الإقليمية جذورها وبذورها

الكتاب : الإقليمية جذورها وبذورها

المؤلف : ساطع الحصري


كلمة المؤلف عدل

هذه مجموعة من الملاحظات والمقالات التي دونتها وكتبتها في أوقات مختلفة، خلال السنة ونصف السنة الماضية.

انها لا تكوّن دراسة كاملة.

ولكنها تظهر الكثيرمن الحقائق، وتلقي ضوءاً كشافاً على الكثيرمن الأمور.

ولذلك، اعتقدت ان نشرها سيكون مفيداً لتنوير أفكار الكثيرين من شباب العرب، هذه الايام.


برمانا 20 آب 1963

أبو خلدون

ساطع الحصري





الإقليمية عدل

مقارنة بليغة عدل

معلوم أن مجموع سكان اندونيسيا لا يختلف كثيراً عن مجموع سكان البلاد العربية.

والاندونيسيون يعيشون مبعثرين على عدة آلاف من الجزر الكبيرة والصغيرة. ومع ذلك استطاعوا أن يؤلفوا دولة واحدة قوية وموحدة.

في حين ان العرب ألفوا العديد من الدول، ولم يستطيعوا ان يجدوا إلى الوحدة سبيلاً ، وهم يعيشون الآن منقسمين إلى ثلاث عشرة دولة داخلة في هيئة الأمم المتحدة [ ألف الحصري كتابه هذا عام 1963 ، وقد ازدادت عدد " الدول " العربية منذ ذلك الحين فأصبح 21 " دولة " ( المحرر) ] ، فضلاً عن المشيخات والإمارات والسلطنات التي تعيش على هامش الحياة السياسية.

لماذا؟

لماذا استطاع الاندونيسيون أن يتحدوا في دولة واحدة في الوقت الذي بقي العرب منقسمين إلى دول عديدة؟

ما هي أسباب هذا التباين الكبير الذي حصل بين أحوالنا نحن العرب وبين أحوال الاندونيسيين، من حيث الوحدة وعدم الوحدة؟

هل الاندونيسيون أرقى منا ثقافة وعلما وحضارة؟

هل هم متفوقون علينا من حيث روح التضحية والفداء؟

هل هم أغنى منا برجال من ذوي الكفاءات العالية، في الإدارة وفي السياسة؟

إن كل ما هو معلوم عن أحوالنا وعن أحوالهم، يحملنا على الرد على هذه الأسئلة بالنفي البات:

كلا... إن الاندونيسيين لا يتفوقون على العرب، في أي ميدان من هذه الميادين.

فلا مجال منطقياً لتعليل ما بيننا وبينهم من تباين عظيم في ميدان التكوين السياسي، بأمثال هذه الأمور.

وأما الأسباب الحقيقية لهذا التباين، فتعود إلى إختلاف الظروف التاريخية التي لازمت تكوين كل من الدولة الاندونيسية والدول العربية، في العصر الحديث.

إن التفاصيل التالية تظهر هذه الحقيقة بكل وضوح وجلاء:

إن البلاد الاندونيسية، استعمرتها دولة أوروبية واحدة هي هولندا. والاندونيسيون عاشوا عدة اجيال، خاضعين أو مخضعين للاستعمار الهولندي . وعندما أخذوا يثورون على الاستعمار، كانوا يثورون على الدولة الواحدة، ثورة موحدة.

وعندما تتوجت ثوراتهم هذه على الدولة المستعمرة المذكورة، كان من الطبيعي أن تتولد منها دولة وطنية واحدة.

وبتعبير آخر: ان الثورة الاندونيسية انتزعت الحكم والسلطان، مرة واحدة، من دولة مستعمرة واحدة، ولذلك كوّنت دولة أندونيسية واحدة.

وأما البلاد العربية، فقد نكبت باستعمار دول أوروبية عديدة : فرنسا وانكلترا، في الدرجة الاولى، وايطاليا واسبانيا في الدرجة الثانية. وهذا الاستعمارأنشب مخالبه في مختلف أجزاء البلاد العربية، في أزمنة مختلفة، وفي ظروف متباينة، وبأشكال متنوعة.

وكانت هذه الأشكال متنوعة جداً : من الاستعمار المباشر والسافر، والاستعمار المقنع بقناع الحماية الرسمية، أو الاحتلال الموقت، إلى الانتداب والوصاية، المقترنة بقرارات عصبة الامم المتحدة. وصار كل جزء من أجزاء البلاد العربية يكافح الاستعمار المسلّط عليه ، بوسائطه الخاصة، في أوقات مختلفة تبعاً للفرص المتاحة له، ضمن شكل الإستعمار المفروض عليه.

وأدّت ثورة كل جزء من أجزاء البلاد العربية إلى تكوين حكومة وطنية، تتمتع باستقلال جزئي، مقيد بقيود عديدة، مقترنة باحتلال عسكري فعلي.

وصارت هذه الحكومات الوطنية تتدرج من الاستقلال الجزئي المقيد، إلى الاستقلال التام الناجز، بوسائطها الخاصة، وبفضل جهود أهاليها، ومستفيدة من الفرص المؤاتية لها... وكل ذلك في أوقات مختلفة، معظمها متباعدة.

ولذلك كله تكونت في البلاد العربية، دول عديدة...

هذا هو السبب الأصلي في انقسام البلاد العربية إلى دول عديدة، خلافاً لما حدث في اندونيسيا.

دوافع الإقليمية عدل

بعد أن تبينا أسباب تعدد الدول العربية ، يجدر بنا أن نتساءل : لماذا لم تتوحدهذه الدول العربية، بعد تكونها؟ ولا سيما بعد تحريرها من السيطرة الأجنبية تحريراً تاماً ، وبعد استقلالها استقلالاً ناجزاً ؟

إن أسباب ذلك جلية واضحة، لا يمكن أن تكون مدار جدل أو خلاف :

إن كل دولة من الدول العربية التي تكوّنت ثم استقلت في أوقات وظروف متباينة- كما أسلفنا- صارت مركزاً ،- بل بؤرة لوطنية خاصة بها، وأخذت تستقطب ولاء الأهلين لها. ولذلك تولد في كل واحدة منها " نوازع المحافظة على الكيان السياسي القائم ". وما نسميه اليوم باسم " الاقليمية " ما هو إلا " مجموع هذه النوازع " التي تعمل في اتجاه يخالف مقتضيات الوحدة العربية، وتعرقل إنطلاقها.

ويتبين من ذلك: ان الاقليمية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالدولة، فتكون " نتيجة طبيعية " لتعدد الدول العربية.

أقول نتيجة طبيعية، لأن الحياة السياسية الداخلية والخارجية في الدول القائمة، تغذي " بطبيعتها " النوازع الاقليمية.

لأن لكل دولة من الدول القائمة معالم خاصة، مشهودة وملموسة، وسلطات فعلية تظهر وتثبت وجودها بشتى المناسبات. لكل دولة علم خاص بها، وشرطة خاصة، بملابس وشارات خاصة، وجيش خاص، ونشيد رسمي خاص، وأوراق هوية وجوازات سفر وأوراق نقدية ونقود خاصة...


وبتعبير أقصر: ان لكل دولة من الدول العربية القائمة سلسلة من الامور الخاصة بها ، يراها كل فرد من أفرادها منذ نعومة أظفاره، ويألفها، ويرتبط بها نفسياً ، ويشعر من جرائها بأنه يختلف عن غيره من منتسبي الدول العربية الأخرى . وأما فكرة القومية العربية- عند تعدد الدول- فتكون محرومة من أمثال هذه المعالم المادية الملموسة. وتبقى في حالة نزعة معنوية، تجول في الخواطر وتختلج في الصدور، فلا تجد أية مساعدة من طبيعة الحياة الادارية والسياسية القائمة، بل قد تجد منها معارضة شديدة، وتصطدم على الدوام بالنوازع الاقليمية.

وفضلاً عن ذلك، فان هناك عوامل كثيرة تقوي وتنمي النزعات الاقليمية، على حساب الروح القومية.

لأن الدولة تسن القوانين، وتنظم الاقتصاد، وتتولى التربية والتعليم، وتوجه الثقافة والاذاعة... وتراقب الصحافة... ولذلك ينتج من تعدد الدول وإختلاف اتجاهاتها، الشيء الكثير من الفوارق الجديدة، من هذه الوجوه المختلفة، بين منتسبي الدول المذكورة.

هذا، ويتكوّن في كل دولة، طائفة من الزعماء والحكام والساسة... الذين ترتبط منافعهم ومطامعهم بالأوضاع السياسية القائمة، فينزعون إلى المحافظة على كيان الدولة، ولا يرضون بزوال الكيان، داخل دولة موحدة.

و في الأخير: ينضم إلى هذه العوامل الداخلية المتنوعة، عوامل خارجية عديدة، تعمل في نفس الاتجاه، وتقوي النوازع الاقليمية.

لأن الدول الطامعة بخيرات البلاد، ترى من مصلحتها أن يستمر التباعد والتخالف بين الدول العربية، بل أن يزداد ويتفاقم. ولذلك تبذل كل ما في وسعها من جهود لإثارة الروح الإقليمية في مختلف البلاد العربية، وتقتنص كل الفرص للعمل على تقويتها حتى تضمن مقاومتها ضد نوازع الوحدة العربية.

الخلاصة : ويتبين من كل ما تقدم :

ان الإقليمية وليدة تعدد الدول العربية.

وتعدد الدول العربية وليد الإستعمار.

فيجب على كل فرد عربي ان يكافح الاقليمية كما كان يكافح الاستعمار. يجب عليه أن يكافح الاقليمية، أولاً في خبايا نفسه، ثم بين بني قومه، بكل قواه .

فهذه الحقائق يجب أن ترسخ في الأذهان رسوخاً تاماً ، فلا تغيب عن البال أبداً !

الاستعمار الأوروبي الذي جثم طويلاً على صدور مختلف الأقطار العربية، قد خلّف، قبل أن يزول، كثيراً من البذور والآثار الضارة.

إن أخطر وأضر هذه البذور والآثار كان : تجزئة البلاد إلى دول ودويلات عديدة، وفصل بعضها عن بعض بحدود مصطنعة، وتوجيه كل منها إتجاهاً يختلف عن اتجاه غيرها... وبالنتيجة : تهيئة البيئة الصالحة لتنمية " الروح الاقليمية " في كل واحدة منها.

إني كنت عبرت عن هذه الحقيقة، في الكلمة التي صدرت بها كتابي " العروبة أولاً "، تحت عنوان: " ما أغربنا ! " سنة 1954. وأرى من المفيد أن أكررها الآن : ما أغربنا !

ما أغربنا !

اننا ثرنا على الانكليز، ثرنا على الفرنسيين... ثرنا على الذين استولوا على بلادنا، وحاولوا استعبادنا...

كررنا الثورات الحمراء عدة مرات، وواصلنا الثورات البيضاء عدة عقود من السنين...

وقاسينا في هذا السبيل ألواناً من العذاب، وتكبدنا أنواعاً من الخسائر، وضحينا كثيراً من الأرواح...

ولكنا:

عندما تحررنا من نير هؤلاء.. أخذنا نستقدس الحدود التي كانوا أقاموها في بلادنا، بعد أن قطعوا أوصالها...

ونسينا ان تلك الحدود، إنما كانت حدود " الحبس الانفرادي " و " الاقامة الجبرية " التي كانوا فرضوها علينا !


(دفاع عن العروبة- 1954).


جذور الإقليمية وبذورها عدل

إن عمليات " مكافحة النوازع الاقليمية " و " ترسيخ الايمان بوحدة الامة العربية " ليست من الامور البسيطة السهلة، بل من الامور المعقدة التي تحتاج إلى عمل متواصل، مقترن بالشيء الكثيرمن التبصر واليقظة.

ذلك لأن النوازع الاقليمية تشبه- إلى حد كبير- النباتات البرية التي تنمو وتنتشر بفعل الطبيعة: انها تغرز جذورها في التراب، وتنشر بذورها إلى مختلف الجهات.

ولهذا السبب، إن قطع وحصد ما هو ظاهر وقائم منها، لا يضمن القضاء عليها، بل ان التخلص منها يتوقف على اقتلاع جذورها واتلاف بذورها.

وكذلك الأمر في النوازع الاقليمية: فالقضاء عليها يتطلب اقتلاع جذورها من أعماق النفس، واتلاف بذورها. وإذا ما رأينا شخصاً اشترك معنا في استنكار الاقليمية، وقال معنا بوحدة الأمة العربية، لا يجوز لنا أن نستنتج من أقواله هذه، انه قد تخلص من النوازع الاقليمية تخلصاً تاماً ، لأن جذور الاقليمية قد تبقى كامنة في خبايا نفسه، وإذا ما ارتوت بماء المنفعة، انتعشت، ونمت، وظهرت إلى العيان.

ان أحداث الوحدة والإنفصال بين سوريا وبين مصر، أعطتنا أمثلة كثيرة وحية على ذلك ، كما سيتضح من الأبحاث التالية:

إني كنت حاولت إلفات الأنظار إلى أمثال هذه الأمور- بوجه عام- عندما شرحت في مقدمة كتابي " حول القومية العربية " التنازع الذي يقوم بين الفكرة الجديدة التي يكتسبها المرء، وبين بقايا الفكرة السابقة التي كان يعتقد بها قبلاً .

إذ قلت هناك :

"... ان الأفكار والمعلومات الجديدة، قد تكون مخالفة لما كان قد استقر في أذهاننا سابقاً. في هذه الحالة، انها تحتم علينا أن نطرح من أذهاننا ونستبعد من نطاق تفكيرنا، كل ما كان مخالفاً لها.

غير أن الأفكار والمعلومات السابقة التي ذكرناها، كثيراً ما تكون قد ولّدت في أذهاننا فروعاً ونتائج كثيرة. إن رسوخ الأفكار الجديدة في نفوسنا تمام الرسوخ، في هذه الحالة، لا يكتفي بطرح واستبعاد ما كان مخالفاً لها مخالفة صريحة فحسب، بل يتطلب استبعاد كل ما كان ناتجاً عن الأفكار السابقة أيضاً .

ولكن نتائج الفكرة القديمة وفروعها المتأصلة في أذهاننا قد لا تبدو جلية الارتباط معها وظاهرة التناقض مع الفكرة الجديدة.

ولهذا السبب، كثيراً ما نجد الأفكار الجديدة تعيش في أذهان البعض مع فروع الأفكار المناقضة لها، لعدم تعمقهم في بحث النتائج واستقصاء المستلزمات ".

وبعد ذكر بعض الأمثلة لتوضيح هذه الحقيقة بالنسبة إلى الفكرة القومية، نقلت البحث إلى " المبادىء " فقلت :

" ولكني أود أن يلاحظ أن الامور التي ذكرتها آنفاً تكتسب خطورة خاصة في بعض الأحوال، ذلك عندما تكون الفكرة الجديدة من نوع " المبادىء الأساسية ".

" من المعلوم أن كل " مبدأ " يتطلب توجيه التفكير اتجاهاً خاصاً، ولذلك يكون كثير المستلزمات.

فان المبدأ الجديد لا يكتفي بطرح واستبعاد الآراء والمعلومات المنافية له، حتى ولا بطرح واستبعاد كل ما كان لتلك الآراء والمعلومات من فروع ونتائج .. بل يستلزم- فضلاً عن ذلك كله- النظر إلى الأمور بنظرات جديدة . وذلك يقتضي - بطبيعة الحال- إعادة النظر في سلّم " القيم " التي كانت استقرت في الأذهان واستقرت في النفوس ".

" ان مبدأ " العروبة "- وبتعبير أدق : مبدأ " العروبة أولاً " من أبرز الأمثلة على ذلك: " إن إعتناق هذا المبدأ يتطلب منا أموراً كثيرة ، أولاً : التحرر من جميع الآراء والنزعات التي تخالف المبدأ المذكور، ثم تقييم الأمور تقييما جديدا، ينتهي بنا إلى تكوين " سلّم قيم " جديد، يختلف عما كنا ألفناه سابقاً ".

ولذلك كله أقول : يترتب على كل من يؤمن بقوميته أن يكمل ويوسع معلوماته عن الأمة العربية، ويعمق ويرسخ أبحاثه بوحدتها.. وفقاً للأسس التي شرحناها آنفاً . "

ان أحداث " الوحدة والإنفصال " بين سوريا وبين مصر، تستلزم بحث الأمور في ضوء هذه الحقائق .

ميول الموظفين عدل

إن طائفة الموظفين تكون- بوجه عام- أشد ارتباطاً بالدولة القائمة، ولذلك تكون مرتعاً خصباً لنوازع الاقليمية.

لأن الموظف يعتاش بالراتب الذي يتقاضاه من صندوق الدولة، كما أنه يأمل أن يترفع في درجات الرواتب ضمن النظام المألوف، في إطار حاجات الدولة وممكناتها. ولهذا السبب يتهيب من تغير الأوضاع القائمة، فيكون أميل إلى إعتبار الدولة أساس الوطنية ، وينزع إلى ترويج مبدأ " المحافظة على كيان الدولة ".

إنى كنت لاحظت عمل نفسية الموظفين في قضايا الوطنية والاقليمية، في العراق منذ السنوات الأولى لقيام الحكم الوطني .

إن ظروف العراق في عهد الدولة العثمانية كانت جعلت عدد حملة الشهادات العالية محدوداً جداً. وعندما غادر البلاد مدرسو المدارس الثانوية الذين كانوا من الاتراك ، صار طائفة من معلمي المدارس الابتدائية يتولون مهام التدريس في المدارس الثانوية . وهذا فتح أمام أمثالهم آمال التقدم في وظائف التعليم الثانوي وفي الإدارة والتفتيش . ولكن، عندما تقرر اشتراط الحيازة على شهادة دراسة عالية لتولي التدريس في المدارس الثانوية واستقدام المدرسين الذين تحتاج إليهم المدارس المذكورة من سائر البلاد العربية، جاء ذلك بمثابة ضربة لآمال هؤلاء، فصاروا يعتبرون المدرسين الذين يأتون من خارج العراق " دخلاء " على البلاد، ويتوسلون بشتى وسائل الدعاية على هؤلاء وعلى إدارة المعارف التي استقدمتهم . ثم حاولوا أن يعززوا دعاياتهم هذه باستقالات جماعية.

إني لا أرى لزوماً لتفصيل الوقائع المذكورة في هذا المقام . غير اني أرى من الضروري أن أشير إلى ان كل ذلك كان يحدث في الوقت الذي كانت حدود المملكة العراقية غير مقررة بصورة نهائية.

وكنت قد أشرت إلى ذلك في الكتاب الذي وجهته إلى أحد كبار موظفي التعليم الذي كان استقال بدوره احتجاجاً على أمر " الدخلاء ".

قلت في الكتاب المذكور- وكان مؤ رخاً بتاريخ 22 أيلول/ سبتمبر سنة 1922:

إني لعاجز عن فهم معنى الوطنية التي تعتبر السوريين والمصريين دخلاء.

وأشرت إلى الحركة التي كانت قامت في جنوب العراق بغية فصل البصرة عن المملكة العراقية ، ثم سألت :

لو نجحت تلك الحركات، وانفصلت البصرة عن العراق، هل كنتم تعتبرون أهالي البصرة أيضاً دخلاء؟

وبعد ذلك أشرت إلى شمال العراق، وذكرت محاولة الفرنسيين إدخال الموصل في نطاق حكمهم الانتدابي، ومطالبات الأتراك الذين كانوا لا يزالون يقولون بوجوب ضم الموصل إلى تركيا، وسألت:

لو تحققت تلك المحاولات ونجحت تلك المطالبات، هل كنتم تدخلون الموصلاويين أيضاً في عداد الدخلاء؟

وفي الأخير، أنهيت كتابي بالعبارات التالية :

إني أخشى من شرور هذا النوع من الوطنية الكاذبة على الأمة العربية عامة وعلى البلاد العراقية خاصة، ألف مرة أكثر مما اخشى عليها، من مدرعات الانكليز ومفرقعاتهم، أو من طيارات الفرنساويين ورشاشاتهم .

إن نغمات " الدخلاء " ظلت ترن في الآذان مدة غير قصيرة.

حتى انه، عندما صارت فكرة العروبة تنتشر في المدارس، وقف أحد المدرسين يعلن :

إن فكرة الوحدة العربية، دسيسة اختلقها السوريون ليتنعموا بخيرات العراق .

ولكن عندما تقوت الفكرة وانتشرت أكثر من ذلك، لم يعد يجرؤ المعارضون أن يحاربوها مباشرة، وصاروا يقولون:

( نحن نحبذ الوحدة، ولكننا نريدها دون توظف).

وصار بعد ذلك تعبير : الوحدة دون توظف من الشعارات التي راجت مدة من الزمن، ولا سيما بين سنة 1930 وسنة 1935 .

إن شعار " الوحدة دون توظف "، يعطينا مثالاً بارزاً على الاقليمية التي تتقنع بقناع الوحدة . كما انه يظهر- في الوقت نفسه- الدور الذي تلعبه منافع الموظفين في أمر الاقليمية والوحدوية، بكل وضوح وجلاء.

إن حسابات الموظفين النفعية، إذا كانت قد ظهرت إلى العيان في الظروف التي ذكرتها آنفاً في العراق، فانها لم تخل من التأثير في قضايا الاتحاد والانفصال في سوريا لسنوات أيضاً في السنوات الأخيرة.

أسعد الأمم وأشقى الأمم عدل

ما أسعد الامم التي حققت وحدتها القومية وما أشقى الامم التي ظلت بعيدة عن تحقيق وحدتها القومية

ما أسعد الأمم التي حققت وحدتها القومية، واستكملت شخصيتها السياسية، فاستطاعت أن تجعل حدودها الدولية منطبقة على حدودها القومية !

ذلك لأن مفهوم الوطن عند أمثال هذه الأمم يكون واضح المعالم ومستقر الشكل: الأمة تكوّن دولة مستقلة موحدة، فتتعين حدود الوطن عندها بحدود الدولة القائمة التي تجمع شمل الأمة بأجمعها تحت راية واحدة.

ولذلك، لا تكون الوطنية عند هذه الأمم موضع خلاف ومثار جدل. وجميع أفراد الأمة يفهمون الوطن على طراز واحد، ولا يختلفون في تقرير واجباتهم الأساسية نحو هذا الوطن المشترك العام.

ولكن ما أتعس الأمم التي ظلت بعيدة عن تحقيق وحدتها القومية، واستكمال شخصيتها السياسية، فلم تستطع أن تجعل حدودها الدولية منطبقة على حدودها القومية !

إن مفهوم الوطن عند هذه الأمم لا يكون واضح المعالم ومستقر الشكل، لأن تعدد الدول المسيطرة على شؤون الأمة يجعل مفهوم الوطن معقداً ومشوشاً في الأذهان .

ذلك لأن الوطنية عند تلك الأمم تتصل بمفاهيم عديدة : فيكون هناك " الوطن الخاص " الذي يتحدد بحدود كل دولة من الدول القائمة.. و " الوطن العام " الذي يشمل جميع الاراضي التي تسكنها شعوب الأمة على اختلاف دولها وأوضاعها السياسية.. و " الوطن الفعلي " الذي تعترف به الدول، و " الوطن المثالي " الذي تنشده نفوس المواطنين، وتتوق إلى رؤيته مظللاً براية مشتركة في المستقبل القريب أو البعيد ..

وبتعبير أقصر، يكون هناك " الوطن الراهن " و " الوطن المنشود ".. " الوطن الدولي " و " الوطن القومي ".

ولا حاجة إلى البيان : ان كل واحد من هذين المفهومين يحتم على المواطنين واجبات خاصة، من نوع خاص.

ولكن عقول جميع الناس لا يمكن أن تستوعب هذين المفهومين المتداخلين بسهولة. لأن أنظار الجميع لا تمتد إلى ما وراء الحدود القائمة على وتيرة واحدة، ولا تتطلع إلى المستقبل القريب أو البعيد بنظرات متشابهة. كما أن عقول جميع المواطنين لا تستطيع أن تؤلف بين مقتضيات هذين المفهومين تأليفاً منطقياً عملياً .

ولهذه الأسباب كلها، تكون الوطنية موضع خلاف ومثار جدل بين المواطنين .

فينقسم الناس إلى فريقين، إزاء قضايا الوطن والوطنية الاساسية : فريق الاقليميين وفريق القوميين.

فريق الذين يقصرون أنظارهم داخل حدود الدولة التي ينتسبون اليها، من غير أن يفكروا بما وراءها، فيعتبرون كل ما بقي خارج تلك الحدود أجنبياً .

وفريق الذين لا يرضون بالانحباس داخل هذه الحدود، بل يتطلعون إلى الحدود القومية التي تمتد إلى ما وراءها..

فريق الذين يكتفون بالوطن المعترف به دولياً .. وفريق الذين يرسلون أبصارهم إلى ما وراء ذلك، ويتوجهون بعقولهم وقلوبهم إلى الوطن المثالي ، الذي يجب أن يجمع جميع شعوب الامة تحت راية واحدة .

" فريق الاقليميين " الذين ينكرون وحدة الامة، ويقولون بتعددها تبعاً لتعدد دولها ، و " فريق القوميين " الذين يعتقدون بوحدة الأمة ، على الرغم من تعدد الدول .

إن اختلاف النظر بين هذين الفريقين يؤدي إلى اختلاف النزعات بطبيعة الحال، وهذا الاختلاف يكتسب شكلاً حاداً في بعض الأحيان.

يتهم الاقليميون معارضيهم بالتقصير في واجباتهم نحو الدولة القائمة، في حين أن القوميين يتهمون هؤلاء بعدم إدراك واجباتهم نحو الأمة.

يدّعي الإقليميون أن القوميين يسيرون وراء الأوهام والخيالات، في حين أن القوميين يقولون عن هؤلاء انهم لا يدركون سمو معاني الأمة والوطن فيتمسحون بأذيال الأحوال الحاضرة والأوضاع الراهنة.

ومن الطبيعي ان الدول الاجنبية التي تطمع في تلك البلاد، تجد في هذه الاوضاع والاختلافات مجالاً واسعاً للقيام بالدسائس والدعايات التي تضمن لها مصالحها الخاصة، وتعمل لاذكاء نيران الخلاف بتقوية الاقليمية بشتى الوسائل والاساليب، لتحول دون اتحاد الامة لتكوين دولة قوية.

هذا، والنفعيون من أهل البلاد أيضاً ، لا يتأخرون عن إستغلال هذه الاوضاع : فيسعى قسم منهم لتقوية الاقليمية، تارة للاحتفاظ بالمنافع التي اكتسبها، وطوراً للحصول على منافع جديدة وتحقيق أطماع كبيرة.

ويتخذ قسم منهم النزعة القومية مطية للوصول إلى أهداف شخصية، ويسيء إلى سمعة الفكرة السامية التي يستغلها بهذه الصورة لغاياته النفعية.

ويظهر بين النفعيين فريق آخر، يستفيد من هذه الاوضاع للتحلل من واجباته الوطنية والقومية، ولازدراء النزعات القومية والوطنية على حد سواء.

وتتضافر هذه العوامل المتنوعة والمتضاربة كلها... على زيادة البلبلة في الافكار والنزعات، وإشاعة الفوضى في البلاد واضرام نيران التفرقة بين المواطنين.

ان الامة الالمانية قبل سنة 1870، والامة الايطالية قبل سنة 1860، كانت في هذه الحالة.

والامة العربية لا تزال في هذه الحالة.

كنت كتبت المقالة المدرجة أعلاه في 22 آذار 1951، ونشرتها في مقدمة كتابي " آراء وأحاديث في القومية العربية ".

أعيد نشرها ههنا، وأنا أشعر بمرارة الشقاء الذي أشرت إليه فيها، بشدة أعظم من ذي قبل، بسبب أحوالنا الحالية.


مسؤولية قادة حزب البعث في الانفصال عدل

[ إني كنت أبديت رأيي في هذا المضمار ، إلى مندوب مجلة الحوادث البيروتية بتاريخ 15/11/1961 . إن الحقائق التي انكشفت والوقائع التي توالت بعد ذلك أيدت الرأي المذكور تمام التأييد ولذلك رأيت أن أعيد نشره هنا ]

إن إيماني بمستقبل الامة العربية الزاهر ووحدتها المحتومة.. لم يتزلزل، على الرغم من النكسة الأليمة التي منيت بها أخيراً...

وأنا لا أشك في أن " تاريخ الوحدة العربية " سيحكم على ساسة سوريا الذين أيدوا الحركة الانفصالية بأشد الأحكام وأقساها، وأحكامه هذه ستكون بالغة الصرامة - بوجه خاص- على قادة حزب البعث الذين كانوا يتباهون بحمل ألوية الوحدة العربية ونشرها بين الناس...

وأما منطق البيان الذي أصدره البعض منهم- تبريراً لموقفهم هذا- فيشبه كل الشبه منطق من يقول : " هذا الوليد لا يزال غير سليم من العيوب، فلنقتله الآن، لكي نحييه بالشكل الذي نريده في مستقبل الأيام..."

وأعتقد أن شباب البعث- مثل سائر شباب العرب الواعي- لا يمكن أن يؤيد هذه المواقف الهدامة.


             بيروت، 15/10/1961

حول بيان القوتلي عدل

معلوم أن محطة الاذاعة في دمشق أخذت تذيع- بعد خيانة 28 ايلول 1961- سلسلة بيانات صادرة عن لفيف من رجال السياسة، وأساتذة الجامعة، ومحرري الصحف وعلماء الدين، تبريراً لحركة الانفصال.

إن أحد البيانات المذكورة تضمن الكلمة الصريحة التالية :

من المحقق المؤكد أن النظام الذي يجوز تطبيقه في مصر، لا يمكن ولا يجدي تطبيقه في سوريا لاختلاف البيئات جغرافياً، وبشرياً ، وإجتماعياً .

لاشك في ان كل مفكر ينعم النظر في مضامين هذه الكلمة لا يتردد في الجزم بأنها يجب ان تكون صادرة من لسان- ومن قلم- رجل كان معارضاً لقيام الوحدة بين مصر وسوريا من أساسها.

ولكن الحقيقة غيرذلك تماماً : فان هذه الكلمة قد صدرت من لسان رجل كان يعتبر من كبار العاملين للوحدة المذكورة!

انها صدرت عن لسان شكري القوتلي الذي تولى تعميد تلك الوحدة يوم كان رئيساً للجمهورية السورية، فصار يلقب لذلك بلقب " المواطن العربي الأول " في الجمهورية العربية المتحدة الجديدة!

نعم ، انها من بيان أذاعه شكري القوتلي من محطة الاذاعة في دمشق مساء يوم 21/10/1961، ونشرته الصحف الصادرة في اليوم التالي!

إن المواطن العربي الأول شكري القوتلي، هو الذي أذاع هذه الكلمة، وزعم - بصيغة التأكيد، ودون أي قيد وتحديد-: " ان النظام الدي يجوز تطبيقه في مصر، لا يمكن ولا يجدي تطبيقه في سوريا، لاختلاف البيئات جغرافياً و بشرياً وإجتماعياً "

وطبيعي، أن أول ما يتبادر إلى الأذهان، أمام هذا الزعم ، السؤال التالي :

" إذا كان هذا ما يعتقده شكري القوتلي، فكيف ولماذا طلب الوحدة بين مصر وسوريا، وساهم في تحقيقها؟".

ولكي لن أتوقف عند هذا السؤال- على الرغم من وجاهته وخطورته- بل سأتركه جانباً، وسأناقش الكلمة المنقولة آنفاً، بقطع النظر عن قائلها.

إختلاف البيئات جغرافياً وبشرياً وإجتماعياً، هل يستلزم إختلاف النظم، بوجه عام؟ ألا تضم كل دولة- لها شيء من الإتساع- بيئات متنوعة، يختلف بعضها عن بعض من الوجوه الجغرافية والبشرية والإجتماعية؟ وفي داخل حدود الجمهورية السورية نفسها : ألا توجد بيئات متنوعة عديدة، يختلف بعضها عن بعض إختلافاً كبيراً من هذه الوجوه؟ مثلاً ، أفلا تختلف " البيئات " بين محافظة اللاذقية وبين محافظة دير الزور، جغرافياً وإجتماعياً ؟ اللاذقية التي تمتد بين البحر وبين الجبال المكسوة بالغابات، ألا تختلف " جغرافياً " عن دير الزور البعيدة عن البحر والمحرومة من الجبال؟ فضلاً عن ذلك، أفلا تختلف البيئتان المذكورتان " بشرياً وإجتماعياً " أيضاً ، لإختلافهما من حيث الحياة المدنية والعشائرية، والأحوال الدينية والمذهبية؟

أفلا يوجد إختلافات مماثلة بين جبل الدروز وبين حلب، وبين حوران وبين الجزيرة أيضاً ؟

وهذه الإختلافات، هل حالت دون خضوع جميع هذه المحافظات لنظام واحد؟

وأفلا يتبين من كل ذلك أن ما جاء في الكلمة التي نقلناها آنفاً لا يدل على تفكير علمي سليم ، في ميدان السياسة بوجه عام ، وفي ميدان السياسة القومية بوجه خاص؟

ولكن في هذه القضية ناحية هامة أخرى، لا بد من إلفات الأنظار إليها :

إن الفرنسيين عندما إحتلوا سوريا وفرضوا إنتدابهم عليها، قسموها إلى دويلات حلب، ودمشق، وجبل الدروز، وبلاد العلويين. وذلك بعد أن فصلوا عنها سنجق الاسكندرون والأقضية الأربعة، وحاولوا أن يبرروا عملهم هذا بملاحظات تشبه إلى حد بعيد ملاحظة شكري القوتلي التي نقلناها وناقشناها آنفاً .

وكان من مفاخر حلب- في التاريخ الحديث- أنها لم تلتفت إلى مغريات الاستقلال بدولة خاصة بها. وعندما أتاحت لها فرنسا فرصة إنتخاب مجلس تمثيلي – ظناً منها بأن المجلس المذكور لا بد أن يؤيد ويثبت الاستقلال الممنوح لها- لم تتردد في صدم آمال الفرنسيين في هذا المضمار، بتقرير إنهاء الاستقلال، والإنضمام إلى دمشق . ولذلك لم تعش دولة حلب إلا نحو خمس سنوات.

وبعد هذه التجربة، عدلت فرنسا عن سياسة إجراء إنتخابات لتثبيت كيان الدويلات التي خلقتها، وأبقت دولتي جبل الدروز وبلاد العلويين خارج نطاق الجمهورية السورية مدة تقرب من ربع قرن.

ولكن الحكومات السورية- على إختلاف ألوانها ومشاربها- لم تنقطع عن الاحتجاج على هذه الأوضاع، وظلت تطالب بإلحاق تلك البلاد بها، إلى أن تم ذلك، في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

ومن مفاخر أهالي الجبلين المذكورين: انهم رضوا بهذا الإندماج- على الرغم من " إختلاف بيئاتهم " عن البيئات السورية الأخرى " جغرافياً وبشرياً وإجتماعياً " - دون أن يطلبوا أنظمة خاصة ببلادهم، وخضعوا للأنظمة السورية العامة.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المضمار: أن الكتلة الوطنية لعبت دوراً هاماً في هذه النتيجة. ومعلوم أن شكري القوتلي كان من أركان الكتلة المذكورة، وإن إدماج الدويلتين بالجمهورية السورية قد تم في عهد رئاسته الأولى لها.

ومما يملأ النفوس أسى ، انه نسي كل ذلك عندما أذاع بيانه الأخير، وتكلم عن إختلاف البيئات جغرافيا وبشرياً وإجتماعياً ، كما كان فعل الفرنسيون قبل نحو أربعين من الأعوام.

ولكن مآسي بيان شكري القوتلي لا تنحصر في الكلمة التي نقلتها وناقشتها آنفاً ، فإن في البيان المذكور أمراً هاماً آخر، لا بد من الإشارة إليه، والتأمل فيه :

يخاطب البيان قادة الانقلاب الانفصالي- مع الجماعات التي التفت حول هؤلاء- بالعبارات التالية :

أيها المواطنون الأعزاء، اخواني وأبنائي، بعد غياب يزيد على الشهرين [ كان في سويسرا ]، سمعت من البعيد بأنباء وثبتكم وإنتفاضة جيشكم الأمين، لأني أعرفكم معرفة رفقة لصيقة وسير على الطريق الطويل. وأعرف أنه لا يمكن مهما بلغت عظائم الأمور، ان تجتمعوا على باطل وان تجمعوا على ضلال.

أعتقد انه لا يمكن لأي قارىء أن يندهش من صدور هذه الكلمات التملقية من لسان شكري القوتلي، إذا ما تذكر أهم أحداث الماضي القريب في سوريا:

لأنه، قبل نحو أربعة عشر عاماً كانت قد قامت في دمشق حركة مماثلة لحركة 28 أيلول 1961، وهوت بشكري القوتلي من كرسي رئاسة الجمهورية وطردته من البلاد وفضلاً عن ذلك أخذت تلاحقه بشتى الإتهامات والإهانات.

ولا أدري، كيف انه لم يتذكر تلك الأحداث، عندما سمح لنفسه ان يكتب ويذيع هذه الكلمات، تملقاً لقادة الإنفصال.

ولا أدري ماذا يمكنه أن يقول، إذا ما ذكره أحدهم بتلك الأحداث وقال له: " قياساً على ما تقوله الآن، هل تعترف بأنك كنت تستحق تلك الإتهامات والإهانات، ما دام كان قد أجمع عليها جماعات مثل التي قامت بحركة 28 أيلول. وما دامت تقول الآن: انها لا تجتمع على باطل، ولا تجمع على ضلال... ".

ذيل

- 1-

في العدد الخامس والعشرين من مجلة بناء الوطن الصادر في تموز/ يوليو 1961، مقالة عنوانها " ثورة 23 يوليو " بقلم شكري القوتلي.

وقد جاء في المقالة- بعد الحديث عن الثورتين المصرية والسورية- العبارات التالية:

لقد انتصرت الثورتان والتقت الارادتان في تصميم ثورى واحد، وهدف قومي مشترك، جمعته الآمال والآلام ووحدة المصير، فكانت الجمهورية العربية المتحدة.

وبعد بعض التفاصيل، انتهت المقالة بالعبارات التالية:

ونحن، إذ نذكر ذلك كله، لواثقون بأن القائد الملهم جمال عبد الناصر، لمحقق ما يصبو إليه العرب من أمانٍ قومية في الوحدة الكاملة والسيادة الشاملة.

إن المدة التي مضت بين نشر هذه المقالة وبين إذاعة البيان الآنف الذكر، كانت نحو ثلاثة أشهر. وإذا افترضنا ان المقالة كتبت قبل نشرها بمدة شهر واحد، علمنا أن المدة التي مضت بين كتابة المقالة ونشر البيان كانت نحو أربعة أشهر، تقريباً .

فيجدر بنا أن نتساءل: ماذا حدث خلال هذه الأشهر الأربعة- حتى تحول- في نظر شكري القوتلي " القائد الملهم " إلى رئيس " حكم التعسف والارهاب ". ذلك الحكم الذي بات خلاله " المواطنون لا يأمنون على حياتهم بعد أرزاقهم "؟

وأظن أن معرفة ما جدّ خلال الأشهر المذكورة لا يحتاج إلى بحث طويل، فانه غير خاف على أحد من المتتبعين للأمور: " صدور قوانين التأميم "، وما نجم عن ذلك من " اختلال مصالح الرأسماليين ".

-2-

لقد نشر الكاتب الافرنسي المعروف " بنوا مشن " Benoist - Mechin في كتابه ربيع عربي Un Printemps Arabe الحديث الذي جرى بينه وبين الرئيس شكري القوتلي، إبان أعلان الوحدة بين سوريا وبين مصر.

كان الكاتب في حيرة شديدة من تتابع الاحداث. كان يعجز عن تعليل ما يشاهده من اندفاع الجماهير- على إختلاف طبقاتهم- نحو الوحدة مع مصر، وكان يقول: ان ما تكسبه مصر من هذه الوحدة ظاهر إلى العيان، ولكن ماذا تكسب سوريا منها؟ ويعترف بأنه يشق عليه- وهو الفرنسي- أن يفهم: كيف توافق سوريا على أن تخسر، في جملة واحدة: اسمها، جيشها، علمها، وسيادتها، فتتحول من " دولة مستقلة " إلى " ولاية ". ويتساءل: هل يمكن أن يتم كل ذلك، دون أن يحدث غصة في القلب؟

وعندما شرح هواجسه هذه إلى الرئيس شكري القوتلي قام الرجل من كرسيه، وأمسك يده وأوصله إلى الشباك المطل على الميدان، حيث كانت الجماهير تهدر بأهازيج الوحدة، وتسبح في بحر من الفرح والحبور وقال له:

- خذ الجواب على سؤالك من هذه الجماهير.

ثم أخذ يبين له حقيقة الاوضاع العربية فقال:

- إن الحدود الفاصلة بين الدول العربية الآن، ليست خطوطاً وحدوداً، بل هي : جروح ...

كما قال :

- خلال بضعة أيام، سأحول سلطاتي إلى جمال عبد الناصر، وهذا لن يكون" تنازلاً عن الرياسة " بل سيكون " تتويجاً لحياتي السياسية ".

إني كنت قرأت حديث شكري القوتلي في كتاب " بنوا مشن " بتقدير واعجاب.

غير اني.. عندما قرأت بيانه الآنف الذكر، لم أستطع أن أمنع نفسي عن التساؤل:

- انه كان اعتبر تسليم سلطات رئاسة الجمهورية السورية إلى جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة " تتويجاً لحياته السياسية ". ولكني لا أدري ماذا يجب أن يعتبر " البيان " الذي أصدره تأييداً للانفصال وتملقاً لرجال الانفصال؟


حول مشروع حزب البعث عدل

مشروع الوحدة الاتحادية الذي وضعته القيادة القومية لحزب البعث

- 1-

لقد وضع حزب البعث العربي الاشتراكي، في أوائل سنة 1962، مشروعاً لإعادة الوحدة بين سوريا وبين مصر، على أسس جديدة.

و قد نشر المشروع المذكور في نهاية البيان الذي أصدرته القيادة القومية للحزب، في أيار سنة 1962 .

وفيما يلي نص المشروع ، كما جاء في البيان المذكور:

" شكل الوحدة ومضمونها يجب أن يكون بدولة واحدة إتحادية، على الأسس التالية :

أولاً : دولة الوحدة هي دولة واحدة إتحادية، برئيس واحد، ونائب رئيس واحد، وحكومة اتحادية ، ومجلس نيابي ، ومجلس إتحادي، ومحكمة إتحادية، وإدارات ومؤسسات ومجالس ولجان إتحادية .

ان الشرط في الرئيس ونائب الرئيس أن لا يكونا من اقليم واحد ، وانتقاؤهما من الإقليمين يرمز إلى التكافؤ بين الاقليمين وإلى المشاركة في أمور الدولة الواحدة، وان الحكومة الاتحادية تختص بالشؤون الكبرى للدولة كوحدة ، بما في ذلك شؤون دفاعها وسياستها الخارجية وشؤونها الإقتصادية وسياسة التنمية والتخطيط .

ويكون الوزراء الاتحاديون من الاقليمين ، وتضمن مشاركتهم الفعلية وسلطتهم الكاملة في شؤون وزاراتهم ، ويستعينون بمجالس عليا في التربية والتعليم والدفاع والاقتصاد تضم اعضاء من الاقليمين .

أما الهيئة التشريعية فتتألف من مجلسين، مجلس نيابي ينتخب على أساس عدد السكان، ومجلس إتحادي ينتخب على أساس التساوي بين ممثلي الإقليمين. وكل تشريع يصدر عن المجلس النيابي، لا يقر إلا إذا وافق عليه المجلس الاتحادي . وبهذا يضمن عدم تسلط الإقليم الكبير على الإقليم الصغير ويتحقق تكافؤ الإقليمين بالدولة الواحدة، وتبت المحكمة الاتحادية في تفسير القوانين وفي النزاعات التي تحدث بين سلطات الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية، أو فيما بين الحكومات المحلية نفسها.

ثانياً : يحتفظ كل إقليم بسلطاته المحلية التي لا تتعارض مع السيادة السياسية لدولة الوحدة. ويتم ذلك بواسطة مجلس نيابي إقليمي وحكومة إقليمية مسؤولة أمام المجلس ومؤلفة من رئيس ووزراء أقليميين. وتدير السلطة التشريعية والتنفيذية الاقليميتان شؤون الاقليم المتعلقة بالتربية والتعليم والثقافة والصحة والبلدية والقروية والمواصلات داخل الاقليم وغير ذلك.

ثالثاً : ان الوحدة عملية بناء مستمرة، ويجب الانطلاق من واقع الفوارق الاقليمية، والسيربها تدريجياً نحو التنسيق فالتوحيد. ويترك للحكم الاقليمي حرية التشريع فيما يتعلق بالحريات العامة والتنظيم الشعبي والأوضاع الاقتصادية وغيرها على ضوء أحوال الاقليم الواقعية ، دون تجاهل ضرورة التنسيق والتوحيد وفق الأهداف القومية والاجتماعية والاقتصادية للدولة كلها ".


-2-

هذا هو المشروع الذي وضعه حزب البعث العربي الإشتراكي.

إن أول ما يلفت النظر في هذا المشروع، هو : إهتمامه بالفوارق الإقليمية، إنه يتكلم عن واقع " الفوارق الإقليمية " ويحتم العمل " على ضوء أحوال الإقليم الواقعية ".

وذلك يدل على انجراف حزب البعث العربي الإشتراكي بتيار " إقليمية صريحة".

هذه الإقليمية تطل برأسها منذ الفقرات الأولى من المشروع ، حيث يشترط في الرئيس ونائب الرئيس أن لا يكونا من إقليم واحد . وتظهر إلى الميدان بكل قوتها في الفقرات الأخيرة من المشروع، حيث يترك للحكم الإقليمي حرية التشريع فيما يتعلق بالحريات العامة والتنظيم الشعبي والأوضاع الإقتصادية.

هذا إتجاه جديد في بيانات حزب البعث، يخالف المبادىء الأساسية التي كان اعلنها، كما يتضح من التفاصيل التالية:

أولأ: إن الفقرة الثانية من المبدأ الأول من دستور حزب البعث العربي تنص على مايلي :

" الأمة العربية وحدة ثقافية، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية وزائفة، تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي ".

ويتبين من ذلك : أن الحزب كان يعتبر الفوارق القائمة بين أبناء الأمة العربية عرضية وزائفة. ولكنه في مشروعه الأخير يعطي لتلك الفوارق العرضية والزائفة مكانة خاصة في بناء الوحدة الإتحادية.

ثم، ان المادة الخامسة عشرة من " المبادىء العامة " المسطورة في دستور الحزب تنص على مايلي :

" الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدول العربية التي تكفل الإنسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة. وتكافح العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والاقليمية ".

ويتبين من ذلك : أن المبادىء العامة المقررة في دستور الحزب تستوجب مكافحة العصبيات الإقليمية. ولكن المشروع يراعي الإقليمية كل المراعاة، حتى انه يزودها بوسائل التقوّي والنماء، لانه يترك للحكم الإقليمي " حرية التشريع فيما يتعلق بالحريات العامة والتنظيم الشعبي... " وغني عن البيان أن ذلك يفسح المجال لتقوية الروابط الإقليمية على حساب الرابطة القومية.

لأن- نظراً لحرية التشريع الممنوحة للحكم الإقليمي في هذه الميادين- من الممكن، مثلا، أن يقرر أحد الإقليمين حرية الصحافة بأوسع وأتم معانيها، في الوقت الذي قد يقيد الإقليم الآخر الصحافة بأشد القيود وأقساها.

وكذلك، من الممكن أن يقرر أحد الإقليمين منع تكوين الأحزاب السياسية منعاً باتاً ! في الوقت الذي قد يقرر الإقليم الآخر مبدأ الحرية التامة في تكوين الأحزاب.

وبديهي أن كل ذلك يفسح المجال لزيادة الفوارق بين الإقليمين، مع توسيعها وتعميمها وتقويتها، وبالتالي يؤدي إلى أضعاف عمل الرابطة القومية التي يجب أن تكون العامل الأساسي في بناء دولة الوحدة.

قد يقال- رداً على هذه الملاحظات: ولكن المشروع يقيد الحرية المذكورة ببعض القيود : " دون تجاهل ضرورة التنسيق والتوحيد، وفق الأهداف القومية والإجتماعية والاقتصادية للدولة كلها ".

و لكن هذا القيد مطاط وغيرمحدد المعالم . فلا يمكن أن يؤثر في سير الأمور، تجاه الصراحة التامة الواردة في أمر " حرية التشريع فيما يتعلق بالحريات العامة والتنظيم الشعبي... "

وأوضح دليل على ذلك أن القيادة القومية لحزب البعث العربي الإشتراكي نفسها تجاهلت القيد المذكور تماماً، عندما قررت المشروع . لأن عدم " تجاهل ضرورة التنسيق والتوحيد " يستلزم- أول ما يستلزم- عدم ترك حرية التشريع في أمثال هذه الأمور الأساسية إلى الحكم الإقليمي.

ولذلك أكرر ما قلته آنفاً بكل تأكيد: ان حزب البعث، عندما قدم المشروع الذي نتكلم عنه الآن، قد خالف مبادئه الأساسية وتنكر لعقائده الأصلية.

قد يخطر ببال أحد البعثيين أن يقول لي : إنك تسيء تفسير المبادىء المدونة في دستور الحزب. ولذلك تخطيء في حكمك عليه.

ولكني أعتقد أن المبادىء التي نقلتها آنفاً صريحة كل الصراحة، فلا تترك أي مجال لسوءالفهم أو لسوء التفسير.

ومع ذلك، أرى أن أستشهد بكتابات ميشال عفلق أيضاً ، لإزالة الشكوك التي قد تساور أذهان البعض، بناء على أمثال هذه الملاحظات.

ومعلوم أن المشار إليه عميد الحزب وأمينه العام، كما انه مؤسسه الأول مع صلاح الدين البيطار. فلا بد من اعتبار كتاباته بمثابة " الشروح " لمبادىء الحزب المذكور. وقد تكلم ميشال عفلق عن " الفروق " بين الأقطار العربية، في مقالته عن " وحدة النضال في المغرب العربي " المنشورة في كتابه " في سبيل البعث " وأوضح فيها رأيه- ورأي حزبه- في هذه الفروق، بشيء من التفصيل.

وقد قال، فيما قاله، في المقالة المذكورة:

" أما إذا فهمنا من الفروق أكثر مما تمثل هذه الكلمة، وأغرقنا وبالغنا في إعطاء الأهمية للفروق، عندها سنجد فرقاً بين مدن سورية وعندها يتعذر كل عمل. إذا رضينا أن نسترسل في طريق التفريق والتمييز واعطاء الأهمية للفروق فإن ضمن القطر الواحد ثمة فروقاً بين منطقة وأخرى، وهذا في عرف العمل السياسي والعمل القومي غير جائز مطلقاً : الاسترسال في التمييز.


إذن في مفهوم العمل السياسي والقومي كلمة " فروق " لها حدود لا يجوز أن نتجاوزها، ولها مستوى لا يجوز أن تهبط عنه. فإذا قيل مثلاً أن ثمة فروقاً بين اليمن و بين باقي الأقطار العربية، لأن اليمن معزولة منذ قرون، و في حالة إجتماعية متخلفة جداً ، بقيت على حياة القرون الوسطى الموغلة في القديم . وإذا قيل بان ثمة فرقاً تحسن مراعاته بين المملكة العربية السعودية و بين الأقطار العربية الأخرى فأيضاً يمكن أن نسلم نوعاً ما بهذا الفرق. لأنه لم يوجد بعد في المملكة العربية السعودية ما يسمى رأياً عاماً ، ما يسمى شعباً ومواطنين.. فالوضع بدوي عشائري، مغلق، معدوم الثقافة، معدوم النور وحرية الرأي . ولكن لا يجوز مطلقاً أن نذهب لأبعد من ذلك. عندها نكون عملياً كأننا نخضع لمنطق الاستعمار نفسه، الاستعمار الذي يتذرع بفروق ثانوية مصطنعة ليمنع توحيد الأمة وليمنع توحيد نضالها ضده : أو انه هو يخلق هذه الفروق " [ ميشال عفلق ، " وحدة النضال في المغرب العربي " ، في سبيل البعث ( دمشق : دار الطليعة ، 1959 ) ، ص 244 – 245 ] .

يتبين من ذلك ان ميشال عفلق يحدد الأحوال التي يجوز فيها مراعاة " الفروق "، فيقول : يجوز ان نراعي الفروق بين اليمن وبين باقي البلاد العربية، كما يجوز ان نراعي الفروق بين المملكة السعودية وبين باقي البلاد العربية ولكن لا يجوز مطلقاً ان نذهب إلى أبعد من ذلك.

فيجدر بنا ان نتساءل: ألم يذهب حزب البعث إلى أبعد من ذلك كثيراً- وكثيراً جداً- عندما جعل مراعاة الفوارق الإقليمية بين مصر وبين سوريا أس الأساس في بناء الوحدة الإتحادية التي إقترحها، في بيانه المشهور؟

وقبل أن أختم هذا البحث، أرى أن ألفت الأنظار إلى ما قاله ميشال عفلق في مقالته عن " وحدة النضال ووحدة المصير ":

" فواقعنا المتأخر المتردي قائم على احدى الدعائم الكبرى للتأخر والتردي، ألا وهي التجزئة، يفكر بعقلية التجزئة ويعمل بدوافعها، حتى عندما يفكر بالوحدة ويعمل لها. وليس أشد الأفكار خطراً على الوحدة العربية هي الأفكار الإقليمية والشعوبية الصريحة المفضوحة، وإنما هي الأفكار التي يروجها دعاة الوحدة الرائجة، أي وحدويو التجزئة " [ المصدر نفسه ، ص 239 ] .

إني أوافق على ما قاله ميشال عفلق في هذا المضمار. غير إني أرى أن أقول في الوقت نفسه، واتماماً لقوله:

وهذا ما فعله حزب البعث العربي الإشتراكي، عندما قرر مشروعه الجديد في الوحدة الإتحادية: انه صار يفكر بعقلية التجزئة، ويعمل بدوافعها، ودخل بذلك في عداد " وحدويو التجزئة " الذين أشار إليهم الأمين العام للحزب ميشال عفلق...

نقاش مع أستاذ بعثي عدل

لقد التقيت في بيروت، خلال شهر نيسان/ ابريل 1963، باستاذ من زعماء حزب البعث العربي الإشتراكي في سوريا فرأيت أن أصارحه بما صرت أعتقده في الحزب ، فقلت له :

- إن الحزب قد خرج عن كونه حزباً عقائدياً ، يتمسك بالمبادىء، وينشر الايمان بوحدة الأمة العربية، وتحول إلى حزب سياسي عادي، يسعى إلى الحكم، ويضحي بمبادئه في سبيل الحكم.

وتوضيحاً لقولي هذا، أشرت إلى البيان الذي كانت أصدرته القيادة القومية للحزب ، ودعت فيه إلى تكوين وحدة إتحادية تستند إلى " واقع الفوارق الإقليمية "، حتى انها ضمنته أحكاماً تؤدي إلى تزييد الفوارق الإقليمية وتعميقها. وذلك في حين أن الحزب كان قام على أساس مكافحة تلك الفوارق، والسعي وراء إزالتها.. وفي هذا ما فيه من تنكر صريح لمبادىء الحزب الأساسية.

ولكن الاستاذ البعثي أراد أن يدفع هذه التهمة عن الحزب قائلاً :

- انهم فعلوا ذلك لكي يدخلوا العراق في الوحدة، فتكون الوحدة ثلاثية، لا ثنائية . وطبيعي ان هذا يعني توسيع نطاق الوحدة.

غير اني أجبته : هذا التأويل لا يتحمل- مع الأسف- البحث والتحليل، لأن :

أولاً : ان مشروع الوحدة الإتحادية التي أشرت إليها منشور في بيان صدر في أواسط شهر أيار من سنة 1962 يعني قبل ثورة العراق، بمدة تناهز الثمانية أشهر.

ثانياً : المشروع المذكور يتكلم عدة مرات عن الاتحاد بين إقليمي مصر وسوريا، ولا يذكر العراق، ولا يشير إلى الوحدة الثلاثية.

فلا مجال منطقي لتعليل التحول المذكور بثورة العراق.

وأرى انه يجدر بزعماء حزب البعث، أن يكونوا صريحين، فيقولوا: لقد أخطأنا عندما أهملنا " واقع الفوارق الإقليمية ". والآن غيرنا خطتنا. غير انه لا يجوز لهم أن يقولوا: نحن على خطتنا الأصلية سائرون.

ثم نقلت البحث إلى ناحية أخرى، فقلت: إن مخالفة الحزب لمبادئه الأصلية لا تنحصر بما صار يقوله عن " واقع الفوارق الإقليمية "، بل تتعدى ذلك إلى موقفه من " مبدأ الحرية " أيضاً .

انه- عندما تولى الحكم في سوريا- ترك هذا المبدأ جانباً، واسترسل في إغلاق الجرائد، وتعطيل المدارس، وفرض منع التجول في طول البلاد وعرضها.. وكان، من أول أعمال الحكومة البعثية: منع القواد السوريين- الذين كانوا يعيشون في القاهرة منذ بداية الإنفصال- من دخول البلاد، وإعادتهم إلى حيث كانوا. وغني عن البيان أن هذا العمل يخالف أوليات حقوق الانسان، وينافي مبدأ الحرية تمام المنافاة...

ولكن الأستاذ البعثي، أراد أن يدافع عن العمل الأخير، فقال:

- لماذا طاروا إلى دمشق، قبل أن يستأذنوا الحكومة؟ ان العراقيين الذين كانوا في القاهرة، لم يعودوا إلى بغداد إلا بعد صدور الأذن لعودتهم من حكومة الثورة العراقية. كان على القواد السوريين، ان يقتدوا بهؤلاء، فيستأذنوا الحكومة السورية، قبل أن يركبوا الطيارة.

وقد ظهر لي من كلام الأستاذ هذا انه يستند إلى معلومات ناقصة في هذه القضايا، فقلت له:

- إن العراقيين الذين انتظروا قرار الحكومة العراقية قبل ان يطيروا إلى بغداد، كانوا ممن سبق وصدرت عليهم أحكام بالاعدام . فكان من الطبيعي أن لا يعودوا إلى العراق قبل أن تصدر حكومة الثورة قراراً بإبطال تلك الأحكام.

والدليل على ذلك : كان في القاهرة عراقيون لاجئون، غير محكومين ولا مطلوبين للمحاكمة، إن هؤلاء رجعوا إلى العراق منذ الأيام الأولى للثورة، إنهم طاروا، دون أن ينتظروا صدور قرار أو اذن من الحكومة العراقية.

أما القواد السوريون الذين أرجعتهم الحكومة السورية فما كانوا محكومين، ولا مطلوبين للمحاكمة، فما كان أي موجب لينتظروا صدور قرار أو اذن بشأنهم.

إن حق كل فرد في أن يعيش في بلاده، يعتبر من أعرق حقوق الانسان، وأهم مستلزمات الحرية.

ولذلك قلت: إن هذا العمل ما كان يليق بحكومة تولت الحكم عقب ثورة قامت " لغسل عار الانفصال " كما يقولون. انه عمل يشبه " إدامة الانفصال "، وينم عن روح حزبية ذميمة، فضلاً عن انه يخالف مبدأ الحرية مخالفة صارخة، ذلك المبدأ الذي كان الحزب لا ينقطع عن اعلانه كل يوم وفي كل مناسبة.

ولكن الأستاذ البعثي، عندما شعر بقوة انتقاداتي هذه، أراد أن يدافع عن عمل الحزب المذكور، بحجة أخرى، فقال:

- ولكن هؤلاء كانوا من عوامل الخطأ والانحراف في عهد الوحدة...

وأجبته: إذا كان لدى الحكومة ما يبرر الحكم عليهم، فإنه كان يجب عليها أن تعتقلهم وتحاكمهم، لا أن تمنعهم من الدخول إلى بلادهم وتعيدهم إلى القاهرة، ليواصلوا العيش هناك كلاجئين سياسيين، كما كانوا يعيشون في عهد الإنفصال.

ولكنه كرر قوله بصيغة التأكيد: تأكد يا أستاذ، انهم كانوا أهم أسباب الإنحراف في عهد الوحدة. إنهم مسؤولون عن كل ما حدث.

قلت: أنا أتكلم عن المبادىء. ولا أعرف إذا كانوا مسؤولين أم لا. ولكني أقول مرة أخرى : إذا كانت الحكومة تعتقد بأنهم مسؤولون، فقد كان يجب عليها أن تعتقلهم وتعاقبهم ، بعد محاكمتهم .

هذا، والشيء الذي أعرفه حق المعرفة- ولا بد من انك تعرفه حق المعرفة- ان هؤلاء لم يشتركوا- على أي حال- في جريمة " تأييد الانفصال ". ولذلك أستغرب كل الاستغراب، بل استهجن كل الاستهجان، منعهم من دخول البلاد، من قبل حكومة يرأسها من كان اشترك في جريمة " تأييد الانفصال "، وتولى الحكم إثر ثورة قامت " لغسل جريمة الانفصال ".

بعد هذا النقاش الذي جرى حول قضية منع القواد السوريين من دخول البلاد، نقلت الحديث إلى قضية الصحافة وسألته:

- وما قولك في تعطيل الجرائد، وإلغاء إمتيازاتها، وعدم الترخيص بالصدور لغير جريدتين بعثيتين؟ إن حرية الصحافة من أهم مظاهر حرية الرأي. فهل يتفق هذا العمل مع مبدأ الحرية الذي ينادي به حزب البعث؟

قال: وهل يجوز أن تترك الصحافة حرة، دون أي قيد؟

قلت: طبيعي، ان حرية الصحافة يجب أن تقيد ببعض القيود، مثل كل أنواع الحرية. ولكن هذه القيود لا يجوز أن تعمل إلى حد حصر حق إصدار الصحف بحزب البعث وحده . إن الحزب كان يقول قبلاً " لا حرية لأعداء العروبة " وكان يجد لقوله هذا مؤيدين، بطبيعة الحال. ولكنه الآن صار يعمل ولسان حاله يقول: " لا حرية في ميدان الصحافة لغير البعثيين ". وفي هذا ما فيه من خروج صريح وتام على مبدأ الحرية بوجه عام، وحرية الصحافة بوجه خاص.

ولكن الاستاذ البعثي رد على قولي هذا، بنظرية أخرى، فقال:

- إن حزب البعث ظل يعمل ويناضل في سبيل العروبة منذ عشرين عاماً . واكتسب خبرة طويلة في هذا المضمار، فيحق له- بل يجب عليه- أن يوالي قيادة الرأي العام، لكي لا يترك مجالاً لتضليله.

قلت: إني أرى في هذا القول دليلا على غرور حزبي خطير. أنا لا أريد الآن أن أدخل في بحث حول خدمات الحزب السابقة، ولا في نوع الخبرة التي إكتسبها، لأني أرى أن ما يهم الآن هو ما يفعله الحزب الآن، وما سيفعله في مستقبل الأيام. إن الخدمات السابقة مهما تكن عظيمة، لا تستطيع أن تضمن للحزب عدم الإنحراف عن الطريق السوي ، ولا أن تحول دون إنحداره إلى وديان التردي والإنحطاط.

إن روح الحزبية الضيقة، من أخطر الآفات التي تتعرض إليها الجماعات. إنها تعمي الأبصار، وتحول دون رؤية الحقائق وتفسح مجالاً واسعا إلى الضلال. فعلى الأحزاب بوجه عام، وعلى الأحزاب التي تنزع إلى العقائدية بوجه خاص، ان تتجنب اغواءات الغرور، ومنزلقات الأنانية، وتكف عن النظر إلى أعمالها بنظارات وردية، وإلى أعمال غيرها بنظارات قاتمة سوداء. ومع الأسف، هذا ما يفعله الآن، قادة حزب البعث الذين تولوا الحكم في سوريا. إنهم يعملون بروح الحزبية العمياء، مستسلمين لدواعي الأنانية الحزبية.

ولكنه قال: إن الحزب بريء من كل ما تقول. انه لا ينقطع عن العمل بعقلية واعية ، وعيون يقظة، وفق مخططات مدروسة دراسة موضوعية. ومن أوضح الادلة على ذلك، انه استنكر خطط أكرم الحوراني وفصله.

وقلت له عندئذ: على ذكر قصة أكرم الحوراني، أعتقد أنه يجدر بكم أن تكونوا أكثر تبصراً في الأمور. إنكم تقولون عنه الآن، انه إنتهازي إقليمي، مناور، خائن. فهل تستطيعون أن تؤكدوا أنه لم يبق في الحزب من يشبهه من هذه الوجوه؟ ثم، هل يمكنكم أن تدعوا دون أن تخرجوا عن جادة المنطق والصواب- إن إنتهازات أكرم الحوراني وإقليميته لم تلعب دوراً هداماً خلال عهد الوحدة؟ وذلك في غفلة من سائر أركان الحزب، على أحسن الفروض؟

ولكن الاستاذ البعثي رد علي بسرعة وثورة، قائلاً :

- لا.. لا.. إنهم لم يكونوا غافلين.. إنه كان معروفاً لديهم بتلك الصفات، إنهم كانوا يعرفونه...

إن قوله هذا، أدهشني تماماً، فقلت له مندهشاً :

- تقول انهم كانوا يعرفونه! إذا صح ما تقول، وجب أن نحكم بأنهم كانوا أكثر من غافلين: كانوا مذنبين!

لو قلت لي أن أكرم الحوراني ما كان متصفاً بتلك الصفات قبلاً ، ولكنه تردى أخيراً ... أو قلت لي : انهم انخدعوا بمظاهره، فلم يكتشفوا حقيقته إلا أخيراً ... لو قلت أحد هذين القولين، لكنت قدمت لهم بعض الأعذار، وبعض الأعذار المخففة. ولكنك عندما تصرح بأنه كان معروفاً من قبل، وإنهم كانوا يعرفونه من قبل... تفتح باباً للتساؤل: لماذا إذن ظلوا يشتركون معه مدة لا تقل عن عشرة أعوام؟ يدخلون الوزارات بالاتفاق معه ويواصلون العمل معه، ويستقيلون معه، ويوقعون على وثيقة الانفصال معه؟ يفعلون كل ذلك، مع علمهم بأنه انتهازي، إقليمي، مناور! هل كانوا يريدون أن يستفيدوا من مناوراته ومداوراته؟ أم كانوا يقابلون مناوراته بمناورات أخرى، تضمن لهم منافعها، وتبعد عنهم شررها؟ هذا، إذا كان ما قلته الآن موافقاً للواقع. وأعترف بأن ذلك أدهشني تماماً . أدهشني إلى حد جعلني أشك في صحة ما تقول.

ولكن الأستاذ البعثي أكد صحة ما قاله في هذا المضمار، وأضاف إليه أمراً آخراً ، فقال :

نعم، أنا متأكد من انهم كانوا يعرفونه حتى انهم اطلعوا جمال عبد الناصر على ذلك.

وقوله هذا زادني استغراباً للأمر:

- تقول انهم اخبروا جمال عبد الناصر.. ذلك يعني : انهم قالوا له ان أكرم الحوراني انتهازي مداور، في الوقت الذي كانوا يعملون معه. وكانوا يظهرونه بمظهر الرئيس الرسمي للحزب! إذن جمال عبد الناصر كان محقاً تماماً ، عندما قال- بحيرة وألم- إن كل واحد منهم كان يتكلم على الآخر، ويطعن بالآخر.

ولكن الأستاذ البعثي واصل حديثه الدفاعي، وقال:

- نعم، انهم أخبروا جمال عبد الناصر. ولكن جمال عبد الناصر عندما عرف ذلك، صار يقرب جماعة أكرم الحوراني...

وسألته على الفور: من هم الأشخاص الذين قربهم جمال عبد الناصر، بسبب إنتسابهم إلى أكرم الحوراني. وبعدما عرف أن المومى إليه انتهازي مداور؟

أجاب الاستاذ عن سؤالي، بكل اطمئنان:

- هؤلاء القواد.. الذين أردت أنت، يا أستاذ، أن تدافع عنهم في بداية حديثنا هذا..

وأنا قلت عندئذ: من؟ القواد، أكرم ديري ورفاقه؟ تقول انهم من جماعة أكرم الحوراني! هؤلاء القواد الذين عارضوا حركة الانفصال من يومها الأول... وعاشوا في القاهرة كلاجئين سياسيين طول أيام الانفصال.. أكرم ديري ورفاقه، الذين وقفوا في مؤتمر شتورا، وفضحوا مزاعم خليل الكلاس وزملائه الذين كانوا يأتمرون بأوامر الحكومة الانفصالية! انك تدعي بأن هؤلاء كانوا من اتباع أكرم الحوراني؟!

وختمت حديثي قائلا: أنا كنت أعرف، وكنت أقول دائماً : ان الحزبية العمياء تحول دون رؤية الحقائق، ولذلك تشوش الأفكار وتضلل الأذهان:

واليوم وجدت نفسي أمام أمثلة جديدة، تبرهن على صحة ذلك برهنة قاطعة.


حول الوحدة والإتحاد عدل

رأيي المنشور في أخبار اليوم عدل

كانت " أخبار اليوم " قد سألت- في أواسط سنة 1954- " عدداً من ساسة العرب عن رأيهم في الوحدة "... " كيف تتحقق؟ وهل هم يؤيدون إعداد برنامج لإنشاء وحدة عربية في ظل إمبراطورية واحدة؟ أم يرون قيام ولايات متحدة عربية حرة ، تجمعها سياسة واحدة، وإقتصاديات واحدة، وتعاون دفاعي واحد؟ أم يرون أن تتحالف دولتان أوثلاث معاً " .

وأنا كنت ممن تلقوا تلك الأسئلة وأجابوا عليها [ نشر جوابي في حينه في : أخبار اليوم ، 5/6/1954 ].

أنقل فيما يلي الجواب المذكور، بنصوصه الكاملة:

اعتقد أن اتحاد الأقطار العربية، سيكون- ويجب أن يكون- على أساس " النظام الفيدرالي " .

لاشك في انه سيحدث " اندماج تام " بين بعض الأقطار، ولكني أعتقد أن ذلك لن يكون عاماً .

وأما " الامبراطورية ذات المركزية التامة "، فيجب أن تستبعد من الأذهان، لأن نظام المركزية الشديدة الذي ألفته الحكومات العربية القائمة الآن لا يتلاءم مع حاجات العصر الحديث، ولا يضمن مصالح الشعوب الحقيقية.

وانا اعتقد بوجوب تخليص الدول العربية من المركزية التي اعتادتها إلى الآن. فمن الطبيعي أن لا أحبذ تأسيس مثل هذه المركزية في الدول العربية العامة التي ستتكون من اتحاد هذه الدول في مستقبل الأيام.

إن الديمقراطية الصحيحة لا تقوم على الحياة البرلمانية وحدها، بل انها تستمد قوة من المجالس البلدية والمجالس المحلية أيضاً . وأعتقد أن عدم تقدم الحياة الديمقراطية الحقيقية في البلاد العربية يتأتى- في الدرجة الأولى- من حصر إهتمامنا بالانتخابات النيابية وحدها، وعدم تقديرنا لوجوب الاهتمام بالمجالس المحلية.

لأن الانتخابات لأمثال هذه المجالس- المحدودة النطاق والمحدودة الاهداف - تكون خير إعداد للانتخابات البرلمانية. والعمل في هذه المجالس يكون من أنجح الوسائل للتمرين على العمل في البرلمان.

  • * *

وأعتقد انه سيأتي يوم يقوم فيه برلمان عربي عام، فوق البرلمانات التي نشاهدها الآن ".

إن الآراء التي أبديتها في هذا الجواب لم تكن وليدة ساعتها، بل كانت مما أقول به منذ مدة غيرقصيرة، حتى انني كنت قد نشرتها في مناسبات عديدة [ انظر لساطع الحصري – أبو خلدون - : العروبة بين دعاتها ومعارضيها ( بيروت : دار العلم للملايين ، 1952 ) ص 35-37 ، وتقارير عن اصلاح التعليم في سوريا ( دمشق 1945 ) ] .

غير ان نشرها في أخبار اليوم لفت الأنظار إليها أكثر من ذي قبل. ومما زاد الاهتمام بها: انها كانت منشورة بين جواب علي علوبة وبين جواب عبد الرحمن عزام.

علي علوبة كان- في جوابه- يعارض فكرة الاتحاد بين الدول العربية، بأي شكل كان. ويرى وجوب بقاء الدول العربية على حالها، على أن تتعاون في بعض الميادين.

وأما عبد الرحمن عزام، فكان يشير إلى " الجامعة العربية " التي تأسست " منذ نحو عشر سنوات "، ثم يقول " قد آن الأوان أن يتطور التعاون إلى نوع من الاتحاد أوثق، وان لم يكن إتحاداً فدرالياً ، فأقرب ما يكون إلى ذلك ". ويصرح في الأخير بأنه لا يدعو إلى إتحاد إمبراطوري، ولكنه لا يقول " ان ذلك لن يحدث، أو يناسب العصر الحاضر ".

ان جوابي إلى أخبار اليوم صار موضوعاً لمحادثات ومناقشات جرت بيني وبين البعض من رجال الفكر والسياسة.

إني لا أرى لزوماً إلى تفصيل أو تلخيص تلك المحادثات في هذا المقام، غير أني أرى من الضروري أن أذكر إحداها، لأن تذكري لها هذه الأيام، هو الذي دفعني إلى كتابة هذه الأسطر، مع إعادة نشر ذلك الجواب:

أحد الاساتذة السوريين- وكان ممن أقدر فيهم سعة الثقافة وسلامة التفكير- قال لي ، عندما اطلع على جوابي في أخبار اليوم :

- أستاذ، كتابتك هذه ستخيب آمال الكثيرين من الشبان، لأن المعروف عنك - في أوساط الشبيبة- انك وحدوي تام..

وأما أنا فقلت له- جواباً على ملاحظته هذه:

- أظن انه لا يوجد فيما كتبته شيء يجوز اعتباره خروجاً على الوحدوية، لأني تكلمت عن اتحاد الأقطار العربية العام ، وصرحت بأنه سيحدث إندماج تام بين بعض الأقطار، غير ان ذلك لن يكون عاماً .

وذلك لأني أظن- مثلا- ان بلاد المغرب ستدخل- مع سائر البلاد العربية- في اتحاد فدرالي، دون أن تندمج بها إندماجاً تاماً .

وأوضحت له رأيي هذا بعض التوضيح، دون أن أحاول اقناعه تماماً، لأني قد شعرت في قرارة نفسي شيئاً من الارتياح المعنوي من حديثه هذا، ولأني علمت منه أن هناك من يطلب من الوحدة أكثر مما أطلبه أنا.. وفكرت في انه لا ضرر من طلب المزيد.

ولكن... كم كانت دهشتي عظيمة، وكم كان ألمي عميقاً .. عندما علمت، غداة نكبة 28 أيلول / سبتمبر 1961، ان الاستاذ المذكور سار في صفوف الانفصاليين ، ثم.. دخل وزارة الانفصال.. حتى انه تولى رئاسة الوزارة المذكورة، مدة من الزمان.

مواقف حزب البعث من مسألة الوحدة أو الاتحاد عدل

-1-

من المؤكد ان قادة حزب البعث وقفوا في مسألة الوحدة او الاتحاد موقفين مختلفين: الأول سنة 1958، والثاني سنة 1962.

أ- سنة 1958:

عقب 14 تموز/ يوليو سنة 1958 في العراق، ذهب ميشال عفلق إلى بغداد، مع جماعة من رجال الفكر والسياسة المنتسبين إلى عدة أقطار عربية.

وعندما دار الحديث بينهم عن الوحدة أو الاتحاد، رفع عفلق صوته بأداء حاسم وبتار، فقال:

- إما وحدة، إما بلاش.

ثم، عندما جلس في بهو " الاوتيل "، كرر رأيه في هذه القضية، أمام جمع من " رجال الثقافة والصحافة، ودعمه بالبراهين التالية:

- لا شك في أن القوى الاستعمارية ستبذل كل جهدها للقضاء على هذه الوحدة الجديدة.. فإذا صارت الرابطة بين العراق وبين الجمهورية العربية المتحدة ضعيفة ورخوة- مثل الروابط الاتحادية- استطاع الاستعمار أن يفصمها بسهولة . فيجب أن تكون الرابطة قوية- مثل رابطة الوحدة- لكي تستطيع أن تصمد أمام هجمات الاستعمار، فلا تنفصم بفعل ضرباته المتوالية.

ومعلوم أن بيانات ميشال عفلق صارت- في حينها- موضوع مناقشات حادة، في المحافل وفي الجرائد العراقية.

ب- سنة 1962:

أصدرت " القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي "- خلال شهر أيار/ مايو 1962- بياناً، قدمت فيه مشروعاً لإعادة الوحدة بين مصر وسوريا على أسس جديدة.

وكان المشروع يدعو إلى " الإتحاد " وإن كان يسمي ذلك باسم " الوحدة الإتحادية "، حتى انه كان يجعل الاتحاد ضعيفاً إلى حد منح كل واحد من الاقليمين " حق التشريع في الحريات العامة " كما شرحت ذلك في بحثي السابق.

على كل حال، كان المشروع يعني " إتحاداً ، لا وحدة " ويناقض بذلك فكرة " إما وحدة، وإما بلاش " مناقضة تامة. -2-

ولكن- بعد الاطلاع على هذين الموقفين الصريحين- يجدر بنا أن نتساءل: ماذا كان موقف حزب البعث من الوحدة أو الاتحاد قبل سنة 1958؟

إن هذا السؤال، يوصلنا إلى روايتين متضاربتين: صدرت الأولى عن ميشال عفلق، والثانية عن صلاح الدين البيطار.

أ- ما رواه ميشال عفلق:

قال ميشال عفلق في حديث أدلى به إلى محرر جريدة " لوموند " الإفرنسية: انه كان أعد مشروعاً فدرالياً منذ سنة 1956، ولكنه اضطر إلى التخلي عنه، نزولاً عند رغبة جمال عبد الناصر الذي كان يلتزم الوحدة. والجريدة نشرت حديثه في عددها الصادر في اليوم الحادي والعشرين من شهر آذار/ مارس سنة 1963، أي : بعد ثورتي سوريا والعراق .

يلاحظ أن هذا القول يتألف من شطرين :

الشطر الأول يفيد بأن ميشال عفلق كان أعد مشروعاً للاتحاد الفدرالي منذ سنة 1956

والشطر الثاني يفيد بأن جمال عبد الناصر كان معارضاً للفدرالية، وميشال عفلق تخلى عن فكرته الأصلية، ووافق على قيام الوحدة، بسبب إصرار جمال عبد الناصر.

ولكني عندما قرأت حديث ميشال عفلق في الجريدة المذكورة، لم أستطع أن أمنع نفسي من الشك في صحة رواياته هذه.

وقد شككت في صحة ما جاء في الشطر الأول، لأن المقالات المنشورة في كتابه " في سبيل البعث " لم تتطرق إلى بحث الوحدة أو الاتحاد، من قريب أو بعيد، فضلاً عن أن الشعار الذي أطلقه في بغداد كان يناقض فكرة الفدرالية مناقضة تامة.

وفضلأ عن أنه كان كتب في كتابه " معركة المصير الواحد " ما يلي :

" قبل شهرين من الزمن وضع في سوريا ميثاق قومي بين الأحزاب. وكان حزبنا يطالب بالاتحاد التام مع مصر. وقد رفضت ذلك الأحزاب الأخرى بدون استثناء . [ عفلق ، في سبيل البعث ، ص 46 ] .

وقد شككت في صحة ما جاء في الشطر الثاني أيضاً ، لأني لم أسمع ولم أقرأ - قبلاً- أي حديث يدل على أن مسألة الوحدة أو الاتحاد صارت موضوع مناقشة في القاهرة سنة 1958، بل بعكس ذلك، كنت علمت- كما علم الجميع- أن جمال عبد الناصر كان يتردد في الوحدة وكان يرى وجوب الاعداد لها مدة خمس سنوات، فضلاً عن اني كنت قرأت حديثاً لميشال عفلق نفسه، يذكر فيه تردد جمال عبد الناصر، ويفتخر بأنه هو الذي استطاع ان يقنعه بإقامة الوحدة بدون تأخير.

إن هذه الشكوك التي ساورتني عند مطالعة حديث ميشال عفلق المنشور في الجريدة الفرنسية، تحولت- بعدئذ- إلى يقين، وذلك عندما اطلعت على رواية صلاح الدين البيطار.

ب- رواية صلاح الدين البيطار

ويتبين مما جاء في محضر الجلسة الأولى من المرحلة الثانية من محادثات الوحدة في القاهرة ، ان صلاح الدين البيطار تطرق إلى فكرة الاتحاد بصورة عرضية. إذ قال فيما قاله :

"... شفت عبد المحسن.. وشفت محمود رياض.. وفهمت منهم.. بأنه كان فيه خوف من الجيش ذاته.. كيف نقيم وحدة وفي إمكانيات الجيش السوري أن يقوم بإنقلابات؟..

وأنا جمعتهم بالواقع- أحمد عبد الكريم وأمين النفوري بالذات.. وبينت لهم أن الموضوع.. هو عدم ثقة بضباط الجيش ضمن الوحدة إذا صارت.. فإذا حدث هذا فاعتقد أنا.. الشروط تكون في جانب قيام الوحدة.

وعلى هالأساس اجتمعوا كلهم وجاءوا وعلى رأسهم عفيف البزري، يريدون وحدة كاملة، بعد أن قدموا مذكرة.. وأنا كنت جايب مشروع وحدة إتحادية بالأصل.. وأرادوا أن يقيموهـا في 24 ساعة.. وأنا جئت معهم " [ صلاح الدين البيطار ، محاضر محادثات الوحدة ، ص 56 ] .

ويتضح من هذه الكلمات التي سردها صلاح الدين البيطار أمام أعضاء الوفود ، وبحضور ميشال عفلق:

انه عندما أتى إلى القاهرة مع قواد الجيش السوري كان يحمل مشروعاً للوحدة الاتحادية، غير انه ترك المشروع المذكور جانباً، بناء على إرادة قواد الجيش الذين كانوا يطلبون إقامة الوحدة الكاملة على الفور.

وغني عن البيان: إن ذلك يناقض مزاعم ميشال عفلق التي ذكرناها آنفاً ، وأظهرنا ارتيابنا في صحتها ارتياباً شديداً .

إذا أردنا أن نلخص ما جاء آنفاً ، نستطيع أن نقول:

أولاً : ان ما قاله ميشال عفلق عن " انه تخلى عن فكرة الاتحاد الفدرالي بناء على معارضة جمال عبد الناصر لهذه الفكرة " يخالف الحقائق الثابتة مخالفة كلية.

ثانياً : يظهر أن فكرة الفدرالية كانت تجول في خواطر البعض من قادة حزب البعث، ولكنها لم تصبح موضوع دراسة جدية وقرار صريح في الحزب. ولذلك أهملها صلاح الدين البيطار، مراعاة لإرادة قواد الجيش. وأما ميشال عفلق، فانه أطلق شعارا مضاداً للفدرالية، عندما قال: " إما وحدة، وإما بلاش.. ".

-3-

وإتماماً لهذا البحث، لا بد من ذكر مشروع آخر، ظهر من محافل حزب البعث، خلال شهر آذار/ مارس سنة 1963.

إن السيد علي صالح السعدي نائب رئيس وزراء العراق حمل إلى دمشق مشروعاً " للتعاون بين الدول العربية المتحررة "، أعلنه في مؤتمر صحافي ، بحضور رئيس وزراء سوريا السيد صلاح الدين البيطار.

ونص المشروع المذكور على ما يلي:

" أولاً- وضع مشروع بيان مشترك بين الشقيقة الكبرى الجمهورية العربية المتحدة ومع الشقيقات الجزائر واليمن وجمهورية سوريا، يخول الجيوش العربية في الدول المتحررة حق التدخل وإنزال الجنود وإجتياز حدود أي بلد من البلدان العربية المتحررة الخمسة عند تعرضه لأي عدوان خارجي أو مؤامرات داخلية إستعمارية أو رجعية تهدف إلى الاطاحة بالحكم التقدمي في البلدان الخمسة.

ثانياً: تشكيل قيادة عسكرية مشتركة والحاق ضباط إرتباط بهذه القيادة يمثلون دوائر الاركان العامة في الجيوش الخمسة، ووضع قوات مشتركة تحت أمرة هذه القيادة، ويكون من اختصاصات هذه القيادة وضع سياسة موحدة للتجهيز والتسليح والتدريب وتوحيد الأنظمة والمصطلحات العسكرية.

ثالثاً : تشكيل قيادة سياسية عليا للتخطيط السياسي في الدول الخمس ".

هذا، وقد حبذ صلاح الدين البيطار المشروع المذكور كما أن السيد طالب شبيب، وزير خارجية العراق، تولى مهمة عرضه على جمال عبد الناصر في القاهرة.

وبما أن السادة علي صالح السعدي وصلاح الدين البيطار وطالب شبيب كلهم من زعماء حزب البعث، نستطيع أن نقول: ان ما جاء فيه يدل على موقف من مواقف حزب البعث.

خلاصة المواقف

يتبين من كل ما سبق أن قادة حزب البعث، وقفوا ثلاثة مواقف مختلفة، خلال مدة تقل عن خمس سنوات:

إنهم قالوا أولاً : إما وحدة، واما بلاش؟

بعد ذلك قالوا: لا وحدة، بل إتحاد،

ثم قالوا: لا وحدة، ولا إتحاد، بل تعاون.

أعتقد أن هذه المواقف الثلاثة، مع ما بينها من اختلاف وتباين، تدل دلالة واضحة على سطحية التفكير السياسي.

إن قادة حزب البعث كثيراً ما يتباهون بقدم عهدهم في الكفاح من أجل الوحدة. ولكن كل شيء يدل على أن جهودهم استهدفت التنظيمات الحزبية أكثر مما تستهدف توضيح العقائد، ودرس الخطط ، وتقرير المشاريع.

وحدة ليبيا في نظر جريدة البعث عدل

لقد قرأت في جريدة البعث- في عددها 45 الصادر في 15 نيسان 1963- خبراً عن ليبيا، تحت عنوان: " ليبيا تعود القهقرى للمركزية ".

والخبركان ينص على ما يلي:

" ليبيا 16- وافق مجلس النواب الليبي على قانون يقضي بدمج ولايات ليبيا الثلاث- طرابلس وبرقة وفزان- معاً في دولة مركزية واحدة .

وقد ذكر الدكتور محي الدين الفكيني رئيس الوزراء وهو يشرح القانون المذكور أمام مجلس النواب، ذكر أن المجالس الإدارية القائمة في البلاد سوف تلغى، وان جميع أجزاء ليبيا ستصبح منذ الآن تحت إشراف الحكومة المركزية".

وجريدة البعث نشرت هذا الخبر تحت عنوان " ليبيا تعود القهقرى نحو المركزية "، وذلك يعني انها اعتبرت اندماج الولايات الثلاث- وتحوّل ليبيا من دولة " اتحادية " إلى " دولة موحدة "- تقهقراً.

وبتعبيرآخر: انها كانت تتمنى أن لا يحصل هذا الدمج، فتبقى ليبيا " دولة إتحادية "، مؤلفة من ثلاث ولايات، لكل منها نظّار ومجلس نظّار وسلطات وميزانيات خاصة بها.

إذن، جريدة " البعث " التي تنطق بلسان " حزب البعث "- الذي نشأ كحزب عقائدي، فاعتبر " وحدة الأمة العربية " أس الأساس لمعتقداته ... هذه الجريدة تردّت إلى حد استنكار " توحّد ليبيا " واعتبار هذا التوحد تقهقراً إلى الوراء!

لامجال للشك في أن هناك تقهقراً، ولكن هذا التقهقر لم يحدث في ليبيا، بل إنما حدث في سياسة حزب البعث ومعتقداته، التي تجلت في ما جاء في جريدته في هذا المضمار.

ولإظهار فداحة هذا التقهقر بكل قوتها، يجدر بنا أن نتذكر الأسباب التي كانت استوجبت جعل ليبيا " دولة إتحادية ".

إني كنت نشرت ذلك- سنة 1950- قبيل استقلال ليبيا على شكل دولة إتحادية، لأني كنت وجدت في قصتها، أبرز الأمثلة على عمل الاستعمار في تكوين الدول العربية المختلفة.

وقد قلت في محاضرة نشرت في كتابي: آراء وأحاديث في القومية العربية:

" من المعلوم أن ليبيا كانت حتى سنة 1911 ولاية عثمانية تعرف بإسم " ولاية طرابلس الغرب ". ثم أصبحت مستعمرة إيطالية عرفت بإسم " تريبوليتانا "، Tripolitana وهي الآن سائرة نحو الاستقلال، ولكنها معرضة إلى خطر التجزئة من الوجهة السياسية.

ذلك لأن الحرب العالمية الثانية جعلت هذا القطر العربي ميدان صراع عنيف بين جيوش المحور وبين جيوش الحلفاء، وخلقت فيه أوضاعاً جديدة.

أولاً- احتلت جيوش فرنسا الحرة القسم الجنوبي الذي تقع فيه مدينة " فزان ". ثم احتلت الجيوش البريطانية القسم الشمالي الشرقي الذي تقع فيه مدينة " بني غازي "، والذي يعرف بإسم " " برقة ". وفي الأخير احتلت الجيوش البريطانية القسم الباقي من القطر، وهو القسم الشمالي الغربي الذي تقع فيه مدينة طرابلس الغرب، والذي يعرف بإسم ليبيا.

وطمعت فرنسا في الاحتفاظ بمنطقة فزان التي كانت استولت عليها، لضمها إلى مستعمراتها الافريقية. وفعلا عهدت بإدارتها إلى حكامها العسكريين العاملين في جنوب الجزائر.

كما طمعت انكلترا في إبقاء منطقة برقة تحت نفوذها الدائم، ولذلك اتخذت التدابير اللازمة " لإجلاء جميع الإيطاليين عنها، كما انها اخذت تعد العدة لجعلها إمارة عربية خاضعة لنفوذها.

وأما منطقة طرابلس الغرب التي أستولت عليها الجيوش البريطانية في آخر الأمر، فلم تر انكلترا لزوماً لأن يشملها نفوذها الدائم، ولم تقدم على إجلاء الإيطاليين المستعمرين عنها، بل إنها أرادت أن تسترضي إيطاليا بإعادة سيطرتها على تلك المنطقة تحت الوصاية، وكما تعلمون، اتفق بيفن مع/ اسفورزا على تقسيم القطر المذكور إلى ثلاث مناطق، تكون الوصاية على واحدة منها لإيطاليا وعلى الثانية لفرنسا، وعلى الثالثة لإنكلترا.

وقد حبذت فرنسا هذه الخطة كل التحبيذ، لأنها كانت ترى أن قيام دولة عربية متاخمة لتونس ، يزلزل دعائم حكمها في المغرب العربي ، ويشجع أهالي تلك البلاد على طلب الاستقلال وعلى العمل في سبيل الاستقلال . ولذلك رجحت فرنسا عودة الحكم الإيطالي إلى تلك المنطقة على قيام دولة عربية فيها.

ولهذه الأسباب تعرضت ليبيا إلى خطر التجزئة، من جراء مطامع الدول الثلاث المذكورة.

ولكن.. مشروع بيفن- اسفورزا قوبل- كما تعلمون- بمعارضة شديدة في محافل هيئة الأمم المتحدة. بل أن إيطاليا نفسها- عندما تأكدت من أن الوصاية لن تعطى لها- صارت ترجح عدم تجزئة القطر الطرابلسي، وأخذت تدعو الدول المحبة لها إلى العمل في هذا السبيل.

وفي الأخير، قرر مجلس هيئة الأمم المتحدة عدم تجزئة ليبيا، على أن تؤسس فيها دولة مستقلة سنة 1952.

بذلك تخلصت ليبيا من الخطر الذي كان داهمها. ولكنها، هل تخلصت من هذا الخطر نهائياً ؟ أني أشك في ذلك كثيراً . لأن كل الأمور تدل دلالة واضحة على أن المطامع الإستعمارية لا تزال تعمل عملها هناك، وانها تتخذ كل الوسائل الممكنة لتحقيق بغيتها ولو عن طريق ملتوية.

ومن أبرز الأدلة على استمرار هذه الأطماع والأعمال أن المجلس الإستشاري الذي ألفه مندوب هيئة الأمم هناك، يستند إلى فكرة المناطق الثلاث، إذ تمثل فيه كل منطقة بعدد متساو من الأعضاء، على الرغم من تفاوت عدد سكان هذه المناطق الثلاث، تفاوتاً كبيراً جداً ، إذ أن مجموع نفوس فزان لا يزيد على 50.000 في حين أن عدد سكان برقة يقرب من 150.000، ومجموع سكان ليبيا يزيد على 750.000

وخلاصة القول: كل شيء يدل على انه لا يزال أمام ليبيا، وأمام جامعة الدول العربية،وأمام هيئة الأمم المتحدة، مهمة شاقة، للقضاء على المطامع الإستعمارية التي تحوم حول ليبيا، ولدفع خطر التجزئة الذي لا يزال يتهددها " [ انظر : ساطع الحصري ، آراء وأحاديث في القومية العربية . ( القاهرة : مطبعة الاعتماد ، 1951 ) ص 44- 47 ] .

هذا ما كنت قلته عن القضية الليبية، في محاضرتي عن " القومية العربية " سنة 1950.

ومن المعلوم أن ليبيا قد تغلبت- بعد ذلك- على جميع العقبات بمشاق عظيمة، وذلك بمساعدة جامعة الدول العربية من ناحية، وبمؤازرة كتلة محبي الحق في هيئة الأمم المتحدة من ناحية أخرى.

واستقلت ليبيا، على شكل " دولة إتحادية "، جعلت كل واحدة من المناطق الثلاث- التي كان حددها الإستعمار وفق مطامعه- " ولاية " تتمتع بسلطات خاصة.

هذه الأسباب، هي التي أدت إلى جعل الدولة الليبية " دولة إتحادية " لا " دو!ة " موحدة".

وبعد تجربة استمرت مدة تزيد على عشرة اعوام، استطاعت الدولة الليبية أن تتخلص من النظام السياسي الذي كانت اضطرت إلى تبنيه تحت ضغط ظروف الحرب والإستعمار، وتحولت إلى " دولة موحدة ".

فيجدر بكل عربي أن يغتبط بهذه النتيجة، وأن يهنىء الدولة الليبية على خطوتها هذه، تهنئة حارة.

أفليس من الغريب ان نرى " جريدة البعث " الناطقة باسم " حزب البعث "، تعتبر هذه الخطوة " تقهقراً"!

ولإظهار غرابة تقسيم ليبيا إلى ثلاث ولايات، ترتبط بنظام إتحادي- بوضوح أعظم- أود أن أفترض تقسيم سوريا الحالية إلى ثلاث ولايات، تتكون احداها من تدمر وما يحيط بها من بادية الشام، والثانية من جبل العلويين، وتشمل الثالثة جميع الأقسام الباقية من سوريا.

لو كانت سوريا قسمت على هذا النمط ، وجعلت دولة إتحادية مؤلفة من هذه الولايات الثلاث- كما كانت ليبيا دولة إتحادية مؤلفة من ولايات: طرابلس، وبرقة، وفزان، هل كانت جريدة البعث- الناطقة بإسم حزب البعث- تتمنى استمرار تلك الحالة؟ وهل كانت تعتبر إدماج تلك الولايات في دولة موحدة... تقهقراً؟

خطاب إلى صلاح الدين البيطار عدل

[ هذا الخطاب ، كنت كتبته عندما كنت في جنيف صيف سنة 1962 . غير اني لم ارسله اليه في حينه ، لكي لا يقع في ايدي رقابة الحكومة الانفصالية في دمشق ]

عزيزي الأستاذ صلاح البيطار،

بعد تحية العروبة، أقول:

في الأيام التالية لحدوث نكسة 28 أيلول الفجيعة، عندما وردت الأخبار التي تفيد بأنك اشتركت مع الساسة الذين اجتمعوا لتأييدها، لم أصدقها.

وأما عندما قرأت- بعد ذلك- البيان الذي صدر بتوقيع صلاح البيطار بمفرده، قلت : يظهر أن دوامة الأحداث أذهلته، ودوخت رأسه، فأفقدته البصيرة، فلا بد من أن يمضي بعض الوقت ليستيقظ من ذهوله، فيستطيع أن يرى الأمور على حقيقتها .

ولكن قبل بضعة أسابيع، عندما قرأت حديثك الذي نشره محمد باقر شري في جريدة الكفاح البيروتية، تحت عنوان " صلاح البيطار يروي اسرار تجربته في عهد الوحدة " علمت بأنك قد استيقظت من غفلتك الأولى، غير انك لم تهتد بعد إلى سواء السبيل .

وقد دونت ما عّن لي من ملاحظات إنتقادية على حديثك المذكور ووضعتها في الملف الذي أجمع فيه الملاحظات والتعليقات التي أكتبها من حين إلى حين، لأرجع اليها ، عند الحاجة.

غير اني عندما أطلعت- قبل بضعة أيام- على بيان " القيادة القومية لحزب البعث العربي الإشتراكي " المنشور في الجرائد البيروتية، علمت- بكل أسف- بأنك وزملاءك القادة قد انتهيتم إلى موقف جديد، أخف ما يجب أن يقال فيه ، هو: انه " تنكر صريح " للمبادىء الأساسية التي قام عليها ودعا إليها وكسب العطف والتأييد من أجلها " حزب البعث العربي الإشتراكي " منذ تأسيسه.

وبعد أن أطلت النظر في البيان المذكور، قلت في نفسي : لا يجوز أن أترك ملاحظاتي المتعلقة بهذه الأمور الخطيرة، بين أوراقي الخاصة، بل يجب علي أن أكتب أهم أقسامها إلى صلاح البيطار، لألفت أنظاره وأنظار زملائه إلى أخطار " الموقف " الذي انزلقوا إليه.

إني أكتب إليك الملاحظات الإنتقادية التالية، لهذا الغرض:

ملاحظات حول الحديث المنشور في جريدة الكفاح البيروتية عدل

بتاريخ 24/ 5/ 1962

-1-

لقد جاء في حديثك المنشور في جريدة الكفاح، ما نصه بحروفه:

" لم يكن الرئيس ليترك لنا معالجة أمور كنا نحن نعرفها ولنا خبرة بها، وعندما قامت ثورة 14 تموز، اقترحت على الرئيس- على اعتبار اننا نعرف طبيعة ما يجري في العراق- ان أذهب أنا شخصياً لدراسة الموقف، ولقد ظننت أن الرئيس وافق على ذلك. إلا أن ما حدث هو العكس تماماً، فبدلاً من أن أذهب أنا أرسل مكاني السراج. وبدلاً من أن تدرس الأمور بالخبرة الموضوعية درست بإسلوب آخر ".

إني قرأت هذه الأسطر بإستغراب شديد : لو كان الرئيس قد أرسل بدلاً منك رجلا مصرياً، لكان بعض الوجه لما تزعمه من خطأ في تصرفه. ولكنه- كما تقول- السراج. والسراج سوري مثلك، ووطني مثلك. فلا أدري كيف سوّغت لنفسك أن تذكر هذا التصرف.

- بعد ما مضى عليه ما يقرب من أربع سنوات- في مقدمة الادلة على أخطاء الرئيس. أفلا يحق لي أن أجد في ذلك أثراً من آثار " روح التحزب " الذي يعمي الأ بصار؟

إن المعلومات التي كانت قد تجمعت لدي عن أحداث الوحدة- قبل الإنفصال وبعدها- دفعتني إلى الحكم على أن المشكلات والخلافات لم تكن- في حقيقة الأمر، ومن حيث الأساس- قائمة بين سوريا وبين مصر، بل إنما كانت قائمة- أكثر من ذلك- في سوريا نفسها، بين الجماعات السورية التي لم تنفك عن التنافس والتخاصم فيما بينها. فكان من الطبيعي أن تحتار مصر أمام هذه الأحوال وتصبح- في آخر الأمر- كبش الفداء بين هذه التيارات المتخاصمة.

إن ما جاء في جريدة الكفاح- عن لسانك- في قضية العراق، أعطاني دليلاً جديداً على صدق حكمي في هذا المضمار.

ولاظهار الحقيقة في هذا الأمر- بوضوح أعظم- أرى أن أطلب إليك التأمل في السؤ ال التالي، والاجابة عليه، بكل صراحة:

لو كان الرئيس لبى طلبك وأرسلك بدلا من السراج وترك لك معالجة قضايا العراق بعد ثورة 14 تموز، كما كنت تريد.. لو فعل ذلك كله، هل تعتقد حقيقة، بأنك كنت تستطيع أن تؤثر في سير الأحداث هناك، بما لك " من معرفة في طبيعة ما يجري في العراق " حسب تعبيرك؟

هذا، ولكي لا أترك أمامك مجالاً للتردد كثيراً، أردف السؤال الآنف الذكر بالأسئلة التالية:

ألم يذهب إلى العراق، بعد ثورة 14 تموز، ميشال عفلق؟ أفلم يكن هوأحد أركان- ان لم أقل أهم أركان- " ثالوث القيادة " في حزب البعث العربي الاشتراكي؟ ثم : أو لم يكن في العراق- في ذلك التاريخ- فرع لحزب البعث، مع قيادته القطرية؟ أفلم يدخل الأمين العام للحزب المذكور، إلى الوزارة التي تألفت عقب الثورة؟ أفلم يأت الأمين العام المشار إليه- فضلا عن جماعات من وطنيي العراق- إلى دمشق وإلى القاهرة؟ وفي الاخير: أفما جاءت احداث العراق بعد الثورة، مفاجأة لجميع هؤلاء؟..

فلا أظنك تستطيع أن تدعي بأنك " اعرف " من جميع هؤلاء بطبيعة ما يجري في العراق، ولا سيما أعرف من زعماء حزب الاستقلال الذين ظلوا يعارضون ويصارعون العهد البائد هناك، منذ أكثر من ثلاثين عاماً . -2- في ردك على سؤال المحرر المتعلق بالديمقراطية، قد التزمت جانب الاعتدال، وقدرت مشاكل الديمقراطية، وأشرت إلى المحاذير التي تنجم عنها في بعض الظروف مثل ظروفنا الحالية، إذ قلت: " إن الذين يدعون الديمقراطية، المطلقة، يريدون أن يؤكدوا بطريق غير مباشر، فشل الديمقراطية، وانها طريق خاطىء، وانها تؤدي إلى الهدم.

فى ظروفنا الحالية، يجب أن تتم ممارسة الديمقراطية بحكمة " وتؤدة ".

إني أوافق على رأيك هذا، من حيث الأساس.

هذا، وأرى أن ألفت أنظارك إلى الحقيقة المؤلمة التالية:

إن الذين يدعون إلى الديمقراطية المطلقة- خلافاً للرأي الذي بدأت به تصريحاتك في هذه القضية- والذين لا ينقطعون عن ترديد أنغام الديمقراطية جاعلينها محوراً أساسياً لدعاياتهم- بأحاديثهم وكتاباتهم- ليسوا قليلين ، حتى بين الأشخاص والكتاب المعروفين بانتسابهم إلى حزب البعث.

-3-

وقد قلت في ردودك عن أسئلة محمد باقر شري، حول جمال عبد الناصر: " نحن لا نريد أن نضحي بالرئيس جمال عبد الناصر في سبيل الديمقراطية.. لا شك في أن وجود الرئيس هو ضرورة لتحقيق هذه الوحدة ".

ولكن، أفلا تعرف أن زميلك ميشال عفلق كان يقول عكس ذلك في بيروت، وكان البغضاء ضد عبد الناصربقوله " لا خير منه ".

وقد ظهر إلى العيان، أن الركن الاخر من " ثالوث القيادة " في حزب البعث، أكرم الحوراني، يحمل حقداً دفيناً على الرئيس عبد الناصر . وقد نشرت جريدة النهار حديثاً له ، جاء فيه بصيغة التأكيد بأن جمال عبد الناصر " ليس إشتراكياً ولا وحدوياً " . وقد قرأت في بعض الجرائد، بأنه ذهب في هذا المضمار إلى أبعد من ذلك أيضاً ، وصار يتهمه بالخيانة للوطن والتآمر مع الأجانب.. أيضاً .

إن هذه الاختلافات الأساسية التي ظهرت بين أقوال " ثالوث القيادة " في " حزب البعث العربي "، تستوجب التسجيل والتأمل.

انها تدل على أرتجال الآراء، دون درس وتبصر، وتفسر- في الوقت نفسه- أسباب البلبلة التي صارت تسود محافل البعثيين .

ومما يجدر الاشارة إليه في هذا الصدد: ان " بيان القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي "- الذي سأنتقل إلى بحثه فيما يلي- وصف الاعتماد على جمال عبد الناصربـ " تقديس الفرد ".

ولا شك في انك قد علمت بأن أحد المتحدثين في إذاعة دمشق، أراد أن يجعل هذه القضية موضوع " مزايدة " وقال : " تأليه الفرد ".

ملاحظات حول البيان الصادر باسم القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي والمنشور في الجرائد البيروتية في 4/6/1962

إن البيان الذي صدر أخيراً باسم " القيادة القومية " لا يحمل توقيع أحد. غير اني أعرف بأنك من مؤسسي الحزب وزعمائه الأصليين، فلا أشك في انك قد اشتركت في تقرير البيان المذكور وصياغته، ولذلك رأيت أن أكتب إليك ملاحظاتي عليه مخاطباً هيئة القيادة، وأرسلها إليك لتطلع أعضاءها عليها:

- 1-

إنكم تنتقدون أعمال وخطط دعاة الانفصال، وأنا أضم صوتي إلى أصواتكم في هذا المضمار.

وتقولون عن طوائف الانفصاليين " أنها تعمل ليل نهار على التركيز على أخطاء الوحدة وتجسيمها .. ".

كما تقولون: " انها لا ترى في صورة الوحدة إلا أخطاءها، فتردد ذكرها وتجترها ليلاً و نهاراً " .

إني أستهجن معكم هذه الخطط والأعمال، كل الاستهجان.

غير أني أقول- في الوقت نفسه- انكم- قادة حزب البعث- تتحملون قسطاً كبيراً من مسؤولية هذه الأحوال:

لأنك سرتم، مدة غير قصيرة، سيرة هؤلاء في هذا المضمار: استرسلتم في ترديد كلمات " الاخطاء والانحرافات، والتسلط الفردي والتسلط الاقليمي.. ". وفعلتم ذلك بتعبيرات عامة مطاطة، تتسع لكل شيء، وتفسح مجالاً لكل تأويل ، وقطعتم في هذا الطريق شوطاً كبيراً ، حتى أن أعداء الوحدة لم يحتاجوا إلا إلى خطوة واحدة ، ليقولوا بوجوب تكريس الانفصال.

ان البيانات العديدة الصادرة باسم حزب البعث- فضلاً عن التصريحات المنشورة عن لسان أحد أركان " ثالوث القيادة " في الحزب- تشهد على صحة ما أقول شهادة صارخة.

ولا بد لي من الاشارة إلى انه حتى بيانكم الأخير الذي أصدرتموه باسم القيادة القومية للحزب بغية الدعوة إلى إعادة الوحدة على أسس جديدة- حتى ذلك البيان لم يشذ عن سابقاته في هذا المضمار.

-2-

لقد قلتم في البيان الأخير:

" إن منطق الوحدة يفرض علينا أن نتعمق في دراسة تجربة الوحدة التي انتكست وأن نقسو بالنقد على الاخطاء والانحرافات ومسببيها، لنستخرج منها نظرية جديدة ونهجاً جديداً في النضال من أجل تجديد الوحدة على أسس موضوعية ".

وأنا أيضاً أقول بوجوب التعمق في دراسة تجربة الوحدة، والتوسع في استقصاء عوامل انفصالها. ولكني أقول- في الوقت نفسه- ان هذه الدراسة يجب أن تجري بنظرات علمية حقيقية، متجردة عن نوازع الحقد والحزبية ويجب أن تشمل- مثلاً- تصرفات ساسة سوريا وموظفيها وأطماع تجارها ورأسمالييها ..

أقول ذلك ، لأني لاحظت- مع الأسف الشديد- إن البيان يحصر الأخطاء والانحرافات في جهة واحدة ويعزوها إلى ما يسميه " الحكم الفردي والتسلط الاقليمي " ، دون أن يشير، ولو إشارة عابرة، إلى أخطاء وانحرافات رجال السياسة، في سوريا، بما فيهم قادة حزب البعث.

إنكم فرضتم على أنفسكم التكلم عن أخطاء حكام القاهرة، بقسوة، ولكنكم لم تبيحوا لها البحث في أخطاء قياداتكم، ولو بدون قسوة.

-3-

لقد قلتم في البيان : " ان الاستعمار وأعوانه كانوا صمموا منذ اليوم الأول لقيام الوحدة على ضرب تلك الوحدة، سواء أداخلتها الاخطاء والانحرافات، أم لم تداخلها ".

إن قولكم هذا صائب تماماً ، وهو يعبر عن حقيقة هامة، وأنا أؤيده كل التأييد .

ولكني أقول- في الوقت نفسه- ان هذه الحقيقة كان يجب أن لا تخلو من التأثيرعلى أعمالكم .

فإن الاعتراف بهذه الحقيقة يستلزم التعمق والتوسع فيها، بالتأمل في هذا السؤال: " ماهي الوسائل التي توسل بها- وكان من الطبيعي ومن المتوقع أن يتوسل بها - الاستعمار وأعوانه في هذا المضمار؟ "

طبعاً ، أن هؤلاء لم يهملوا استعمال " سلاح المال " لشراء الذمم واصطناع الأعوان والعملاء في هذا المضمار.

ولكنهم اعتمدوا- وكان من الطبيعي أن يعتمدوا- أكثر من ذلك بكثير على " الأسلحة النفسية " لإثارة النعرات الاقليمية، وتحريك أعصاب النفعية، واستغلال الأطماع الشخصية، وإثارة الشكوك والمخاوف في النفوس.

وكان من أهم وأخطر وأفعل الوسائل التي توسلوا بها لتحقيق أغراضهم هذه هي : إشاعة الأكاذيب والمفتريات، عملا بالقول المشهور، افتروا " افتروا على الدوام . لا بد أن يبقى أثر من ذلك في النفوس ".

ومن المعلوم أن أجهزة الدعاية المعادية للعروبة نشطت إلى العمل في هذا السبيل، منذ الأيام الأولى للوحدة، ولم تنقطع عن العمل في هذا المضمار- ليلاً ونهاراً- بنشر سلسلة من الأخبار الكاذبة بمهارة فائقة، وأساليب خداعة،.. حتى صارت تسيطر على أذهان الكثيرين.

كان يترتب على جميع القوميين المؤمنين بوحدة الأمة العربية، أن يحاربوا هذه الاذاعات والاشاعات الكاذبة، ويحولوا دون انخداع الناس بها.

ولكن، مع الأسف الشديد، ان محافل حزب البعث لم تلتفت إلى هذا الواجب. وفضلا عن ذلك، صارت تسترسل في انتقاد الاوضاع بتعبيرات مطاطة، وتردد نقرات " ضرورة الحزبية والديمقراطية " بدون انقطاع.

ولهذا السبب، صار يختلط في اذهان الكثيرين من المواطنين، إشاعات عملاء الاستعمار، مع تقولات قادة حزب البعث. وذلك سهل- إلى حد كبير- انخداع الناس بها، دون ان ينتبهوا إلى مصادرها الأصلية وأغراضها الحقيقية.

إني شاهدت هذه الأحوال، مرات عديدة، بنفسي.

وقد حدث غير مرة، عندما حاولت تكذيب بعض الشائعات التي كنت متأكداً من عدم صحتها، وسعيت لاظهار أغراض المستعمرين وأعوانهم من اختلاقها...، أن جوبهت بهذا الجواب:

- ولكن البعثيين أنفسهم يقولون..

إن من لم ينتبه إلى هذه الأفاعيل النفسية، يبقى بعيداً عن فهم أهم العوامل التي سهلت على الانفصاليين أن يضربوا ضربتهم المعلومة.

ولا شك في انكم اطلعتم على سيل الاكاذيب والمفتريات الفظيعة التي صارت تتدفق من ألسنة هؤلاء وأقلامهم، وصارت تنتشر على كل الجهات بواسطة إذاعات دمشق، وسائر الاذاعات التي هرولت إلى النقل عنها.

أفلا يحق لي أن استغرب، عدم عثوري على عبارة واحدة، أو إشارة واحدة ، إلى هذه المفتريات بين أسطر بيانات الحزب الطويلة؟

-4-

واما " المشروع " الذي اختتمتم به بيان " القيادة القومية " لأجل إعادة الوحدة ا وتجديدها... فاني قرأته بحيرة عميقة. لاني وجدته مشوباً بـ " نعرة إقليمية "..؟ تنافي المبادىء الأساسية التي قام عليها ودعا إليها " حزب البعث العربي الاشتراكي ".

فإنكم في المادة الأولى منه تشترطون أن " لا يكون الرئيس ونائب الرئيس من إقليم واحد " وتتكلمون عن " الاقليم الكبير والاقليم الصغير " وتطلبون (تكافؤ الإقليمين) فتتبنون بذلك " فكرة الإقليمية ".

واما في المادة الثالثة من المشروع، فتغوصون في بحر الاقليمية حتى اذقانكم، سب التعبير المشهور. إذ تتكلمون فيها عن " واقع الفوارق الاقليمية " وتطلبون ان يترك لكل إقليم من الاقليمين حرية التشريع في ضوء " أحوال الاقليم الواقعية ".

إني لست من أنصار المركزية، بل بعكس ذلك أدعو إلى اللامركزية، بكل معنى الكلمة، وقد انتقدت المركزية المألوفة عند الدول العربية القائمة في الحالة الحاضرة بمناسبات عديدة، وصرحت بعدم جواز التزام المركزية في الدولة العربية الموحدة القادمة. ولكني أعتقد أن مراعاة " الأحوال والحاجات المحلية"، وتكوين إدارات ومجالس محلية، مع تزويدها بالسلطات اللازمة لمعالجة تلك الحاجات، " شيء، والدعوة إلى التمسك بأحوال الاقليم الواقعية شيء آخر.

كنت أظن انكم- وحزبكم- ممن يعتقدون- معي- أن " الفوارق الإقليمية " الموجودة الآن، لهي من آثار ومخلفات الاستعمار، فيجب السعي سعياً حثيثاً وراء تخفيفها وإزالتها بصورة تدريجية.

ولهذا السبب، استغربت كل الاستغراب، كيف انكم تريدون الآن أن تتمسكوا بتلك الفوارق، حتى انكم تفسحون المجال إلى تزييدها وتقويتها، بمنح كل إقليم حرية التشريع " على ضوء أحوال الاقليم الواقعية ".

في الواقع انكم تقيدون هذه الحرية بعض التقييد بقولكم " دون تجاهل ضرورة التنسيق والتوحيد وفق الأهداف القومية والاجتماعية والاقتصادية للدولة كلها ".

ولكن أفليس من بديهيات الأمور أن " الأهداف القومية والاجتماعية والاقتصادية للدولة كلها " تتطلب السير نحو " إزالة الفوارق الاقليمية " لا تقويتها - وفق مشروعكم- بتخويل كل إقليم حق وضع تشريعات جديدة، تزيد ما بين الاقاليم من فوارق، حتى في الحريات العامة، والأوضاع الاقتصادية.

نعم، انكم تودون أن تعطى لكل إقليم " حرية التشريع "، حتى " فيما يتعلق بالحريات العامة والاوضاع الاقتصادية ".

وهل فكرتم في النتائج التي لا بد أن تنجم عن مثل هذه الحرية؟

حسب نصوص هذا المشروع، يسوغ- مثلاً- أن يسمح أحد الاقليمين بتكوين الاحزاب بكل حرية، وفي الوقت نفسه، يمنع الاقليم الآخر العمل الحزبي منعاً باتاً. وكذلك، يسوغ، أن يلتزم أحد الاقليمين مبدأ الحرية في التجارة والاقتصاد، في الوقت الذي يعمل الاقليم الآخر بسياسة الاقتصاد الموجه والتجارة المقيدة.

ولا أدري كيف تستطيعون ان تزعموا- والحالة هذه- بإمكان تكوين دولة " قابلة الحياة " تحت هذه الشروط؟

انكم تسمون هذه الدولة باسم " دولة الوحدة الاتحادية " ولكني أعتقد انها أحرى باسم " دولة الوحدة الاسمية ".

حول الإيمان والمعرفة عدل

الإيمان والمعرفة عدل

في كتابي " حول القومية العربية" مقالة في " الايمان والمعرفة " كنت كتبتها تثبيتاً للمحادثة التي جرت بيني وبين جماعة من الشبان الذين كانوا يتساءلون: هل الايمان يسبق المعرفة ، أم المعرفة تسبق الايمان؟

في المقالة المذكورة، كنت قلبت هذه المسألة على وجوهها، وأظهرت الأمور والظروف التي يسبق فيها الايمان المعرفة، والأمور والظروف التي- بعكس ذلك- تسيق فيها المعرفة الايمان . وكنت سردت رأيي في هذه المسألة سرداً مباشراً ، دون أن أبحث عما يقوله غيري في هذا المضمار.

ولكني - بعد كتابة ونشر الكتاب المذكور- عندما قرأت مقالات الاستاذ ميشال عفلق المنشورة في كتابه "في سبيل البعث "، علمت: انه يزعم أن الايمان يسبق المعرفة في كل الأحوال. ولاحظت أن هذا الزعم يلعب دوراً هاما في تفكير الاستاذ عفلق ، وفي تكوين حزب البعث الذي أسسه مع جماعة من أصحابه ومريديه.

لأنه يعتقد اعتقاداً قاطعاً أن الايمان يجب أن يسبق المعرفة في كل الاحوال ، فيطلب من مريديه أن يؤمنوا قبل أن يفكروا.

إذن ، نحن هنا أمام مسألة خطيرة، لا نغالي إذا قلنا: انها تكوّن حجر الزاوية في تعاليم الاستاذ ميشال عفلق، وفي تنظيمات حزب البعث.

ولذلك رأيت أن أعود إلى بحث هذه المسألة، بتفاصيل وافية.

الايمان والمعرفة

في مقالات ميشال عفلق عدل

في كتاب الاستاذ ميشال عفلق مقالة عنوانها " القومية حب قبل كل شيء ". وقد جاء فيها: " الايمان يجب أن يسبق كل معرفة ويهزأ بأي تعريف، بل انه هو الذي يبعث على المعرفة ويضيء طريقها " [ عفلق في سبيل البعث ، ص 45 ] .

يلاحظ أن الأستاذ عفلق يصدر حكماً عاماً وقاطعاً عندما يقول " الايمان يجب أن يسبق كل معرفة ". وأعتقد أن مقالتي السابقة- التي أعدت طبعها بين دفتي هذا الكتاب- برهنت على خطأ أمثال هذه الأحكام العامة.

ولكن الأستاذ يزعم- فضلاً عن ذلك- " ان الايمان هو الذي يبعث على المعرفة ويضيء طريقها ". فلا بد لي من مناقشة هذا الزعم أيضاً :

إن التاريخ إذا ذكر لنا بعض الوقائع التي كان الايمان فيها باعثاً للمعرفة، فانه يذكر لنا وقائع كثيرة كان الايمان فيها- بعكس ذلك- معرقلاً للمعرفة. إن إيمان قساوسة القرون الوسطى ، قد حملهم على أن يطلبوا من " غاليليو" أن يستغفر الله عن الاثم الذي ارتكبه عندما زعم " أن الأرض تدور ".

وإيمان الإنكشارية- في الدولة العثمانية- بكرامة وبركة " الحاج بكتاش الولي " حال دون فهمهم " فوائد التعليم العسكري " وحملهم على مقاومة الاصلاحات العسكرية.

وإيمان العرب المسلمين بخلافة آل عثمان، وبقدسية مقام تلك الخلافة.. أخر كثيراً في نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية.

هذه الوقائع التاريخية- وأمثالها الكثيرة- تدأى دلالة قاطعة على أن زعم الاستاذ في هذه القضية لا يستند على أساس صحيح.

ولكن الاستاذ ميشال عفلق يشمل نظريته هذه على العلاقات التي يجب أن تقوم بينه وبين مريديه أيضاً.

لأنه يقول في مقالته " نبرات الصادقين " ما يلي:

" حجتنا قوية.. ولكنا لم نكثر من استخدام الاقناع، لسنا بعد في دور الاقناع. إننا نريد أن نعرف من قبل بنا ويؤثرنا على غيرنا من مجرد سماع نبرات صوتنا ومشاهدة حركتنا العادية وسلوكنا اليومي نريد أن نعرف الذين يدركون بالغريزة أي هواء صاف نستنشق، وفي أي جو نزيه نحيا، دون أن نحتاج للبراهين والعلم والاثبات والارقام " [ المصدر نفسه ، ص 1 ] .

ويتبين من أقواله هذه بكل وضوح: انه يطلب من مريديه أن يثقوا به من مجرد سماع نبرات صوته، ويرتبطوا به بالغريزة دون أن يبحثوا عن دلائل وبراهين.

إن آثار هذه النزعة وهذه الخطة، تظهر من ثنايا عدة مقالات أخرى في كتاب الأستاذ ميشال عفلق:

في خاتمة مقالته " نحن وخصومنا " يتكلم عن " الايمان العملي "، ويصف نوع الايمان الذي ينشده في مريديه ويقول:

" عندما نشيد بالايمان لا نقصد به ذلك الايمان النظري بالفكرة العربية لأنه سهل في متناول الجميع، ولكنا نعني به إيمان الفرد بفكرته وصوابها، وبصدق نفسه وقوتها، وضمان الظفر الأخير لها، ثم إيمانه بوجود كل هذه الصفات عند قادته الذين تتمثل فيهم فكرته وفضائله. هذا هو الايمان العملي الجدير بالتقدير " [المصدر نفسه ، ص 28 ] .

إذن، انه يطلب من مريديه أن يؤمنوا بقادتهم، لأنهم يمثلون " الفكرة والفضائل ".

إن رأي الأستاذ عفلق في هذا المضمار، يبدو بوضوح أتم، في مقالته " البعث العربي إرادة الحياة "، حيث يقول:

" القادة الحقيقيون هم الذين يعرفون أن يطيعوا الفكرة. كما أن الأعضاء المخلصين هم الذين يطيعون القادة، أي انهم يطيعون الفكرة من خلال توجيه ا لقادة " [ المصدر نفسه ، ص 296 ] .

ولكن ما الذي يضمن إطاعة القادة للفكرة؟ كيف يمكن أن يعرف " الأعضاء المخلصون " فيما إذا كان القادة ظلوا مطيعين للفكرة، أم خرجوا عليها؟

يظهر أن الأستاذ عفلق لا يرى مبرراً لأمثال هذه الأسئلة: على الأعضاء المخلصين أن يؤمنوا بأن قادتهم يعملون ويفكرون على الدوام بوحي من الفكرة، فيترتب عليهم أن يفكروا ويعملوا على الدوام بتوجيه من قادتهم.

الإيمان والمعرفة

رأيي المنشور سابقاً عدل

-1-

سألني جماعة من الشبان : هل الايمان يسبق المعرفة أم المعرفة تسبق الايمان؟ وقالوا: انهم تناقشوا كثيراً حول هذه المسألة، فبعضهم قال أن الايمان يسبق المعرفة، وبعضهم زعم أن المعرفة تسبق الايمان. ولذلك جاءوا ليعرضوا خلافهم عليّ ، وليعرفوا رأيي في هذا الموضوع.

طبعاً، اني فهمت الدافع إلى مناقشتهم لهذه المسألة، وأدركت العلاقة بينها وبين ما يكتب ويقال حول القومية العربية في هذا المضمار. فقررت أن أبدي رأيي في القضية، أولاً على الشكل الذي عرضوه علي، ثم أتوسع فيها، لأتناولها من أساسها.

فقلت لهم .

لا تبحثوا عن جواب قاطع لهذا السؤال. لا تنتظروا حلاً حاسماً لهذه المسألة، حلاً يصح في مختلف الأزمنة والأمكنة وفي جميع الأحوال. لأن للايمان أنواعاً . فمن الطبيعي أن يكون تقدمه على المعرفة، أو تبعيته للمعرفة، من الأمور التي تختلف باختلاف نوع الإيمان، وباختلاف الظروف الزمانية والمكانية التي تحيط به وتلازمه.

فإن هناك " الإيمان " المنتشر في البيئة، الذائع بين الناس، والمتأصل في النفوس ، منذ أجيال عديدة. وهذا النوع من الايمان ينتقل من الكبار إلى الصغار، من الراشدين إلى الناشئين ، عن طريق التلقين المستمر، والإيحاء المتواصل. وأما المعرفة- وأما مجموعة الفكر التي تؤلف المعرفة المرتبطة بموضوع الايمان- فانها تأتي بعد ذلك لتنوره وتوسعه، وتحققه، وتزيد من قوة مقاومته للتأثيرات المخالفة له فنستطيع أن نقول: في هذا النوع من الأمور والأحوال، الايمان يسبق المعرفة بكل تأكيد.

إن الايمان الديني والمذهبي، في مجتمعنا الحالي، وفي المجتمعات الحالية بوجه عام، من هذا القبيل، إذ من المعلوم أن الاطفال يتلقنون ويكتسبون هذا الايمان من آبائهم وأمهاتهم. إنهم يصبحون مسلمين أو مسيحيين، سنيين أو جعفريين، كاثوليك أو أورثوذوكس، أو بروتستانت قبل أن يعرفوا شيئاً عن هذه الأديان والمذاهب. انهم لا يتعلمون خصائص الدين والمذهب الذي يعتنقونه إلا بعد أن يرتبطوا به، ويؤمنوا به، تبعاً لتلقينات الأسرة التي ينحدرون منها، والبيئة التي ينشأون فيها.

ولكن " الإيمان " قد لا يكون من هذا القبيل. قد يكون متعلقاً بأمر جديد، غيرمنتشر في البيئة، غير متأصل في النفوس، حتى انه قد يكون مخالفاً لما هوذائع بين الناس ومتأصل في النفوس. وطبيعي أن هذا النوع من الايمان- هذا الايمان الجديد- لا يمكن أن يستولي على النفوس، إلا بعد التغلب على الايمان القديم، وبعد اقتلاع جذور ذلك الايمان. وبديهي أن ذلك لا يمكن أن يتم دون تفكير وتأمل. ولهذا السبب نستطيع أن نقول، أن الايمان في أمثال هذه الأحوال، لا يمكن أن يسبق المعرفة.

إن الايمان القومي، في بلادنا هذه ، وفي أحوالنا الحاضرة، هو من هذا القبيل: انه حديث العهد بكل معنى الكلمة. إنه لم ينتشر بعد إنتشاراً كافياً يسمح لنا بأن نقول: انه أصبح متأصلاً في النفوس. فإن جيل الأمس- جيل الشيوخ مثلي- كان يجد نفسه بين تيارات عديدة، تدفعه أو تجذبه إلى اتجاهات مختلفة، تبعده عن الاتجاه القومي، وذلك مثل التيارات والنزعات التي كانت تعرف باسم " الجامعة العثمانية " و " الجامعة الاسلامية "، و " الرابطة الشرقية " وأبناء ذلك الجيل كانوا في حاجة إلى التغلب على تلك التيارات القوية والقديمة، لكي يتوصلوا إلى " الإيمان بالقومية العربية ". اما الجيل الحاضر- جيلكم أنتم- فهو لا يزال يتعرض إلى تأثيرات مختلفة، تنازع " الإيمان بالقومية العربية "، بل تعاديه. فإن هناك النزعات الاقليمية التي تربط نفوس الكثيرين بالدول التي قامت بعد الحرب العالمية ربطاً يبعدهم عن الإيمان بوحدة الأمة العربية. وهناك النزعات العالمية التي أخذت تتسرب إلى نفوس البعض- بأشكال مختلفة-، وصارت تزدري بالنزعات الوطنية والقومية، وذلك فضلا عن التيارات التي تعادي القومية العربية تحت ستار الدين، دون أن تقدر حقائق الدين ومصالح الدين تقديراً صحيحاً .

ولذلك كله، لا يسوغ لنا أن نقول: أن الإيمان يسبق المعرفة في شؤون القومية العربية، في بلادنا هذه، وفي أحوالنا الحاضرة.

وأود أن تلاحظوا بأني قلت " في بلادنا هذه وفي أحوالنا الحاضرة " يعني: اني قيدت الأمر بالزمان والمكان، لأني أعرف أن ما قلته الآن لا ينطبق على أحوال جميع البلاد. فإن البلاد التي أتمت تطورها القومي، فاستطاعت أن تكوّن دولة قومية تامة،- حيث تنطبق فيها القومية على الوطنية تمام الانطباق- تكون في حالة تختلف عن ذلك اختلافاً كلياً : يتأصل فيها الايمان القومي، فيأخذ في الانتقال من الكبار إلى الصغار- عن طريق الايحاء والتلقين- كما يحدث في انتقال الدين. فمن الطبيعي أن نجد، وفي تلك البلاد، أن الايمان القومي أيضاً يسبق المعرفة.


ولا أشك في أن الأحوال ستتطور في البلاد العربية أيضاً في هذا الاتجاه. وسيأتي وقت يصبح فيه الايمان القومي متأصلاً في جميع النفوس، فيتسرب إلى قلوب الصغار وعقولهم من آبائهم وأمهاتهم، ومن البيئة الاجتماعية التي ترعاهم.

-2-

بعد الوصول إلى هذا الحد من الشرح والايضاح، رأيت أن أتعمق قليلاً في البحث فقلت:

- إني شرحت لكم رأي في سؤالكم المتعلق بالاسبقية بين الايمان وبين المعرفة. ولكن بعد هذه الايضاحات، أود أن ألفت أنظاركم إلى أمر هام آخر يتصل بهذه القضية: ان الايمان والمعرفة ليسا أمرين منفصلين بعضهما عن بعض انفصالاً تاماً . بل يوجد بينهما ارتباط قوي جداً ، يجعل كل واحد منهما يؤثر في الآخر، ويتطور مع الآخر، وان كان أحدهما يبرز أكثر من الآخر في بعض الظروف. كلكم تعلمون ان المعرفة عبارة عن مجموعة أفكار. ويجب أن تلاحظوا في الوقت نفسه أن الايمان- بوجه عام- لا يخلو من عنصر " الفكر ". فإن الايمان يعني - في حقيقة الأمر- الاعتقاد بفكرة ما، اعتقاداً جازماً، ممزوجاً بعاطفة، تجعلها تسيطر على العقل والقلب في وقت واحد.

كما أن للفكر أيضاً أنواعاً عديدة، من حيث الارتباط بالعواطف.

فإن هناك " فكراً مجردة " بكل معنى الكلمة. انها لا تتصل بأية عاطفة فتسبح في أجواء المجردات المحضة. ولكن هناك " فكراً " أخرى، تتصل بالعواطف اتصالا وثيقاً ، تتأثر بها وتؤثر فيها. فهناك فكر مشبوبة بالعواطف، ومشحونة بطاقات دافعة ومحركة. هذه الفكر- هذه " الفكر القوانية "- تلعب دوراً هاماً في تكوين الايمان، وتبعيد كل ما يخالفه عن الاذهان.

طبيعي أن النظر إلى الايمان والمعرفة بهذه النظرات العلمية الدقيقة، لايترك لمسألة " الأسبقية " أهمية كبيرة. بل يجعل تلك المسألة ثانوية، حتى انه- يجعلها في بعض الظروف- واهية.

عندما نسعى إلى نشر الفكرة القومية، وبث الايمان بالقومية العربية، يجب أن نتوسل بكل الوسائل- من تعريف، واقناع، وتلقين، وإيحاء، وتحبيب، وتحميس - يجب أن نخاطب العقول والقلوب، يجب أن نهتم بجميع ضروب المعرفة والايمان.

وأما النسبة بين مبلغ اهتمامنا بكل واحدة من هذه الوسائل المختلفة، فطبيعي انها يجب أن تختلف باختلا ف الأفراد والجماعات التي نوجه إليهم خطاباتنا وكتاباتنا، ونركز حولهم جهودنا الاقناعية والإيحائية. ويجب أن نأخذ بنظر الاعتبار أعمارهم ومستويات معارفهم ، وأنواع ثقافاتهم، وألوان التيارات الفكرية والسياسية التي أثرت ولا تزال تؤثر فيهم ...

فيجب أن نعمل وفق خطط متنوعة، خاصة بكل من: تلاميذ المدارس الابتدائية، وتلاميذ المدارس الثانوية، طلاب الدراسات العالية، وسواد الناس، وطبقة المثقفين... من الشبان والكهول، ومن الصغار والراشدين. -3- بعد الانتهاء من هذه الايضاحات، سألت الشبان إذا كانوا في حاجة إلى المزيد من الإيضاح، أو إذا كان لديهم اعتراض على أي قسم من أقسام حديثي الطويل ، وقد لاحظت على وجوه الجميع علائم الاقتناع، باستثناء أحدهم الذي كان مترددا في الأمر. وعندما دعوته إلى التصريح بكل ما يجول في خاطره، دون تردد، قال:

- كان يقول البعض أن الأستاذ الحصري يحصر همه في حدود الآراء والمعلومات والنظريات المتعلقة بالقومية العربية، ولا يهتم بالناحية الايمانية منها. ولذلك أخذت أتأمل في الأمر، في ضوء المعلومات التي سمعناها منكم الآن.

وأنا قلت له، عندئذ: أشكرك على صراحتك. لأنك باطلاعي على هذا الرأي، فتحت أمامي المجال لتصحيح آراء هؤلاء:

إن القول بأني لا أهتم بالناحية الايمانية من القومية العربية لا يعبرعن الحقائق الراهنة تعبيراً صحيحاً. راجعوا أقدم الكتب التي نشرتها عن قضايا القوميات: " آراء وأحاديث في الوطنية والقومية " تجدوا فيها نظرات عامة ملقاة على القضية من وجوهها المختلفة: " الوطنية والقومية " عوامل القومية، بين الوحدة العربية والوحدة الاسلامية، الوطنية والاممية، بين العروبة وبين الفرعونية... وتجدون بين هذه الابحاث، بحثاً خاصاً عنوانه " الايمان القومي ". ثم افتحوا كتابي " العروبة أولأ " تجدوا في مقدمته كلمة صريحة عن وجوب " بث الايمان بوحدة الأمة العربية "، وترون من ذلك اني لم أهمل الناحية الايمانية من القومية.

لا أنكر أن سائر كتاباتي المتعلقة بالقومية عالجت الأمر من الناحية النظرية: أنها حامت حول الآراء، وتطرقت إلى الكثير من المعلومات، ولكن يجب أن تلاحظوا أن جميع تلك المقالات والمحاضرات كانت موجهة إلى الطبقة المستنيرة والمثقفة من المواطنين. ومعظمها يتألف من ردود وانتقادات على ما كتبه ونشره كبار الأساتذة الكتاب، والأدباء، اعتراضا على الاتجاهات القومية، ودفاعا عن النزعات الاقليمية. وطبيعي أن تلك الآراء والكتابات يجب أن تعالج وتعارض بالآراء والمعلومات. لأن الرأي لا يمكن أن ينقض ويهدم إلا بالرأي.

وأنتم تعلمون، ولا شك، أن في العالم العربي آراء ونظريات كثيرة لا تسلم بوحدة الأمة العربية، بل تعارضها معارضة شديدة، وتعمل على بث الايمان بعكسها. إذا استعرضتم المقالات التي انتقدتها ونشرت ردودي عليها في كتبي المختلفة، وإذا لاحظتم المكانة العلمية والأدبية والاجتماعية التي كان يتمتع بها أصحاب تلك الآراء والكتابات،... قدّرتم الضرورات التي ألجأتني- ولا تزال تلجئني- إلى الإهتمام بها، وبذل الجهود وصرف الاذهان عن الاعتماد عليها.

انكم تجدون في مستهل القسم الاعظم عناوين المقالات التي انتقدتها. ولكني أؤكد لكم بأن كتاباتي التي لم تصرح بأنها رد ونقد على مقالة منشورة أو حديث مطبوع، هي أيضاً مكتوبة ردا على اراء سمعتها وناقشتها شفهياً في مجالس خاصة، وعلمت انها تجول في خواطر الكثيرين وتعبر عن اعتقاد جماعة من المفكرين.

لإظهار الحقيقة في هذا المضمار، أود أن أذكر بعض الأمثلة:

كنت أتكلم مع أحد كبار رجال الفكر والثقافة في مصر، عن العروبة وعن الوحدة العربية.

وخلال الحديث، قال لي مخاطبي: ولكن، يا أستاذ متى كانت مصر مع سائر البلاد العربية؟ إني لم أستغرب هذا السؤال، بل وجدته طبيعياً، لعلمي بما كان يدرّس من التاريخ في المدارس الثانوية، وحتى في المدارس العالية. كان الاهتمام ينحصر بدورين من تاريخ مصر: في البداية تاريخ المصريين القدماء، وفي النهاية تاريخ أسرة محمد علي. وأما ما حدث في مصر بين التاريخين المذكورين، فكان يهمل إهمالاً غريباً ، فتترك مصر تعوم بين ما كانوا يسمونه تاريخ الاسلام من ناحية، وتاريخ أوروبا من ناحية أخرى. ولهذه الأسباب، لم أستغرب سؤال الاستاذ، وشعرت بضرورة تصحيح وإتمام معلوماته التاريخية، فقلت له:

- اسمح لي يا أستاذ، أن أعكس القضية، وأسألك متى كانت مصر منفصلة عن سائر البلاد العربية؟

وأخذت أتكلم عن الأدوار التاريخية التي كانت مصر- خلالها- متحدة مع هذا القطر، أوذاك القطر، أو جميع الأقطار من البلاد العربية الحالية.

ولاحظت أن بياناتي هذه أثارت استغرابه، وزعزعت اعتقاده قليلاً، ولكنها لم تقنعه تماماً ، لأن الأبحاث التاريخية التي أشرت إليها كانت شبه مجهولة لديه.

ولكني بعد هذه المحاورة، قررت أن أهتم بهذه القضية وأرسم خارطة زمنية تبين العلاقات التي قامت بين مختلف الأقطار العربية- منذ ظهور الاسلام-، وتظهر تلك العلاقات إلى العيان.

وبعد مراجعة الكتب التاريخية، وتجربة طرائق الرسم المختلفة، توصلت إلى " رسم خارطة زمنية " تلفت الأنظار.

والأستاذ عندما رأى الخارطة المذكورة، بعد مدة، قال، على الفور:

- صحيح، هذا، ما كنت أعرفه.

لقد فكرت أن أمثال الاستاذ الذي كلمني وناقشني في الموضوع، يجب أن يكونوا كثيرين. ولذلك نشرت الخارطة المذكورة- مصغرة- في كتابي " العروبة بين دعاتهما ومعارضيها " ثم، نشرتها- مكبرة- بين مطبوعات " معهد الدراسات العربية العالية ".

أظن أن هذا المثل يغنيني عن ذكر أمثاله الكثيرة.

ومع هذا، أرى أن أتوسع قليلاً في هذا الموضوع :

نحن نود أن نبث بين الجميع الايمان بمستقبل الأمة العربية، نود أن نجعل الشبيبة تؤمن إيماناً قوياً بأن للأمة العربية رسالة سامية، يجب أن تؤديها، ولا شك في انها ستؤديها.. في المستقبل القريب أو البعيد.

ولكن، كيف السبيل إلى غرس هذا الايمان في القلوب إذا كان كل ما سبق وسيطر على الأذهان لا يترك مجالاً لنشوء مثل هذا الايمان؟

إني كنت ذكرت البعض من الآراء التي تثبط العزائم وتحطم الآمال في هذا المضمار من بحثي عن " الايمان القومي " في كتابي " الوطنية والقومية ":

" تاريخنا؟ ماضينا؟ هل كان مجيداً حقيقة في دور من أدواره؟ ماذا كان لنا غير الحروب والفتوحات التي لم تستمر طويلا؟ الخلفاء، أما كانوا يتنافسون ويتخاصمون على الدوام، وينغمسون في الملذات، في أكثر الأوقات؟ العلماء، ألم تكن مؤلفاتهم مملوءة بالاغلاط والسخافات؟ زد على ذلك : أما كان معظمهم من الأعاجم؟ وأخيراً : هل تعدى عملهم حدود النقل والترجمة والتكرار؟.. "

تأكدوا أن هذه الملاحظات والاعتراضات لم اختلقها وأتخيلها أنا.. بل اني كنت سمعتها وقرأتها.. في مناسبات مختلفة، من كتب ومقالات كثيرة. إني انتقدتها في المقالة المذكورة- وفي توطئة كتابي " دراسات عن مقدمة ابن خلدون "- ثم نقلت وانتقدت أمثالها الكثيرة في كتبي المختلفة مع ذكر مصادرها لأني وجدت هذا يقول: العرب محرومون من الاحساس بالمستقبل، وذلك يزعم أن الشقاق طبع في العرب، وهذا يدعي أن العرب ساميون فلا يمكن أن يرتفعوا إلى مرتبة الآريين. وذلك يقول أن البيئة الطبيعية التي يعيش فيها العرب لا تساعد على النشاط البدني والفكري...

والان، أسألكم : هل يمكن أن يجد " الايمان بمستقبل الأمة العربية " سبيلا إلى العقول والقلوب، بين أمثال هذه الآراء والمزاعم؟ أفلم يكن تخليص العقول والقلوب من سيطرة هذه الآراء الباطلة هو الوسيلة الأولى التي لا بد من التوسل بها لغرس " الإيمان " في النفوس، مع صيانته من تأثيرات مختلف التيارات التي تعصف به من مختلف الجهات؟

أود أن أوضح لكم رأيي في هذه القضية وفي أمثالها الكثيرة بتشبيه مادي يحوم حول أمور يسلم بها الجميع:

كلكم تعرفون الشروط الاساسية التي تتوقف عليها أعمال الزراعة والغراسة:

إذا أردنا أن نزرع في الأرض أي نوع من أنواع النباتات المفيدة أو نغرس فيها أي نوع من أنواع الأشجار المثمرة أو غير المثمرة... ترتب علينا- قبل كل شيء- أن نقتلع من تلك الأرض النباتات والأشجار التي سبق أن استقرت فيها، ومدت جذورها إلى أطرافها وأعماقها.

فضلاً عن ذلك، لا يجوز لنا أن نكتفي بحصد النباتات الظاهرة على الأرض وبقطع الأشجار القائمة فيها، بل يجب علينا أن نعمل لاستئصال الجذور والفروع الممتدة تحت التراب أيضاً .

وفي الأخير، يجب أن نلاحظ أن اقتلاع واستئصال النباتات والجذور القديمة أيضاً لا يكفي لضمان النجاح في الزراعة والغراسة، بل يترتب علينا السهر على عملية أخرى، هي: وقاية مزروعاتنا ومغروساتنا من تأثيرات الرياح التي تهب من جهات مختلفة، وتأتي ببذور جديدة ومتنوعة قد تنبت في الأرض، وتنافس مزروعاتنا الغذاء والحياة، بل قد تعمل على خنقها أيضاً ...

أعتقد أن هذا التشبيه، يساعد على تبيان رأيي في هذه القضية بكل وضوح وجلاء.

إن بث الايمان بوحدة الأمة العربية- في ظروفنا الحالية- يتطلب بذل الجهود الكثيرة لاستئصال جذور الآراء والمعتقدات المخالفة التي تسلطت على أذهان الكثيرين مع مواصلة الجهود لوقاية هذا الايمان من تأثيرات التيارات التي تعمل لزعزعته وإضعافه بوسائل شتى.

أحاديث الأخطاء عدل

الأخطاء في الحياة عدل

لقد كثرت الأحاديث عن الأخطاء، تبريراً للانفصال، أو تعليلاً له.

ولكني أعتقد أن كل من يربط بين الانفصال وبين الأخطاء يرتكب خطأ عظيماً ، يدل على تقصيركبيرفي الفهم السياسي، فضلا عن ضعف شديد في الايمان القومي.

لأن الخطأ والصواب من الأمور الدارجة والمألوفة في الحياة الفكرية والسياسية. فلا يسلم من الخطأ في بعض الأمور أي انسان، مهما كان عظيماً وعبقرياً .

فلا نغالي إذا قلنا: أن الطريق إلى الصواب مرسوم ومرصوف بالاخطاء في معظم الأحوال.

كان الرياضيون القدماء يسمون احدى طرائق الحساب باسم " الحساب بالخطأين ": يفرضون حلاً للمسألة الحسابية على وجه التخمين، ثم يحسبون النتيجة التي تترتب على فرضهم هذا، ويقدرون الفرق الذي يظهر بين هذه النتيجة وبين المطلوب في المسألة. بعد ذلك يقومون بحسابات مماثلة على فرض آخر. ويتوصلون إلى الحل الصحيح بالاستناد إلى نتائج الحلين الخاطئين.

والباحثون في الكيمياء والفيزياء والفسلجة وفي سائر العلوم الطبيعية أيضاً يقومون بأبحاث وتجارب كثيرة، بناء على الفرض والتخمين. ثم يتتبعون نتائج فرضياتهم هذه ليستكشفوا اوجه الخطأ والصواب فيها. فلا يتوصلون إلى معرفة الحقائق- في معظم الأحوال- الا بعد سلسلة من الأبحاث والتجارب المستندة إلى الفرضيات الخاطئة .

وغني عن البيان أن احتمالات الخطأ في الحياة السياسية تكون أكثر وأهم من ذلك، بسبب تعقد العوامل المؤثرة فيها تعقداً هائلاً. ولذلك لا نجد في التاريخ زعيماً سياسياً أو قائداً عسكرياً خلت خططه وأعماله من الخطأ طول حياته.

إن العظيم في هذه الميادين ليس من لا يخطىء ولا يفشل أبداً، بل هو الذي يعرف كيف يستفيد من الأخطاء ويصحح الخطط ، وكيف يواصل العمل بعد الفشل بأنجع الوسائل، إلى أن تكلل أعماله بالنجاح التام.

ومما تجدر الاشارة إليه في هذا المضمار: أن أوجه الخطأ والصواب في الأمور السياسية لا تظهر إلى العيان، مثل ما تظهر في المسائل الرياضية والتجارب الطبيعية. ولذلك تختلف وتتضارب الآراء فيها في معظم الأحوال. فما يسمى " المعارضة " في الحياة السياسية يقوم على أساس الاعتقاد بأن الحكومة القائمة مخطئة في أعمالها ومخططاتها. ومن المعلوم أن المعارضة تشتد وتضطرم، عندما تزعم أن أخطاء الحكومة قد أصبحت كثيرة وخطيرة.

ولذلك كله أقول: لو صارت أخطاء الحكومات سبباً لقيام الحركات الانفصالية، لتفك!ت أوصال الدول ولما بقي على وجه الأرض دولة واحدة.

خلاصة القول:

اني أستنكر " أحاديث الأخطاء " التي تهدف إلى تبريرالانفصال أو تعليلها.

وأما " أبحاث الأخطاء " التي تهدف إلى معرفة الحقائق، تمهيداً لاستخلاص الدروس العملية منها... فلا أعترض عليها، بل بعكس ذلك، أراها مفيدة وضرورية.

غير اني أعتقد أن هذه الأبحاث يجب أن تجري بروح علمية، ونظرة موضوعية، كما يجب أن تشمل أخطاء الذات وأخطاء الغيرعلى حد سواء.

النقد الذاتي في خطاب الرئيس جمال عبد الناصر عدل

قام الرئيس جمال عبد الناصر بنقد ذاتي دقيق وشامل، وأعلن نتائجه إلى الرأي العام العربي، بصراحة وشجاعة، بالخطاب التاريخي الذي ألقاه في اليوم السادس عشر من شهر أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1961، أي بعد مرور نحو شهر ونصف شهرعلى يوم نكبة الانفصال الفجيعة.

يبدأ الخطاب بإلفات الأنظار إلى خطورة الموقف قائلاً :

لقد دقت الساعة التي يتحتم فيها على كل مواطن أن ينتبه إلى نفسه، دقت الساعة التي يتحتم فيها على كل مواطن أن ينتبه إلى وطنه، دقت الساعة التي يتحتم فيها على كل مواطن أن ينتبه إلى ما يجري حوله على امتداد الأرض العربية كلها...

فنحن الآن، ايها المواطنون، على نقطة من نقط التاريخ الحاسمة في مصير الأمم. نقطة يمكن منها أن يتحدد المصير ويتشكل الغد، بإرادة الله التي تلهم إرادة أمتنا وتوجه خطاها..

نحن أمام نقطة من نقط التاريخ الحاسمة.

وبعد استعراض الموقف السياسي بشيء من التفصيل ينتقل إلى النقد، فيقول مايلي :

أيها المواطنون،

من أول واجباتي في هذه اللحظة أن أدرس معكم وتدرسوا معي الدروس المستفادة من انقضاض الرجعية في سورية، مرة أخرى . فليس هدفي من هذه الدراسة أن أؤثر على مجرى الحوادث في سورية ذاتها، وإنما هدفي الأول والأخير أن تكون الفائدة للنضال العربي كله ولمعركته الاجتماعية الشاملة من أجل حق الانسان العربي في حياته وفي كرامته. وأشعر الآن انه لا بد لي من أن أواجه معكم بشجاعة وشرف أخطاءنا التي يسرت للرجعية انقضاضها وحصولها على رأس الجسر الذي حصلت عليه في دمشق.

أولاً:

لقد وقعنا ضحية وهم خطير، قادتنا إليه ثقة متزايدة بالنفس وبالغير. فقد كنا دائما نرفض المصالحة مع الاستعمار. ولكننا وقعنا في خطأ المصالحة مع الرجعية. لقد تصورنا انه مهما كان من خلاف بيننا وبين العناصر الرجعية، فانهم أبناء نفس الوطن وشركاء نفس المصير. ولكن التجربة اثبتت لنا خطأ ما كنا نتوهمه.

اثبتت التجربة أن الرجعية وهي من ركائز الاستعمار لا تتورع عن الارتكازعليه بدورها لقلب النضال الشعبي.

أثبتت التجربة أن الرجعية على استعداد للتحالف مع الاستعمار ذاته، لتستعيد مراكزها الممتازة التي تتمكن بها من مباشرة استغلالها، حتى وان أدى ذلك إلى أن تمكن له من التحكم في مقدرات الشعوب التي تنتمي إليها.

ولقد غير الاستعمار طريقة تسلله إلى أرضنا، في حين أننا لم نغير طريقة مواجهتنا له. كنا لا نزال نقاوم احلافه العسكرية وقواعده، بينما كان هو يتوارى وراء الرجعية وفي قصورها العالية والمشيدة من استغلال الجماهير. وبذلك كانت ضرباتنا ضده تطيش أخيراً في الهواء، ولا تصيبه، لأنها كانت موجهة إلى المكان الذي لم يكن موجوداً فيه.

كنا نوجه ضرباتنا إليه في الاحلاف والقواعد وكان هو غيّر مكانه وتوارى في القصور وفي خزائن أصحاب الملايين.

ولا بد لنا الآن لسلامة النضال الشعبي أن نخلص أنفسنا من هذا الوهم الخطير الذي تركنا أنفسنا له. لا بد لنا من أن نقاتل الاستعمار في قصور الرجعية وأن نقاتل الرجعية في أحضان الاستعمار.

ويتصل بهذا الوهم، وهم تصور امكان المصالحة مع الرجعية على أسس وطنية، ذلك اننا في الوقت الذي أعلنا فيه ايماننا بامكانية إزالة متناقضات الطبقيه سلمياً داخل إطار من الوحدة الوطنية كانت الرجعية تمشي في طريق آخر معاكس.

لم تكن القوى الرجعية بمثل طبيعة الجماهير وسماحتها ونبلها. ولقد رأينا في سورية كيف تكتلت الرأسمالية والاقطاع والانتهازية مع الاستعمار للقضاء على مكاسب الجماهير ولضرب الثورة الاشتراكية ولاسترداد جميع امتيازاتها، ولو بالقوة المسلحة، ولو بإراقة الدماء. كنا نأخذ الارض من الاقطاعيين سلمياً، ونعوضهم عنها لنعطيها للفلاحين. وفي سورية الآن يقتل بالرصاص أي فلاح يتردد لحظة في التسليم بحقه المشروع في أرض لكبار الاقطاعيين.

أردناها بيضاء من أجل العدل ولم يتورعوا من أن يجعلوها حمراء ملطخة بالدم، استمراراً للظلم والاقطاعية.

كنا نحلم بان تكون الثورة تنبض بقلب رحيم، ولكن الرجعية لم تتخل عن طبيعتها العدوانية ولم تتردد في اتباع أي وسيلة إلى غاياتها المستغلة الشرسة حتى وسيلة القتل. بل استغلت الرجعية كل طيبة الجماهير وسماحتها ونبلها، في الوقت الذي بقيت لها فيه الأموال الطائلة، في هذا الوقت كله لم تشعر الرجعية بذرة من العرفان تجاه هذه الحرية التي تركت لها من غير استحقاق. وإنما العكس كان موقفها. فلقد استعملت هذه الحرية لتضرب الشعب ولتخرب ولتدمر ولتنقلب على اهدافه وخططه وأحلامه وتشعل فيها النار جميعاً لا تهتم ولا تبالي.

ثانياً :

لقد وقعنا في خطأ كبير لا يقل أثراً عن الوهم الخطير الذي نسينا أنفسنا فيه،هذا الخطأ هو عدم كفاية التنظيم الشعبي. لقد كانت وسيلتنا إلى التنظيم الشعبي هي تكوين الاتحاد القومي ليكون إطاراً من حول صراع الطبقات، وكان خطأنا اننا فتحنا الطريق إلى الاتحاد القومي أمام قوى الرجعية. كانت نتيجة هذا الخطأ، أن الرجعية التي تسللت إلى الاتحاد القومي تمكنت من شل فاعلياته الثورية وحوّلته إلى مجرد واجهة تنظيمية لا تحركها قوى الجماهير ومطالبها الحقيقية. ولعل الظاهرة التي تبلور هذا الخطأ هي أن بعض الذين يتصدرون اليوم في قيادة الحركة الرجعية الانفصالية في سورية كانوا هم أنفسهم من المتصدرين في تنظيمات الاتحاد القومي. من هنا فان أهم ما يواجهنا اليوم هو إعادة التنظيم الشعبي. وليكون الاتحاد القومي اداة ثورية للجماهير الوطنية وحدها صاحبة الحق والمصلحة في التغيير الثوري لا بد أن يكون الاتحاد القومي للعمال والفلاحين، وللمثقفين، ولأصحاب المهن، وللملاك الذين لا تقوم ملكيتهم على الاستغلال، وللضباط الذين كانوا طليعة يوم التغيير الكبير في 23 يوليو، لأصحاب الثورة الحقيقية ولحماتها وللمدافعين عنها. للذين تتحقق بالاشتراكية آمالهم. للذين يملكونها ويملكها أبناؤهم أصحاب الأمل وأصحاب المستقبل.

ثالثاً :

اننا لم نبذل الجهد الكافي في توعية الجماهير الواسعة بحقوقها، وتعريفها بقدرتها وطاقاتها الكامنة على حماية هذه الحقوق. واني لأسمع من بعض الناس أن هذا الجيل من الأمة العربية قد حمل مسؤوليات في النضال تنوء بها أجيال... ولكني دعوني اذكركم جميعاً انه ليس أمامنا من سبيل الا أن نستمر في ثورتنا إلى نهايتها، حتى نحقق أهدافها. فان الثورات الشعبية لا تعرف الاجازات. وإذا توقفت الثورة الشعبية قبل بلوغ أهدافها، فانها لأ بد أن تنتكس وتجد نفسها مرغمة أمام أعدائها على ان تسلم لهم بما حصلت عليه من انتصارات مرحلية في فترات النضال، ثم يترتب عليها بعد ذلك أن تبدأ الطريق الثوري من أوله.

لهذا فلست أرى سبيلاً أمامنا غير المضي في الثورة وفي رفع أعلامها. والسبيل الحقيقي لاستمرار النضال في غير ملل ولا تراخ هو توسيع القيادة الثورية والقاعدة الثورية معاً، وتوعية الجماهير المعبأة توعية مستمرة وعميقة تكفل قيادات متجددة للنضال الشعبي وقواعد تمتد إلى كل مركز في الوطن. ومن أجل هذا فإن نقابات العمال والاتحادات التعاونية للفلاحين والجامعات والمنظمات المهنية والجمعيات النسائية ينبغي لها أن تتحول جميعاً إلى مراكز للاشعاع الفكري الخلاق الذي يدفع العمل الثوري المتجدد.. أن كل قرية، كل مصنع، كل كلية وكل مدرسة، كل نقابة مهنية، كل رجل، كل امرأة، كل شاب، كل طفل، في هذا الوطن، يجب أن يتحول إلى خلية ثورية حية.

رابعاً:

إننا لم نستطع أن نطور جهاز الحكم إلى مستوى العمل الثوري. وظللنا حتى الآن- ونحن نخوض أقسى المعارك ضد الاستعمار والرجعية- نعمل بنظم ولوائح قديمة، مضى الزمن عليها، بل كانت كلها من وضع الاستعمار والرجعية.

ولقد تحمل الحكم كثيراً من الأعباء الجديدة، ولكننا لم نعمل على تطويره ليستطيع تحمل الدفع الثوري، وفي بعض الأحيان لم يستطع هذا الجهاز الحكومي أن ينقل إلى الجماهير أحساسا جديدا بأنه مجرد خادم لمصالحها، وإنما أصبحت مصالح الجماهير هي المسخرة لخدمة الجهاز الحكومي بكل ما فيه من خلل. وبهذا لم تعد في الجهاز الحكومي القدرة الكاملة على أن يكون من أدوات الثورة بل تحول في بعض الظروف ليصبح عبئاً على الثورة. وهذا أمر لا بد من وضعه في موضعه الصحيح، مهما كانت العقبات والحواجز.

وإنما يتعين في تقديري أن يعاد تنظيم جهاز الدولة، وأن يهز من أعماقه هزاً ليكون أداة حركة ثورية في خدمة الجماهير، لا ليكون أداة تجميد وركود وعزلة، لا تتجاوب مع الواقع الجديد.

ولا بد لإتمام ذلك: أن يعاد تنظيمه وأن يوضع كل واحد فيه حيث يجب أن يكون، وأن يكون لكل فرد من الذين يخدمون الجماهير في نواحيه المختلفة حقه المتكافىء مع ما يبذله من خدمة للشعب ومن جهد نزيه.

خامساً :

لقد استطاعت عوامل كبيرة في مجتمعنا أن تفتح ثغرات للانتهازية. ولقد كانت التركة التي ورثتها ثقيلة، سواء في أجهزة الحكم وأحوالها، أو في الطبيعة الاجتماعية وأحكامها، ثم ما ينتج عن ذلك كله من آثار نفسية على الجماهير.

ولقد كان الثمن الذي دفعناه من أجل تسلل بعض العناصر الانتهازية غالياً كثيراً. فإن بعض العناصر المؤمنة وجدت نفسها مرغمة على اتخاذ موقف سلبي من حركة النضال الشعبي، أو لم تجد الموقع الذي تستطيع أن تقف فيه وتسهم باخلاص في توجيه النضال الشعبي.

ولست أخفي عليكم أن أكثر ما كان يحز في نفسي في أيام معاركنا العظيمة وفي ذرى انتصاراتنا الضخمة، ما أحس به من صراع على السلطات والاختصاصات، ومن أنانية وأثرة، ومن ابتعاد عن الاهداف الكبرى للجماهير اقتراباً من أسباب فردية وشخصية.

ولا بد الآن من عملية تقييم كاملة، تعيد صياغة مثل المجتمع وأخلاقه على نحو جديد، أكثر ارتفاعاً وأشد عمقاً.

أيها المواطنون،

أرى أن يكون حديثي إليكم واضحاً لا مواربة فيه.

لقد كان واجبي الأول أن أضع الحقائق كلها أمام الشعب، أن أشير إلى الطريق الذي لا طريق غيره لبناء الوطن ولبناء المواطن، لتحرير الأرض ولتحرير الانسان.

إن النضال الشعبي في حاجة إلى المزيد من القوى الشعبية.

إن الثورة الاشتراكية في حاجة إلى المزيد من الثورات الاشتراكية.

إن الحرية السياسية والاجتماعية لا يصونها ولا يدعمها غير مزيد من الحرية السياسية والحرية الاجتماعية.

وأقول لكم هنا، اننا لسنا في حاجة إلى قوانين اشتراكية جديدة، وإنما نحن في حاجة إلى عمل اشتراكي ليدعم ما نملكه فعلاً من القوانين الاشتراكية .

إننا لسنا في حاجة إلى إجراءات ثورية جديدة وإنما نحن في حاجة إلى عمل ثوري، يحقق الاجراءات الثورية التي أصبحت لها قوة القانون.

إني لست ضد الملكية الفردية، ولكني ضد الملكية المستغلة.. إن الملكية الفردية أمانة لا بد لصاحبها أن يصونها عن الاستغلال بقدر ما يطلب من الدولة أن تصونها بحماية القوانين.

إن ملكية الأرض في حدود القانون الحالي ليست ملكية استغلالية. وملكية المباني تحت ظروف الضرائب الموضوعة عليها الآن ليست ملكية استغلالية. والاستثمار في أي مجال من مجالاته المفتوحة للنشاط الفردي وما ينتج عن هذا الاستثمار ويخضع للضرائب المالية، ليس ملكية استغلالية. والمهن الحرة الشريفة. وكل ما تعود به على أصحابها في إطار النظام العام ليس ملكية استغلالية.

إن مجتمعنا الاشتراكي فيه مجال لكل العاملين، ولكني أقول لكم بوضوح لايحتمل الضلال أن مجتمعنا ليس فيه مجال لأصحاب الملايين.

اني لست ضد الارث. ان الارث في تقديري شرع سماوي وقطعة من الطبيعة البشرية ذاتها، ولكني أريد أن يصبح الارث في الكفاية وليس في الحاجة... في الصحة وليس في المرض... في العمل وليس في البطالة.. وفي العلم وليس في الجهل.

اريد مجتمعاً تذوب فيه الفوارق بين الطبقات عن طريق تكافؤ الفرص بين المواطنين. أريد مجتمعاً يستطيع فيه الفرد الحر أن يحدد لنفسه مكانه فيه على أساس كفايته وقدرته وخلقه. لا أريد مجتمعاً تخفق فيه الشعارات الثورية كمجرد شعارات ولكن أريد مجتمعاً يموج بالعمل الثوري من أجل الحرية السياسية والحرية الاجتماعية.

أيها الأخوة المواطنون،

لقد أعطيت هذه الثورة العربية عمري، وسيبقى لهذه الثورة العربية عمري، ولسوف أبقى هنا ما أراد الله لي أن أبقى، أقاتل بجهدي كله من أجل مطالب الشعب، وأعطي حياتي كلها لحق الجماهير في الحياة.

لقد أعطتني هذه الأمة من تأييدها ما لم يكن يخطر بأحلامي. وليس عندي ما أعطيه لها غيركل قطرة من دمي.

أيها المواطنون،

لقد دقت ساعة العمل الثوري. وسنعمل بإرادة الله وبإرادة الله سوف ننتصر.

يلاحظ أن هذا النقد الذاتي مشبوب بحرارة الايمان، ومقرون بشجاعة أدبية لامثيل لها في التاريخ.

ان كل من ينعم النظر في مواد هذا النقد الذاتي.. قد لا يقر البعض منها، وقد يراها غير كافية فيقترح أن يضاف إليها بعض النقاط الاخرى ولكن.. مهما كان الامر، لا يستطيع أن يمنع نفسه من الانحناء أمام هذا الاخلاص وهذه الصراحة بكل تقدير واعجاب واجلال .

موقف قادة حزب البعث عدل

إن قادة حزب البعث العربي الاشتراكي لم يقوموا بنقد ذاتي، أو انهم لم يعلنوا نتائج نقدهم الذاتي، إذا كانوا قد قاموا به فيما بينهم-، وعلى كل حال: زعموا انهم لم يرتكبوا سوى خطأ واحد، هو موافقتهم على حل الحزب في سوريا.

ولكنهم قالوا- في الوقت نفسه- انهم فعلوا ذلك بناء على طلب جمال عبد الناصر والحاحه. بهذه الصورة، ألقوا مسؤولية الخطأ المذكور أيضاً على عاتق الرئيس المصري، ونزهوا أنفسهم عن كل خطأ.

ولكن أحوال الحزب الداخلية والنفسية- التي بدأ الستار ينكشف عنها منذ اليوم الأول من حركة كارثة الانفصال لا تترك أي مجال لتنزيه الحزب عن الأخطاء، بل تحمّله- بكل تأكيد- مسؤولية اخطاء جسيمة وخطيرة. إذ من المعلوم أن اثنين من قادة الحزب الثلاثة اشتركوا في التوقيع على وثيقة الانفصال. كما انه تبين من تصريحات زعماء الحزب انفسهم : انه كان بين قادته الكبار من كان انتهازياً وإقليمياً ، وبين، اعضائه البارزين من كان كذوباً وجاسوساً .

إني لن أحاول استعراض أخطاء الحزب في هذا المقام، لأني أشرت إلى بعضها في فصول اخرى من هذا الكتاب، بل سأكتفي بإلفات الأنظار إلى الموقف الذي وقفه قادة الحزب وزعماؤه، تجاه النقد الذاتي الذي أعلنه الرئيس جمال عبد الناصر:

لو التزم قادة الحزب العمل بما يقتضيه " حسن النية وحسن السياسة " في هذا المضمار، لوجب عليهم: أولاً : أن يقابلوا تصريحات الرئيس السالفة الذكر بالتقدير التام، ثم يحاولوا إتمام سلسلتها بحلقات اخرى، إذا اعتقدوا أن هناك أخطاء اخرى، لا بد من ملاحظتها، لتجنب حدوث أمثالها في المستقبل.

ولكنهم التزموا خطة معاكسة لذلك تمام المعاكسة: فانهم، أولاً تجاهلوا تلك التصريحات، ثم قالوا: " ان الاعتراف بالأخطاء لا يكفي، بل لا بد من تصحيح الأخطاء "، وذلك دون أن يسألوا أنفسهم " هل من سبيل إلى تغيير ما مضى وفات؟ " وفي الأخير تناسوا تصريحات النقد الذاتي، وواصلوا ترديد أحاديث الأخطاء، دون انقطاع..

هذا، مع أن معظم ما قالوه وكتبوه في هذا المضمار، إذا خرج من جو الابهام والغموض، ما كان يخرج عن نطاق تصريحات الرئيس المصري، إلا بعبارات " التسلط الفردي والتسلط الاقليمي ".

وغني عن البيان أن هذا السلوك كان ينافي كل ما يستلزمه حسن النية وحسن السياسة، في أمثال هذه الأمور.

لماذا سلكوا هذا المسلك؟

قال لي أحد البعثيين، عندما سمع انتقاداتي هذه :- انهم سلكوا هذا المسلك لكي يقطعوا الطريق على الانفصاليين الذين كانوا يرددون شعارات الاخطاء. فاضطروا أن يقولوا: " نعم أخطاء، كثيرة وخطيرة، ولكنها لا تبرر الانفصال ".

هذا التعليل لم يقنعني أبداً. فقلت لمخاطبي : ان ما تقوله لا يمكن أن يبرر، بوجه من الوجوه، عدم الانقطاع عن ترديد أحاديث الأخطاء مع تجسيمها في مختلف المناسبات. فضلاً عن أن ذلك لا يدل على تفكيرسليم في معالجة القضايا القومية. تقول انهم كانوا يواصلون التهجم على جمال عبد الناصر، لكي يحاربوا الانفصاليين. أفلا يدل ذلك على انهم كانوا يهتمون باقوال الانفصاليين السوريين، أكثر مما يهتمون بستلزمات القومية وبعواطف المصريين؟ انهم كانوا يحسبون حساباً لاتجاهات الانفصاليين، ولا يحسبون حساباً لردود الفعل التي كان لا بد أن تحدثها كتاباتهم وأقوالهم هذه في نفوس المصريين، ولا سيما بعد الاهانات التي لحقتهم في الأيام الأولى من كارثة الانفصال..

ولا أدري، كيف انهم لم ينتبهوا إلى أن عملهم هذا كان بمثابة تخريش الجروح المؤلمة، واستفزاز النفوس المتألمة؟

إني قرأت العشرات من أعداد جريدة حزب البعث، ولم أجد بينها نسخة واحدة خلت من ترديد أخطاء الحكم الناصري، بجانب عبارات التسلط الفردي والتسلط الاقليمي.

وأذكر اني قرأت مرة في أحد أعداد " البعث "- وكنت في جنيف- مقالة طويلة مكتوبة رداً على دعايات أكرم الحوراني، يستمر البحث فيها بهدوء منطقي ونظرة موضوعية، وعندما أتممت قراءة حقلها الثاني، قلت في نفسي " هذه أول مرة أقرأ في جريدة البعث مقالة خلت من كلمات الأخطاء والتسلط ". ولكن عندما وصلت إلى نهايتها، صدمت صدمة عنيفة، لاني علمت أن محرر المقالة لم يرد أن ينهيها دون أن يضرب على وتر الأخطاء.

إن سلوك جريدة البعث في هذا المضمار، ذكرني بقصة الشيخ الروماني القديم الذي كان آلى على نفسه أن لا ينهي خطبة من خطبه- مهما كان موضوعها- دون أن يقول:

" يجب هدم قرطاجة ".

كما ذكرني بسلوك كليمانصو الذي كان اعتاد، أيام الحرب العالمية الأولى، أن يقول في نهاية كل خطبة من خطبه في البرلمان الفرنسي:

" والالمان في نوايون " ( أي : انهم في القرب من باريس).

كأن الجريدة تعتبر جمال عبد الناصر عدواً لدوداً يجب تهديمه، وعدم الانقطاع عن تذكير الناس بأخطائه.

ومن الغريب، انه في الوقت الذي كانت جريدتهم تسلك هذا المسلك، كان البعض من قادتهم يقول ويكرر القول:

" اننا لسنا ضد جمال عبد الناصر.. اننا لا نسعى وراء وحدة تستبعد جمال عبد الناصر ".

ولكن يجدر بنا أن نتساءل: إذا كانوا يعتقدون حقيقة أن الوحدة لا بدّ أن تتم مع جمال عبد الناصر، فلماذا يوالون الحديث عن أخطاء حكم عبد الناصر، ولا ينقطعون عن ترديد الأخطاء، متجاهلين ومتناسين اعترافاته الخالصة والمخلصة؟

إني لم استطع أن أعلّل ذلك، إلا بأحد الأمرين التاليين:

إما عدم خلوص النية، واما عدم تقدير العواقب.

وبتعبيرآخر: اما انهم كانوا يقولون غير ما يضمرون وإما انهم ما كانوا يتبصرون في عواقب ما يقولون.

ولذلك أقول، في كلتا الحالتين، انهم كانوا ينحرفون عن الطريق السوي الذي يؤدي إلى خدمة القومية العربية، وتحقيق الوحدة العربية.

حول قصة الكيان السوري عدل

الكيان السوري عدل

الكيان، المحافظة على الكيان، الدفاع عن الكيان، عدم التفريط في الكيان...

هذه الكلمات والتعبيرات كانت- حتى 28 أيلول/ سبتمبر 1961- من خصائص لبنان. ولكنها، بعد التاريخ المذكور، صارت تظهر وتنتشر في سوريا أيضاً ، حتى أن عدة جرائد بيروتية [ مثل سؤال محمد باقر شري في جريدة : الكفاح ، 24/5/1962 ] أشارت إلى ذلك، وصارت تتكلم عن " سوريا اللبنانية " وتعلن اغتباطها من " لبننة سوريا ".

ومن أغرب الأمور: ان رجال " حزب البعث العربي " أيضاً أخذوا يفكرون في الكيان السوري . غير أن قادتهم، عندما لاحظوا أن ذلك يعرضهم لأسئلة محرجة رأوا أن يتجنبوا هذا الاحراج باستعمال كلمة غير الكيان، فصاروا يتكلمون عن " الوجود السوري ".

وبذلك أصبح الكيان السوري أو الوجود السوري مدار حديث الكثيرين في سوريا، على اختلاف ميولهم السياسية. حتى أن بعضهم أخذ يتباهى بقدم الوجود السوري، إن سوريا كانت موجودة من آلاف السنين، ويتخذ ذلك ذريعة لطلب استمرار الوجود السوري.

ولكن، حقائق التاريخ لا تؤيد مزاعم هؤلاء بوجه من الوجوه، بل تشهد على أن سوريا الحالية حديثة الوجود والكيان.

في الواقع أن مدن دمشق وحلب واللاذقية وحماه وحمص ودرعا والسويداء والرقة ودير الزور... كانت موجودة منذ آلاف من السنين، غير أن تجمع هذه المدن لتكوين سوريا- بمعناها الحالي- لم يتم إلا بين سنة 1918 وبين سنة 1943.

في الواقع أن دمشق كانت عاصمة الدولة الأموية، ولكن ذلك لا يجوز أن يعتبر دليلاً على وجود سوريا في عهد الدولة المذكورة، لأن أراضي الدولة الأموية كانت تمتد من أسوار الصين إلى سواحل المحيط الأطلسي. واما سوريا فما كانت تظهر على تلك الأراضي، حتى على شكل وحدة إدارية.

وكذلك الأمر في عهود الدول التي قامت بعد الأمويين فانها أيضاً لم تعرف في تقسيماتها الادارية شيئاً يشبه سوريا الحالية من قريب أو من بعيد.

فالتكلم عن قدم الوجود السوري- أو الكيان السوري- إن دل على شيء، فإنما يدل على الانخداع بمظاهر الكلمات ، دون الالتفات إلى مدلولاتها الحقيقية.

ولاظهار هذه الحقيقة إلى العيان، وتبيين كيفية تكوّن سوريا الحالية بوضوح تام... رسمت خريطة زمانية، تلخص التطورات التي حدثت في بلاد الشام منذ بداية الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وكتبت المقالة التالية لشرح الخريطة المذكورة.

بلاد الشام : عدل

من بداية الحرب العالمية الأولى إلى نهاية الحرب العالمية الثانية في عهد الدولة العثمانية

البلاد التابعة إلى الدولة العثمانية، كانت تقسم- من الوجهة الإدارية- إلى ولايات، والولايات إلى متصرفيات والمتصرفيات إلى قائمقاميات.

غير أن بعض القائمقاميات كانت تربط بمركز الولاية رأساًَ ، دون وساطة متصرفية من المتصرفيات، كما أن بعض المتصرفيات كانت تربط بوزارة الداخلية رأساً ، دون وساطة ولاية من الولايات. وهذه المتصرفيات كانت تسمى " مستقلة " بمعنى أنها مستقلة عن ولايات.

وفي بداية الحرب العالمية الأولى، كانت بلاد الشام تنقسم إلى ثلاث ولايات وثلاث متصرفيات مستقلة، هي ولايات سوريا وحلب وبيروت، ومتصرفيات دير الزور والقدس ولبنان.

وكانت ولاية سوريا تضم فضلاً عن مركز الشام (دمشق) والأقضية التابعة لها، متصرفيات حماه وحوران والكرك.

وكانت ولاية بيروت تضم فضلا عن مركز بيروت والأقضية التابعة لها، متصرفيات نابلس وعكا وطرابلس واللاذقية.

واما ولاية حلب، فكانت تضم فضلا عن مركز حلب والأقضية التابعة لها، متصرفية أورفه ومتصرفية مرعش.

وكانت جميع هذه الولايات والمتصرفيات تدار وفقاً للقوانين والأنظمة المقررة لجميع البلاد العثمانية. غير أن متصرفية لبنان كانت تتمتع بامتيازات إدارية خاصة، ولذلك كانت تسمى " متصرفية ممتازة ".

عهد انتهاء الحرب العالمية الأولى

عند انتهاء الحرب العالمية الأولى- وجلاء الجيوش العثمانية من جميع أقسام البلاد الشامية- اعتبرت البلاد المذكورة من " بلاد العدو المحتلة "- وفقاً للتعبير المقرر في حقوق الدول- فوجب إدارتها عسكرياً، إلى حين عقد الصلح.

وأمر القائد العام اللنبي بتقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق عسكرية، وعهد بادارتها إلى كل من الجيش البريطاني والجيش الفرنسي والجيش العربي .

منطقة الجيش البريطاني: تكوّنت من القسم الساحلي الجنوبي من بلاد الشام، وضمت متصرفية القدس المستقلة، مع متصرفيتي نابلس وعكا اللتين كانتا تابعتين إلى ولاية بيروت. منطقة الجيش الفرنسي: تكوّنت من القسم الساحلي الشمالي من بلاد الشام، وضمت متصرفية لبنان القديمة، مع بيروت وصيدا وصور جنوبا، وطرابلس واللاذقية شمالاً.

وأما منطقة الجيش العربي : فقد تكوّنت من الأقسام الداخلية من بر الشام ، من شمال حلب حتى جنوب معان وضمت أقسام ولاية سوريا ومتصرفية دير الزور ومركز حلب والأقضية التابعة للمركز، باستثناء الأقضية الساحلية (اسكندرون وانطاكية) التي دخلت في منطقة الجيش الافرنسي.

ومما تجب ملاحظته: أولاً، أن متصرفية دير الزور، كان قد تم احتلالها من قبل الجيش البريطاني الذي أتى من العراق، ولكنها بعد ثورة رمضان الشلاش ألحقت بمنطقة الجيش العربي في سوريا.

ثانياً : ان منطقة الجيش الفرنسي كانت تشمل- فضلاً عن البلاد الشامية المذكورة آنفاً- كليكيا (أي: ولاية أضنة) والألوية والأقضية الشمالية من ولاية حلب (كلس، أورفه، مرعش).

هذه الأقسام من ولاية حلب لم تدخل في منطقة الجيش العربي .

المملكة العربية السورية

ان منطقة الجيش العربي صارت مركزاً للحركات الرامية إلى تكوين الدولة السورية بحدودها الطبيعية: انعقد فيها المؤتمر السوري العام، من ممثلين لجميع البلاد الشامية، وتكوّن فيها إدارة مدنية، مع مجلس للمديرين. إلا أن القيادة العامة اعترضت على ذلك بحجة أن حقوق الدول لا تسمح بتأليف حكومة مدنية قبل عقد الصلح. ومع ذلك استمر مجلس المديرين في العمل، قائلاً انه مجلس استشاري تابع إلى قيادة الجيوش الشمالية العربية.

وفي الأخير، قرر المؤتمر السوري العام اعلان استقلال سوريا بحدودها الطبيعية - من جبال طوروس حتى رفح- مع انتخاب الأمير فيصل بن الحسين ملكا عليها.

وقد تم اعلان الاستقلال في اليوم الثامن من شهر آذار/ مارس سنة 1920. وكان يتضمن- في الوقت نفسه- طلب جلاء الجيوش الأجنبية عن جميع الأراضي السورية، أي جلاء الجيوش الفرنسية عن القسم الساحلي الشمالي، والجيوش البريطانية عن القسم الساحلي الجنوبي.

ولكن الدولتين المذكورتين لم تعترفا بـ " المملكة العربية السورية " التي تكوّنت بهذه الصورة، وحملتا مجلس عصبة الأمم على تقرير انتداب فرنسا وانكلترا على البلاد.

وفرنسا- بعد الاتفاق مع انكلترا- حشدت جيوشها في المنطقة الساحلية، وزحفت منها إلى سوريا الداخلية، وقضت على المملكة العربية السورية، وفرضت انتدابها على سوريا بقوة السلاح.

الدول التي خلقتها فرنسا

ان نظام الانتداب قسم البلاد الشامية إلى قسمين، ووضع قسمها الجنوبي تحت الانتداب البريطاني وقسمها الشمالي تحت الانتداب الفرنسي. وفرنسا، عندما زحفت على سوريا الداخلية- بعد يوم ميسلون- لم تحتلها بكاملها، بل تركت قسمها الجنوبي إلى بريطانيا، وهذه أنشأت هناك- أي : في متصرفية الكرك القديمة- إمارة عرفت باسم " إمارة شرق الأردن ".

وأما فرنسا، فقد أخذت تتصرف في البلاد التي وقعت تحت انتدابها، كما تشاء. فأنشأت فيها- بين سنة 1920 وسنة 1922- ست وحدات سياسية، أضفت على كل واحدة منها صفة " المستقلة " لكونها مستقلة عن غيرها من البلاد السورية، ولو كانت خاضعة لسيطرتها، هي :

أ- دولة لبنان الكبير :

تكوّنت من متصرفية جبل لبنان القديمة، مضافاً إليها بيروت، مع صيدا وصور جنوباً، وطرابلس الشام شمالاً، والأقضية الأربعة شرقاً.

ب- حكومة اللاذقية المستقلة:

تكوّنت من متصرفية اللاذقية التي كانت تابعة إلى ولاية بيروت، وسمتها " حكومة " ليحكمها حاكم افرنسي.

ج- سنجق الاسكندرون:

تكوّن من قضاءي اسكندرون وانطاكية، اللذين كانا تابعين إلى مركز ولاية حلب القديمة، سمته " سنجق " ليحكمه حاكم افرنسي، منفصلاً عن سائر أقسام سوريا بحجة مراعاة الأقلية التركية القاطنة فيه.

د- حكومة جبل الدروز المستقلة:

تكوّنت من جبل الدروز، وأسمتها " حكومة " ليحكمها حاكم افرنسي، منفصلة عن سائر أقسام البلاد السورية.

هـ- دولة دمشق:

تكوّنت مما تبقى من ولاية سوريا القديمة، بعد فصل جبل الدروز وشرق الأردن، والأقضية الأربعة منها.

بهذه الصورة انقسمت البلاد الشامية إلى ثماني دول وحكومات، اثنتان منها تحت الانتداب البريطاني، وست منها تحت الانتداب الفرنسي.

إن الخريطة المرفقة مع هذا البحث تبين التقسيمات السياسية للبلاد " المشمولة بالانتداب الافرنسي ".

اتحاد الدول السورية المستقلة

وقد أنشأت فرنسا اتحاداً بين ثلاث من الدول المذكورة بموجب دستور أصدرته سنة 1922.

وقد نصت المادة الأولى من الدستور على ما يلي:

قد أنشىء اتحاد بين دول السورية المستقلة المؤلفة من دولة حلب ودولة دمشق وأراضي العلويين.

ونصّت المادة السادسة من الدستور المذكور على ما يلي:

يؤلف المجلس الاتحادي من خمسة ممثلين لدولة دمشق وخمسة لدولة حلب وخمسة لبلاد العلويين.

ونصّت المادة السابعة من الدستور المذكور على ما يلي :

يلتئم المجلس الاتحادي بالمناوبة تارة في الشام وتارة في حلب في كل منها سنة واحدة.

إن الاتحاد الذي أنشأته فرنسا بهذه الصورة بين دول حلب ودمشق واللاذقية عاش نحو ثلاث سنوات، ثم زال بسبب اندماج دولتي حلب ودمشق، وتكوين الدولة السورية.

اندماج دولتي دمشق وحلب

أرادت فرنسا أن تثبت كيان " دولة حلب " بقرار يصدر من مجلس تمثيلي، وقررت اجراء انتخابات نيابية، اعتقاداً منها بأن المجلس المذكور لا بد أن يتمسك بالاستقلال الممنوح لدولة حلب.

ولكن المجلس التمثيلي لدولة حلب، عندما اجتمع، قرر الاندماج مع دولة " دمشق.

ولذلك اضطرت فرنسا إلى توحيد الدولتين المذكورتين تحت اسم " الدولة السور ية ".

ولكنها أبقت سنجق الاسكندرون، وحكومتي جبل الدروز واللاذقية 

منفصلة ومستقلة عن الدولة السورية.

اللغة الرسمية في الدول التابعة للانتداب الفرنسي

إن مبلغ سيطرة فرنسا على الدول والحكومات التي أنشأتها في البلاد الشامية - ومبلغ تدخلها في شؤونها الداخلية- يتجلى بوضوح تام، مما أقرته عن اللغة الرسمية، في الدساتير التي وضعتها لكل واحدة منها:

أ- ان المادة العاشرة من القانون الأساسي المقرر لكل من حكومة اللاذقية وحكومة جبل الدروز سنة 1930، تنص على ما يلي:

اللغتان العربية والفرنساوية هما اللغتان الرسميتان

ب- المادة العاشرة من الدستور المقرر لدولة لبنان سنة 1926، تنص على ما يلي :

اللغة العربية هي اللغة الوطنية الرسمية في جميع دوائر الدولة. واللغة الفرنسية هي أيضاً لغة رسمية. وستحدد بقانون خاص الأحوال التي تستعمل فيها.

ج- والمادة الرابعة والعشرون من الدستور المقرر لدولة سوريا سنة 1930 تنص على مايلي :

اللغة العربية هي اللغة الرسمية في جميع دوائر الدولة، إلا في الأحوال التي تضاف إليها بهذه الصفة لغات أخرى، بموجب القانون أو بموجب اتفاق دولي.

يلاحظ أن الفروق بين هذه النصوص الثلاثة كبيرة جداً .

في جبل الدروز وفي اللاذقية: اللغة العربية واللغة الفرنسية لغتان رسميتان في درجة واحدة.

في لبنان: اللغتان العربية والفرنسية رسميتان، غير أن اللغة العربية تتقدم على اللغة الفرنسية، لأن اللغة الفرنسية لن تستعمل إلا في الأحوال التي سيحددها قانون خاص.

وأما في سوريا، فاللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة ولا ذكر للغة الفرنسية على الاطلاق. وان كان هناك إشارة إلى امكان استعمال لغات أخرى في الأحوال التي تتقرر بموجب قانون خاص أو بموجب قانون دولي.

مفاوضات سنة 1936

هذه التقسيمات استمرت دون أي تغيير، حتى قبيل الحرب العالمية الثانية.

فرنسا- بعد سلسلة من الاحداث- تخلت عن سنجق الاسكندرون إلى تركيا، لتضمن انضمامها إلى الدول المتحالفة، خلال الحرب العالمية الثانية، التي أخذت تستعد لها- مع حلفائها- بكل ما لديها من قوى عسكرية وسياسية.

وأما حكومتا اللاذقية وجبل الدروز، فقد وضع في اتفاقية 1936 مادة تنص على الحاقهما بالجمهورية السورية. غير أن عدم موافقة البرلمان الفرنسي على الاتفاقية المذكورة حال دون تنفيذ أحكام تلك المادة.

ولهذا السبب، لم تندمج اللاذقية وجبل الدروز بالجمهورية السورية، إلا خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك عند اعلان انتهاء الانتداب الفرنسي، وتقرير استقلال الجمهورية السورية.

يتبين من كل ما سبق: أن أراضي الجمهورية السورية الحالية كانت- قبل أربعين عاماً- [ عند كتابة هذا الكتاب عام 1963 ] مقسمة بين خمس دول وحكومات مستقلة بعضها عن بعض.

انها لم تكتسب حدودها الحالية إلا منذ عشرين عاماً فقط.

كما يتبين أن حدود سوريا الحالية لا تنسجم مع أي من الأوضاع التاريخية الماضية، ولا تنطبق على شيء من أوضاع الجغرافيا الطبيعية.

فالقول- مع كل ذلك- أن سوريا كانت موجودة منذ مئات أو آلاف السنين يخالف الحقائق الثابتة مخالفة تامة.

إن الخريطة الزمنية الملحقة بهذا البحث، تظهر إلى العيان كيفية تطور تقسيمات بلاد الشام، من بداية الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

(مما تجدر الاشارة إليه: اننا لم نر مجالاً لإظهار سنجق الاسكندرون في الخريطة المذكورة، فاكتفينا بإظهار موقعها على الخريطة الجغرافية).

لقد استعملنا في الخريطة وفي البحث، تعبير " بلاد الشام " اسوة بما كان يفعله أجدادنا في كتب التاريخ والجغرافيا.

الحوظة:

إن تاريخ إلحاق منطقتي جبل الدروز وجبل العلويين بسوريا يحتاج إلى بعض التوضيح: كان الجنرال كاترو أعلن- في أواخر سنة 1941- إلحاق المنطقتين بسوريا على ان تحتفظا باستقلالهما الاداري والمالي. وبما انهما ما كانتا تتمتعمان بالاستقلال في الأمور الاخرى، كان الالحاق اسمياً فقط. وأما إلحاق المنطقتين إلحاقا تاماً فلم يتم إلا سنة 1942.

نماذج من التفكير الضال والمضلل عدل

في الصفحات التالية طائفة من نماذج التفكير الضال والمضلل الذي لاحظته بين جماعات من السوريين قبل الانفصال وبعده

حول قضية قضائية

حول قضية تجارية

لجان المصالحة وتأثيرها في موارد المحامين

في المجلس الاعلى للجامعات

حول تعبير الامين العام

قصة ساعات الدروس الاضافية

حول ساعات الدروس الاسبوعية

قصص الكرامة


حول قضية قضائية عدل

كلما التقيت ببعض السوريين في القاهرة أو في بيروت أو في جنيف ، وكلما سمعت منهم أخبار تذمر الناس من الوحدة ، كنت أطلب إليهم أن يذكروا وقائع معينة ، واناقش البعض منهم على دلالة الوقائع التي يروونها .

وإن أنس لا أنس الملاحظة الغريبة التي صدمني بها أحد هؤلاء ، وكان من المثقفين المرموقين :

قص عليّ ، بانفعال شديد ، تفاصيل قضية قضائية ، قال انها انتهت إلى حكم جائر ، أهدر حقاً ثابتاً ... وانهى حديثه بالكلمات التالية :

- ظلم صريح .. ظلم فادح .. إني لم استوعب وقائع القضية تماماً ، ولكن لم أشأ إطالة الحديث في القضية نفسها ، فوجهت إلى مخاطبي هذا السؤال :

- القاضي .. الذي حكم ، هل كان مصرياً ؟

قال : لا .. كان سورياً . ثم سألته : والقانون الذي يحكم بموجبه أمثال هذه القضايا ، هل كان جديداً ؟ قال : لا ، القانون قديم ..

قلت له عندئذ : إذن ماهي علاقة هذه القضية بالوحدة ؟ المحاكم ، في كل بلاد العالم تعجز أحياناً عن احقاق الحقوق ، إما من جراء فقدان الوثائق الثبوتية ، وإما من جراء خطأ ، وفي بعض الأحيان من جراء سوء استعمال السلطة . أما كان يحدث أمثال ذلك في سوريا نفسها، قبل وحدتها مع مصر؟ فلماذا تربطون هذه القضية بالوحدة وتعتبرون الوحدة مسؤولة عنها.

وأما مخاطبي، فقد فاجأني بالجواب التالي : - أما كان يجب على الوحدة أن تصلح الأمور، فلا تترك مجالاً لاهدار الحقوق؟

إن هذا الجواب كشف أمام عينيّ اتجاهاً خطيراً في التفكير الهدام.

يظهر أن الرجل كان ينتظر من الوحدة أن تأتي بمعجزة، كأنها تملك عصا سحرية، تستطيع أن تغير كل الأحوال وتصلح كل الأمور في حملة واحدة، فتحقق ما عجزت عن تحقيقه أرقى بلاد العالم : المدينة الفاضلة التي يسود في جميع أرجائها العدل المطلق والخير العميم...

ولكني، بعد ذلك، عندما زادت اتصالاتي برجال سوريا، لاحظت أن هذا الاتجاه الفكري الخطير لم يكن شاذاً، وخاصاً ببعض الاشخاص، بل كان سائداً عند الكثيرين، من مختلف الطبقات.

إن كل مطلب، كل تشك ، كل تظلم كان يوجه إلى الوحدة. وكانت الوحدة تعتبر مسؤولة عن كل خطأ حكومي، وعن كل تقصيرإداري، بل عن كل ما يأتي مخالفاً لمصالح هذا أو ذاك من الأشخاص والهيئات.

غني عن البيان، أن أهم عوامل هذا النوع من التفكير الهدام كان شدة أنانية البعض، وسذاجة تفكير البعض الآخر، بجانب قلة إهتمام الكثيرين بالصالح العام، وضعف التربية السياسية بين المثقفين.

ولكن مما لا مجال للشك فيه: ان إيحاءات وتضليلات الاذاعات المعادية للوحدة لعبت دوراً هاماً في هذا المضمار. لانها لم تنقطع عن التوسل بكل وسائل الحرب النفسية بمهارة فائقة، فثابرت على تغذية هذا النوع من التفكير الهدام وتقويته بكل إهتمام.

ومما يؤسف له كل الأسف: ان القوميين الوحدويين- على اختلاف أنواعهم- لم ينتبهوا إلى هذه الأنواع من الاتجاهات والتوجيهات الفكرية الخطيرة، ولم يبذلوا أي جهد لمكافحتها بوسائل ناجعة.

قضية تجارية عدل

زارني يوماً في القاهرة- قبل الانفصال- أحد ساسة سوريا الكبار، وكان ممن يتكلمون كثيراً عن الوحدة العربية، والقومية العربية. حتى انه كان أهداني نسخة مطبوعة بالاستنسيل، من المحاضرات التي ألقاها في الكويت حول القومية العربية.

فرأيت أن أستطلع بعض الأمور منه، فكلمته عما أسمعه من وجود تذمر بين السوريين.

وهو، اكد وجود التذمر، فقال:

- بما اني أعرف بأنك تبحث على الدوام عن وقائع موضوعية اذكر لك احدى القضايا:

وأخذ يقص عليّ ما حدث في عالم التجارة من جراء توزيع الـ " بوتوغاز ". ذكر لي اين كان يستحضر الغاز، ومن اين كانت تأتي (المخازن) الحديدية التي يكبس فيها الغاز، فتوزع على البيوت، ثم شرح لي كيف ان بعض التجار المصريين أرادوا أن يحتكروا تجارتها، وقال :

- احتججنا على ذلك، وتعبنا كثيراً حتى تغلبنا على هؤلاء المحتكرين...

وأنا، بعدما أصغيت إلى كل ما قاله في هذه القضية التجارية، قلت له:

- إذن، ان القضية انتهت على خيرما يرام..

وأما هو، فأجاب: ولكن، بعد التعب..

هذا الجواب الصغير أثار في ذهني سلسلة من الملاحظات:

ان ميدان التجارة قلما يخلو من أعمال الاحتكار والمحتكرين، وفي كل البلاد كثيراً ما يظهر من بين التجار، من يريد أن يضمن لنفسه أعظم الأرباح بأقصر الطرق، فيقتنص الفرص لاحتكار تجارة بعض السلع، للاستئثار بالارباح. وسوريا نفسها عرفت أمثلة كثيرة على ذلك في مختلف الظروف والعهود. وأنا أذكر جيداً، بأني عندما كنت هناك- بين سنة 1944 وبين سنة 1947- كنت أسمع كثيراً من الأخبار عن جشع التاجر الفلاني، وعن كيفية احتكاره للسلع الفلانية. حتى اني كنت أسمع أحياناً تقولات عن انتساب التاجر الفلاني إلى الوزير الفلاني وعن كيفية استغلاله لهذا الانتساب.. فليس من المستغرب أن يظهر من بين التجار المصريين من يحاول اقتناص الظروف لاحتكار تجارة بعض الأشياء. ولكن ما يجب استغرابه واستنكاره في هذا المضمار: ان تلصق أمثال هذه الأعمال والمحاولات بـ " الوحدة "، وان تسجل على ذمتها، حتى بعد أن تتم معالجتها والقضاء عليها.

وعندما ذكرت هذه الملاحظات إلى محدثي الزائر قال:

- كل هذا صحيح، ولكنك تعرف أن الناس لا يفكرون في هذه الأمور بهذه الصورة، بل يتأثرون منها كثيراً . فيتذكرونها ويذكرونها حتى بعد ملافاتها، ولا سيما إذا تمت الملافاة بعد تعب.

وأنا قلت له عندئذ: ولكن، أليس من واجب الساسة المفكرين أمثالكم أن ينوروا الناس في حقائق هذه الأمور، فيحولوا دون انتشار وتفشي أمثال هذه التهم الجائرة على الوحدة؟

وهو رد على سؤالي هذا، بقوله :

- نحن نسعى.. ولكن، تعرف ، أن الناس...

هذا الحديث كان قد جرى بيني وبين السياسي السوري، في أوائل سنة 1961.

ولكن، بعد أشهر معدودة، علمت انه قد انضم إلى الانفصاليين وصار يتقدم صفوفهم، با ندفاع غريب.

وتأكدت عندئذ، انه هو أيضاً كان يفكر مثل تفكير ما كان يسميه " الناس ". وربما كان من الذين استغلوا هذا النوع من التفكير لتبرير الانفصال وتأييده.

لجان المصالحة أضرت المحامين عدل

في الأيام الأولى من حركة الانفصال التقيت في بيروت بأحد الوجهاء السوريين.

وفي خلال الحديث الذي جرى بيني وبينه عن أحداث الانفصال انتقل الكلام إلى سلوك أحد المحامين- وكان قد تولى إحدى الوزارات- وقال لي الوجيه السوري :

- ماذا يعمل ؟ قطعوا أرزاقه. قطعوا أرزاق المحامين . فماذا يعمل؟

- استغربت هذا الكلام وسألته:

- كيف قطعوا أرزاق المحامين؟

وهو أجاب على سؤالي، مؤكداً :

- نعم، قطعوا أرزاق المحامين. لأنهم بعد أن كوّنوا " الاتحاد القومي " ألفوا فيه " لجان مصالحة " وصار الكثيرون من أصحاب الدعاوى يحلّون قضاياهم في اللجان المذكورة فلا يذهبون إلى المحاكم. ولذلك لم يعودوا في حاجة إلى وساطة المحامين. ولهذا السبب قلت لك : انهم قطعوا أرزاق المحامين.

استمعت إلى هذه الكلمات، بشيء من الذهول:

كيف يمكن أن تصل روح الانانية ونوازع النفعية إلى هذا الحد من الاستشراء؟ كيف يمكن أن يصل الضلال والتضليل إلى حد تحويل الحسنات إلى سيئات؟

فانه من الأمور التي لا يمكن أن يختلف فيها اثنان من ذوي العقول: أن لجان المصالحة، إذا كانت قد نجحت حقيقة في التأليف بين الكثيرين من أصحاب الدعاوى... فلم تترك لديهم أي حاجة إلى مراجعة المحاكم والمحامين فإن هذا يجب أن يسجل لها في دفتر الحسنات، بمداد من الذهب.

واما ادخال ذلك في عداد " السيئات " بحجة انه يقلل أرباح طائفة من المحامين... دون الالتفات إلى الخدمات الثمينة التي يقدمها إلى الالوف المؤلفة من المواطنين الآخرين فيجب أن يعتبر من أبرز أمثلة الضلال وأقصى درجات التضليل.

في مجلس الجامعات عدل

نحن واحد، وهم ثلاثة.

هذه العبارة كثيراً ما سمعتها وقرأتها عن لسان طائفة من أساتذة الجامعة السورية.

كانوا يقولون: نحن واحد، وهم ثلاثة.. وكانوا يقصدون من قولهم هذا: في سوريا جامعة واحدة، وفي مصر ثلاث جامعات. ولذلك تتغلب الجامعات المصرية على الجامعة السورية.

هذه العبارة تدل على بعد قائليها عن التفكير العلمي السليم والروح الجامعية القويمة، وتنمّ- في الوقت نفسه عن روح إقليمية دفينة.

لأنها تفرض " تكتل الجامعات المصرية ضد الجامعة السورية "، و " تحزب الأساتذة المصريين بأجمعهم على الأساتذة السوريين بدون استثناء "، وهذا يخالف الحقيقة والواقع والعقل والمنطق.

لأن من الحقائق التي لا يجهلها أحد ممن يتصلون بالجامعات، ويعرفون شيئاً عن أحوال أساتذتها : ان كل جامعة تضم بين أساتذتها- حتى بين الذين يعملون في كلية واحدة- عدداً غير قليل ممن يختلف بعضهم عن بعض اختلافاً كبيراً ، من حيث الاتجاهات الفكرية والميول الاجتماعية، والنوازع السياسية. إذ يوجد بينهم المحافظون والمجددون، كما يوجد بين المحافظين منهم المعتدل والمتطرف، وبين المجددين منهم المتروي والمتسرع، ويوجد من يرى التدرج والاعتدال في التجديد، ومن يقول بوجوب السير فيه بأقصى السرعة وإلى أبعد مدى.

ولدي أمثلة عديدة من جميع الجامعات العربية، أولا بالنسبة إلى أساتذة كليات الآداب والتربية، وثانياً بالنسبة إلى كليات الحقوق والتجارة.

ولذلك أستطيع أن أقول، بكل تأكيد: ربّ استاذ سوري يستطيع أن يتفاهم مع بعض الاساتذة المصريين، أكثر مما يستطيع أن يتفاهم مع زملائه السوريين. كما انه ربّ استاذ مصري يتفق في الرأي مع بعض الاساتذة السوريين أكثر مما يتفق مع البعض من زملائه المصريين .

والذي ينتظر من أساتذة الجامعات- عندما يجتمعون لمناقشة بعض الأمور واتخاذ بعض القرارات- ان يدرسوا القضايا دراسة موضوعية، وفق ما تقتضيه أساليب البحث العلمي، دون أن يتحزبوا لجامعتهم، أو يتعصبوا لاقليمهم.

فيجب عليهم أن لا يتحزبوا ويتعصبوا إلا للفكرة.

ومن المعلوم أن الفكرة الواحدة، قد تجمع حولها أساتذة من مختلف الجامعات، كما انها قد تصطدم بمعارضة مؤلفة من أساتذة ينتسبون إلى مختلف الجامعات.

ولذلك كله، أكرر القول: ان عبارة " نحن واحد، وهم ثلاثة " تدل على البعد عن التفكير العلمي والروح الجامعية، كما انها تنم عن نزعة إقليمية دفينة.

حول تعبير الأمين العام عدل

سمعت من إذاعة دمشق حديثاً لأحد أساتذة الجامعة، عن ذكرياته المتعلقة بالاجتماعات التي عقدت في القاهرة لتنسيق شؤون الجامعات، في أوائل عهد الوحدة. وقد وصف الأستاذ ذكرياته هذه بالمريرة.

والواقعة التي ذكرها خلال حديثه هذا تعود إلى مناقشة تعبيري " السكرتيرالعام " و " الأمين العام ".

عندما اقترح الاستاذ المتحدث ترجيح تعبير " الأمين العام " المقرر في الجامعة السورية على تعبير " السكرتير العام " المقرر والمعتاد في الجامعات المصرية، اعترض عليه مدير جامعة القاهرة، وتبعه في الاعتراض عدة أساتذة من جامعات القاهرة وعين شمس والاسكندرية. وبعد نقاش طويل، قررت الاكثرية ترجيح تعبير " الأمين العام "، وفقاً لاقتراح الاستاذ.

وبعد الخروج من الجلسة، سمع الأستاذ بعض الأساتذة المصريين يتحدثون فيما بينهم " صحيح تعبير الأمين العام حلو".

أن من يتأمل في هذه الواقعة بصورة منطقية، وفق ما يقتضيه " الانصاف الفكري "، لا بد من أن يعتبرها دليلاً على انتصار الرأي الأصوب، لأن أكثرية الأساتذة المصريين صوتوا بجانب اقتراح السوريين، مع انهم كانوا ثلاثة أضعاف هؤلاء، على ما يقولون.

ولكن منطق الاستاذ المتحدث يقلب الأمور رأساً على عقب، ويذكر هذه الواقعة بين ذكرياته المريرة عن عهد الوحدة!

ومما تجدر الاشارة إليه في هذا المقام : في اليوم الذي سمعت ذلك من إذاعة دمشق، كنت أعلم العلم اليقين أن تعبير " السكرتير العام " كان قد زال من جميع الجامعات المصرية منذ مدة تزيد على السنتين لاني كنت تلقيت العديد من الرسائل والاحصاءات الصادرة من جامعات القاهرة وعين شمس والاسكندرية وأسيوط ، كلها موقعة بتوقيع الأمين العام للجامعة.

كما اني كنت أعلم أن " قانون تنظيم الجامعات " الصادر سنة 1959 كان قد أقر تعبير " الأمين العام "، حتى أن المذكرة التفسيرية الملحقة بالقانون أشارت إلى هذا التغيير في التعبير، وقالت أن ذلك يتمشى مع مقتضيات الفصاحة فضلاً عن انه أحسن دلالة على المعنى المقصود.

ولذلك تساءلت: ماذا يجب أن يسمى ذكر هذه الواقعة، بعد أن تم حلها على أحسن الصور، وبعد أن مضى عليها ما يقرب من ثلاث سنوات، ولا سيما ذكرها تحت عنوان " الذكريات المريرة ".

يظهر أن الأستاذ كان يريد أن يقبل اقتراحه على الفور دون أي اعتراض، أما، وقد ظهر بين الحاضرين من اعترض عليه، فقد أصبح من حقه أن يذكر ذلك بمرارة ولوكانت المناقشة قد انتهت بقبول اقتراحه!

أعتقد أن هذه القصة، تعطي نموذجاً بليغاً على خطأ تفكير الاساتذة الانفصاليين، وتظهر للعيان النوايا السيئة التي كانت تغذي أحاديثهم السامة.

قصة الساعات الأضافية عدل

عبد الكريم زهر الدين- الذي تولى وزارة الدفاع في عهد الانفصال- قال في أحد أحاديثه الاذاعية الكثيرة:

انهم أتوا إلى البلاد. بعدد كبير من المعلمين المصريين، في الوقت الذي كان الكثيرون من السوريين الذين يحملون الشهادات العالية يتضورون جوعاً في الشوارع .

إني تألمت كثيراً، عندما سمعت هذه الكذبة الكبيرة. ولكن بعد قليل من التأمل، قلت في نفسي : ان بعد هذا الادعاء عن الحقيقة لا يمكن أن يغيب عن أنظار أحد من السوريين العاقلين، فلا لزوم للاهتمام به أبداً .

ولكن... بعد نحو ستة أشهر من ذلك التاريخ، التقيت في جنيف بأحد الاساتذة الدمشقيين، وكان من حملة الدكتوراه، وخلال الحديث الذي جرى بينى وبينه عن أحداث سوريا الأخيرة، أخذ يدافع عن حكم الانفصال بشدة وحماس. فرأيت أن اناقشه في الآراء التي كان يبديها في سبيل تبرير الانفصال. وتكلمت عن سبل الأكاذيب والمفتريات الذي أخذ يتدفق من إذاعة دمشق. وذكرت له بهذه المناسبة ما قاله عبد الكريم زهر الدين عن قصة المعلمين المصريين، وسألته:

- لقد سمعت باذني قوله " أتوا بعدد كبير من المعلمين المصريين، في الوقت الذي كان حملة الشهادات العالية من السوريين يتضورون جوعاً في الشوارع " هل هذا القول صحيح؟ هل يوجد في شوارع سوريا- حقيقة- من يتضور جوعاً، مع انه حامل شهادة عالية؟

والاستاذ الدكتور رأى نفسه مضطراً إلى الاجابة عن سؤالي هذا بالنفي ، فقال: لا...

غير انه بعد شيء من التوقف والتردد، أضاف:

- ولكن المعلمين السوريين قد تضرروا فعلاً، من مجيء المعلمين المصريين .

عندئذ سألته مستفهما:- كيف؟

فقال:- كان الأساتذة السوريون يأخذون ساعات تدريس إضافية ويتقاضون مقابل ذلك مكافآت نقدية. ان مجيء الاساتذة المصريين، حرمهم من هذه الدروس الاضافية، والأجور الاضافية.

لقد دهشت من سماع هذه الكلمة، وهي تصدر من لسان أستاذ سوري يحمل شهادة الدكتوراه.

لأنه، من المعلوم أن تكليف المعلمين بتدريس ساعات اضافية- علاوة على، نصابهم النظامي- من الأمور التي تعوق حسن سير التعليم، فلا يجوز اللجوء إلى ذلك، إلا عند الضرورة القصوى، على أن تبذل أقصى الجهود لازالة تلك الضرورة بأقصى ما يمكن من السرعة، لتأمين تقدم التربية والتعليم في مختلف المدارس على الوجه الأكمل.

ويتبين من ذلك أن تخليص المدارس من ترتيبات الساعات الاضافية [ لأجل تنوير الاذهان في هذه القضية، أرى أن أشرح قليلاً مسألة " الساعات الاضافية " لكي يطلع عليها القراء الذين قد يكونون قليلي الاتصال بالانظمة المدرسية: إن الأنظمة المرعية في إدارات المدارس وملاكات المدرسين تحدد عدد ساعات التدريس التى يكلف بها المعلمون في مختلف درجات التعليم. وعند تقرير هذا " النصاب النظامي " يؤخذ بنظر الاعتبار حاجة المعلمين إلى تحضير الدروس، وتوسيع المعلومات. إذ من المعلوم أن المعلم، مهما كان متمكناً من موضوع دروسه، فإنه يحتاج إلى التفكير في كيفية توضيح الموضوع وتفهيمه للطلاب، وفي كيفية حمل الطلاب على التفكير فيه بأساليب مجدية. وذلك فضلاً عن حاجته إلى توسيع معلوماته وتنمية ثقافته.. بدون انقطاع.. فضلاً عن حاجته إلى الاستجمام الفكري . والادارات التي تشرف على شؤون المدارس، قد تضطر إلى تكليف بعض المعلمين تدريس ساعات تزيد على النصاب المقرر في الأنظمة. عندئذ تمنح لهم مكافأة نقدية، متناسبة مع عدد الساعات الاضافية، ولهذا السبب يعتبر ذلك من التدابيرالمؤقتة، التي لا يجوز اللجوء إليها إلا عند الضرورة، والتي يجب التخلص منها . لأجل ضمان حسن سير أمور التربية والتعليم في المدارس. ] يجب أن يسجل في جدول الحسنات، وأن يقابل بالتصفيق الحاد.

وأما اعتبار ذلك من " مساوىء عهد الوحدة "، فإن دل على شيء فإنما يدل على " عدم الاصغاء إلى نداء العلم والواجب "، و " التفكير في المنافع المادية التي تجنيها طائفة محدودة من المعلمين " أكثر من " التفكير في المنافع المعنوية التي ينالها التلاميذ ".

ساعات الدرس الاسبوعية عدل

في الاسابيع الأولى من قيام الحكم الانفصالي في سوريا سمعت من إذاعة دمشق، حديثاً جرى بين أحد المذيعين أو أحد الصحافيين، وبين الأستاذ الجامعي الذي تولى وزارة التربية والتعليم.

أهم الاسئلة التي وجهت إلى الوزير، خلال هذه المحادثة، كانت:

- ماذا ستعمل الوزارة لتلافي نقص المعلمين، بعد ذهاب المصريين؟

والأستاذ الوزير قال في جوابه ما يدل على انه لا يرى لزوماً لذلك القدر من المعلمين، وأوضح رأيه هذا بالتفاصيل التالية:

- كان عدد الساعات الاسبوعية في مناهج الدراسة 28 لكنهم زادوا هذا العدد، وابلغوه إلى الـ 36، وذلك لكي يرسلوا إلى هذه البلاد عددا أكبر من المعلمين المصريين.

وأفهم سامعي الاذاعة أن " العودة إلى المناهج السابقة تزيل الإشكال، فضلاً عن انها تتمشى مع أسلم قواعد التربية والتعليم ".

إذن، قد ادعى الاستاذ الوزير، في حديثه الاذاعي المذكور:

ان رجال التربية والتعليم في عهد الوحدة زادوا عدد ساعات الدروس الاسبوعية، خلافاً لما تقتضيه أصول التربية والتعليم السليمة، وانهم فعلوا ذلك بقصد زيادة عدد المعلمين المصريين الذين يعملون في سوريا.

طبيعي، أن صدور هذه التهمة الخطيرة من لسان أستاذ جامعي، سبق أن تولى وظائف هامة في وزارة التربية والتعليم، وخبر شؤونها مدة غير قصيرة... كان مما يحمل الكثيرين على تصديقها، وعلى استفظاع هذا العمل الذي أقدم عليه المصريون في عهد الوحدة.

ولكن قليلاً من السعي وراء معرفة الحقيقة في هذه القضية- دون الانخداع بماضي راويها- يكفي للتأكد من أن كل ذلك مخالف لحقائق الأمور مخالفة تامة، وهو " افتراء محض " لا يستند إلى أي أساس صحيح.

لأن الساعات الاسبوعية التي يذكرها وينتقدها الأستاذ الوزير، لم تكن من مقررات عهد الوحدة، بل كانت من الامور المقررة قبل الوحدة.

فإن الجداول المربوطة بـ " اتفاق وحدة الثقافة العربية " الذي كان عقد بين " الجمهورية السورية، والمملكة الاردنية، والجمهورية المصرية " من أبلغ الشهود على هذه الحقيقة.

ولذلك، أكرر القول بأن كل ما جاء في حديث الأستاذ الوزير، حول هذه القضية، إنما هو" اختلاق محض ، وافتراء فظيع ".

وأنا، بعد سماع الحديث المذكور، تأملت كثيراً في الأمور، وقلت لنفسي:

إذا كان الاستاذ الجامعي الذي تولى وزارة التربية والتعليم في أوائل حكم الانفصال قد سمح لنفسه أن يفتري على المصريين وأن يسعى لتضليل السوريين في هذه القضية.. على الرغم من توفر الدلائل المادية الحاسمة لاظهار الحقيقة في أمرها.. فيجب علينا أن لا نستغرب أبداً، إذا استرسل سائر الوزراء في الكذب والافتراء... في الأمور التي لا تظهر الحقيقة فيها بمثل هذه السهولة، وبمثل هذه الدلائل المادية البليغة.

قصص الكرامة عدل

الكرامة... الكرامة... كرامة المواطن... كرامة السوريين... كرامة سوريا...

هذه الكلمات صارت تدور على ألسنة الكثيرين في سوريا، منذ 28 أيلول 1961، وصارت تنعكس على صفحات الجرائد، وتنتشر بأصوات الاذاعات...

ويجدر بالباحث أن يتساءل: ماذا يقصدون من هذه الكلمات على وجه التحديد؟

من المعلوم أن مدلول كلمة " الكرامة " لهو من المعاني المجردة التي تنطبق على أمور كثيرة ومتنوعة جداً . ولذلك نجد أن هذه الكلمة تأخذ في أذهان البعض معنى يختلف عما يقصده منها الآخرون اختلافاً هائلاً .

والآن، عندما فكرت في كتابة هذه الأسطر، تواردت إلى ذهني سلسلة طويلة من الأمثلة الواقعية التي تدل على تنوع معاني الكرامة تنوعاً غريباً جداً .

سأذكر فيما يلي البعض منها، لإظهار تباين الميادين التي تقحم فيها كلمة الكرامة إقحاما.

هذه واقعة كنت أحد شهودها:

أحد وجهاء المدينة يشكو من مدير مدرستها: انه قرر أن يمرن طائفة من التلاميذ على تمثيل مسرحية قصيرة. وأعطى إلى ابن السيد الوجيه دور " مساح الأحذية "، ولكن الوجيه الكبير لا يرضى لابنه أن يقوم بدور مساح الأحذية، الفقير الحقير. ويجد في ذلك ما يمس كرامته، ويخل بالمكانة التي يتمتع بها بين أهل بلدته. ولذلك يطلب من المسؤولين، أن يأمروا المدير بالعدول عن خطته، حفظاً لكرامة الوالد الوجيه.

وهذا مثال واقعي آخر، لا أزال أذكره بكل تفاصيله وكل ملابساته :

في حفلة كشافية نظمت ليشهدها وفد دولي، خصص محل لجلوس أعضاء الوفد. أحد الوجهاء صعد على المنصة المعدة لهذا الغرض، وجلس على أحد كراسيها، وعندما رأى الموظف المسؤول عن تنظيم الحفلة ذلك، ذهب إليه وطلب منه أن يترك المحل المذكور، ولكن السيد الوجيه وجد أن قيامه من الكرسي بعد أن جلس عليه أمام اعين الجميع، يخل بمكانته وكرامته. وأراد أن يبقى في محله. غير انه عندما رأى اصرار الموظف، قام غاضباً ، وغادر مكان الاحتفال. ثم راح يشتكي من الموظف الذي نال من كرامته.

وهذا مثال ثالث، جرت حوادثه في سوريا نفسها:

كانت الجامعة السورية تتألف من كليتين فقط : كليتي الطب والحقوق. تقرر توسيع الجامعة بانشاء ثلاث كليات أخرى، هي كليات الآداب والعلوم والهندسة، وذلك مع اصلاح أحوالها، وترقية مستوياتها. وفي اللجنة المؤلفة لهذا الغرض، اتجه التفكير إلى البحث عن أستاذ مصري، ليتفرغ إلى إدارة الجامعة بشكلها الجديد، وينفخ فيها الروح الجامعية المنشودة. ولكن عدداً كبيراً من أساتذة كلية الطب استاءوا من هذا التفكير، وأعدوا مضبطة تتضمن استقالتهم الجماعية، ليحفظوا كرامة الأساتذة السوريين. (كان ذلك سنة 1946)

إني لا أرى لزوماً لذكر امثلة أخرى، لأني أعتقد أن هذه الأمثلة الواقعية تكفي لإعطاء فكرة واضحة عن فسحة الميادين التي تطلق فيها كلمة الكرامة بمعانيها المتباينة والمتباعدة.

بعد إلفات الأنظار إلى الحقائق والوقائع التي ذكرتها آنفاً، أعود إلى دعايات الانفصاليين المستندة إلى قضايا الكرامة فأقول:

انهم استغلوا ما في كلمة الكرامة من تنوع المعاني مع شدة التأثير في النفوس... فصاروا يكثرون الحديث عن الكرامة، ويذيعون بين الناس بكل الوسائل وبكل المناسبات: ان عهد الوحدة استهان بكرامة سوريا والسوريين.

فقد قال عبد الكريم زهر الدين في إحدى خطبه الكثيرة:

لا هدف لنا إلا كرامة هذا البلد التي حاول المصريون أن ينالوا منها.

انه قال على وجه الاطلاق، دون أن يصرح بنوع الكرامة التي يقصدها.. وغني عن البيان أن هذا الاطلاق كان يفسح المجال لكل واحد من سامعيه أن يعطي كلمة الكرامة المعنى الذي يلائم مزاجه.

ولكن حديثاً آخر أذيع من دمشق، التزم نوعاً من الصراحة، وحدد المعنى المقصود بعبارات رنانة.

كان الحديث يخاطب جمال عبد الناصر:

لقد تعودنا أن يذهب أصغر واحد فينا إلى رئيس الجمهورية أو إلى رئيس الوزراء، فيقرع الباب متى شاء، ويكلمه كما يكلم جاره وصديقه، فجئت انت ففبركت لنفسك حجاباً كحجاب كسرى أنو شروان في سابق العصر والاوان فلا يستطيع أن يصل إليك أي إنسان

يظهر أن ما جاء في هذا الحديث تجاوب مع ميول الكثيرين من الانفصاليين، وصاروا يقولون بكل مناسبة : اننا كنا نراجع رئيس الجمهورية بكل حرية، ولكنا الآن صرنا لا نستطيع الدخول حتى على المدير بدون استئذان.

ولكن، كل من يتأمل في أمثال هذه الاقوال بروح الانصاف وبنظرات موضوعية، يضطر إلى التسليم بالحقيقتين التاليتين:

أولاً: ان ما يقولونه كان مخالفاً للواقع مخالفة تامة. ثانياً : ان ما يطلبونه بهذا الكلام يخالف الأسس الادارية المقررة في كل أنحاء العالم المتمدن.

فإن ما يقولونه كان مخالفاً للواقع، لأن الحكومة السورية كانت تباعدت عن التقاليد العشائرية منذ مدة طويلة - فلا صحة أبداً لما يقولونه من أن أصغر واحد فيهم كان يطرق باب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء متى شاء، فإن زيارة المدراء، فضلاً عن الوزراء ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، كانت مقيدة بقيود ومواعيد.

في الواقع، انه كان هناك من يستطيع أن يزور رئيس الجمهورية دون ميعاد مسبق. ولكن هؤلاء، أولاً كانوا محدودي العدد، ثم كانوا يعرفون أوقات فراغ الرئيس من الأعمال الرسمية، فيزورونه في تلك الأوقات.

كما ان ما يطلبونه ويتوقون إليه بأمثال هذه الأقوال من تمكين الافراد من الالتقاء برئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء مما لا تقره أشد وأعرق البلاد ديمقراطية في العالم.

ففي كل البلاد، حتى الدخول على مدير دائرة من الدوائر يتم وفق أصول وقواعد مقررة، ويتقيد بقيود عديدة.

إن الذين يزعمون أن أمثال هذه القيود تمس كرامة الناس، يظهرون بذلك عدم فهمهم لمعنى الحكومة المنظمة وعدم تقديرهم لمقتضيات الصالح العام.

ومما يؤسف له كل الإسف، أن الدعايات التي قامت على المصريين بأمثال هذه الأقوال، وجدت كثيراً من الآذان الصاغية، التي صارت تتأثر منها، دون أن تنتبه إلى دافعها ومراميها السيئة والمغرضة.

نظرات في آراء ميشال عفلق عدل

لقد ذكرت وانتقدت- في الابحاث السابقة- البعض من آراء ميشال عفلق: في الوحدة والاتحاد، وفي الايمان والمعرفة.

وفي الصفحات التالية، استعراض وانتقاد لأهم آرائه الأخرى.

ولا بد لي من التصريح بأن ما سيطالعه القراء في الصفحات التالية، ما هو إلا جزء من الأخطاء والانحرافات الفكرية والعلمية الكثيرة التي لاحظتها في مقالات ميشال عفلق المنشورة في كتابه " في سبيل البعث ".

إني أكتفي بنشر هذا الجزء الآن، لأني أرى انه يكفي لكشف الستار عن نوع العقلية التي أملت تلك المقالات، وتظهر مبلغ بعدها عن مناحي التفكير العلمي والبحث الجدي، بكل وضوح وجلاء.

الغرور والمباهاة عدل

إن أولى مقالات الأستاذ ميشال عفلق المنشورة في كتابه " في سبيل البعث " تبدأ بالعبارات التالية.

الآن، تنطوي صفحة من تاريخ نهضتنا العربية وصفحة جديدة تبدأ. تنطوي صفحة الضعفاء الذين يقابلون مصائب الوطن بالبكاء وبأن يقولوا " لا حول ولا قوة إلا بالله "، صفحة النفعيين الذين ملأوا جيوبهم ثم قالوا " لا داعي للعجلة كل شيء يتم بالتطور البطيء "، صفحة الجبناء الذين يعترفون بفساد المجتمع إذا ما خلوا لأنفسهم حتى إذا خرجوا إلى الطريق كانوا أول من يطأطىء رأسه لهذه المفاسد..

وتبدأ صفحة جديدة، صفحة الذين يجابهون المعضلات العامة ببرودة العقل ولهيب الايمان، ويجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعاً ، ويسيرون في الحياة عراة النفوس كما لو كانوا في غرفة نومهم .. هؤلاء هم الذين يفتتحون عهد البطولة.

عهد البطولة وأكاد أقول عهد الطفولة، لأن النشء الذي يتأهب اليوم لدخول هذه المعركة له صدق الأطفال وصراحتهم (ص 21).

يلاحظ: ان عهد البطولة الذي يعلن الاستاذ ميشال عفلق ميلاده بهذه العبارات البلاغية.. قد بدأ في اليوم- بل في الآن- الذي فكر فيه حضرته وقرر أن يتآزر مع بعض أصحابه لنشر فكرته.

إن مجرد تفكير الأستاذ في هذا الأمر، كان كافياً لفتح هذا العهد الجديد في تاريخ النهضة العربية، حتى قبل أن يقوم بأي عمل، وقبل أن ينجز أي عمل في هذا المضمار.

إن آثار " الغرور والمباهاة " التي، تظهر بهذه الصورة في المقالة الأولى من الكتاب، تتكرر وتتوسع وتتقوى في عدة متالات أخرى.

يعلن الأستاذ عفلق بأصرح العبارات، انه يحمل- هو وزملاؤه ومريدوه- " رسالة الامة العربية الخالدة ".

إذ يبدأ مقالته " نحن وخصومنا " بالعبارات التالية:

وبعد، فهل تجوز المقارنة بين هذا النوع الفاسد المبتذل من الناس، ذوي النفوس الحقيرة والأهداف الشخصية الوضيعة، وبيننا نحن، حملة الرسالة العربية الخالدة (ص 27).

ويصرح في مقالات أخرى: ان هذه الرسالة الخالدة لم يحملوها هم من تلقاء أنفسهم، بل تلقوها من يد " القدر "، من يد " قدر الأمة العربية ". وفضلاً عن ذلك، انهم تلقوا معها " حق الأمر والكلام " بقوة أيضاً .

انه يكتب في المقالة نفسها العبارات التالية:

ان الجو الصادق الصافي الذي نخلقه حولنا، هو وحده كاف لكي يهدي الناس وينتشلهم من كوم أولئك ويطلعهم على الحياة الحرة السامية التي يحنون إليها منذ القديم. ان القدر الذي حملنا هذه الرسالة خولنا أيضاً حق الأمر والكلام بقوة، والعمل بقسوة (ص 27).

ان زعم الأستاذ ميشال عفلق في هذه القضية يشبه- إلى حد كبير- مزأعم ملوك القرون الوسطى الذين كانوا يدعون: ان لهم " حق الأمر والنهي والحكم والسلطان بتفويض من الله ".

والفارق بين الزعمين يكاد ينحصر في اسم القوة التي خولت هذا الحق

الملوك كانوا يزعمون بأنهم يأمرون ويعملون بتخويل من الله،

وأما ميشال عفلق وجماعته فيزعمون انهم يأمرون ويعملون بتخويل من القدر.

ان هذا الزعم يجر- بطبيعة الحال- إلى " الاستعلاء ".

وفعلاً ، يعلن ميشال عفلق- بمناسبات عديدة- استعلاء حزبه على سائر الأحزاب. سائر الأحزاب على الاطلاق، القائمة حالياً ، والتي يمكن أن تقوم في مستقبل الأيام.

إذ يقول في مقالته " البعث العربي حركة تاريخية ":

فالانقلاب الذي يدعو إليه حزب البعث العربي لا يستطيع أن يدعو إليه أي حزب آخر (ص 294).

ويقول في مقالته " نظرتنا الحية إلى الحزب ":

أستطيع أن أقول: ان حركتنا أصبحت قدر الأمة العربية في هذا العصر (ص299).

ويقول في موضع آخر من المقالة المذكورة:

... أدعوكم إلى المزيد من النشاط والاستبسال والتضحية في سبيل حركتكم التي أصبحت كما قلت قدر الأمة العربية، والتي لا يمكن لأي حركة أخرى ان تنافسها أو تحتل مكانها (ص 300).

ويختم المقالة المذكورة بقوله.

... لكي نكون في مستوى القدر الذي اختارنا لتلبية حاجات أمتنا واختار الأمة العربية لتكون في المواقف الحاسمة في التاريخ منقذاً وهادياً (ص 302).

ويتبين من كل ما سبق: أن حزب البعث- في نظر ميشال عفلق- هو" الحزب المختار "، الحزب الذي اختاره القدر لتلبية حاجات الأمة العربية. فلا يمكن لأي حزب آخر أن يضاهيه أو أن ينافسه.

إن الغرور عندما يصل إلى هذا الحد من المغالاة، لا بد من أن يؤثر في اتجاهات التفكير والعمل، ويدفع صاحبه إلى انتحال حصة كبيرة من الشرف في الكثير من حركات الثورة والنهضة التي قامت في مختلف البلاد العربية، دون الالتفات إلى الحقائق التاريخية والتيارات الاجتماعية.

ان هذا الاتجاه يظهر من ثنايا العديد من مقالات الاستاذ ميشال عفلق- ولا سيما من ثنايا مقالته " البعث العربي حركة تاريخية "، ويصل إلى القمة خلال حديثه عن تأثيرات كارثة فلسطين، في مقالته " حصيلة مرحلة من النضال.. والتهيؤ لمرحلة جديدة ".

انه يشيرفي بحثه هذا إلى التأثير الذي أحدثته كارثة فلسطين في الضمير العربي ، فيقول:

وهكذا طرحت على الشعب العربي من أعماق المأساة مشكلات وجوده الموحد وصورة هذا الوجود الاجتماعية الموضوعية وعلاقته بالوجود الانساني، فانبثقت ثورتا مصر والجزائر وارتبطت مصر بالمصير العربي بشكل واع وجدي . وبرزت السياسة العربية المتحررة ( ص 206).

ثم يضيف إلى ذلك- على الفور- الملاحظات التالية:

وما كانت كارثة فلسطين لتحدث كل هذا الأثر العميق ولتعطي كل هذه النتائج الايجابية لو لم يسبقها قبل بضع سنوات في سوريا والأردن والعراق ولبنان اتجاه عربي واضح الأهداف قائم على أسس نظرية نضالية جديدة، غيّر وجهة العرب العميقة في هذه المرحلة من تاريخهم وتاريخ الانسانية، وهو الاتجاه الذي مثلته حركة البعث (ص 206).

إذن، فإن ثورة مصر وثورة الجزائر أيضاً مدينتان لحزب البعث بدين كبير!..

أعتقد أن مزاعم الأستاذ ميشال عفلق هذه لا تحتاج إلى تعليق.

الإيمان عدل

في كتاب الأستاذ ميشال عفلق مقالة صغيرة عنوانها " الايمان " تبدأ بالعبارات التالية:

ان أساس عملنا الخالد، الأساس الذي لا يتبدل ولا يستغنى عنه هو (الايمان)، والتفاؤل مظهر بسيط من مظاهر الايمان (ص 29).

يلاحظ أن الأستاذ يخلع على عمله- وعمل زملائه- نعت " الخالد " ويصرح بأن أساس هذا العمل الخالد هو الايمان.

انه يذكر كلمة الايمان هنا بمفردها، دون أن يحدد المعنى الذي يقصده منها. مع انه- من المعلوم- أن مدلول هذه الكلمة من المعاني المجردة التي لا يمكن فهمها وتصورها إلا عند ربطها بكلمة أخرى، تحدد نوعها.

الايمان؟ ولكن بأي شيء؟..

الايمان بدين من الاديان السماوية؟ الايمان بيوم القيامة؟ الايمان بالعلم، بالطب، بالتربية، الايمان بمستقبل الأمة العربية؟ الايمان بكرامة الأولياء؟ بوحدة الأمة العربية؟..

للايمان، آلاف وآلاف من المعاني. فما هو معنى الايمان الذي يذكره الأستاذ هنا، ويعلن انه أساس عمله الخالد؟

يظهر أن الأستاذ عفلق نفسه شعر بما في قوله هذا من غموض وابهام، فقال - عقب الأسطر التي نقلتها آنفاً :

هذه نظرة غيبية بلا شك، ولكن الحياة برمتها تقوم عليها منذ أن وجدت الحياة الانسانية. وإذا طرحت هذه النظرة جانباً لا يبقى تاريخ، ولا يبقى انسان. (ص29).

ولكن هذه الكلمات لا توضح الأمور، بل تزيدها غموضاً وابهاماً :

إذ ما هي هذه النظرة الغيبية التي لولاها لما بقي تاريخ ولا بقي إنسان؟ وما هو هذا الايمان الذي لا يفهم إلا بهذه النظرية الغيبية؟

قد يقول قائل: أن المقصود من كلمة " الايمان " الواردة في هذه المقالة، لا بد أن يكون " الايمان بالقومية العربية "، نظراً لأن أبحاث الكتاب كلها تحوم حول القومية العربية.

غيرأن قليلأ من التأمل في الكلمات التي نقلتها آنفاً ، يكفي لاستبعاد هذا التأويل والتوجيه: هل يمكن أن نقول: لولا الايمان بالقومية العربية، لما كان التاريخ ولا كان الانسان!

فضلاً عن ذلك، فإن الفقرات التالية من المقالة لا تترك أي مجال لمثل هذا التأويل، لأنها تتضمن تفضيل الايمان على الوحدة العربية وعلى الحرية، وعلى العدل الاجتماعي.

وهذا ما يقوله الاستاذ ميشال عفلق، عقب العبارات التي نقلها آنفاً :

لو أعطونا ملك الأرض، لو أعطونا اليوم أو غداً في أي وقت، الدولة العربية التي تتحقق فيها أهداف البعث (وحدة حرية اشتراكية)، وقالو أن الايمان سيكون مفقوداً من حياة البشر الذين يكوّنون هذه الدولة المثلى، لقلنا اننا نفضل أن نبقى أمة مجزأة وأمة مستعمرة ومستغلة، مظلومة ومستعبدة حتى نصل من خلال الآلام، من خلال الصراع بيننا وبين قدرنا، بيننا وبين أنفسنا، إلى استكشاف حقيقتنا الانسانية التي لا تقاس بالمادة ولا بالتعبير عنها (ص 29).

ولكن ما هو هذا الايمان الذي يفضله الأستاذ عفلق على الوحدة وعلى الحرية وعلى العدل الاجتماعي وعلى المجتمع المثالي؟ والذي يرجح الحرمان من كل هذه الأمور على الحرمان منه؟

لا يمكن أن نفهم ذلك، من أي فقرة من فقرات المقالة، ولا من سياق مجموعها.

وأظن انه من العبث أن نفكر في ذلك، ما دام الأمر يدخل في ميدان الغيبيات والماورائيات.

ولا سيما أن تفكير الاستاذ ميشال عفلق الغيبي والماورائي لا يقف عند هذا الحد، بل يمضي في هذا السبيل، فيكتب ما يلي أيضاً ، عقب الفقرات التي نقلتها آنفاً :

هذا الايمان لا يستطيع أحد أن يفخر بأنه أوجده وخلقه، هو في اعماق كل إنسان، وفي أعماق كل إنسان عربي. وقد شاء قدر امتنا وتراثنا وقيمتها الروحية وحقيقتها الانسانية أن يعبر هذا الايمان عن نفسه بين مجموعة من الشباب، كانوا أبعد ما يكونون من السياسة ورخص السياسة (ص 29).

إذن فإن الايمان الذي- هو موضوع مقال الأستاذ عفلق- قد عبّر عن نفسه بين مجموعة من الشباب الذين التفوا حوله. لان " قدر امتنا وتراثنا وقيمتها الروحية وحقيقتها الانسانية شاءت ذلك "!..

إن ما جاء في كل هذه الأسطر، لا يختلف كثيراً عن نماذج " التفكير السكولاستيكي " المسطورة في تواريخ فلاسفة القرون الوسطى.

القومية العربية عدل

من أهم الأمور التي تستوقف الأنظار وتستوجب الاستغراب في مقالات الاستاذ ميشال عفلق المنشورة، هو قلة أبحاثه المتعلقة بفكرة القومية العربية وبوحدة الأمة العربية، وشدة الغموض الذي يكتنف آراءه في هذه الأمور، فيجعلها مائعة ورجراجة في كثير من الأحوال.

لعل نظريته في سبق الإيمان للمعرفة قد لعبت دوراً هاماً في موقفه هذا . و لكني أعتقد أن أهم الأسباب التي دفعته إلى هذا الموقف تعود إلى زعمه بأن الفكرة القومية من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل وبرهان وبأنها مغروزة في أعماق كل انسان عربي.

يقول ميشال عفلق في احدى مقالاته المنشورة في كتابه " معركة المصيرالواحد ":

فلم نفكر طويلاً في البحث والتنقيب عن مقومات الأمة العربية، وهل لها من المقومات والروابط المشتركة بين جميع أقطارها وابنائها ما يبرر وحدتها ووحدة نضالها ووحدة اهدافها. فذلك واضح يفرض نفسه فرضاً ، ولا يجادل فيه إلا المكابرون وإلا ذوو الأغراض من المستعمرين الذين ادخلوا التشكك في أذهان بعض أبناء شعبنا، واستغلوا حالة الجهل وحالة التفرقة وحالة انخفاض مستوى الحياة ومستوى الحضارة والوعي في أمتنا، فاطلقوا هذه الشكوك ليتركونا نجادل البديهيات (ص 58).

يتبين من فحوى هذه العبارات الصريحة: أن " الأستاذ عفلق يزعم بأن وحدة الأمة العربية من البديهيات، واما الجدال الذي يقوم حول الوحدة، فهو من آثار الاستعمار والجهل والانحطاط.

ولكن كيف يجوز لنا أن نعتبر هذه الوحدة من الأمور البديهية، مع اننا نعرف- كما يعرف الجميع- أن الملايين من الناس لم يسلموا بها قبلاً ، ومئات الآلاف منهم لا يزالون بعيدين عن التسليم بها إلى الآن؟

يقول الأستاذ عفلق: أن السبب في ذلك هو الاستعمار الذي استغل الجهل والانحطاط و... لإحداث البلبلة في النفوس. ولا ينتبه إلى أن قوله هذا يدل- في الوقت نفسه- على أن أمر الوحدة ليس من البديهيات.

فإن البديهيات، هي ما يسلم بها العقل السليم دون أن يحتاج إلى دليل وبرهان، فلا يستطيع أن ينكرها أي إنسان، إلا إذا كان مختل العقل والشعور.

فلا الاستعمار، ولا الجهل، ولا الانحطاط .. يستطيع أن يضلل الناس في البديهيات.

ولذلك نستطيع أن نؤكد أن اعتبار وحدة الأمة العربية من البديهيات التي لا تحتاج إلى برهان يخالف العقل والمنطق والواقعات مخالفة تامة.

ومع هذا، نجد أن الأستاذ عفلق يكرر زعمه هذا في العديد من مقالاته المنشورة في كتابه " في سبيل البعث "، بشتى المناسبات، وبمختلف الصيغ والعبارات.

انه يقول في مقالته " القومية العربية والنظرية القومية ":

ان القومية العربية لدى البعث هي واقع بديهي، يفرض نفسه دون حاجة إلى نقاش أو جدال (ص 102).

ويقول بعد بضعة أسطر أخرى :


لهذا، لا موجب لان نناقش في اننا عرب أم لا ولكن يجب أن نختار ونحدد مضمون العروبة في المرحلة الحاضرة، اتكون رجعية أم تقدمية؟ اتستقيم مع الاستعمار والاستبداد أم شرطها الحرية؟ وهل تبقى مع التجزئة أم الوحدة شرط أساسي لها (ص 102).

إن هذه الأقوال تدل على التنكر لحقائق الحياة الاجتماعية والسياسية القائمة في البلاد العربية.

يقول الأستاذ: لا موجب لأن نتناقش في اننا عرب أم لا، بل يجب أن نحدد موقفنا من الرجعية والتقدمية.

ولكن، ألا يمكن أن يقول البعض " اننا لسنا عرباً ، ولكننا تقدميون بكل قوانا "، ويقول البعض الآخر " اننا عرب. غير اننا لا نستسيغ التقدمية التي تدعون إليها "؟ أفلا يوجد في البلاد العربية في يومنا هذا أحزاب وجماعات تلتزم القول الأول، وأحزاب وجماعات أخرى، تلتزم القول الثاني؟

ويتبين من ذلك : أن نقاشنا في الرجعية أو التقدمية لا يغنينا عن النقاش في اننا عرب أم لا.

وكذلك: نقاشنا في الحرية والاستبداد، لا ينفي حاجتنا إلى حل مسألة " هل نحن عرب أم لا؟ "

وأما نقاشنا في مسألة " هل الوحدة شرط أساسي للقومية أم لا "، فلا يمكن أن يوصلنا إلى حل معقول، إلا بعد أن نبحث ونقرر: هل العرب أمة واحدة أم أمم متعددة؟

ويتبين من كل ذلك: أن ترك المسائل المذكورة خارج نطاق البحث والنقاش - وفقاً لما يطلبه الاستاذ عفلق- لا يتمشى مع مقتضيات التفكير العلمي الصحيح، بوجه من الوجوه.

ويقول ميشال عفلق في مقالة أخرى، تحت عنوان " القومية حب قبل كل شيء " :

القومية التي ننادي بها هي حب قبل كل شيء. هي نفس العاطفة التي تربط الفرد بأهل بيته. لأن الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة (ص 44).

إن هذا القول صحيح من حيث الأساس، غير انه ناقص جداً، وقاصر عن تعيين المقصود تقصيراً كبيراً .

صحيح، أن الوطن بيت كبير، والأمة أسرة واسعة، ولكن ما هي حدود هذا البيت الكبير، وما هو شمول هذه الأسرة الكبيرة؟

البيت الكبير الذي يسمى الوطن، ما هي حدوده؟.. هل هي حدود الدولة العربية القائمة في الأردن أو في لبنان مثلاً؟ أم هي أراضي سوريا الطبيعية، كما كان يحددها الجغرافيون؟ أو كما كان يتخيلها انطون سعادة؟ أم هي ما يسمى الشرق العربي؟ أم ما يعرف باسم العالم العربي؟

والأسرة الكبيرة التي تسمى الأمة: ما هي سعتها؟ هل هي- مثلاً- أسرة الاردنيين؟ أم أسرة اللبنانيين؟ أم أسرة المسلمين، أم أسرة الموارنة، أم أسرة السنة، أم أسرة الجعفرية؟ أم هي الأسرة التي تجمع كل الناطقين بالضاد؟

صحيح، أن القومية هي حب قبل كل شيء. ولكن من المعلوم أن للحب أنواعاً وحدوداً . فانه قد يقتصر على مجموع أفراد القبيلة الواحدة، أو على أفراد مجموعة من القبائل المتآخية. وقد يتركز حول مجموع الأفراد الذين يعيشون في ظل علم واحد، أو يدينون بدين واحد، أو بمذهب واحد. وقد يشمل مجموعاً كبيراً من الأفراد الذين ينتسبون إلى دول عديدة. فلا بد من التساؤل: أي نوع من أنواع الحب يكوّن القومية؟

إذن، أمامنا سلسلة من الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة صريحة، مدعومة بالدلائل والبراهين.

ان الأستاذ ميشال عفلق لا يهتم بهذه المسائل- وبأمثالها العديدة- لا في مقالته هذه ولا مقالاته الاخرى، مع ان المسائل المذكورة صارت فعلاً موضوع أبحاث ومناقشات في الكثير من البلاد العربية، وبعضها لا يزال يسيطر على تفكير الكثيرين في مختلف البلاد، حتى ان بعضها أصبح أساساً لسياسة بعض الدول العربية.

وقد عنون الأستاذ ميشال عفلق احدى مقالاته بعنوان " في القومية العربية "، وقال فيها:

لا يحتاج العرب إلى تعلم شيء ليصبحوا قوميين بل إلى اهمال كثير مما تعلموه حتى تعود إليهم صلتهم المباشرة بطبعهم الصافي الاصيل. القومية ليست علما، بل هي تذكر، حي (ص 44).

ولكن، ما هي " المعلومات " التي يجب أن يهملها العرب، لكي يصبحوا قوميين؟ المقالة لا تعطي أي جواب على هذا السؤال.

يقول الاستاذ " القومية ليست علما " وأنا لا أعرف ان أحداً قال أو كتب ان القومية علم. ومع هذا، يجب ان نعلم ان القومية كسائر الأمور المادية والمعنوية - تكون، ويجب ان تكون، موضوعاً لأبحاث علمية.

وأما القول بأن " القومية تذكر، تذكر حي "، فلا يستند إلى أي أساس علمي.

فإن التذكر- مهما كان حياً- قلما يوصل المرء إلى الشعور بقوميته، بل كثيراً ما يبعده عنها... في الظروف التي أجتازتها ولا تزال تجتازها البلاد العربية.

بعد الحرب العالمية الأولى، عندما انفصلت البلاد العربية عن الدولة العثمانية، كانت ذكريات الكثيرين تشدهم إلى أيام الدولة المذكورة وتجعلهم يتحسرون عليها. حتى ان شاعراًعراقياً مشهوراً تساءل في قصيدة معروفة " أين عزي في دولة الأتراك؟ " ثم أخذ يذرف الدموع عليها بقوله " أنا مما فقدته، أنا باكي.. "

واما الذين نشأوا في عهود التجزئة، بين مناظر الأعلام وأنغام الأناشيد وأصداء الاحتفالات... التي يتعلق معظمها بالدولة أو الدويلة التي ينتسبون إليها... فإن ذكريات معظم هؤلاء صارت تربطهم بالكيانات الاقليمية أكثر مما تدفعهم نحو القومية العربية.

فكيف يجوز أن يقال: " القومية تذكر، تذكر حي "؟

و في المقالة التي عنوانها " القومية العربية والنظرية القومية "- والتي نقلنا وناقشنا البعض من فقراتها آنفاً - يقول الأستاذ ميشال عفلق:

فرّق الحزب منذ تأسيسه بين الفكرة العربية، وعنينا بها القومية العربية، وبين النظرية القومية فقال أن الفكرة العربية هي بديهية خالدة. وهي قدر محبب لانها حب قبل كل شيء. اما النظرية القومية فهي التعبير المتطور عن هذه الفكرة الخالدة بسبب الزمان والظروف. إن هذه النظرية تتمثل اليوم- حسب اعتقادنا- في الحرية والاشتراكية والوحدة (ص 102- 103).

إن التفريق بين القومية العربية وبين النظرية القومية، أمر طبيعي وضروري، وهويتمشى مع ما هومسلم ومألوف في جميع العلوم وفي جميع الابحاث العلمية.

فإن " نظرية الجزر والمد "- مثلاً- لا تعني حادثة الجزر والمد نفسها، إنما تعني " معلوماتنا المنسقة عن الحادثة المذكورة ": أسباب حدوثها ونظام تطورها في الزمان والمكان ... الخ.

و " نظرية الارادة "- كذلك- لا تعني الارادة نفسها إنما تعني مجموع ما لدينا من المعلومات المنسقة عنها: عواملها، علاقاتها بسائر الحوادث النفسية، تأثرها منها وتأثيرها فيها، ونظام تطورها، أسباب قوتها وضعفها...

ويتبين من هذين المثالين- وأمثالهما التي لا تعد ولا تحصى- انه لا يجوز الخلط بين " الشيء نفسه " وبين النظرية المتعلقة بذلك الشيء. ولذلك، فإن التفريق بين القومية العربية وبين النظرية القومية، في محله تماماً .

غير أن التفكير العلمي يستلزم التفريق بين الأبحاث النظرية وبين الابحاث العلمية التطبيقية، وبالتالي بين النظرية القومية وبين السياسة القومية.

ويلاحظ أن الأستاذ ميشال عفلق لا يفرق بين هذين الأمرين لأن ما يذكره هنا عن النظرية القومية مثلا هو- في حقيقة الأمر- أقرب بكثير إلى ما يجب أن يسمى " السياسة القومية ".

ان عدم تفريق الأستاذ بين هذين الأمرين زاد آراءه وكتاباته تعقيداً على تعقيدها وغموضاً على غموضها.

وأما ما جاء في هذا القسم من مقالة الاستاذ عفلق عن بداهة الفكرة القومية فهو يخالف حقائق الأمور مخالفة كبيرة، كما بينا ذلك في أبحاثنا الأخرى.


البطولة والخلود عدل

إن كلمات الأبطال والبطولة والخالدة والخلود.. يرددها ميشال عفلق كثيراً ، في مختلف المقالات وبشتى المناسبات ويقرنها- في بعفر الأوقات- بآراء تمتاز بالطرافة في التعبير، وان اعوزها الشيء من الدقة والوضوح في التفكير.

فإنه يستهل مقالته القصيرة في " المستقبل " بالعبارات التالية:

ليس بيننا وبين المستقبل الذي يتحدث عنه البعث العربي والذي هو موضوع عملنا ونضالنا زمن حسابي يقدر بالاشهر والسنين.

انه زمان نفسي نستطيع أن نحققه منذ الآن وان نملكه فنملك به الخلود.

ليس المستقبل هو الزمان الذي سيأتي، فأبطال العرب لم يخلدوا لأنهم أتوا بأعمال عظيمة، بل انهم أتوا بأعمال عظيمة لأنهم امنوا بالخلود. فالمستقبل هو المستوى النفسي والفكري الذي علينا أن نصل إليه في الحاضر.

لسنا بحاجة إلى سنين ولا إلى أشهر. فقد يصل المرء إلى هذا المستقبل في ثانية واحدة، عندما يدرك الفرد ذاته المثالية ويعي ويصمم (ص 35).

لا أدري من ذا الذي يستطيع أن يفهم شيئاً واضحاً من كل هذا الكلام؟

" المستقبل الذي يتحدث عنه البعث العربي " ليس " الزمان الذي سيأتي ". هل يجب أن نفهم من ذلك أن للبعث العربي لغة خاصة به، تأخذ فيها كلمة المستقبل " معنى " يختلف عما هو مدون في القواميس، ومعلوم لدى الجميع؟

" ان المرء يستطيع أن يصل إلى هذا المستقبل بثانية واحدة "، ولكن كيف؟

هل يعمل مثل عمل " البصارة " التي تزعم انها تجعل زبائنها يشاهدون مستقبلهم رأي العين، في المرآة الخاصة بها أو في قعر البئر التي أمامها؟ أم يطلب تخيل هذا المستقبل بقوة وشدة، حتى يتراءى للمرء كأنه ماثل أمامه؟

ولكن، إذا كان هذا هو المقصود، فلماذا لا يعبر عنه بلغة التفكير الواضح، فيقال: باستطاعتنا أن نتمثل المستقبل ونتخيله من الآن؟

وإذا كان المقصود غيرذلك، فما هو السبيل إلى فهمه؟

هذا، ومما تجدر الاشارة إليه أن بقية العبارات الواردة في مقالة " المستقبل " لا تزيل شيئاً من هذا الغموض، بل تزيد الأمر غموضاً .

إذ يواصل الأستاذ ميشال عفلق حديثه في المقالة المذكورة على نفس النمط إلى أن يختمها بالعبارات التالية:

... فلن نقول للعرب انكم ستصلون إلى الحياة الموحدة الحرة الاشتراكية، وبكلمة واحدة، للحياة البعثية، في المستقبل عندما يتحقق البعث العربي، وإنما نقول لهم هذه هي صورتها منذ الآن. هذه الحياة التي تزول فيها الفروق الاجتماعية والحواجز الاقليمية والنعرات الطائفية، وكل أثر للعبودية والمصلحة الخاصة والجهل والتقليد. عندها يأتي المستقبل إلينا، وينمو فينا فلا يعود شيئاً منفصلاً وخارجاً عنا (ص 35) .

ماذا يمكننا أن نفهم من هذه العبارات؟ هل يريد أن يقول الأستاذ عفلق: عندما نتخيل المستقبل بكل ما لنا من قوة خيال، يكون المستقبل قد أتى إلينا، وأصبح جزءاً منا، فلا يعود شيئاً خارجاً عنا؟

غير اننا، إذا فسرنا هذا الكلام، بهذه الصورة، يبقى أن نستوضح أمراً آخر: هذا المستقبل، عندما يأتي إلينا- بهذه الصورة أو بصورة أخرى- كيف يجعلنا " نملك الخلود " حسب تعبير الأستاذ عفلق؟

بعد كل هذه الأسئلة الاستيضاحية، يجب أن أعترف انه يوجد في المقالة المذكورة عبارة واحدة واضحة المعنى وضوحاً تاماًَ ، هي قوله : " أبطال العرب لم يخلدوا لأنهم أتوا بأعمال عظيمة، بل انهم أتوا بأعمال عظيمة لأنهم آمنوا بالخلود ".

لا شك في أن قول الأستاذ عفلق هنا واضح ومفهوم. ولكن: هل هو صحيح؟ هل الزعم الذي يعبر عنه هذا القول يطابق حقائق الأمور؟

لا يوجد في سطور المقالة كلها أي برهان على صحة هذا الزعم. غير أنه يوجد في صحائف التاريخ براهين عديدة على بطلانه.

لعل أقدم وأبرز هذه البراهين هو: قصة " أروسترات " Erostrate المشهورة في تاريخ اليونان: أراد الرجل أن يخلد اسمه في التاريخ. غير أن " ارادة الخلود " التي تملكت مشاعره لم تحمله على الاتيان بأعمال عظيمة، بل دفعته إلى ارتكاب جناية: أقدم على اشعال النار في معبد أفزيس الذي كان أنفس آثار الفن اليوناني في ذلك التاريخ.

ومع ذلك، يظهر ان الأستاذ ميشال عفلق كان مأخوذاً بطلاوة التعبير الذي لازم فكرته هذه، فكررها في مقالة أخرى، وأغرقها في بحر الغموض .

إذ كتب في مقالته عن " الجيل العربي الجديد " العبارات التالية:

ولا يكون حكم الجيل الجديد حياً، إلا إذا كان له في فكره ونفسه مجتمع مثالي يستمد منه قيمه ويسأله الحكم على تفكيره وعمله. فالمجتمع الواقعي يهدد الشباب بأكبر الخطر إذ هو من جهة يرشحهم لمهام الابطال، ومن جهة أخرى يرضى منهم بأبسط الأعمال. فلا بد من الترفع والتغاضي عن المقاييس الواقعية ومن استلهام مقاييس المهمة التاريخية، أي المقاييس الخالدة. فالخلود ليس سير الحاضر إلى المستقبل بل نقل المستقبل إلى الحاضر. وأن أبطال العروبة في الماضي المجيد لم يخلدوا لأنهم قاموا بالاعمال العظيمة بل قاموا بالأعمال العظيمة لأنهم كانوا في حياتهم يعيشون في نطاق الخلود (ص 73).

" الخلود ليس سير الحاضر إلى المستقبل، بل نقل المستقبل إلى الحاضر " " أبطال العروبة في الماضي المجيد كانوا يعيشون في حياتهم في نطاق الخلود " لا أدري ماذا يقصد الأستاذ من هذه العبارات، وماذا يفهم منها مريدوه؟

ولاتمام البحث عن رأي الأستاذ ميشال عفلق في البطولة والخلود، لا بد من ملاحظة العبارات التي ختم بها مقالته " القومية قدر محبب ":

وقد يكون القدر أحياناً قاسياً ولكنه عادل أبداً فهو لا يوزع البطولة إلا بنسبة الصعوبة ولا يورث المجد إلا بقدر الجهد. فلن تكون في نظره بطولة الذين يجاهدون اليوم ليحرروا بلادهم من استعمار الاجنبي وخطر التجزئة وينشلوها من هوة الجهل والفقر، بأقل من بطولة قتيبة وابن نصير. وإذا كان عصر الرشيد والمأمون قد اتسع لانتاج الفلسفات والآداب فسيكون كل واحد من أبطال اليوم في نظر الجيل الآتي موضوع ملحمة خالدة وتكون تضحيته منشأ فلسفة جديدة (ص 49).

إذن، فليطمئن جميع المناضلين والمجاهدين، لأن كل واحد منهم- نعم كل واحد منهم- سيكون موضوع ملحمة خالدة!

نوازع الإستعلاء عدل

إن كتاب ميشال عفلق " في البعث العربي " ينتهي بفصل يتألف من سلسلة أسئلة وأجوبة. وأحد هذه الأسئلة يثيرنوازع الاستعلاء التي تجيش في صدره، فيظهرها إلى العيان.

هذا هو نص السؤال:

ما هو موقفكم من الفئات التي أخذت أخيراً ترفع شعارات القومية؟ (ص337).

والأستاذ عفلق يستهل جوابه بالعبارة التالية :

ان تبني مختلف الفئات للشعارات العربية التي ينادي بها البعث لدليل على قوة العقيدة القومية. (ص 337).

وبعد أربعة أسطر من الشرح لهذا الحكم، يقول:

على ان نجاح الفكرة القومية وانتشارها هذين لا يعفيان معتنقيها الأصليين من متابعة العمل والنضال لزيادتهما توضيحاً وتعميقاً وترسيخاً لأنهم بصورة طبيعية أقدر على ذلك من الجماعات الأخرى. فهذا الفارق بين حمل الفكرة، يوم كان حملها ثورة على الواقع وتحدياً له، وبين تبني الفكرة نفسها بعد أن راجت وتم نجاحها لا بد أن يكون له آثار عملية في المرحلة الحاضرة بالذات وفي المستقبل ، حتى عندما نسلم بصدق مقاصد الذين أخذوا يتبنونها لما يعتور هذا التبني من سطحية وأخطاء (ص 337). إن القسم الأول من هذا الجواب معقول ومصيب. ولكن القسم الثاني منه يتضمن سلسلة مزاعم ومدعيات بعيدة عن الصواب:

أولاً : ينعت ميشال عفلق جماعته بـ " المعتنقين الأصليين للفكرة القومية ".

ولكن هذا النعت لا يدل على اتجاه معقول في التفكيروفي التعبير . إذ لا معنى لتعبير " المعتنقين الأصليين للفكرة " لأن الفكرة ليست من الأشياء المادية التي ترتبط بـ " حيزمعين "، فلا يعقل تقسيم معتنقيها إلى " أصليين " و" غيرأصليين ".

ويفهم من سياق الكلام، ان المقصود من هذا التعبير هو " المعتنقين الأولين، أو الاقدمين ".

ولكن هذا الزعم يخالف الحقائق الثابتة مخالفة كلية. فإن الفكرة القومية، كان لها معتنقون كثيرون في مختلف البلاد العربية، قبل تكوّن حزب البعث بمدة غير قصيرة. فالزعم بأن " البعثيين كانوا أول المعتنقين للفكرة القومية " لا يستند على أي أساس صحيح، وإنما يدل على التعامي عن حقائق الاراء السياسية التي أخذت تتخمر وتتبلور في عدة بلاد عربية منذ أوائل العقد الثالث من القرن الحالي.

ويتبين من كل ذلك: ان ميشال عفلق قال ما قاله في هذا المضمار تحت تأثير " نزعة التبجح " التي ذكرناها سابقاً .

ومن الغريب أن ميشال عفلق يبني على هذا الزعم الباطل زعما آخر: إذ يدعي أن جماعته- لكونهم المعتنقين الأصليين للفكرة القومية- هم، بطبيعة الحال، أقدر من الجماعات الأخرى " لمتابعة العمل والنضال لزيادة توضيح الفكرة وتعميقها وترسيخها".

إن ثبوت بطلان الزعم الأول، لا يترك لزوماً لتنفميذ الزعم الذي يستند عليه. ومع هذا، أنا سأناقش الزعم الأخير مستقلاً عن الزعم الأول. ولهذا السبب، سأسلم- جدلاً- بأن البعثيين كانوا أول المعتنقين للفكرة القومية- كما يدعي ميشال عفلق- ثم سأسأل: هل ذلك يجعلهم أقدر من غيرهم لاتمام العمل؟ وهل يكون ألاقدم هو " الاقدر " في كل الأحوال؟ وهل يبقى الأسبق، هو " الأفضل " على مر الزمان؟

إن أجوبة التاريخ- بفروعه المختلفة- لهذه الأسئلة، صريحة وحاسمة:

فإن تاريخ الحياة الفكرية يعطينا أمثلة عديدة على أن أول الباحثين في موضوع من المواضيع قد لا يكونون أقدر من غيرهم لاتمام بحث الموضوع المذكور، كما يعطينا أمثلة عديدة على أن أول من يتوصل إلى اكتشاف حقيقة من الحقائق قد يخطىء في تعليلها، وقد ينحرف عن سواء السبيل في استنباط النتائج المترتبة عليها... والحقيقة المذكورة قد لا تتجلى على وجهها الصحيح والتام، إلا على أيدي مفكرين وباحثين آخرين، يكونون أحسن تقديراً للأمور، وأعمق تفكيراً فيها.

وتاريخ الحياة السياسية- بدوره- يعطينا أمثلة كثيرة على ان الأحزاب التي تتألف لغاية من الغايات قد تعجز عن تحقيق الغاية المذكورة، وقد تبتلى بضروب من التردي والفساد، وقد تنحرف عن السبل المؤدية إلى تحقيق غايتها الأصلية، وقد يصل بها الانحراف والفساد إلى حد التنكر لمبادئها الأساسية، وقد تتحول إلى منظمة لا تخدم شيئاً غير نفسها. واما تحقيق الغاية الأصلية فقد يتم على أيدي أحزاب حديثة، تتولى العمل والكفاح بعقلية جديدة، وبتنظيمات جديدة.

وفضلا عن ذلك، فإن التاريخ يعطينا أمثلة عديدة على أنه حتى الأحزاب التي استطاعت أن تؤدي إلى بلادها خدمات فعلية جليلة في فترة من الزمان ، حتى تلك الأحزاب قد لا تبقى مصونة من عوامل التردي والفساد، فقد تصبح بمرور الزمن حجر عثرة في سبيل اصلاح الأمور وتحقيق الأهداف.

ولا أراني في حاجة إلى ذكر أمثلة على ذلك من تاريخ البلاد الاوروبية لأن تاريخ البلاد العربية نفسه يعطينا أمثلة عديدة على هذه الأمور: وربما كان حزب الوفد في مصر، وحزب مصالي الحاج في الجزائر من أحدث وأبلغ هذه الأمثلة.

ويتبين من كل ما تقدم : ان زعم ميشال عفلق بأن جماعته تكون- بطبيعة الحال- أقدر من الجماعات الاخرى على متابعة العمل والنضال، لكونها أقدم منها، لا يستند إلى أي أساس علمي صحيح.

ومن الغريب أن ميشال عفلق نفسه كان قد انتبه إلى بعض النواحي من احتمالات تطرق الخلل إلى حزبه. وكان كتب العبارات التالية، في مقالته " نظرتنا الحية إلى الحزب ":

فيجب أن أنبه إلى ناحية أخرى، بأنه بقدر ما تتوسع الحركة، وبقدر ما يتسع نطاقها ويكبر عدد أعضائها يصبح واجب الفرد فيها أكبر من ذي قبل. فكل حركة- وهذه طبيعة الحركات الاجتماعية، وطبيعة المجتمعات- معرضة لأن تفقد من عفويتها، من حريتها، من أصالتها، وأن تطغى عليها الشعارات التقليدية، أن تطغى عليها الألفاظ ، أن تصبح صنما. فليس الأشخاص هم الذين يصبحون أصناماً فحسب، فقد تصبح الحركة صنما وقد تصبح أفكارها أصناما، وهذا شر ما تبتلى به حركة تريد أن تخلق وتبدع (ص 300).

يظهـر أن ميشال عفلق عندما أدلى بجوابه، كان قد نسي ما كان كتبه سنة 1955، وإلا لما ادعى أن جماعته أقدر من الجماعات الأخرى، لكونها أقدم منها.

ولكن مدعيات ميشال عفلق في تفوق حزبه على الأحزاب الأخرى، لا تنتهي عند هذا الحد، بل انها تذهب إلى أبعد من ذلك أيضاً :

انه يزعم خلال جوابه أن جماعة حزب البعث حملوا الفكرة " يوم كان حملها ثورة على الواقع وتحدياً له "، في حين أن الجماعات الأخرى تبنت الفكرة بعد أن راجت وتم نجاحها ". ويدعي أن هذا الفارق يكسب حزبه تفوقاً كبيراً على الجماعات الجديدة.

ولكن ما يقوله في هذا الصدد أيضاً لا يدل على تفكيرعلمي سليم .

فإن قوله " ان جماعته حملوا الفكرة يوم كان حملها ثورة على الواقع " يوسع معنى الثورة توسيعاً غريباً ، ويحط من منزلتها كثيرا. لأننا، لو أعتبرنا حمل الفكرة- مجرد حمل الفكرة- " ثورة " لوجب علينا أن نعد الثورات بمئات الآلاف، والثوار بعشرات الملايين..

وأما قوله: " بعد أن راجت الفكرة وتم نجاحها "، فإذأ دل على شيء فإنما يدل على استصغار الفكرة القومية وتجاهل مشاكلها الحقيقية، ولا أدري كيف يجوز لمفكر قومي أن يسلم بأنه " قد تم نجاح الفكرة القومية " في الوقت الذي يراها لا تزال تتصارع مع المئات من القوى المعادية لها. وفي الوقت الذي يشعر شعوراً قوياً ، بأن نجاحها لا يزال يتطلب من المؤمنين بها المزيد من الجهود و من التضحيات.

وفضلاً عن ذلك، ارى أن ميشال عفلق يبالغ مبالغة كبيرة في " قيمة " هذا الفارق الذى يدعي وجوده بين حزب البعث وبين الأحزاب الوحدوية ، ويخطىء كثيراً في النتائج التي يستنبطها من الفارق المذكور.

فإنه، أولاً يشك في صدق نوايا تلك الجماعات: ثم يقول: " حتى إذا سلمنا بصدق نواياهم " فيجب أن نعرف أن فكرتهم تكون معرضة للسطحية والأخطاء.

لا شك في أن عمق الايمان أو سطحيته، سلامة التفكير أو سخافته ، صدق النوايا أو انتهازيتها... كلها أمور هامة يجب أن لا تغب عن الأنظار، عند البحث في أعمال الأحزاب والجماعات.

غيرأن مما لا شك فيه أيضاً ، أن " القدم " لا يعصم الأحزاب ومنتسبيها من الخطأ والسطحية والانتهازية.

وأما الزعم بأن احتمال الانزلاق إلى مهاوي الانانية والانتهازية ينحصر في الأحزاب الحديثة- كما يبدو ذلك من كلام ميشال عفلق- فلا يمكن أن يعلل إلا بسوء فهم نواميس الحياة الاجتماعية بوجه عام، ونواميس الحياة السياسية بوجه خاص .

وقبل أن أختم بحثي هذا، أرف أن انقل- فيما يلى- الأسطر الباقية من الجواب أيضاً ، ليطلع القراء على كل ما قاله ميشال عفلق، في هذه القضايا:

فنحن إذن نرحب بأن ترفع الفئات الاخرى شعاراتنا ولكن على حذر وتحفظ يضمنان أن تحتفظ الفكرة القومية بأصالتها وبكل طاقتها الثورية. إذ لو اكتفى الناس بتبني نتائج الثورة دون أن يصعدوا إلى أسبابها ومقدماتها وأسسها، لكانت معرضة دوماً للانتكاس أو التخلي عنها في حال تبدل الظروف. فما نقصده بالحذر والتحفظ إنما هو الاصرار والالحاح، في المجال الفكري والعقائدي، على ربط النتائج بالمقدمات لنرتفع بالشعارات القومية العربية من مستوى الاستهلاك السياسي إلى مستوى القناعة (ص 337- 338)

يلاحظ أن ميشال عفلق يكرر هنا مزاعمه السابقة الذكر بتعابير أخرى. ويتكلم عن " تبني نتائج الثورة دون الصعود إلى مقدماتها " وأعتقد أن ما قلته آنفاً عن " الثورة " وعن " تبني نتائج الثورة " لا يترك لزوماً إلى المزيد من الكلام ، للبرهنة على خطأ هذه المزاعم .

غير أني أرى من المفيد أن أقف قليلاً عند الكلمات الأخيرة من الجواب:

يتكلم ميشال عفلق عن " المجال الفكري العقائدي "، ويقول بوجوب " الترفع بالشعارات القومية العربية عن مستوى الاستهلاك السياسي ".

ولا مجال للشك في ان هذا أمر هام جداً . ولكن مما لا مجال للشك فيه أيضاً : ان حاجة حزب البعث إلى العمل في " المجال الفكري العقائدي " لا تقل عن حاجة الأحزاب الأخرى إلى ذلك.

وأعتقد أن آراء ميشال عفلق التي استعرضتها وناقشتها في هذا الفصل تظهر هذه الحاجة إلى العيان.

التفكير المجرد والأفكار الضبابية عدل

الأستاذ ميشال عفلق، يحذر قراءه ومريديه- بمناسبات عديدة- من التفكير المجرد، ومن الألفاظ الجوفاء.

انه محق في هذا التحذير.

ولكن، من الغريب انه- هو نفسه- لا يعمل بما أوصى به في هذا المضمار. فكثيراً ما يستسلم لدواعي التفكير المجرد.

وأستطيع أن أقول: انه يغوص في بحر المجردات.. بتعبير أدق : انه يحلق في أجواء المجردات والماورائيات، بأجنحة من الألفاظ الجوفاء والعبارات الضبابية.

فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:

-1-

ما هو القدر

يعبر ميشال عفلق عن رأيه في معنى القدر، بالكلمات التالية، في مقالته " من معاني الانقلاب ":

فكرة القدر تابعة لحيوية الأمة. فتارة تكون عامل حيوية ودفع، وتارة عامل جمود وتأخر. فالقدر مثلاً هو المثل الأعلى تنشده الانسانية. أي اننا نحن نريده. ثم بعد ذلك، يخرج عنا ويأمرنا فيما بعد (ص 183).

أفليس هذا الكلام نتائج تفكير مجرد؟ تفكير انطلق إلى حدود التجريد، حتى تجرد من كل معنى مفهوم ومعقول؟

القدر هو المثل الأعلى تنشده الانسانية...

اننا نحن نريده..

ثم يخرج ! منا.. ويأمرنا..

لا أدري من يستطيع أن يفهم بشيء من الوضوح- وبالنظر إلى هذه العبارات- ما هو القدر، في نظر ميشال عفلق، على ضوء هذه العبارات؟ واما العبارات التي تلي ما نقلناه آنفاً ، فلا توضح المقصود، بل تزيد الأمر غموضاً :

للقدر مفهوم عامي، وهو أن الانسان لا استطاعة له ولا قوة ولا حول. والقدر بمعنى آخر مناقض لذلك : هو المثل الأعلى الذي نسعى له. هو التعبير عن ارادتنا، ولكن لكي نعطي هذا المثل قوة فوق قوة الفرد، نجعله شيئاً أزلياً ، أي من قوانين الكون. ويجب أن نصل إلى ذلك، أي أن نصبح أكثر من أفراد، نصبح التاريخ، نصبح الطبيعة (ص 183).

إذن: " القدر هو المثل الأعلى الذي نسعى له "؟

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نسمي الأمور بأسمائها المألوفة والمفهومة؟ لماذا نسمي ذلك باسم " القدر " ونفتح باباً للالتباس، مع ما يسميه الاستاذ عفلق " المعنى العامي "؟

ولكن الأستاذ يطلب منا أشياء أخرى : هذا المثل الأعلى يجب أن نجعله شيئاً أزلياً .. ونحن يجب أن نصبح التاريخ.. بل يجب أن نصبح الطبيعة..

لماذا؟ وكيف؟ من المستحيل أن يفهم المرء ذلك، ما لم يغص في دياجير المجردات الغيبية، ويتخلى عن مناحي التفكير العلمي.

هذا ، ولا يظن ظان بأن هذه العبارات وردت في المقالة، بصورة عرضية، في إغفاءة من التفكير الجدي. لأن الأستاذ عفلق يعود إلى هذا الموضوع في محل آخر من المقالة، ويكرر فكرته بتعابير أخرى :

القدر في المفهوم العامي شيء سلبي، يقيدنا ويقتل فينا الحرية. أما إيماننا بما يكون محبباً فيعني اننا تقمصنا القدر. وليس ثمة تناقض، بل يعني الايمان بالروح. فسيرنا الشاق والجهاد الذي نبذله للوصول إلى الغاية، كان له تصميم سابق لا يحد من حريتنا. لكننا يجب أن نؤمن بأننا ننفذ إرادة الحرية (ص 184).

يلاحظ أن هنا أيضاً سلسلة من العبارات الغامضة والأفكار المجردة السحابية: تقمص القدر... تنفيذ إرادة الحرية...

ومن أغرب الغرائب، ان الأستاذ ميشال عفلق الذي يسطر كل هذه السطور، ويطلق كل هذه الآراء الضبابية، يقول من جهة أخرى :

إن فكرة القدر ليست شيئاً بسيطاً لكي نقرر عدم وجودها أو وجودها. (ص183)

ولا بد من التساؤل أمام هذا القول: ما دام الأمر كذلك.. ما دامت هذه الفكرة من الأمور التي لا يمكن تقرير عدم وجودها أو وجودها، فلماذا التكلم عنها بهذه الصور الغريبة؟ ولا سيما، لماذا اتخاذها أساساً لآراء ونظريات عن معنى الانقلاب؟

-2- ما هي الاشتراكية؟

معلوم ان الاشتراكية، هي احدى الكلمات الثلاث التي تتكرر في شعار " حزب البعث العربي الاشتراكي " وفي اسمه.

فينتظر من ميشال عفلق ان يضع في تعريف معناها، كل قدرته في التفكير والتعبير.

ولكن هذا ما يقوله في تعريف الاشتراكية:

إذا سئلت عن تعريف للاشتراكية، فلن أنشده في كتب ماركس ولينين وإنما أجيب: " انها دين الحياة، وظفر الحياة على الموت. فهي بفتحها باب العمل أمام الجميع، وسماحها لكل مواهب البشر وفضائلهم ان تتفتح وتنطلق وتستخدم، تحفظ ملك الحياة للحياة، ولا تبقي للموت إلا اللحم الجاف والعظام النخرة " ( ص 26 )

وأظن أنه يصعب على المرء أن يعثر على مثال أشد بلاغة من هذا " التعريف ".. على التفكير المجرد، الذي يحلق في سماء الغموض على أجنحة من الألفاظ الجوفاء.

-3- كلمة السر

يختتم ميشال عفلق مقالته عن " الايمان " بالكلمة التالية :

إن طريقنا طويلة. وسوف يمر عليها أفراد وأجيال. لذلك يجب أن يعرف السائرون على هذه الطريق كلمة السر التي تبقي على صحة الطريق واستقامته وأمانته، وان ينقلها كل فرد لآخر، وكل جيل لآخر. وكلمة السر هذه ليست نظرية علمية، وليست دستوراً رياضياً ، ولكنها هي الميزة التي تميز الانسان في كل عصر وكل قطر.. عفويته التي تميز بين الصدق والكذب. فهذه الروح العفوية التي تغذيها التجارب ويصقلها الفكر والبحث، ولكنها لا توجدها التجارب والعلم والفكر، هذه هي المقاييس وكلمة السر. (ص 30)

أعتقد أن هذه الكلمة أيضاً من أحسن الأمثلة على التفكير المجرد، وعلى الأفكار الضبابية التي ينتجها هذا النوع من التفكير.

-4- تقديس الفرد وعدم تأليه الانسان

وفيما يلي مثال آخر على التفكير المجرد الذي يلتزمه ميشال عفلق:

كنت دوماً أعتقد بأن فلسفتنا لا يجوز أن تؤله الانسان. وثمة فرق بين الفرد والانسان. ويجب أن نعطي قيمة كبرى للفرد وليس للانسان، لأن تأليه الانسان يعني وثنية، أي فقدان الايمان. إذ لا يجوز أن يؤمن انسان بانسان. ومن نتائجها الفتور وهبوط المثل العليا وتحلل الفرد من المثل الاخلاقية. وأما أن يكون الفرد أهم شيء، فهذا منسجم مع الفلسفة الروحية. لأن هذه تستند على الضمير والعقل لا على قطيع وجمهور. والروح توجد في الفرد ككائن مستقل يحركه عقله وضميره فهو الاساس. ولا نقول له أنت كانسان بل كفرد في أمة عليك ان تفي شروط امتك وان تحمل العبء الفلاني، ولكن نقول له انك غاية هذه الحياة. بل انه- أي الفرد- وسيلة مقدسة. الديمقراطية تعتمد على الفرد وتقدسه، وتحترم حريته، ولكنها لا تؤله الانسان. (ص 184).

أعتقد أن كل ما جاء في هذه الكلمة، لا يحتمل التحليل الجدي والنقد العلمي.

الأخطاء التاريخية عدل

لقد لاحظت في كتاب ميشال عفلق " في سبيل البعث " عدة أخطاء تاريخية خطيرة، يدل بعضها على نقص في استقصاء الحقائق، وبعضها على سوء فهم سير التاريخ العام. أدرج فيما يلي أهم هذه الأخطاء:

- 1-

قضية الأشوريين عدل

في المقالة المعنونة بعنوان " قوميتنا المتحررة- أمام التفرقة الدينية والعنصرية " يقول ميشال عفلق:

وجد دوماً في البلاد العربية مئات من الناس كانوا يتبنون النظرة النازية حتى قبل ظهور النازية نتيجة للجهل. ووجد دوماً من صوّر العروبة بأنها مقتصرة على نوع معين وعدد معين من الناس وانها تتفاخر وتتعالى على الآخرين. وطبيعي أن يحدث هذا رد فعل وان تشعر الاقليات العنصرية بانها مهددة بوجودها أمام مثل هذه القومية. لذلك كان هناك رد فعل على القومية المتعصبة من الأكراد والأشوريين والأرمن.. (ص 93)

يتبين من هذه الفقرات، ان الأستاذ عفلق يزعم أن حركة الأشوريين كانت رد فعل على القومية المتعصبة. ولكن ذلك يخالف الواقع مخالفة تامة، ويدل على سوء فهم القضية الأشورية من أساسها:

إن الأشوريين في شمال العراق، لم يكونوا من سكان البلاد الأصليين، بل انهم جاءوا إلى العراق مع الجيش البريطاني الذي كان يحتل إيران، خلال الحرب العالمية الأولى. الانكليز جندوهم، وجاءوا بهم إلى العراق مع عائلاتهم، وأحدثوا بجانب المعسكرات مخيمات خاصة بعائلات الأشوريين المجندين. وبعد انتهاء الحرب، أقطعوا لهم أراضي واسعة في الشمال، وأنشأوا لهم قرى، وأسكنوهم فيها. ولكن الأشوريين لم يكتفوا بما نالوه من حماية ونعم، بل صاروا يتجاوزون على أراضي الأهالي الاصليين، ويحاولون أن يوسعوا أراضيهم بشتى الوسائل. وبما انهم كانوا مسلحين تسليحاً قوياً ، صاروا يزدادون جبروتاً يوماً عن يوم، حتى أخذوا يتعدون على المدن، ويلحقون شتى الأضرار بالاهالي الآمنين، ويزهقون أرواح الأبرياء. وانتهى بهم الأمر إلى حد مقاومة قوى الأمن، والثورة على الحكومة. عندئذ، وعندئذ فقط ، اضطرت الحكومة العراقية إلى تجريد حملة عسكرية عليهم.

ويتبين مما سبق: ان حركة الأشوريين لم تكن " رد فعل على القومية المتعصبة "، بل كانت هي نفسها وليدة " قومية طاغية "، تتعدى على القوميات الاخرى، وتثور على الدولة، مع ان الأشوريين المذكورين لم يكونوا من سكان البلاد، ومع انهم كانوا عوملوا بسماحة كبيرة [ هذا، ومما تجدر الاشارة إليه: ان جماعة من الأشوريين كانوا طلبوا من مؤتمر الصلح، بعد الحرب العالمية الأولى، تكوين دولة أشورية تكون مدينة الموصل عاصمة لها.. خريطة مطالبهم في كتابي : حول القومية العربية (بيروت: دار العلم للملايين، 1957) ص 322 ]

-2-

سوريا والمغرب في سياسة فرنسا عدل

يقول ميشال عفلق في احدى مقالاته المنشورة في كتابه " في سبيل البعث ":

إن الفرنسيين جاءوا إلى سوريا ليضمنوا بقاءهم في المغرب (ص 234).

ولكن ذلك يخالف الواقع كما أنه ينافي المعقول.

إذ من المؤكد أن أطماع فرنسا في سوريا، أقدم بكثيرمن أطماعها في المغرب.

معلوم أن " حماية الكاثوليك "، وصيانة " تجارة اللفانت " كانت من أهم مشاغل الحكومات الفرنسية منذ قرون عديدة. واذا لم يستطيعوا ان يستولوا على سوريا، إلا بعد مرور مدة على استيلائهم على بلاد المغرب، فأسباب ذلك تعود إلى التنافس الدولي على ميراث ما كانوا يسمونه " الرجل المريض ".

ولا تنس أن حملة فرنسا على مصر، تحت قيادة نابوليون، ومحاولتها الاستيلاء على سوريا.. كانت حدثت قبل استيلائها على الجزائر، بمدة تزيد على ثلاثين عاماً .

هذا من جهة، ومن جهة أخرى: ان نظرة واحدة إلى الخريطة للتأكد من أن الحفاظ على بلاد المغرب- بالنسبة إلى فرنسا- كان أسهل بكثير من الحفاظ على سوريا : إن سواحل بلاد المغرب تقع مقابل سواحل فرنسا الجنوبية، في أضيق أقسام البحر الأبيض المتوسط ، فالاستيلاء عليها كان أسهل من الاستيلاء على سوريا، كما أن البقاء فيها كان أسهل من البقاء في سوريا.

ولذلك، أكرر القول بأن ما ذهب إليه ميشال عفلق في هذه القضية يخالف الواقع التاريخي، كما انه ينافي المعقول الاستراتيجي.

-3-

الدين في أوروبا عدل

يقول ميشال عفلق في إحدى مقالاته المنشورة في كتابه في " سبيل البعث ":

الدين دخل أوروبا من الخارج، فهو أجنبي عن طبيعتها وتاريخها. ولم ينزل بلغاتهم القومية، ولا أفصح عن حاجات بيئتهم ولا امتزج بتاريخها.. (ص 58).

إني قرأت هذه العبارات بحيرة عميقة، لأنها تدل على التعامي عن أثبت حقائق التاريخ، والتغافل عن أهم نواميس الاجتماع.

يقول ميشال عفلق: ان الدين في أوروبا أجنبي عن تاريخها: ولم يمتزج بتاريخها.

ولكن، كل المؤرخين وكل الباحثين يقولون عكس ذلك تماماً ، ويؤكدون أن الدين لعب دوراً رئيسياً في تاريخ البلاد الأوروبية، ولا سيما طوال القرون الوسطى .

ويدعي ميشال عفلق : ان الدين في أوروبا لم يفصح عن حاجات بيئتهم.

ولكن يلاحظ انه: لو كان ذلك صحيحاً ، لما أمكن أن ينتشر فيها انتشاره المعلوم.

ويقول ميشال عفلق: ان الدين في أوروبا لم ينزل بلغاتهم القومية.

ولكنه لا يفكر ولا يقول: هل ذلك حال دون اعتناقهم له، ودون تمسكهم به؟ ودون تجسيدهم له بمئات الكاتدرائيات، وعشرات الآلاف من الكنائس، وآلاف الاناشيد الدينية، والاف الصور والتماثيل؟

إن ميشال عفلق، يبني كل هذه المزاعم الباطلة على أساس واحد، هو: كون الديانة المسيحية لم تنشأ- في بادىء الأمر- في أوروبا نفسها، بل أتت إليها من خارجها.

ولكن قد فاته: ان الأفكار والفلسفات والديانات، وسائر المعنويات، لا تبقى مرتبطة بمنشأها ومنبتها الأصلي، بل تنتقل منها إلى مسافات بعيدة، وكثيراً ما يحدث، انها تترعرع وتزدهر في البلاد التي انتقلت إليها، أكثر بكثير من البلاد التي شاهدت ولادتها الأولى .

إن قليلاً من التأمل في تاريخ الأديان والمذاهب والعلوم والفلسفات، والاكتشافات والاختراعات... وحتى تاريخ ا نتشار المزروعات والمغروسات.. يكفي للتأكد من صحة ما أقول.

ولذلك استغربت كل الاستغراب، الأغلاط الفاحشة التي تضمنته كلمات ميشال عفلق الآنفة الذكر، والسطحية الغريبة التي تجلت في تفكيره في هذا المضمار.

التناقض في قضية أساسية عدل

يقول ميشال عفلق في مقالته " الوحدة ثورة تاريخية "- المنشورة في كتابه " في سبيل البعث ":

وضعت حركة البعث بذور النظرية القومية بصورة عامة لا للعرب وحدهم وإنما ألحت على حقيقة القومية في حياة البشر، وما يصح على العرب لا بد أن يصح على غيرهم (ص 269).

يلاحظ أن الأستاذ عفلق يتكلم هنا عن نظرية عامة في القومية، لا تختص بالعرب وحدهم، بل تشمل حقيقة القومية في حياة البشر، اعتقادآ منه ان ما يصح على العرب لا بد أن يصح على غيرهم.

أنا لا أريد البحث في هذا المقام فيما إذا كان هذا الزعم موافقاً للحقيقة أم لا، كما أني لا أود أن أتساءل عن ماهية هذه النظرية التي يتفاخر بها الأستاذ عفلق .. غير أني أود أن ألفت الأنظار إلى أن ما يقوله هنا يناقض ما يقول به في مقالات أخرى مناقضة تامة. لأنه كان قال مراراً، ان القومية العربية تختلف عن سائر القوميات اختلافاً أساسياً لا يترك مجالاً لوضع نظرية تشمل جميع القوميات:

فقد قال في مقالته في " القومية العربية " المنشورة في نفس الكتاب:

كل تفسير للقومية العربية لا ينبعث في صميمها انبعاث الغرسة من الأرض والسنبلة من القمحة يكون تفسيراً ضالاً جامداً ميتاً . وكل نظرية عن العروبة يصح أن تقال على السواء عن فرنسة القرن الثامن عشر وعن اليونان في عهد أفلاطون، نظرية زائفة آلية، لأنها لا تنبىء عن خصائص المكان ولا يستشف ميها انسياب الزمن. وليكفوا عن التذرع بالاشياء الخالدة المشتركة، إذ لا شيء خالداً ومشتركاً بين البشر غير التحول والاختلاف (ص 44).

يلاحظ أن كاتب المقال يشير هنا إلى الفرق بين القومية العربية، وبين القومية في القرن الثامن عشر، والقومية عند اليونان في عهد افلاطون، ولكنه بعد ذلك يعمم الأمر تعميما كلياً ، وينتهي إلى القول بأنه " لا شيء مشتركاً بين البشر غير التحول والاختلاف ".

وبديهي ان هذا القول يناقض قوله " ان ما يصح على العرب لا بد أن يصح على غيرهم " مناقضة تامة.

وهذا التناقض يظهر إلى العيان، بوضوح أعظم فيما كتبه الدكتور سعدون حمادي في مقدمة كتاب ميشال عفلق، تلخيصاً وتوضيحاً لآرائه السياسية:

هذا المفهوم للقومية ( أي المفهوم الذي وضعه ونشره الاستاذ عفلق)... نقيض المفهوم القومي الاوروبي الذي يعتمد على المنطق المجرد ويعتبر أن تطور القوميات يجري حسب قواعد مشتركة ثابتة تصح على جميع الامم (ص 44).

خلاصة القول: ان الاستاذ ميشال عفلق يقدم لقرائه رأيين متناقضين، في حقيقة القوميات:

فيقول مرة: لا توجد قواعد مشتركة ثابتة تصح على جميع القوميات.

ويقول مرة أخرى : ان ما يصح على العرب لا بد ان يصح على غيرهم، فيشمل جميع القوميات.

انه يقدم الرأيين، دون أن ينتبه إلى ما بينهما من تناقض تام.

وأما أنا، فأعتقد أن الرأيين خاطئان في وقت واحد: أنا لا أسلم بأن كل ما يصح على العرب لا بد أن يصح على غيرهم.

ولكنني لا أسلم أيضاً بأنه لا يوجد شيء مشترك بين القومية العربية وبين القوميات الأخرى.

وأعتقد بأن هناك بعض القواعد المشتركة في تطور القوميات، فأقول: ان اللغة والتاريخ، هما العاملان الأساسيان في تكوين القوميات.

القومية العربية والقومية الأوروبية عدل

يزعم ميشال عفلق: ان هناك " مفهوماً أوروبياً للقومية "، ولكن حركة البعث العربي توصلت إلى مفهوم جديد عن القومية، يختلف عن المفهوم الأوروبي اختلافاً كبيراً .

والدكتور سعدون حمادي الذي كتب مقدمة لكتاب " في سبيل البعث " تلخيصاً وتقويماً لآراء ميشال عفلق، قال فيما قاله، ما يلي :

ان مفهوم القومية الموضح في هذا الكتاب.. هو نقيض المفهوم القومي الاوروبي الذي يعتمد على المنطق المجرد والذي يعتبر ان تطور القوميات يجري حسب قواعد مشتركة ثابتة، تصح على جميع الأمم، والذي يمثله الآن إلى حد ما الأستاذ ساطع الحصري... وبذلك جاء هذا المفهوم للقومية العربية جديداً تماماً ، وهو مفهوم منبثق من التجربة العربية، ويرفض استخدام تجربة القوميات الاخرى لاكثر من الاطلاع والاستنارة واغناء الثقافة (ص 7).

إن هذه الكلمة تعزو إليّ رأياً لم أقل به أبداً، كما انها تنم عن فهم خاطىء تماماً عن حقيقة الحركات القومية التي قامت في أوروبا أيضاً .



إني كنت رددت على هذه المزاعم- التي كانت خدعت بعض الشبان- في كتابي " حول القومية العربية ".

وسأنقل فيما يلي أهم نقاط الرد المذكور:

أولاً : أنا لا أعرف أن هناك قومية تعتمد على المنطق المجرد، لا في أوروبا، ولا في غير أوروبا.

ثانياً : أنا- شخصياً- لم أعتمد على " المنطق المجرد "، لا في أبحاثي القومية ولا في أبحاثي الأخرى.

ثالثاً : أنا لا أسلم بوجود " قوميات أوروبية " تتساوى في امرها جميع الشعوب التي تقطن قارة أوروبا: وتختلف بها عن جميع الشعوب التي تقطن خارج القارة المذكورة.

بل اعتقدت- ولا أزال أعتقد- بأن تطور القوميات جرى على انماط متنوعة، حتى في القارة الأوروبية نفسها.

إن محاضراتي في " نشوء الفكرة القومية " توضح ذلك تمام الايضاح:

إن المحاضرات المذكورة كانت القيت في " قاعة الجمعية الجغرافية بالقاهرة بدعوة من كلية الآداب " في أوائل سنة 1948.

وقد قلت في المحاضرة الأولى التي كانت القيت بتاريخ (17/ 1/ 1948) كما هومصرح في كتابي المطبوع :

" ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد ان نشوء فكرة حقوق القوميات لم يجر في كل البلاد على وتيرة واحدة، بل انه جرى في مختلف البلاد على انماط متنوعة، تختلف باختلاف الأحوال السياسية والاطوار الاجتماعية والعوامل التاريخية التي كانت قائمة فيها".

" وعندما نستعرض تاريخ الحركات القومية في مختلف البلاد الاوروبية، نجد أنفسنا أمام نماذج عديدة، يختلف بعضها عن بعض بمعالم واضحة.

وأنا أرى من المفيد أن أشير هنا إلى أبرز هذه النماذج، لاعطاء فكرة عامة عن سير الحركات القومية، بمختلف مظاهرها ".

وبعد استعراض هذه النماذج استعراضاً عاماً ، شرحت- في المحاضرات التالية- تاريخ نشوء الفكرة القومية في كل من المانيا، وبلغاريا، ويوغوسلافيا، واليونان، ورومانيا، والبانيا، وبين الاتراك العثمانيين، وفي الأخير، تكلمت عن نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية.

إن التفاصيل المسرودة في تلك المحاضرات تدل دلالة قاطعة على انها لم تعتمد على المنطق المجرد، كما انها لم تترك مجالاً للزعم بأن تطور القوميات يجري على نمط واحد، في جميع البلاد.

إن مقارنة بسيطة بين ما جاء فيها عن نشوء الفكرة القومية في كل من ألمانيا وبلغاريا- مثلأ- تظهر إلى العيان الفروق العظيمة التي اتصف بها تطور الأمور في الأمتين المذكورتين.

واما مراجعة ما جاء فيها عن نشوء الفكرة عند الاتراك العثمانيين من ناحية، وفي البلاد العربية من ناحية أخرى، فانها تظهر فروقاً أعظم من ذلك أيضاً .

هذا، ومن جهة الحركات القومية نفسها.

واما النظريات التي ظهرت بمناسبة هذه الحركات، فهي أيضاً كانت متنوعة ومتعـاكسة.

فإن الثلث الأخير من القرن التاسع عشر شهد التنازع الحاد والتصادم العنيف الذي قام بين نظرية الافرنسيين وبين نظرية الالمان. وقد انضمت إلى هاتين النظريتين المتعاكستين- خلال العقد الثاني من القرن الحالي- نظرية جديدة، تختلف عنهما اختلافاً بيناً هي : النظرية الروسية.

فضلأ عن ذلك، فإن القرن الحالي شاهد تطوراً غريباً في معنى كلمة " ناسيوناليزم " باعدها عن مدلولات القومية بعداً كبيراً .

إني كنت شرحت كل واحدة من النظريات الألمانية والفرنسية والروسية بتفاصيل وافية، وناقشتها مناقشة علمية- على ضوء الوقائع التاريخية والأبحاث الاجتماعية- في كتابي " ما هي القومية " كما اني استعرضت تطور معنى كلمة " ناسيوناليزم " خلال القرن الحالي في أحد فصول كتابي " حول القومية العربية " [ المصدر نفسه ، ص 31-43 ] .

ولذلك كله، أقول: ان ما جاء في الكلمة البعثية التي نقلتها في مستهل حديثي هذا، يدل دلالة صريحة على أن ميشال عفلق- ومريديه- لم يكلفوا انفسهم عناء درس هذه الأمور دراسة جدية، بل أصدروا أحكامهم الاعتباطية، بعد نظرات خاطفة وسطحية.

واما تعبير " المفهوم الأوروبي " الوارد في الكلمة المذكورة، فانه يذكرني بكلمة " الافرنج " التي كان قد اعتاد الناس- حتى وقت قريب- أن ينعتوا بها الأوروبيين دون أن يميزوا بين البريطاني وبين اليوناني- مثلاً- أو بين الروسي والافرنسي، أو بين السويدي وبين الاسباني.

وأعتقد أن تعبير " المفهوم القومي الأوروبي " الوارد في نظريات ميشال عفلق ليس أقل خطأ وسطحية، عن تعبير" الافرنج " الذي كان شائعاًَ بين الناس.

يلوح لي ان آراء ميشال عفلق في قضايا القوميات في أوروبا لم تخرج عن نطاق النظريات السطحية حول وحدة إيطاليا والمانيا لأنه يقول ان القوميات الأوروبية- عندما تحررت- اندفعت إلى الاستعمار، وإلى استعباد الشعوب المستضعفة.

ولكن، قليلاً من البحث العلمي في هذه الأمور، يكفي لاظهارما في هذا الرأي من خطأ فاحش:

أولاً: ان أوروبا شاهدت العديد من الحركات القومية التي لم تقترن، لا بالاستعلاء ولا بالاستعمار.

فإن الايرلنديين- مثلاً- تحرروا من الحكم البريطاني، وثبتوا أركان قوميتهم ، بعد نضال عنيف وتضحيات هائلة، ومع ذلك لم يجنحوا لا إلى التوسع ولا إلى الاستعما ر.

ونستطيع أن نقول الشيء نفسه عن الفنلنديين وعن الألبان.

وقد أحصيت نحو عشر من الحركات القومية في أوروبا لم تقترن لا بالاستعلاء ولا بالاستعمار.

ثانياً : حتى أحداث ألمانيا وايطاليا، لا تخود الباحث المنصف، حق ربط الحركات القومية بالاستعمار.

لأن من الحقائق التي لا يمكن ولا يجوز تجاهلها: ان استعمار الاوروبيين لمختلف قارات العالم واستعبادهم لشعوبها المستضعفة كان قد بدأ واستشرى قبل القرن التاسع عشر وقبل وحدة إيطاليا والمانيا.

ان استعمار الهولنديين والبرتغاليين لسواحل المحيط الهندي وللجزر الاندونيسية- مثلاً- كان قد تم في أزمنة لا تسمح بربطها بالحركات القومية وبأحدإث تحرر الشعوب، بوجه من الوجوه.

صحيح ان الايطاليين أقدموا على الاستعمار بعد حركاتهم التحررية والتوحدية القومية. ولكن كان ذلك بعد مرور ثلاثة عقود من السنين على نجاح الحركات بتحقيق وحدة البلاد الايطالية. فضلاً عن أن ذلك قد حدث بعد ما كوّنت بريطانيا العظمى امبراطوريتها المشهورة " التي لا تغيب عنها الشمس "... وبعدما مدّت فرنسا مخالب استعمارها على بلاد كثيرة في القارات الامريكية والافريقية والآسيوية، ولا سيما بعد أن رسخت سيطرتها على الجزائر التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط ووسعت نطاق احتلالها هناك حتى تونس التي تقع بالقرب من جزيرة صقلية الايطالية.

إننا نستطيع أن نقول نفس الشيء، بالنسبة إلى ألمانيا أيضاً. فلا يجوز أن نربط حركات الاستعمار والاستعباد بالحركات القومية التي قامت في أوروبا في القرن التاسع عشر.

وأعتقد أن السبب الاصلي للغلط الذي انزلق إليه- ولا يزال ينزلق إليه- غير واحد من مؤلفينا في هذا المضمار، هو: أحد الأمرين التاليين، أو كلاهما معاً :

(أ) انهم تأثروا كثيراً بما كتبه الكثيرون من الفرنسيين والبريطانيين ضد الحركات القومية بوجه عام، بسبب الخسائر الفادحة التي الحقتها بمصالح بلادهم ومطامعها الجشعة.

(ب) انهم لم ينتبهوا إلى التطور الذي حدث في معنى كلمة " ناسيوناليزم " في أوروبا، وخلطوا بين مبدأ القوميات، وبين خطط وأعمال الأحزاب والمنظمات اليمينية المتطرفة التي سمت نفسها باسم " ناسيوناليست ".

وأعتقد أن ما كتبته في كتاب " حول القومية العربية" عن معنى كلمة " ناسيوناليزم " يغنيني عن كل شرح وإيضاح في هذا المقام (ص 31- 43).

واؤكد: ان دراسة الوقائع دراسة علمية صافية، لا تترك أي مجال لربط حركات الاستعمار والاستعباد بحركات تحرر القوميات الاوروبية، وتبرهن على خطأ الآراء التي يبديها ميشال عفلق ومريدوه في هذا المضمار.

نظرتي إلى حزب البعث عدل

لقد رأيت سنة 1945 أن أدرس مواقف الأحزاب السياسية من " العروبة "، وجمعت المناهج والدساتير العائدة إلى الأحزاب الستة عشر التي كانت قائمة في ذلك التاريخ في سوريا والعراق ولبنان.

وعندما استعرضت كل ما جاء فيها عن العروبة وعن الوحدة العربية، وجدت أن حزب البعث العربي كان يتفوق على جميعها، من هذه الوجهة، تفوقاً كبيراً .

لتقدير مبلغ هذا التفوق على وجهه الصحيح، يجدر بنا أن نلقي نظرات سريعة على المناهج المذكورة، من زاوية العروبة:

(أ) ان اثنين من الأحزاب المذكورة كانا يعارضان الوحدة العربية معارضة صريحة: الحزب السوري القومي في سوريا ولبنان، وحزب الكتائب في لبنان.

كان الحزب السوري القومي يعتقد بوجود قومية سورية قائمة بذاتها، وينفي وجود قومية عربية، ويتهجم على فكرة العروبة من أساسها.

واما حزب الكتائب اللبنانية، فكان يقول- قبل كل شيء- بوجوب الحفاظ على كيان لبنان مستقلاً عن سائر البلاد العربية. ولكن جريدته- العمل- لم تكتف بذلك، بل صارت تقول بوجوب بقاء سائر الدول العربية أيضاً مستقلة بعضها عن بعض. واسترسلت العمل على نشر هذه الفكرة خلال أزمة الأردن التي حدثت عقب مقتل الملك عبد الله، بوجه خاص.

(ب) وكان هناك حزبان لبنانيان، يلتزمان مبدأ الحفاظ على استقلال لبنان عن سائر البلاد العربية، ومع ذلك يقولان بوجوب التعاون بينه وبينها، دون أن يثيرا قضية اتحاد أو عدم اتحاد سائر البلاد العربية:

حزب الاتحاد الجمهوري كان يقول: " يجب أن يحل التعاون الصادق الصحيح مكان التعاون الشكلي، وأن يسود الاخلاص وصفاء النية، العلاقات بين الدول العربية جميعا، على أن يظل لبنان، من ضمن شخصيته سباقاً إلى ذلك.

الجبهة الاشتراكية الوطنية كانت تقول بوجوب " السعي لتجديد الجامعة العربية وجعل سياستها أكثر ايجابية، ثم تدعيم العلاقات العربية في نطاق ميثاق الجامعة بتعزيز التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. "

(ج) أما الأحزاب الأخرى، فكانت تعتبر العرب أمة واحدة، وتقول انها يجب أن تتحد.

وفيما يلي أبرز ما جاء في مناهج الاحزاب المذكورة، في أمر العروبة والوحدة العربية.

حزب عصبة العمل القومي (في سوريا ولبنان) يقول : " ان العرب أمة واحدة - الأمة العربية جسم اجتماعي واحد، كل عضو فيه يقوم بوظيفته التي هي وحدها مقياس أفضليته- البلدان العربية بكليتها وطن عربي واحد ". حزب الأمة الاشتراكي (في العراق) يقول: " يسعى الحزب إلى تنظيم العلاقات بين العراق والدول! العربية الاخرى على أساس اتحاد سياسي Federation يشملها جميعاً ، على أن يبدأ هذا الاتحاد بالدول التي ترغب الانتظام فيه. ويرى الحزب أن جامعة الدول العربية يجب أن تكون وسيلة لتحقيق هذا القصد.

الحزب الوطني الديموقراطي (في العراق) يقول: " يعمل الحزب على تحقيق اتحاد البلاد العربية بدولة اتحادية (فدرالية) ".

حزب الاتحاد الدستوري (في العراق) يقول: بوجوب العمل على " توثيق روابط الاخاء والتفاهم بين الدول والشعوب العربية وذلك بوضع وتشجيع المشروعات التي تستهدف تعزيز وتوسيع مختلف الصلات بين هذه الدول والشعوب وتكفل تقدمها وازدهارها وسيرها متحدة لاستعادة مجد الأمة العربية وانزالها المنزلة اللائقة بها بين أمم العالم المتمدن ".

حزب الاستقلال (في العراق) يقول: بوجوب العمل على " تعزيز الجامعة العربية وجعلها عاملاً في تكوين نظام اتحادي بين البلاد العربية.. " وبوجوب " العناية بالبلاد العربية كافة ولا سيما الأجزاء غير المستقلة منها وتمكينها من تقرير مصيرها وتحقيق استقلالها واتحادها مع دول الجامعة العربية ".

الحزب الجمهوري الديموقراطي (في سوريا) كان يصرح بما يلي:

" يعتبر الحزب القطر السوري جزءاً من الوطن العربي الأكبر ويدعو إلى أن تبذل الجمهورية السورية وسعها لنصرة القضية العربية العامة. ويرى الحزب في جامعة الدول العربية وسيلة تساعد على توثيق الصلات القومية والسياسية والاقتصادية والثقافية بين كافة الاقطار العربية، وتمهد بذلك السبيل إلى الوحدة العربية الشاملة التي يجب أن تكون هدف العرب الاسمى ".

الحزب الوطني (في سوريا) كان يقول:

" ان العرب في انحاء وطنهم كافة امة واحدة والسوريون جزء منها. وسياسة الحزب تقوم على هذا الأساس- ان الحزب يعمل على تمكين الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية والتشريعية وغيرها بين أجزاء الوطن العربي، توصلاً لتحقيق غاياته القومية على الوجه الصحيح ".

حزب الشعب (في سوريا) كان يقول:

" العرب في مختلف ديارهم أمة واحدة ذات كيان واحد تتوفر فيه عناصر الوحدة الشاملة من روحية وسياسية واقتصادية واجتماعية- وإلى أن تتحقق الوحدة المنشودة يرى الحزب أن يسعى إليها بالطريقتين التاليتين: أولأ- إقامة اتحاد دولي بين سوريا والاقطار العربية. وثانياً- اتخاذ الجامعة العربية وسيلة إلى توحيد السياسة الخارجية والتمثيل الخارجي، وتوحيد قوى الدفاع... الخ ".

كما يقول الحزب بوجوب " السعي لتنظيم وتوجيه الرأي العام نحو الأهداف العربية المشتركة، وذلك بايجاد الاتصال بين الأحزاب السياسية العاملة على تحقيق تلك الأهداف ".

الحزب العربي الاشتراكي (في سوريا) كان يقول:

" العرب أمة واحدة، وعليهم أن يؤلفوا دولة واحدة في وطن عربي واحد " - "الحزب هيئة نضالية غايتها إذكاء الشعور القومي، حتى يؤمن كل فرد برسالة الأمة العربية، ويستعد للنضال في سبيل انشاء كيان عربي سليم ".

حزب البعث العربي (في سوريا) كان يقول:

" العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها " ؛ " الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ ولا يمكن أي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر "؟ " حزب البعث العربي حزب عربي شامل تؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية، وهو لا يعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية العليا "، " مركز الحزب العام هو حالياً دمشق، ويمكن أن ينقل إلى أي مدينة عربية أخرى، إذا اقتضت ذلك المصلحة القومية ".

(ومما تجدر الاشارة إليه : ان الحزبين الأخيرين، اندمجا سنة 1953، وكونا حزباً واحداً ، سمي باسم " حزب البعث العربي الاشتراكي " وهو لا يزال يعمل إلى الآن بهذا الاسم).

ويتبين من كل ما تقدم:

أولاً- ان حزب البعث العربي لم يكن الوحيد في الدعوة إلى الوحدة، كما يظن البعض، وكما صار يدعي ذلك الكثيرون من البعثيين.

ثانياً - ان حزب البعث العربي كان يتفوق على سائر الأحزاب بالأمرين التاليين: أ- ان المواد المتعلقة بالعروبة في دستور الحزب المذكور تبلغ اضعاف ما هو مسطور في دساتير الأحزاب الأخرى. ب- ان حزب البعث العربي، كان يتفرد في التصريح بأنه " حزب عربي شامل "، تؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية، وهو لا يعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية.

بعد هذا الوصف العام للأحزاب السياسية التي كانت تعمل في ذلك التاريخ،من وجهة اهتمامها بالعروبة، لا بد لي من ذكر شيء عن موقفي من الأحزاب المذ كورة.

أنا لم انتسب إلى أي حزب كان، لا في العراق ولا في سوريا. موقفي من الأحزاب السياسية كان- على الدوام- موقف الباحث والمتفرج، بوجه عام، ولم أترك هذا الموقف إلا بالنسبة إلى الحزبين اللذين كانا يعارضان فكرة العروبة : كان من الطبيعي أن انتقد آراء ومذاهب الحزبين المذكورين، وافندها بتفاصيل وافية في أبحاثي المتعلقة بالقومية العربية:

فقد نشرت انتقاداتي لآراء انطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي في كتابي العروبة بين دعاتها ومعارضيها [الحصري، العروبة بين دعاتها ومعارضيها، ص 69- 138 ] كما نشرت انتقاداتي على سلوك اخلاف انطون سعادة في كتابي " دفاع عن العروبة " [ساطع الحصري، دفاع عن العروبة (بيروت. دار العلم للملايين ، 1956)، ص 15- 63 ]

 .

ونشرت ردودي على مزاعم جريدة " العمل "- لسان حال حزب الكتائب- في كتابي " العروبة بين دعاتها ومعارضيها " [الحصري، العروبة بين دعاتها ومعارضيها، ص 6- 68 ] .

وأما الأحزاب الأخرى، فقد نشرت ما جاء في دساتيرها عن العروبة دون أن اعلق عليها [المصدر نفسه ، ص 149-171 ] .

ومع هذا، عندما قارنت ( لنفسي) بين مناهج الأحزاب المذكورة، فضلت حزب البعث العربي عليها جميعها.

إن تفضيلي لحزب البعث كان يقترن بشيء من العاطفة لأن مبادىء الحزب كات يتجاوب مع ما كنت أقوله في دروسي ومحاضراتي ومقالاتي، وفي توجيهاتي التربوية.

ويظهر أن زعماء الحزب المذكور أيضاً كانوا يشعرون بوجود قرابة فكرية بيني وبينهم، ولذلك أظهروا نحوي ثقة وصداقة في مناسبات عديدة:

ميشال عفلق، عندما تولى وزارة المعارف، بعد مقتل حسني الزعيم، أرسل لي برقية يدعوني بها إلى دمشق، لمساعدته في بعض الأمور، مع اني ما كنت التقيت به قبل ذلك- على ما أذكر- سوى مرة واحدة.

وصلاح الدين البيطار، عندما جاء إلى القاهرة، خلال مذاكرات اتفاق الوحدة الثقافية، أوعز إلى الوفد السوري أن يطلعني على مشروع الاتفاق ويأخذ رأيي فيه.

وأكرم الحوراني، ارسل لي برقية- يوم اعلان الوحدة بين مصر وسوريا- قال فيها:

" في فجر هذا اليوم الباسم الذي يتحقق فيه الأمل بتحقيق وحدة القطرين العربيين، نتطلع إلى الأحرار الملهمين الذين غذوا نفوس هذا الجيل بشعور القومية لنحيي فيهم روح الوطنية التي حملت هذا المشعل دون وهن. فلكم شكر الوطن ".

وبعد ذلك، عندما جاء صلاح الدين البيطار إلى القاهرة وزيراً مركزياً للثقافة، زرته وزارني مراراً ، وتوطدت بيننا أواصر الصداقة الشخصية.

يتبين من كل ما تقدم، اني كنت أنظر إلى حزب البعث العربي الاشتراكي نظرة تقدير وتحبيذ، بسبب المبادىء التي يدعو إليها، دون أن استقصي الأعمال التي يقوم بها.

غير أن نظرتي هذه أخذت تتعكر بعد ذلك، عندما اطلعت على طائفة من أقوال وتصرفات زعمائه.

إن أول ما استرعى انتباهي، وأثار شكوكي، من هذه الأقوال والتصرفات كان الحديث الذي أدلى به ميشال عفلق إلى الكاتب الفرنسي " بنوا مشان ".

هذا الكاتب كان قام بجولة استطلاعية في مختلف أقسام ما يسمونه " الشرق الأدنى "، ومن جملتها مصر، وسوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، والسعودية، والكويت. والتقى في كل منها بزعماء السياسة فيها، ونشر انطباعاته عن البلاد المذكورة، مع الأحاديث التي حصل عليها من ساستها في كتاب عنونه بعنوان " ربيع عربي ".

وفي الكتاب المذكور بحث عن لقاء الكاتب مع ميشال عفلق.

خلال الملاقاة، يتحدث ميشال عفلق عن تاريخ تفكيره، وعن تاريخ تكوين حزبه، ويقول في جملة ما يقوله:

-... لقد نظمنا الشبيبة في حلقات وفروع وقوماندوسات (يعني: فرق الفدائيين والمغاوير)...

ولكن عندما ذكر الكلمة الأخيرة، يقاطعه الكاتب الافرنسي، مستغرباً ومستفسراً :

- قوماندوس مسلح؟.. (يعني: فدائيين مسلحين؟)-

ويرد عليه ميشال عفلق:

- نعم... عندما استطعنا ذلك... (ص 337).

ان قول ميشال عفلق هذا قد صدمني صدمة شديدة، عندما قرأته في الكتاب المذكور، أكثر مما كان أثار استغراب مؤلف الكتاب، عندما سمعه منه.

فرق الفدائيين؟ فرق المغاوير المسلحين؟

ما الحاجة إليها، في أعمال حزب عقائدي؟ ما هي المهام التي تستطيع أن تتولاها هذه الفرق في سبيل تحقيق أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي، في ظروف العالم العربي الحالي؟ ولا سيما في عهد استشراء نوازع الأنانية والاقليمية استشراءها المعلوم؟

إن فرق الفدائيين تستطيع أن تتولى مهمة اغتيال بعض الأشخاص. ولكن

قضايا القومية العربية- وعلى رأسها قضية الوحدة العربية- ليست

من الأمور المتمركزة في أيدي بعض الأشخاص، حتى يمكن معالجتها عن طريق اغتيال هؤلاء، وإزالتهم من الوجود.

إن اعمال الحزب العقائدي- في أحوالنا الحاضرة- يجب أن تتركز في ميدان المعنويات والنفسيات، مثل: مكافحة نوازع الأنانية والاقليمية، بث الايمان بوحدة الأهداف القومية، والقضاء على روح القنوط والاستسلام... وكل ذلك بروح ثورية، تواصل العمل وفق ما تقتضيه مبادىء الحزب الاساسية.

وغني عن البيان أن هذه الأمور كلها تحتاج إلى جهود الباحثين والواعظين المبشرين الذين يستطيعون أن يخاطبوا العقول والقلوب ويؤثروا في النفوس.


فيترتب على الحزب العقائدي أن يبذل أقصى الجهود لتكوين جماعات من هؤلاء وتزويدهم بالاسلحة المعنوية، لا لتشكيل فرق من الفدائيين وتزويدهم بالاسلحة المادية.

إن فرق الفدائيين، تستطيع أن تقضي على حياة بعض الأشخاص المضرين، ولكنها لا تستطيع أن تقضي على نوازع الأنانية والاقليمية التي تقف سداً منيعاً دون توحد البلاد العربية.

إن الفرق المذكورة تستطيع أن تعمل الشيء الكثير في سبيل ايصال زعماء الحزب إلى سدة الحكم، ولكنها لا تستطيع أن تعمل شيئاً في سبيل بث الايمان بوحدة الأمة العربية، وإثارة روح التضحية في سبيل تحقيق الوحدة.

إذن، ما هو المقصود من تشكيلات فرق الفدائيين في حزب البعث العربي الاشتراكي؟

وربما كان للحزب تشكيلات سرية، تعمل بجانب التشكيلات العلنية التي تختص بالأمور الفكرية والنفسية، وربما كانت فرق الفدائيين جزءاً من تلك التشكيلات السرية. ولكن هذا النوع من التنظيم، ينطوي على مهاو ومزالق كثيرة ومتنوعة، أهمها: انه يجعل زعماء الحزب " يظهرون غير ما يضمرون "، وذلك يفقدهم مزايا الصدق والصراحة، ويدفع بهم إلى المواقف التي كثيراً ما تتصارع فيها إغراءات القوة مع مستلزمات الفكرة، ويتغلب فيها الاهتمام بالقوى المادية على الاهتمام بالقوى المعنوية.

ومهما كان الأمر، فإن كل ذلك يجعل من الصعوبة بمكان، أن يحتفظ الحزب بعقائديته الأصلية.

خلاصة القول: ان تصريحات ميشال عفلق لمؤلف كتاب " ربيع عربي "، ولّدت في نفسي كثيراً من الشكوك في سلامة الخطط التي سار عليها حزب البعث العربي الاشتراكي، في سبيل تطبيق المبادىء وتحقيق الأهداف التي أعلنها.

وهذه الشكوك ازدادت وتقوت، ثم تحولت إلى ما يشبه اليقين، عندما تيسر لي - بعد ذلك- أن أتصل بعدد غير قليل من الشبان السوريين، في القاهرة ودمشق وحلب.

إذ علمت من اتصالاتي هذه، ان حزب البعث العربي الاشتراكي- خلافاً لما كنت أظنه- ما كان استطاع أن يجتذب أكثرية الشبان المخلصين والمثقفين، وذلك لأن زعماء الحزب عندما تولوا بعض الوزارات، استرسلوا في العمل بروح التحزب، في أمور تعيين الموظفين وترقيتهم. كما أن الموظفين البعثيين صاروا يعملون لصالح الحزب أكثر مما يعملون للصالح العام، وصار الكثيرون ينتمون إلى الحزب، ويدافعون عنه، بقصد الانتفاع من الانتساب، دون أن يؤمنوا بمبادئه إيماناًَ راسخاً. وكل ذلك أفقد الحزب الشيء الكثيرمن سمعته.

وصار الكثيرون من الشبان يُعرضون عن الحزب، ليس اعتراضاً على مبادئه الأصلية، بل استنكاراً لأعماله التحزبية.

ولهذه الأسباب، قوبل قرار " حل الحزب في سوريا "- عند قيام الوحدة بين سوريا ومصر- بالارتياح العام، والترحيب التام، بين سواد الناس، وبين معظم بيئات المثقفين، على حد سواء.

وأما الأحداث التي توالت بعد ذلك- من الاستقالة الجماعية التي قدمها الوزراء البعثيون، والدعاية المعادية لجمال عبد الناصر التى تولاها ميشال عفلق من بيروت، إلى التوقيع على وثيقة الانفصال في دمشق... فقد أظهرت أن أعمال قادة حزب البعث كانت في واد، والمبادىء التي كانوا أعلنوها، والتي كانوا نالوا التأييد والعطف من أجلها، في واد آخر.

إن انصرافهم الكلي إلى " التنظيم الحزبي "- الذي صاروا يسمونه " التنظيم الشعبي "- طغى على اهتمامهم بالعمل العقائدي، طغياناً تاماً .

انهم لم يقولوا " العروبة أولا " : بل صاروا يقولون- بكل تصرفاتهم- " الحزب أولاً ".

انهم لم يجعلوا " الحزب في خدمة القومية العربية " بل جعلوا " القومية العربية في خدمة الحزب".

هذا، ومقالات ميشال عفلق المنشورة في كتابه " في سبيل البعث "- التي اطلعت عليها ودرستها بعد الانفصال أظهرت لي : ان بواعث هذا الانحراف الخطير كانت تعمل في نفسية مؤسس الحزب منذ البداية.

انه كان يريد أن يكتسب " مريدين " يطيعونه إطاعة عمياء- ويعملون دون وعي وتفكير- عوضاً عن أن يسعى إلى تنشئة " مؤمنين " يخدمون القومية العربية عن وعي و اخلاص.

وأما تصرفات قادة حزب البعث بعد ثورة 8 آذار، فقد أوصلت هذه الانحرافات إلى الحد الأقصى.

أنا لا أرى لزوماً لإطالة الكلام هنا عن هذه الأمور، لأن فصول هذا الكتاب قد تولت هذه المهمة بتفاصيل وافية.

غير اني أرى من المفيد أن أضيف إلى كل ما سبق، الملاحظتين التاليتين:

(أ) لقد كتب ميشال عفلق في مقالته " في القومية العربية " العبارات التالية:

جعل القومية فكرة تعتنق، يضيف إلى طائفة العرب طائفة جديدة، ويضع على النفس العربية طلاء فوق القشور الموجودة التي تغشاها، ويزيدنا تفرقة ويباعد ما بين التجانس وبيننا (ص 44)

أفليس من أغرب الغرائب أن ميشال عفلق الذي كان يعترض على " جعل القومية العربية فكرة تعتنق "، بكل هذه الصراحة وبكل هذه الشدة، أنتهى إلى جعل القومية " حزبية " ينتسب إليها أو يطرد منها حسب أهواء زعمائها! حزبية، تتعرض إلى ما تتعرض إليه الأحزاب- ولا سيما في البلاد التي لم تستكمل بعد تربيتها الاجتماعية والسياسية- من ضروب المساومات والمناورات، والاحقاد والأطماع!.. ولم ينتبه إلى أن ذلك يزيد التفرقة ويساعد التجانس، حتى بين المؤمنين بالقومية العربية حق الإيمان!

(ب) وقد كتب ميشال عفلق في كتابه " معركة المصير الواحد "- في أواخر سنة 1956 العبارات التالية:

أما عبد الناصر، فهو في شخصه ونفسيته وتفكيره والنظام الذي أوجده والاتجاه الذي اعتنقه واخلص له والقاعدة المنظمة المتينة التي ركز عليها هذا الاتجاه والتي هي نظام الحكم في مصر كنواة جبارة ومنطلق فعال لاستقطاب نضال الشعب في كل مكان واجتذاب كل عناصر الخير والقوة والتقدم الكامنة والمتناثرة في هذا الشعب: ان جمال عبد الناصر هو فعلاً وبالذات موضوع وهدف لهذه المعركة الفاصلة التي يشنها الغرب الاستعماري، من خلال شخصه على العرب وحريتهم ووحدتهم وتقدمهم (ص 111).

أفليس من الغريب، أن يشرع ميشال عفلق في مهاجمة جمال عبد الناصر قبل أن يمضي على كتابة هذه العبارات أكثر من ثلاثة أعوام!.. ناسياً انه كان قال ان الغرب الاستعماري يتهجم من خلال شخص عبد الناصر على وحدة العرب وتقدمهم!

فضلاً عن ذلك، كان كتب ميشال عفلق في المقالة نفسها، بعد العبارات الآنفة الذكر، ما يلي:

لو زال عبد الناصر، فإن ذلك سيرجع بالعرب عشرات السنين إلى الوراء، إلى زمن الاحتلال والتجزئة والفساد والانحلال. لأن سياسة عبد الناصر الاستقلالية العربية قد رفعت قضية العرب وامكانياتهم درجات حاسمة إلى فوق، ونقلتها إلى المستوى الجدي الذي يفصل فصلا حاسما لا لبس فيه بين الأوضاع الراهنة الفاسدة التي هي سبب ضعف العرب وسيطرة الاستعمار ووجود اسرائيل، وبين الحياة والأوضاع الجديدة التي يتطلع إليها العرب والتي توفر لهم من أسباب القوة ما يكفل تحررهم ووحدتهم (ص 111).

أفليس من الغريب أن ينسى ميشال عفلق وحزبه كل ذلك، وأن تتولى جريدة البعث، وإذاعة دمشق- هذه الأيام- مهاجمة " حكم عبد الناصر "، من بدايته إلى نهايته، مع سلسلة من الاكاذيب والمفتريات!

هذا، وقد كتب ميشال عفلق ما يلي، في المقالة المذكورة نفسها، بعد الفقرات الآنفة الذكر:

هذا ما أدركه الاستعمار منذ البدء، ومنذ أن لمس التجاوب العميق بين سياسة عبد الناصر وبين اندفاعات الشعب العربي في كل قطر. ولكن الفئات الرجعية المتآمرة في الأقطار العربية ظلت إلى ما قبل أيام تنكر هذه الحقيقة وتكابر فيها، وتتجاهل القفزة التاريخية التي حققها عبد الناصر في حياة الأمة العربية في هذه المرحلة ( ص 112).

أفليس من الأمور التي لا بد من تسجيلها على قادة حزب البعث: انهم انضموا في هذا المضمار إلى " الفئات الرجعية المتآمرة "- التي أشار إليها أمينهم العام في مقالته هذه- وصاروا " ينكرون هذه الحقيقة ويكابرون فيها ويتجاهلون القفزة التاريخية التي حققها جمال عبد الناصر في حياة الأمة العربية "، متناسين كل ما كان كتبه ميشال عفلق في هذه القضايا.