فكذلك الادعية هب ان من الناس من يسأل الله جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه طبعا وعادة لا شرعا وعبادة فليس من المشروع لي ان ادع الدعاء مطلقا لأجل تقصير هذا وتفريطه بل افعله انا شرعا وعبادة

ثم اعلم ان الذي يفعله شرعا وعبادة انما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه واخرته بخلاف الذي يفعله طبعا فإنه انما يطلب مصلحة دنياه فقط كما قال تعالى فمن الناس من يقول ربنا اتنا في الدنيا وما له في الاخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار اولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب سورة البقرة 200 202 وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار انما يطلب حسنة الاخرة فهو محمود

ومما يبين الامر في ذلك ان يرد قول هؤلاء بأن العبد لا يفعل مأمورا ولا يترك محظورا فلا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق ولا يحج ولا يجاهد ولا يفعل شيئا من الخير فإن ذلك انما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب فاذا كان هو لا يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة ولا دفع العقاب الذي هوالنار فلا يفعل مأمورا ولا يترك محظورا ويقول انا راض بكل ما يفعله بي وان كفرت وفسقت وعصيت بل يقول انا اكفر وافسق واعصي حتى يعاقبني وارضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه وهذا قول من هو اجهل الخلق واحمقهم واضلهم واكفرهم

اما جهله وحمقه فلأن الرضا بذلك ممتنع متعذر ولأن ذلك مستلزم الجمع بين النقيضين واما كفره فلأنه مستلزم لتعطيل دين الله الذي بعث به رسله وانزل به كتبه ولا ريب ان ملاحظة القضاء والقدر اوقعت كثيرا من اهل الارادة من المتصوفةفي ان تركوا من المأمور وفعلوا من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين وإما عاصين وإما فاسقين وإما كافرين وقد رأيت من ذلك الوانا ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور سورة النور 40

وهؤلاء والمعتزلة ونحوهم من القدرية في طرفي نقيض

هؤلاء يلاحظون القدر ويعرضون عن الامر واولئك يلاحظون الامر ويعرضون عن القدر والطائفتان تظن ان ملاحظة الامر والقدر متعذر كما ان طائفة تجعل ذلك مخالفا للحكمة والعدل

وهذه الاصناف الثلاثة هي القدرية المجوسية والقدرية المشركية القدرية الابليسية وقد بسطنا الكلام على هذه الفرق في غير هذا الموضع

واكثر ما يبتلى به السالكون اهل الاراداة والعامة في هذا الزمان هي القدريةالمشركية فيشهدون القدر ويعرضون عن الامر كما قال فيهم بعض العلماء انت عند الطاعة قدرى وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به وانما المشروع العكس وهوان يكون عند الطاعة يستعين الله عليها قبل الفعل ويشكره عليها بعد الفعل ويجتهد ان لا يعصى فإذا اذنب وعصى بادر الى التوبة والاستغفار

كما في الحديث سيد الاستغفار ان يقول العبد ابوء لك بنعمتك علي وابوء بذنبي فاغفر لي وكما في الحديث الصحيح الالهي يا عبادي انما هي اعمالكم احصيها لكم ثم اوفيكم اياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك لا يلومن الا نفسه

ومن هذا الباب دخل قوم من اهل الارادة في ترك الدعاء واخرون جعلوا التوكل والمحبة ونحو ذلك من مقامات العامة وامثال هذه الاغاليط التي قد تكلمنا عليها في غير هنا الموضع

وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك ولهذا وامثاله يوجد في كلام ائمة هؤلاء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة كقول سهل بن عبدالله التستري رحمه الله العمل بلا اقتداء عيش النفس والعمل بالاقتداء عذاب على النفس وقال كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وقال الجنيد بن محمد من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة وقال احمد بن ابي الحواري من عمل عملا بلا اتباع سنة رسول فباطل عمله

فصل في السكر واسبابه وأحكامه عدل

قد تكلمت فيما مضى من القواعد على معاني الفناء الموجود في كلام المشايخ والصوفية وانه ثلاثة اقسام قسم كامل للسابقين وقسم ناقص لأصحاب اليمين وقسم ثالث للظالمين الفاسقين والكافرين

فالأول الفناء عن عبادة ما سوى الله والاستعانة به بحيث لا يعبد الا الله ولا يستعين الا بالله وهذا هو دين الاسلام

والثاني الفناء عن شهود ما سوى الله بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده وهذا لمن لم يقدر على الجمع بين شهود الحقائق وعبادة الخالق بل ما شهده عنده ومعبوده واحد فمشهوده واحد وهذا يعتري كثيرا كالعيسوية من هذه الامة الذين لهم وصف العبادة دون الشهادة فلهم قوة في العبادة والانابة والمحبة يجتذبهم ذلك الى معبودهم ومقصودهم ومحبوبهم وليس لهم قوة مع ذاك على شهود سائر ما يقوم به من الكائنات وما يستحقه من الاسماء والصفات فهؤلاء اذا لم يتركوا واجبا لم يضرهم وان تركوا مستحبا مشتغلين عنه بما هو افضل منه لم ينقلوا عن مقامهم وان اشتغلوا عما تركوه من المستحب بما ليس مثله فانتقالهم الى ذلك الافضل افضل اذا امكن والا ففعل المقدور عليه من الصالحات خير من الاهتمام بما يعجز عنه ويصد عن غيره وان تركوا واجبا او فعلوا محرما مع امكان العلم والقدرة فهم مؤاخذون على ذلك وان كان مع سقوط التمييز لسبب يعذرون به مثل زوال عقل بسبب غير محظور او سكر بسبب غير محظور او عجز لا تفريط فيه فلا ذم عليهم وان كان مع التكليف فسبب الذم قائم ثم لهم حكم الله فيهم كما لسائر المؤمنين من كون الذنب صغيرا او كبيرا مقرونا بحسنات ماحية او غير ذلك من احكام السيئات مالم يخرجوا الى القسم الثالث وهو فناء الكافرين وهو جعل وجود الاشياء هو عين وجود الحق او جود نفسه عين وجوده كما بيناه من مذاهب اهل الحلول والاتحاد في غير هذا الموضع فان هذا كفر وصاحبه كافر بعد قيام الحجة عليه وان كان جاهلا او متأولا لم تقم عليه الحجة كالذي قال اذا انا مت فاحرقوني ثم ذروني في اليم فهذا امره الى الله تعالى

كما قال تعالى يا ايها الذين امنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون سورة النساء 43 فجعل الغاية التي يزول بها حكم السكر ان يعلم ما يقول فمتى كان لا يعلم ما يقول فهو في السكر واذا علم ما يقول خرج عن حكمه فهذا اصل يجب اعتماده وهذا هو حد السكران عند جمهور العلماء

قال احمد بن حنبل بما نقله عن سعيد بن جبير انه قال اذا لم يعلم بثيابه من ثياب غيره ولا نعله من نعال غيره فجعل ذلك عدم التمييز بين ثوبه وثوب غيره ويروي عن الشافعي انه قال اذا اختلط كلامه المنظوم وافشى سره المكتوم

فالسكر يجمع معنيين وجود لذة وعدم تمييز والذي يقصد السكر قد يقصد احدهما وقد يقصد كلاهما وهو اثم فإن النفس لها اهواء وشهوات تلتذ بنيلها وادراكها والعقل والعلم بما في تلك الافعال من المضرة في الدنيا والاخرة يمنعها عن ذلك فإذا زال العقل الحافظ انبسطت النفس في اهوائها

وحرم الله السكر لسببين ذكرهما الله في كتابه بقوله انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة سورة المائدة 91 فأخبر انه يوجب المفسدة الفاشية من النفس بعدم العقل ويمنع المصلحة التي لا تتم الا بالعقل التي خلق لها العبد وهي ذكر الله والصلاة

وقد يكون سبب السكر من الألم كما يكون من اللذة كما قال تعالى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد سورة الحج 2 فأخبر انهم يرون سكارى وما هم بسكارى

فإذا عرف ذلك فسبب السكر ما يوجب اللذة ويمنع العلم فمنه السكر بالأطعمه والاشربة المسكرة فإن طاعمها يحصل له بذلك لذة وسرور وهو الحامل لأكثر الناس على شربها ويغيب عقله فتغيب عنه الهموم والاحزان تلك الساعة

ومن الناس من يقصد المنفعة للبدن ولكن يحصل له من المضرة بالأفعال والأقوال التي تتولد عن السكر ويمنع عن المنفعة من ذكر الله والصلاة وغيرهما ما هو اعظم اثما من منفعتها فإن اللذة الحاصلة بذكر الله والصلاة باقية دافعة للهموم والاحزان ليس دفعه اياه وقت الصلاة فقط كما قال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة سورة البقرة 45 وقال ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر سورة العنكبوت 45 ففي هذه اللذة والمنفعة العظيمة الشريفة الدافعة للمضار ما يغني عن تلك القاصرة المانعة مما هو اكمل منها والجالبة لمضرة تربي عليها وهذا السكر جسماني

ومن السكر ما يكون بحب الصور اما النساء واما الصبيان فإنه اذا استحكم الحب وحصل للمحب اتصال فقد يسكر كما قال بعضهم ... سكران سكر هوى وسكر مدامة ... فمتى إفاقة من به سكران ...

ووقت الجماع ينقص تمييز اكثر الناس ايضا وهو مبدأ سكر

ومن السكر ايضا ما يكون بحب الرياسة والمال او شفاء الغيظ فإنه اذا قوى ذلك اوجب سكرا وانما كانت هذه الاشياء قد توجب سكرا لأن السكر شبيه ما يوجب اللذة القاهرة التي تغمر العقل

وسبب اللذة ادراك المحبوب فإذا كانت المحبة قوية وادراك المحب قويا والعقل والتمييز ضعيفا كان ذلك سببا للسكر لكن ضعف العقل تارة يكون من ضعف نفس الانسان المحب وتارة يكون من قوة السبب الوارد ولهذا يحصل من السكر للمبتدئين في ادراك الرياسة والمال والعشق والخمر ما لا يحصل لمن اعتاد ذلك وتمكن فيه

فصل عدل

ومن أقوى الأسباب المقتضية للسكر سماع الأصوات المريبة من وجهين من جهة انها في نفسها توجب لذة قوية ينغمر معها العقل ومن جهة أنها تحرك النفس إلى نحو محبوبها كائنا ما كان فتحصل بتلك الحركة والشوق والطلب مع ما قد تخيل المحبوب وتصوره لذات عظيمة تقهر العقل أيضا فتجتمع لذة الألحان والاشجان ولهذا يقرن سماع الألحان بالشرب كثيرا إما شراب الأجسام وإما شراب النفوس وإما شراب الأرواح وهو ما يقترن بالصوت من الأقوال التي فيها ذكر الحب والمحبوب وأحوالهما فإن سماع الأقوال شراب وغذاء وقوت للقلوب فيجتمع سماع الحروف الطيبة والاصوات الطيبة فإن ذلك اقوى مما اذا انفرد احدهما مثل سماع كلام يطيب للمستمع بلا اصوات ملحنة مثل من يناجي بحديث لحنه او يجهر به جهرا قريبا ومثل سماع اصوات طيبة لا حروف فيها كأصوات الطيور الطيبة واصوات الآلات المصنوعة من العيدان والاوتار والشبابة والصوت الذي يلحنه الآدمي بلا حروف ونحو ذلك فأما اذا اجتمع هذا وهذا فهو اقوى ويؤثر في النفوس تأثيرا عظيما كتأثير الخمر او اشد

فصل عدل

اذا تبين هذا فاعلم ان اللذة والسرور امر مطلوب بل هو مقصود كل حي وكونه امرا مطلوبا ومقصودا امر ضروري من وجود الحي وهو في المقاصد والغايات بمنزلة الحس والعلوم البديهية في المبادئ والمقدمات

فإن الانسان بل وكل حي له علم واحساس وله عمل وارادة فعلمه لا يجوز ان يكون كله نظريا استدلاليا يقف على الدليل بل لا بد له من علم بديهي اولى لأنه لو وقف كل علم على علم اخر لزم الدور او التسلسل فإنه اذا توقف العلم الثاني على علم اول فالأول ان توقف على ذلك الثاني بحيث لا يكون الا بعده لزم الدور وان توقف على شيء قبل ذلك الاول لزم التسلسل فلا بد من علم اول يحصل ابتداء بلا علم قبله ولا دليل ولا حجة ولا مقدمة

وذلك علم بده النفس وابتدئ فيها وهو اول فيسمى بديهيا واوليا وهو من نوع ما تضطر النفس اليه فيسمى ضروريا فإن النفس تضطر الى العلم تارة والى العمل اخرى

وذلك العمل الاختيار الارادي له مراد فذلك المراد اما ان يراد لنفسه او لشيء اخر ولا يجوز ان يكون كل مراد لغيره لانه ان كان الذي قبله دائما لزم الدور وان كان الذي بعده دائما لزم التسلسل فلا بد من مراد مطلوب محبوب لنفسه فإذا حصل المحبوب المطلوب المراد فاقتران اللذة والنعمة والفرح والسرور به على مقدار قوة محبته وارادته وقوته في نفسه امر ذوقي وجودي ضروري ولهذا غلب على كلام العباد الصوفية اهل الارادة والعمل اسم الذوق والسرور والنعمة

فالشهوة والارادة والمحبة والطلب ونحو ذلك من الاسماء المتقاربة اذا تعقبها الذوق والوجد والادراك والوصول والنيل والاصابة ونحو ذلك من الاسماء المتقاربة تعقب ذلك النعمة والسرور واللذة والطيب ونحو ذلك من الاسماء المتقاربة

فان جنس اللذة يتعقب ادراك الملائم المطلوب ليس هومدرك الملائم المطلوب كما يعتقده بعض اهل الفلسفة والكلام وكما غلب على اهل التصوف والعبادة ذكر ذلك وغلب على كلام العلماء المتكلمين اهل النظر والبحث والكلام اهل البديهة والنظر والضرورة والدليل والاستدلال

وكل واحد من هذين الامرين تحته اجناس واصناف بعضها حق وبعضها باطل فلهذا وجب اعتبار ذلك جميعه بالكتاب والسنة فخير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد

ولهذا كان ائمة الهدى ممن يتكلم في العلم والكلام او في العمل والهدى والتصوف يوصون باتباع الكتاب والسنة وينهون عما خرج عن ذلك كما امرهم الله والرسول وكلامهم في ذلك كثير منتشر مثل قول سهل بن عبد الله التستري كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل

فصل عدل

واذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي انما تذم اذا اعقبت الما اعظم منها او منعت لذة خيرا منها وتحمد اذا اعانت على اللذة المستقرة وهو نعيم الاخرة التي هي دائمة عظيمة كقوله تعالى وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوا منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر المحسنين ولأجر الاخرة خير للذين امنوا وكانوا يتقون سورة يوسف 56 57

وقال تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا والاخرة خير وابقى سورة الاعلى 16 17 وقال تعالى عن السحرة الذين امنوا فاقض ما انت قاض انما تقضي هذه الحياة الدنيا الى قوله والله خير وابقى سورة طه 72 73

والله سبحانه انما خلق الخلق لدار القرار وهي الجنة والنار فأما الدار الدنيا فمنقطعة ولذاتها لا تصفوا ولا تدوم ابدا بخلاف الاخرة فإن لذاتها ونعيمها صاف من الكدر دائم غير منقطع ليس فيها حزن ولا نصب ولا لغوب واهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يمتخطون بل فيها ما تشتهي الانفس وتلذ الاعين وهم فيها خالدون فشهوة النفوس ولذة العيون هو النعيم الخالص والخلود هو الدوام والبقاء فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة اعين جزاء بما كانوا يعملون سورة السجدة 17 فإن الله اعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما اطلعهم عليه

وهذا المعنى هو الذي قاله العبد الصالح حيث قال يا قوم اتبعوني اهدكم سبيل الرشاد ياقوم انما هذه الحياة الدنيا متاع وان الاخرة هي دار القرار سورة غافر 38 39 فأخبر ان الدنيا متاع نتمتع بها الى غيرها وان الاخرة هي المستقر

واذا عر ف ان لذات الدنيا ونعيمها انما هي متاع ووسيلة الى لذات الاخرة وكذلك خلقت فكل لذة اعانت على لذات الاخرة فهو مما امر الله به ورسوله ويثاب على تحصيل اللذة بما يئوب اليه منها من لذات الآخرة التي اعانت هذه عليها ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجه الله من اكله وشربه ولباسه ونكاحه وشفاء غيظه بقهر عدوه في الجهاد في سبيل الله ولذة علمه وايمانه وعبادته وغير ذلك ولذات جسده ونفسه وروحه من اللذات الحسية والوهمية والعقلية

وكل لذة اعقبت الما في الدار الاخرة او منعت لذة الاخرة فهي محرمة مثل لذات الكفار والفساق بعلوهم في الارض وفسادهم مثل اللذة التي تحصل بالكفر والنفاق كلذة الذين اتخذوا من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله ولذة عقائدهم الفاسدة وعباداتهم المحرمة ولذة غلبهم للمؤمنين الصالحين وقتل النفوس بغير حقها والزنا والسرقة وشرب الخمر ولهذا اخبر الله ان لذاتهم املاء ليزدادوا اثما وانها مكر واستدراج مثل اكل الطعام الطيب الذي فيها سم وهذا المعنى قد قررته ايضا في قاعدة السكر

واما اللذة التي لا تعقب لذة في دار القرار ولا الما ولا تمنع لذة دار القرار فهذه لذة باطلةاذ لا منفعة فيها ولا مضرة وزمانها يسير ليس لتمتع النفس بها قدر وهي لا بد ان تشغل عما هو خير منها في الاخرة وان لم تشغل عن اصل اللذة في الاخرة

وهذا هو الذي عناه النبي بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل الا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق رواه مسلم وكقوله لعمر لما دخل عليه وعنده جواري يضربن بالدف فأسكتهن لدخوله وقال ان هذا رجل لا يحب الباطل فإن هذا اللهو فيه لذة ولولا ذلك لما طلبته النفوس

ولكن ما اعان على اللذة المقصودة من الجهاد والنكاح فهو حق واما ما لم يعن على ذلك فهو باطل لا فائدة فيه ولكن اذا لم يكن فيه مضرة راجحة لم يحرم ولم ينه عنه ولكن قد يكون فعله مكروها لأنه يصد عن اللذة المطلوبة اذ لو اشتغل اللاهي حين لهوه بما ينفعه ويطلب له اللذة المقصودة لكان خيرا له والنفوس الضعيفة كنفوس الصبيان والنساء قد لا تشتغل اذا تركته بما هو خير منها لها بل قد تشتغل بما هو شر منه او بما يكون التقرب الى الله بتركه فيكون تمكينها من ذلك من باب الاحسان اليها والصدقة عليها كإطعامها واسقائها فلهذا قال النبي ان بعض انواع اللهو من الحق وكان الجواري الصغيرات يضربن بالدف عنده وكان يمكنهن من عمل هذا الباطل بحضرته احسانا اليهن ورحمة بهن وكان هذا الامر في حقه من الحق المستحب المأمور به وان كان هو في حقهن من الباطل الذي لا يؤمر احد سواهن به كما كان اعطاؤه المؤلفة قلوبهم مأمورا به في حقه وجوبا أو استجابا وإن لم مأمور به لأحد كما كان مزاحه مع من يمزح معه من الاعراب والنساء والصبيان تطييبا لقلوبهم وتفريحا لهم مستحبا في حقه يثاب عليه وان لم يكن اولئك مأمورين بالمزح معه ولا منهيين عن ذلك

فالنبي يبذل للنفوس من الاموال والمنافع ما يتألقها به على الحق المأمور ويكون المبذول مما يلتذ فيه الاخذ ويحبه لان ذلك وسيلة الى غيره ولا يفعل ذلك مع من لا يحتاج الى ذلك كالمهاجرين والانصار بل بذل لهم انواعا اخر من الاحسان والمنافع في دينهم ودنياهم

وعمر رضي الله عنه لا يحب هذا الباطل ولا يحب سماعه وليس هو مأمورا اذ ذاك من التأليف بما امر به النبي حتى تصبر نفسه على سماعه فكان اعراض عمر عن الباطل كمالا في حقه وحال النبي اكمل

ومحبة النفوس للباطل نقص لكن ليس كل الخلق مأمورين بالكمال ولا يمكن ذلك فيهم فإذا فعلوا ما به يدخلون الجنة لم يحرم عليهم ما لا يمنعهم من دخولها

وقد ثبت في الصحيح عن النبي انه قال كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء الا اربعة

هذا مع العلم بأن الجنة يدخلها كثير من النساء والرجال اكثر من الذين كملوا من الطائفتين

فصل عدل

فإذا تبين ان السكر مؤلف من امرين وجودي وهو اللذة وعدمي وهو عدم العقل والتمييز وقد تقدم الكلام على اللذة وان جنسها لا يذم إلا لمعارض راجح من فوات منفعة او دخول مضرة وتحمد اذا كانت مقصودة او معينة على المقصود

واما الوصف الاخر وهو عدم العقل والتمييز فهذا لا يحمد بحال من جهة نفسه فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله مدح وحمد لعدم العقل والتمييز والعلم

بل قد مدح الله العلم والعقل والفقه ونحو ذلك في غير موضع وذم عدم ذلك في مواضع مثل قوله تعالى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون سور الزمر 9

وقال وما يستوي الاحياء ولا الاموات سورة فاطر 22

وقال تعالى ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون اولئك الذين خسروا انفسهم وضل عنهم ما كانو يفترون الى قوله مثل الفريقين كالأعمى والاصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا افلا تذكرون سورة هود 24

وقال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اولئك كالأنعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون سورة الاعراف 179

وقال ام تحسب ان اكثرهم يسمعون او يعقلون ان هم الا كالانعام بل هم اضل سبيلا سورة الفرقان 44

وقال شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة واولوا العلم سورة آل عمران 18

وقال لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شئ علما سورة الطلاق 12

وقال فاعلم انه لا اله الا الله سورة محمد 19

وقال وقل رب زدني علما سورة طه 114

وقال اعلموا ان الله شديد العقاب وان الله غفور رحيم سورة المائدة 98

وقال افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها سورة محمد 24

وقال او لم ينظروا في ملكوت السموات والارض وما خلق الله من شيء سورة الاعراف 185 وقال فاعتبروا يا اولي الابصار سورة الحشر 2

وهذا كثير في القرآن يأمر ويمدح التفكر والتدبر والتذكر والنظر والاعتبار والفقه والعلم والعقل والسمع والبصر والنطق ونحو ذلك من انواع العلم واسبابه وكماله ويذم اضداد ذلك

فصل فإذا تبين أن جنس عدم العقل والفقه لا يحمد بحال في الشرع بل

يحمد العلم والعقل ويؤمر به أمر إيجاب أو أمر استجاب ولكن من العلم مالا يؤمر به الشخص نوعا أو عينا إما لأنه لا منفعة فيه له لأنه يمنعه عما ينفعه وقد ينهى عنه إذا كان فيه مضرة له وذلك ان من العلم مالا يحمله عقل الانسان فيضره كما قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون اتحبون ان يكذب الله ورسوله وقال عبد الله بن مسعود ما من رجل يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم الا كان فتنة لبعضهم

ومن الكلام ما يسمى علما وهو جهل مثل كثير من علوم الفلاسفة واهل الكلام والاحاديث الموضوعة والتقليد الفاسد واحكام النجوم ولهذا روى ان من العلم جهلا ومن القول عيا ومن البيان سحرا

ومن العلم ما يضر بعض النفوس لاستعانتها به على اغراضها الفاسدة فيكون بمنزلة السلاح للمحارب والمال للفاجر ومنه ما لامنفعة فيه لعموم الخلق مثل معرفة دقائق الفلك وثوابته وتوابعه وحركة كل كوكب فإنه بمنزله حركات التغير عندنا ومنه ما يصد عما يحتاج اليه فإن الانسان محتاج الى بعض العلوم والى اعمال واجبة فاذا اشتغل بما لا يحتاج اليه عما يحتاج اليه كان مذموما

فبمثل هذه الوجوه يذم العلم بكونه ليس علما في الحقيقة وان سماه اصحابه وغيرهم علما وهذا كثير حدا او يكون الانسان يعجز عن حمله او يدعوه ويعينه على ما يضره او يمنعه عما ينفعه

وقد يكون في حق الانسان لا محمودا ولا مذموما هذا كله في جنس العلم

وكذلك القوة التي بها يعلم الانسان ويعقل وتسمى عقلا فهذه لا يحمد عدمها ايضا الا اذا كان بوجودها يحصل ضرر فان من الناس من لو جن لكان خيرا له فإنه يرتفع عنه التكليف وبالعقل يقع في الكفر والفسوق والعصيان

فإن العقل قد يراد به القوة الغريزية في الانسان التي بها يعقل وقد يراد به نفس ان يعقل ويعى ويعلم

فالأول قول الامام احمد وغيره من السلف العقل غريزة والحكمة فطنة

والثاني قول طوائف من اصحابنا وغيرهم العقل ضرب من العلوم الضرورية

وكلاهما صحيح فإن العقل في القلب مثل البصر في العين يراد به الادراك تارة ويراد به القوة التي جعلها الله في العين يحصل بها الادراك فإن كل واحد من علم العبد واداركه ومن علمه وحركته حول ولكل منهما قوة ولا حول ولا قوة الا بالله

ولهذا تجد المشايخ الاصحاء من الصوفية يوصون بالعلم ويأمرون باتباعه كما تجد الاصحاء من اهل العلم يوصون بالعمل ويأمرون به لما يخاف في كل طريقة من ترك ما يجب من الاخرى

فصل عدل

فهكذا زوال العقل بالسكر هو من نوع زواله بالإغماء والجنون ونحو ذلك فهذا لا يؤمر به المؤمنون بحال ولا يحمد منهم وان حصل لهم مع ذلك ذوق ايماني ووجد عرفاني مما هو محمود ومأمور به فذاك هوالمحمود لا عدم العقل والتمييز

ولهذا لم يكن في الصحابة من حاله السكر لا عند سماع القرآن ولا عند غيره ولا تكلم الاولون بالسكر وانما تكلم به طائفة من متأخري الصوفية صار يحصل لهم نوع سكر بما في قلوبهم من الذوق والوجد مع سقوط التمييز والعقل ويفرقون بين الصحو والسكر

والسكر لهؤلاء هو من جنس الاغماء والغشي الحاصل عند السماع الذي حدث في بعض التابعين من البصريين وغيرهم فإن لسكر والاغماء والغشي كلها زوال العقل والتمييز لكن تفترق اسبابها واذواقها فقد يكون احد الذوقين والوجدين عن محبة ولذة وقد يكون عن خشية والم وقد يكون عن عجز عن الاداراك لفرط العظمة التي تجلت للإنسان كما وقع لموسى عليه السلام

فهذه الامور يجب ان يعرف انها ليست كمالا مطلقا كالفناء لكن يحمد ما فيها من الامور المحمودة الايمانية من ذوق او وجد ايماني مشروع او محبة ايمانية اوخشية ايمانية ولا يحمد منها ما زاد على المستحب وما شغل عن ما هو احب منه

ويذم منها ما تضمن ترك واجب من علم او عمل اوفعل محرم لكن اذا كان المذموم بغير تفريط من العبد ولا عن عدوان منه لم يذم منه

وكما ذكرت مثل ذلك في قاعة المولهين وعقلاء المجانين والمغلوبين في احوالهم ومن يسلم اليه حاله ومن لا يسلم اليه حاله فإن السكر نوع من الغلبة ويذم من لم يحصل له من هذه الاحوال ما يجب حصوله كما ينقص من عدم منها ما يستحب حصوله فهكذا يجب التفصيل في هذه الاحوال والله اعلم

فصل عدل

فقد تبين ان احد وصفي السكر منفعة في الاصل والوصف الاخر اثم كما قال تعالى عن الخمر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما سورة البقرة 219 وقد يقترن باللذة ما يمنع ان تكون مصلحة اذا استعين بها على اثم وعدوان كما يستعان بالاكل والشرب على الكفر والفسوق والعصيان وقد يقترن بعدم العقل ما يمنع ان يكون مفسدة اذا استعين به على ترك الاثم والعدوان

فالاصل حمد علم القلب وذوقه ولذته ما لم يشتمل على مفسدة راجحة بل وذوق الجسم ولذته مع علم القلب وعقله لأن هذه كلها خيرات فإن العلم خير وذوق القلب خير واللذة به خير لكن قد يعارضها ما يجعلها شرا

واذا لم يجتمع التمييز واللذة بل اما صحو بلا لذة او لذة بلا صحو فقد يترجح هذا تارة وهذا تارة فأما المؤمنون فالصحو خير لهم فإن السكر يصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع بينهم العداوة والبغضاء وكذلك العقل خير لهم لأنه يزيدهم ايمانا

واما الكفار فزوال عقل الكافر خير له وللمسلمين اما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة بل يصده عن الكفر والفسق واما للمسلمين فلأن السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء فيكون ذلك خيرا للمؤمنين وليس هذا اباحة للخمر والسكر ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما

ولهذا كنت امر اصحابنا ان لا يمنعوا الخمر عن اعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم واقول اذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة بل عن الكفر والفساد في الارض ثم انه يوقع بينهم العداوة والبغضاء وذلك مصلحة للمسلمين فصحوهم شر من سكرهم فلا خير في اعانتهم على الصحو بل قد يستحب او يجب دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره

فهذا في حق الكفار ومن الفساق الظلمة من اذا صحا كان في صحوه من ترك الواجبات واعطاء الناس حقوقهم ومن فعل المحرمات والاعتداء في النفوس والاموال ما هو اعظم من سكره فإنه اذا كان يترك ذكر الله والصلاة في حال سكره ويفعل ما ذكرته في حال صحوه وإذا كان في حال صحوه يفعل حروبا وفتنا لم يكن في شربه ما هو اكثر من ذلك ثم اذا كان في سكره يمتنع عن ظلم الخلق في النفوس والاموال والحريم ويمسح ببذل اموال تؤخذ على وجه فيه نوع من التحريم ينتفع بها الناس كان ذلك اقل عذابا ممن يصحو فيعتدى على الناس في النفوس والاموال والحريم ويمنع الناس الحقوق التي يجب اداؤها

فالحاصل انه تجب الموازنة بين الحسنات والسيئات التي تجتمع في هذا الباب وامثاله وجودا وعدما كما قررت مثل ذلك في قاعدة تعارض السيئات والحسنات فان السكر والصحو قد يكونان من هذا الباب وهكذا الكسر والصحو في الأذواق الايمانية والمواجيد العرفانية

فمن السالكين من اذا حصل له سكر حصل له فيه منفعة وايمان وان كان فيه من النقص وعدم التمييز مما يحتاج معه الى العقل ما فيه فيكون خيرا من صحو ليس فيه الا الغفلة عن ذكر الله وقسوة القلوب والكفر والفسوق والخيلاء ونحو ذلك من ترك الحسنات وفعل السيئات

واما الصحو المشتمل على العلم والايمان وتذوق صاحبه طعم الايمان ووجد حلاوته فهو خير من السكر بلا شك فعليك بالموازنة في هذه الاحوال والاعمال الباطنة والظاهرة حتى يظهر لك التماثل والتفاضل وتناسب احوال اهل الاحوال الباطنة لذوي الاعمال الظاهرة لا يسما في هذه الازمان المتأخرة التي غلب فيها خلط الاعمال الصالحة بالسيئة في جميع الاصناف لنرجح عند الازدحام والتمانع خير الخيرين وندفع عند الاجتماع شر الشرين

ونقدم عند التلازم تلازم الحسنات والسيئات ما ترجح منها فإن غالب رؤوس المتأخرين وغالب الامة من الملوك والامراء والمتكلمين والعلماء والعباد واهل الاموال يقع غالبا فيهم ذلك

واما الماشون على طريقة الخلفاء الراشدين فليسوا اكثر الأمة ولكن على هؤلاء الماشين على طريقة الخلفاء ان يعاملوا الناس بما امر الله به ورسوله من العدل بينهم واعطاء كل ذي حق حقه واقامة الحدود بحسب الامكان اذ الواجب هو الامر بالمعروف وفعله والنهي عن المنكر وتركه بحسب الامكان فإذا عجز اتباع الخلفاء الراشدين عن ذلك قدموا خير الخيرين حصولا وشر الشرين دفعا والحمد لله رب العالمين

فصل عدل

قال الله تعالى لما اهبط آدم ومن معه الى الارض قلنا اهبطا منها جميعا فأما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا فيها يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيه خالدون سورة البقرة 38 39

وقال تعالى فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه 123 126

وقال قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون يا بني آدم قد انزلنا عليكم لباسا يواري سؤاتكم وريشسا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من ايات الله لعلهم يذكرون يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج ابويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم انا جعلنا الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون سورة الاعراف 24 27

فأخبر سبحانه بنعمته على بني آدم بما انزله من اللباس الذي يواري سواءتهم ومن الريش وانزاله له كما قال وانزلنا الحديد سورة الحديد 25 وانزل لكم من الانعام سورة الزمر 6

وفي الحديث الصحيح عن النبي ما انزل الله داء الا انزل له شفاء

واخبر سبحانه ان لباس التقوى خير من هذا اللباس كما قال لما امرهم بالزاد فقال وتزودوا فإن خير الزاد التقوى سورة البقرة 197 فهما لباسان وزادان

ثم قال يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج ابويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما من سوءاتهما سورة الاعراف 27 فنهى بنى آدم أن يفتتنوا بفتنة الشيطان كما فتن أبويهما وذلك بمعصية الله وطاعة الشيطان في خلاف أمر الله ونهيه وأنه لما نزع عن الأبوين لبأسهم فكذلك قد ينزع عن الذرية لباس التقوى ولباس البدن ليريها سوءاتهما

قال تعالى أنه يراكم هو وقبيلة من حيث لا يرونهم إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون سورة الأعراف 27 فأخبر ان الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون بهدى الله الذي بعث به رسله

كما قال ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وانهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون انهم مهتدون حتى اذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين سورة الزخرف 36 38

وكذلك قال الشيطان فبعزتك لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين سورة 82 83 قال هذا صراط على مستقيم ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين سورة الحجر 41 42 وقال انه ليس له سلطان على الذين امنوا على ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون سورة النحل 99 100

وقال وان الشياطين ليوحون الى اوليائهم ليجادلوكم وان اطعتموهم انكم لمشركون سورة الانعام 121

ثم اخبر عن اولياء الشيطان الذين لا يؤمنون فقال واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء اتقولون على الله ما لا تعلمون سورة الاعراف 28 فقولهم والله امرنا بها يقتضي انهم متدينون بها يرونها عبادة وطاعة كما كان مشركو العرب يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها إلا الحمس قريش وحلفاؤها فكانوا يطوفون في ثيابهم وكان غيرهم قد يطوف في ثياب احمسى ان حصل له ذلك والا طاف عريانا حتى كانت المرأة تطوف عريانة وربما سترت فرجها بيدها وتقول ... اليوم يبدو بعضه او كله ... وما بدا منه فلا احله ...

وكان من طاف في ثيابه من الحمس القاها فسميت لقى وحرمت عليه

وكانوا ايضا في الاحرام لا يأكلون من الدهن الذي في الانعام ولهذا لما فتح النبي مكة وغزا تبوك انزل الله براءة وامره الله بالبراءة الى اهل العهد المطلق من الشرك وبسيرهم في الارض اربعة اشهر

وقال فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم سورة التوبة 5 فبعث النبي ابا بكر الصديق اميرا على الحاج وامره ان ينادي ان لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف عريان فكانوا يصرخون بها من الموسم كما ثبت ذلك في الصحيح وغيره في حديث ابي هريرة وغيره وهو من المتواتر واردفه النبي بعلي بن ابي طالب ان لا ينبذ للمعاهدين عهودهم لأن عادتهم كانت ان لا يقبلوا بنبذ العهد وحله الا من الكبير او بعض اهل بيته فأخرهم النبي اذ ذاك على عادتهم ليقبلوا ذلك وكان ابو بكر هو الامام الذي يقيم للناس مناسكهم ويصلي بهم ويحكم فيهم وعلى معه ليبلغ رسالة البراءة الى اهل العهود

فكان اولياء الشيطان اذا فعلوا هذه الفاحشة وهي ابداء السوءات في الطواف يحتجون بشيئين يقولون وجدنا عليها آباءنا وهذا هو الرجوع الى العادة والاتباع والتقليد للأسلاف ويقولون والله امرنا بها وهذا قول بغير علم

ولهذا قال تعالى قل ان الله لا يأمر بالفحشاء سورة الاعراف 28 فان الفحشاء قبيحة منكرة تنكرها القلوب بفطرتها والله لا يأمر بمنكر وهذا يقتضي ان الافعال القبيحة السيئة تكون على صفات تمنع معها ان الله يأمر بها وفي هذا نزاع معروف بين الناس بيناه في غير هذا الموضع

ثم قال اتقولون على الله ما لا تعلمون سورة الاعراف 28 أي اتقولون انه امر بهذا وانتم لا تعلمون انه امر به اذ ليس معكم الا عادة ابائكم ودينكم وانتم لا تعلمون ان الله انزل بهذا سلطانا

فهذه الاية يدخل فيها كل من تعبد بفاحشة وامر منكر وان احتج بالعادة التي لسلفه او زعم ان الله يأمر بذلك او لما يذكره من الاسباب كقول مشركي العرب هذه الثياب عصينا الله فيها فلا نطوف له فيها يريدون وقت العبادة ان يجتنبوا ثياب المعصية

وكذلك تقسيمهم الناس الى قسمين حمس وغير حمس واباحتهم للحمس ما يحرم على غيرهم من الطواف في الثياب ومن الطعام وعدم دخول البيوت المنقوبة في الاحرام من ابوابها واسقاطهم عن الحمس الافاضة من عرفة بالافاضة من مزدلفة

فمن هذا الباب ما يدعي قوم من اشراف بني هاشم ومن يزعمون انهم منهم لموافقتهم لهم على رأي كالتشيع وغيره انهم مختصون به في العبادات والمحظورات فهذا نظير ما كانت الحمس تدعيه

ومن هذا الباب ما يفعله قوم من المتزهدة من كشف سوءاتهم في سماعاتهم وحماماتهم او غير ذلك ويقولون هذا طريقنا وهذا في طريقنا فهذا مثل قولهم وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها

وابلغ من ذلك تعبد طوائف من المتزهدة والمتعبدة بمعاشرة الاحداث المردان والنساء الاجانب والنظر اليهم والخلوة بهم والمحبة والهوى فيهم وبما قد يكون وقد لا يكون وراء ذلك من الفاحشة الكبرى

وهذا ابتدأه المشركون من الصابئة وغير الصابئة الذين هم اولياء الشياطين الذين هم مشركون كما ذكر ابن سينا في إشاراته وزعم انه مما يعين على السلوك والتأله العشق العفيف واستماع الاصوات الملحنة كما ذكر ايضا الشرك بعبادة الصور ويذكر هو وطائفته عبادة الكواكب

وهذا في النصارى ايضا منه جانب قوي وهم ايضا قد ابتدعوا شركا لم ينزل الله به سلطانا كما قال تعالى اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما امروا الا ليعبدوا الها واحدا لا اله الا هو سبحانه عما يشركون سورة التوبة 31

ولهذا كثر هذا في طوائف الزهاد والعباد من هذه الامة من المبتدعة الخارجين عن الشريعة ورسالة محمد من هذا الوجه وان كانوا من وجه اخر داخلين فيها

فهذا شأن الطرائق المبتدعة كلها يجتمع فيها الحق والباطل ومن المعلوم ان هذا الذي يفعلونه من الفواحش الظاهرة او الباطنة

وقد قال تعالى قال انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون سورة الاعراف 33

وقال تعالى وذروا ظاهر الاثم وباطنه سورة الانعام 120

وقد قال في الصحيحين عن ابن عباس ابي هريرة عن النبي انه قال العينان تزنيان وزناهما النظر الاذنان تزنيان وزناهما السمع واللسان يزني وزناه النطق والقلب يتمنى ذلك ويشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه

فما كان من السمع والبصر واللسان في هذا الباب فهو من زناه والزنا من الفواحش والله لا يأمر بالفحشاء فالله تعالى لا يأمر ان يعبده ويتقرب اليه بالعشرة للمردان الصباح والنظر اليهم والاصغاء الى كلامهم ونحو ذلك اتقولون على الله مالا تعلمون سورة الاعراف 28

بل قد حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وان اتي هذه الفواحش معتقدا تحريمها فهو من المسلمين الذين قال فيهم النبي في حديث ابي ذر من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وان زنا وان سرق

فإن المسلم الذي يأتي بفاحشة اما ان يتوب الى الله ويستغفره فيدخل في قوله والذين اذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون اولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم اجر العاملين سورة ال عمران 135 136 وقال تعالى ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما سورة النساء 110

وقال تعالى واقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات سورة هود 114

وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ان رجلا اصاب من امرأة قبله فأتى رسول الله فذكر ذلك له فأنزل عليه واقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات الاية سورة هود 114 قال الرجل الى هذه الاية قال لمن عمل بها من امتي

وقد قال تعالى والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون سورة الشورى 37

وقال الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش الا اللمم ان ربك واسع المغفرة سورة نجم 32 قال ابن عباس ما رأيت شيئا اشبه باللمم مما قال ابو هريرة عن النبي ان العينين تزنيان وزناهما النظر وذكر الحديث

والمسلم اذا اتى الفاحشة لا يكفر وان كان كمال الايمان الواجب قد زال عنه كما في الصحيحين عن النبي انه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس اليه فيها ابصارهم وهو مؤمن

فأصل الايمان معه وهو قد يعود الى المعصية ولكنه يكون مؤمنا اذا فارق الدنيا كما في الصحيح عن عمر ان رجلا كان يدعي حمارا وكان يشرب الخمر وكان كلما اتي به الى النبي امر بجلده فقال رجل لعنه الله ما اكثر ما يؤتى به الى النبي فقال النبي لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله فشهد له بأنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته كما تقدم في الحديث الاخر الصحيح وان زنا وان سرق

وذلك ان معه اصل الاعتقاد ان الله حرم ذلك ومعه خشيه عقاب الله ورجاء رحمة الله وايمانه بأن الله يغفر الذنب ويأخذ به فيغفر الله له به

كما في الصحيح عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم

وقال اذنب عبد ذنبا فقال أي رب اني اذنبت ذنبا فاغفر لي فقال ربه علم عبدي ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم اذنب ذنبا اخر فقال أي رب اذنبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه علم عبدى أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدى ثم أذنب ذنبا آخر فقال أي رب قد اذنبت ذنبا فاغفره لي فقال علم عبدي ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء

وكذلك في الصحاح من غير وجه حديث الذي لم يعمل خيرا قط وقال لأهله اذا انا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم ريح الحديث فقال الله له ما حملك على ما فعلت قال خشيتك يا رب فغفر الله له بتلك الخشية

وكذلك من افضل اعمال المؤمن التوبة كما قال النبي للغامريه التي اقرت بالزنا حتى رجمها لقد تابت توبة لو تابها مكس لغفر له وهل وجدت توبة افضل من ان جادت بنفسها لله

وحديث صلاة التوبة محفوظ في السنن عن علي عن ابي بكر الصديق عن النبي انه قال ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله الا غفر له وقرأ هذه الاية والذين اذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا الله سورة آل عمران 135

وهذا باب واسع فان الذنوب التي يبتلى بها العباد يسقط عنهم عذابها اما بتوبة تجب ما قبلها واما باستغفار واما بحسنات يذهبن السيئات واما بدعاء المسلمين وشفاعتهم او بما يفعلونه له من البر واما بشفاعة النبي وغيره فيه يوم القيامة واما ان يكفر الله خطاياه بما يصيبه من المصائب فقد تواتر عن النبي ان ما يصيب المسلم من اذى شوكة فما فوقها الا حط الله بها خطاياه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها