فهو سبحانه يزين لكل عامل عمله فيراه حسنا وإن كان ذلك العمل سيئا فإنه لولا حسنا لم يفعله إذ لو رآه سيئا لم يرده ولم يختره إذ الإنسان مجبول على محبة الحسن وبغض السئ فالحسن الجميل محبوب مراد والسئ القبيح مكروه مبغض والأعيان والأفعال المبغضة من كل وجه لا تقصد بحال كما ان المحبوبة من كل وجه لا تترك بحال ولكن قد يكون الشئ محبوبا من وجه مكروها من وجه ويقبح من وجه ويحسن من وجه ولهذا كان الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن والسارق لا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن كامل الإيمان فإنه لو كان اعتقاده بقبح ذلك الفعل اعتقادا تاما لم يفعله بحال ولهذا كان كل عاص لله تعالى جاهلا كما قال ذلك أصحاب محمد فإنه لو كان عالما حق العلم بما فعله لم يفعل القبيح ولم يترك الواجب بل قد زين لكل أمة عملهم

لكن العاصي إذا كان معه أصل الإيمان فإنه لا يزين له عمله من كل وجه بل يستحسنه من وجه ويغضه من وجه ولكن حين فعله يغلب تزيين الفعل ولذلك قال زين للناس حب الشهوات سورة آل عمران 14 الآية فإن هنا شيئين حب الشهوات وأنه زين ذلك الفحش وحسن فرأوا تلك المحبة حسنة فلذلك استقرت هذه المحبة عندهم وتمتعوا بهذه المحبات فإذا رأوا ذلك الحب قبيحا لما يتبعه من الضرر لم يستقر ذلك في قلوبهم فإن رؤية ذلك الحب حسنا يدعو إليه قبيحا ينفر عنه

وكذلك ذكر في الإيمان أنه حببه إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم حتى رأوه حسنا فإن الشئ إذا حبب وزين لم يترك بحال

وهنا أخبر سبحانه انه هو الذي حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وفي الشهوات قال زين للناس حب الشهوات سورة آل عمران 14 ولم يقل المزين بل ذكر العموم

وقال تعالى كذلك زينا لكل امة عملهم سورة الأنعام 108 وكما حذف المزين هناك قال زين للناس حب الشهوات سورة آل عمران 14 فجعل المزين نفس الحب لها لم يجعل المزين هو المحبوب كما أخبر أنه زين لكل أمة عملها فإن المزين نفس الحب لها لم يجعل المزين هو المحبوب بل هو حب الشهوات فإن المزين إذا كان نفس الحب والعمل لم ينصرف القلب عن ذلك بخلاف ما لو كان المزين هو المحبوب فقد زين الشئ المحبوب ولكن الإنسان لا يحبه لما يقوم بقلبه من العلم بحاله والبغض

ففرق بين التزيين المتصل بالقلب وتزيين الشئ المنفصل عنه فيه رد على القدرية الذين يجعلون التزيين المنفصل وكذلك قوله زين له سوء عمله فرآه حسنا سورة فاطر 8 وهو سبحانه امتن في الإيمان بشيئين بأنه حببه إلينا وزينه في قلوبنا فالنعم تتم بهما بالعلم والمحبة

وقد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي انه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وفي الصحيح أيضا أنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتسشبهات من النساء بالرجال وفي الصحيح أنه أمر بنفي المخنثين وإخراجهم من البيوت

كما روى البخاري في صحيحه عن عكرمة عن ابن عباس قال لعن النبي المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال

وفي رواية لعن النبي المخنثين من الرجال والمسترجلات من النساء وقال أخرجوهم من بيوتكم فاخرج النبي فلانة وأخرج عمر فلانا

فإذا كان الرجل الذي يتشبه بالنساء في لباسهن وزيهن وزينتهن ملعونا قد لعنه رسول الله فكيف بمن يتشبه بهن في مباشرة الرجال له فيما يتمع الرجال به بتمكينه من ذلك لغرض يأخذه أو لمحبته لذلك فكلما كثرت مشابهته لهن كان أعظم للعنه وكان معلونا من وجهين من جهة الفاحشة المحرمة فإنه يلعن على ذلك ولو كان هو الفاعل ومن جهة تخنثه لكونه من جنس المفعول بهن فمن جعل شيئا من التخنث دينا أو طلب ذلك من الصبيان مثل تحسين الصبي صورته أو لباسه لأجل نظر الرجال واستمتاعهم بذلك في سماع وغير سماع أليس يكون مبدلا لدين الله من جنس الذي إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون وإذا كانت الفاحشة العرب المشركين كشف عوارتهم عند الطواف لئلا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها فكيف بما هو أعظم من ذلك

والمخنث قد يكون مقصوده معاشرة النساء ومباشرتهن وقد يكون تخنثه بمباشرة الرجال ونظرهم ومحبتهم وقد يجمع الأمرين وفي المتنسكين من الأقسام الثلاثة خلق كثير

وهؤلاء شر ممن يفعل هذه الأمور على غير وجه التدين فإن يوجد في الأمم الجاهلية من الترك ونحوهم من يتشبه فيهم من النساء بالرجال ومن يتشبه من الرجال بالنساء خلق عظيم حتى يكون لنسائهم من الإمرة والملك والطاعة والبروز للناس وغير ذلك مما هو من خصائص الرجال ما ليس لنساء غيرهم وحتى ان المرأة تختار لنفسها من شاءت من ممالكيها وغيرهم لقهرها للزوج وحكمها ويكون في كثير من صبيانهم من التخنث وتقريب الرجال له وإكرامه لذلك أمر عظيم حتى قد يغار بعض صبيانهم من النساء وحتى يتخذهم الرجال كالسراري لكن هم لا يفعلون ذلك تدينا فالذين يفعلون ذلك تدينا شر منهم فإنهم جعلوا دينا والفاحشة حسنة لا لما في ذلك من ميل الطباع فهكذا من جعل مجرد الصوت الذي تحبه الطباع حسنا في الدين فيه شبه من هؤلاء لكن في المشركين من هذه الأمة من يتدين بذلك لأجل الشياطين كما يوجد في المشركين من الترك التتار وساحرهم الطاغوت صاحب الجبت الذي تسميه الترك البوق وهو الذي تستخفه الشياطين وتخاطبه ويسألها عما يريد ويقرب لها القرابين من الغنم المنخنقة وغير ذلك ويضرب لها بأصوات الطبول ونحو ذلك ومن شرطه أن يكون مخنثا يؤتى كما تؤتى المرأة فكلما كانت الأفعال أولى بالتحريم كانت أقرب إلى الشياطين

وهذا الذي ذكرناه من أن الحسن الصورة والصوت وسائر من أنعم الله عليه بقوة أو بجمال أو نحو ذلك إذا اتقى الله فيه كان أفضل ممن لم يؤت ما لم يمتحن فيه فإن النعم محن فإن أهل الشهوات من النساء والرجال يميلون إلى ذي الصورة الحسنة ويحبونه ويعشقونه ويرغبونه بأنواع الكرامات ويرهبونه عند الامتناع بأنواع المخوفات كما جرى ليوسف عليه السلام وغيره وكذلك جماله يدعوه إلى أن يطلب ما يهواه لأن جماله قد يكون أعظم من المال المبذول في ذلك

وكذلك حسن الصوت قد يدعى إلى أعمال في المكروهات كما أن المال والسلطان يحصل بهما من المكنة ما يدعى مع ذلك إلى أنواع الفواحش والمظال فإن الإنسان لا تأمره نفسه بالفعل إلا مع نوع من القدرة ولا يفعل بقدرته إلا ما يريده وشهوات الغي مستكنة في النفوس فإذا حصلت القدرة قامت المحنة فإما شقى وإما سعيد ويتوب الله على من تاب فأهل الامتحان إما أن يرتفعوا وإما أن ينخفضوا وأما تحرك النفوس عن مجرد الصوت فهذا أيضا محسوس فإنه يحركها تحريكا عظيما جدا بالتفريح والتحزين والإغضاب والتخويف ونحو ذلك من الحركات النفسانية كما أن النفوس تتحرك أيضا عن الصور بالمحبة تارة وبالبغض أخرى وتتحرك عن الأطعمة بالبغض تارة والنفرة أخرى فتحرك الصبيان والبهائم عن الصوت هو من ذلك لكن كل ما كان أضعف كانت الحركة به أشد فحركة النساء به أشد من حركة الرجال وحركة الصبيان أشد من حركة البالغين وحركة البهائم أشد من حركة الآدميين فهذا يدل على أن قوة التحرك عن مجرد الصوت لقوة ضعف العقل فلا يكون في ذلك حمد إلا وفيه من الذم أكثر من ذلك وإنما حركة العقلاء عن الصوت المشتمل على الحروف المؤلفة المتضمنة للمعاني المحبوبة وهذا أكمل ما يكون في استماع القرآن

وأما التحرك بمجرد الصوت فهذا أمر لم يأت الشرع بالندب إليه ولا عقلاء الناس يأمرون بذلك بل يعدون ذلك من قلة العقل وضعف الرأي كالذي يفزع عن مجرد الأصوات المفزعة المرعبة وعن مجرد الأصوات المغضبة

قال أبو القاسم وقال النبي ما أذن الله لشئ كأذنه لنبي يتغني بالقرآن وروى حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ما أذن الله لشئ ما أذن الله لنبي يتغنى بالقرآن

قال وقيل إن داود عليه السلام كان يستمع لقراءته الجن والإنس والوحش والطير إذ قرأ الزبور وكان يحمل من مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات ممن سمعوا قراءته وقال النبي لأبي موسى الأشعري لقد أعطى مزمارا من مزامير آل داود وقال معاذ لرسول الله لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا

قلت هذا القول لابي موسى كان لم يكن لمعاذ ومضمون هذه الآثار استحباب تحسين الصوت بالقرآن وهذا مما لا نزاع فيه فالاستدلال بذلك على تحسين بالغناء أفسد من قياس الربا على البيع إذ هو من باب تنظير الشعر بالقرآن

وقال تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين سورة يس 69

وقال تعالى وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون سورة الشعراء ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون سورة الشعراء 225226

وقال تعالى وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون سورة الحافة 4142

وهذا القياس مثل قياس سماع المكاء والتصدية الذي ذمه الله في كتابه وأخبر أنه صلاة المشركين على سماع القرآن الذي أمر الله به في كتابه وأخبر أنه سماع النبيين والمؤمنين وقياس لأئمة الصلاة كالخلفاء الراشدين وسائر أئمة المؤمنين بالمخنثين المغاني الذين قد يسمون الجد أو القوالين

وقياس للمؤذن الداعي إلى الصلاة وسماع القرآن بالمزمار الداعى إلى حركة المستمعين للمكاء والتصدية

وقد روى الطبراني في معجمهه عن ابن عباس عن النبي أن الشيطان قال يارب اجعل لى قرآنا قال قرآنك الشعر قال اجعل لى مؤذنا قال مؤذنك المزمار قال اجعل لى كتابه قال كتابتك الوشم قال اجعل لى بيتا قال بيتك الحمام قال اجعل لى طعاما قال طعامك مالم يذكر اسم الله عليه فمن قاس قرآن الله فالله يجازيه بما يستحقه

وقد قال الله تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا سورة مريم 59 فهؤلاء يشتغلون بالشهوات عن الصلاة

ولهذا فإن من هؤلاء الشيوخ من يقصد الاجتماعات في الحمام ويكون له فبها حال وظهور لكونه مادته من الشياطين فإن الشيطان يظهر أثره في بيته وعنده أوليائه وتأذين مؤذنه وتلاوة قرآنه كما يظهر ذلك على أهل المكاء والتصدية

وإذا كان السماع نوعين سماع الرحمن وسماع الشيطان كان ما بينهما من أعظم الفرقان لكن الأقسام هنا أربعة إما أن يشتغل العبد بسماع الرحمن دون سماع الشيطان أو بسماع الشيطان دون سماع الرحمن أو يشتغل بالسماعين أو لا يشتغل بواحد منهما

فالأول حال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان

وأما الثاني فحال المشركين الذين قال الله فيهم وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية سورة الأنفال 35 وهو حال من يتخذ ذلك دينا ولا يستمع القرآن فإن كان يشتغل بهذا السماع شهوة لا دينا ويعرض عن القرآن فهم الفجار والمنافقون إذا أبطنوا حال المشركين

وأما الذين يشتغلون بالسماعين فكثير من المتصوفة

والذين يعرضون عنهما على ما ينبغي كثير من المتعربة

فهذه النصوص المأثورة عن النبي التي فيها مدح الصوت الحسن بالقرآن والترغيب في هذا السماع فيحتج بها على المعرض عن هذا السماع الشرعي الإيماني لا يحتج بها على حسن السماع البدعي الشركي

بل الراغبون في السماعين جميعا والزاهدون في السماعين جميعا خارجون عن محض الاستقامة والشريعة القرآنية الكاملة هؤلاء معتدون وهؤلاء مفرطون وإنما الحق الرغبة في السماع الإيماني الشرعي والزهد في السماعي الشركي البدعي

ثم ذكر أبو القاسم حكاية أبي بكر الرقي في الغلام الذي حدا بالجمال حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في يوم فلما حط عنها ماتت وحدا بجمل فهام على وجهه وقطع حباله قال الرقي ولم أظن أني سمعت صوتا أطيب منه ووقعت لوجهي حتى أشار عليه بالسكوت فسكت فقال حدثنا أبو حاتم السجستاني حدثنا أبو نصر السراج قال حكى الرقي

قلت مضمون هذه الحكاية أن الصوت البليغ في الحسن قد يحرك النفوس تحريكا عظيما خارجا عن العادة وهذا مما لا ريب فيه فإن الأصوات توجب الحركات الإرادية بحسنها وهي في الأصل ناشئة عن حركات إرادية ويختلف تأثيرها باختلاف نوع الصوت وقدره بل هي من أعظم المحركات أو أعظمها وإذا اتفق قوة المؤثر واستعداد المحل قوى التأثير فالنفوس المستعدة لصغر أو انوثة أو جزع ونحوه أو لفراغ وعدم شغل أو ضعف عقل إذا اتصل بها صوت عظيم حسن قوى أزعجها غاية الإزعاج لكن هذا لا يدل على جواز ذلك ولا فيه ما يوجب مدحه وحسنه بل مثل هذا أدل على الذم والنهى منه على الحمد والمدح فإن هذا يفسد النفوس أكثر مما يصلحها ويضرها أكثر مما ينفعها وإن كان فيه نفع فأثمة أكثر من نفعه

وقد قال الله للشيطان واستفرز من استطعت منهم بصوتك سورة الإسراء 64 فالصوت الشيطاني يستفز بني آدم وقال النبي إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين وذكر صوت النعمة وصوت المعصية ووصفهما بالحمق والفجور وهو الظلم والجهل

وقال لقمان لابنه اقصد في مشيك واغضض من صوتك سورة لقمان 19 والمغنى بهذه الأصوات لم يغض من صوته والمتحركون بها الراقصون لم يقصدوا في مشيهم بل المصوتون أتوا بالأحمق الجاهل الظالم الفجر من الأصوات والمتحركين أتوا بالأحمق الجاهل الفاحش من الحركات وربما جمع الواحد بين هذين النوعين وجعل ذلك من أعظم العبادات

ثم قال ابو القاسم سمعت الشيخ ابا عبد الرحمن السلمي سمعت محمد بن عبد الله بن عبد العزيز سمعت أبا عمرو الأنماطي سمعت الجنيد يقول وسئل ما بال الإنسان يكون هادئا فإذا سمع السماع اضطرب فقال إن الله لما خاطب الذر في الميثاق الأول بقوله ألست بربكم سورة الأعراف 172 استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح فإذا سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك

قلت هذا الكلام لا يعلم صحته عن الجنيد والجنيد أجل من أن يقول مثل هذا فإن هذا الاضطراب يكون لجميع الحيوان ناطقه وأعجمه حتى يكون في البهائم أيضا ويكون للكفار والمنافقين ثم الاضطراب قد يكون لحلاوة الصوت ومحبته وقد يكون للخوف منه وهيبته وقد يكون للحزن والجزع وقد يكون للغضب

ثم من المعلوم أن الصوت المسموع ليس هو ذاك أصلا ولو سمع العبد كلام الله كما سمعه موسى بن عمران لم يكن سماعه لاصوات العباد محركا لذكر ذلك بل المأثور ان موسى مقت الآدميين لما وقر في مسامعه من كلام الله ثم التلذذ بالصوت أمر طبعي لا تعلق له بكونهم سمعوا صوت الرب أصلا ثم إن أحدا لا يذكر ذلك السماع أصلا إلا بالإيمان والناس متنازعون في أخذ الميثاق وفي ذلك السماع بما ليس هذا موضعه

ثم إن مذهب الجنيد في السماع كراهة التكلف لحضوره والاجتماع عليه وعنده أن من تكلف السماع فتن به فكيف يعلله بهذا

وقد ذكر أبو القاسم ذلك فقال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر سمعت أبا بكر بن ممشاد سمعت الجنيد يقول السماع فتنة لمن طلبه ترويح لمن صادفه

فأخبر انه فتنة لمن قصده ولم يجعله لمن صادفه مستحبا ولا طاعة بل جعله راحة فكيف يقول إنه أظهر خطاب الحق المتقدم

وقال أبو القاسم سمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول السماع حرام على العوام لبقاء نفوسهم مباح للزهاد لحصول مجاهدتهم مستحب لاصحابنا لحياة قلوبهم

قلت قد قدم ابو القاسم في ترجمة الشيخ أبي على الروذباري وهو قديم توفي بعد العشرين وثلاثمائة صحب الجنيد والطبقة الثانية وكان يقول أستاذي في التصوف الجنيد وفي الفقه أبو العباس بن سريج وفي الأدب ثعلب وفي الحديث إبراهيم الحربي وقال فيه ابو القاسم هو اظرف المشايخ واعلمهم بالطريقة

قال سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول سئل ابو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول هي لي حلال لأني وصلت إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الأحوال فقال نعم قد وصل لعمري ولكن إلى سقر

فقول الدقاق هو مباح للزهاد لحصول مجاهدتهم هو الذي انكره أبو علي الروذباري فكيف بقوله مستحب وسنتكلم إن شاء الله على هذا

ثم إنه ذكر بعد هذا أنه سمع الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول السماع طبع إلا عن شرع وخرق إلا عن حق وفتنة إلا عن عبرة وهذا الكلام يوافق قول الروذباري ويخالف قوله إنه مباح للزهاد لحصول مجاهدتهم مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم فإنه جعل كل سماع ليس بمشروع فهو عن الطبع ومعلوم أن سماع المكاء والتصدية ليس مشروعا فيكون مسموعا بالطبع مطلقا

وقال سمعت أبا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر الصوفي يقول سمعت الوجيهي يقول سمعت ابا علي الروذباري يقول كان الحارث بن اسد المحاسبي يقول ثلاث إذا وجدن نمتنع بهن وقد فقدناهن حسن الوجه مع الصيانة وحسن الصوت مع الديانة وحسن الإخاء مع الوفاء

قلت قد قررت قبل هذا المعنى بأن الحسن في الصورة والصوت إن لم يكن مع تقوى الله وإلا لم يكن إلا مذموما ومن الديانة أن يكون حسن الصوت مستعملا فيما أمر الله به

قال ابو القاسم وسئل ذو النون المصري عن الصوت الحسن فقال مخاطبات وإشارات أودعها الله كل طيب وطيبة وسئل مرة أخرى عن السماع فقال وارد حق يزعج القلوب إلى الحق فمن أصغى إليه بحق تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق

قلت هذا الكلام لم يسنده عن ذي النون وإنما أرسله إرسالا وما يرسله في هذه الرسالة قد وجد كثير منه مكذوب على اصحابه إما أن يكون أبو القاسم سمعه من بعض الناس فاعتقد صدقه أو يكون من فوقه كذلك أو وجده مكتوبا في بعض الكتب فأعتقد صحته ومن كان من المرسلين لما يذكرونه من الأولين والآخرين يعتمد في إرساله لصحيح النقل والرواية عن الثقات فهذا يعتمد إرساله لصحيح النقل والرواية عن الثقات فهذا يعتمد إرساله وأما من عرف فيما يرسله كثير من الكذب لم يوثق بما يرسله

فهذا التفصيل موجود فيمن يرسل النقول عن الناس من أهل المصنفات ومن أكثر الكذب الكذب على المشايخ المشهورين فقد رأينا من ذلك وسمعنا ما لا يحصيه إلا الله وهذا أبو القاسم مع علمه وروايته بالإسناد ومع هذا ففي هذه الرسالة قطعة كبيرة من المكذوبات التي لا ينازع فيها من له أدنى معرفة بحقيقة حال المنقول عنهم

وأما الذي يسنده من الحكايات في باب السماع فعامته من كتابين كتاب اللمع لأبي نصر السراج فإنه يروى عن أبي حاتم السجستاني عن أبي نصر عن عبد الله بن علي الطوسي ويروى عن محمد بن أحمد بن محمد التميمي عنه ومن كتاب السماع لأبي عبد الرحمن السلمي قد سمعه منه

فإن كان هذا الكلام ثاببتا عن ذي النون رحمه الله عليه فالكلام عليه من وجهين من جهة الاحتجاج بالقائل ومن جهة تفسير المنقول

أما الأول فقد نقلوا أن ذا النون حضر هذا السماع بالعراق

وقد ذكر أبو القاسم حكاية بعد ذلك مرسلة فقال وحكى أحمد ابن مقاتل العكي قال لما دخل ذو النون المصري بغداد اجتمع إليه الصوفية ومعه قوال يقول شيئا فاستأذنوه بأن يقول بين يديه فأذن له فابتدأ يقول

صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتكا

وأنت جمعت من قلبي هوى قد كان مشتركا

أما ترثى لمكتئب إذا ضحك الخلي بكى ...

قال فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يسقط على الأرض ثم قام رجل من القوم يتواجد فقال له ذو النون الذي يراك حين تقوم سورة الشعراء 218 فجلس الرجل

قال وسمعت أبا علي الدقاق يقول كان ذو النون صاحب إسراف على ذلك الرجل حيث نبهه أن ذلك ليس مقامه وكان ذلك الرجل صاحب إنصاف حيث قبل ذلك منه فرجع وقعد

فهذا ونحوه هو الذي أشار إليه الأئمة كالشافعي في قوله خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن فيكون ذو النون هو أحد الذين حضروا التغبير الذي أنكره الأئمة وشيوخ السلف ويكون هو أحد المتأولين في ذلك وقوله فيه كقول شيوخ الكوفة وعلمائها في النبيذ الذين استحلوه مثل سفيان الثوري وشريك ابن عبد الله وأبي حنيفة ومسعر بن كدام ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم من أهل العلم وكقوله علماء مكة وشيوخها فيما استحلوه من المتعة والصرف كقول عطاء بن ابي رباح وابن جريج وغيرهما وكقول طائفة من شيوخ المدينة وعلمائها فيما استحلوه من الحشوش وكقول طائفة من شيوخ الشاميين وعلمائها فيما كانوا استحلوه من القتال في الفتنة لعلي بن أبي طالب وأصحابه وكقول طوائف من أتباع الذين قاتلوا مع علي من اهل الحجاز والعراق وغيرهم في الفتنة إلى أمثال ذلك مما تنازعت فيه الأمة وكان في كل شق طائفة من اهل العلم والدين

فليس لأحد أن يحتج لأحد الطريقين بمجرد قول أصحابه وإن كانوا من أعظم الناس علما ودينا لان المنازعين لهم هم أهل العلم والدين

وقد قال الله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر سورة النساء 59 فالرد عند التنازع إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسوله

نعم إذا ثبت عن بعض المقبولين عند الأمة كلام في مثل موارد النزاع كان في ذلك حجة على تقدم التنازع في ذلك وعلى دخول قوم من اهل الزهد والعبادة والسلوك في مثل هذا ولا ريب في هذا

لكن مجرد هذا لا يتيح للمريد الذي يريد الله ويريد سلوك طريقه أن يقتدي في ذلك بهم مع ظهور النزاع بينهم وبين غيرهم وإنكار غيرهم عليهم بل على المريد أن يسلك الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ويتبع ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فإن ذلك هو صراط الله الذي ذكره ورضى به في قوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوه السبل فتفرق بكم عن سبيله سورة الأنعام 153 وهذا أصل في أنه لا يحتج في مواضع النزاع والاشتباه بمجرد قول احد ممن نوزع في ذلك

وأما الوجه الثاني فقول القائل عن الصوت الحسن مخاطبات وإشارات أودعها الله كل طيب وطيبة لا يجوز أن يراد به ان كل صوت طيب كائنا ما كان بأن الله أودعها مخاطبات يخاطب بها عباده فإن هذا القول كفر صريح إذ ذلك يستلزم أن تكون الأصوات الطيبة التي يستعملها المشركون وأهل الكتاب في الاستعانة بها على كفرهم قد خاطب بها الله عباده وأن تكون الأصوات الطيبة التي يستفز بها الشيطان لبني آدم كما قال تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك سورة الإسراء 64 أن تكون هذه الأصوات الشيطانية إذا كانت طيبة قد أودعها مخاطبات يخاطب بها عباده وأن تكون اصوات الملاهي قد أودعها الله مخاطبات يخاطب بها عباده

ومن المعلوم أن هذا لا يقوله عاقل فضلا عن أن يقوله مسلم ثم لو كان الامر كذلك فلم لم يستمع الأنبياء والصديقون من الأولين والآخرين إلى كل صوت صوت ويأمروا أتباعهم بذلك لما في ذلك من استماع مخاطبات الحق إذ قد علم أن استماع مخاطبات الحق من أفضل القربات

فقد ظهر أن هذا الكلام لا يجوز أن يكون عمومه وإطلاقه حقا

يبقى ان يقال هذا خاص ومقيد في الصوت الحسن إذا استعمل على الوجه الحسن فهذا حق مثل ان يزين به كلام الله كما كان أبو موسى الاشعري يفعل وقال له النبي مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك فقال لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا وكان عمر يقول له ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستعمون

فلا ريب أن ذا الصوت الحسن إذا تلا به كتاب الله فإنه يكون حينئذ قد أودع الله ذلك مخاطبات وإشارات وهو ما في كتابه من المخاطبات والإشارات فقد ظهر أن هذا الكلام إذا حمل على السماع المشروع الذي يحبه الله ورسوله كان محملا حسنا وإن حمل على عمومه وإطلاقه كان كفرا وضلالا

يبقى بين ذلك العموم وهذا الخصوص مراتب منها ان يحمل ذلك على ما يجده المستمع في قلبه من المخاطبات والإشارات من الصوت وإن لم يقصده المصوت المتكلم فهذا كثير ما يقع لهم وأكثر الصادقين الذين حضروا هذا السماع يشيرون إلى هذا المقصد وصاحب هذه الحال يكون ما يسمعه مذكرا له ما كان في قلبه من الحق

وهذا يكون على وجهين

أحدهما من الصوت المجرد الذي لا حرف معه كأصوات الطيور والرياح والآلات وغير ذلك فهذا كثير ما ينزله الناس على حروف بوزن ذلك الصوت وكثيرا ما يحرك منهم ما يناسبها من فرح أو حزن أو غضب أو شوق أو نحو ذلك كقول بعضهم ... رب ورقاء هتوف في الضحى صدحت في فنن عن فنن ... ربما أبكى فلا أفهمها وهي قد تبكي فلا تفهمني ... غير أتى بالجوى اعرفها وهي أيضا بالجوى تعرفني ...

والثاني يكون من صوت بحروف منظومة إما شعر وإما غيره ويكون المستمع ينزل تلك المعاني على حاله سواء قصد ذلك الناظم والمنشد أو لم يقصد ذلك مثل أن يكون في الشعر عتاب وتوبيخ أو أمر بالصبر على الملام في الحب أو ذم على التقصير في القيام بحقوق المحبة او تحريض على ما فرض للإنسان من الحقوق أو إغضاب وحمية على جهاد العدو ومقاتله أو امر ببذل النفس والمال في نيل المطلوب ورضا المحبوب أو غير ذلك من المعاني المجلمة التي يشترك فيها محب الرحمن ومحب الأوثان ومحب الأوطان ومحب النسوان ومحب المردان ومحب الإخوان ومحب الخلان

وربما قرع السمع حروف أخرى لم ينطق بها المتكلم على وزن حروفه كما يذكر عن بعضهم أنه سمع قائلا يقول ستر بري فوقع في سمعه اسع تر برى

وقد ذكر ذلك فيما بعد ابو القاسم فقال سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول سمعت يحيى بن على الرضا العلوي قال سمع ابن حلوان الدمشقي طوافا ينادى ياه سعتر بري فسقط مغشيا عليه فلما أفاق سئل فقال حسبته يقول اسع تر بري

وسمع عتبة الغلام رجلا يقول ... سبحان رب السماء إن المحب لفى عناء ...

فقال عتبة صدقت وسمع رجل آخر ذلك القول فقال كذبت فكل واحد يسمع من حيث هو

لا سيما وأكثرها إنما وضعت لمحبة لا يحبها الله ورسوله مثل بعض هذه الأجناس وإنما المدعي لمحبة الله ورسوله يأخذ مقصوده منها بطريق الاعتبار والقياس وهو الإشارة التي يذكرونها ولهذا قال مخاطبات وإشارات فالمخاطبات كدلالة النصوص والإشارات كدلالة القياس ولا بد أن يكون قد علم أن تلك المخاطبات والإشارات إنما يفهم منها المستمع ويتحرك فيها حركة يحبها الله ورسوله فيكون قد علم من غيرها ان ما يقتضيه من الشعور والحال مرضى عند ذي الجلال بدلالة الكتاب والسنة وإلا فإن مجرد الاستحسان بالذوق والوجدان إن لم يشهد له الكتاب والسنة وإلا كان ضلالا

ومن هذا الباب ضل طوائف من الضالين وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن مثل هذا جميعه لا يجوز أن يجعل طريقا إلى الله ويجمع عليه عباد الله ويستحب للمريدين وجه الله لان ما فيه من الضرر هو اضعاف ما فيه من المنفعة لهم ولكن قد صادف السر الذي يكون في قلبه حق بعض هذه المسموعات فيكون مذكرا له ومنبها

وهذا معنى قول الجنيد السماع فتنة لمن طلبه ترويح لمن صادفه

وأما قول القائل السماع وارد حق يزعج القلوب إلى الحق فمن أصغى إليه بحق تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق فالسماع الموصوف أنه وارد حق الذي يزعج القلوب إلى الحق هو أخص من السماع الذي قد يوجب التزندق فالكلام في ظاهره متناقض لأن قائله أطلق القول بأنه وارد حق يزعج القلوب إلى الحق ثم جعل من أصغى إليه بنفس تزندق

ووارد الحق الذي يزعج القلوب إلى الحق لا يكون موجبا للتزندق لكن قائله قصد أولا السماع الذي يقصده أهل الارادة لوجه الله فلفظه وإن كان فيه عموم فاللام لتعريف المعهود أي يزعج قلوب أهل هذه الإرادة إلى الحق لكونه يحرك تباكيهم ويهيج باطنهم فتتحرك قلوبهم إلى الله الذي يريدون وجهه وهو إلههم ومعبودهم ومنتهى محبوبهم ونهاية مطلوبهم

ثم ذكر أنه من أصغى إلى هذا السماع تزندق وهو من أصغى إليه بإرادة العلو في الأرض والفساد وجعل محبة الخالق من جنس محبة المخلوق وجعل ما يطلب من الاتصال بذي الجلال من جنس ما يطلب من الاتصال بالخلق فإن هذا يوجب التزندق في الاعتقادات والإرادات فيصير صاحبه منافقا زنديقا وقد قال عبد الله بن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ولهذا تزندق بالسماع طوائف كثيرة كما نبهنا عليه قبل هذا

ويقال هنا من المعلوم أن النفس سواء أريد بها ذات الإنسان أو ذات روحه المدبرة لجسده أو عني بها صفات ذلك من الشهوة والنفرة والغضب والهوى وغير ذلك فإن البشر لا يخلو من ذلك قط ولو فرض أن قلبه يخلو عن حركة هذه القوى والإرادات فعدمها شئ وسكونها شئ آخر والعدم ممتنع عليها ولكن قد تسكن ولكن إذا كانت ساكنة ومن شأن السماع أن يحركها فكيف يمكن الإنسان أن يسكن الشئ مع ملابسته لما يوجب حركته

فهذا أمر بالتفريق بين المتلازمين والجمع بين المتناقضين وهو يشبه أن يقال له أدم مشاهدة المرأة والصبي والأمرد أو مباشرته بالقبلة واللمس وغير ذلك من غير أن تتحرك نفسك أو فرجك إلى الاستمتاع به ونحو ذلك فهل الأمر بهذا إلا من احمق الناس

ولهذا قال من قال من العلماء العارفين إن أحوال السماع بعد مباشرته تبقى غير مقدورة للإنسان بل تبقى حركة نفسه وأحوالها أعظم من احوال الإنسان بعد مباشرة شرب الخمر فإن فعل هذا السماع في النفوس أعظم من فعل حميا الكؤوس

وقوله من أصغى إليه بحق تحقق فيقال عليه وجهان

أحدهما أن يقال إن الإصغاء إليه بحق مأمون الغائلة أن يخالطه باطل أمر غير مقدور عليه للبشر أكثر مما في قوة صاحب الرياضة والصفاء التام أن يكون حين الإصغاء لا يجد في نفسه إلا طلب الحق وإرادته لكنه لا يثق ببقائه على ذلك بل إذا سمع خالط الإصغاء بالحق الإصغاء بالنفس إذ تجرد الإنسان عن صفاته اللازمة لذاته محال ممتنع

الثاني أن يقال ومن أين يعلم أن كل من أصغى إليه بحق تحقق بل المصغى إليه بحق يحصل له من الزندقة والنفاق علما وحالا ما قد لا يشعر به كما قال عبد الله بن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل والنفاق هو الزندقة ومن المعلوم أن البقل ينبت في الأرض شيئا فشيئا لا يحس الناس بنباته فكذلك ما يبدو في القلوب من الزندقة والنفاق قد لا يشعر به أصحاب القلوب بل يظنون أنهم ممن تحقق ويكون فيهم شبه كثير ممن تزندق

يوضح هذا ان دعوى التحقق والتحقيق والحقائق قد كثرت على ألسنة أقوام هم من أعظم الناس زندقة ونفاقا قديما وحديثا من الباطنية القرامطة والمتفلسفة الاتحادية وغير هؤلاء

وكذلك قوله هو وارد حق يزعج القلوب إلى الحق

يقال له إن كان قد تنزعج به بعض القلوب أحيانا إلى الحق فالأغلب عليه أنه يزعجها إلى الباطل وقلما يزعجها إلى الحق محضا

بل قد يقال إنه لا يفعل ذلك بحال بل لابد أن يضم إلى ذلك شئ من الباطل فيكون مزعجا لها إلى الشرك الجلي أو الخفي فإن ما يزعج إليه هذا السماع مشترك بين الله وبين خلقه فإنما يزعج إلى القدر المشترك وذلك هو الإشراك بالله

ولهذا لم يذكر الله هذا السماع في القرآن إلا عن المشركين الذين قال فيهم وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية سورة الأنفال 35 فلا يكون مزعجا للقلوب إلى إرادة الله وحده لا شريك له بل يزعجها إلى الباطل تارة وإلى الحق والباطل تارة

ولو كان يزعج إلى الحق الذي يحبه الله خالصا أو راجحا لكان من الحسن المأمور به المشروع ولكان شرعه رسول الله بقوله أو فعله ولكان من سنة خلفائه الراشدين ولكان المؤمنون في القرون الثلاثة يفعلونه لا يتركون ما أحبه الله ورسوله وما يحرك القلوب إلى الله تحريكا يحبه الله ورسوله

وأيضا فهذا الإزعاج إلى الحق قد يقال إنه إنما قد يحصل لمن لم يقصد الاستماع بل صادفه مصادفة سماع شئ يناسب حاله بمنزلة الفأل لمن خرج في حاجة فأما من قصد الاستماع إليه والتغني به فقد قال النبي ليس منا من لم يتغن بالقرآن

قال أبو القاسم وحكى جعفر بن نصير عن الجنيد أنه قال تنزل الرحمة على الفقراء في ثلاثة مواطن عند السماع فإنهم لا يسمعون إلا عن حق ولا يقومون إلا عن وجد وعند أكل الطعام فإنهم لا يأكلون إلا عن فاقة وعند مجاراة العلم فإنهم لا يذكرون إلا صفة الأولياء

وذكر عقيب هذا فقال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول سمعت الجنيد يقول السماع فتنة لمن طلبه ترويح لمن صادفه وذكر بعد هذا سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول سمعت الجنيد يقول إذا رأيت المريد يحب السماع فأعلم أن فيه بقية من البطالة

قلت فهاتان المقالتان أسندهما عن جنيد و أما القول الأول فلم يسنده بل أرسله و هذان القولان مفسران و القول الأول مجمل فإن كان الأول محفوظا عن الجنيد فهو يحتمل السماع المشروع فإن الرحمة تنزل على أهله كما قال تعالى و إذا قرئ القرآن فأستمعوا له و أنصتوا لعلكم ترحمون سورة الأعراف 204 فذكر أن استماع القرآن سبب الرحمة

و قال النبي في الحديث الصحيح ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة و تنزلت عليهم السكينة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده

و قد ذكر الله في غير موضع من كتابه أن الرحمة تحصل بالقرآن كقوله تعالى و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين سورة الإسراء

و قال هذا بصائر من ربكم و هدى و رحمة لقوم يؤمنون سورة الأعراف 203

و قال و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ و هدى و رحمة سورة النحل 89

يبين ذلك أن لفظ السماع يدخل فيه عندهم السماع الشرعي كسماع القرآن و الخطب الشرعية و الوعظ الشرعي و قد أدخل أبو القاسم هذا النوع في باب السماع و ذكر أبو القاسم هذا النوع في باب السماع و ذكر في ذلك آثارا فقال سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول سمعت عبد الله بن الصوفي يقول سمعت الرقي يقول سمعت بن الجلاء يقول كان بالمغرب شيخان لهما أصحاب و تلامذة يقال لأحدهما جبلة و للثاني رزيق فزار رزيق يوما جبلة فقرأ رجل من أصحاب رزيق شيئا فصاح رجل من أصحاب جبلة صيحة و مات فلما أصبحوا قال جبلة لرزيق أين الذي قرأ بالأمس فليقرأ آية فقرأ فصاح جبلة صيحة فمات القارئ فقال جبلة واحد بواحد و البادي أظلم

فهذا من سماع القرآن و أما الموت بالسماع فمسألة أخرى نتكلم عليها إن شاء الله في موضعها

قال أبو القاسم و سئل إبراهيم المارستاني عن الحركة عند السماع فقال بلغني أن موسى عليه السلام قص في بني إسرائيل فمزق واحد منهم قميصه فأوحى الله إليه قل له مزق لي قلبك ولا تمزق لي ثيابك

فهذا سماع لقصص الأنبياء

قال أبو القاسم وسأل أبو علي المغازلي الشبلي فقال ربما يطرق سمعي آية من كتاب الله عز و جل فتحدوني علي ترك الأشياء والإعراض عن الدنيا ثم أرجع إلى احوالي وإلى الناس فقال الشبلي ما اجتذبك إليه فهو عطف منه عليك ولطف وما ردك إلى نفسك فهو شفقة منه عليك لأنه لا يصح لك التبري من الحول والقوة في التوجه إليه

فهذا سماع في القرآن

وقال سمعت أبا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر السراج يقول سمعت أحمد بن مقاتل العكي يقول كنت مع الشبلي في مسجد ليلة في شهر رمضان وهو يصلي خلف إمام له وأنا بجنبه فقرأ الإمام ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك سورة الإسراء 86 فزعق زعقة قلت طارت روحه وهو يرتعد ويقول بمثل هذا يخاطب الأحباء يردد ذلك كثيرا فهذا سماع القرآن

قال وحكى عن الجنيد أنه قال دخلت على السري يوما فرأيت عنده رجلا مغشيا عليه فقلت ما له فقال سمع آية من كتاب الله تعالى فقلت تقرأ عليه ثانيا فقرئ فأفاق فقال لي من اين علمت هذا فقلت إن قميص يوسف ذهبت بسببه عين يعقوب عليه السلام ثم به عاد بصره فآستحسن مني ذلك

قال وسمعت ابا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر السراج يقول سمعت عبد الواحد بن علوان يقول كان شاب يصحب الجنيد فكان إذا سمع شيئا من الذكر يزعق فقال له الجنيد يوما إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني فكان إذا سمع شيئا يتغير ويضبط نفسه حتى كان يقطر من كل شعرة من بدنه فيوما من الأيام صاح صيحة تلفت بها نفسه

فهذا سماع الذكر لا يختص بسماع الشعر الملحن

فقول القائل تنزل الرحمة عليهم عند السماع يصح ان يراد به هذا السماع المشروع

وقوله لا يقومون إلا عن وجد يعني أنهم صادقون ليسوا متصنعين بمنزلة المظهر للوجد من غير حقيقة لكن قد يقال قوله لا يستمعون إلا عن حق هذا التقييد لا يحتاج إليه في السماع الشرعي فإنه حق بخلاف السماع المحدث فإنه يسمع بحق وباطل

فيقال وكذلك سماع القرآن وغيره قد يكون رياء وسمعة وقد يكون بلا قلب ولا حضور ولا تدبر ولا فهم ولا ذوق

وقد أخبر الله عن المنافقين أنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى والصلاة مشتملة على السماع الشرعي

وقد أخبر الله عن كراهة المنافقين للسماع الشرعي في غير موضع كقوله وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون إلى قوله وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون سورة التوبة 124 127 فهؤلاء المنافقون ينصرفون عن السماع الشرعي

وبالجملة فإذا كان المسند المحفوظ المعروف من قول الجنيد أنه رحمه الله لا يحمد هذا السماع المبتدع ولا يأمر به ولا يثني عليه بل المحفوظ من أقواله ينافي ذلك لم يجز أن يعمد إلى قول مجمل روى عنه بغير إسناد فيحمل على أنه مدح هذا السماع المحدث

وقد روى بعض الناس أن الجنيد كان يحضر هذا السماع في أول عمره ثم تركه وحضوره له فعل والفعل قد يستدل به على مذهب الرجل وقد لا يستدل ولهذا ينازع الناس في مذهب الإنسان هل يوجد من فعله

وقال بعض السلف أضعف العلم الرؤية وهو قوله رأيت فلانا يفعل وقد يفعل الشئ بموجب العادة والموافقة من بعد اعتقاد له فيه وقد يفعل نسيانا لا لاعتقاده فيه أو حضا وقد يفعله ولا يعلم أنه ذنب ثم يعلم بعد ذلك أنه ذنب ثم يفعله وهو ذنب وليس أحد معصوما عن أن يفعل ما هو ذنب لكن الأنبياء معصومون من الأقرار على الذنوب فيتأسى بأفعالهم التي أقروا عليها لأن الإقرار عليها يقتضي أنها ليست ذنبا وأما غير الأنبياء فلا فكيف بمن يكون فعل فعلا ثم تركه

وأقصى ما يقال إن الجنيد كان يفعل أولا هذا السماع على طريق الاستحسان له والاستحباب أو يقول ذلك فيكون هذا لو صح معارضا لأقواله المحفوظة عنه فيكون له في المسألة قولان

وقد قال ابو القاسم حكى عن الجنيد أنه قال السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء الزمان والمكان والإخوان

وهذه حكاية مرسلة والمراسيل في هذه الرسالة لا يعتمد عليها إن لم تعرف صحتها من وجه آخر كما تقدم ولو صح ذلك وأنه أراد سماع القصائد لكان هذا أحد قوليه

وذلك أن قوله السماع فتنة لمن طلبه ترويح لمن صادفه صريح بأنه مكروه مذموم منهى عنه لمن قصده وهذا هو الذي نقرره فقول الجنيد رضي الله عنه من محض الذي قلناه

وقوله ترويح لمن صادفه لم يثبت منه وإنما أثبتوا أنه راحة وجعل ذلك مع المصادفة لا مع القصد والتعمد

والمصادفة فيها قسم لا ريب فيه وهو استماع دون استماع كالمرء يكون مارا فيسمع قائلا يقول بغير قصده واختياره أو يكون جالسا في موضع فيمر عليه من يقول أو يسمع قائلا من موضع آخر بغير قصده

وأما إذا اجتمع بقوم لغير السماع إما حضر عندهم أو حضروا عنده وقالوا شيئا فهذا قد يقال إنه صادفه السماع فإنه لم يمش إليه ويقصده وقد يقال بل إصغاؤه إليه واستماعه الصوت يجعله مستمعا فيجعله غير مصادف

وقد قال تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلثم سورة النساء 140 فجعل القاعد المستمع بمنزلة القائل

فأكثر ما يقال إن الجنيد اراد بالمصادفة هذه الصورة وهو مع جعله ترويحا لم يجعله سببا للرحمة وهذا غايته أن يكون مباحا لا يكون حسنا ولا رحمة ولا مستحبا والكلام في إباحته وتحريمه غير الكلام في حسنه وصلاحه ومنفعته وكونه قربة وطاعة فالجنيد لم يقل شيئا من هذا

وقول القائل تنزل الرحمة على أهل السماع إذا أراد به سماع القصائد يقتضي أنه حسن وأنه نافع في الدين وكلام الجنيد صريح في خلاف ذلك

قال أبو القاسم وسئل الشبلي عن السماع فقال ظاهره فتنة وباطنه عبرة فمن عرف الإشارة حل له السماع بالعبرة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية

قلت هذا القول مرسل لم يسنده فالله أعلم به فإن كان محفوظا عن الشبلي فقد نبهنا على ان الأئمة في طريق الحق الذين يعتد بأقوالهم كما يعتد بأقوال أئمة الهدى هم مثل الجنيد وسهل ونحوهما فإن اقوالهم صادرة عن أصل وهم مستهدون فيها

وأما الشبلي ونحوه فلا بد من عرض أقواله وأحواله على الحجة فيقبل منها ما وافق الحق دون ما لم يكن كذلك لأنه قد كان يعرض له زوال العقل حتى يذهب به إلى المارستان غير مرة وقد يختلط اختلاطا دون ذلك

ومن كان بهذه الحال فلا تكون أقواله وأفعاله في مثل هذه الأحوال مما يعتمد عليها في طريق الحق ولكن له أقوال وأفعال حسنة قد علم حسنها بالدليل فتقبل لحسنها في نفسها وإن كان له حال أخرى بغير عقله أو اختلط فيها او وقع منه ما لا يصلح

ومعلوم أن الجنيد شيخه هو الإمام المتبع في الطريق وقد أخبر أن لسماع فتنة لمن طلبه فتقليد الجنيد في ذلك أولى من تقليد الشبلي في قوله ظاهره فتنة وباطنه عبرة إذ الجنيد أعلى وأفضل وأجل بأتفاق المسلمين وقد أطلق القول بأنه فتنة لطالبه وهو لا يريد أنه فتنة في الظاهر فقط إذ من شأن الجنيد أن يتكلم على صلاح القلوب وفسادها فإنما أراد أنه يفتن القلب لمن طلبه وهذا نهى منه وذم لمن يطلبه مطلقا ومخالفا لما أرسل عن الشبلي أنه قال من عرف الإشارة حل له السماع بالعبرة

وهذا التفصيل يضاهي قول من يقول هو مباح أو حسن للخاصة دون العامة وقد تقدم الكلام على ذلك وأنه مردود لأن قائله اختلف قوله في ذلك وما أعلم احدا من المشايخ المقبولين يؤثر عنه في السماع نوع رخصة وحمد إلا ويؤثر عنه الذم والمنع فهم فيه كما يذكر عن كثير من العلماء أنواع من مسائل الكلام

فلا يوجد عمن له في الأمة حمد شئ من ذلك إلا وعنه ما يخالف ذلك وهذا من رحمة الله بعباده الصالحين حيث يردهم في آخر أمرهم إلى الحق الذي بعثه به رسوله ولا يجعلهم مصرين على ما يخالف الدين المشروع