وعلى هذا يجري الأمر على محبة الإنسان للشئ الجميل من الصورة والنظر إليه وما يدخل في ذلك من قوة الحب والزيادة فيه التي تسمى العشق فإن ذلك إذا خلا عن المفسدة الراجحة مثل أن يحب الإنسان امرأته وجاريته حبا معتدلا أو يحب ما لا فتنة فيه كحبه للجميل من الدواب والثياب ويحب ولده وأباه وأمه ونحو ذلك من محبة الرحم كنوع من الجمال الحب المعتدل فهذا حسن

أما إذا أحب النساء الاجانب أو المردان ونحو ذلك فهذا الحب متضمن للمحبة الحيوانية وليس في ذلك مجرد محبة الجمال والمحبة الحيوانية مما يبغضها الله ويمقتها وتوابعها منهى عنها مع ذلك سواء كان مع المحبة فعل الفاحشة الكبرى أو كانت للتمتع بالنظر والسماع وغير ذلك

فالتمتع مقدمات الوطء فإن كان الوطء حلالا حلت مقدماته وإن كان الوطء حراما حرمت مقدماته وإن كان في ذلك رفض للجمال كما فيه رفض للذة الوطء المحرم فإن ما في ذلك مما يبغضه الله ويمقت عليه أعظم مما في مجرد الجمال من الحب المتضمن وذلك متضمن لتفويت محاب الله من التقوى والعفاف والإقبال على مصالح الدين والدنيا أعظم بكثير مما فيها من مجرد حب الجمال فلهذا كانت هذه مذمومة منهيا عنها حتى حرم الشارع النظر في ذلك بلذة وشهوة وبغير لذة وشهوة إذا خاف الناظر الفتنة والفتنة مخوفة في النظر إلى الأجنبية الحسنة والأمرد الحسن في أحد قولي العلماء الذي يصححه كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وهذا قد يختلف بأختلاف العادات والطبائع وأما النظر للحاجة من غير شهوة ولا لذة فيجوز

ولهذا لم يأمر الله ولا رسوله ولا أهل العلم والإيمان بعشق الصور الجميلة ولا أثنوا على ما كان كذلك وكذلك العقلاء من جميع الأمم ولكن طائفة من المتفلسفة والمتصوفة تأمر بذلك وتثنى عليه لما فيه زعموا من إصلاح النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق واكتساب الصفات المحمودة من السماحة والشجاعة والعلم والفصاحة والاختيال ونحو ذلك من الأمور حتى أن طائفة من فلاسفة الروم والفرس ومن اتبعهم من العرب تأمر به وكذلك طائفة من المتصوفة حتى يقول أحدهم ينبغي للمريد أن يتخذ له صورة يجتمع قلبه عليها ثم ينتقل منها إلى الله وربما قالوا إنهم يشهدون الله في تلك الصورة ويقولون هذه مظاهر الجمال ويتأولون قوله إن الله جميل يحب الجمال على غير تأويله

فهؤلاء وأمثالهم ممن يدخل في ذلك يزعمون أن طريقهم موافق لطريق العقل والدين والخلق وإن اندرج في ذلك من الأمور الفاحشة ما اندرج

وهؤلاء لهم نصيب من قوله تعالى وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء سورة الأعراف 28

لكن العرب الذين كانوا سبب نزول هذه الآية إنما كانت فاحشتهم التي قالوا فيها ما قالوا طوافهم بالبيت عراة لاعتقادهم أن ثيابهم التي عصوا الله فيها لا تصلح أن يعبد الله فيها فكانوا ينزهون عبادة الله عن ملامسة ثيابهم فيقعون في الفاحشة التي هي كشف عوراتهم

وأما هؤلاء فأمرهم أجل وأعظم إذ غاية ما كان أولئك يفعلون طواف الرجال والنساء عراة مختلطين حتى كانت المرأة منهم تقول ... اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله ...

ولم يكن ذلك الاختلاط والاجتماع إلا في عبادة ظاهرة لا يتأتى فيها فعل الفاحشة الكبرى ولم يقصدوا بالتعري إلا التنزة من لباس الذنوب بزعمهم

فالذين يجتمعون من الرجال والنساء والمردان لسماع المكاء والتصدية ويطفئون المصابيح حتى لا يرى أحدهم الآخر حتى اجتمعوا على غناء وزنا ومطاعم خبيثة وجعلوا ذلك عبادة فهؤلاء شر من أولئك بلا ريب فأن هؤلاء فتحوا أبواب جهنم

كما روى أبو هريرة قال سئل رسول الله ما أكثر ما يدخل الناس النار فقال الأجوفان الفم والفرج قال الترمذي حسن صحيح

وكذلك روى عنه أنه قال أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن

وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره وفي رواية مسلم حفت مكان حجبت

وإذا كانت النار محجوبة ومحفوفة بالشهوات لم يدخل النار إلا بها وإذا كانت الجنة محجوبة ومحفوفة بالمكاره لم يدخل الجنة إلا بها

وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن رسول الله قال من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة وما بين لحييه يتناول الكلام والطعام

كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي شريح الخزاعي أن رسول الله قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت

فبين أنه من ضمن له هذين ضمن له الجنة وهذا يقتضي أن من هذين يدخل النار ولهذا حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن وحرم أيضا انتهاك الأعراض وجعل في القذف بالفاحشة من العقوبة المقدرة وهي حد القذف ثمانين جلدة

وبين أن الزنا من الكبائر وأن قذف المحصنات الغافلات من الكبائر وهو وهو من نوع الكبائر إذ لم يأت عليه القاذف بأربعة شهداء وإن كان قد وقع فإنه أظهر ما يحب الله إخفاؤه

كما قال تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة سورة النور 19

وفي الحديث الصحيح قال النبي كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا بات يستره ربه ويصبح يكشف ستره

وقال من ابتلى من هذه القاذورة بشئ فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله

وفي الصحيحين عن صفوان بن محرز أن رجلا سأل ابن عمر كيف سمعت النبي يقول في النجوى قال يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول عملت كذا وكذا فيقول نعم ويقول عملت كذا وكذا فيقول نعم فيقرره ثم يقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ولهذا يكثر وقوع الناس في أحد هذين الذنبين

فمن الناس من يبتلى بالفاحشة وإن كان ممسكا عن الكلام ومن الناس من يبتلي بالكلام والاعتداء على غيره بلسانه وإن كان عفيفا عن الفاحشة

وأيضا فإن من الكلام المنهى عنه الخوض في الدين بالبدع والضلالات مع تضمنه لشهوة الطعام وما بين الفرجين يتضمن أقوى الشهوات وذلك من الاستمتاع بالخلاق في الدنيا كما جمع الله تعالى بينهما بقوله فاستمعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا سورة التوبة 69 الأول يتضمن الشبهات والثاني يتضمن الشهوات الأول يتضمن الدين الفاسد والثاني يتضمن الدنيا الفاجرة

وكان السلف يحذرون من هذين النوعين من المبتدع في دينه والفاجر في دنياه كل من هذين النوعين وإن لم يكن كفرا محضا فهذا من الذنوب والسيئات التي تقع من أهل القبلة

وجنس البدع وإن كان شرا لكن الفجور شر من وجه آخر وذلك أن الفاجر المؤمن لا يجعل الفجور شرا من الوجه الآخر الذي هو حرام محض لكن مقرونا بأعتقاده لتحريمه وتلك حسنة في أصل الاعتقاد وأما المبتدع فلا بد ان تشتمل بدعته على حق وباطل لكن يعتقد ان باطلها حق أيضا ففيه من الحسن ما ليس في الفجور ومن السئ ما ليس في الفجور وكذلك بالعكس

فمن خلص من الشهوات المحرمة والشهوات المبتدعة وجبت له الجنة وهذه هي الثلاثة الكلام المنهى عنه والطعام المنهى عنه والنكاح المنهى عنه فإذا اقترن بهذه الكبائر استحلالها كان ذلك أمرا فكيف إذا جعلت طاعة وقربة وعقلا ودينا

وهؤلاء هم الذين يستحقون عقوبة أمثالهم من الأمم كما ثبت في الصحيح أنه يكون في هذه الأمة من يمسخ قردة وخنازير وكما روى أنه سيكون فيها خسف وقذف ومسخ

وقال بعض السلف في قوله تعالى وما هي من الظالمين ببعيد سورة هود 83 أي من ظالمي هذه الأمة وفي ذلك من الأحاديث ما يضيق هذا الموضع عن ذكره وفي عامتها يذكر استحلالهم لها

وأصل الضلال والغي من هؤلاء الذين يستحسنون عشق الصور ويحمدونه ويأمرون به وإن قيدوه مع ذلك بالعفة أن المحبة هي أصل كل حركة في العالم فالنفس إذا لم يكن فيها حركة ولا هي قوية الهمة والإرادة حتى تحصل لها محبة شديدة كانت تلك المنهيات عنها هي أصول الشر وهي التي إذا ظهرت قامت الساعة

كما في الصحيح عن أنس أنه قال لأحدثنكم حديثا لا يحدثكمونه أحد بعدي سمعته من النبي سمعت النبي يقول إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد

فمن ظهور الجهل ظهور الكلام في الدين بغير علم وهو الكلام بغير سلطان من الله وسلطان الله كتابه ومن ظهور الزنا ظهور اللواط وإن كان له اسم يخصه فهو شر نوعي الزنا ولكون ظهور شهوات الغي البطن والفرج هي أغلب ما يدخل الناس النار كما ذكر ذلك النبي فيما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال النبي لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد

والسرقة بالمال الذي هو أعظم مقصود الأكل ولهذا يعبر عن اخذه بالأكل كقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل سورة البقرة 188

وهذه الثلاثة هي التي يعقد الفقهاء فيها أبواب الحدود باب حد الزنا باب حد السرقة باب حد شرب الخمر ورابعها باب حد القذف مندرجة فيما بين لحييه وبين رجليه

وقد روى هذا الحديث البخاري عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن قال عكرمة قلت لابن عباس كيف ينزع الإيمان منه قال هكذا وشبك بين أصابعه ثم أخرجها فإن تاب عاد إليه هكذا وشبك بين أصابعه

فإذا اقترن بهذه الكبائر تلك المحبة في نفس صاحبها فإنها توجب حركتها وقوة إرادتها فيعطي من المال ما لم يكن يعطيه ويقدم على مخاوف لم يكن يقدم عليها ويحتال ويدبر ما لم يكن يحتاله ويدبره قبل ذلك ويصير والها من التفكر والنظر ما لم يكن قبل ذلك فلما رأوا ما فيه من هذه الأمور التي هي من جنس المحمودات حمدوه بذلك وهذا من جنس من حمد الخمر لما فيها من الشجاعة والكرم والسرور ونحو ذلك

وذلك أن هؤلاء كلهم لحظوا ما فيها من جنس المحبوب وأغفلوا ما تتضمنه من جنس المذموم فإن الذي يورثه العشق من نقص العقل والعلم وفساد الخلق والدين والاشتغال عن مصالح الدين والدنيا أضعاف ما يتضمنه من جنس المحمود

وأصدق شاهد على ذلك ما يعرف من أحوال الأمم وسماع أخبار الناس في ذلك فهو يغني عن معاينة ذلك وتجريبه ومن جرب ذلك أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية فلم يوجد قط عشق إلا وضرره أعظم من منفعته

ولهذا قال أبو القاسم القشيري في رسالته ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث ومن ابتلاه الله بشئ من ذلك فبإجماع الشيوخ هذا عبد أهانه الله وخذله بل عن نفسه شغله ولو لألف الف كرامة أهله وهب أنه بلغ رتبة الشهداء لما في الخبر من التلويح بذلك أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق وأصعب من ذلك تهوين ذلك على القلب حتى يعد ذلك يسيرا وقد قال تعالى وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم سورة النور 15

وهذا الواسطي رحمه الله يقول إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف

وقال سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول سمعت محمد بن أحمد النجار يقول سمعت أبا عبد الله الحصري يقول سمعت فتحا الموصلي يقول صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدون من الابدال فكلهم أوصوني عند فراقي إياهم وقالوا لي اتق معاشرة الاحداث ومخالطتهم

ومن ارتقى في هذا الباب عن حال الفسق وأشار إلى أن ذلك من بلايا الأرواح وأنه لا يضر فما قالوه من وساوس القائلين بالسماع وإيراد حكايات عن بعض الشيوخ كان الأولى بهم إسبال الستر على هناتهم وآفاتهم فذلك نظير الشرك وقرين الكفر

فليحذر المريد من مجالسة الأحداث ومخالطتهم فإن اليسير منه فتح باب الخذلان وبدء حال الهجران ونعوذ بالله من قضاء السوء

وهنا أصل عظيم نافع يجب اعتباره وهو ان الأمور المذمومة في الشريعة كما ذكرناه هو ما ترجح فساده على صلاحه كما أن الأمور المحمودة ما ترجح صلاحه على فساده فالحسنات تغلب فيها المصالح والسيئات تغلب فيها المفاسد والحسنات درجات بعضها فوق بعض والسيئات بعضها أكبر من بعض فكما أن أهل الحسنات ينقسمون إلى الأبرار المقتصدين والسابقين المقربين فأهل السيئات ينقسمون إلى الفجار الظالمين والكفار المكذبين وكل من هؤلاء هم درجات عند الله

ومن المعلوم أن الحسنات كلما كانت أعظم كان صاحبها أفضل فإذا انتقل الرجل من حسنة إلى أحسن منها كان في مزيد التقريب وإن انتقل إلى ما هو دونها كان في التأخر والرجوع وكذلك السيئات كلما كانت أعظم كان صاحبها أولى بالغضب واللعنة والعقاب

وقد وقال تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير اولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأمولهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة سورة النساء 95

وقال أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام إلى قوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون سورة التوبة 19 20

وقال لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل سورة الحديد 10

وقال يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات سورة المجادلة 11

وكذلك قال في السيئات إنما النسئ زيادة في الكفر سورة التوبة 37

وقال زدناهم عذابا فوق العذاب سورة النحل 88

وقال وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم سورة التوبة 125

وقال في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا سورة البقرة 10

وقال وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا سورة الإسراء 82

ومعلوم أن التوبة هي جماع الرجوع من السيئات إلى الحسنات ولهذا لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة والردة هي جماع الرجوع من الحسنات إلى السيئات ولهذا لا يحبط جميع الحسنات إلا الردة عن الإيمان

وكذلك ما ذكرناه في تفاوت السيئات هو في الكفر والفسق والعصيان فالكفار بعضهم دون بعض ولهذا يذكر الفقهاء في باب الردة والإسلام انتقال الرجل كأحد الزوجين من دين إلى دين آخر انتقال إلى دين خير من دينه أو دون دينه أو مثل دينه فيقولون إذا صار الكتابي مجوسيا أو مشركا فقد انتقل إلى شر من دينه وإذا صار المشرك أو المجوسي كتابيا فقد انتقل إلى خير من دينه وإذا تهود النصراني أو بالعكس فقد انتقل إلى نظير دينه والتمجس يقر عليه بالاتفاق وأما الإشراك فلا يقر عليه إلا بعض الناس عند بعض العلماء والصابئة نوعان عند المحققين وعلى قولين عند آخرين ومعرفة مراتب الأديان محتاج إليها في مواضع كثيرة لمعرفة مراتب الحسنات

والفقهاء يذكرون ذلك لأجل معرفة أحكامهم وتناكحهم وذبائحهم وفي دمائهم و قتالهم وإقرارهم بالجزية المضروبة عليهم ونحو ذلك من الأحكام التي جاء بها الكتاب والسنة في أهل الملل والأحزاب الذين قال الله فيهم ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده سورة هود 17

وقد قال الله تعالى لنبيه فلذلك فآدع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم سورة الشورى 15

والعدل وضع كل شئ في موضعه كما أن الظلم وضع الشئ في غير موضعه

ولهذا لما اقتتلت فارس المجوس والروم النصارى وكان النبي بمكة إذ ذاك وهو في طائفة قليلة ممن آمن به كان هو وأصحابه يحبون أن تغلب الروم لأنهم أهل كتاب وكان المشركون يحبون أن تغلب فارس لأنهم من جنسهم ليسوا أهل كتاب فأنزل الله في ذلك آلم غلبت الروم في أدنى الأرض سورة الروم 12 والقصة مشهورة في كتب الحديث والتفسير والمغازي

وإذا كان كذلك فقد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة فينتقل إلى ما هو أقل منها شرا وأقرب إلى الخير فيكون حمد تلك الطريقة ومدحها لكونها طريقة الخير الممدوحة مثال ذلك أن الظلم كله حرام مذموم فأعلاه الشرك فإن الشرك لظلم عظيم والله لا يغفر أن يشرك به وأوسطه ظلم العباد بالبغي والعدوان وأدناه ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله فإذا كان الرجل مشركا كافرا فأسلم باطنا وظاهرا بحيث صار مؤمنا وهو مع إسلامه يظلم الناس ويظلم نفسه فهو خير من أن يبقى على كفره ولو كان تاركا لذلك الظلم

واما إذا أسلم فقط وهو منافق في الباطن فهذا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار وأما في الدنيا فقد يكون أضر على المسلمين منه لو بقى على كفره وقد لا يكون كذلك فإن إضرار المنافقين بالمؤمنين يختلف بآختلاف الأحوال

لكن إذا أسلم نفاقا فقد يرجى له حسن الإسلام فيصير مؤمنا كمن أسلم تحت السيف وكذلك من أسلم لرغبة أو لرهبة أو نحو ذلك فالإسلام والإيمان أصل كل خير وجماعة

وكذلك من كان ظالما للناس في نفوسهم واموالهم وأعراضهم فانتقل عن ذلك الى ما يظلم به نفسه خاصة من خمر وزنا فهذا أخف لأثمة وأقل لعذابه

وهكذا النحل التي فيها بدعة قد يكون الرجل رافضيا فيصير زيديا فلذلك خير له وقد يكون جهميا غير قدري أو قدريا غير جهمي أو يكون من الجهمية الكبار فيتجهم في بعض الصفات دون بعض ونحو ذلك

فهؤلاء المتفسلفة ونحوهم ممن مدح العشق والغناء ونحو ذلك وجعلوه مما يستعينون به على رياضة أنفسهم وتهذيبها وصلاحها من هذا الباب فإن هؤلاء في طريقهم من الشرك والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال فإن المتفلسفة قد يعبدون الأوثان والشمس والقمر ونحو ذلك فإذا صار أحدهم يروض نفسه بالعشق لعبادة الله وحده أو رياضة مطلقة لا يعبد فيها غير الله كان ذلك خيرا له من أن يعبد غير الله

وكذلك الاتحادية الذين يجعلون الله هو الوجود المطلق أو يقولون إنه يحل في الصور الجميلة متى تاب الرجل منهم من هذا وصار يسكن نفسه بعشق بعض الصور وهو لا يعبد إلا الله وحده كانت هذه الحال خيرا من تلك الحال

فهذه الذنوب مع صحة التوحيد خير من فساد التوحيد مع عدم هذه الذنوب ولهذا نجد الناس يفضلون من كان من الملوك ونحوهم إنما يظلم نفسه بشرب الخمر والزنا أو الفواحش ويتجنب ظلم الرعية ويتحرى العدل فيهم على من كان يتجنب الفواحش والخمر والزنا وينتصب لظلم الناس في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم

وهؤلاء الظالمون قد يجعلون الظلم دينا يتقربون به بجهلهم كما أن أولئك الظالمين لأنفسهم قد يجعلون ذلك بجهلهم دينا يتقربون به فالشيطان قد زين لكثير من هؤلاء وهؤلاء سوء عملهم فرأوه حسنا

لكن كثير من الناس يجمعون بين هذا وهذا فإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها والحسنات والسيئات قد تتلازم ويدعو بعضها إلى بعض كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود عن النبي أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا

فالصدق مفتاح كل خير كما ان الكذب مفتاح كل شر ولهذا يقولون عن بعض المشايخ إنه قال لبعض من استتابه من أصحابه أنا لا أوصيك إلا بالصدق فتأملوا فوجدوا الصدق يدعوه إلى كل خير

ولهذا فرق الله سبحانه بين أهل السعادة وأهل الشقاوة بذلك فقال فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 32 35

وترتيب الكبائر ثابت في الكتاب والسنة كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قلت يا رسول أي الذنب أعظم قال أن تجعل الله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني بحليلة جارك وتصديق ذلك في كتاب الله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله بالحق ولا يزنون الفرقان 68

ولهذا قال الفقهاء أكبر الكبائر الكفر ثم قتل النفس بغير حق ثم الزنا لكن النبي ذكر لابن مسعود من جنس أعلى فأعلى الكفر هو أن تجعل الله ندا بخلاف الكتابي الذي ليس بمشرك فإنه دون ذلك وأعظم القتل ولدك وأعظم الزنا الزنا بحليلة الجار

وهذا كما ذكرنا أن الظلم ثلاث مراتب الشرك ثم الظلم للخلق ثم ظلم النفس فالقتل من ظلم الخلق فإذا كان قتلا للولد الذي هو بعضه منك كان فيه الظلمان والزنا هو من ظلم النفس لكن إذا كان بحليلة الجار صار فيه الظلمان أيضا لكن المغلب في القتل ظلم الغير والظلم في الزنا ظلم النفس

ولهذا كان القود حقا للآدمي إن شاء استوفاه وإن شاء عفا عنه وكان حد الزنا حدا لله ليس لآدمي فيه حق معين لكن قد يقترن ببعض انواع الزنا ويقتضي أمورا تضر الناس يكون بها أعظم من قتل لا يضر به إلا المقتول فقط

وأيضا فقتل النفس يدخل فيه من التأويل ما ليس يدخل في الزنا فإن حلاله بين من حرامه بخلاف القتل فإن فيه ما يظهر تحريمه وفيه ما يظهر وجوبه أو استحبابه أو حله وفيه ما يشتبه ولهذا جعل الله فيه شيئا ولم يجعل ذلك في الزنا بقوله ولا يقتلون النفس الآية سورة الفرقان 68

في الغيرة وانواعها وما فيها من محمود ومذموم عدل

في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال ما احد اغير من الله من اجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما احد احب اليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه

وفي رواية لمسلم وليس احد احب اليه العذر من الله من اجل ذلك انزل الكتاب وارسل الرسل جمع النبي في هذا الحديث بين وصفة سبحانه بأكمل المحبة للممادح واكمل البغض للمحارم

وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لأضربنه بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله فقال تعجبون من غيرة سعد والله لأنا اغير منه والله اغير منى ومن اجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها

وما بطن ولا احد احب اليه العذر من الله من اجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا احد احب اليه المدحة من الله من اجل ذلك وعد الله الجنة

وقال البخاري وقال عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك لا شخص اغير من الله وترجم البخاري على ذلك باب

وفي الصحيح عن ابي هريرة عن النبي انه قال ان الله يغار وغيره الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه

وفي الصحيح عن اسماء انها سمعت رسول الله يقول لا شيء اغير من الله

وفي الصحيحين عن عائشة ان النبي قال يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته

وفي السنن عن النبي انه قال ان من الغيرة ما يحبها الله ومن الغيرة ما يكرهها فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة وان من الخيلاء ما يحبها الله ومن الخيلاء ما يبغضها الله فالخيلاء التي يحبها اختيال الرجل نفسه عند الحرب وعند الصدقة والخيلاء التي يبغضها الله اختيال الرجل في البغي والفخر

وقد ثبت في الصحاح ان النبي قال لعمر دخلت الجنة فرأيت امرأة تتوضأ الى جانب قصر فقلت لمن هذا فقالوا لعمر بن الخطاب فأردت ان ادخله فذكرت غيرتك فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله بأبي وامي او عليك اغار

وكذلك في الصحيحين حديث اسماء لما كانت تنقل النوى للزبير قالت فلقيت رسول الله ومعه نفر من الانصار فدعاني ثم قال إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت ان اسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان اغير الناس فعرف رسول الله اني قد استحييت فمضى فجئت الزبير فقلت لقيني رسول الله وعلى رأسي النوى ومعه نفر من اصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وذكرت غيرتك فقال والله لحملك النوى كان اشد على من ركوبك معه قالت حتى ارسل الى ابي ابو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما اعتقني

فقد اخبر النبي لا احد اغير من الله وقال غيرة الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وهذا يعم جميع المحرمات

وقال ومن اجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فهذا تخصيص لغيرته من الفواحش وكذلك في حديث عائشة لا احد اغير من الله ان يزني عبده او تزني امته فهذه الغيرة من الفواحش

وكذلك عامة ما يطلق من الغيرة انما هو من جنس الفواحش وبين النبي انه اغير من غيره من المؤمنين وان المؤمن يغار والله يحب الغيرة وذلك في الريبة ومن لا يغار فهو ديوث وقد جاء في الحديث لا يدخل الجنة ديوث

فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى وهذه الغيرة هي ان تنتهك محارم الله وهي ان تؤتى الفواحش الباطنة والظاهرة لكن غيرة العبد الخاصة هي من ان يشركه الغير في اهله فغيرته من فاحشة اهله ليست كغيرته من زنا الغير لأن هذا يتعلق به وذاك لا يتعلق به الا من جهة بغضه لمبغضة الله

ولهذا كانت الغيرة الواجبة عليه هي في غيرته على اهله واعظم ذلك امرأته ثم اقاربه ومن هو تحت طاعته ولهذا كان له اذا زنت ان يلاعنها لما عليه في ذلك من الضرر بخلاف ما اذا زنا غير امرأته ولهذا يحد قاذف المرأة التي لم يكمل عقلها ودينها اذا كان زوجها محصنا في احد القولين وهو احدى الروايتين عن احمد

فالغيرة الواجبة ما يتضمنه النهي عن المخزي والغيرة المستحبة ما اوجبت المستحب من الصيانة واما الغيرة في غير ريبة وهي الغيرة في مباح لا ريبة فيه فهي مما لا يحبه الله بل ينهى عنه اذا كان فيه ترك ما امر الله ولهذا قال النبي لا تمنعوا اماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن

واما غيرة النساء بعضهن من بعض فتلك ليس مأمورا بها لكنها من امور الطباع كالحزن على المصائب وفي الصحيحين عن النبي انه قال كلوا غارت امكم لما كسرت القصعة وقالت عائشة او لا يغار مثلى على مثلك وقالت ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة

وعن فاطمة انها قالت للنبي ان الناس يقولون انك لا تغار لبناتك لما اراد على ان يتزوج بنت ابي جهل وخطب النبي وذكر صهرا له من ابي العاص وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفاني وقال ان بني العاص استأذنوني في ان يزوجوا بنتهم عليا واني لا آذن ثم لا آذن الا ان يريد ابن ابي طالب ان يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل ابدا

فهذه الغيرة التي جاءت بها سنة رسول الله وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه وغيرته ان يزني عبده او تزني امته وغيرة المؤمن ان يفعل ذلك عموما وخصوصا في حقه والغيرة التي يحبها الله الغيرة في ريبة والغيرة التي يبغضها الله الغيرة التي في غير ربية وهنا انقسم بنو آدم اربعة اقسام

قوم لا يغارون على حرمات الله بحال ولا على حرمها مثل الديوث والقواد وغير ذلك ومثل اهل الاباحة الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ومنهم من يجعل ذلك سوكا وطريقا واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء سورة الاعراف 28

وقوم يغارون على ما حرمه الله وعلى ما امر به مما هو من نوع الحب والكره يجعلون ذلك غيرة فيكره احدهم من غيره امورا يحبها الله ورسوله ومنهم من جعل ذلك طريقا ودينا ويجعلون الحسد والصد عن سبيل الله وبغض ما احبه الله ورسوله غيرة

وقوم يغارون على ما امر الله به دون ما حرمه فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها بل يبغضون الصلوات والعبادات كما قال تعالى فيهم فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا سورة مريم 59

وقوم يغارون مما يكرهه الله ويحبون ما يحبه الله هؤلا هم اهل الايمان

فصل عدل

ومن اسباب ذلك ما وقع من الاشراك في لفظ الغيرة في كلام المشايخ اهل الطريق فإنهم تكلموا فيها بمعاني بعضها موافق لعرف الشارع وبعضها ليس كذلك وبضعهم حمد منها ما حمده الشارع وبعضهم حمد منها ما لم يحمده الشارع بل ذمه

وقد تقدم ان الغيرة التي وصف الله بها نفسه اما خاصة وهو ان يأتي المؤمن ما حرم عليه واما عامة وهي غيرته من الفواحش ما ظهر منها وما بطن

واما الغيرة في اصطلاح طائفة من اهل الطريق فقال ابو القاسم القشيري الغيرة كراهة مشاركة الغير واذا وصف الحق بالغيرة فمعناه انه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له تعالى من طاعة عبده له

فقوله الغيرة كراهة مشاركة الغير اشار بلفظ الغير الى اشتقاق لفظ الغيرة وهذا اقرب فإن الغيرة اما من تغير الغائر واما من مزاحمه الغير

لكن قوله كراهة مشاركة الغير هو اصطلاح خاص ليس بمطابق لاصطلاح الشارع بل هو اعم منه من وجه واخص منه من وجه

اما كونه اعم فإنه يدخل فيه مشاركة الغير المباحة كالمشاركة في الاموال والعبادات والطاعات وهذه ليست غيرة مأمورا بها بل بعضها محرم وهو حسد ويدخل فيها المشاركة في البضع والغيرة على ذلك غيرة مشروعة

وأما كونه اخص فانه يخرج منه الغيرة التي لا يشاركه فيها مثل غيرة المؤمن ان يزني اقاربه او غيرته ان تنتهك محارم الله فإن الله يغار من ذلك والمؤمن موافق لربه فيحب ما احب ويكره ما كره ولهذا وصف غيرة الله بما يوافق اصطلاحة فقال غيرة الله انه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له من طاعة عبده وهذه الغيرة اعم مما ذكره النبي من وجه وابعد عن مقصود الغيرة التي ذكرها النبي من غيرة الحق سبحانه فقد فسر غيرته ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وبأن يزني عبده او تزني امته وقال من اجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فجعل الغبرة مطلقة متعلقة بفعل المحرمات وجعل عظمها وسلطانها في اتيان الفواحش ما ظهر منها وما بطن

ومن جعلها لنفي المشاركة في حقه كان دخول الشرك في الله في باب الغيرة عنده اولى من دخول الفواحش وكان استعمال لفظ الغيرة في الشرك اولى من استعمال لفظ الغيرة في الزنا

وايضا اذا جعلناها لنفي المشاركة فيما هو حق له من طاعة عبده فقد يدخل في ذلك ما يفعله العبد من المباحات على غير وجه التقرب فان هذا لم يفعله لله ومع هذا فليس من غيرة الله التي وصف الرسول بها ربه

وايضا فالمشاركة فيما هو حق له فد لا يدخل فيه فعل الفواحش والمحرمات اذا لم يقصد العبد بها طاعة غيره وان كان مطيعا فيها للشيطان وانما يدخل فيه ما فعله من الطاعات لله ولغيره برا ونحوه ومع هذا فقد يقال بل كل ما كان من ترك واجب او فعل محرم ففيه مشاركة الغير معه ما يستحقه من طاعة عبده

وعلى هذا فيدخل كل ذنب فيما يغار الله منه سواء كان ترك واجب ما او فعل محرم

وهذا المعنى حسن موافق للشريعة فإن الله يبغض ذلك ويمقته فيكون لفظ الغيرة مرادافا للفظ البغض والمقت والسخط لكن هو اعم مما يظهر في عرف الشارع حيث جعل غيرته ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وجعل غيرته ان يزني عبده او تزني امته ومن غيرته ان حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن

وهذه الغيرة اخص من مطلق البغض الا ان يقال ترك للشريعة واما تسميته غيرة فهو امر اصطلاحي والنزاع فيه لفظي ثم انه ذكر عن بعض المشايخ مذهبين في الغيرة احدهما يتضمن الغيرة مما لا يغار الله منه بل يحبه والثاني يتضمن ترك الغيرة مما يغار الله منه ويحب الغيرة منه ويأمر ذلك

وكلاهما مذهب مذموم متضمن اما لترك مأمور يحبه الله او لفعل مكروه يكرهه الله

وذكر من كلامه وكلام المشايخ ما هو حسن مقبول فاشتمل كلامه في الغيرة على الاقسام الثلاثة فالاول من الغيرة كراهة توبة العاصين وعبادة المقصرين كما ذكر عن الشبلى انه سئل متى يستريح قال اذا لم ار له ذاكرا

وقال حكى ان الشبلي مات ابن له كان اسمه ابو الحسن فحزنت امه عليه وقطعت شعرها ودخل الشبلي الحمام وتنور بلحيته فكل من اتاه معزيا له قال ايش هذا يا ابا بكر فكان يقول موافقة لأهلي فقال له بعضهم اخبرني يا ابا بكر لم فعلت هذا قال علمت انهم يعزونني على الغفلة ويقولون آجرك الله تعالى ففديت ذكرهم لله تعالى على الغفلة بلحيتي قال واذن الشبلي مرة فلما انتهى الى الشهادتين قال لولا انك امرتني ما ذكرت معك غيرك قال وسمع النورى رجلا يؤذن فقال طعنة وسم الموت وسمع كلبا ينبح فقال لبيك وسعديك فقيل له ان هذا ترك للدين فإنه يقول للمؤذن في تشهده طعنة وسم الموت ويلبي عند نباح الكلاب فسئل عن ذلك فقال اما المؤذن فانه يذكره على رأس الغفلة واما الكلب فإن الله يقول وان من شيء الا يسبح بحمده سورة الاسراء 44

ومثل هذا الكلمات والحكايات لا تصلح ان تذكر للاقتداء او سلوك سبيل وطريقة لما فيها من مخالفة امر الله ورسوله والذي يصدر عنه امثال هذه الامور ان كان معذورا بقصور في اجتهاده او غيبة في عقله فليس من اتبعه بمعذور مع وضوح الحق والسبيل وان كانت سيئتة مغفورة لما اقترن بها من حسن قصد وعمل صالح فيجب بيان المحمود والمذموم لئلا يكون لبسا للحق بالباطل

وابو الحسين النوري وابو بكر الشبلي رحمة الله عليهما كانا معروفين بتغيير العقل في بعض الاوقات حتى ذهب الشبلي الى المارستان مرتين والنوري رحمه الله كان فيه وله وقد مات بأجمة قصب لما غلبه الوجد حتى ازال عقله ومن هذه حاله لا يصلح ان يتبع في حال لا يوافق امر الله ورسوله وان كان صاحبها معذورا او مغفورا له وان كان له من الايمان والصلاح والصدق والمقامات المحمودة ما هو من اعظم الامور فليس هو في ذلك بأعظم من السابقين الاولين من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان فانهم يتبعون في طاعة ولا يذكرون الا بالجميل الحسن وما صدر منهم من ذنب او تأويل وليس هو مما امر الله به ورسوله لا يتبعون فيه فهذا اصل يحب اتباعه

فحلق اللحيه منهى عنه ومثلة كرهها الله ورسوله والمعزي او المؤذن وان لم يكن معه كمال الحضور فلا يجوز سبه وذمه على ما اظهره من ذكر الله بل يؤمر بما يكمل ذلك من حقائق القلوب المحمودة وان كان ذاكرا لله بلسانه فأعظم المراتب ذكر الله بالقلب واللسان ثم ذكر الله بالقلب ثم ذكر الله باللسان

وقد روي ان الملائكة حضرت محتضرا لم تجد له حسنة الا ان لسانه يتحرك بذكر الله فكان ذلك مما رحمه الله به

وقد قال رجل للنبي اوصني فان شرائع الاسلام قد كثرت على فقال لا يزال لسانك رطبا بذكر الله

وقال الله تعالى انا مع عبدي ما ذكرني والذكر يكون بلسان الانسان ولكن يكون لقلبه من ذلك نصيب اذ الاعضاء لا تتحرك الا بارادة القلب لكن قد تكون الغفلة غالبة عليه وذلك الكلام خير من العدم والله يحبه ويأمر به

وكان النبي وسلم اذا سمع المؤذن لا يغزو الا اغار وكثير من المؤذنين لا يكون كامل الحضور بل المنافقون الذين يظهرون الايمان بألسنتهم دون قلوبهم يقرون على ذلك في الظاهر بأمر الله ورسوله فكيف بالمؤمن

وفي الصحيحين عن ابي هريرة عن النبي انه قال اذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فانها رأت شيطانا واذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله فإنها رأت ملكا

وفي سنن ابي داود عن جابر قال قال رسول الله اذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتوذوا بالله منهن فإنهن يرين ما لا ترون

وثبت في الصحيحين عنه من حديث ابي هريرة انه قال اذا اذن المؤذن ادبر الشيطان وله ضراط لا يسمع التأذين فإذا قصى التأذين اقبل فاذا ثوب بالصلاة ادبر فإذا قضى التثويب اقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل لم يدر كم صلى

فإذا كان التأذين يطرد الشيطان ونباح الكلاب يكون عن رؤية الشياطين كيف يصلح ان يقال لهذا طعنة وسم الموت لأجل تقصير هذا بغفلة في قلبه ولهذا لبيك وسعديك لكون الكلب يسبح بحمده فإن هذه حجة فاسدة

اما ذلك الغافل فإن اجره ينقص بغفلته كما روى ابو داود في السنن عن عمار عن النبي انه قال ان العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها الا نصفها الا ثلثها الا ربعها الا خمسها الا سدسها حتى قال الا عشرها

فلا ريب ان الاجر ينقص بالغفلة لكن استحقاق العقوبة نوع آخر واذا استحق العقوبة لم يجز ان تكون عقوبته مقابلة لما اظهره من الحسنة

واما نباح الكلب ان كان تسبيحا فصوت المؤذن اولى ان يكون تسبيحا فبكل حال لا يكون نباح الكلاب الذي يقترن به الشيطان ادنى من ذلك من صوت المؤذن الذي هو سبب لهروب الشياطين فإن ذلك ان كان لدلالته على الربوبية فصوت المؤذن اكمل وان كان لعبادته بما يستحقه الرب من الالهية فصوت المؤذن اعظم عبادة لله من نباح الكلب

فتسبيح كل شيء بحمده يدخل فيه المؤذن بكل حال اعظم مما يدخل فيه الكلب فكيف يدخل الكلب النابح ويخرج المؤذن لنوع من الغفلة فهذا والكلب محرم اقتناؤه الا لضرورة من صيد او حرث او ماشية ومن اقتنى كلبا بغير هذه الثلاثة نقص كل يوم من عمله قيراط وتلبية الكلب في نباحه امر منكر لا وجه له اصلا فلا يتبع احد في ذلك وان كان معذورا او مغفورا له مشكورا على حسنات غير هذا

وكذلك الحكاية عن الشبلي انه لما انتهى الى الشهادتين قال لولا انك امرتني ما ذكرت معك غيرك فان ذكر هذا في باب الغيرة منكر من القول وزور لا يصلح الا ان نبين ان هذا من الغيرة التي يبغض الله صاحبها بل الغيرة من الشهادة لرسله بالرسالة من الكفر وشعبه وهل يكون موحدا شاهدا لله بالالهية الا من شهد لرسله بالرسالة وقد بينا في غير موضع من القواعد وغيرها ان كل من لم يشهد برسالة المرسلين فإنه لا يكون الا مشركا يجعل مع الله الها اخر وان التوحيد والنبوة متلازمان وكل من ذكر الله عنه في كتابه انه مشرك فهو مكذب للرسل ومن اخبر عنه انه مكذب للرسل فانه مشرك ولا تتم الشهادة لله بالالهية الا بالشهادة لعبده بالرسالة

كما جاء مرفوعا في قوله تعالى ورفعنا لك ذكرك سورة الانشراح 4 قال لا اذكر الا ذكرت معي ولا تتم لامتك خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا انك عبدي ورسولي

وكذلك الحكاية التي سمعتها من بعض الفقراء عن ابي الحسن الخزفاني انه قال لا اله الا الله من داخل القلب محمد رسول الله من القرط

قال ابو القاسم ومن ينظر الى ظاهر هذا اللفظ يتوهم انه استصغر الشرع ولا كما يخطر بالبال اذ الاخطار للأغيار بالإظافة الى قدر الحق متصاغرة في التحقيق

وهذه الحكاية ايضا من اقبح الكلام وافحشه وذكر هذا في باب الغيرة من انكر المنكر فإن هذا الكلام لا يقال انه استصغار للشرع بل هو من اكبر شعب النفاق واعظم اركان الكفر وصاحبه ان لم يغفر الله له لحسن قصده في تعظيم الرب كما غفر للذي قال اذا انا مت فاحرقوني واسحقوني وذروني في اليم فغفر له شكه في قدرته على اعادته لخشيتة منه ولم يتب من مثل هذا الكلام والا كان هذا الكلام موجبا لعظيم عقابه

وذلك ان الايمان بالرسل عليهم السلام ليس من باب ذكر الاغيار بل لا يتم التوحيد لله والشهادة له بالوحدانية والايمان به الا بالايمان بالرسالة فمن جعل الايمان بملائكة الله وكتبه ورسله مغايرا للإيمان به وجعل الاعراض عنه من باب الغيرة المعظمة عند المشايخ فقد ضل سعيه وهو يحسب انه يحسن صنعا ومن لم تكن الشهادة بالرسالة داخله في ضمن قلبه بالشهادة بالألوهية فليس بمؤمن

وفي مثل هذا جاء الحديث المتفق عليه في الصحيحين عن اسماء عن النبي انه قال انه اوحى الي انكم تفتنون في قبوركم مثل وقريبا من فتنة الدجال يؤتى الرجل في قبره فيقال له ما علمك بهذا الرجل الذي بعث فيكم فأما المؤمن او الموقن فيقول هذا هو محمد عبد الله ورسوله جاء بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه واما المنافق او المرتاب فيقول آه آه لا ادري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته

ثم انك تجد هؤلاء الذين يغلون بزعمهم في التوحيد حتى يعرضون عن الكتاب والسنة ويستخفون بحرمتهما ويعظم احدهم شيخه ومتبوعه اكثر مما يعظم الرسول وتحدهم يشركون بالله في استغاثتهم بغيره وخوفهم ورجائهم لغيره ومحبتهم لغيره فتجد فيهم من انواع الشرك الجلى والخفي التي نهى الله عنها ورسوله ما الله به عليم ومع هذا فيعرضون عما هو من تمام التوحيد زعما انهم يحققون التوحيد

واما اعتذار ابي القاسم عنه بأن الاخطار للاغيار بالإظافة الى قدر الحق متصاغرة فعذر باطل وذلك ان الشاهد للرسول بالرسالة لم يجعله ندا لله ولا شريكا له ولا ظهيرا حتى يفاضل بينهما

هذا الكلام يليق بمن يقول ان الله ثالث ثلاثة او يجعل الله شريكا وولدا او بمن يستغيث بمخلوق ويتوكل عليه او يعمل له او يشتغل به عن الله فيقال له فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا سورة مريم 65 ويقال له فاعبد الله مخلصا له الدين الا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه اولياء ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى ان الله يحكم بينهم يوم القيامة فيا هم فيه يختلفون سورة الزم 2 3 وقوله تعالى ام اتخذوا من دون الله شفعاء قل او لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جيمعا سورة الزمر 4443 الى امثال ذلك مما في كتاب الله من الآيات التي فيها تجريد التوحيد وتحقيقه وقطع ملاحظة الاغيار في العبادة والاستغاثة والدعاء والمسألة والتوكل والرجاء والخشية والتقوى والانابة ونحو ذلك مما هو من خصائص حق الربوبية التي لا تصلح لملك مقرب ولا نبي مرسل

فأما الايمان بالكتاب والرسول فهذا من تمام الايمان بالله وتوحيده لا يتم الا به وذكر الله بدون هذا غير نافع اصلا بل هو سعى ضال وعمل باطل لم يتنازع المسلمون في ان الرجل لو قال اشهد ان لا اله الا الله ولم يقر بان محمدا رسول الله انه لم يكن مؤمنا ولا مسلما ولا يستحق الا العذاب ولو شهد ان محمدا رسول الله لكان مؤمنا مسلما عند كثير من العلماء وبعضهم يفرق بين من كان معترفا بالتوحيد كاليهود ومن لم يكن معترفا به وبعضهم لا يجعله مسلما الا بالنطق بالشهادتين وهي ثلاثة اقوال معروفة في مذهب احمد وغيره

وهذا معنى ما يروي في بعض الآثار يا محمد تذكر ولا اذكر فأرضى واذكر ولا تذكر فاقبض يعني ذكره بالرسالة ومن ذكره بالرسالة فقد تضمن ذلك ذكر الله واما من ذكر الله ولم يذكره بالرسالة فإنه لا يكون مؤمنا وحيث جاء في الاحاديث يخرج من النار من قال لا اله الا الله واسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا اله الا الله مخلصا من قلبه ونحو ذلك فلأن ذلك مستلزم الايمان بالرسالة كما بيناه في غير هذا الموضع وانه لا تصح هذه الكلمة الا من المقرين بالرسالة وبما وقع فيه هؤلاء وامثالهم من ضعف الايمان بالكتاب والرسول وبعض انواع الضلالة والجهالة حتى في الشرك الذي زعموا انهم فروا منه فنسأل الله مقلب القلوب ان يثبت قلوبنا على دينه

وكذلك قول الشبلي لما سئل متى تستريح فقال اذا لم ار له ذاكرا وذكر هذا في الغيرة التي هي من طريق اولياء الله وعباده الصالحين من اعظم المنكرات ومن القول الذي يبغضه الله ورسوله واولياؤه من الاولين والآخرين ايغار المؤمن ان يذكر الله او يغار ان تنتهك محارم الله وليس لهذا القول وجه يحمد به واما قائله فلعله كان مسلوب العقل حين قال ذلك فقد كان كثيرا ما يزول عقله فان قصد به ان احدا لا يذكره كما يستحقه فالذي يستحقه هو العبادة التي هي حقه على عباده وهو لا يكلفهم اكثر من طاقتهم وهذا هو الذي يؤمرون به ويقبله الله منهم

وان قصد انهم يقصرون في الواجب فبعض الواجب خير من تركه كله وإن كان هذا لضيق في نفسه وحرج في فؤاده فهذا من الغيرة التى يبغضها الله ورسوله وهو شر من حسد ومما يشبه هذا ما ذكره له مرة بعد اصحابنا الفقراء وفيه خير ودين ومعرفة انه كان يصلي بالليل فقام آخر يصلي قال فأخذتني الغيرة فقلت له هذا حسد وضيق عطن وظلم ليس بغيره انما لغيره اذا انتهكت محارم الله والله تعالى واسع عليم يسع عباده الاولين والأخرين وهو يحب ذلك ويأمر به ويدعو اليه فكيف يبغض المؤمن ما يحبه

وهذا القدر واقع كثير من ارباب الاحوال حتى يقتل بعضهم بعضا ويعتدى بعضهم على بعض يؤذى بعضهم بعضا ويقولون هذا غيرة على الحق وانما هو تعدي لحدوده وظلم لعباده وصد عن سبيله وتمثيل فيه للحق تعالى بالمرأة او الامرد الذي يتغاير عليهم الفساق لضيق المحل غير الاشراك واصل ذلك من طلب الفساد والعلو في الارض وطلب الانفراد بالتأله لا لأجل الله لكن لاجل الاستعلاء في الارض فهو من الكبر والحسد من جنس ذنب ابليس وفرعون واخي ابن ادم لا من اعمال عوام الخلق فضلا عن مؤمنيهم فضلا عن اولياء الله المتقين