بسم الله الرحمن الرحيم وبه توفيق

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما

قاعدة في وجوب الاستقامة والاعتدال ومتابعة الكتاب والسنة في باب أسماء الله وصفاته وتوحيده بالقول والاعتقاد وبيان اشتمال الكتاب والسنة على جميع الهدى وأن التفرق والضلال إنما حصل بترك بعضه والتنبيه على جميع البدع المقابلة في ذلك بالزيادة في النفي والإثبات ومبدأ حدوثها وما وقع في ذلك من الاسماء المجملة والاختلاف والافتراق الذي أوجب تكفير بعض هؤلاء المختلفين بعضهم لبعض وذلك بسبب ترك بعض الحق وأخذ بعض الباطل وكتمان الحق ولبس الحق بالباطل

فصل

عدل

الرأي المحدث في الأصول وهو الكلام المحدث وفي الفروع وهو الرأي المحدث في الفقه والتعبد المحدث كالتصوف المحدث والسياسة المحدثة

يظن طوائف من الناس أن الدين محتاج إلى ذلك لا سيما كل طائفة في طريقها وليس الأمر كذلك فإن الله تعالى يقول اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا سورة المائدة 3 إلى غير ذلك من النصوص التي دلت على أن الرسول عرف الأمة جميع ما يحتاجون إليه من دينهم

وقال تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون سورة التوبة 115

وقال تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي إلا هالك وقال إنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ

فلولا أن سنته وسنة الخلفاء الراشدين تسع المؤمن وتكفيه عند الاختلاف الكثير لم يجز الأمر بذلك

وكان يقول في خطبته شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة

وكان ابن مسعود يخطب بنحو ذلك كل خميس ويقول إنكم ستحدثون ويحدث لكم

وقد قررنا في القواعد في قاعدة السنة والبدعة أن البدعة هي الدين الذي لم يأمر الله به ورسوله فمن دان دينا لم يأمر الله ورسوله به فهو مبتدع بذلك وهذا معنى قوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله سورة الشورى 21

ولا ريب أن هذا يشكل على كثير من الناس لعدم علمهم بالنصوص ودلالتها على المقاصد ولعدم علمهم بما أحدث من الرأي والعمل وكيف يرد ذلك إلى السنة كما قال عمر بن الخطاب ردوا الجهالات إلى السنة

وقد تكلم الناس على أصناف ذلك كما بين طوائف استغناء الدين عن الكلام المحدث وأن الله قد بين في كتابه بالأمثال المضروبة من الدلائل ما هو أعظم منفعة مما يحدثه هؤلاء وأن ما يذكرونه من الأدلة فهي مندرجة فيما ذكره الله تعالى

حتى ان الأشعرى نفسه وأمثاله قد بينوا طريقة السلف في أصول الدين واستغنائها عن الطريقة الكلامية كطريقة الأعراض ونحوها وأن القرآن نبه على الأدلة ليس دلالته كما يظنه بعض أهل الكلام من جهة الخبر فقط

وأين هذا من أهل الكلام الذين يقولون إن الكتاب والسنة لا يدلان على أصول الدين بحال وأن أصول الدين تستفاد بقياس العقل المعلوم من غيرهما وكذلك الأمور العملية التي يتكلم فيها الفقهاء فإن من الناس من يقول إن القياس يحتاج إليه في معظم الشريعة لقلة النصوص الدالة على الأحكام الشرعية كما يقول ذلك أبو المعالى وأمثاله من الفقهاء مع أنتسابهم إلى مذهب الشافعي ونحوه من فقهاء الحديث فكيف بمن كان من أهل رأى الكوفة ونحوهم فإنه عندهم لا يثبت من الفقه بالنصوص إلا أقل من ذلك وإنما العمدة على الرأي والقياس حتى أن الخراسانيين من أصحاب الشافعى بسبب مخالطتهم لهم غلب عليهم استعمال الرأي وقلة المعرفة بالنصوص

وبإزاء هؤلاء أهل الظاهر كأبن حزم ونحوه ممن يدعى أن النصوص تستوعب جميع الحوادث بالأسماء اللغوية التي لا تحتاج إلى استنباط واستخراج أكثر من جمع النصوص حتى تنفى دلالة فحوى الخطاب وتثبته في معنى الأصل ونحو ذلك من المواضع التي يدل فيها اللفظ الخاص على المعنى العام

والتوسط في ذلك طريقة فقهاء الحديث وهى إثبات النصوص والآثار الصحابية على جمهور الحوادث وما خرج عن ذلك كان في معنى الأصل فيستعملون قياس العلة والقياس في معنى الأصل وفحوى الخطاب إذ ذلك من جملة دلالات اللفظ وأيضا فالرأي كثيرا ما يكون في تحقيق المناط الذي لا خلاف بين الناس في استعمال الرأي والقياس فيه فإن الله أمر بالعدل في الحكم والعدل قد يعرف بالرأي وقد يعرف بالنص

ولهذا قال النبي إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر إذ الحاكم مقصوده الحكم بالعدل بحسب الإمكان فحيث تعذر العدل الحقيقى للتعذر أو التعسر في علمه أو عمله كان الواجب ما كان به أشبه وأمثل وهو العدل المقدور

وهذا باب واسع في الحكم في الدماء والأموال وغير ذلك من أنواع القضاء وفيها يجتهد القضاة

ونعلم أن عليا رضى الله عنه كان أقضى من غيره بما أفهم من ذلك مع أن سماع النصوص مشترك بينه وبين غيره

وإنما ظن كثير من الناس الحاجة إلى الرأي المحدث لأنهم يجدون مسائل كثيرة وفروعا عظيمة لا يمكنهم إدخالها تحت النصوص كما يوجد في فروع من ولد الفروع من فقهاء الكوفة ومن أخذ عنهم

وجواب هذا من وجوه

أحدها ان كثيرا من تلك الفروع المولد المقدرة لا يقع أصلا وما كان كذلك لم يجب أن تدل عليه النصوص ومن تدبر ما فرعه المولدون من الفروع في باب الوصايا والطلاق والأيمان وغير ذلك علم صحة هذا

الوجه الثاني أن تكون تلك الفروع والمسائل مبنية على أصول فاسدة فمن عرف السنة بين حكم ذلك الأصل فسقطت تلك الفروع المولدة كلها

وهذا كما فرعه صاحب الجامع الكبير فإن غالب فروعه كما بلغنا عن الإمام أبي محمد المقدسي أنه كان يقول مثله مثل من بنى دارا حسنة على أساس مغصوب فلما جاء صاحب الأساس ونازعه في الاساس وقلعه انهدمت تلك الدار

وذلك كالفروع العظيمة المذكورة في كتاب الأيمان وبناها على ما كان المفرع يعتقده من مذهب أهل النحو الكوفيين فإن أصل باب الأيمان الرجوع إلى نية الحالف وقصده ثم إلى القرائن الحالية الدالة على قصده كسبب اليمين وما هيجها ثم إلى العرف الذي من عادته التكلم به سواء كان موافقا للغة العربية أو مخالفا لها فإن الأيمان وغيرها من كلام الناس بعضهم لبعض في المعاملات والمراسلات والمصنفات وغيرها تجمعها كلها دلالة اللفظ على قصد المتكلم ومراده وذلك متنوع بتنوع اللغات والعادات

وتختلف الدلالة بالقرائن الحالية والمقالية ثم إنما يستدل على مقصود الرجل إذا لم يعرف فإذا أمكن العلم بمقصوده يقينا لم يكن بنا حاجة إلى الشك لكن من الأمور ما لا تقبل من قائله إرادة تخالف الظاهر كما إذا تعلق به حقوق العباد كما في الأقارير ونحوها وهذا مقرر في موضعه وليس الغرض هنا إلا التمثيل

وإذا كان هذا أصل الأيمان فيقال لذلك المفرع إذا كان هذا أصل قصده الذي هو في أكثر المواضع يخالف مقتضى ما ذكرته من الجواب وينظر إلى القرائن الحالية ومعها لا تستقيم عامة الأجوبة

وإذا عدم ذلك وله عرف وعادة يتكلم بها وغالب عادات الناس لا ينبني على المقاييس التي وضعتها أنت فإذا جواب الحالفين بمثل ما أجبتهم به ليس هو من الشريعة في غالب المواضع

ولا يحتاج باب الأيمان إلى تفريع إذ هذه الأصول الثلاثة تضبطه ضبطا حسنا لكن لا بد أن يكون المفتى ممن يحس أن يضع الحوادث على القواعد وينزلها عليها

وكذلك ما فرعوه في باب الحكم والسياسة وغيرها عامة ذلك مبنى على أصول فاسدة مخالفة للشريعة وهذا والله أعلم من معنى قول ابن مسعود إنكم ستحدثون ويحدث لكم ولهذا تكثر هذه الفروع وتنتشر حتى لا تضبطها قاعدة لأنها ليست موافقة للشريعة فأما الشريعة فإنها كما قال النبي بعثت بجوامع الكلم والكلمة الجامعة هي القضية الكلية والقاعدة العامة التي بعث بها نبينا فمن فهم كلمه الجوامع علم اشتمالها لعامة الفروع وانضباطها بها والله أعلم

الوجه الثالث أن النصوص دالة على عامة الفروع الواقعة كما يعرفه من يتحرى ذلك ويقصد الإفتاء بموجب الكتاب والسنة ودلالتها وهذا يعرفه من يتأمل كمن يفتى في اليوم بمائة فتيا أو مائتين أو ثلاثمائة وأكثر أو أقل وأنا قد جربت ذلك ومن تدبر ذلك رأى أهل النصوص دائما أقدر على الإفتاء وأنفع للمسلمين في ذلك من أهل الرأي المحدث فإن الذى رأيناه دائما أن أهل رأى الكوفة من أقل الناس علما بالفتيا وأقلهم منفعة للمسلمين مع كثرة عددهم وما لهم من سلطان وكثرة بما يتناولونه من الأموال الوقفية والسلطانية وغير ذلك ثم إنهم في الفتوى من أقل الناس منفعة قل أن يجيبوا فيها وإن أجابوا فقل أن يجيبوا بجواب شاف وأما كونهم يجيبون بحجة فهم من أبعد الناس عن ذلك

وسبب هذا ان الأعمال الواقعة يحتاج المسلمون فيها إلى معرفة بالنصوص ثم إن لهم أصولا كثيرة تخالف النصوص والذي عندهم من الفروع التي لا توجد عند غيرهم فهي مع ما فيها من المخالفة للنصوص التي لم يخالفها أحد من الفقهاء أكثر منهم عامتها إما فروع مقدرة غير واقعة وإما فروع متقررة على أصول فاسدة فإذا أرادوا أن يجيبوا بمقتضاها رأوا ما في ذلك من الفساد وإنكار قلوب المؤمنين علهيم فأمسكوا

لكن أعظم المهم في هذا الباب وغيره تمييز السنة من البدعة إذ السنة ما أمر به الشارع والبدعة ما لم يشرعه من الدين فإن هذا الباب كثر فيه اضطراب الناس في الأصول والفروع حيث يزعم كل فريق أن طريقه هو السنة وطريق مخالفه هو البدعة ثم إنه يحكم على مخالفه بحكم المبتدع فيقوم من ذلك من الشر ما لا يحصيه إلا الله

وأول من ضل في ذلك هم الخوارج المارقون حيث حكموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنته وأن عليا ومعاوية والعسكرين هم أهل المعصية والبدعة فاستحلوا ما استحلوه من المسلمين

وليس المقصود هنا ذكر البدع الظاهرة التي تظهر للعامة أنها بدعة كبدعة الخوارج والروافض ونحو ذلك لكن المقصود التنبيه على ما وقع من ذلك في أخص الطوائف بالسنة وأعظمهم انتحالا لها كالمنتسبين إلى الحديث مثل مالك والشافعي وأحمد فإنه لا ريب أن هؤلاء أعظم اتباعا للسنة وذما للبدعة من غيرهم والأئمة كمالك وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي وغيرهم يذكرون من ذم المبتدعة وهجرانهم وعقوبتهم ما شاء الله تعالى

وهذه الأقوال سمعها طوائف ممن اتبعهم وقلدهم ثم إنهم يخلطون في مواضع كثيرة السنة والبدعة حتى قد يبدلون الأمر فيجعلون البدعة التي ذمها أولئك هي السنة والسنة التي حمدها اولئك هي البدعة ويحكمون بموجب ذلك حتى يقعوا في البدع والمعاداة لطريق أئمتهم السنية وفي الحب والموالاة لطريق المبتدعة التي أمر أئمتهم بعقوبتهم ويلزمهم تكفير أئمتهم ولعنهم والبراءة منهم وقد يلعنون المبتدعة وتكون اللعنة واقعة عليهم أنفسهم ضد ما يقع على المؤمن كما قال النبي ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش يسبون مذمما وانا محمد

وهؤلاء بالعكس يسبون المبتدعة يعنون غيرهم ويكونون هم المبتدعة كالذي يلعن الظالمين ويكون هو الظالم او احد الظالمين وهذا كله من باب قوله تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا سورة فاطر 8

واعتبر ذلك بأمور

أحدها أن كلام مالك في ذم المبتدعة وهجرهم وعقوبتهم كثير ومن أعظمهم عنده الجهمية الذين يقولون إن الله ليس فوق العرش وإن الله لم يتكلم بالقرآن كله وإنه لا يرى كما وردت به السنة وينفون نحو ذلك من الصفات

ثم إنه كثير في المتأخرين من أصحابه من ينكر هذه الأمور كما ينكرها فروع الجهمية ويجعل ذلك هو السنة ويجعل القول الذي يخالفها وهو قول مالك وسائر أئمة السنة هو البدعة ثم إنه مع ذلك يعتقد في أهل البدعة ما قاله مالك فبدل هؤلاء الدين فصاروا يطعنون في أهل السنة

الثاني أن الشافعي من أعظم الناس ذما لأهل الكلام ولأهل التغيير ونهيا عن ذلك وجعلا له من البدعة الخارجة عن السنة ثم إن كثيرا من أصحابه عكسوا الأمر حتى جعلوا الكلام الذي ذمه الشافعي هو السنة وأصول الدين الذي يجب اعتقاده وموالاة أهله وجعلوا موجب الكتاب والسنة الذي مدحه الشافعي هو البدعة التي يعاقب أهلها

الثالث أن الإمام أحمد في أمره بأتباع السنة ومعرفته بها ولزومه لها ونهيه عن البدع وذمه لها ولأهلها وعقوبته لأهلها بالحال التي لا تخفى ثم إن كثيرا مما نص هو على أنه من البدع التي يذم أهلها صار بعض أتباعه يعتقد أن ذلك من السنة وان الذي يذم من خالف ذلك مثل كلامه في مسألة القرآن في مواضع منها تبديعه لمن قال لفظى بالقرآن غير مخلوق وتجهيه لمن قال مخلوق ثم إن من أصحابه من جعل ما بدعه الإمام أحمد هو السنة فتراهم يحكمون على ما هو من صفات العبد كألفاظهم وأصواتهم وغير ذلك بأنه غير مخلوق بل يقولون هو قديم ثم إنهم يبدعون من لا يقول بذلك ويحكمون في هؤلاء بما قاله أحمد في المبتدعة وهو فيهم

وكذلك ما أثبته أحمد من الصفات التي جاءت بها الآثار واتفق عليها السلف كالصفات الفعلية من الاستواء والنزول المجئ والتكلم إذا شاء وغير ذلك فينكرون ذلك بزعم أن الحودث لا تحل به ويجعلون ذلك بدعة ويحكمون على أصحابه بما حكم به أحمد في أهل البدع وهم من أهل البدعة الذين ذمهم أحمد لا أولئك ونظائر هذا كثيرة

بل قد يحكى عن واحد من أئمتهم إجماع المسلمين على أن الحوادث لا تحل بذاته لينفي بذلك ما نص أحمد وسائر الأئمة عليه من أنه يتكلم إذا شاء ومن هذه الأفعال التعلقة بمشيئته

ومعلوم أن نقل الإجماع على خلاف نصوصة ونصوص الأئمة من أبلغ ما يكون وهذا كنقل غير واحد من المصنفين في العلم إجماع المسلمين على خلاف نصوص الرسول وهذه المواضع من ذلك أيضا فإن نصوص أحمد والأئمة مطابقة لنصوص الرسول

فصل

عدل

قوله تعالى الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار سورة غافر 35 بعد قوله تعالى وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب سورة غافر 30 إلى قوله ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا سورة غاقر 34 الآية يخوفهم بمثل عقوبات الله في الدنيا للأمم الكافرة قبلهم وخوفهم بما يكون يوم القيامة

وهذا فيه بيان إخباره بيوم القيامة وهو ممن آمن بموسى كما قد قررناه في غير هذا الموضع أن جميع الرسل أخبرت بيوم القيامة خلاف ما تزعم طوائف من الفلاسفة وأهل الكلام أن المعاد الجسماني لم يخبر به إلا محمد وعيسى ونحو ذلك

ثم قال المؤمن ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب سورة غافر 34 لأن الريب عدم العلم وهذه حال أهل الضلال

وقال هناك كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار سورة غافر 35 لأنه أخبر بجدالهم في آيات الله بغير سلطان أتاهم وهذه حال المتكلمين بغير علم لطلب العلو والفساد

كما قال في الآية الأخرى إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه باستعذ بالله إنه هو السميع البصير سورة غافر 56

ولهذا قال في هؤلاء المجادلين كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا سورة غافر 35 أى كبر مقتهم أو كبر هذا المقت أو كبر هذا الجدال أو هذا الفعل مقتا أى ممقوتا كما قال تعالى كبرت كلمة تخرج من أفواههم سورة الكهف 5 وكما قال تعالى بئس للظالمين بدلا سورة الكهف 50

فإن المخصوص بالمدح والذم في هذا الباب كثيرا ما يكون مضمرا إذا تقدم ما يعود الضمير إليه والمدح يراد به الرجل كما تقول نعم رجلا زيد ونعم رجلا وزيد نعم رجلا

والمقت يراد به نفس المقت ويراد به الممقوت كما في الخلق ونظائره ومثله قوله لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون سورة الصف 23 أي كبر ممقوتا أي كبر مقته مقتا

والمقت البغض الشديد وهو من جنس الغضب المناسب لحال هؤلاء كما قال في اليهود بل طبع الله عليها بكفرهم سورة النساء 144

وقد وصعهم بنحو مما وصف عدوهم فرعون فقوله وقضينا إلى بنى إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا سورة الإسراء 4 فوصفهم بالفساد في الأرض والعلو كما أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين سورة القصص وختم السورة بقوله تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين سورة القصص 83

وهذا مما يبين أن قوله الذين يجادلون في آيات الله سورة غافر 35 مبتدأ ليس بدلا من قوله من هو مسرف مرتاب سورة غافر 34 فإنه سبحانه وصف هؤلاء بغير ما وصف هؤلاء ويؤيد هذا انه ابتداء قد قال في الأخرى الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم وقال قبل هذه الآية ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا سورة غافر 4

وقد يقال يمكن اجتماع الوصفين الريب والجدل بغير علم كما هو الواقع في طوائف كثيرة كما يجتمع الغضب والضلال وقد يقال الآية تحتمل الوقف وتحتمل الابتداء وقد يكون هذا قراءتين فتسوغ كل منهما ويكون له صف صحيح كما في نظائره

وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن الحارث عن علي عن النبي ورواه أبو نعيم الأصفهاني وغيره من طرق عديدة عن علي عن النبي في القرآن الحديث المعروف قال قلت يا رسول الله ستكون فتن فما المخرج منها قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تختلف به الآراء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضى عجائبه ولا يشبع منه العلماء من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم

فقوله من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله يناسب قوله تعالى كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب سورة غافر 34 وكذلك قوله كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار سورة غافر 35 فذكر ضلال الأول وذكر تجبر الثاني وذلك لأن الاول مرتاب ففاته العلم حيث ابتغى الهدى في غيره والثاني جبار عمل بخلاف ما فيه فقصمه الله وهذان الوصفان يجمعان العلم والعمل

وفي ذلك بيان ان كل علم دين لا يطلب من القرآن فهو ضلال كفاسد كلام الفلاسفة والمتكلمة والمتصوفة والمتفقهة وكل عاقل يترك كتاب الله مريدا للعلو في الارض والفساد فان الله يقصمه فالضال لم يحصل له المطلوب بل يعذب بالعمل الذي لا فائدة فيه والجبار حصل لذة فقصمه الله عليها فهذا عذب بإزاء لذاته التي طلبها بالباطل وذلك يعذب بسعيه الباطل الذي لم يفده

والمقصود هنا أنه سبحانه في هاتين الآيتين بين من يجادل في آيات الله بغير سلطان أتاهم وقد بين في غير موضع ان السلطان هو الحجة وهو الكتاب المنزل كما قال تعالى أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون سورة الروم 35 وقيل إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان سورة النجم 23 في غير موضع

وقال تعالى ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله إلى قوله أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين سورة الصافات 151 157

وقال أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستعهم بسلطان سورة الطور 38 وقال أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون سورة القلم 35 37

وإذا كان كذلك ففي هذا بيان أنه لا يجوز لأحد أن يعارض كتاب الله بغير كتاب فمن عارض كتاب الله وجادل فيه بما يسميه معقولات وبراهين وأقيسة أو ما يسميه مكاشفات ومواجيد وأذواق من غير أن يأتي على ما يقوله بكتاب منزل فقد جادل في آيات الله بغير سلطان هذه حال الكفار الذين قال فيهم ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا سورة غافر 4 فهذه حال من يجادل في آيات الله مطلقا

ومن المعلوم أن الذي يجادل في جميع آيات الله لا يجادل بسلطان فإن السلطان من آيات الله وإنما الذي يجادل في آيات الله بسلطان يكون قد جادل في بعض آيات الله ببعض آيات الله

وهذه الحال يحمد منها ان يكون إحدى الآيتين ناسخة لها او مفسرة لها بما يخالف ظاهرها وإن كان السلف يسمون الجميع نسخا ولهذا لم يكن السلف من الصحابة والتابعين يتركون دلالة آية من كتاب الله إلا بما يسمونه نسخا ولم يكن في عهدهم كتب في ذلك إلا كتب الناسخ والمنسوخ لأن ذلك غايته أن نجادل في آيات الله بسلطان كجدالنا مع أهل التوراة والإنجيل وهما من آيات الله بالقرآن الذي أنزله الله مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه

فأما معارضة القرآن بمعقول أو قياس فهذا لم يكن يستحله أحد من السلف وإنما ابتدع ذلك لما ظهرت الجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن بنوا أصول دينهم على ما سموه معقولا وردوا القرآن إليه وقالوا إذ تعارض العقل والشرع إما أن يفوض أو يتأول فهؤلاء من أعظم المجادلين في آيات الله بغير سلطان أتاهم

وأما تسمية المتأخرين تخصيصا وتقييدا ونحو ذلك مما فيه صرف الظواهر فهو داخل في مسمى النسخ عند المتقدمين وعلى هذا الاصطلاح فيدخل النسخ في الإخبار كما يدخل في الأوامر وإنما النسخ الخاص الذي هو رفع الحكم فلا بد في الخبر عن أمر مستقر

وأما ما يدخل في الخبر عن إنشاء أمر فيكون لدخوله في الإنشاء إنشاء الأمر والنهي وإنشاء الوعيد عند من يجوز النسخ فيه كآخر البقرة على ما روى عن جمهور السلف

وهو مبني على أن الوعيد هل هو خبر محض أو هو مع ذلك إنشاء كالعقود التي تقبل الفسخ لكونه إخبارا عن إرادة المتوعد وعزمه وكالخبر عن الأمر والنهي المتضمن خبره عن طلبه المتضمن إرادته الشرعية وهذا مما يبين ما قررناه في غير هذا الموضع أن الله سبحانه بين بكتابه سبيل الهدى وأنه لا يصلح أن يخاطب بما ظاهر معناه باطل أو فاسد بل ولا يضلل المخاطبين بأن يحيلهم على الأدلة التي يستسيغونها برأيهم بل يجب أن يكون الكتاب بيانا وهدى وشفاء لما في الصدور وأن مدلوله ومفهومه حق وهذا أصل عظيم جدا

فصل

عدل

فيما اختلف فيه المؤمنون من الأقوال والافعال في الأصول والفروع

فإن هذا من أعظم أصول الإسلام الذي هو معرفة الجماعة وحكم الفرقة والتقاتل والتكفير والتلاعن والتباغض وغير ذلك

فنقول هذا الباب أصله المحرم فيه من البغي فإن الإنسان ظلوم جهول قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم سورة البقرة في غير موضع

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال لتسلكن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن

وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم سورة آل عمران 105

وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ سورة الأنعام 159

ومن هذا الباب ما هو من باب التأويل والاجتهاد الذي يكون الإنسان مستفرغا فيه وسعه علما وعملا

ثم الإنسان قد يبلغ ذلك ولا يعرف الحق في المسائل الخبرية الاعتقادية وفي المسائل العملية الاقتصادية والله سبحانه قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان بقوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة 286

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس ومن حديث أبى هريرة عن النبي أن الله استجاب لهم هذا الدعاء وقال قد فعلت وأنهم لم يقرأو بحرف منها إلا أعطوه وهذا مع قوله تعالى والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة سورة البقرة 82

وقوله دليل على ان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وغير ذلك دليل على أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها

والوسع هو ما تسعه النفس فلا تضيق عنه ولا تعجز عنه فالوسع فعل بمعنى مفعول كالجهد

وهذا أيضا كقوله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج سورة الحج 78

وقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة 185

وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج سورة المائدة 6 والحرج الضيق فهو نفى أن يكون عليهم ضيق أي ما يضيق عنهم كما أخبر أنه لا يكلف النفس إلا ما تسعه فلا بد أن يكون الإيجاب والتحريم مما تسعه النفس حتى يقدر الإنسان على فعله ولا بد أن يكون المباح مما يسع الإنسان ولا يضيق عنه حتى يكون للانسان ما يسع الإنسان ويحمل الإنسان ولا يضيق عنه من المباح

وليتدبر الفرق بين ما يسعه الإنسان وهو الوسع الذي قيل فيه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها سورة البقرة 286 وبين ما يسع الإنسان فلا يكون حرجا عليه وهو مما لا بد للإنسان منه من المباحات وهذا يكون في صفة فعل المأمور به كما في الوضوء والصلاة فلا بد ان يكون المجزئ له من ذلك ما يسع الإنسان والواجب عليه ما يسعه الإنسان ويكون في باب الحلال والحرام فلا يحرم عليه ما لا يسع هو تركه بحيث يبقى المباح له ضيقا منه لا يسعه

وإذا كان كذلك فينبغي أن يعلم أن للقلوب قدرة في باب العلم والاعتقاد العلمى وفي باب الإرادة والقصد وفي الحركة البدنية أيضا

فالخطأ والنسيان هو من باب العلم يكون إما مع تعذر العلم عليه أو تعسره عليه والله قد قال ما جعل عليكم في الدين من حرج سورة الحج 78 وقال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة 185

وقال النبي في الحديث المتفق عليه لمعاذ وأبى موسى لما أرسلها إلى اليمن يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وطاوعا ولا تختلفا

وإذا كان كذلك فما عجز الإنسان عن عمله واعتقاده حتى يعتقد ويقول ضده خطأ أو نسيانا فذلك مغفور له كما قال النبي إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وهذا يكون فيما هو من باب القياس والنظر بعقله ورأيه ويكون فيما هو من باب النقل والخبر الذي يناله بسمعه وفهمه وعقله ويكون فيما هو من باب الإحساس والبصر الذي يجده ويناله بنفسه

فهذه المدارك الثلاثة قد يحصل للشخص بها علم يقطع به ويكون ضروريا في حقه مثل ما يجده في نفسه من العلوم الضرورية ومثل ما سمعه من النبي أو من المخبرين له الصادقين خبرا يفيده العلم كالخبر المتواتر الذي يفيده العلم تارة بكثرة عدد المخبرين وتارة بصفاتهم وتارة بهما وغير ذلك مما يفيد العلم

وقد يكون مما علمه بآثاره الدالة عليه أو بحكم نظره المساوى له من كل وجه او الذي يدل على الآخر بطريق الأولى والتنبيه ونحو ذلك ومع هذا فتكون هذه العلوم عند غيره متيقنة مع اجتهاده لدقة العلوم أو خفائها أو لوجود ما يعتقد المعتقد أنه يعارض ولا يكون معارضا في الحقيقة فيشتبه بالمعارض لاشتباه المعارض لاشتباه المعاني او لاشتراك الألفاظ

فهذا من أعظم أسباب اختلاف بني آدم من المؤمنين وغيرهم ولهذا نجد في المختلفين كل طائفة تدعى العلم الضروري فما يقوله إما من جهة القياس والنظر وإما من جهة السماع والخبر وإما من جهة الإحساس والبصر ولا تكون واحدة من الطائفتين كاذبة بل صادقة

لكن يكون قد أدخل مع الحق ما ليس منه في النفي والإثبات لاشتباه المعاني واشتراك الألفاظ فيكون حينئذ ما ينفيه هذا يثبته الآخر ولو زال الاشتباه والاشتراك زال الخلاف التضادى وكان اختلاف الناس في مسائل الجبر والقدر ومسائل نفي الجسم وإثباته ونفى موجب الأخبار وإثبات ذلك هو من هذا الباب

وهذا كله موجود في كتب أهل الكلام وأهل الحديث والفقه وغير ذلك

وقول القائل إن الضروريات يجب اشتراك العقلاء فيها خطأ بل الضروريات كالنظريات تارة يشتركون فيها وتارة يختص بها من جعل له قوة على إدراكها

وكذلك قول القائلين إن الطائفة التي تبلغ عدد التواتر لا يتفقون على جحد الضروريات ليس بصواب بل يتفقون على ذلك إذا تواطأوا عليها وخبر التواتر متى كان عن تواطؤ لم يفد العلم وإنما يفيد العلم لانتفاء التواطؤ فيه وإذا كان كذلك فقد يكون المختلفون قد اجتهد أحدهم فأصاب ويكون الآخر اجتهد فأخطأ فيكون للأول أجران وللثاني أجر مع أن خطأه مغفور مغفور له وقد يكون كلاهما اجتهد فأخطأ فيغفر لهما جميعا مع وجود الأجر

ويكون الصواب في قولنا ثالثا أما تفصيل ما أطلقوه مثل أن ينفى هذا نفيا عاما ويثبت الآخر ما نفاه الأول فيفصل المفصل ويثبت البعض دون البعض وكذلك في المعنى المشتبه واللفظ المشترك يفصل بين المعنى وما يشبهه إذا كان مخالفا له وبين معنى لفظ ومعنى لفظ

ثم إنه من مسائل الخلاف ما يتضمن أن اعتقاد أحدهما يوجب عليه بغض الآخر ولعنه أو تفسيقه أو تكفيره أو قتاله فإذا فعل ذلك مجتهدا مخطئا كان خطؤه مغفورا له وكان ذلك في حق الآخر محنة في حقه وفتنة وبلاء ابتلاه به

وهذه حال البغاة المتأولين مع أهل العدل سواء كان ذلك بين أهل اليد والقتال من الأمراء ونحوهم أو بين أهل اللسان والعمل من العلماء والعباد ونحوهم وبين من يجمع الأمرين

ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغى لا لمجرد الاجتهاد

كما قال تعالى وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم سورة آل عمران 19 وقال إن الذبن فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ سورة الأنعام 159 وقال ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات سورة آل عمران 105

فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ بل مع نوع بغى

ولهذا نهى النبي عن القتال في الفتنة وكان ذلك من أصول السنة وهذا مذهب أهل السنة والحديث وأئمة اهل المدينة من فقهائهم وغيرهم

ومن الفقهاء من ذهب إلى أن ذلك يكون مع وجود العلم التام من أحدهما والبغى من الآخر فيجب القتال مع العادل حينئذ وعلى هذا الفتنة الكبرى بين أهل الشام والعراق هل كان الأصوب حال القاعدين أو حال المقاتلين من أهل العراق والنصوص دلت على الأول وقالوا كان ترك قتال أهل العراق أصوب وإن كانوا أقرب إلى الحق وأولى به من الشام إذ ذاك كما بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع وتكلمنا على الآيات والاحاديث في ذلك

ومن أصول هذا الموضع أن مجرد وجود البغى من إمام أو طائفة لا يوجب قتالهم بل لا يبيحه بل من الأصول التي دلت عليها النصوص أن الإمام الجائر الظالم يؤمر الناس بالصبر على جوره وظلمه وبغيه ولا يقاتلونه كما أمر النبي بذلك في غير حديث فلم يأذن في دفع البغي مطلقا بالقتال بل إذا كانت فيه فتنة نهى عن دفع البغي به وأمر بالصبر

وأما قوله سبحانه فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى سورة الحجرات 9 فهو سبحانه قد بين مراده ولكن من الناس من يضع الآية على غير موضعها فإنه سبحانه قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين سورة الحجرات 9 فهو لم يأذن ابتداء في قتال بين المؤمنين بل إذا اقتتلوا فأصلحوا بينهما والاقتتال هو فتنة وقد تكون إحداهما أقرب إلى الحق فأمر سبحانه في ذلك بالإصلاح

وكذلك فعل النبي لما اقتتل بنو عمرو بن عوف فخرج ليصلح بينهم وقال لبلال إن حضرت الصلاة فقدم ابا بكر

ثم قال سبحانه فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله سورة الحجرات 9 فهو بعد اقتتالهم إذا أصلح بينهم بالقسط فلم تقبل إحداهما القسط بل بغت فإنها تقاتل لأن قتالها هنا يدفع به القتال الذي هو أعظم منه فإنها اذا لم تقاتل حتى تفئ إلى أمر الله بل تركت حتى تقتتل هي والأخرى كان الفساد في ذلك أعظم

والشريعة مبناها على دفع الفسادين بالتزام أدناهما وفي مثل هذا يقاتلون حتى لا يكون فتنة ويكون الدين كله لله لأنه إذا أمروا بالصلاح والكف عن الفتنة فبغت إحداهما قوتلت حتى لا تكون فتنة والمأمور بالقتال هو غير المبغى عليه أمر بأن يقاتل الباغية حتى ترجع إلى الدين فقاتلها من باب الجهاد وإعانة المظلوم المبغى عليه

أما إذا وقع بغى ابتداء بغير قتال مثل أخذ مال أو مثل رئاسة بظلم فلم يأذن الله في اقتتال طائفتين من المؤمنين على مجرد ذلك لأن الفساد في الاقتتال في مجرد رئاسة أو أخذ مال فيه نوع ظلم

فلهذا نهى النبي عن قتال الأئمة إذا كان فيهم ظلم لأن قتالهم فيه فساد أعظم من فساد ظلمهم

وعلى هذا فما ورد في صحيح البخارى من حديث أم سلمة أن النبي قال ذلك ليس هو مخالفا لما تواتر عنه من أنه أمر بالإمساك عن القتال في الفتنة وأنه جعل القاعد فيها خيرا من القائم والقائم خيرا من الماشى والماشى خيرا من الساعى

وقال يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن وأمر فيها بأن يلحق الإنسان بإبله وبقره وغنمه لأن وصفه تلك الطائفة بالبغى هو كما وصف به من وصف من الولاة بالأثرة والظلم

كقوله ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض

وقوله ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم وأمثال ذلك من الأحايث الصحاح

فأمر مع ذكره لظلمهم بالصبر وإعطاء حقوقهم وطلب المظلوم حقه من الله ولم يأذن للمظلوم المبغى عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور التي يكون القتال فيها فتنة كما أذن في دفع الصائل بالقتال حيث قال من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد فإن قتال اللصوص ليس قتال فتنة إذ الناس كلهم أعوان على ذلك فليس فيه ضرر عام على غير الظالم بخلاف قتال ولاة الأمور فإن فيه فتنة وشرا عاما أعظم من ظلمهم فالمشروع فيه الصبر

وإذا وصف النبي طائفة بأنها باغية سواء كان ذلك بتأويل أو بغير تأويل لم يكن مجرد ذلك موجبا لقتالها ولا مبيحا لذلك إذ كان قتال فتنة

فتدبر هذا فإنه موضع عظيم يظهر فيه الجمع بين النصوص ولأنه الموضع الذي اختلف فيه اجتهاد علماء المؤمنين قديما وحديثا حيث رأى قوم قتال هؤلاء مع من هو أولى بالحق منهم ورأى آخرون ترك القتال إذا كان القتال فيه من الشر أعظم من ترك القتال كما كان الواقع فإن أولئك كانوا لا يبدأون البغاة بقتال حتى يجعلوهم صائلين عليهم وإنما يكون ذنبهم ترك واجب مثل الامتناع من طاعة معين والدخول في الجماعة فهذه الفرقة إذا كانت باغية وفي قتالهم من الشر كما وقع أعظم من مجرد الاقتصار على ذلك كان القتال فتنة وكان تركه هو المشروع وإن كان المقاتل أولى بالحق وهو مجتهد

وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول وغيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك هو من هذا الباب فيه المجتهد المصيب وفيه المجتهد المخطئ ويكون المخطئ باغيا وفيه الباغي من غير اجتهاد وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر

وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين سواء كان قولا او فعلا ولكن المصيب العادل عليه أن يصبر عن الفتنة ويصبر على جهل الجهول وظلمة إن كان غير متأول وأما إن كان ذاك أيضا متأولا فخطؤه مغفور له وهو فيما يصيب به من أذى بقوله أو فعله له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور له وذلك محنة وابتلاء في حق ذلك المظلوم فإذا صبر على ذلك واتقى الله كانت العاقبة له كما قال تعالى وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا سورة آل عمران 120

وقال تعالى لتلبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور سورة آل عمران 186

فأمر سبحانه بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى وذلك تنبيه على الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض متأولين كانوا أو غير متأولين

وقد قال سبحانه ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى سورة المائدة 8 فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له

فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا فإن الشيطان موكل ببني آدم وهو يعرض للجميع ولايسلم أحد من مثل هذه الأمور دع ماسواها من نوع تقصير في مأمور أو فعل محظور باجتهاد أو غير اجتهاد وإن كان هو الحق

وقال سبحانه لنبيه فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار سورة غافر 55 فأمره بالصبر وأخبره أن وعد الله حق وأمره أن يستغفر لذنبه

ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر فالفتنة إما من ترك الحق وإما من ترك الصبر

فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور

وإن كان مجتهدا في معرفة الحق ولم يصبر فليس هذا بوجه الحق مطلقا لكن هذا وجه نوع حق فيما أصابه فينبغي أن يصبر عليه

وإن كان مقصرا في معرفة الحق فصارت ثلاثة ذنوب أنه لم يجتهد في معرفة الحق وأنه لم يصبه وأنه لم يصبر

وقد يكون مصيبا فيما عرفه من الحق فيما يتعلق بنفسه ولم يكن مصيبا في معرفة حكم الله في غيره وذلك بأن يكون قد علم الحق في أصل يختلف فيه بسماع وخبر أو بقياس ونظر أو بمعرفة وبصر ويظن مع ذلك أن ذلك الغير التارك للإقرار بذلك الحق عاص أو فاسق أو كافر ولا يكون الأمر كذلك لأن ذلك الغير يكون مجتهدا قد استفرغ وسعه ولا يقدر على معرفة الأول لعدم المقتضى ووجود المانع

وأمور القلوب لها أسباب كثيرة ولا يعرف كل احد حال غيره من ايذاء له بقول أو فعل قد يحسب المؤذى إذا كان مظلوما لا ريب فيه أن ذلك المؤذى محض باغ عليه ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن ويكون مخطئا في هذين الأصلين إذ قد يكون المؤذى متأولا مخطئا وإن كان ظالما لا تأويل له فلا يحل دفع ظلمه بما فيه فتنة بين الأمة وبما فيه شر أعظم من ظلمه بل يومر المظلوم ها هنا بالصبر فإن ذلك في حقه محنة وفتنة

وإنما يقع المظلوم في هذا لجزعه وضعف صبره أو لقلة علمه وضعف رأيه فإنه قد يحجب أن القتال ونحوه من الفتن يدفع الظلم عنه ولا يعلم أنه يضاعف الشر كما هو الواقع وقد يكون جزعه يمنعه من الصبر

والله سبحانه وصف الأئمة بالصبر واليقين فقال وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون سورة السجدة 24 وقال وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر سورة العصر 3

وذلك أن المظلوم وإن كان مأذونا له في دفع الظلم عنه بقوله تعالى ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل سورة الشورى 41 فذلك مشروط بشرطين

أحدهما القدرة على ذلك

والثاني ألا يعتدى

فإذا كان عاجزا أو كان الانتصار يفضى إلى عدوان زائد لم يجز وهذا هو أصل النهى عن الفتنة فكان إذا كان المنتصر عاجزا وانتصاره فيه عدوان فهذا هذا

ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة