الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق

الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق

​الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق​ المؤلف بدر شاكر السياب


البَابُ مَا قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرِّيحِ في اللَّيْلِ العَمِيقْ
البَابُ مَا قَرَعَتْهُ كَفُّكِ .
أَيْنَ كَفُّكِ وَالطَّرِيقْ
نَاءٍ ؟ بِحَارٌ بَيْنَنَا ، مُدُنٌ ، صَحَارَى مِنْ ظَلاَمْ
الرِّيحُ تَحْمِلُ لِي صَدَى القُبْلاَتِ مِنْهَا كَالْحَرِيقْ
مِنْ نَخْلَةٍ يَعْدُو إِلَى أُخْرَى وَيَزْهُو في الغَمَامْ
* * * *
البَابُ مَا قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرِّيحْ ...
آهِ لَعَلَّ رُوحَاً في الرِّيَاحْ
هَامَتْ تَمُرُّ عَلَى الْمَرَافِيءِ أَوْ مَحَطَّاتِ القِطَارْ
لِتُسَائِلَ الغُرَبَاءَ عَنِّي ، عَن غَرِيبٍ أَمْسِ رَاحْ
يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْنِ ، وَهْوَ اليَوْمَ يَزْحَفُ في انْكِسَارْ .
هِيَ رُوحُ أُمِّي هَزَّهَا الحُبُّ العَمِيقْ ،
حُبُّ الأُمُومَةِ فَهْيَ تَبْكِي :
" آهِ يَا وَلَدِي البَعِيدَ عَنِ الدِّيَارْ !
وَيْلاَهُ ! كَيْفَ تَعُودُ وَحْدَكَ لاَ دَلِيلَ وَلاَ رَفِيقْ "
أُمَّاهُ ... لَيْتَكِ لَمْ تَغِيبِي خَلْفَ سُورٍ مِنْ حِجَارْ
لاَ بَابَ فِيهِ لِكَي أَدُقَّ وَلاَ نَوَافِذَ في الجِدَارْ !
كَيْفَ انْطَلَقْتِ عَلَى طَرِيقٍ لاَ يَعُودُ السَّائِرُونْ
مِنْ ظُلْمَةٍ صَفْرَاءَ فِيهِ كَأَنَّهَا غَسَق ُ البِحَارْ ؟
كَيْفَ انْطَلَقْتِ بِلاَ وَدَاعٍ فَالصِّغَارُ يُوَلْوِلُونْ ،
يَتَرَاكَضُونَ عَلَى الطَّرِيقِ وَيَفْزَعُونَ فَيَرْجِعُونْ
وَيُسَائِلُونَ اللَّيْلَ عَنْكِ وَهُمْ لِعَوْدِكِ في انْتِظَارْ ؟
البَابُ تَقْرَعُهُ الرِّيَاحُ لَعَلَّ رُوحَاً مِنْك ِ زَارْ
هَذَا الغَرِيبُ !! هُوَ ابْنُكِ السَّهْرَانُ يُحْرِقُهُ الحَنِينْ
أُمَّاهُ لَيْتَكِ تَرْجِعِينْ
شَبَحَاً . وَكَيْفَ أَخَافُ مِنْهُ وَمَا أَمَّحَتْ رَغْمَ السِّنِينْ
قَسَمَاتُ وَجْهِكِ مِنْ خَيَالِي ؟
أَيْنَ أَنْتِ ؟ أَتَسْمَعِينْ
صَرَخَاتِ قَلْبِي وَهْوَ يَذْبَحُهُ الحَنِينُ إِلَى العِرَاقْ ؟
البَابُ تَقْرَعُهُ الرِّيَاحُ تَهُبُّ مِنْ أَبَدِ الفِرَاقْ

من ليالي السهاد

1- ليلة في لندن

كما ينسل نور خائف من فرجة الباب

إلى الظلماء في غرفة

سمعت هتافه المجروح يعبر نحوي الشرفه

ليرفع من سماوة لندن الليل المطل بلونه الكابي

على الطرقات ترقد في دثار الثلج ملتفه

و أمس سمعت في إيران صوت الديك في الفجر

و من أفق المنائر في الكويت وزرقه البحر

أهاب فرش جفني بالنعاس (رنين أكواب

بماء البصرة الرقراق تملأ ثم تسقيني)

نداء راح ينثره المؤذن أطفيء الفانوس رف ضياؤه رفه

وبعثره الظلام

و ليلي الأواه في بيروت يحييني

لأبصر فيه وجه الموت راح يذيبه نبع من اللهفه

تدفق من فؤاد البلبل المسكوب بين غصون لبلاب

ليال من عذاب من سنام لست أنساها

غريبا كنت حتى حين أحلم لست في جيكور

و لا بغداد أمشي في صحارى قلبي المسعور

يريد الماء فيها ماء أين الماء و هي تريه أفواها

على آفاقها الربداء ظمآى تشرب الديجور

فلا تروى أأقصى العمر في صحراء في ليل من العطش

أفتش عن عيون الماء عن إشراقه الغبش

كأعمى نال منه السكر صاح ورفرفت كفاه بين مساند الماخور

ليبحث عن رفيق أين جاري أين داري أين أواها

أميرتي التي كانت تناولني كؤوس النور

فيبصر قلبي الدنيا و يلقاها

كأن الصبح أشرق في العراق و تعبر الرؤيا

بحارا بي و تطوي ألف درب في الدجى تاها

تراجع عالم و أطل ثان عالم يحيا

على الأقمار تولد ثم تكمل ثم تندثر

و ما لبس الجديد بغير يوم العيد يدخر

ويجمع ثم ينفق ثم يضحك و هو يفتخر

بأن الله يرزق حين يرزق هكذا الدنيا

شتاء ثم صيف ليس في جيكور محتكر

و لا فيها مصارف أو جرائد ليل كوريا

يرى شفقا من النيرا

فالنيران فيها حين تستعر

تضيء لحى الشيوخ يحدثون و أعين النسوه

تحدق في الطعام و ترقب الأطفال في نشوة

أعدني يا إله الشرق و الصحراء و النخل

إلى أيامي الحلوة

إلى داري إلى غيلان ألثمه إلى أهلي