قال أبو القاسم القشيرى سمعت أبا حاتم السجستانى يقول سمعت أبا نصر الطوسى السراج يحكي عن يوسف بن الحسين قال قام رجل بين يدي ذى النون فقال أخبرني عن التوحيد ما هو فقال أن تعلم أن قدرة الله فى الأشياء بلا مزاج و صنعه للأشياء بلا علاج و علة كل شئ صنعه و لا علة لصنعه و ليس في السموات العلا و لا فى الأرضين السفلى مدبر غير الله و كل ما تصور فى وهمك فالله بخلافه

هذا الكلام غالبه في ذكر فعل الحق سبحانه و ربوبيته أخبر أنه رب كل شئ لا مدبر غيره ردا على القدرية و نحوهم ممن يجعل بعض الأشياء خارجة عن قدرة الله و تدبيره و أخبر أن قدرته و صنعه ليس مثل قدرة العباد و صنعهم فإن قدرة أبدانهم عن امتزاج الأخلاط و أفعالهم عن معالجة و الله تعالى ليس كذلك

وأما قوله علة كل شئ صنعه و لا علة لصنعه فقد تقدم أن هذا يريد به أهل الحق معناه الصحيح أن الله سبحانه لا يبعثه و يدعوه إلى الفعل شئ خارج عنه كما يكون مثل ذلك للمخلوقين فليس له علة غيره بل فعله علة كل شئ ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن

ومقصود أبى القاسم يبين أن القوم لم يكونوا على رأى القدرية من المعتزلة و هذا حق فما نعلم فى المشايخ المقبولين فى الأمة من كان على رأى المعتزلة لا في قولهم في الصفات بقول جهم و لا في قولهم في الأفعال بقول القدرية بل هم أعظم الناس إثباتا للقدر و شهودا له وافتقارا إلى الله و التجاء إليه حتى أن من المنتسبين إلى الطريق من غلوا في هذا حتى يذهب إلى الإباحة والجبر ويعرض عن الشرع والأمر والنهى فهذه الآفة توجد كثيرا في المتصوفة والمتفقرة وأما التكذيب بالقدر فقليل فيهم جدا

ثم ذكر عنهم في الإيمان كلمتين يدل بهما على أن الإيمان عندهم مجرد التصديق وليس هذا مذهب القوم بل الذي حكاه عن الجنيد فقال وقال الجنيد التوحيد علمك وإقراراك بأن الله فرد في أزليته لا ثاني معه ولا شئ يفعل فعله وقال أبو عبد الله بن خفيف الإيمان تصديق القلوب بما أعمله الحق من الغيوب

وهذا المذكور عن الجنيد وابن خفيف حسن وصواب لكن لم يدل على أن أعمال القلوب ليست من الإيمان

ثم ذكر عنهم في مسألة الاستثناء في الإيمان شيئا حسنا فقال وقال أبو العباس السيارى عطاؤه على نوعين كرامة واستدارج فما أبقاه عليك فهو كرامة وما أزاله عنك فهو استدراج فقل أنا مؤمن إن شاء الله تعالى

قال ابو العباس السياري كان شيخ وقته

وقال سمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول غمز رجل رجل أبى العباس السياري فقال تغمز رجلا ما نقلتها قط في معصية الله تعالى

قال وقال أبو بكر الواسطى من قال أنا مؤمن بالله حقا قيل له الحقيقة تشير إلى إشراف واطلاع وإحاطة فمن فقده فقد بطل دعواه منها

قال أبو القاسم يريد بذلك ما قاله أهل السنة من أن المؤمن الحقيقي من كان محكوما له بالجنة فمن لم يعلم ذلك من سر حكمة الله تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقا غير صحيحة

قلت الاستثناء في الايمان سنة عند عامة أهل السنة وقد ذكره طائفة من المرجئة وغيرهم وأوجبه كثير من أهل السنة ومن وجوهه وجهان حسنان

أحدهما أن الإيمان الذي أوجبه الله على العبد من الامور الباطنة او الظاهرة لا يتيقن أنه أتى بها على الوجه الذي أمر به كاملا بل قد يكون أخل ببعضه فيستثنى لذلك

والوجه الثاني ان المؤمن المطلق من علم الله أنه يوافى بالإيمان فأما الإيمان الذي تتعقبه الردة فهو باطل كالصوم والصلاة الذي يبطل قبل فراغه فلا يعلم العبد أنه مؤمن حتى يقضى جميع إيمانه وذلك إنما يكون بالموت

وهذا معنى ما يروى عن ابن مسعود أنه قيل له إن فلانا يقول إنه مؤمن قال فقولوا له اهو في الجنة فقال الله أعلم قال فهلا وكلت الاولى كما وكلت الثانية

وهذا الوجه تختاره طائفة من متكلمي أهل الحديث المائلين إلى الإرجاء كالأشعري وغيره ممن يقول بالاستثناء ولا يدخل الاعمال في مسمى الايمان فيجعل الاسثثناء يعود إلا إلى النوايا فقط وهو الذي ذكره أبو القاسم وفسر به كلام أبي بكر الواسطي وكلام الواسطي يحتمل الوجهين جميعا فإن الإشراف والاطلاع قد يكون على الحقيقة التي هي عند الله في هذا الوقت وقد يكون على ما يوافى به العبد وأما كلام أبي العباس فظاهر في أنه راعى الخاتمة

فإن قيل فإذا كان القدر السابق لا ينافى الأسباب فما وجه ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فقال النبي يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو دع

فهذا يقتضى أن اختصاءه الذي قصد أن يمتنع به من الفاحشة لا يدفع المقدور

وكذلك في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أنهم سألوا النبي عن العزل فقال النبي لا عليكم أن تفعلوا فما من نسمة كتب الله أن تكون إلا وهي كائنة فهذا يقتضى ان عزل الماء وهو سبب لعدم العلوق لا فائدة فيه لدفع ما كتبه الله من الاولاد

وفي الصحيحين عن ابن عباس وهو في مسلم عن عمران بن حصين وهذا لفظه أن النبي قال يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب قال ومن هم يا رسول الله قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون

فقال عكاشة ادع الله يجعلني منهم قال أنت منهم فقام رجل فقال يا نبي الله ادع الله ان يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة

فقد جعل التوكل ها هنا موجبا لترك الاكتواء والاسترقاء وهما من الأسباب

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال قالت ام حبيبة زوج النبي اللهم امتعنى بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية قال فقال النبي قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة لن يعجل الله شيئا قبل أجله ولن يؤخر شيئا عن أجله ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرا وأفضل قال وذكرت عنده القردة والخنازير هي من مسخ فقال إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك

وفي رواية قال رجل يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ فقال النبي إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا فهذا الحديث أخبر فيه أن الدعاء وهو من الأسباب لا يفيد في إطالة الأعمار ويفيد في النجاة من عذاب الآخرة

قيل ليس كل ما يظنه الإنسان سببا يكون سببا وليس كل سبب مباحا في الشريعة بل قد تكون مضرته أعظم من منفعته فينتهي عنه وليس كل سبب مقدورا للعبد فالعبد يؤمر بالسبب الذي أحبه الله ويؤذن له فيما أذن الله فيه مع أمره بالتوكل على الله تعالى فأما ما لا قدرة له فيه فليس فيه إلا التوكل على الله والدعاء له وذلك من أعظم الأسباب التي يؤمر بها العبد أيضا

وما كان من الأسباب محرما لرجحان فساده على صلاحه أو غير نافع لا يفيد بل يظن أنه نافع فإنه لا يؤمر به أيضا فلا يؤمر بما لا فائدة فيه وما كان فساده راجحا نهى عنه

وجماع الأمر أن الأسباب إما أن تكون مقدورة أو غير مقدورة فغير المقدور ليس فيه إلا الدعاء والتوكل والمقدور إما أن يكون فساده راجحا أو لا يكون فإن كان فساده راجحا نهى عنه وإن لم يكن فساده راجحا فينهى عنه كما ينهى عن إضاعة المال والعبث وأما السبب المقدور النافع منفعة راجحة فهو الذي ينفع ويؤمر فقه به ويندب اليه الأحاديث

وايضا فينبغى أن التوكل على الله من أعظم الأسباب فربما كان بعض الأسباب يضعف التوكل فإذا ترك ذلك كمل توكله فهذا التقسيم حاصر والقدر يأتى على جميع الكائنات وبهذا يتبين فقه الأحاديث

أما حديث الاختصاء فإن الاختصاء محرم لرجحان مفسدته وقد ثبت في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال زجر رسول الله عثمان بن مظعون عن التبتل ولو أذن لاختصينا

وبين النبي أنه مع ركوب الاختصاء المحرم لا يسلم من الزنا بل لا بد أن يفعل ما كتب عليه منه كما في الصحيحين عن النبي أنه قال كتب الله على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر واللسان يزني وزناه المنطق والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها الخطا والنفس تتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه

وأما حديث العزل فالعزل لا يمنع انعقاد الولد ولا تركه يوجب الولادة ولهذا لو عزل عن سريته وأتت بولد ألحق به فإن الماء سباق مع ما فيه من ترك لذة الجماع فأخبر النبي بأن الولد المكتوب يكون عزلت أو لم تعزل كما قال ليس من كل الماء يكون الولد فلا يكون ترك العزل سببا للولادة ولا العزل سببا لمنعها والقدر ماض بالأمرين فلا فائدة فيه

ومثل هذا ما ثبت في الصحيح أنه نهى عن النذر وقال لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل فأخبر أن النذر ليس من الأسباب التي تجتلب بها المنفعة وتدفع بها المضرة ولكن نلقيه إلى ما قدر له فنهى عنه لعدم فائدته

وأما حديث السبعين ألفا فلم يصفهم بترك سائر التطبب وإنما وصفهم بترك الاكتواء والاسترقاء والاكتواء مكروه وقد نهى عنه في غير هذا الحديث لما قال وأنا أنهى أمتي عن الكى والمسترقى لم يفعل شيئا إلا اعتماده على الراقى فتوكله على الله سبحانه وحده لا شريك له أنفع له من ذلك

وهذا الجواب الآخر وهو ان المسترقى يضعف توكله على الله فإنه إنما طلب دعاء الغير ورقيته فاعتماد قلبه على الله وحده وتوكله عليه أكمل لإيمانه وأنفع له

وأما حديث أم حبيبة ففيه أن الدعاء يكون مشروعا نافعا في بعض الأشياء دون بعض وكذلك هو ولهذا لا يحب الله المعتدين في الدعاء فالاعمار المقدرة لم يشرع الدعاء بتغييرها بخلاف النجاة من عذاب الآخرة فإن الدعاء مشروع له نافع فيه وقد كتبت مسألة زيادة العمر بصلة الرحم في غير هذا الموضع ولا يلزم من تأثير صلة الرحم ونحو ذلك أن يزيد العمر كما قد يقال بزيادة العمر بتأثير الدعاء ولذلك كان يكره أحمد أن يدعى له بطول العمر ويقول هذا فرغ منه

ثم ذكر ما جاء في الرؤية قال أبو القاسم سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى رحمه الله يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا الحسن العنبرى يقول سمعت سهل ابن عبد الله التسترى يقول ينظر إليه تعالى المؤمنون بأبصار من غير إحطة ولا إدراك نهاية

وهذا الكلام من أحسن الكلام وكلام سهل بن عبد الله في السنة وأصول الاعتقادات أسد وأصوب من كلام غيره وكذلك الفضيل ابن عياض ونحوه فإن الذين كانوا من المشايخ أعلم بالحديث والسنة واتبع لذلك هم أعظم علما وإيمانا وأجل قدرا في ذلك من غيرهم

وقول سهل ولا إدراك نهاية يتضمن شيئين أحدهما نفى الإدراك الذي نفاه الله عنه يجمع بين ما أثبته الكتاب والسنة وما نفاه والثاني أنه نفى إدراك النهاية ولم ينف نفس النهاية وهذا في الظاهر يخالف قول أبي القاسم لا حد لذاته

ثم قال أبو القاسم قال أبو الحسين النوري شاهد الحق القلوب فلم ير قلبا أشوق إليه من قلب محمد فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة

وقصده بهذه الحكاية إثبات رؤية محمد ربه ليلة المعراج وهذا هو قول أكثر أهل السنة أنه رأى ربه بفؤاده

ثم ذكر ما جاء في العلو فقال سمعت الإمام أبا بكر محمد بن الحسن بن فورك يقول سمعت محمد بن المحبوب خادم أبي عثمان المغربي يقول قال لي أبو عثمان المغربي يوما يا محمد لو قيل لك أين معبودك إيش تقول قلت أقول حيث لم يزل قال فإن قال فأين كان في الأزل إيش تقول قلت أقول حيث هو الآن قال يعنى أنه كان ولا مكان فهو الآن على ما عليه كان فارتضى منى ذلك ونزع قميصه وأعطانيه

وقال أبو القاسم سمعت أبا بكر بن فورك يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول كنت أعتقد شيئا من حديث الجهة فلما قدمت بغداد زال ذلك عن قلبي فكتبت إلى أصحابنا بمكة أنى أسلمت الآن إسلاما جديدا

قلت هذا الكلام الذي ذكره عن أبي عثمان كلام مجمل ليس فيه دليل على انه كان يقول ليس فوق السماوات رب ولا هناك إله كما يقول من يقول إن الله ليس فوق العرش وقد يعبر عن ذلك بعضهم بأنه ليس في الجهة بل إقراره لخادمه على جواب السائل له أين معبودك يخالف ما ذكره أبو القاسم الذي قال في خطبة كتابه تعالى عن ان يقال كيف هو أو أين هو فلو أراد ما ذكره أبو القاسم لقال لا يقال أين هو بل قال حيث لم يزل وهذا لا يوافق قول من يقول ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا هو فوق العرش ولا في جهة لأن قوله حيث لم يزل إخباره بأنه حيث لم يزل وحيث ظرف من ظروف المكان لا يطلق إلا على الجهة والحيز وعند النفاة لا يقال حيث لم يزل ولا كان في الأزل بحيث

وكذلك قوله فإن قال فأين كان في الأزل فقال اقول حيث الآن لا يستقيم عند من ينفى الجهة فإنه لا يقال أين كان في الأزل ولا يقال حيث الآن بل هذا السؤال والجواب ممتنع عندهم وإن كانوا في ذلك مخالفين للنصوص وإجماع السلف وأئمة الدين فإن النبي سأل بأين فقال أين الله فقال له المسئول في السماء فحكم بأيمان من قال ذلك وكذلك سئل فقيل له أين كان ربنا قبل ان يخلق السماوات والأرض فأجاب عن ذلك ولكن جواب أبى عثمان يوافق قول أهل الإثبات وهم أهل الفطرة العقلية السليمة من الاولين والآخرين الذين يقولون إنه فوق العالم إذ العلم بذلك فطرى عقلى ضروري لا يتوقف على سمع

أما العلم بأنه استوى على العرش بعد ان خلق السماوات والأرض في ستة أيام فهذا سمعي إنما علم من جهة أخبار الأنبياء ولهذا شرع الله تعالى لأهل الملل الاجتماع كل أسبوع يوما واحدا ليكون الأسبوع الدائر دليلا على الأسبوع الذي خلق الله فيه السماوات والأرض ثم استوى على العرش ولهذا لا يعرف الأسبوع إلا من جهة أهل الكتب الإلهية بخلاف اليوم فإنه معلوم بالحس وكذلك الشهر والسنة يعلم بالحس وسيرالقمر فيعلم بالحس و الحساب و أما الأسبوع فليس له سبب حسى و كذلك لا يوجد لأيام الأسبوع ذكر عند الأمم الذين لا كتاب لهم و لا أخذوا عن أهل الكتب كالترك الباقين في بواديهم في لغتهم اسم اليوم و الشهر و السنة دون أيام الأسبوع بخلاف الفرس و نحوهم ممن أخذ عن المرسلين فإن في لغتهم أيام الأسبوع

و أهل الإثبات منازعون في أن الاستواء هل هو مجرد نسبة و إضافة بين الله و بين العرش من غير أن يكون الباري تصرف بنفسه بصعود أو علو و نحو ذلك أو هو يتصرف بنفسه و أنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا

وكذلك استواؤه إلى السماء و نزوله و نحو ذلك عن قولين مشهورين

والأول قول كثير ممن يميل إلى الكلام و قول طائفة من الفقهاء و الصوفية

والثاني قول أهل الحديث و قول كثير من أهل الكلام و الفقهاء و الصوفية

فكلام أبي عثمان ظاهرة يوافق القول الأول و أما الذي كان يعتقده في الجهة ثم رجع عنه فهو أمر مجمل لم يذكره فلعله كان يعتقد من التجسيم و التمثيل ما يقوله أهل الضلال من الرافضة و المجسمة فرجع عن ذلك فإن هذا ممكن و لعله كان يعتقد أن البارى تعالى محصور في السموات تظله و تقره و أنه مفتقر إلى عرش يحمله فرجع عن ذلك

وأعظم ما يقال إنه كان يعتقد أن الاستواء من الصفات الفعلية المتجددة أنه يفعله بنفسه ثم رجع عن ذلك إلى أنه على ما كان عليه مع كونه مستويا على العرش لكنه خلق العرش بعد أن لم يكن مخلوقا فيلزم أن يكون موصوفا بأنه فوق العرش و هذا يقوله كثير من المثبتة و إن كان هذا ليس موضع الكلام فيه

فأما أن يقال إن أبا عثمان رجع عن اعتقاد علو الله على خلقه و أنه سبحانه بائن عن مخلوقاته عال عليهم فليس في كلامه ما يفهم منه ذلك بحال ثم لو فرض أن أبا عثمان قال قولا فيه غلط لم يصلح أن يجعل ذلك أصلا لاعتقاد القوم فإن كلام أئمة المشايخ المصرح بأن الله فوق العرش كثير منتشر فإذا وجد عن بعضهم ما يخالف ذلك كان ذلك خلافا لهم

والصوفية يوجد فيهم المصيب و المخطئ كما يوجد في غيرهم و ليسوا في ذلك بأجل من الصحابة و التابعين و ليس أحد معصوما في كل ما يقوله إلا رسول الله

نعم وقوع الغلط في مثل هذا يوجب ما نقوله دائما إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق فإن الله يغفر له خطأه وإن حصل منه نوع تقصير فهو ذنب لا يجب ان يبلغ الكفر وإن كان يطلق القول بأن هذا الكلام كفر كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية مثل القول بخلق القرآن أو إنكار الرؤية أو نحو ذلك مما هو دون إنكار علو الله على الخلق وأنه فوق العرش فإن تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور فإن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي تكفر تاركها

كما ثبت في الصحاح عن النبي في الرجل الذي قال إذا أنا مت فأحرقوني ثم استحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله على ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فقال الله له ما حملك على ما فعلت قال خشيتك فغفر له

فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شك وأنه لا يبعثه وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة لكنه كان يجهل ذلك ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده فخاف من عقابه فغفر الله له بخشيته

فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالا من الرجل فيغفر الله خطأه أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم

فقد ثبت في الصحيح عن ثابت بن الضحاك عن النبي قال لعن المؤمن كقتله ومن رمى مؤمنا بالكفر فهو كقتله

وثبت في الصحيح أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد فإن ذلك أعظم من قتله إذ كل كافر يباح قتله وليس كل من أبيح قتله يكون كافرا فقد يقتل الداعي إلى ىبدعة لإضلاله الناس وإفساده مع إمكان أن الله يغفر له في الآخرة لما معه من الإيمان فإنه قد تواترت النصوص بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان

وقد رواه مسلم في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال بينا جبريل قاعدا عند النبي إذ سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته

وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله سورة البقرة 284 دخل في قلوبهم منها شئ لم يدخل قلوبهم من شئ فقال النبي قولوا سمعنا وأطعنا قال فألقى الله الايمان في قلوبهم فأنزل الله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة 286 قال قد فعلت

وكلام المشايخ في مسألة العلو كثير مثل ما ذكر محمد بن طاهر المقدسي الحافظ الصوفي المشهور الذي صنف للصوفية كتاب صفة التصوف ومسألة السماع وغير ذلك ذكر عن الشيخ الجليل أبي جعفر الهمداني أنه حضر مجلس أبي المعالي الجويني وهو يقول كان الله ولا عرش وهو على ما عليه كان أو كلاما من هذا المعنى فقال يا شيخ دعنا من ذكر العرش أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد من قلبه ضرورو بطلب العلو ولا يلتفت يمنة ولايسرة فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا قال فصرخ أبو المعالى ولطم على رأسه وقال حيرني الهمدانى حيرني الهمداني

وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الاصبهاني شيخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة قبل القشيري في رسالة له أحببت أن أوصى أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها اوإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول وأنه عز و جل مستو علىعرشه بائن من خلقه والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وأن الله سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فآستجيب له هل من مستغفر فآستغفر له هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال

ثم ذكر كلامهم في القدر قال أبو القاسم سمعت محمد ابن الحسين السلمى يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول وقد سئل عن الخلق فقال قوالب وأشباح تجري عليهم أحكام القدرة

قال وقال الواسطي لما كانت الأرواح والأجساد قامتا بالله وظهرتا به لا بذواتها كذلك قامت الخطرات والحركات بالله لا بذواتها إذ الخطرات والحركات فروع جساد والأرواح

قال أبو القاسم صرح بهذا الكلام أن أكساب العباد مخلوقة لله وكما أنه لا خالق للجواهر إلا الله فكذلك لا خالق للأعراض إلا الله

وهذا الذي قاله صحيح وهو متفق عليه بين المشايخ لا يعرف منهم من أنكر شيئا من أصول السنة في مسائل القدر

وقال سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السامي يقول سمعت محمد بن عبد الله سمعت أبا جعفر الصيدلاني سمعت أبا سعيد الخراز يقول من ظن أنه ببذل الجهد يصل فمتعن ومن ظن أنه بغير الجهد يصل فمتمن

وهذا كلام حسن كما قال النبي في الحديث الصحيح احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شئ فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل ما قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان

وقال لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته

ثم قال وقال الواسطي المقامات أقسام قسمت ونعوت أجريت كيف تستجلب بحركات أو تنال بسعايات

وهذا الكلام الظاهر ليس بجيد بل هو مردود وهذه المسألة بعينها سئل عنها النبي كما ثبت عنه في الأحاديث الصحاح من حديث عمران بن حصين وعلى ابن أبي طالب وغيرهما لما أخبر بالقدر فقالوا ألا ندعو العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له

وفي الصحيحين عن علي بن ابي طالب قال كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخسرته ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل السعاده واما من كان من أهل الشقاء فسيصير لعمل الشفاء ثم قرأ فأما من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى فسنيسره لليسرى سورة الليل 6

و في الصحيح عن عمران بن حصين قال قال رجل يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال فلم يعمل العاملون قال كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له و في رواية كل ميسر لما خلق له

وفي صحيح مسلم من حديث أبي الأسود الدئلي قال قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه أشئ قضى عليهم و مضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم و ثبتت الحجة عليهم فقلت بل شئ قضى عليهم و مضى عليهم قال فقال أفلا يكون ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا و قلت كل شئ خلق الله و ملك يده فلا يسأل عما يفعل و هم يسألون فقال لي يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه أشئ قضى عليهم و مضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون منه مما أتاهم به نبيهم و ثبتت الحجة عليهم قال لا بل شئ قضى عليهم و مضى فيهم و تصديق ذلك في كتاب الله و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها سورة الشمس 6 7

وفي السنن حديث عمر أنه سئل عن تفسير الآية و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم سورة الاعراف 172 قال عمر رضىالله عنه سمعت رسول يقول إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فأستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة و بعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فأستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل ففيم العمل يا رسول الله فقال رسول الله إن الله إذا خلق العبد للنار استعمله بعمل اهل النار حتى يموت على عمل من أعمال النار فيدخل به النار وإذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة فيدخله به الجنة

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام و جرت به المقادير أم فيما يستقبل قال لا بل فيما جفت به الأقلام و جرت به المقادير قال ففيم العمل فقال اعملوا فكل ميسر و فى لفظ كل عامل ميسر لعمله

وفي السنن عن ابن أبي خزامة عن أبيه قال قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هي من قدر الله

فهذه السنن وغيرها تبين أن الله سبحانه وإن كان قد تقدم علمه وكتابيه وكلامه بما سيكون من السعادة والشقاوة فمما قدره أن يكون ذلك بالأسباب التي قدرها فالسعادة بالأعمال الصالحة والشقاوة بالفجور وكذلك الشفاء الذي يقدره للمريض يقدره بالأدوية والرقى وكذلك سائر ما يقدر من أمر الدنيا والآخرة

فقول القائل كيف تستجلب الأقسام بالحركات جوابه ان الأقسام تناولت الحركات كما تناولت السعادات والله تعالى قدر ان يكون هذا بهذا فإذا ترك العبد العمل ظانا أن السعادة تحصل له كان هذا الترك سببا لكونه من أهل الشقاوة

وهنا ضل فريقان فريق كذبوا بالقضاء والقدر وصدقوا بالأمر والنهى وفريق آمنوا بالقضاء ولاقدر لكن قصروا في الأمر والنهى وهؤلاء شر من الأولين فإن هؤلاء من جنس المشركين الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا سورة الأنعام 148 وأولئك من جنس المجوس

لكن إذا عنى بهذا الكلام أن العبد لا يتكل على عمله ولا يظن أنه ينجو بسعيه فهذا معنى صحيح فالأسباب التي من العباد بل ومن غيرهم ليست موجبات لا لأمر الدنيا ولا لأمر الآخرة بل قد يكون لا بد منها ومن أمور أخرى من فضل الله ورحمته خارجة عن قدرة العبد وما ثم موجب إلا مشيئة الله فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن

وكل ذلك قد بينه النبي وهو معروف عند من نور الله بصيرته

وأما التفريق بين المقدور عليه والمعجوز عنه ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شئ فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان

وفي سنن أبي داود عن النبي أنه اختصم إليه رجلان فقضى على أحدهما فقال المقضى عليه حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا أحزنك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل

قال أبو القاسم وسئل الواسطي عن الكفر بالله أولله فقال الكفر والإيمان والدنيا والآخرة من الله وإلى الله وبالله ولله من الله ابتداء وإنشاء وإلى الله مرجعا وانتهاء وبالله بقاء وفناء ولله ملكا وخلقا

قال وقال الجنيد سئل بعض العلماء عن التوحيد فقال هو اليقين فقال السائل بين لي ما هو فقال هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله وحده لا شريك له فإذا فعلت ذلك فقد وحدته وقال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الواحد بن علي يقول سمعت القاسم بن القاسم سمعت محمد بن موسى الواسطي سمعت محمد بن الحسين الجوهري سمعت ذا النون المصري يقول وجاءه رجل فقال ادع الله لي فقال إن كنت أيدت في علم الغيب بصدق التوحيد فكم من دعوة مجابة قد سبقت لك وإلا فإن النداء لا ينفع الغرقى

قال وقال الواسطي ادعى فرعون الربوبية على الكشف وادعت المعتزلة على السر تقول ما شئت فعلت وقال أبو الحسين النوري التوحيد كل خاطر يشير إلى الله بعد أن لا تزاحمه خواطر التشبيه

قلت كلام الواسطي والجنيد المذكور هنا هو توحيد الربوبية وأن الله رب كل شئ ومليكه وخالقه وفيه الرد على القدرية الذين يجعلون أفعال العبد خارجة عن قدرته وخلقه وملكه وكذلك جعل فيهم الواسطي شبها من فرعون فإن فرعون كشف كفره وقال أنا ربكم الأعلى فادعى الربوبية علانية والقدرية تدعى أنها رب الأفعال وما يتولد عنها فقد أدعت ربوبيته لكن في السر وهي ربوبية أفعال الأعيان

لكن مقصود أهل التحقيق كالجنيد ونحوه أن يكون هذا التوحيد للعبد خلقا ومقاما بحيث يعطيه ذلك كما توكله على الله تعالى وتفويصه إليه والصبر لحكمه والرضا بقضائه مالم يخرجه ذلك إلى إسقاط الأمر والنهي والثواب والعقاب والوعد والوعيد كما يقع في بعض ذلك طائفة من المتصوفة

وأما قول ذي النون إن كنت أيدت في علم الغيب بصدق التوحيد فلا يراد به مجرد الإقرار بالربوبية العامة فإن المشركين كانوا يوحدون هذا التوحيد كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله سورة الزمر 38 وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلاوهم مشركون سورة يوسف 106

قالوا غيمانهم هو إيمانهم بأنه خالق كل شئ وشركهم أن عبدوا معه إلها آخر

وإنما أراد تحقيق توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وهو أن يعبد الله وحده لايشرك به شيئا فهذا التوحيد الذي جاءت به الرسل هو يسعد صاحبه ويدخل الجنة لا محالة له من دعوة مجابة ومن فاته هذا التوحيد فإن الله لا يغفر أن يشرك به فلا ينفعه الدعاء

وهذا هو التوحيد المذكور في قول المراغى صفاء العبادات لا ينال إلا بصفاء التوحيد

وأما قول النوري التوحيد كل خاطر يشير إلى الله فهو يعم ذلك يقول كل توجه إلى الله وحده بقول أو عمل فهو توحيد إذا لم يكن فيه تشبيه الخالق بالمخلوق أو المخلوق بالخالق كما في قول الجهمية والممثلة والقدرية ونحوهم وقد تقدم ما ذكره المشايخ من نفي التشبيه والتعطيل

وكذلك ما ذكره عن الشيخ أبي عبد الرحمن سمعت عبد الواحد بن بكر سمعت هلال بن أحمد يقول سئل أبو علي الروذباري عن التوحيد فقال استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل وإنكار التشبيه والتوحيد في كلمة واحدة كل ما صورته الأفهام والأفكار فإن الله سبحانه بخلافه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير سورة الشورى 11

قال وقال ابو القاسم النصراباذي الجنة باقية بإبقائه وذكره لك ومحبته لك باق ببقائه فشتان بين ما هو باق ببقائه وبين ما هو باق بإبقائه

قال القشيري وهذا الذي قاله الشيخ النصراباذي غاية التحقيق فإن أهل الحق قالوا صفات ذات القديم سبحانه باقيات ببقائه تعالى فنبه على هذه المسألة ونبه على أن الباقي باق ببقائه خلاف ما قاله مخالفو الحق

قلت النصراباذي مقصوده التفريق بين من طلب النعيم بالمخلوق وطلب النعيم لحظه من الخالق فقال ما في المخلوق باق بإبقائه وأما محبته لك وذكره لك فباق ببقائه وليس مقصوده أن البقاء الذي يوصف به الرب هو صفة زائدة على الذات بما ليس بصفة كما ينازع فيه أهل الكلام مثل متكلمة أهل الإثبات وغيرهم بل القاضي أبو بكر الذي يعظمه القشيري ويقول هو اوحد وقته كان يقول ليس الباقي باقيا ببقاء

ولاالنزاع في هذه المسألة إذا حقق لم يرجع إلى معنى محصل يستوجب النزاع

ثم قال أبو القاسم حدثنا محمد بن الحسين سمعت النصراباذي يقول أنت متردد بين صفات الفعل وصفات الذات وكلاهما صفته تعالى على الحقيقة فإذا هيمك في مقام التفرقة قربك بصفات فعله وإذا بلغك إلى مقام الجمع قربك بصفات ذاته

قال وأبو القاسم النصراباذي كان شيخ وقته

قلت هذا الكلام من النصراباذي يقتضي أنه موصوف بصفات فعله على الحقيقة مثل الخلق والرزق كما أنه موصوف بصفات الذات عل ىالحقيقة كالعلم والقدرة وهذا هوالذي ذكره أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي عن مذهب الصوفية في كتاب التعرف وهو قول جمهور الفقهاء وأهل الحديث وطوائف من اهل الكلام وليس هو قول الأشعرية الذين سلك سبيلهم أبو القاسم القشيري

قال الخلق والرزق عندهم عين المخلوق ولا يستحق أن يسمى بالخالق الباعث الوارث إلا بعد وجود هذه المفعولات والنزاع في أن الفعل هل هو صفة لله وهل يوصف بالأسماء الفعلية في الأزل وقد بسطنا الكلام في هاتين المسألتين في موضعه

وقال سمعت الإمام أبا إسحاق الإسفراييني يقول لما قدمت من بغداد كنت أدرس في جامع نيسابور في مسألة الروح وأشرح القول أنها مخلوقة وكان ابو القاسم النصراباذي قاعدا متباعدا عنا يصغي إلى كلامي فأجتاز بنا بعد ذلك بأيام قلائل فقال لمحمد الفراء أشهد اني أسلمت جديدا على يد هذا الرجل وأشار إلي

قلت لعله كان عنده بعض شبهة أو رأي فاسد في خلقها كما يعرض مثل ذلك لبعض الناس

وقال سمعت محمد بن الحسين السلمي يقول سمعت أن حسين الفارسي يقول سمعت إبراهيم بن فاتك يقول سمعت الجنيد يقول متى يتصل من لاشبيه له ولا نظير بمن له شبيه ونظير هيهات هذا ظن عجيب إلا بما لطف اللطيف من حيث لا درك ولا وهم ولا إحاطة إلا إشارة اليقين وتحقيق الإيمان

قلت هذا الكلام يقتضي أن العباد إنما عرفوا ربهم بما الطف به من تعرفة إليهم وهدايته إياهم بما أعطاهم لا معرفة إدراك وإحاطة وهذا حسن وربما يتضمن نوعا من الرد على طريقة أهل النظر الذين يجعلونه بمجرده محصلا للمعرفة المطلوبة

وقال حدثنا محمد بن الحسين سمعت عبد الواحد بن بكر حدثني أحمد بن محمد البردعي حدثنا طاهر بن إسماعيل الرازي قال قيل ليحيى بن معاذ أخبرني عن الله فقال إله واحد فقال كيف هو فقال ملك قادر فقال أين هو فقال بالمرصاد فقال السائل لم أسألك عن هذا فقال ما كان غير هذا كان صفة المخلوق فأما صفته فما أخبرتك عنه

قلت لا تعلم صحة هذا الكلام عن يحيى بن معاذ إذ في الإسناد من لا نعرفه وكلام يحيى بن معاذ عندهم دون كلام الكبار من أهل التحقيق في المعاملات وغيرها فإنه يتكلم في الرجاء بكلام يشبه كلام سفلة المرجئة لا يوافق أصول المشايخ الكبار المتمسكين بالسنة ويدعى في التوحيد مقاما هو الغاية وقد عاب عليه ابو يزيد وغيره وكلامه يشبه كلام الوعاظ وهي طريقة أبي القاسم ونحوه

وهذا الكلام المذكور من هذا الباب فإنه ليس كل ما لم يذكره في هذا الجواب بصفة المخلوق لله بل لله صفات كثيرة عظيمة لم تدخل في هذا الكلام ثم صفة المخلوق إن كان لأجل الاشتراك في الاسم فقوله ملك قادر وإنه بالمرصاد كما قال تعالى واقعدوا لهم كل مرصد سورة التوبة 5

وأيضا فالجواب عن أين هو خلاف الجواب الذي رضيه رسول الله وأقره وحكم بإيمان قائله وخلاف ما أجاب به هو سائله فإنه لما قال أين الله فقيل له في السماء رضى بهذا وأقر صاحبه ولم يقل هذا صفة المخلوق

وقد روى شيخ الإسلام الأنصاري الهروى صاحب علل المقامات ومنازل السائرين في كتابه المسمى بالفاروق بإسناد عن يحيى بن معاذ أنه قال إن الله على العرش بائن من خلقه وقد أحاط بكل شئ علما وأحصى كل شئ عددا لايشذ عن هذه المقالة إلا جهمى ردئ ضليل وهالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخالط منه الذات بالأقذار والإتيان في هيئته وهو يخالف إنكاره الأين في هذه الرواية

وقال أبو القاسم حدثني بن الحسين سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت أبا علي الروذبارى يقول كل ما توهم متوهم بالجهل أنه كذلك فالعقل يدل على أنه بخلافه

قال وسأل ابن شاهين الجنيد عن معنى مع فقال على معنيين مع الأنبياء بالنصرة والكلاءة قال الله إنني معكما أسمع وأرى سورة طه 46 ومع العامة بالعلم والإحاطة قال الله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم سورة المجادلة 7 فقال ابن شاهين مثلك يصلح أن يكون دالا للأمة على الله

قلت هذا كلام حسن متفق على صحة معناه بين ائمة الهدى وكانوا يقولون مثل هذا الكلام ردا على من يقول من الجهمية إن الحق بذاته في كل مكان ويمكن أن يقول فوق العرش وقد وقع في ذلك طائفة من المتصوفة حتى جعلوه عين الموجودات ونفس المصنوعات كما يقوله أهل الاتحاد العام

قال القشيري وسئل ذو النون المصري عن قوله الرحمن على العرش استوى سورة طه 5 فقال اثبت ذاته ونفى مكانه فهو موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمه كما شاء

قلت هذا الكلام لم يذكر له إسنادا عن ذي النون وفي هذه الكتب من الحكايات المسندة شئ كثير لا أصل له فكيف بهذه المنقطعة المسيئة التي تتضمن أن ينقل عن المشايخ كلام لا يقوله عاقل فإن هذا الكلام ليس فيه مناسبة للآية بل هو مناقض لها فإن هذه الآية لم تتضمن إثبات ذاته ونفى مكانه بوجه من الوجوه فكيف تفسر بذلك

وأما قوله هو موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمه فهو حق لكن ليس هذا معنى الآية

قال وسئل الشبلي عن قوله الرحمن على العرش استوى فقال الرحمن لم يزل والعرش محدث والعرش بالرحمن استوى

قلت هذا الكلام أيضا ليس له إسناد عن الشبلي وهو يتضمن من الباطل ما هو تحريف للقرآن

أما قوله الرحمن لم يزل والعرش محدث فحق وأما قوله العرش بالرحمن استوى فهو أولا خلاف القرآن فإن الله أخبر أنه هو الذي استوى على العرش فكيف يقال إن المستوى إنما هو العرش

وأما ثانيا فإنه إذا قال العرش استوى به فهذا ليس أبلغ من قوله إنه استوى على العرش

كما في حديث ابن عمر أن رسول الله أهل حين استوت به راحلته وذلك يقتضي أن يكون العرش استوى بالله واستقل به وحمله وإن لم يرد هذا المعنى وإنما أراد أن العرش اعتدل واستوى بقدرة الله فهذا ليس هو معنى الآية بل تحريف صريح يستحق قائله العقوبة البليغة ولا يصلح ان يحكى مثل هذ عن قدوة في الدين بل ولا عن أطراف الناس

قال وسئل جعفر بن نصير عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى فقال استوى علمه بكل شئ فليس شئ أقرب إليه من شئ

وهذا من نمط الذي قبله وأردى وهو أسخف من تأويلات القرامطة الباطنية فإن اللفظ ليس فيه ما يدل على ذلك أصلا وجعفر ابن نصير أجل من أن يقول هذا التحريف الذي لا يصدر مثله إلا عن بعض غلاة الرافضة والقرامطة والملحدين الطاعنين في القرآن

قال وقال جعفر الصادق من زعم أن الله في شئ أو من شئ أو على شئ فقد أشرك إذ لو كان على شئ لكان محمولا أو كان في شئ لكان محصورا أو كان من شئ لكان محدثا

قال وقال جعفر الصادق في قوله ثم دنا فتدلى سورة النجم 8 من تودهم أنه بنفسه دنا جعل ثم مسافلة وانما تدنى أنه كلما قرب منه بعده عن أنواع المعارف إذ لا دنو ولا بعد

قلت هذا الكلام وأشباهه مما اتفق أهل المعرفة على أنه مكذوب على جعفر مثل كثير من الإشارات التي ذكرها عنه أبو عبد الرحمن في حقائق التفسير والكذب على جعفر كثير منتشر والذي نقله العلماء الثقات عنه معروف يخالف رواية المفترين عليه

قال ورأيت بخط الاستاذ أبي على أنه قيل لصوفي أين الله فقال أسحقك الله تطلب مع العين أثرا

قلت هذا كلام مجمل قد يعني به الصديق معنى صحيحا ويعني به الزنديق معنى فاسدا فإن السائل أين الله قد يكون سؤاله عن شك عن معرفة ما يستحقه الله من العلو وقد يكون الاستعلام عن حال المسئول كما سأل النبي الجارية أين الله فالذي سأل الصوفي أين الله إن كان شاكا في نعت ربه أو جاهلا بحال المسئول فهو ناقص فيحتمل أن الصوفي كان عارفا بالله وقد عاين السائل من حاله ما عرف به صدقه فقال سؤالك سؤال من يريد أن يستدل بالأثر على حال وأنت قد عاينت ما يغنيك عن ذلك فقال أتطلب مع العين أثرا أو هدى

كما أن المعروفين بالإيمان من الصحابة لم يكن النبي يقول لأحدهم أين الله وإنما قال ذلك لمن شك في إيمانه كالجارية وهذا كما يذكر في حكاية أخرى أن بعضهم لقى شخصا فقال أين ربك فقال لا تقل أين ربك ولكن قل أين محل الإيمان من قلبك أي ان مثلى لا يقال له أين ربك وإنما أسأل عما يليق بمثلي أن يسأل عنه

بل كما في الحكاية المعروفة عن يزيد بن هارون الواسطي ونحوها أيضا لأحمد بن حنبل أن منكرا أو نكيرا لما أتياه وسألاه من ربك وما دينك ومن نبيك فقال أتقولان لي هذا وأنا يزيد بن هارون الواسطي أعلم الناس السنة ستين سنة فقالا اعذرنا فإنا بهذا أمرنا وانصرفا وتركاه

وظاهر الأمر في حال الصوفي الذي ذكره الأستاذ أبي على أنه قصد هذا لأنه قال للسائل أسحقك الله أتطلب مع العين اثرا وهذا العين الذي أغناه عن الأثر إما أن يكون في معرفته بربه أو معرفته بحال المسئول فلو كان الأول لم يك جاهلا فيسأل أين الله ولم يجب عليه الصوفي حتى يقول له أسحقك الله فعلم أنه كان عارفا بحال الصوفي وطلب منه زيادة امتحان له عن معرفته بربه فقال أتطلب مع العين أثرا

وأما العين الذي يعنيه الزنديق فأن يكون من أهل الاتحاد المعين فيعتقد أنه عاين الله بعين بصره في الدنيا فيقول أتطلب مع العين أثرا أو يعتقد أن الوجود المعاين هو عين وجود الحق كما تقوله الاتحادية أهل الاتحاد المطلق أو نحو ذلك من مقالات الزنادقة المنافقين

ولكن ظاهر الحكاية لا يوافق هذا فإنه عند هؤلاء العين والأثر واحد والصوفي قال أتطلب مع العين أثرا وهذا يقتضي أن السائل بأين يصح منه طلب الأثر بعد العين

وليس في الحكاية مقصود لأبي القاسم من نفى كون الله على العرش ولا يقول ابو القاسم بأن العارف حصل له في الدنيا من معاينة الله تعالى ما يغنيه عن الأثر

قال ابو القاسم حدثنا الشيخ أبو عبد الرحمن سمعت أبا العباس بن الخشاب البغدادي سمعت أبا القاسم بن موسى سمعت محمد بن أحمد سمعت الانصاري سمعت الخراز يقول حقيقة القرب فقد حسن الأشياء من القلب وهدوء الضمير إلى الله

قلت هذه الحكاية في إسنادها من لا يعرف حاله وإن صح هذا الكلام عن أبي سعيد الخراز فليس مقصوده أن القرب من الله ليس إلا مجرد ذلك ولكن أراد أن هذا هو الذي يحقق القرب وحقيقة الشئ عندهم ما يحققه فيكون علة لوجوده ودليلا على صحته

كما يروون في الحديث الذي رواه ابن عساكر مرسلا وروى مسندا من وجه ضعيف لا يثبت أن النبي قال لحارثة ابن سراقة كيف أصبحت يا حارثة قال أصبحت مؤمنا حقا قال فما حقيقة أيمانك فقال عزفت نفسي عن الدنيا فآستوى عندي حجرها وذهبها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتمتعون فيها وإلى أهل النار يعذبون فيها فقال عرفت فألزم عبد نور الله قلبه

فقولهم في هذا الحديث الذي يروونه ما حقيقة إيمانك أي ما يحققه ويصدقه فذكر ما يصدقه ويحققه من اليقين والزهد كما جاء في الحديث نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد

فقول أبي سعيد حقيقة القرب أي الذي يحققه هو خلو القلب مما سوى الله وسكونه إلى الله وهذا تحقيق الإخلاص والتوحيد الذي من حققه كان أقرب الخلق إلى الله وهو تحقيق كلمة الإخلاص لا إله إلا الله وهذا على درجتين فأهل الفناء يفقدون إدراك الأشياء ومعرفتها مصطلمين في ذكر الله والملائكة وأولو العلم وهو سبحانه شهد وحدانيتهم في الإلهيته متضمنه شهادته لجميع خلقه فإنه شهيد عليم ليس عن المخلوقات بغائب فأولو العلم الشاهدون ألا إله إلا هو إذا لم يكن فيهم عجز يوجب الفناء يعطون من القوة على ما يشهدون به الأمر وتلك شهادة كاملة أكمل من شهادة اهل الفناء فيفقدون تأله قلوبهم للأشياء ووجدهم وطمأنينتهم إليها معتاضين بتأله قلوبهم لله ووجدهم به وطمأنينة قلوبهم بذكره لا يفقدون الشهادة التي تزيد في علمهم وإيمانهم من شهود الربوبية المحيطة جملة وتفصيلا والإلهية الواجبة جملة وتفصيلا وما يدخل في ذلك من أصناف المخلوقات والمأمورات