الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الرابع: تقويم الآراء بالتجربة


الفصل الرابع

تقويم الآراء بالتجربة


١ – التجربة في حياة الأمم

رأينا في الفصل السابق كيف أن المنطق العقلى في أكثر المواضيع – ما عدا المسائل العلمية – لا يأتي الا بملاحظات مبهمة تلجئ الناس الى اختيار احد الطرفين : أما السير حسب رأى الأكثرية و إما السير . رأي فرد نصب ملكا، ولكن لما كان الإذعان لرأي لا يكفي لتحويل هذا الرأي الى حقيقة فكيف تكتشف قيمة الرأي الصحيحة ؟

لا يظهر لنا ذلك إلا بالتجربة، تلك الطريقة البطيئة الغالية التي لا تطبق والحالة هذه على جميع المواضيع، فهي إزاء المعتقدات الراسخة عاجزة عجز العقل، وأما في آراء الجموع كبعض الآراء السياسية مثلا فأنها لا تلبث أن تؤثر إذا كانت بارزة مكررة إن حياة الأمم اكبر دليل على ضرورة التجارب المكررة البارزة : فيجب أحيانا تخريب مدن كثيرة وإراقة دماء غزيرة كي تفقه أمة بضع حقائق تجريبية، وفي الغالب لا تستمر استفادة الأمم من التجارب زمنا طويلاً، لأن ضعف ذاكرة المشاعر يؤدى الى عدم انتفاع جيل لاحق بتجارب جيل سابق، فاقد شاهدت جميع الام الأم منذ العالم أن الحكم المطلق يعقب الفوضى، ومع ذلك فأنها لم تستفد من هذا الدرس الأبدي، وقد أثبتت الحوادث المكررة أن الاضطهاد هو أحسن وسيلة لانتشار معتقد ديني، ومع ذلك نرى المظالم تقع بدون انقطاع، وقد علمت التجربة أن الاذعان إزاء وعيد الغوغاء يبطل عمل الحكومات، ومع ذلك فإن رجال السياسة لا يزالون ينسون هذه الحقيقة ، وكذلك التجربة فانها دلت دلالة قاطعة على أن منتجات الحكومة تكلف - لأسباب نفسية صادقة - ثمناً أغلى من من المنتجات الخصوصية ومع هذا يكدح الاشتراكيون كل يوم في اكراه الحكومة على احتكار صنع مصنوعات جديدة.

ولا تؤثر التجارب الا اذا كانت بارزة كما بينت آنفا، وهاك مثالاً جديداً مشهوراً على ذلك : لقد أنبأ علماء النفس وجميع علماء الاقتصاد وجميع اكابر التجار بأن اشتراء خطوط الأويست ( الغرب ) الحديدية وإدارتها من قبل الدولة يكلف ثمنا غاليا ، ولو كان الأمر متعلقا بالثمن لما شعر الجمهور بذلك كثيراً ، غير أن إدارة الدولة لهذه الخطوط أوجبت في بضعة أشهر وقوع نكبات هائلة وزهوق نفوس كثيرة مما جعل الناس يدركون عاقبة تلك التجربة الصارمة ولا يجرؤون على مطالبة الدولة باشتراء خطوط حديدية أخرى.

٢ – صعوبة أدراك العوامل التي هي سبب التجربة

ولا يستدلن القارئ من كون التجارب البارزة كالتجربة التي أشرنا اليها في المطلب السابق تستطيع أن تحول الآراء أنه يسهل إدراك العوامل التي سببت هذه التجارب ، فوزير الاشغال العامة لم يكتشف العلل الخفية لتلك النكبات التي دلت على وجود فوضى بارزة في ادارة الخطوط الحديدية المذكورة ولما اعترف بأن مصدر النكبات هو ما يقع بين القطارات من الاصطدام وأن سبب الاصطدام هو خلل النظام ظن انه قادر على اصلاح الخلل بعزل المدير ولم يتوسل المدير الجديد إلى تقليل النكبات بسوى نقص عدد القطارات وتحديد سرعتها.

وماذا يستطيع المدير أن يصنع إزاء معلولات نشأت عن عال لا تأثير له فيها ؟ يعجز عن منح إدارة الدولة مالا تملكه من قابلية صناعية وعن إيجاد نظام وهمة واحترام للأوامر في موظفين يسوقهم زعماء حراص محرضون.

جاء في جريدة الطان ما يأتي : « كيف نجد مستخدمين صادقين في ادارة خطوط حديدية لم يقترع نواب المديريات على ابتياعها الا ليعينوا فيها من هم تحت رعايتهم ؟ وكيف نأمل أن نرى في هؤلاء الموظفين خضوعا تاما والحكومة تنظر الى جميع مساوئهم بعين الاعضاء حاسبة حساب كثير من النواب المشاغبين ؟ ثم قالت تلك الجريدة مستنتجة : ننتظر من الدولة التي تخبط في ادارة خطوطها الحديدية خبط عشواء أن تسلك محجة الصواب فتترك الشركات حرة في ادارة خطوطها غير ملزمة إياها أموراً ممقوتة شاهدت هي بنفسها ماذا تجر هذه الامور وراءها من النتائج المضرة.»

ولكن هذا الأمل لاغ ، فالدولة – أي النواب المسيرون للدولة - ما فتئت تجور علي الشركات وتحملها ما لا تطيق وتحث على عدم النظام وعلى زيادة مطاليب موظفيها غير أن مقادير الأمور التي هي فوق الخطب أنت بدرس تجريبى جديد لا ريب في أنه. سيصبح مفهوما : فقد ذكرت منذ بضع سنين في مقالة نشرتها في احدى المجلات أن من نتائج مداخلة الحكومة الجائر في أمور الشركات هو هبوط قيم أسهم هذه الشركات أي نزول أثمان عنصر ثابت من عناصر ثروة البلاد العامة ، وما لبث هذا التنبؤ أن تحقق بسرعة ، إذ إنه أصاب أكثر الأسهم سقوط عظيم حتى أنه بلغ ١٧ في المئة في شركة ( ليون ) ، فبعد أن كان سعر سهم هذه الشركة في المصفق ۳۸٥را فرنكا في شهر شباط سنة ١٩٠٩ صار ١٥ر١ فرنكا في شهر شباط سنة ۱۹۱۱ ، ولكي يكون هذا الدرس التجريبي ذا تأثير مفيد يجب أن يستمر الهبوط أكثر من ذي قبل.

وتؤدي العلل الواحدة الى نتائج واحدة ، ولذلك لا نعجب مصادفتنا في اسطولنا الحربي فوضى كالتي في خطوط الدولة الحديدية ، واليك تقرير مقرر ميزانية البحرية الذي نتخذه دليلا كافيًا على صحة قولنا :

« ولقد أنفقت المانيا منـذ سنة ١٨٩١ حتى سنة ١٩٠٦ على بحريتها ٢١٥٠٨ ملايين وأنفقت فرنسا ۳٫۸۰۹ ملايين ، ومع أن الفرق ٣٠٠ر١ مليون فان المانيا استطاعت أن تبنى لها أسطولاً أقوى من أسطول فرنسا. فهذه الارقام تكفى لانتقاد إدارتنا ، ولا يزال الرأي العام غير مبال بذلك، فيجب لتحريكه واثارة مجلس النواب وقوع كوارث هائلة وحدوث نكبات عظيمة وسفك دماء كثيرة لا إلقاء خطب وتلاوة بيانات. ها إن المدرعتين (فارفاده) و ( لوتان ) تغرقان بعد غرق المدرعات (سوللی) و ( شازی ) و ( نيف ) و ( فينا ) ، وهاهي المدافع تنفجر في المدرعة ( الكورون ) والجنود بقر ، ثم هاهي المدرعة ( ينا ) تفور كالبركان ، فبعد هذه النازلة الاخيرة لا يجوز اتهام المصادفة والاتفاق ، وانما يتحتم علينا أن نبحث في الأمر بحثًا عميقًا.

« فقد علم الرأى العام وهو حائر مشدوه إلى الغاية أن بحريتنا تحتاج – على رغم مئات الملايين الكثيرة التي أنفقت في سبيلها - لا الى مراكب حربيسة قوية فقط بل إلى مدافع وعدد وميرة ومعامل للاصلاح أيضا ، ولم يكن النقد هو الذي يعورنا ، فعندنا منه ما يكفى لجعلنا أقوى من ألمانيا ، ثم قال المقرر إن هذه الحقائق ثقيلة مفيجعة » حقا إنها ثقيلة مفجعة ، ومن دواعي الأسف أنه ليس عنـدنا ما يجعلنا نأمل أن تزول أسباب تلك النتائج الكثيرة ، وتعد من هذه الأسباب : اختلال النظام الزائد بين عمال دور الصناعة الحادث بفعل كثير من المحرضات اليومية ، وانحلال مصالح الدولة بتأثير ما بين الموظفين - الذين يحسدون بعضهم بعضا. - من مناظرة ومزاحمة ، والاشتراكيون الذين يرغمون الحكومة أن تصنع بنفسها ما تصنعه المانيا في مصانع الأفراد الخصوصية.

ظهرت نتائج التجارب في المسائل المذكورة بسرعة ، ولكن قد لا تظهر هذه النتائج الا ببطء ، فالقضاء على الاسطول الروسي بغتة من قبل المدرعات اليابانية وعجز نسافات الروس عن أن تحول دون ذلك كانا ضرور بين لندرك خطأنا العظيم في عدولنا منذ بضع سنين عن إنشاء مدرعات کی نصنع مكانها بارجات صغيرة ونسافات ثبت الآن أنها غير مفيدة ، وهكذا أضعنا مئات من الملايين وظلت بلادنا عاطلة من وسائل الدفاع أثبتت التجربة خطلنا فعزمنا على بناء أسطول جديد

وإذا كانت التجربة في الغالب ضرورية لتحقيق قيمة الآراء فذلك لأن أكثر الآراء تتكون من دون أن تبالى بغير ظواهر الأمور ، ففي المسئلة التي استشهدنا بها دل الرأي المستند الى بعض الظواهر على أن النسافات الرخيصة تدمر المدرعات الغالية بسهولة ولذلك رؤى أن من العقل والصواب ترك هذه و إنشاء تلك

ولا تبدو النتائج البعيدة للتدابير القائمة على ظواهر المعقولات الا لذوى البصائر الثاقبة الذين لا يكونون في الغالب من القابضين على زمام الأمور ، فقد بينت في كتابي المسمى « روح السياسة » ضرر كثير من القوانين التي كان يظهر أن العقل هو الذي أملاها ، وسرعان ما أثبتت التجربة أن تأثير أكثر هذه القوانين الجائرة مناف حتى لمنفع الذين وُضعت لحمايتهم.

ونورد الحادث الآتي الذي وقع حديثا في مدينة ( ديجون ) مثالاً على تلك النتائج : لما أوجبت احدى المصادفات الضالة انتخاب بلدية اشتراكية لتدير أمور هذه المدينة تصور أعضاء البلدية المذكورة أن يساعدوا العمال على أن يجعلوا..كان مكوس الدخولية ضرائب ترهق الأغنياء وفعلا أجروا ذلك ، ولكن الأمر لم يلبث أن انقلب الى ضده ، لأن معيشة العمال بدلاً من أن تصبح رخيصة صارت أغلى منها في الماضي كثيراً ، وهكذا علمت التجربة الاشتراكيين أن سنن الاقتصاد التي يستخف بها عند عدم إدراكها لا تسمح بفرض أية ضريبة على طبقة واحدة دون غيرها ، فاذا فرضت هذه الضريبة فانهـا توزع في الحال – ولكن على وجه غير مباشر – على الطبقات الباقية أيضا لا علي التي فرضت عليها وحدها.

دروس التجربة تكون في الغالب بارزة ، فلماذا يعجز كثير من رجال السياسة الذين هم على شيء من الذكاء عن فهمها ؟ أجيب عن ذلك قائلاً – كما بينت في الفصول السابقه - إن التجربة لا تؤثر في المعتقدات على وجه التقريب ، ولما كانت مبادى، زعماء الأحزاب المتطرفة من فصيلة المعتقدات لا من فصيلة الآراء فانها تستند الى دعائم عاطفية دينية لا يقدرون على مقاومتها.

وليس للعقل الذي يستشهد به المشتغلون بالسياسة تأثير في هؤلاء كما أنه لا تأثير له في أنصار أي إيمان : فالحقائق العاطفية أو الدينية هي التي تقودهم جميعا ، فهم وإن كانوا ذوى سلطان على خطبهم فانهم لا سيطرة لهم على المحرضات الخفية التي تملى عليهم تلك الخطب.

وبعد أن اطلعنا على تكوين الآراء - التي ليس فيها من المعقول سوى الظواهر - تكوينا خفيا فاننا لا نحنق على عدم فطنة من أبدوها ، فالحقائق التي لا يدركها غير من لا دليل لهم الا المنطق العقلى تظل خافية على من لا دليل لهم غير المعتقد