الانتصار لأصحاب الحديث
الذامون لأصحاب الحديث صنفان
قد لهج بذم أصحاب الحديث صنفان أهل الكلام وأهل الرأي فهم في كل وقت يقصدونهم بالثلب والعيب وينسبونهم إلى الجهل وقلة العلم واتباع السواد على البياض وقالوا غثاء وغثر وزوامل أسفار وقالوا أقاصيص وحكايات وأخبار وربما قرؤوا كمثل الحمار يحمل أسفارا
وفي الحقيقة ما ثلموا إلا دينهم ولا سعوا إلا في هلاك أنفسهم وما للأساكفة وصوغ الحلي وصناعة البز وما للحدادين وتقليب العطر والنظر في الجواهر أما يكفيهم صدأ الحديد ونفخ في الكير وشواظ الذيل والوجه وغبرة في الحدقة وما لأهل الكلام ونقد حملة الأخبار وما أحسن قول من قال
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
ينيلك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
لكن الحق عزيز وكل مع عزته يدعيه ودعواهم الحق تحجبهم عن مراجعة الحق نعم إن على الباطل ظلمة وإن على الحق نورا ولا يبصر نور الحق إلا من حشي قلبه بالنور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور فالمتخبط في ظلمات الهوى والمتردي في مهاوي الهلكة والمتعسف في المقال لا يوفق للعود إلى الحق ولا يرشد إلى طريق الهدى ليظهر وعورة مسلكه وعز جانبه وتأبيه إلا على أهله كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون
باب الحث على السنة والجماعة والاتباع وكراهة التفرق والابتداع
اعلم أن الله تعالى أمر خلقه بلزوم الجماعة ونهاهم عن الفرقة وندبهم إلى الاتباع وحثهم عليه وذم الابتداع وأوعدهم عليه
وذلك بين في كتابه وسنة رسوله
قال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون وأمر تعالى باتباع النبي في آيات من كتابه
وقد وردت الأحاديث حاثة على لزوم سنته واجتناب كل بدعة
وإذا ثبت أنا أمرنا بالاتباع والتمسك بأثر النبي ولزوم ما شرعة لنا من الدين والسنة ولا طريق لنا إلى الوصول إلى هذا إلا بالنقل والحديث بمتابعة الأخبار التي رواها الثقات والعدول من هذه الأمة عن رسول الله وعن الصحابة ومن بعده
فنشرح الآن قول أهل السنة إن طريق الدين هو السمع والأثر وأن طريقة العقل والرجوع إليه وبناء السمعيات عليه مذموم في الشرع ومنهي عنه ونذكر مقام العقل في الشرع والقدر الذي أمر الشرع باستعماله وحرم مجاوزته
وقد سلك أهل الكلام في رد الناس من الأحاديث إلى المعقولات طريقا شبهوا بها على عامة الناس
قالوا إن أمر الدين أمر لابد فيه من وقوع العلم ليصح الاعتقاد فيه فإن المصيب في ذلك عند اختلاف المختلفين واحد والمخالف في أمر من أمور الدين الذي مرجعه إلى الاعتقاد إما كافر أو مبتدع
وما كان أمره على هذا الوجه فلابد في ثبوته من طريق توجب العلم حتى لا يتداخل من حصل له العلم بذلك شبهة وشك بوجه من الوجوه
والأخبار التي يرويها أهل الحديث في أمور الدين أخبار آحاد وهي غير موجبة للعلم وإنما توجب الإعمال في الأحكام خاصة
وإذا سقط الرجوع إلى الأخبار فلابد من الرجوع إلى دليل العقل وما يوجبه النظر والاعتبار
فهذا من أعظم شبههم في الإعراض عن الأحاديث والآثار وسيأتي الجواب عنها
وقد قال عمر بن الخطاب إنه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله
ما ورد عن الأئمة في ذم الكلام
ونذكر الآن ما ورد عن الأئمة في ذم الكلام
عن سهيل بن نعيم قال قال الشافعي كل من تكلم بكلام في الدين أو في شيء من هذه الأهواء ليس له فيه إمام متقدم من النبي وأصحابه فقد أحدث في الإسلام حدثا
وقد قال النبي من أحدث حدثا أو آوى محدثا في الإسلام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفا ولا عدلا
ويقول إياكم والنظر في الكلام فإن رجلا لو سئل عن مسألة في الفقه فأخطأ فيها أو سئل عن رجل قتل رجلا فقال ديته بيضة كان أكثر شيء أن يضحك منه ولو سئل عن مسألة في الكلام فأخطأ فيها نسب إلى البدعة
فهذا كلام الشافعي في ذم الكلام والحث على السنة وهو الإمام الذي لا يجارى والفحل الذي لا يقاوم
فلو جاز الرجوع إليه وطلب الدين من طريقه لكان بالترغيب فيه أولى من الزجر عنه وبالندب إليه أولى من النهي عنه فلا ينبغي لأحد أن ينصر مذهبه في الفروع ثم يرغب عن طريقته في الأصول
وكان سفيان الثوري يبغض أهل الأهواء وينهى عن مجالسهم أشد النهي ويقول عليكم بالأثر وإياكم والكلام في ذات الله
وكان أحمد بن حنبل يقول أئمة الكلام زنادقة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله
وإنما ترد البدعة بالأثر لا ببدعة مثلها فإنه روي عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المقدم قال إنما يرد على أهل البدع بآثار رسول الله وآثار الصالحين فأما من رد عليهم بالمعقول فقد رد باطلا بباطل
فهؤلاء الأئمة هم المرجوع إليهم في أمر الدين وبيان الشرع ومن سلك طريقا في الإسلام بعدهم فإياهم يتبع وبهم يقتدي وموافقتهم يتحرى فلا يجوز لمسلم أن يظن بهم ظن السوء وأنهم قالوا ذلك عن جهل وقلة علم وخبرة في الدين
وما هذا إلا من الغل الذي أمر الله بالاستعاذة منه فقال ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا
فتبين لنا أن الطريق عند الأئمة الهادية اتباع السلف والاقتداء بهم دون الرجوع إلى الآراء
ومن هنا قال بعضهم العلم علمان علم نبوي وعلم نظري
والعلم النظري محتاج إلى العلم النبوي لأن العلم النبوي جاء من الله وهو مقرون بالصواب على كل حال
والعلم النظري ما يستنبط ويجوز أن يكون صوابا ويجوز أن يكون خطأ
ومثال ذلك ما قيل الماء ماآن ماء نزل من السماء وماء نبع من الأرض
فالماء النازل من السماء على طعم واحد من اللذة والطيب وعلى لون واحد من الصفاء والنقاء وعلى جوهر واحد من الطهارة والنظافة كذلك العلم النازل من السماء كالوحي
والماء النابع من الأرض فعلى أنواع منه صاف طاهر على موافقة وحي الله ومنه خبيث كدر لمخالفته وحي الله
وقال بعضهم الحديث أصل والرأي فرع ولا يجوز أن يكون الأصل والفرع سواء ولا حالهما في الرتبة والتقدمة واحدة
ألا ترى إلى قوله لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال
فإن لم تجد قال أجتهد رأيي قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله
فكان المصير إلى الحديث بمنزلة الماء في الطهارات والقياس والرأي بمنزلة التراب وإنما يصار إلى التراب عند عدم الماء كذلك لا يصار إلى الرأي إلا عند عدم الحديث فكان مثل من آثر الرأي والقياس وقدمهما على الحديث والأثر مثل من يعدل عن الطهارة بالماء في وقت السعة ويؤثر التيمم بالتراب الذي وضع للضرورة والعدم
ولقد أحسن سعيد بن حميد حين يقول
فإنك حين تطرحني لقوم ... هم عدم وفي صور الوجود
كمن هو تارك ماء طهورا ... وراض بالتيمم بالصعيد
وأنشدوا أيضا
دين النبي محمد آثار ... نعم المطية للفتى الأخبار
لا تغفلن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما غلط الفتى سبل الهدى ... والشمس بازغة لها أنوار
وأنشدوا أيضا
أهل الكلام وأهل الرأي قد جهلوا ... علم الحديث الذي ينجو به الرجل
لو أنهم عرفوا الآثار ما انحرفوا ... عنها إلى غيرها لكنهم جهلوا
وأنشدوا أيضا
أهل الكلام دعونا من تعسفكم ... كم تبتغون لدين الله تبديلا
ما أحدث الناس في أديانهم حدثا ... إلا جعلتم له وجها وتأويلا
ولأبي بكر بن أبي داود السجستاني
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيا لعلك تفلح
ولذ بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح
ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح
وأنشد أيضا
خذ ما أتاك به الأخبار من أثر ... شبها بشبه وأمثالا بأمثال
ولا تميلن يا هذا إلى بدع ... تضل أصحابها بالقيل والقال
فصل فيما روي عنهم من ذم الجدال والخصومات في الدين وما كرهوا من ذلك
عن ابن مسعود قال قال رسول الله هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون
وعن علي بن الحسين قال قال رسول الله من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
وعن الحسن البصري أنه كان ينهى عن الخصومة ويقول إنما يخاصم الشاك في دينه
وعن ابن سيرين قال إني لأدع المراء وإني لأعلمكم به
وقد جاء في تفسير قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ يعني حب الجدل
وقال الأوزاعي المنازعة والجدال في الدين محدث
واعلم أنك متى تدبرت سيرة الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح وجدتهم ينهون عن جدال أهل البدعة بأبلغ النهي ولا يرون رد كلامهم بدلائل العقل
وإنما كانوا إذا سمعوا بواحد من أهل البدعة أظهروا التبري منه ونهوا الناس عن مجالسته ومحاورته والكلام معه وربما نهوا عن النظر إليه
وقد قالوا إذا رأيت مبتدعا في طريق فخذ في طريق آخر
ولقد ظهرت هذه الأهواء الأربعة التي هي رأس الأهواء أعني القدر والإرجاء ورأي الحرورية والرافضة في آخر زمان الصحابة
فكان إذا بلغهم أمرهم أمروا بما ذكرنا ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه جادلهم بدلائل العقل أو أمر بذلك
وقد كانوا إلى عهد رسول الله أقرب وقد شاهدوا الوحي والتنزيل وعدلهم الله في القرآن وشهد لهم بالصدق وشهد لهم النبي بالخيرية في الدين
وكانت طاعتهم أجل وقلوبهم أسلم وصدورهم أطهر وعلمهم أوفر وكانوا من الهوى والبدع أبعد
ولو كان طريق الرد على المبتدعة هو الكلام ودلائل العقل والجدال معهم لاشتغلوا به وأمروا بذلك وندبوا إليه
وإنما ظهرت المجادلات في الدين والخصومات بعد مضي قرن التابعين ومن يليهم حين ظهر الكذب وفشت شهادات الزور وشاع الجهل واندرس أمر السنة بعض الاندراس وأتى على الناس زمان حذر منه النبي والصحابة من بعده
ولقد صدق إبراهيم النخعي حيث يقول إن القوم لم يؤخر عنهم شيء خبئ لكم لفضل عندكم وإنما كان غايتهم التبري وإظهار المجانبة والأمر بالتباعد
والمشهور عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما بلغه قول أهل القدر قال أبلغوهم أني منهم بريء ولو وجدت أعوانا لجاهدتهم
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لو رأيت بعضهم لضربت رأسه
وأتى رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال أخبرني عن القدر قال طريق مظلم فلا تسلكه قال أخبرني عن القدر قال بحر عميق فلا تلجه قال أخبرني عن القدر قال سر الله فلا تكلفه
وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال يستتاب القدري فإن تاب وإلا نفي من بلاد المسلمين
وقال عمر بن عبد العزيز ينبغي أن نتقدم إليهم فيما أحدثوا من القدر فإن كفوا وإلا استلت ألسنتهم من أقفيتهم استلال
فهذا طريق القوم في أمر البدع وأهلها
قال رجل من أهل البدع لأيوب السختياني يا أبا بكر أسألك عن كلمة فولى وهو يقول ولا نصف كلمة
وقال ابن طاوس لابن له وتكلم رجل من أهل البدع يا بني أدخل أصبعيك في أذنيك ثم قال اشدد اشدد
وقال عمر بن عبد العزيز من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل
وقال رجل للحكم بن عتيبة ما حمل أهل الأهواء على هواهم قال الخصومات
وقال معاوية بن قرة وكان أبوه من أصحاب النبي إياكم وهذه الخصومات إنها تحبط الأعمال
وقال أبو قلابة وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب النبي لا تجالسوا أصحاب الأهواء أو قال أصحاب الخصومات لا تكلموهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون
ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين فقالا يا أبا بكر نحدثك بحديث قال لا قالا نقرأ عليك آية من كتاب الله قال لا لتقومان أو لأقومن
وكانوا يقولون إن القلب ضعيف وإنا نخاف إن استمعت منهم شيئا أن يميل قلبك إلى قولهم
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي اعلموا أن اتباع الكتاب والسنة أسلم والخوض في أمر الدين بالمنازعة والرد حرام والاجتناب عنه سلامة
وأرجو أن يجوز القياس على الأصل الثابت من العالم الفطن المتيقظ
ولا تكاد تجد شيئا من تأويل الكتاب مخالفا لسنة النبي إذا صحت الرواية
وعامة تاركي العلم والسنة وأصحاب الأهواء والرأي والمقاييس لثقل السنة عليهم
ولا أعرف حديثين يخالف أحدهما الآخر ولكل ما روي من الأحاديث المختلفة معان يعلمها أهل العلم بها
فهذا الذي نقلناه طريقة السلف وما كانوا عليه
واعلم أن الأئمة الماضين وأولي العلم من المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة وقد كانت هذه الفتن قد وقعت في زمانهم وظهرت وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وعلموه من سوء عاقبتها وسيء مغبتها
وقد كانوا على بينة من أمورهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله بنوره وشرح صدورهم بضياء معرفته فرأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة مما سواها وأن الحجة قد وقعت وتمت بهما وأن العلة والشبهة قد أزيحت بماكنهما
فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها واعترضهم الملحدون بشبههم والطاعنون في الدين بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ودلائل العقل لم يقووا عليهم ولم يظهروا في الحجاج عليهم
فكان ذلك ضلة من الرأي وخدعة من الشيطان
فلو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين وروح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور وأضاءت فيها مصابيح النور
وإنما وقعوا فيما وقعوا فيه عند أهل الحق بعد ما تدبروا وظهر لهم بتوفيق الله سبب ذلك
وهو أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه زيادة فهم وفضل ذكاء وذهن يوهمه أنه إن رضي في عمله ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة وعد واحدا من الجمهور والكافة وأنه قد ضل فهمه واضمحل عقله وذهنه
فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر ليمتازوا بذلك عن طبقة الدهماء ويتبينوا في الرتبة عمن يرونهم دونهم في الفهم والذكاء
فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا عن حقائقها ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس ولا قبلوه بيقين علم
ولما رأوا كتاب الله ينطق بخلاف ما انتحلوه ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما يسنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم
ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله ولسنته المأثورة عنه وردوها على وجوهها وأساؤوا في نقلتها القالة ووجهوا عليهم الظنون ورموهم بالتزيد ونسبوهم إلى ضعف المنة وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث
ولو أنهم أحسنوا الظن بسلفهم وآثروا متابعتهم وسلموا حيث سلموا وطلبوا المعاني حيث طلبوا واجتهدوا في رد الهوى وخداع الشيطان لانشرحت صدورهم وظهر لهم برد اليقين وروح المعرفة وضياء التسليم ما ظهر لسلفهم وبرز لهم من أعلام الحق ما كان مكشوفا لهم
غير أن الحق عزيز والدين غريب والزمان مفتن
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
سؤال من أهل الكلام
قالوا إن قولكم إن السلف من الصحابة والتابعين لم يشتغلوا بإيراد دلائل العقل والرجوع إليه في علم الدين وعدوا هذا النمط من الكلام بدعة فكما أنهم لم يشتغلوا بهذا كذلك لم يشتغلوا بالاجتهاد في الفروع وطلب أحكام الحوادث ولم يرو عنهم شيء من هذه المقايسات والآراء والعلل التي وضعها الفقهاء فيما بينهم
وإنما ظهر هذا بعد زمان أتباع التابعين وقد استحسنه جميع الأمة ودونوه في كتبهم فلا ينكر أن يكون علم الكلام على هذا الوجه
وقد قال النبي ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح وهذا مما رآه المسلمون حسنا فهو مستحسن عند الله
والبدعة على وجهين بدعة قبيحة وبدعة حسنة
قال الحسن البصري القصص بدعة ونعمت البدعة كم من أخ يستفاد ودعوة مجابة وسؤل معطى
وعن بعضهم أنه سئل عن الدعاء عند ختم القرآن كما يفعله الناس اليوم قال بدعة حسنة
وكيف لا يكون هذا النوع من العلم حسنا وهو يتضمن الرد على الملحدين والزنادقة والقائلين بقدم العالم وكذلك أهل سائر الأهواء من هذه الأمة ولولا النظر والاعتبار ما عرف الحق من الباطل والحسن من القبيح وبهذا العلم انزاحت الشبهة عن قلوب أهل الزيغ وثبت قدم اليقين للموحدين
وإذا منعتم أدلة العقول فما الذي تعتقدون في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها
وقد علم الكل أن الكتاب لم يعلم حقه والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وقد نفيتم ذلك وإذا ذهب الدليل لم يبق المدلول أيضا وفي هذا الكلام هدم الدين ورفعه ونقضه فلا يجوز الاشتغال بمسائله
الجواب والله الموفق للصواب
أنا قد دللنا فيما سبق بالكتاب الناطق من الله تعالى ومن قول النبي ومن أقوال الصحابة رضي الله عنهم أنا أمرنا بالاتباع وندبنا إليه ونهينا عن الابتداع وزجرنا عنه
وشعار أهل السنة اتباعهم السلف الصالح وتركهم كل ما هو مبتدع محدث وقد روينا عن سلفهم أنهم نهوا عن هذا النوع من العلم وهو علم الكلام وزجروا عنه وعدوا ذلك ذريعة للبدع والأهواء
وحمل بعضهم قوله اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع على هذا وقوله إن من العلم لجهلا
فأما قولهم إن السلف من الصحابة والتابعين لم ينقل عنهم أنهم اشتغلوا بالاجتهاد في الفروع فالجواب من وجهين
أحدهما أنه لم ينقل عنهم النهي عن ذلك والزجر عنه بل من تدبر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المسائل واحتجاجهم في ذلك عرف أنهم كانوا يرون القياس والاجتهاد في الفروع
وقد روى أهل الحديث والنقل عنهم ذلك واحتجاج بعضهم على بعض وطلب الأشباه ورد الفروع إلى الأصول
وأما من كره ذلك فيحتمل أنه إنما كره ذلك إذا كان مع وجود النص من الكتاب والسنة على ما سبق بيانه
وأما الكلام في أمور الدين وما يرجع إلى الاعتقاد من طريق المعقول فلم ينقل عن أحد منهم بل عدوه من البدع والمحدثات وزجروا عنه غاية الزجر ونهوا عنه
جواب آخر أن الحوادث للناس والفتاوى في المعاملات ليس لها حصر ولا نهاية وبالناس إليها حاجة عامة فلو لم يجز الاجتهاد في الفروع وطلب الأشبه بالنظر والاعتبار ورد المسكوت عنه إلى المنصوص عليه بالأقيسة لتعطلت الأحكام وفسدت على الناس أمورهم والتبس أمر المعاملات على الناس
ولابد للعامي من مفت فإذا لم يجد حكم الحادثة في الكتاب والسنة فلابد من الرجوع إلى المستنبطات منهما فوسع الله هذا الأمر على هذه الأمة وجوز الاجتهاد
ورد الفروع إلى الأصول لهذا النوع من الضرورة ومثل هذا لا يوجد في المعتقدات لأنها محصورة محدودة قد وردت النصوص فيها من الكتاب والسنة فإن الله تعالى أمر في كتابه وعلى لسان رسوله باعتقاد أشياء معلومة لا مزيد عليها ولا نقصان عنها وقد أكملها بقوله اليوم أكملت لكم دينكم فإذا كان قد أكمله وأتمه وهذا المسلم قد اعتقده وسكن إليه ووجد قرار القلب عليه فبماذا يحتاج إلى الرجوع إلى دلائل العقل وقضاياه والله أغناه عنه بفضله وجعل له المندوحة عنه ولم يدخل في أمر يدخل عليه منه الشبهة والإشكالات ويوقعه في المهالك والورطات
وهل زاغ من زاغ وهلك من هلك وألحد من ألحد إلا بالرجوع إلى الخواطر والمعقولات واتباع الآراء في قديم الدهر وحديثه
وهل نجا من نجا إلا باتباع سنن المرسلين والأئمة الهادية من الأسلاف المتقدمين
وإذا كان هذا النوع من العلم لطلب زيادة في الدين فهل تكون الزيادة بعد الكمال إلا نقصانا عائدا على الكمال مثل زيادة الأعضاء والأصابع في اليدين والرجلين
فليتق امرؤ ربه تعالى ولا يدخلن في دينه ما ليس منه وليتمسك بآثار السلف والأئمة المرضية وليكونن على هديهم وطريقهم وليعض عليها بنواجذه ولا يوقعن نفسه في مهلكة يضل فيها الدين ويشتبه عليه الحق والله حسيب أئمة الضلال الداعين إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون
حجية خبر الواحد
فصل
ونشتغل الآن بالجواب عن قولهم فيما سبق إن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم وهذا رأس شغب المبتدعة في رد الأخبار وطلب الدليل من النظر والاعتبار
فنقول وبالله التوفيق إن الخبر إذا صح عن رسول الله ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم
هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة
وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ولابد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأخبار وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول
ولو أنصفت الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد يوجب العلم فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد
ترى أصحاب القدر يستدلون بقول النبي كل مولود يولد على الفطرة وبقوله خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم
وترى أهل الإرجاء يستدلون بقوله من قال لا إله إلا الله دخل الجنة قالوا وإن زنى وإن سرق قال نعم وإن زنى وإن سرق
وترى الرافضة يستدلون بقوله يجاء بقوم من أصحابي فيسلك بهم ذات الشمال فأقول أصيحابي أصيحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم
وترى الخوارج يستدلون بقوله سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وبقوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن
إلى غير هذا من الأحاديث التي يستدل بها أهل الفرق
ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد
وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى وفي مسائل القدر والرؤية وأصل الإيمان والشفاعة والحوض وإخراج الموحدين المذنبين من النار وفي صفة الجنة والنار وفي الترغيب والترهيب والوعد والوعيد وفي فضائل النبي ومناقب أصحابه وأخبار الأنبياء المتقدمين عليه وكذلك أخبار الرقائق والعظات وما أشبه ذلك مما يكثر عده وذكره
وهذه الأشياء كلها علمية لا عملية وإنما تروى لوقوع علم السامع بها فإذا قلنا إن خبر الواحد بها لا يجوز أن يوجب العلم حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم لاغين هاذين مشتغلين بما لا يفيد أحدا شيئا ولا ينفعه ويصير كأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه
وربما يترقى هذا القول إلى أعظم من هذا فإن النبي أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من أصحابه ليؤدوه إلى الأمة وينقلوا عنه فإذا لم يقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدي نعوذ بالله من هذا القول الشنيع والاعتقاد القبيح
ويدل عليه أن الأمر مشتهر في أن النبي بعث الرسل إلى الملوك إلى كسرى وقيصر وملك الإسكندرية وإلى أكيدر دومة وغيرهم من ملوك الأطراف وكتب إليهم كتبا على ما عرف ونقل واشتهر
وإنما بعث واحدا واحدا ودعاهم إلى الله تعالى وإلى التصديق برسالته لإلزام الحجة وقطع العذر لقوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وهذه المعاني لا تحصل إلا بعد وقوع العلم لمن أرسل إليه بالإرسال والمرسل وأن الكتاب من قبله والدعوة منه
وقد كان نبينا بعث إلى الناس كافة وكثير من الأنبياء بعثوا إلى قوم دون قوم وإنما قصد بإرسال الرسل إلى هؤلاء الملوك والكتاب إليهم بث الدعوة في جميع الممالك ودعاء الناس عامة إلى دينه على حسب ما أمره الله تعالى بذلك فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر على إرسال الواحد من أصحابه في هذا الأمر
وكذلك في أمور كثيرة اكتفى بإرسال الواحد من أصحابه منها
أنه بعث عليا رضي الله عنه لينادي في موسم الحج بمنى ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي عهد فمدته إلى أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا بد في هذه الأشياء من وقوع العلم للقوم الذين كان يناديهم حتى إن أقدموا على شيء من هذا بعد سماع هذا القول كان رسول الله مبسوط العذر في قتالهم وقتلهم
وكذلك بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم إذا أجابوا شرائعه
وبعث إلى أهل خيبر في أمر القتيل واحدا يقول لهم إما أن تدوا أو تؤذنوا بحرب من الله ورسوله
وبعث إلى قريظة أبا لبابة بن عبد المنذر يستنزلهم على حكمه
وجاء أهل قباء واحد وهم في مسجدهم يصلون فأخبرهم بصرف القبلة إلى المسجد الحرام فانصرفوا في صلاتهم واكتفوا بقوله ولابد في مثل هذا من وقوع العلم به
وكان النبي يرسل الطلائع والجواسيس في ديار الكفر ويقتصر على الواحد في ذلك ويقبل قوله إذا رجع وربما أقدم عليهم بالقتل والنهب بقوله وحده
ومن تدبر أمور النبي وسيرته لم يخف عليه ما ذكرنا وما يرد هذا إلا معاند مكابر
ولو أنك وضعت في قلبك أنك سمعت الصديق أو الفاروق أو غيرهما من وجوه الصحابة رضي الله عنهم يروي لك حديثا عن النبي في أمر من الاعتقاد مثل جواز الرؤية على الله تعالى أو إثبات القدر أو غير ذلك لوجدت قلبك مطمئنا إلى قوله لا يتداخلك شك في صدقه وثبوت قوله
وفي زماننا هذا ترى الرجل يسمع من أستاذه الذي يختلف إليه ويعتقد فيه التقدمة والصدق أنه سمع أستاذه يخبر عن شيء من عقيدته التي يريد أن يلقى الله تعالى بها ويرى نجاته فيها فيحصل للسامع علم بمذهب من نقل عنه أستاذه ذلك بحيث لا يختلجه شبهة ولا يعتريه شك
وكذلك في كثير من الأخبار التي قضيتها العلم توجد بين الناس فيحصل لهم العلم بذلك الخبر ومن رجع إلى نفسه علم ذلك
واعلم أن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب وللظن والتجوز فيه مدخل لكن هذا الذي قلناه لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشتغلا بعلم الحديث والبحث عن سيرة النقلة والرواة ليقف على رسوخهم في هذا العلم وكنه معرفتهم به وصدق ورعهم في أحوالهم وأقوالهم وشدة حذرهم من الطغيان والزلل وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر والبحث عن أحوال الرواة والوقوف على صحيح الأخبار وسقيهما
ولقد كانوا رحمهم الله وأنزل رضوانه عليهم بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحدا في كلمة يتقولها على رسول الله ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم وأدوا على ما أدي عليهم وكانوا في صدق العناية والاهتمام بهذا الشأن بما يجل عن الوصف ويقصر دونه الذكر
وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم وعرف حالهم وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه ولم يحتج إلى شيء من هذا الذي قلناه والله ولي التوفيق والمعونة
من علامات الفرقة الناجية اتفاقهم في أصول الدين ومسائل الاعتقاد
والذي يزيد ما قلناه إيضاحا أن النبي حين سئل عن الفرقة الناجية قال ما أنا عليه وأصحابي بمعنى من كان على ما أنا عليه وأصحابي فلابد من تعرف ما كان عليه رسول الله وأصحابه وليس طريق معرفته إلا النقل فيجب الرجوع إلى ذلك
وقد قال النبي لا تنازعوا الأمر أهله فكما يرجع في معرفة مذاهب الفقهاء الذين صاروا قدوة في هذه الأمة إلى أهل الفقه ويرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة ويرجع في معرفة النحو إلى أهل النحو فكذلك يجب أن يرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله وأصحابه إلى أهل النقل والرواية لأنهم عنوا بهذا الشأن واشتغلوا بحفظه والتفحص عنه ونقله ولولاهم لاندرس علم النبي ولم يقف أحد على سنته وطريقته
فإن قال قائل إن أهل الفقه مجمعون على قول الفقهاء وطريق كل واحد منهم في الفروع وأهل النحو مجمعون على طريق البصريين والكوفيين في النحو وكذلك أهل الكلام مجمعون على طريق كل واحد منهم من متقدميهم وسلفهم فأما ما يرجع إلى العقائد فلم يجتمع أهل الإسلام على ما كان رسول الله عليه وأصحابه بل كل فريق يدعي دينه وينتسب إلى ملته ويقول نحن الذين تمسكنا بملة رسول الله واتبعنا طريقته ومن كان على غير ما نحن عليه فهو مبتدع صاحب هوى فلم يجز اعتبار هذا الذي تنازعنا فيه بما قلتم
الجواب أن كل فريق من المبتدعة إنما يدعي أن الذي يعتقده هو ما كان عليه رسول الله لأنهم كلهم يدعون شريعة الإسلام ملتزمون في شعائرها يرون أن ما جاء به محمد هو الحق غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك وأحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام وأن الحق الذي قام به رسول الله هو الذي يعتقده وينتحله
غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفا عن سلف وقرنا عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله وأخذه أصحاب رسول الله عن رسول الله ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله الناس من الدين المستقيم والصراط القويم إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث
وأما سائر الفرق فطلبوا الدين لا بطريقه لأنهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وآرائهم فطلبوا الدين من قبله فإذا سمعوا شيئا من الكتاب والسنة عرضوه على معيار عقولهم فإن استقام قبلوه وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه فإن اضطروا إلى قبوله حرفوه بالتأويلات البعيدة والمعاني المستنكرة فحادوا عن الحق وزاغوا عنه ونبذوا الدين وراء ظهورهم وجعلوا السنة تحت أقدامهم تعالى الله عما يصفون
وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة إمامهم وطلبوا الدين من قبلهما وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسنة فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه وشكروا الله تعالى حيث أراهم ذلك ووقفهم عليه وإن وجدوه مخالفا لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة
ورجعوا بالتهمة على أنفسهم فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق ورأي الإنسان قد يرى الحق وقد يري الباطل
وهذا معنى قول أبي سليمان الداراني وهو واحد زمانه في المعرفة ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت منها شاهدين من الكتاب والسنة فإن أتى بهما وإلا رددته في نحره أو كلام هذا معناه
ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها قولهم في ذلك واحد وفعلهم واحد لا ترى بينهم اختلافا ولا تفرقا في شيء ما وإن قل
بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد وهل على الحق دليل أبين من هذا
قال الله تعالى أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا
وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين وشيعا وأحزابا لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد يبدع بعضهم بعضا بل يرتقون إلى التكفير يكفر الابن أباه والرجل أخاه والجار جاره تراهم أبدا في تنازع وتباغض واختلاف تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون
أوما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين والبصريون منهم البغداديون ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أبا هاشم وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي
وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض
وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم
وهل على الباطل دليل أظهر من هذا قال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله
وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل فأورثهم الاتفاق والائتلاف وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه وأما دلائل العقل فقلما تتفق بل عقل كل واحد يري صاحبه غير ما يري الآخر وهذا بين والحمد لله
وبهذا يظهر مفارقة الاختلاف في مذاهب الفروع اختلاف العقائد في الأصول فإنا وجدنا أصحاب رسول الله ورضي الله عنهم من بعده اختلفوا في أحكام الدين فلم يفترقوا ولم يصيروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين ونظروا فيما أذن لهم فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة مثل مسألة الجد والمشركة وذوي الأرحام ومسألة الحرام وفي أمهات الأولاد وغير ذلك مما يكثر تعداده من مسائل البيوع والنكاح والطلاق وكذلك في مسائل كثيرة من باب الطهارة وهيئات الصلاة وسائر العبادات فصاروا باختلافهم في هذه الأشياء محمودين وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة من الله لهذه الأمة حيث أيدهم باليقين ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه في التنزيل والسنة
فكانوا مع هذا الاختلاف أهل مودة ونصح وبقيت بينهم أخوة الإسلام ولم ينقطع عنهم نظام الألفة فلما حدثت هذه الأهواء المردية الداعية صاحبها إلى النار ظهرت العداوة وتباينوا وصاروا أحزابا فانقطعت الأخوة في الدين وسقطت الألفة
فهذا يدل على أن هذا التباين والفرقة إنما حدثت من المسائل المحدثة التي ابتدعها الشيطان فألقاها على أفواه أوليائه ليختلفوا ويرمي بعضهم بعضا بالكفر
فكل مسألة حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس فتفرقوا واختلفوا فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضا ولا تفرقا وبقيت بينهم الألفة والنصيحة والمودة والرحمة والشفقة علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام يحل النظر فيها والأخذ بقول من تلك الأقوال لا يوجب تبديعا ولا تكفيرا كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين مع بقاء الألفة والمودة
وكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي والإعراض والتدابر والتقاطع وربما ارتقى إلى التكفير علمت أن ذلك ليس من أمر الدين في شيء بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها ويعرض عن الخوض فيها لأن الله شرط في تمسكنا بالإسلام أنا نصبح في ذلك إخوانا فقال تعالى واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا
فإن قال قائل إن الخوض في مسائل القدر والصفات وشرط الإيمان يورث التقاطع والتدابر والاختلاف فيجب طرحها والإعراض عنها على ما زعمتم
الجواب إنما قلنا هذا في المسائل المحدثة فأما الإيمان في هذه المسائل فهو من شرط أصل الدين ولابد من قبوله على نحو ما ثبت فيه النقل عن رسول الله وأصحابه
ولا يجوز لنا الإعراض عن نقلها وروايتها وبيانها لتفرق الناس في ذلك كما في أصل الإسلام والدعاء إلى التوحيد وإظهار الشهادتين
وقد ظهر بما قدمنا وذكرنا بحمد الله ومنه أن الطريق المستقيم مع أهل الحديث وأن الحق ما نقلوه ورووه
ومن تدبر ما كتبناه وأعطى من قلبه النصفة وأعرض عن هواه واستمع وأصغى بقلب حاضر وكان مسترشدا مستهديا ولم يكن متعنتا وأمده الله بنور اليقين عرف صحة جميع ما قلناه ولم يخف عليه شيء من ذلك والله الموفق من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم
وقد أجاب بعض أهل السنة عن قولهم إن الخبر الواحد لا يوجب العلم بجواب آخر سوى ما قلناه وقد بيناه في كتاب القدر وإن كان الجواب الصحيح ما ذكرناه وهو طريق أهل الحق ولا معدل بنا عن طريقهم بل لا نختار عليه شيئا غيره ولا نطلب طريقا سواه
نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه وأن يمدنا بتوفيق بعد توفيق من قبله وأن يجعل ما قصدناه من بيان الحق لوجهه وسعينا لطلب ما عنده إنه عليم قدير وولي كريم
من علامات الفرقة الناجية اشتغالهم بالحديث نقلا وعملا
فإن قال قائل إنكم سميتم أنفسكم أهل السنة وما نراكم في ذلك إلا مدعين لأنا وجدنا كل فرقة من الفرق تنتحل اتباع السنة وتنسب من خالفها إلى الهوى وليس على أصحابكم منها سمة وعلامة أنهم أهلها دون من خالفها من سائر الفرق فكلها في انتحال هذا اللقب شركاء متكافئون ولستم أولى بهذا اللقب إلا أن تأتوا بدلالة ظاهرة من الكتاب والسنة أو من إجماع أو معقول
الجواب قولكم إنه لا يجوز لأحد دعوى إلا ببينة عادلة أو دلالة ظاهرة من الكتاب والسنة هما لنا قائمتان بحمد الله ومنه
قال الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فأمرنا باتباعه وطاعته فيما سن وأمر ونهى وحكم وعلم
وقال النبي عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وقال من رغب عن سنتي فليس مني
ثم لعن تارك سنته على ما روي أنه قال ستة لعنتهم وكل نبي مجاب الدعوة وذكر في آخره التارك لسنتي
فوجدنا سنته وعرفناها بهذه الآثار المشهورة التي رويت بالأسانيد الصحاح المتصلة التي نقلها حفاظ العلماء بعضهم عن بعض
ثم نظرنا فرأينا فرقة أصحاب الحديث لها أطلب وفيها أرغب ولها أجمع ولصحاحها أتبع فعلمنا يقينا أنهم أهلها دون من سواهم من جميع الفرق فإن صاحب كل حرفة أو صناعة ما لم يكن معه دلالة عليه من صناعته وآلة من آلاته ثم ادعى تلك الصناعة كان في دعواه عند العامة مبطلا وفي المعقول عندهم متجهلا فإذا كانت معه آلات الصناعة والحرفة شهدت له تلك الآلات بصناعته بل شهد له كل من عاينه قبل الاختبار
كما أنك إذا رأيت رجلا قد فتح باب دكانه على بز علمت أنه بزاز وإن لم تختبره وإذا فتح على تمر علمت أن تمار وإذا فتح على عطر علمت أنه عطار وإذا رأيت بين يديه الكير والسندان والمطرقة علمت أنه حداد وإذا رأيت بين يديه الإبرة والجلم علمت أنه خياط
وكذلك صاحب كل صناعة إنما يستدل على صناعته بآلته فيحكم بالمعاينة من غير اختبار
ولو رأيت بين يدي نجار قدوما ومنشارا ومثقبا وهو مستعد للعمل بها ثم سميته خياطا جهلت
وإذا رأيت بناء معه آلة البنائين ثم سميته حداد جهلت
وكذلك من معه الكير والسندان ومنفخ إذا سميته بزازا أو عطارا جهلت
ولو قال صاحب التمر لصاحب العطر أنا عطار قال له كذبت بل أنا هو وشهد له بذلك كل من أبصره من العامة
ثم كل صاحب صناعة وحرفة يفتخر بصناعته ويستطيل بها ويجالس أهلها ولا يذمها
ورأينا أصحاب الحديث رحمهم الله قديما وحديثا هم الذين رحلوا في طلب هذه الآثار التي تدل على سنن رسول الله فأخذوها من معادنها وجمعوها من مظانها وحفظوها واغتبطوا بها ودعوا إلى اتباعها وعابوا من خالفها وكثرت عندهم وفي أيديهم حتى اشتهروا بها كما اشتهر البزاز ببزه والتمار بتمره والعطار بعطره
ثم رأينا أقواما انسلخوا من حفظها ومعرفتها وتنكبوا اتباع أصحها وأشهرها وطعنوا فيها وفيمن أخذ بها وزهدوا الناس في جمعها ونشرها وضربوا لها ولأهلها أسوأ الأمثال فعلمنا بهذه الدلائل الظاهرة والشواهد القائمة أن هؤلاء الراغبين فيها وفي جمعها وحفظها واتباعها أولى بها وأحق من سائر الفرق الذين تنكبوا أكثرها
وهي التي تحكم على أهل الأهواء بالأهواء لأن الاتباع عند العلماء هو الأخذ بسنن رسول الله التي صحت عنه عند أهلها ونقلتها وحفاظها والخضوع لها والتسليم لأمر النبي فيها تقليد لمن أمر الله بتقليده والإئتمار بأمره والانتهاء عما نهى الله عنه
ووجدنا أهل الأهواء الذين استبدوا بالآراء والمعقولات بمعزل عن الأحاديث والآثار التي هي طريق معرفة سنة رسول الله
فهذا الذي قلناه سمة ظاهرة وعلامة بينة تشهد لأهل السنة باستحقاقها وعلى أهل الأهواء في تركها والعدول عنها بأنهم ليسوا من أهلها
ولا نحتاج في هذا إلى شاهد أبين من هذا ولا إلى دليل أضوأ من هذا
فإن قالوا إن لكل فريق من الأهواء وأصحاب الآراء حججا من آثار رسول الله يحتجون بها
قلنا أجل ولكن يحتج بقول التابعي على قول النبي أو بحديث مرسل ضعيف على حديث متصل قوي
ومن هنا امتاز أهل اتباع السنة عن غيرهم لأن صاحب السنة لا يألو أن يتبع من السنن أقواها ومن الشهود عليها أعدلها وأتقاها
وصاحب الهوى كالغريق يتعلق بكل عود ضعيف أو قوي فإذا رأيت الحاكم لا يقبل من الشهود إلا أعدلها وأتقاها كان ذلك منه شاهدا على عدالته وإذا غمض وقنع بأرداها كان ذلك دليلا على جوره وكان المتبع لا يتبع من الآثار إلا ما هو عند العلماء أقوى وصاحب الهوى لا يتبع إلا ما يهوى وإن كان عند العلماء أوهاها
وكل ذي حرفة وصناعة موسوم بصناعته معروف بآلته متى أعوزته الآلة زالت عنه آية الصناعة وكذلك سمات أهل السنن والأهواء
وفي دون ما فسرناه ما يشفي والأقل من هذا يكفي من كان موفقا ولحقه عون من الله تعالى
قالوا قد كثرت الآثار في أيدي الناس واختلطت عليهم
قلنا ما اختلطت إلا على الجاهلين بها فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير فيميزون زيوفها ويأخذون جيادها
ولئن دخل في غمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث ورتوت العلماء حتى أنهم عدوا أغاليط من غلط في الأسانيد والمتون بل تراهم يعدون على كل رجل منهم في كم حديث غلط وفي كم حرف حرف وماذا صحف
فإذا لم ترج عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد والمتون والحروف فكيف يروج عليهم وضع الزنادقة وتوليدهم الأحاديث
يقول بعض الناس إن بعض الزنادقة ادعى أنه وضع ألوفا من الأحاديث وخلطها بالأحاديث التي يرويها الناس حتى خفيت على أهلها
وما يقول هذا إلا جاهل ضال مبتدع كذاب يريد أن يهجن بهذه الدعوى الكاذبة صحاح أحاديث النبي وآثاره الصادقة فيغلط جهال الناس بهذه الدعوى
وما احتج مبتدع في رد آثار رسول الله بحجة أوهى منها ولا أشد استحالة من هذه الحجة فصاحب هذه الدعوى يستحق أن يسف في فيه الرماد وينفى من بلاد الإسلام
فتدبر رحمك الله أيجعل حكم من أفنى عمره في طلب آثار رسول الله شرقا وغربا برا وبحرا وارتحل في الحديث الواحد فراسخ واتهم أباه وأدناه في خبر يرويه عن النبي إذا كان موضع التهمة ولم يحابه في مقال ولا خطاب غضبا لله وحمية لدينه
ثم ألف الصحف والأجلاد في معرفة المحدثين وأسمائهم وأنسابهم وقدر أعمارهم وذكر أعصارهم وشمائلهم وأخبارهم وفصل بين الرديء والجيد والصحيح والسقيم حنقا لله ورسوله وغيرة على الإسلام والسنة
ثم استعمل آثاره كلها حتى فيما عدا العبادات من أكله وطعامه وشرابه ونومه ويقظته وقيامه وقعوده ودخوله وخروجه وجميع سيرته وسننه حتى في خطراته ولحظاته
ثم دعا الناس إلى ذلك وحثهم عليه وندبهم إلى استعماله وحبب إليهم ذلك بكل ما يمكنه حتى في بذل ماله ونفسه
كمن أفنى عمره في اتباع أهوائه وآرائه وخواطره وهواجسه ثم تراه يرد ما هو أوضح من الصبح من سنن رسول الله وأشهر من الشمس برأي دخيل واستحسان ذميم وظن فاسد ونظر مشوب بالهوى
فانظر وفقك الله للحق أي الفريقين أحق بأن ينسب إلى اتباع السنة واستعمال الأثر الفرقة الأولى أم الثانية
فإذا قضيت بين هذين بوافر لبك وصحيح نظرك وثاقب فهمك فليكن شكرك لله على حسب ما أراك من الحق ووفقك للصواب وألهمك من السداد واختصك به من إصابة الحسن في القول والعمل
فإذا كنت كذلك فقد ازددت يقينا على يقين وثلجا على ثلج وإصابة على إصابة ومن الله التأييد والتسديد والإلهام والإعلام وهو حسب أهل السنة وعليه توكلهم ومنه معونتهم وتوفيقهم ونصرتهم بمنه وفضله وعميم كرمه وطوله
إبطال طريقة النظر عند المتكلمين
فصل
سؤال قالوا قد جعلتم أصل الدين هو الاتباع ورددتم على من يرجع إلى المعقول ويطلب الدين من قبله
وهذا خلاف الكتاب لأن الله ذم التقليد في القرآن وندب الناس إلى النظر والاستدلال والرجوع إلى الاعتبار وأمر بمجادلة المشركين بالدلائل العقلية وإنما ورد السمع مؤيدا لما يدل عليه العقل ومن تدبر القرآن ونظر في معانيه وجد تصديق ما قلناه فيه
الجواب قلنا قد دللنا فيما سبق أن الدين هو الاتباع فذكرنا في بيانه ودلائله ما يجد به المؤمن شفاء الصدر وطمأنينة القلب بحمد الله ومنه وتوفيقه
وأما لفظ التقليد فلا نعرفه جاء في شيء من الأحاديث وأقوال السلف فيما يرجع إلى الدين وإنما ورد الكتاب والسنة بالاتباع
وقد قالوا إن التقليد قبول قول الغير من غير حجة وأهل السنة إنما اتبعوا قول رسول الله وقوله نفس الحجة فكيف يكون هذا قبول قول الغير من غير حجة
فإن المسلمين قد قامت لهم الدلائل السمعية على نبوة رسول الله لما نقل إلينا أهل الإتقان والثقات من الرواة ما لا يعد كثرة من المعجزات والبراهين والدلالات التي ظهرت عليها وقد نقلها أصحاب الحديث في كتبهم ودونوها وليس المقصود من ذكرها في هذا الموضع بيانها بتفاصيلها وإنما قصدنا بيان طريق أهل السنة
فلما صحت عندهم نبوته ووجدوا صدقه في قلوبهم وجب عليهم تصديقه فيما أنبأهم من الغيوب ودعاهم إليه من وحدانية الله تعالى وإثبات صفاته وسائر شرائط الإسلام
وعلى أننا لا ننكر النظر قدر ما ورد به الكتاب والسنة لينال المؤمن بذلك زيادة اليقين وثلج الصدر وسكون القلب وإنما أنكرنا طريقة أهل الكلام فيما أسسوا فإنهم قالوا أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري تعالى
وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين ولو أنك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في شيء منها لا منقولا من النبي ولا من الصحابة وكذلك من التابعين بعدهم
وكيف يجوز أن يخفى عليهم أول الفرائض وهم صدر هذه الأمة والسفراء بيننا وبين رسول الله
ولئن جاز أن يخفى الفرض الأول على الصحابة والتابعين حتى لم يبينوه لأحد من هذه الأمة مع شدة اهتمامهم بأمر الدين وكمال عنايتهم حتى استخرجه هؤلاء بلطيف فطنتهم وزعمهم فلعله خفي عليهم فرائض أخر
ولئن كان هذا جائزا فلقد ذهب الدين واندرس لأنا إنما نبني أقوالنا على أقوالهم فإذا ذهب الأصل فكيف يمكن البناء عليه
نعوذ بالله من قول يؤدي إلى هذه المقالة الفاحشة القبيحة التي تؤدي إلى الانسلاخ من الدين وتضليل الأئمة الماضين
هذا وقد تواترت الأخبار أن النبي كان يدعو الكفار إلى الإسلام والشهادتين
قال لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن ادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله
وقال أيضا أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
وقال أيضا إذا نازلتم أهل حصن أو مدينة فادعوهم إلى شهادة ألا إله إلا الله ومثل هذا كثير
ولم يرو أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أن يدعى إلى الإسلام فإن أبى وسأل النظرة والإمهال لا يجاب إلى ذلك ولكنه إما أن يسلم أو يعطي الجزية أو يقتل وفي المرتد إما أن يسلم أو يقتل وفي مشركي العرب على ما عرف
وإذا جعلنا الأمر على ما قاله أهل الكلام لم يكن الأمر على هذا الوجه ولكن ينبغي أن يقال له أعني الكافر عليك النظر والاستدلال لتعرف الصانع بهذا الطريق ثم تعرف الصفات بدلائلها وطرقها ثم مسائل كثيرة إلى أن يصل الأمر إلى النبوات
ولا يجوز على طريقهم الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي إلا بعد أن يذكر له هذا ويمهل لأن النظر والاستدلال لا يكون إلا بمهلة خصوصا إذا طلب الكافر ذلك وربما لا يتفق النظر والاستدلال في مدة يسيرة فيحتاج إلى إمهال الكفار مدة طويلة تأتي على سنين ليتمكنوا من النظر على التمام والكمال وهو خلاف إجماع المسلمين
وقد حكي عن أبي العباس بن سريج أنه قال لو أن رجلا جاءنا وقال إن الأديان كثيرة فخلوني أنظر في الأديان فما وجدت الحق فيه قبلته وما لم أجد فيه تركته لم نخله وكلفناه الإجابة إلى الإسلام وإلا أوجبنا عليه القتل
وقد جعل أهل الكلام من تخلف ناظرا فيه وفي غيره من الأديان مقيما على الطاعة مؤتمرا بأمره محمودا في فعله وهذا جهل عظيم في الإسلام
وينبغي على قولهم إذا مات في مدة النظر والمهلة قبل قبول الإسلام أنه مات مطيعا لله مقيما على أمره لابد من إدخاله الجنة كما يدخل المسلمون
وقد جعلوا غير المسلم مطيعا لله مؤتمرا بأمره في باب الدين وأوجبوا إدخاله الجنة وقد قال تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقال النبي لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة وهذا حديث ثابت لا شك فيه
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من أن الدين طريقة الاتباع أنا إذا سلكنا طريق الإنصاف وطرحنا التباغي والمكابرات من جانب فلابد من الانقياد لما قلناه لأن المقصود من النظر في الابتداء إذا كان هو إصابة الحق فليتدبر المرء المسلم المسترشد أحوال هؤلاء الناظرين وكيف تحيروا في نظرهم وارتكسوا فيه
فلئن نجا واحد بنظره فقد هلك فيه الألوف من الناس وإلى أن يبصر واحد فواحد بنظره طريق الحق بنظر رحمة سبق من الله له فقد ارتطم بطريق الكفر والضلالات والبدع بنظرهم أضعاف أضعاف عدد الأولين
وهل كانت الزندقة والإلحاد وسائر أنواع الكفر والضلالات والبدع منشؤها وابتداؤها إلا من النظر
ولو أنهم أعرضوا عن ذلك وسلكوا طريق الاتباع ما أداهم إلى شيء منها
فما من هالك في العالم إلا وبدو هلاكه من النظر وما من ناج في الدين سالك سبيل الحق إلا وبدو نجاته من حسن الاتباع
أفيستجيز مسلم أن يدعو الخلق إلى مثل هذا الطريق المظلم ويجعله سبيل منجاتهم
وكيف يستجيز ذو لب وبصيرة أن يسلك مثل هذا الطريق وأنى له الأمان من هذه المهالك وكيف له المنجاة من أودية الكفر وعامتها بل جميعها إنما يهبط عليها من هذه المرقاة أعني طلب الحق من النظر
ولو أعطى الخصم النصفة لا يجد بدا من الإقرار أن من كان غوره في النظر أكثر كانت حيرته في الدين أشد وأعظم
وهل رأى أحد متكلما أداه نظره وكلامه إلى تقوى في الدين أو ورع في المعاملات أو سداد في الطريقة أو زهد في الدنيا أو إمساك عن حرام أو شبهة أو خشوع في عبادة أو ازدياد في طاعة أو تورع من معصية إلا الشاذ النادر
بل لو قلبت القصة كنت صادقا تراهم أبدا منهمكين في كل فاحشة متلبسين بكل قاذورة لا يرعوون عن قبيح ولا يرتدعون من باطل إلا من عصمه الله
فلئن دلهم النظر على اليقين وحقيقة التوحيد فبئس ثمرة اليقين هذا وتعسا لتوحيد أداهم إلى مثل هذه الأشياء وأوردهم هذه المتالف في الدين
ومن الله التوفيق وحسن المعونة لإصابة طريق الحق والثبات عليه بمنه
وقالوا أيضا وهو الأصل الذي يؤسسه المتكلمون والطريق الذي يجعلونه قاعدة علومهم من لم يحكم هذا الأصل لم يمكنه إثبات حدث العالم وذلك مسألة العرض والجوهر وإثباتهما
فإنهم قالوا إن الأشياء لا تخلو من ثلاثة أوجه إما أن يكون جسما أو عرضا أو جوهرا
فالجسم ما اجتمع من الافتراق
والجوهر ما احتمل الأعراض
والعرض ما لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بغيره
وجعلوا الروح من الأعراض وردوا أخبار رسول الله في خلق الروح قبل الجسد لأنه لم يوافق نظرهم وأصولهم واختراعهم وردوا خبره في خلق العقل قبل الخلق
وإنما ردوا هذه الأخبار لأن العقل عندهم عرض كالروح والعرض لا يقوم بنفسه فردوا الأخبار بهذا الطريق
وكذلك ردوا الخبر الذي روي عن النبي أن الموت يذبح على الصراط لأن الموت عرض لا ينفرد بنفسه
فهذا أصلهم الثاني الذي أدى إلى رد الأخبار الثابتة عن رسول الله ومثل هذا كثير يأتي بيانه
ولهذا قال بعض السلف إن أهل الكلام أعداء الدين لأن اعتمادهم على حدسهم وظنونهم وما يؤدي إليه نظرهم وفكرهم ثم يعرضون عليه الأحاديث فما وافقه قبلوه وما خالفه ردوه على ما سبق بيانه
وأما أهل السنة سلمهم الله فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب ووردت به السنة ويحتجون له بالحجج الواضحة والدلائل الصحيحة على
حسب ما أذن فيه الشرع وورد به السمع ولا يدخلون بآرائهم في صفات الله تعالى ولا في غيرها من أمور الدين وعلى هذا وجدوا سلفهم وأئمتهم
وقد قال الله تعالى يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
وقال أيضا يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
وقال في خطبة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة أصحابه رضي الله عنهم ألا هل بلغت
وكان مما أنزل إليه وأمر بتبليغه أمر التوحيد وبيانه بطريقته فلم يترك النبي شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لو أخر فيها البيان لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إليه
وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علمنا أن النبي لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر وذكر ماهيتهما ولا يمكن لأحد من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا في طريق تواتر ولا آحاد فعلمنا أنهم ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقهم وأن هذا طريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله ولا أصحابه رضي الله عنهم وسلوكه يعود عليهم بالطعن والقدح ونسبتهم إلى الجهل وقلة العلم في الدين واشتباه الطريق عليهم
وبلغني أنه كان لأبي هاشم الجبائي ابنة تسمى فاطمة وكان أصحابه يقولون إن فاطمة بنت أبي هاشم أعلم بالله وبطريق الحق من فاطمة بنت محمد ورضي عنها
فنعوذ بالله من طريق يؤدي إلى مثل هذا القول ونسأله التوفيق لما يحب ويرضى
وإياك رحمك الله أن تشتغل بكلامهم ولا تغتر بكثرة مقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه أو يقاربه فكل بكل معارض وبعض ببعض مقابل وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان وحذقه في صناعة الجدل والكلام
وأكثر ما يغلب ببعضهم بعضا إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول لهم ومناقضات على أقوال حفظوها عليهم فهم يطالبونهم بعودها وطردها
فمن تقاعد عن ذلك سموه من طريق الجدل منقطعا وجعلوه مبطلا وحكموا بالفلج لخصمه
والجدل لا يتبين به حق ولا تقوم به حجة وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما بطالة ويكون الحق في ثالثة غيرهما فمناقضة أحدهما صاحبه لا تصحح مذهبه وإن أفسد به قول خصمه لأنهما مجتمعان في الخطأ مشتركان فيه كقول الشاعر فيهم
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور
وإنما كان الأمر كذلك لأن واحدا من الفريقين لا يعتمد في مقالته أصلا صحيحا وإنما هو آراء تتقابل وأوضاع تتكافأ وتتعادل
ولو أنصفوا في المحاجة لزم الواحد منهم أن ينتقل عن مذهبه كل يوم كذا وكذا مرة لما يورد عليه من الإلزامات وتراهم ينقطعون في الحجاج ولا ينتقلون وهذا هو الدليل على أنه ليس قصدهم طلب الحق وإنما طريقهم اتباع الهوى فحسب
فإذا ألزم قال هذا إلزام توجه علي لا على مذهبي وسنأتي بعد بالجواب أو يوجد من ينفصل عن هذه الشبهة ممن ينتحل ديني ومذهبي
فإذا راعينا مثل هذا لم تقم حجة على كافر أبدا وما هذا إلا طريق يوهم جميع الكافرين أنهم على الحق قاتلهم الله أنى يؤفكون وتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
ومن قبيح ما يلزمهم في اعتقادهم أنا إذا بنينا الحق على ما قالوا وأوجبنا طلب الدين بالطريق الذي ذكروه وجب من ذلك تكفير العوام بأجمعهم لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرد
ولو عرض عليهم طريق المتكلمين في معرفة الله تعالى ما فهمه أكثرهم فضلا من أن يصير فيه صاحب استدلال وحجاج ونظر
وإنما غاية توحيدهم التزام ما وجدوا عليه سلفهم وأئمتهم في عقائد الدين والعض عليها بالنواجذ والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوب سليمة طاهرة عن الشبهات والشكوك تراهم لا يحيدون عما اعتقدوه وإن قطعوا إربا إربا فهنيئا لهم هذا اليقين وطوبى لهم هذه السلامة فإذا كفروا هؤلاء الناس وهم السواد الأعظم وجمهور الأمة فما هذا إلا طي بساط الإسلام وهدم منار الدين وأركان الشريعة وأعلام الإسلام وإلحاق هذه الدار أعني دار الإسلام بدار الكفر وجعل أهليهما بمنزلة واحدة
ومتى يوجد في الألوف من المسلمين على الشرط الذي يراعونه لتصحيح معرفة الله تعالى أو لا يجد مسلم ألم هذه المقالة القبيحة الشنيعة في قلبه
بل لو تقطع حسرات من عظيم ما اخترعوه في الدين وموهوه على الناس كان جديرا بذلك
وإن قالوا إنا لا نكفر العوام فقد ناقضوا أصولهم حين أثبتوا حقيقة المعرفة والإيمان بغير طريقها على أصولهم
وأظن أن من قال عنهم ذلك فإنما هو سلوك طريق التقية ورد تشنيع الناس عليهم وإلا فاعتقادهم وطريقتهم في أصولهم ما ذكرنا
والله يكفي أهل السنة والجماعة شرهم ويرد كيدهم في نحرهم ويلحق بهم عاقبة مكرهم بقدرته وعظيم سطوته
معنى العقل ومقامه من الدين عند أهل السنة
فصل
ونشتغل الآن بذكر معنى العقل ومقامه من الدين عند أهل السنة
اعلم أن مذهب أهل السنة أن العقل لا يوجب شيئا على أحد ولا يرفع شيئا عنه ولا حظ له في تحليل أو تحريم ولا تحسين ولا تقبيح ولو لم يرد السمع ما وجب على أحد شيء ولا دخلوا في ثواب ولا عقاب
واستدلوا على هذا بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وبقوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى حاكيا عن الملائكة فيما خاطبوا به أهل النار ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى
فأقام الحجة عليهم ببعثه الرسل فلو كانت الحجة لازمة بنفس العقل لم يكن بعثه للرسل شرطا لوجوب العقوبة
وقال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فدل أنه الداعي إلى الإيمان وعندهم أن الداعي إلى الإيمان هو العقل
وجاء الكتاب مؤيدا لهذا قال الله تعالى قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض الآية
فدل على أن الدعوة له وأن الحجة تقوم به وأمثال هذه الآيات في القرآن كثيرة
وما أوحش قول من يقول إنه لا دعوة لأحد من النبيين والمرسلين إلى الإيمان على الحقيقة وأن وجودهم وعدمهم في هذا بمنزلة واحدة ولو لم يكونوا كان وجوب الإيمان على الناس على الجهة التي وجبت عليهم بعد وجوبهم ولاحظ لدعوتهم في هذا وإنما الحظ لدعوتهم في الشرائع وفروع العبادات
فقد جعلوا عقولهم دعاة إلى الله تعالى ووضعوها موضع الرسل فيما بينهم
ولو قال قائل لا إله إلا الله عقلي رسول الله لم يكن مستنكرا عند المتكلمين من جهة المعنى فظهر فساد قول من سلك هذا المسلك
ثم نقول والله الهادي والموفق
إن الله تعالى أسس دينه وبناه على الاتباع وجعل إدراكه وقبوله بالعقل
فمن الدين معقول وغير معقول والاتباع في جميعه واجب
ومن أهل السنة من قال بلفظ آخر إن الله لا يعرف بالعقل ولا يعرف مع عدم العقل
ومعنى هذا أن الله تعالى هو الذي يعرف العبد ذاته فيعرف الله بالله لا بغيره لقوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ولم يقل ولكن العقل يهدي من يشاء
وقال تعالى والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والآيات في هذا المعنى كثيرة
وقد ثبت أن النبي قال والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فهذه الدلائل دلت أن الله تعالى هو المعرف إلا أنه إنما يعرف العبد نفسه مع وجود العقل لأنه سبب الإدراك والتمييز لا مع عدمه لأن الله تعالى قال إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وقال إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وقال تعالى مخبرا عن أصحاب النار وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
والله يعطي العبد المعرفة لهدايته إلا أنه لا يحصل ذلك مع فقد العقل
وهذا كما أن العبد لا يعرف الله تعالى بجسمه ولا بشخصه ولا بروحه ولا يعرفه مع عدم شخصه وجسمه وروحه كذلك لا يعرف الله بالعقل ولا يعرفه مع عدم العقل
ونظير هذا أن الولد لا يكون مع فقد الوطء ولا يكون بالوطء بل يكون بإنشاء الله تعالى وخلقه
وكذلك لا يكون الزرع إلا في أرض وببذر وماء ولا يكون بذلك بل يكون بقدرة الله وإنباته قال الله تعالى أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون معناه أأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون يقال للولد زرعه الله أي أنبته الله تعالى
وأمثال هذا كثيرة والموفق يكتفي باليسير والمخذول لا يشفيه الكثير
وقد قال بعض أهل المعرفة إنما أعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية فمن شغل ما أعطي لإقامة العبودية بإدراك الربوبية فاتته العبودية ولم يدرك الربوبية
ومعنى قولنا إنما أعطينا العقل لإقامة العبودية هو أنه آلة التمييز بين القبيح والحسن والسنة والبدعة والرياء والإخلاص ولولاه لم يكن تكليف ولا توجه أمر ولا نهي
فإذا استعمله على قدره ولم يجاوز به حده أداه ذلك إلى العبادة الخالصة والثبات على السنة واستعمال المستحسنات وترك المستقبحات
فيكون هذا معنى قول النبي في الرجل يكثر الصلاة والصيام إنما يجازى على قدر عقله
وقال بعضهم العقل مدبر يدبر لصاحبه أمر دنياه وعقباه فأول تدبيره الإشارة إلى المدبر الصانع ثم إلى معرفة النفس ثم يشير إلى صاحبه بالخضوع والطاعة لله والتسليم لأمره والموافقة له
وهذا معنى قولهم العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه
وقال بعضهم العقل حجة الله على جميع الخلق لأنه سبب التكليف إلا أن صاحبه لا يستغني عن التوفيق في كل وقت ونفس العقل بالتوفيق كان والعاقل محتاج في كل وقت إلى توفيق جديد تفضلا من الله تعالى
ولو لم يكن كذلك لكان العقلاء مستغنين عن الله بالعقل فيرتفع عنهم الخوف والرجاء ويصيرون آمنين من الخذلان وهذا تجاوز عن درجة العبودية وتعد عنها ومحال من الأمر إذ ليس من الحكمة أن ينزل الله تعالى أحدا غير منزلته فإذا أغنى عبيده عن نفسه فقد أنزلهم غير منزلتهم وجاوز بهم حدودهم
ولو كان هذا هكذا لاستوى الخلق والخالق في معنى من معاني الربوبية والله تعالى ليس كمثله شيء في جميع المعاني
وقال بعضهم العقل على ثلاثة أوجه
عقل مولود مطبوع وهو عقل ابن آدم الذي به فضل على أهل الأرض وهو محل التكليف والأمر والنهي وبه يكون التدبير والتمييز
والعقل الثاني هو عقل التأييد الذي يكون مع الإيمان معا وهو عقل الأنبياء والصديقين وذلك تفضل من الله تعالى
والعقل الثالث هو عقل التجارب والعبر وذلك ما يأخذه الناس بعضهم من بعض ومن هذا قول من قال ملاقاة الناس تلقيح العقول
وقال بعض أهل المعرفة مقدار العقل في المعرفة كمقدار الإبرة عند ديباج أو خز فإنه لا يمكن لبس ديباج ولا خز إلا أن يخاط بالإبرة فإذا خيط بالإبرة فلا حاجة بها إلى الإبرة
كذلك تضبط المعرفة بالعقل لا أن المعرفة تحصل من العقل أو تثبت به
واعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل فإنهم أسسوا دينهم على المعقول وجعلوا الاتباع والمأثور تبعا للمعقول
وأما أهل السنة قالوا الأصل الاتباع والعقول تبع ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم ولبطل معنى الأمر والنهي ولقال من شاء ما شاء
ولو كان الدين بني على المعقول وجب ألا يجوز للمؤمين أن يقبلوا شيئا حتى يعقلوا
ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين من ذكر صفات الله تعالى وما تعبد الناس به من اعتقاده وكذلك ما ظهر بين المسلمين وتداولوه بينهم ونقلوه عن سلفهم إلى أن أسندوه إلى رسول الله من ذكر عذاب القبر وسؤال الملكين والحوض والميزان والصراط وصفات الجنة وصفات النار وتخليد الفريقين فيهما أمور لا ندرك حقائقها بعقولنا وإنما ورد الأمر بقبولها والإيمان بها
فإذا سمعنا شيئا من أمور الدين وعقلناه وفهمناه فلله الحمد في ذلك والشكر ومنه التوفيق وما لم يمكنا إدراكه وفهمه ولم تبلغه عقولنا آمنا به وصدقنا واعتقدنا أن هذا من قبل ربوبيته وقدرته واكتفينا في ذلك بعلمه ومشيئته وقال تعالى في مثل هذا ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وقال الله تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء
ثم نقول لهذا القائل الذي يقول بني ديننا على العقل وأمرنا باتباعه أخبرنا إذا أتاك أمر من الله تعالى يخالف عقلك فبأيهما تأخذ بالذي تعقل أو بالذي تؤمر
فإن قال بالذي أعقل فقد أخطأ وترك سبيل الإسلام
وإن قال إنما آخذ بالذي جاء من عند الله فقد ترك قوله
وإنما علينا أن نقبل ما عقلناه إيمانا وتصديقا وما لم نعقله قبلناه وتسليما واستسلاما
وهذا معنى قول القائل من أهل السنة إن الإسلام قنطرة لا تعبر إلا بالتسليم فنسأل الله التوفيق فيه والثبات عليه وأن يتوفانا على ملة رسول الله بمنه وفضله