبيا إلا إذا دل على موجودات أو أشياء تجب عبادتها ، تجلى هذا الأمر أيام الثورة الفرنسوية حين فكر رجالها عند ما نشبت في إيجاد آلهة تحل مكان الآلهة السابقة فأقاموا في كنيسة ( نوتردام ) عبادة لالاهة العقل تماثل العبادة التي سار عليها الناس منذ قرون عديدة . ولا ندرك حقيقة تلك الثورة الا إذا اطلعنا على ما لتدين الشعب وزعمائه من الشأن الكبير في سيرها ، فقد كان ( روبسبير ) الذي هو عنوان نفسية زمانه الدينية الضيقة يعتقد أنه رسول" أوحى اليه أن يثبت دعائم الفضيلة وأن يذبح أعداءها غير راحم ، وكان يذكر في خطبه اسم رب السماوات ، وقد ما ثلت محاكم الثورة المذكورة ا محكمة التفتيش بحقدها على من ليسوا على دين أعضائها وبإبادتها لهم شر إبادة . أطنبت في بعض كتبي السابقة في بيان تطور الاشتراكية على شكل دينى ، ولذلك لا أطيل البحث عن هذا التطور هنا ، فالاشتراكية لو كان لها إله معين يعبده الناس لتم لها النصر بسرعة ، وقد إطلع رسالها على تلك الضرورة بغريزتهم ، ولكن لما لم يجرؤوا على مطالبة الشعب بعبادة (كارل ماركس ) اليهودي الذي هو حبرها النظري ولوا وجوههم نحو إلاهة العقل ، وقد نقلت في كتابي المسمى روح السياسة فقرة من جريدة (الاومانيته) الاشتراكية دلتنا على أن الاستاذ الشاب في (الصوربون) قرأ في حفلة افتتاح احدى المدراس الاشتراكية موعظة دينية مخاطبا فيها إلاهة العقل. لم تستهو الآلهة المجردة قلب الجموع قط ،ولذلك تفتقر الاشتراكية ذات المبادىء والتعاليم الى رب تدعو الناس الى عبادته ، وليس عليها أن تنتظر كثيراً ليتمثل لها هذا الرب ، إذ الآلهة هي بنت الحاجة . وما في الاشتراكية من قوة بشتق على الخصوص من كونها وارثة لتعاليم المسيحية ، فقد استعارت مبادىء الاشتراكية من الساف النصراني التعطش الى المساواة وحب الغير والحقد على الأغنياء ، ولذا أصبحت الكثلكة في بلجيكا حليفة الاشتراكية ، فهي تستحسن فيها اعتصابات العمال علنا وتشجع على تنازع الطبقات . وفي رسل الاشتراكية ما في أنصار النصرانية السابقين من توقد الروح ، لا أشير بذلك الى الرسائل والمقالات التي ينشرها عوام الاشتراكيين فقط بل أشير أيضا الى من نالوا من العلم قسطا وافراً ، وقد أتيح لي أن أنقل في كتابي الأخير نبذا من هذا النوع ديجها يراع استاذ في مدرسة فرنسا (كوليج دوفرانس ) اعتنق الاشتراكية راغبا في القضاء على الآلهة الباطلة ، وبمطالعة تلك النبذ نستدل على أن العالم لا يدخل في دائرة المعتقد أن يفقد اعتداله وصوابه ، ولا فائدة من لومه على ذلك ، فللمعتقد على المرء ، أيا كان ، سلطان قاهر تتعذر مقاومته ، والمعتقدات دائمة كانت أم موقتة هي أكثر العوامل تأثيراً في حياة الشعوب ، والشعب لا يتم حكمه بمبادىء غير حقيقية بل تعتقدات يؤمن بأنها حقيقية . ولو ظهر (بيلاطس ) في هذه الأيام لما طرح السؤال الذي لم يجب عنه فيلسوف ولقال إن الحقيقة هي ما يعتقده المرء . فكل اعتقاد حقيقة . أجل ، إن الحقيقة المذكورة موقتة ولكن العالم قد سار حتى الآن بحقائق من نوعها .

( ١١ ) – الآراء