الأسطورة الأزلية

الأسطورة الأزليّة

​الأسطورة الأزليّة​ المؤلف إيليا أبو ماضي


كان زمان، لم يكن كائنا
و حالة، ما برحت باقية
ملّ بنو الإنسان أطوارهم
و برموا بالسقم و العافية
فاستصرخوا خالقهم و اشتهوا
لو أنّه كوّنهم ثانية
و بلغت أصواتهم عرشه
في ليلة مقمرة صافية
فقال، إنّي فاعل ما اشتهوا
لعلّ فيه حكمة خافية
و شاهدوه هابطا من عل
فاحتشدوا في السّهل و الرّابيه
من القرى القانعة الطاوية
و المدن الجامحة الغادية
تألّبوا من كلّ صوب كما
تجتمع الأمطار في الساقيه
يسابق الصّعلوك ربّ الغنى
و الأبله الباقعة الداهية
و يدفع الشّيخ التوى عوده
وصار مثل الرمّة البالية
فتى مضى الفجر و لمّا نزل
روعته في وجهه باقية
و تزحم الحسناء ممكورة
خلابة كالروضة الحالية
دميمة تشبه في قبحها
مدينة مهجورة عافية
فقال ربّ العرش: ما خطبكم:
مابالكم صرخاتكم عالية؟
هل أصبحت أرضكم عاقرا،
أم غارت الأنجك في هاوية؟
أم أقلع الماء فلا جدول،
و ماتت الطير فلا شادية؟
أم فقدت أعينكم نورها،
أم غشيت أرواحكم غاشية؟
أين الهوى، إن لم يكن قد قضى
فكل جرح واجد آسية
قال الفتى: يا ربّ إنّ الصّبا
مصدر أحزاني و آلامي
ألبستنيه مونقا بعدما
أبلاه أخوالي و أعمامي
و صار في مذهبهم عصره
فترة زلاّت و آثام
فاختلفت حالي و حالاتهم
كأنّني في غير أقوامي
وصرت كالجدول في فدفد
أو شاعر ما بين أصنام
و الأخضر المورق في يابس
أو مثل صاح بين نوّام
دنياهم دنياي، لكنّما
أعلامهم ليست كأعلامي
عندهم الروضة أشجارها
و الروض عندي الزهر النامي
و الطير لحم ودم عندهم
و ليس عندي غير أنغام
سكري بها أو بالندى و الشذى
و سكرهم بالخمر في الجام
يسخر قلبي بلياليهم
و يسخر الدهر بأيّامي
كأنّني جئت لتبكيتهم
كأنّما جاؤوا لإيلامي
عبء على نفسي هذا الصّبا
ألجائش المستوفز الطامي
يزرع حولي زهرات المنى
و شوكها في قلبي الدامي
فان؛ له كلّ فان هوى
فان، و لا ينجو من الذام
خذه، و خذ قلبي و أحلامي
فإنّني أشقى بأحلامي
ومر يمرّ الدهر في لحظة
كالطيف أو كالبرق قدّمي
وازرع نجوم في لمّتي
فينجلي حندس أوهامي
فأبصرُ الحكمة في ضوئه
إني إليها جائعٌ ظامي
وجاء شيخ حائر واجف
مشتعل اللّمّة بالي الإهاب
كأنّما زلزلة تحته
لما به رعشة واضطراب
فصاح: يا ربّاه خذ حكمتي
واردد على عبدك عصر الشباب
إنّ أماني الروح أزهارها
و إنّ روحي اليوم قفر يباب
لا جدولٌ، لا بلبلٌ منشدٌ،
بلى، بها الوحشة والإكتئابْ
تلك الأماني، على كذبها،
لم تكن اللّذّة فيها كذّاب
زالت و ما زالت؛ و إنّ الشّقا
أن تطمس الآي و يبقى الكتاب
و تسلب السرحة أرواقها
و لم تزل أعراقها في التراب
كنت غنيّا في زمان الصّبا
و كنت صفر الكفّ، صفر الوطاب
صحوت من جهلي فأبصرتني
كأنّني سفينة في العباب
قيل لها، في البحر كلّ المنى
فلم تجد فب البحر إلاّ الضّباب
نأت عن الشّطّ و لم تقترب
شبرا من السرّ الذي في الحجاب
و لو ترجّى أو به لاشتفت
لكنّما عزّ عليها الإياب
مر تقف الأيّام عن سيرها
فإنّها تركض مثل السّحاب
وضع أمامي، لا ورائي، المنى
وطوّل الدرب، وزد في الصّعاب
ما لذّتي بالماء أروى به
بل لذّتي بالعدو خلف السّراب
و قالت الحسناء: يا خالقي
و هبتني الحسن فأشقيتني
وجهي سنّي مشرق، و إنّما
مرعى عيون الخلق وجهي السني
حظّي منه حظّ ورد الربى
من عطره الفوّاح و السوسن
و مثل حظّ السرو من فيئه
و الطير من تغريدها المتقن
و مثل حظّ النجم من نوره
في الحندس المعتكر الأدجن
للقائل الفيء، و السامع
التغريد، و الزهرة للمجتني
و النور للمدلج و المجتلي،
و الدرّ للغائص و المقتني
كم ريبة دبّت إلى مضجعي
مع الجمال الرائع الممكن
إن عشقت نفسي فويل لها
و الويل لي إن رجل حبّني
السمّ و الشوك و جمر الغضا
أهون من كاشحة الألسن
كم تقتفيني نظرات الخنا
ويلي من خائنة الأعين
لم يبق في روحي من موضع
يا ربّ لم يخدش و لم يطعن
إنّ الغنى في الوجه لي آفة
فليت أنّي دمية ليتني...
و سكتت؛ فصاحت الجارية
باكية من بؤسها شاكية:
ذنبي إلى هذا الورى خلقتي
فهل أنا المجرمة الجانية؟
إن أخطأ الخزّاف في جبله ال
طين فأيّ ذنب للآنية؟
أليس من يسخر بي يزذري
بالقوّة الموجدة البارية؟
لو كنت حسناء بلغت العلى
فللجمال الرتبة العالية
فبات من أسجد قدّامه
صاغرة يسجد قدّمية
فإنّني في ملإ ظالم
أحكامه جائرة قاسية
ليس لذّات القبح من غافر
وفيه من يغفر للزّانية
نفسي جزء منك، يا خالقي
و إنّها عاقلة راقية
أليس ظلما، و هي بنت العلى،
إن تك بالقبح إذن كاسية؟
فليكن الحسن رداء لها
ترفل به، أو فلتكن عارية
و أقبل الصّعلوك مسترحما
في مقلتيه شبح اليأس
يصرخ يا ربّاه حتّى متى
تحكّم الموسر في نفسي؟
و تضع التاج على رأسه
و تضع الشوك على رأسي؟
و يشرب اللّذّات من كأسه
و أشرب الفصّات من كأسي
و تنجلي الأنجم في ليله
ضاحكة كالغيد في عرس
و يتوارى في نهري السنا
أو يتبدّى حانق الشّمس
يا ربّ لا تنقله عن أنسه
و إنّما انقلني إلى الأنس
فإن تشأ أن لا يذوق الهنا
قلبي فجرّدني من الحسّ
لو لم يكن غيري في غبطة
ما شعرت روحي بالبؤس
و قال ذو الثّروة: ما أشتهي
لا أشتهي أنّي ذو ثروة
أنفقت أيّامي على جمعها
و خلتني أدركت أمنيتي
فاستعبدتني في زمان الصبا
و أوقرت بالهمّ شيخوختي
قد ملكتني قبلما حزتها
و ملكتني و هي في حوزتي
كنحلة أمسكها شهدها
من الجناحين فلم تفلت
حسبتها تكسبني قوّة
فافترست قوّتها قوّتي
جنت على نفسي و أحلامها
جناية الشوك على الوردة
ينمو فتذوي فهي علّيقه
يحذرها الطائف بالروضة
من قائل عنّي لمن خالني
أمرح من دنياي في جنّة:
لا تنظر الأضواء في حجرتي
وانظر إلى الظلماء في مهجتي
و لا يغرّنّك قصري فما
قصري سوى سجن لحرّيّتي
أنّي في الصرح الرفيع الذرى
كطائر، في قفص، ميّت
كم في عباب البحر من سابح
قد مات ظمآنا إلى قطرة
موت الطوى شرّ و لكنّما
أفظع منه الموت بالتّخمة
إن سهر العاشق من لوعة
أو سهر المحزون من كربه
فالشوق كالحزن له آخر
و ينقضي في آخر المدّة
أمّا أنا فقلقي دائم
ما دمت في مالي و في فضّتي
و الخوف من كارثة لم تقع
أمصّ من كارثة حلّت
كم من فقير مرّ بي ضاحكا
كأنّما يسخر من غصّتي
رأيته بالأمس من كوّتي
فخلتني أنظر من هوّة
و كنت كالحوت رأى موجة
ضاحكة ترقص كالطفله
أو حيّة تدبّ في منجم
ترنو إلى فراشة حرّه
قد اختفت ذاتي في بردتي
فما يرى الخلق سوى بردتي
فهم إذا ما سلّموا سلّموا
على خيوط البرد و الحلّة
ربّاه أطلق من عقال الغنى
روحي، فإنّي منه في محنه
وانزع من الدينار من قبضتي
صلابة الدينار من سحنتي
و حوّل المال إلى راحة
و حوّل القصر إلى خيمة
و صرخ الأبله مستفسرا
ما القصد من خلقي كذا و المراد؟
ألم يكن يكمل هذا الورى
إلاّ أوجدتني في فساد
لي صورة النّاس و حاجاتهم
من مطعم أو مشرب أو رقاد
لكنّ لبّي غير ألبابهم
فإنّه مكتنف بالسواد
يعجزني إدراك ما أدركوا
كأنّ عقلي فحمة أو رماد
إن كنت إنسانا فلم يا ترى
لست بادراكي كباقي العباد؟
أولم أكن منهم فمرني أكن
جرادة أو أرنبا أو جواد
فالندّ لا يعدم مع ندّه
ذريعة للسلم أو للجهاد
لا تسخر النّملة من نملة
و ليس يزري بالقراد القراد
أم أنت كالحقل على رغمه
ينمو مع الحنطة فيه القتاد
وجاء بعد المستريب
الألمعي العبقريّ اللّبيب
فقال: إنّي تائه حائر
أنا غريب في مكان غريب
أبحث عن نفسي فلا أهتدي
و ليس يهديني إليها أريب
أنا عليم حيث لا عالم
أنا لبيب عند غير اللّبيب
لو أنّني كنت بلا فطنه
سرت و لم تكثر أمامي الدروب
و كان عقلي كعقول الورى
و كان قلبي مثل باقي القلوب
و صار عندي كالنجوم الورى
فلا عدوّ فيهم أو حبيب
ولم أر في ضحكهم و البكا
شيئا سوى الضّحك و غير النّحيب
و لم أسائل كوكبا طالعا
ما لك تبدو، و لماذا تغيب
و لم أقف في الروض عند الضحى
يذهلني لون و شكل و طيب
و لم أقل ما كنت من قبلما
كنت، و لا ما في سجلّ الغيوب
ما العقل، يا ربّ، سوى محنة
لولاه لم تكتب عليّ الذنوب
لمّا وعى الله شكايا الورى
قال لهم: كونوا كما تشتهون
فاستبشر الشيخ و سرّ الفتى
و الكاعب الحسناء و الحيزبون
لكنّهم لمّا اضمحلّ الدجى
لم يجدوا غير الذي كانا
هم حدّدوا القبح فكان الجمال
و عرّفوا الخير فكان الطلاح
و ليس من نقص و لا من كمال
فالشوك في التحقيق مثل الأقاح
و ذرّة الرمل ككلّ الجبال
و كالذي عزّ الذي هانا