الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل السادس: انحلال الخلق و تقلبات الذات


الفصل السادس

انحلال الخلق و تقلبات الذات


١ – التوازن بين عناصر الخلق

بينَّا أن عناصر الخلق راسخة رسوخ العناصر التشريحية، والآن نقول إنه قد يصيب الأولى ما يصيب الثانية من أمراض مختلفة حتى الانحلال التام، فلهذه الأحوال تأثير عظيم في تكوين الآراء والمعتقدات، ويظل إدراك بعض الحوادث التاريخية ممتنعاً إذا لم نقف على ما يقع في الخلق من تبدل عرضي.

وسوف نرى في فصل آخر أن العوامل التي تصدر عنها آراؤنا ومعتقداتنا وأفعالنا هي مثل العيارات الموضوعة على كفتى الميزان، فالكفة التي تثقل عباراتها تهبط، غير أن الأمور لا تجرى تماماً على هذا الوجه البسيط، فقد تتزيف العوامل التي اتخذنا العيارات رمزاً لها بتأثير بعض المعكرات، حينئذ يتغير الإحساس و ينتقل مقياس القيم ويتحول اتجاه الحياة فتتجدد الذات.

تشاهد تلك التقلبات على الخصوم عندما يطرأ اختلال عظيم على ما بين البيئة

الاجتماعية التي تغيرت فجأة وبين المشاعر من توازن، والوقوف على التوازن بين البيئة التي تكتنفنا والعناصر التي تتألف منها انما هو على جانب عظيم من الأهمية، فهذا التوازن لا يختص بعلم النفس وحده بل يتناول علم الكيميا وعلم الطبيعة وعلم الحياة أيضاً، فالجسم - سواء أكان جماداً أم كان من ذوات الحياة - ينشأ عن توازن بينه و بين بيئتهِ، ويتبدل هذا الجسم بتبدل البيئة، فقد تمكن سبيكة الفولاذ أن تصبح بخاراً خفيفاً إذا كانت في بيئة ملائمة.

وكذلك فان اقطاب السياسة يقدرون عند الحاجة على تغيير ما بين عناصر الخلق القومى من توازن وذلك يجعلهم ما هو ملائم منها لمقتضيات الزمن يتغلب على الأخرى.

١ – تقلبات الذات

تبين من الملاحظات السابقة أن الذات قد تتحول، وتشتق هذه الذات كما رأينا من عاملين لازمين هما الموجود نفه ثم بيئتهُ، والقول بأن ذات الانسان متحولة لا يلائم الأفكار التقليدية التي تزعم ثبات الذات ووحدتها.

حقاً إن ذات الإنسان تتألف من خليات لا يحصى عديدها، وكل خلية تشترك في تكوين وحدة الذات اشتراك الجندى في تكوين وحدة الجيش والتجانس الواقع بين الألوف من الرجال الذين يتألف الجيش منهم ناشئ عن اتحاد حركتهم الذي قد تقضي عليه علل كثيرة.

ولا طائل تحت الادعاء بأن الذات تظهر ثابتة على وجه العموم، فالذات إذا لم تتغير فذلك لعدم تحول البيئة الاجتماعية، ولو تحولت البيئة فجأة – كما يقع أيام الفتن – لتبدل الاشخاص أنفسهم تماماً، فقد شوهد في دور الهول الأكبر رجال من أبناء الطبقات الوسطى اشتهروا في الماضي بدماثة أخلاقهم ولين طبائعم قد اصبحوا سفاكين متعصبين، و عندما هدأت الزوبعة وعادت البيئة السابقة رجعت الى أولئك الرجال شخصيتهم السلمية، ولقد فصلت هذه النظرية منذ زمن بعيد فأثبت أن حياة رجال الثورة الفرنسوية تظل سراً غامضاً بدونها. ما هى عناصر الذات التي تتركب شخصية الإنسان من مجموعها؟ لا يزال علم النفس غير مجيب عن هذا السؤال؛ وأما نحن نقول إن عناصر الذات تنشأ عن شخصیات موروثة تكونت بتعاقب القرون، فالذات هي كما ذكرت مؤلفة من ملايين من محایٍ خلوية، ومن هذه المَحَايى تتكون اطوار كثيرة.

فبعض المهيجات الشديدة أو بعض الامراض كالتى تشاهد في الوسطاء والمُنَوَّمين الخ تحول تلك الأطوار وتولد ولو موقتاً في الرجل نفسه شخصية أخرى أرفع أو أدنى من شخصيته المعتادة، فنحن نشتمل على ممكنات خلفية هى أعظم مما نطبقه عادة وتحركها فينا بعض الحوادث والاحوال.

٣ – عناصر الثبات في الذات

تتألف من البقايا والفضلات التي تنتقل الينا بالوراثة طبقة خلقية عميقة ثابتة، و بهذه البقايا الارثية يختلف الانكليزى عن الفرنسوى أو الصينى اختلافاً كبيراً، إلا أنه ينضم الى هذه الموروثات عناصر مصدرها التربية والبيئة الاجتماعية كالطائفة والقبيلة والمهنة وغيرها من المؤثرات الكثيرة، فهذه العناصر هي التي تعين وجهة الانسان تعیيناً ثابتاً.

واكثر العناصر التي تتكون الذات من مجموعها فعلاً – بعد العرق – هي التى تتعرف بها الجماعة التي ننتسب اليها، فلما صُبَّت افراد هذه الجماعة عسكرية كانت أم قضائية أم كهنوتية أم نونية الخ في قالب واحد من الأفكار والآراء والسلوك فإنهم يكونون ذوى أخلاق متجانسة، وإذا تقاربت آراء هؤلاء وأحكامهم بوجه عام فذاك لأن زمرتهم الاجتماعية بتسويتها بينهم جعلت شذوذ اىّ واحد منهم أمراً لا يطاق، فمن يريد أن يمتاز من جماعته تناصبه هذه الجماعة العداء برمتها.

ولا يخلو استبداد الطبقات الاجتماعية من فائدة كما سنبين ذلك، فأين يجد أكثر الناس انتحاءهم النفسي الضروري إذا لم تكن آراء الجماعة التي هم منها وسيرها دليلا لهم؟ إنهم بفضل الزمرة التي ينتسبون إليها يملكون طرزاً في السير والدفع على شيء من الثبات، و بفضل هذه الزمرة أيضاً نرى لأرباب الطبائع الهينة وجهة وقراراً في الحياة.

ويحتوى الناس بانتمائهم الى احدى الجماعات على قدرة لا يحلم بها الرجل وهو منفرد أبداً، فلم تكن مذابح الثورة الفرنسوية الهائلة صادرة عن أعمال فردية، وإنما أتي بها مقترفوها - من جيروندين ودانطونيين وهيبريین وروبسبيريين -وهم على شكل جماعات تطاحنت تطاحناً تجلى فيه ما هو خاص بالجماعات من تعصب أعمی ووحشية شديدة.

٤ – صعوبة التنبؤ بما ينشأ عن الخلق من سير وحركة.

لا يدعينَّ أحدٌ أنه يعرف ذاتًا غير متقلية اولا تؤثر فيها الأحوال، وانما الذي يمكنه أن يقوله هو أن الأحوال إذا لم تتغير فان سير الشخص الذي اختبره لا يتغير أبداً، لا ريب في أن رئيس القلم الذي أنشأ تقارير صادقة في عشرين سنة يستمر على إنشاء مثلها بصدقه المعهود، ولكن يجدر بنا أن لا نؤكد هذا القول كثيراً، إذ قد تحدث أحوال جديدة — كحرص شديد يستولى على بصيرته أو خطر يهدد شرف أهله أو وطنه — فيصبح مجرماَ أو بطلاً.

وتشاهد تقلبات الذات في منطقة المشاعر وحدها على وجه التقريب، وأما في منطقة الذكاء والعقل فالتقلب ضعيف إلى الغاية. فالسخيف يبقى سخيفاً على الدوام، وتقلبات الذات التي تمنعنا من معرفة أمثالنا معرفة حقيقية أساسية تمنعنا من معرفة أنفسنا أيضاً، ولذلك كانت حكمة قدماء الفلاسفة القائلة «اعرف نفسك بنفسك» نصيحة يتعذر تحقيقها، فالذات الظاهرة تكون عادةً ذاتاً خادعة كاذبة، ليس لان المرء يعزو إلى نفسه كثيراً من الصفات الحسنة دون أن يعترف بأية نقيصة فيه فقط بل لان الذات وان اشتملت على قسط قليل من العناصر الشاعرة فان اكثرها يتألف من عناصر لاشعورية يمتنع اختبارها.

والطريقة التي يكتشف بها الرجل أمر نفسه في الفعل والحركة، فهو لا يعرف نفسه الا بعد ان يختبر سيره في أحوال معينة، والقول بأننا نعلم مقدماً كيف نسير في احدى الاحوال المقبلة ليس الا زعماً وهمياً، فعندما اقسم المرشال (نای) للويس الثامن عشر أنه سيأتى بنابليون أسيراً في قفص من حديد كان صادقاً في يمينه، ولكن نظرة من سيده نابليون جعلته ينقض عهدهُ، وقد كانت عاقبة هذا القائد المنكود الحظ أن أعدم رمياً بالرصاص جزاء جهله حقيقة نفسه، ولو كان لويس الثامن عشر ذا اطلاع على نوامیس علم النفس لعفا عنه على ما يحتمل.

تظهر نظريات الخلق التي شرحناها في هذا الكتاب متناقضة، فلقد قلنا مؤكدين إن المشاعر التي يتألف منها الخلق هي على جانب عظيم من الرسوخ والثبات، ثم اشرنا إلى إمكان تقلب الذات، الا أن هذا التناقض يزول إذا تذكرنا الأمور الآتية وهى:

أولاً: إن الاخلاق تتألف من عناصر عاطفية أساسية لا تتبدل على وجه التقريب، وينضم اليها عناصر أخرى ثانوية تتغير بسهولة كتغير العناصر التي يوجبها مربى الحيوانات في النوع دون أن يغير صفاته الجوهرية.

ثانياً: إن الانواع النفسية كالانواع التشريحية تخضع للبيئة خضوعاً تاماً، فهى مضطرة إلى ملاءمة مع تقلبات هذه البيئة إذا كانت هذه التقلبات غير عظيمة أو غير فجائية.

ثالثاً: قد يلوح لنا أن المشاعر نفسها تغيرت عند تطبيقها على مواضيع مختلفة، مع أن الواقع هو كون طبيعة هذه المشاعر لا تتغير أبداً، فاذا القلب حب الدنيا إلى حب الله في بعض الاحوال فان المشاعر تكون قد بدلت اسمها لا طبيعتها.

ولهذه الملاحظات فائدة عملية، فهي تعتبر قاعدة لكثير من المسائل المهمة في الوقت الحاضر كمسئلة التربية مثلاً. لقد شوهد أن التربية تغير الذكاء أو المعرفة الشخصية فاستًنْتِج أنها تغير المشاعر أيضاً، فدل ذلك على الجهل بأن الاحوال العاطفية والاحوال الذهنية لا تتطور تطوراً متساویاً، وبتوغلنا في الموضوع نرى أن شأن التربية والأنظمة السياسية ضعيف في مصير الافراد والامم.

يظهر أن هذا الرأي المخالف لمعتقداتنا الديموقراطية يناقض ما نشاهده من أحوال بعض الامم الحديثة أيضاً، وذلك ما يمنع من الاقبال عليهِ بسهولة.

يعترض البارون (موتونو) – سفير اليابان في بطرسبرغ وأحد أقطاب السياسة في الشرق الأقصى المشهورين – علىَّ في مقدمة كتبى المترجمة الى اللغة اليابانية قائلاً إنه طرأ بتأثير الافكار الأوروبية على النفسية اليابانية تبدلات كثيرة، إننى لا أظن أن تلك الأفكار أثرت تأثيراً حقيقياً في نفسية اليابانيين و إنما تسربت الأفكار المذكورة في ثنايا الروح اليابانية الموروثة من غير أن تغير شيئاً في اجزائها الجوهرية، فإقامة المدفع مكان المخذفة أو المقلاع يحول مصير الامة تحويلاً تاماً ولكنه لا يغير اخلاقها القومية أبداً.

نستنتج من هذا الفصل أن الآراء والحركة لما كانت تنشأ عن علل بعيدة من الارادة والاختيار وفن تأثيرنا فيها محدود الى الغاية، ومع ذلك فسوف نرى أن مكافحة المقادير المستولية على مشاعرنا وأفكارنا أمر ممكن.