البداية والنهاية/الجزء الثامن/صفحة واحدة


سنة إحدى وأربعين

عدل

قال ابن جرير: فيها سلم الحسن بن علي الأمر لمعاوية بن أبي سفيان.

ثم روى عن الزهري أنه قال: لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم أنهم سامعون مطيعون مسالمون من سالمت، محاربون من حاربت فارتاب به أهل العراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب؟

فما كان عن قريب حتى طعنوه فأشووه فازداد لهم بغضا وازداد منهم ذعرا، فعند ذلك عرف تفرقهم واختلافهم عليه وكتب إلى معاوية يسالمه ويراسله في الصلح بينه وبينه على ما يختاران.

وقال البخاري في كتاب الصلح: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا سفيان، عن أبي موسى.

قال: سمعت الحسن يقول: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تُولِّي حتى تقتل أقرانها.

فقال معاوية: - وكان والله خير الرجلين -: إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس؟ من لي بضعفتهم؟ من لي بنسائهم، فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس- عبد الرحمن بن سَمُرة، وعبد الله بن عامر - قال: اذهبا إلى هذا الرجل فأعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له وطلبا إليه.

فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسالمك.

قال: فمن لي بهذا؟

قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئا إلا قالا: نحن لك به، فصالحه.

قال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يُقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».

قال البخاري: قال لي علي بن المديني: إنما ثبت عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث.

قلت: وقد روى هذا الحديث البخاري في كتاب الفتن عن علي بن عبد الله - وهو ابن المديني - وفي فضائل الحسن عن صدقة بن الفضل ثلاثتهم عن سفيان.

ورواه أحمد عن سفيان - وهو ابن عيينة - عن إسرائيل بن موسى البصري به.

ورواه أيضا في دلائل النبوة عن عبد الله بن محمد - وهو ابن أبي شيبة - ويحيى بن آدم كلاهما عن حسين بن علي الجعفي عن إسرائيل، عن الحسن وهو البصري به.

وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث حماد بن زيد، عن على بن زيد، عن الحسن البصري به.

ورواه أبو داود أيضا، والترمذي، من طريق أشعث، عن الحسن به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقد رواه النسائي من طريق عوف الأعرابي وغيره، عن الحسن البصري مرسلا.

وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق أنا معمر أخبرني من سمع الحسن يحدث عن أبي بكرة قال: كان النبي يحدثنا يوما والحسن بن علي في حجره فيقبل على أصحابه فيحدثهم ثم يقبل على الحسن فيقبله ثم قال: «إن ابني هذا سيد إن يعش يصلح بين طائفتين من المسلمين».

قال الحافظ ابن عساكر: كذا رواه معمر ولم يسم الذي حدثه به عن الحسن.

وقد رواه جماعة عن الحسن منهم: أبو موسى إسرائيل، ويونس بن عبيد، ومنصور بن زاذان، و علي بن زيد، وهشام بن حسان، وأشعث بن سوار، والمبارك بن فضالة، وعمرو بن عبيد القدري.

ثم شرع ابن عساكر في تطريق هذه الروايات كلها فأفاد وأجاد قلت: والظاهر أن معمرا رواه عن عمرو بن عبيد، فلم يفصح باسمه.

وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار عنه وسماه.

ورواه أحمد بن هاشم، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن بن أبي بكرة فذكر الحديث قال الحسن: فوالله والله بعد أن يولى لم يهراق في خلافته ملء محجمة بدم.

قال شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه: وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أم سلمة.

وقد روي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله للحسن: «إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين».

وكذا رواه عبد الرحمن بن معمر، عن الأعمش به.

وقال أبو يعلى: ثنا أبو بكرة، ثنا زيد بن الحباب، ثنا محمد بن صالح التمار المدني، ثنا محمد بن مسلم بن أبي مريم، عن سعيد بن أبي سعيد المدني قال: كنا مع أبي هريرة إذ جاء الحسن بن علي قد سلم علينا قال: فتبعه فلحقه وقال: وعليك السلام يا سيدي.

وقال سمعت رسول الله يقول: «إنه سيد».

وقال أبو الحسن علي بن المديني: كان تسليم الحسن الأمر لمعاوية في الخامس من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين.

وقال غيره: في ربيع الآخر.

ويقال في غرة جمادى الأولى فالله أعلم.

قال: وحينئذ دخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها بعد البيعة.

وذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص أشار على معاوية أن يأمر الحسن بن علي أن يخطب الناس ويعلمهم بنزوله عن الأمر لمعاوية، فأمر معاوية الحسن فقام في الناس خطيبا.

فقال في خطبته: بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله : أما بعد أيها الناس!

فإن الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } 1، فلما قالها غضب معاوية وأمره بالجلوس، وعتب على عمرو بن العاص في إشارته بذلك، ولم يزل في نفسه لذلك والله أعلم.

فأما الحديث الذي قال أبو عيسى الترمذي في جامعه: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا القاسم بن الفضل الحداني، عن يوسف بن سعدٍ قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال: سودت وجوه المؤمنين - أو يا مسود وجوه المؤمنين - فقال: لا تؤنبني رحمك الله، فإن النبي أُري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } 2 يا محمد - يعني نهرا في الجنة - ونزلت: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } 3 يملكها بعدك بنو أمية يا محمد.

قال الفضل: فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص.

ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل وهو ثقة وثقة يحيى القطان، وابن مهدي، قال: وشيخه يوسف بن سعد، ويقال: يوسف بن ماذن - رجل مجهول - قال: ولا يعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه، فإنه حديث غريب، بل منكر جدا.

وقد تكلمنا عليه في كتاب التفسير بما فيه كفاية وبينا وجه نكارته، وناقشنا القاسم بن الفضل فيما ذكره، فمن أراد ذلك فليراجع التفسير والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: ثنا إبراهيم بن مخلد بن جعفر، ثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكمي، ثنا عباس بن محمد، ثنا أسود بن عامر، ثنا زهير بن معاوية، ثنا أبو روق الهمداني، ثنا أبو العريف قال:

كنا في مقدمة الحسن بن علي اثنا عشر ألفا بمسكن، مستميتين من الجد على قتال أهل الشام، وعلينا أبو الغمر طه فلما جاءنا بصلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ.

فلما قدم الحسن بن علي الكوفة قال له رجل منا يقال له أبو عامر سعيد بن النتل: السلام عليك يا مذل المؤمنين.

فقال: لا تقل هذا يا عامر! لست بمذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك.

ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق، ورجع إليه قيس بن سعد أحد دهاة العرب - وقد كان عزم على الشقاق - وحصل على بيعة معاوية عامئذٍ الإجماع والاتفاق.

ترحل الحسن بن علي ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

وجعل كلما مر بحّيٍ من شيعتهم يبكتونه على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية، وهو في ذلك هو البار الراشد الممدوح، وليس يجد في صدره حرجا ولا تلوما ولا ندما، بل هو راضٍ بذلك مستبشر به، وإن كان قد ساء هذا خلقا من ذويه وأهله وشيعتهم، ولا سيما بعد ذلك بمدد وهلم جرّا إلى يومنا هذا.

والحق في ذلك اتباع السنة ومدحه فيما حقن به دماء الأمة، كما مدحه على ذلك رسول الله كما تقدم في الحديث الصحيح ولله الحمد والمنة.

وسيأتي فضائل الحسن عند ذكر وفاته رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنات الفردوس متقلبه ومثواه، وقد فعل.

وقال محمد بن سعد: أنا أبو نعيم، ثنا شريك، عن عاصم، عن أبي رزين.

قال: خطبنا الحسن بن علي يوم الجمعة فقرأ سورة إبراهيم على المنبر حتى ختمها.

وروى ابن عساكر عن الحسن: أنه كان يقرأ كل ليلة سورة الكهف في لوح مكتوب يدور معه حيث دار من بيوت أزواجه قبل أن ينام وهو في الفراش رضي الله عنه.

معاوية بن أبي سفيان وملكه

عدل

قد تقدم في الحديث أن الخلافة بعده عليه السلام ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا، وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي؛ فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الإسلام وخيارهم.

قال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أحمد بن يونس، ثنا الفضل بن عياض، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني، عن معاذ بن جبل، وأبي عبيدة قالوا: قال رسول الله : «إن هذا الأمر بدا رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلون الحرير، والفروج، والخمور، ويرزقون على ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عز وجل». إسناده جيد.

وقد ذكرنا في دلائل النبوة الحديث الوارد من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر وفيه ضعف عن عبد الملك بن عمير قال: قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله لي: «يا معاوية إن ملكت فأحسن».

رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن العباس بن محمد، عن محمد بن سابق، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن إسماعيل ثم قال البيهقي: وله شواهد من وجوه أخر.

منها: حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، عن جده سعيد أن معاوية أخذ الإداوة فتبع رسول الله فنظر إليه فقال له: «يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل». قال معاوية: فما زلت أظن أني مبتلىً بعمل لقول رسول الله .

ومنها: حديث راشد بن سعد، عن معاوية قال: قال رسول الله : «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم».

قال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله فنفعه الله بها.

ثم روى البيهقي من طريق هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «الخلافة بالمدينة، والملك بالشام»، غريب جدا.

وروي من طريق أبي إدريس، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : «بينا أنا نائم رأيت الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري فعُمد به إلى الشام، وإن الإيمان حين تقع الفتنة بالشام».

وقد رواه سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن يونس بن ميسرة، عن عبد الله بن عمرو.

ورواه الوليد بن مسلم، عن عفير بن معدان، عن سليمان، عن عامر، عن أبي أمامة.

وروى يعقوب بن سفيان، عن نصر بن محمد بن سليمان السلمي الحمصي، عن أبيه، عن عبد الله بن قيس، سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله : «رأيت عمودا من نور خرج من تحت رأسي ساطعا حتى استقر بالشام».

وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن صفوان قال: قال رجل يوم صفين: اللهم العن أهل الشام، فقال له علي: لا تسب أهل الشام فإن بها الأبدال فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال.

وقد روى هذا الحديث من وجه آخر مرفوعا.

فضل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

عدل

هو: معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي أبو عبد الرحمن القرشي الأموي، خال أمير المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، أسلم هو وأبوه وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يوم الفتح.

وقد رُوي عن معاوية أنه قال: أسلمت يوم عمرة القضاء ولكني كتمت إسلامي من أبي إلى يوم الفتح، وقد كان أبوه من سادات قريش في الجاهلية، وآلت إليه رياسة قريش بعد يوم بدر، فكان هو أمير الحروب من ذلك الجانب، وكان رئيسا مطاعا ذا مالٍ جزيل، ولما أسلم قال: يا رسول الله مرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.

قال: «نعم»، قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.

قال: «نعم».

ثم سأل أن يزوج رسول الله بابنته، وهي عزة بنت أبي سفيان واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة، فلم يقع ذلك، وبيّن رسول الله أن ذلك لا يحل له.

وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير موضع، وأفردنا له مصنفا على حدة ولله الحمد والمنة.

والمقصود أن معاوية كان يكتب الوحي لرسول الله مع غيره من كتّاب الوحي رضي الله عنهم.

ولما فتحت الشام ولاه عمر نيابة دمشق بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان، وأقره على ذلك عثمان بن عفان وزاده بلادا أخرى، وهو الذي بنى القبة الخضراء بدمشق وسكنها أربعين سنة، قاله الحافظ ابن عساكر.

ولما ولي علي بن أبي طالب الخلافة أشار عليه كثير من أمرائه ممن باشر قتل عثمان أن يعزل معاوية عن الشام ويولي عليها سهل بن حُنيف فعزله فلم ينتظم عزله والتف عليه جماعة من أهل الشام ومانع عليا عنها وقد قال: لا أبايعه حتى يسلمني قتلة عثمان فإنه قتل مظلوما، وقد قال الله تعالى: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا } 4.

وروى الطبراني عن ابن عباس أنه قال: ما زلت موقنا أن معاوية يلي الملك من هذه الآية.

أوردنا سنده ومتنه عند تفسير هذه الآية.

فلما امتنع معاوية من البيعة لعلي حتى يسلمه القتلة، كان من صفين ما قدمنا ذكره، ثم آل الأمر إلى التحكيم، فكان من أمر عمرو بن العاص وأبى موسى ما أسلفناه من قوة جانب أهل الشام في الصعدة الظاهرة.

واستفحل أمر معاوية، ولم يزل أمر علي في اختلاف مع أصحابه حتى قتله ابن ملجم كما تقدم، فعند ذلك بايع أهل العراق الحسن بن علي، وبايع أهل الشام لمعاوية بن أبي سفيان.

ثم ركب الحسن في جنود العراق عن غير إرادة منه، وركب معاوية في أهل الشام.

فلما تواجه الجيشان وتقابل الفريقان سعى الناس بينهما في الصلح فانتهى الحال إلى أن خلع الحسن نفسه من الخلافة وسلم الملك إلى معاوية بن أبي سفيان.

وكان ذلك في ربيع الأول من هذه السنة - أعني سنة إحدى وأربعين - ودخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها خطبة بليغة بعد ما بايعه الناس - واستوثقت له الممالك شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وَسَمي هذا العام: عام الجامعة لاجتماع الكلمة فيه على أمير واحد بعد الفرقة.

فولى معاوية قضاء الشام لفضالة بن عبيد، ثم بعده لأبي إدريس الخولاني.

وكان على شرطته قيس بن حمزة، وكان كاتبه وصاحب أمره سرحون بن منصور الرومي، ويقال إنه أول من اتخذ الحرس وأول من حزم الكتب وختمها، وكان أول الأحداث في دولته رضي الله عنه.

خروج طائفة من الخوارج عليه

عدل

وكان سبب ذلك أن معاوية لما دخل الكوفة وخرج الحسن وأهله منها قاصدين إلى الحجاز، قالت فرقة من الخوارج - نحو من خمسمائة -: جاء ما لا يشك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فساروا حتى قربوا من الكوفة وعليهم فروه بن نوفل، فبعث إليهم معاوية خيلا من أهل الشام فطردوا الشاميين، فقال معاوية: لا أمان لكم عندي حتى تكفوا بوائقكم.

فخرجوا إلى الخوارج فقالت لهم الخوارج: ويلكم ما تبغون؟ أليس معاوية عدوكم وعدونا؟ فدعونا حتى نقاتله فإن أصبناه كنا قد كفيناكموه، وإن أُصبنا كنتم قد كفيتمونا.

فقالوا: لا والله حتى نقاتلكم.

فقالت الخوارج: يرحم الله إخواننا من أهل النهروان كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، فاقتتلوا فهزمهم أهل الكوفة وطردوهم.

ثم إن معاوية أراد أن يستخلف على الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال له المغيرة بن شعبة: توليه الكوفة وأباه مصر وتبقى أنت بين لحيي الأسد؟ فثناه عن ذلك وولى عليها المغيرة بن شعبة، فاجتمع عمرو بن العاص بمعاوية فقال: أتجعل المغيرة على الخراج؟

هلا وليت الخراج رجلا آخر؟

فعزله عن الخراج وولاه على الصلاة، فقال المغيرة لعمرو في ذلك، فقال له: ألست المشير على أمير المؤمنين في عبد الله بن عمرو؟

قال: بلى!

قال: فهذه بتلك.

وفي هذه السنة وثب حمران بن أبان على البصرة فأخذها وتغلب عليها، فبعث معاوية جيشا ليقتلوه ومن معه، فجاء أبو بكرة الثقفي إلى معاوية فسأله في الصفح والعفو، فعفى عنهم وأطلقهم وولى على البصرة بسر بن أبي أرطاة.

فتسلط على أولاد زياد يريد قتلهم، وذلك أن معاوية كتب إلى أبيهم ليحضر إليه فلبث، فكتب إليه بسر: لئن لم تسرع إلى أمير المؤمنين وإلا قتلت بنيك، فبعث أبو بكرة إلى معاوية في ذلك.

وقد قال معاوية لأبي بكرة: هل من عهد تعهده إلينا؟

قال: نعم!

أعهد إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك ورعيتك وتعمل صالحا فإنك قد تقلدت عظيما، خلافة الله في خلقه، فاتق الله فإن لك غاية لا تعدوها، ومن ورائك طالب حثيث وأوشك أن يبلغ المدى فيلحق الطالب، فتصير إلى من يسألك عما كنت فيه، وهو أعلم به منك، وإنما هي محاسبة وتوقيف، فلا تؤثرن على رضا الله شيئا.

ثم ولى معاوية في آخر هذه السنة البصرة لعبد الله بن عامر، وذلك أن معاوية أراد أن يوليها لعتبة بن أبي سفيان فقال له ابن عامر: إن لي بها أموالا وودائع، وإن تولينها هلكتُ، فولاه إياها وأجابه إلى سؤاله في ذلك.

قال أبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان.

وقال الواقدي: إنما حج بهم عنبسة بن أبي سفيان فالله أعلم.

من أعيان من توفي هذا العام

رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان

عدل

شهد العقبة وبدرا وما بعد ذلك

ركانة بن عبد العزيز

عدل

ابن هشام بن عبد المطلب القرشي، وهو الذي صارعه النبي فصرعه، وكان هذا من أشد الرجال، وكان غلب رسول الله له من المعجزات كما قدمنا في «دلائل النبوة»، أسلم عام الفتح، وقيل: قبل ذلك بمكة فالله أعلم.

صفوان بن أمية

عدل

ابن خلف بن وهب بن حدافة بن وهب القرشي، أحد الرؤساء تقدم أنه هرب من رسول الله عام الفتح، ثم جاء فأسلم وحسن إسلامه، وكان الذي استأمن له عمير بن وهب الجمحي.

وكان صاحبه وصديقه في الجاهلية كما تقدم، وقدم به في وقت صلاة العصر فاستأمن له فأمّنه رسول الله أربعة أشهر، واستعار منه أدرعا وسلاحا ومالا.

وحضر صفوان حنينا مشركا، ثم أسلم ودخل الإيمان قلبه، فكان من سادات المسلمين كما كان من سادات الجاهلية.

قال الواقدي: ثم لم يزل مقيما بمكة حتى توفي بها في أول خلافة معاوية.

عثمان بن طلحة

عدل

ابن أبي طلحة بن عبد العزى بن عبد الدار العبدري الحجبي، أسلم هو وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص في أول سنة ثمان قبل الفتح.

وقد روى الواقدي حديثا طويلا عنه في صفة إسلامه، وهو الذي أخذ منه رسول الله مفتاح الكعبة عام الفتح ثم رده إليه وهو يتلو قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } 5.

وقال له: «خذها يا عثمان خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلا ظالم».

وكان علي قد طلبها فمنعه من ذلك.

قال الواقدي: نزل المدينة حياة رسول الله، فلما مات نزل بمكة فلم يزل بها حتى مات في أول خلافة معاوية.

عمرو بن الأسود السكوني

عدل

كان من العباد الزهاد، وكانت له حلة بمائتي درهم يلبسها إذا قام إلى الصلاة الليل، وكان إذا خرج إلى المسجد وضع يمينه على شماله مخافة الخيلاء، روى عن معاذ، وعبادة بن الصامت، والعرباض بن سارية وغيرهم.

وقال أحمد في الزهد: ثنا أبو اليمان، ثنا ابن بكر عن حكيم بن عمير، وضمرة بن حبيب، قالا: قال عمر بن الخطاب: من سره أن ينظر إلى هدى رسول الله فلينظر إلى هدى عمرو بن الأسود.

عاتكة بنت زيد

عدل

ابن عمرو بن نفيل بن عبد العزى، وهي: أخت سعيد بن زيد أحد العشرة، أسلمت وهاجرت وكانت من حسان النساء وعبادهن، تزوجها عبيد الله بن أبي بكر فتتيم بها.

فلما قتل في غزوة الطائف آلت أن لا تزوج بعده، فبعث إليها عمر بن الخطاب - وهو ابن عمها - فتزوجها، فلما قتل عنها خلف بعده عليها الزبير بن العوام، فقتل بوادي السباع، فبعث إليها علي بن أبي طالب يخطبها فقالت: إني أخشى عليك أن تقتل، فأبت أن تتزوجه ولو تزوجته لقتل عنها أيضا، فإنها لم تزل حتى ماتت في أول خلافة معاوية في هذه السنة رحمها الله.

سنة ثنتين وأربعين

عدل

فيها: غزا المسلمون اللان والروم فقتلوا من أمرائهم وبطارقتهم خلقا كثيرا، وغنموا وسلموا.

وفيها: ولي معاوية مروان بن الحكم نيابة المدينة.

وعلى مكة: خالد بن العاص بن هشام.

وعلى الكوفة: المغيرة بن شعبة.

وعلى قضائها: شريح القاضي.

وعلى البصرة: عبد الله بن عامر.

وعلى خراسان: قيس بن الهيثم من قبل عبد الله بن عامر.

وفى هذه السنة تحركت الخوارج الذين كانوا قد عفى عنهم علي يوم النهروان، وقد عوفي جرحاهم وثابت إليهم قواهم، فلما بلغهم مقتل علي ترحموا على قاتله ابن ملجم وقال قائلهم: لا يقطع الله يدا علت قذال علي بالسيف، وجعلوا يحمدون الله على قتل علي، ثم عزموا على الخروج على الناس وتوافقوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يزعمون.

وفي هذه السنة قدم زياد بن أبيه على معاوية - وكان قد امتنع عليه قريبا من سنة في قلعة عرفت به يقال لها: قلعة زياد - فكتب إليه معاوية: ما يحملك على أن تهلك نفسك؟

أقدم عليَّ فأخبرني بما صار إليك من أموال فارس وما صرفت منها وما بقي عندك، فائتني به وأنت آمن، فإن شئت أن تقيم عندنا فعلت وإلا ذهبت حيث ما شئت من الأرض فأنت آمن.

فعند ذلك أزمع زياد السير إلى معاوية، فبلغ المغيرة قدومه فخشي أن يجتمع بمعاوية قبله، فسار نحو دمشق إلى معاوية فسبقه زياد إلى معاوية بشهر فقال معاوية للمغيرة: ما هذا وهو أبعد منك وأنت جئت بعده بشهر؟

فقال: يا أمير المؤمنين إنه ينتظر الزيادة وأنا أنتظر النقصان، فأكرم معاوية زيادا وقبض ما كان معه من الأموال وصدقه فيما صرفه.

سنة ثلاث وأربعين

عدل

فيها: غزا بسر بن أبي أرطاة بلاد الروم فتوغل فيها حتى بلغ مدينة قسطنطينية، وشتى ببلادهم فيما زعمه الواقدي، وأنكر غيره ذلك وقالوا: لم يكن بها مشتى لأحد قط، فالله أعلم.

قال ابن جرير: وفيها: مات عمرو بن العاص بمصر، ومحمد بن مسلمة، قلت: وسنذكر ترجمة كل منهما في آخرها، فولي معاوية بعد عمرو بن العاص على ديار مصر ولده عبد الله بن عمرو.

قال الواقدي: فعمل له عليها سنتين.

وقد كانت في هذه السنة - أعني سنة ثلاث وأربعين -وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة، وذلك أنهم صمموا -كما قدمنا - على الخروج على الناس في هذا الحين.

فاجتمعوا في قريب من ثلثمائة عليهم المستورد بن علقمة، فجهز عليهم المغيرة بن شعبة جندا عليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، فصار إليهم وقدم بين يديه أبا الرواع في طليعة هي ثلثمائة على عدة الخوارج، فلقيهم أبو الرواع بمكان يقال له: المذار فاقتتلوا معهم فهزمهم الخوارج.

ثم كروا عليهم فهزمتهم الخوارج، ولكن لم يقتل أحد منهم، فلزموا مكانهم في مقاتلتهم ينتظرون قدوم أمير الجيش معقل بن قيس عليهم.

فما قدم عليهم إلا في آخر نهار غربت فيه الشمس، فنزل وصلى بأصحابه، ثم شرع في مدح أبي الرواع فقال له: أيها الأمير إن لهم شدات منكرة، فكن أنت ردأ الناس، ومر الفرسان فليقاتلوا بين يديك.

فقال معقل بن قيس: نعم ما رأيت، فما كان إلا ريثما قال له ذلك حتى حملت الخوارج على معقل وأصحابه، فانجفل عنه عامة أصحابه، فترجل عند ذلك معقل بن قيس وقال: يا معشر المسلمين الأرض الأرض، فترجل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مائتي فارس، منهم أبو الرواع الشاكري.

فحمل عليهم المستورد بن علقمة بأصحابه فاستقبلوهم بالرماح والسيوف، ولحق بقية الجيش بعض الفرسان فدمرهم وعيرهم وأنبهم على الفرار فرجع الناس إلى معقل وهو يقاتل الخوارج بمن معه من الأنصار قتالا شديدا، والناس يتراجعون في أثناء الليل.

فصفهم معقل بن قيس ميمنة وميسرة ورتبهم وقال: لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم، فما أصبحوا حتى هزمت الخوارج فرجعوا من حيث أتوا.

فسار معقل في طلبهم وقدم بين يديه أبا الرواع في ستمائة فالتقوا بهم عند طلوع الشمس فثار إليهم الخوارج فتبارزوا ساعة، ثم حملوا حملة رجل واحد فصبر لهم أبو الرواع بمن معه، وجعل يدمرهم ويعيرهم ويؤنبهم على الفرار ويحثهم على الصبر فصبروا وصدقوا في الثبات حتى ردوا الخوارج إلى أماكنهم.

فلما رأت الخوارج ذلك خافوا من هجوم معقل عليهم فما يكون دون قتلهم شيء، فهربوا بين أيديهم حتى قطعوا دجلة في أرض نهر شير، وتبعهم أبو الرواع، ولحقه معقل بن قيس.

ووصلت الخوارج إلى المدينة العتيقة فركب إليهم شريك بن عبيد - نائب المدائن - ولحقهم أبو الرواع بمن معه من المقدمة.

وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم نائب المدينة.

وممن توفي بها: عمرو بن العاص، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما.

أما عمرو بن العاص

عدل

فهو عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السهمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد، أحد رؤساء قريش في الجاهلية، وهو الذي أرسلوه إلى النجاشي ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده فلم يجبهم إلى ذلك لعدله، ووعظ عمرو بن العاص في ذلك.

فيقال: إنه أسلم على يديه والصحيح أنه إنما أسلم قبل الفتح بستة أشهر هو وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة العبدري.

وكان أحد أمراء الإسلام، وهو أمير ذات السلاسل، وأمده رسول الله بمدد عليهم أبو عبيدة، ومعه الصديق، وعمر الفاروق، واستعمله رسول الله على عمان، فلم يزل عليها مدة حياة رسول الله ، وأقره عليها الصديق.

وقد قال الترمذي: ثنا قتيبة، ثنا ابن لهيعة، ثنا مشرح بن عاهان، عن عقبة بن عامر قال:

قال رسول الله : «أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص».

وقال أيضا: ثنا إسحاق بن منصور، ثنا أبو أسامة، عن نافع، عن عمر الجمحي، عن ابن أبي ملكية، قال: قال طلحة بن عبيد الله:

سمعت رسول الله يقول: «إن عمرو بن العاص من صالحي قريش».

وفى الحديث الآخر: «ابنا العاص مؤمنان».

وفى الحديث الآخر: «نِعم أهل البيت عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله».

رووه في فضائل عمرو بن العاص، ثم إن الصديق بعثه في جملة من بعث من أمراء الجيش إلى الشام فكان ممن شهد تلك الحروب، وكانت له الآراء السديدة، والمواقف الحميدة، والأحوال السعيدة.

ثم بعثه عمر إلى مصر فافتتحها واستنابه عليها وأقره فيها عثمان بن عفان أربع سنين، ثم عزله كما قدمنا، وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاعتزل عمرو بفلسطين وبقي في نفسه من عثمان رضي الله عنهما.

فلما قتل سار إلى معاوية فشهد مواقفه كلها بصفين وغيرها، وكان هو أحد الحكمين.

ثم لما أن استرجع معاوية مصر وانتزعها من يد محمد بن أبي بكر، استعمل عمرو بن العاص عليها، فلم يزل نائبها إلى أن مات في هذه السنة على المشهور.

وقيل: إنه توفي سنة سبع وأربعين.

وقيل: سنة ثمان وأربعين.

وقيل: سنة إحدى وخمسين رحمه الله.

وقد كان معدودا من دهاة العرب وشجعانهم، وذوي آرائهم وله أمثال حسنة، وأشعار جيدة.

وقد روي عنه أنه قال: حفظت من رسول الله ألف مثل، ومن شعره:

إذا المرء لم يترك طعاما يحبه * ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما

قضى وطرا منه وغادر سبة * إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

وقال الإمام أحمد: حدثنا على بن إسحاق، ثنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى فقال له ابنه عبد الله: لم تبكي؟ أجزعا على الموت

فقال: لا والله ولكن مما بعد الموت.

فقال له: قد كنت على خير، فجعل يذكره صحبة رسول الله وفتوحه الشام.

فقال عمرو: تركت أفضل من ذلك كله شهادة أن لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق ليس فيها طبق إلا عرفت نفسي فيه، كنت أول قريش كافرا، وكنت أشد الناس على رسول الله فلومت حينئذ وجبت لي النار.

فلما بايعت رسول الله كنت أشد الناس حياء منه، فما ملأت عيني من رسول الله ولا راجعته فيما أريد حتى لحق بالله حياء، فلو مت يومئذ قال الناس: هنيئا لعمرو أسلم، وكان على خير فمات عليه نرجو له الجنة.

ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء فلا أدرى علي أم لي، فإذا مت فلا تبكين عليَّ باكية، ولا يتبعني مادح، ولا نار، وشدوا علي إزاري فأني مخاصم، وشنوا عليَّ التراب شنا، فإن جنبي الأيمن ليس أحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجرا، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور أستأنس بكم.

وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه من حديث يزيد بن أبي حبيب بإسناده نحوه وفيه زيادات على هذا السياق.

فمنها: قوله: كي أستأنس بكم لأنظر ماذا أراجع رسل ربي عز وجل.

وفي رواية: أنه بعد هذا حول وجهه إلى الجدار وجعل يقول: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا، ولا يسعنا إلا عفوك.

وفي رواية: أنه وضع يده على موضع الغل من عنقه ورفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم لا قوي فانتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستنكر بل مستغفر، لا إله إلا أنت فلم يزل يرددها حتى مات رضي الله عنه.

وأما محمد بن مسلمة الأنصاري فقد أسلم على يدي مصعب بن عمير قبل أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، شهد بدرا وما بعدها إلا تبوك، فإنه استخلفه رسول الله على المدينة في قوله.

وقيل: استخلفه في قرقرة الكدر، وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف اليهودي.

وقيل: أنه الذي قتل مرحبا اليهودي يوم خيبر أيضا.

وقد أمره رسول الله على نحو من خمس عشرة سرية، وكان ممن اعتزل تلك الحروب بالجمل وصفين ونحو ذلك، واتخذ سيفا من خشب.

وقد ورد في حديث قدمناه أنه أمره رسول الله بذلك وخرج إلى الربذة.

وكان من سادات الصحابة، وكان هو رسول عمر إلى عماله، وهو الذي شاطرهم عن أمره، وله وقائع عظيمة، وصيانة وأمانة بليغة رضي الله عنه، واستعمله على صدقات جهينة.

وقيل: إنه توفي سنة ست أو سبع وأربعين.

وقيل: غير ذلك.

وقد جاوز السبعين، وترك بعده عشرة ذكور وست بنات، وكان أسمر، شديد السمرة، طويلا، أصلع رضي الله عنه.

وممن توفي فيها عبد الله بن سلام أبو يوسف الإسرائيلي

عدل

أحد أحبار اليهود، أسلم حين قدم رسول الله المدينة.

قال: لما قدم رسول الله المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل إليه، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته يقول: «أيها الناس، افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، تدخلوا الجنة بسلام».

وقد ذكرنا صفة إسلامه أول الهجرة، وماذا سأل عنه رسول الله من الأسئلة النافعة الحسنة رضي الله عنه.

وهو ممن شهد له رسول الله بالجنة، وهو ممن يقطع له بدخولها.

سنة أربع وأربعين

عدل

فيها: غزا عبد الرحمن بن خالد الوليد بلاد الروم ومعه المسلمون، وشتوا هنالك.

وفيها: غزا بسر بن أبي أرطاة في البحر.

وفيها: عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة، وذلك أنه ظهر فيها الفساد وكان ليِّنَ العريكة سهلا، يقال: أنه كان لا يقطع لصا، ويريد أن يتألف الناس، فذهب عبد الله بن أبي أوفى المعروف بابن الكوا فشكاه إلى معاوية، فعزل معاوية ابن عامر عن البصرة، وبعث إليها الحرث ابن عبد الله الأزدي.

ويقال: إن معاوية استدعاه إليه ليزوره فقدم ابن عامر على معاوية دمشق، فأكرمه ورده على عمله.

فلما ودعه قال له معاوية: ثلاث أسألكهن فقل هي لك وأنا ابن أم حكيم ترد عليّ عملي ولا تغضب.

قال ابن عامر: قد فعلت.

قال معاوية: وتهب لي مالك بعرفة.

قال: قد فعلت.

قال: وتهب لي دورك بمكة.

قال: قد فعلت.

فقال له معاوية: وصلتك رحما.

فقال ابن عامر: يا أمير المؤمنين، وإني سائلك ثلاثا فقل هي لك وأنا ابن هند.

قال: ترد عليَّ مالي بعرفة.

قال: قد فعلت.

قال: ولا تحاسب لي عاملا ولا أميرا.

قال: قد فعلت.

قال: وتنكحني ابنتك هندا.

قال: قد فعلت.

ويقال: إن معاوية خيره بين هذه الثلاث وبين الولاية على بصرة فاختار هذه الثلاث، واعتزل عن البصرة.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه، فألحقه بأبي سفيان، وذلك أن رجلا شهد على إقرار أبي سفيان أنه عاهر بسمية أم زياد في الجاهلية، وأنها حملت بزياد هذا منه، فلما استلحقه معاوية قيل له: زياد بن أبي سفيان.

وقد كان الحسن البصري ينكر هذا الاستلحاق ويقول: قال رسول الله : «الولد للفراش، وللعاهر الحجر».

وقال أحمد: ثنا هشيم، ثنا خالد، عن أبي عثمان، قال: لما ادَّعى زياد، لقيت أبا بكرة، فقلت: ما هذا الذي صنعتم، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت أذني رسول الله يقول: «من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام».

فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله ، أخرجناه من حديث أبي عثمان عنهما.

قلت: أبو بكرة واسمه نفيع، وأمه سمية أيضا.

وحج بالناس في هذه السنة معاوية.

وفيها: عمل معاوية المقصورة بالشام ومروان مثلها بالمدينة.

وفى هذه السنة توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين

عدل

واسمها رملة أخت معاوية، أسلمت قديما، وهاجرت هي وزوجها عبد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصر هناك زوجها وثبت على دينها رضي الله عنها، وحبيبة هي أكبر أولادها منه ولدتها بالحبشة، وقيل: بمكة قبل الهجرة، ومات زوجها هنالك لعنه الله وقبحه.

ولما تأيمت من زوجها بعث رسول الله عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجها منه، وولي العقد خالد بن سعيد بن العاص، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وحملها إليه في سنة سبع.

ولما جاء أبوها عام الفتح ليشهد العقد دخل عليها فثنت عنه فراش رسول الله فقال لها: والله يا بنية ما أدري أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟

فقالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك.

فقال لها: والله يا بنية لقد لقيت بعدي شرا.

وقد كانت من سيدات أمهات المؤمنين، ومن العابدات الورعات رضي الله عنها.

قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عوف بن الحارث، قال:

سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت: قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر.

فقلت: يغفر الله لي ولك ما كان من ذلك كله، وتجاوزت وحاللتك.

فقالت: سررتيني سرك الله وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك.

سنة خمس وأربعين

عدل

فيها: ولى معاوية البصرة للحارث بن عبد الله الأزدي، ثم عزله بعد أربعة أشهر، وولى زيادا فقدم زياد الكوفة، وعليها المغيرة فأقام بها ليأتيه رسول معاوية بولاية البصرة، فظن المغيرة أنه قد جاء على إمرة الكوفة، فبعث إليه وائل بن حجر ليعلم خبره.

فاجتمع به فلم يقدر منه على شيء، فجاء البريد إلى زياد: أن يسير إلى البصرة، واستعمله على خراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان.

ودخل زياد البصرة في مستهل جمادى الأول، فقام في أول خطبة خطبها - وقد وجد الفسق ظاهرا - فقال فيها:

أيها الناس، كأنكم لم تسمعوا ما أعد الله من الثواب لأهل الطاعة، والعذاب لأهل المعصية، تكونون كمن طرقت جبينه الدنيا، وفسدت مسامعه الشهوات، فاختار الفانية على الباقية.

ثم ما زال يقيم أمر السلطان، ويجرد السيف حتى خافه الناس خوفا عظيما، وتركوا ما كانوا فيه من المعاصي الظاهرة، واستعان بجماعة من الصحابة.

وولى عمران بن حصين القضاء بالبصرة.

وولى الحكم بن عمرو الغفاري نيابة خراسان.

وولى سمرة بن جندب، وعبد الرحمن بن سمرة، وأنس بن مالك، وكان حازم الرأي ذا هيبة داهية، وكان مفوها فصيحا بليغا.

قال الشعبي: ما سمعت متكلما قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفا من أن يسيء إلا زيادا، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاما.

وقد كانت له وجاهة عند عمر بن الخطاب.

وفي هذه السنة غزا الحكم بن عمر نائب زياد على خراسان جبل الأسل عن أمر زياد فقتل منهم خلقا كثيرا، وغنم أموالا جمة، فكتب إليه زياد: إن أمير المؤمنين قد جاء كتابه أن يصطفى له كل صفراء أو بيضاء - يعني الذهب والفضة - يجمع كله من هذه الغنيمة لبيت المال.

فكتب الحكم بن عمرو: إن كتاب الله مقدم على كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو كانت السموات والأرض على عدو فاتقى الله يجعل له مخرجا، ثم نادى في الناس: أن اغدوا على قسم غنيمتكم.

فقسمها بينهم، وخالف زيادا فيما كتب إليه عن معاوية، وعزل الخمس كما أمر الله ورسوله.

ثم قال الحكم: إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، فمات بمرو من خراسان رضي الله عنه.

قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم وكان نائب المدينة.

وفي هذه السنة: توفي زيد بن ثابت الأنصاري، أحد كتَّاب الوحي وقد ذكرنا ترجمته فيهم في أواخر السيرة، وهو الذي كتب هذا المصحف الإمام الذي بالشام عن أمر عثمان بن عفان، وهو خط جيد قوي جدا فيما رأيته.

وقد كان زيد بن ثابت من أشد الناس ذكاءً تعلم لسان يهود وكتابهم في خمسة عشر يوما.

قال أبو الحسن بن البراء: تعلم الفارسية من رسول كسرى في ثمانية عشر يوما، وتعلم الحبشية، والرومية، والقبطية، من خدام رسول الله .

قال الواقدي: وأول مشاهده الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة.

وفي الحديث الذي رواه أحمد والنسائي: «وأعلمهم بالفرائض زيد بن ثابت».

وقد استعمله عمر بن الخطاب على القضاء.

وقال مسروق: كان زيد بن ثابت من الراسخين.

وقال محمد بن عمرو: عن أبي سلمة، عن ابن عباس، أنه أخذ لزيد بن ثابت بالركاب.

فقال له: تنح يا ابن عم رسول الله.

فقال: لا! هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا.

وقال الأعمش: عن ثابت، عن عبيدة، قال: كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته، ومن أذمها إذا خرج إلى الرجال.

وقال محمد بن سيرين: خرج زيد بن ثابت إلى الصلاة فوجد الناس راجعين منها فتوارى عنهم، وقال: من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله.

مات في هذه السنة.

وقيل: في سنة خمس وخمسين والصحيح الأول، وقد قارب الستين، وصلى عليه مروان.

وقال ابن عباس: لقد مات اليوم عالم كبير.

وقال أبو هريرة: مات حبر هذه الأمة.

وفيها: مات سلمة بن سلامة بن وقش عن سبعين، وقد شهد بدرا وما بعدها، ولا عقب له.

وعاصم بن عدي وقد استخلفه رسول الله حين خرج إلى بدر على قبا وأهل العالية، وشهد أحدا وما بعدها.

وتوفي عن خمس وعشرين ومائة، وقد بعثه رسول الله هو ومالك بن الدخشم إلى مسجد الضرار فحرقاه.

وفيها: توفيت حفصة بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين، وكانت قبل رسول الله تحت حنيس بن حذافة السهمي، وهاجرت معه إلى المدينة فتوفي عنها بعد بدر.

فلما انقضت عدتها، عرضها أبوها على عثمان بعد وفاة زوجته رقية بنت الرسول الله ، فأبى أن يتزوجها؛ فعرضها على أبي بكر فلم يرد عليه شيئا، فما كان عن قريب حتى خطبها رسول الله فتزوجها.

فعاتب عمر أبا بكر بعد ذلك في ذلك فقال له أبو بكر: إن رسول الله كان قد ذكرها فما كنت لأفشي سر رسول الله ، ولو تركها لتزوجتها.

وقد روينا في الحديث: أن رسول الله طلق حفصة ثم راجعها.

وفى رواية: أن جبريل أمره بمراجعتها وقال: إنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة.

وقد أجمع الجمهور: أنها توفيت في شعبان من هذه السنة عن ستين سنة وقيل أنها توفيت أيام عثمان، والأول أصح.

سنة ست وأربعين

عدل

فيها شتى المسلمون ببلاد الروم مع أميرهم عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد.

وقيل: كان أميرهم غيره والله أعلم.

وحج بالناس عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، والعمال على البلاد هم المتقدم ذكرهم.

وممن توفي في هذه السنة سالم بن عمير أحد البكائين المذكورين في القرآن، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد كلها.

سراقة بن كعب شهد بدرا وما بعدها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد

عدل

القرشي المخزومي، وكان من الشجعان المعروفين، والأبطال المشهورين كأبيه، وكان قد عظم ببلاد الشام لذلك حتى خاف منه معاوية، ومات وهو مسموم رحمه الله وأكرم مثواه.

قال ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني: أدرك النبي .

وقد روى ابن عساكر: من طريق أبي عمر، أن عمرو بن قيس روى عنه عن النبي في الحجامة بين الكتفين.

قال البخاري: وهو منقطع - يعني مرسلا - وكان كعب بن جعيل مداحا له ولأخويه مهاجر وعبد الله.

وقال الزبير بن بكار: كان عظيم القدر في أهل الشام، شهد صفين مع معاوية.

وقال ابن سميع: كان يلي الصوائف زمن معاوية، وقد حفظ عن معاوية.

وقد ذكر ابن جرير وغيره: أن رجلا يقال له: ابن أثال - وكان رئيس الذمة بأرض حمص - سقاه شربة فيها سم فمات.

وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح.

ورثاه بعضهم، فقال:

أبوك الذي قاد الجيوش مغريا * إلى الروم لما أعطت الخرج فارس

وكم من فتى نبهته بعد هجعةٍ * بقرع لجام وهو أكتع ناعس

وما يستوي الصفان صفٌ لخالدٍ * وصفُ عليه من دمشقُ البرانس

وقد ذكروا أن خالد بن عبد الرحمن بن خالد قدم المدينة، فقال له عروة بن الزبير: ما فعل ابن أثال؟

فسكت ثم رجع إلى حمص فثار على ابن أثال فقتله.

فقال: قد كفيتك إياه، ولكن ما فعل ابن جرموز؟ فسكت عروة ومحمد بن مسلمة في قول.

وقد تقدم هرم بن حبان العبدي وهو أحد عمال عمر بن الخطاب، ولقي أويسا القرني، وكان من عقلاء الناس وعلمائهم، ويقال: إنه لما دفن جاءت سحابة فروت قبره وحده، ونبت العشب عليه من وقته، والله أعلم.

سنة سبع وأربعين

عدل

فيها: شتى المسلمون ببلاد الروم.

وفيها: عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص عن ديار مصر، وولى عليها معاوية بن خديج، وحج بالناس عتبة.

وقيل: أخوه عنبسة بن أبي سفيان، فالله أعلم.

وممن توفي فيها: قيس بن عاصم المنقري، كان من سادات الناس في الجاهلية والإسلام، وكان ممن حرَّم الخمر في الجاهلية والإسلام، وذلك أنه سكر يوما فعبث بذات محرم منه فهربت منه، فلما أصبح قيل له في ذلك، فقال في ذلك:

رأيت الخمر منقصةً وفيها * مقابح تفضح الرجل الكريما

فلا والله أشربها حياتي * ولا أشفى بها أبدا سقيما

وكان إسلامه مع وفد بني تميم، وفي بعض الأحاديث أن رسول الله قال: «هذا سيد أهل الوبر».

وكان جوادا ممدحا كريما، وهو الذي يقول فيه الشاعر:

وما كان قيسٌ هلكهُ هلكُ واحدٍ * ولكنهُ بنيانُ قومٍ تهدما

وقال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء، وأبا سفيان بن العلاء يقولان:

قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟

قال: من قيس بن عاصم المنقري، لقد اختلفنا إليه في الحكم كما يختلف إلى الفقهاء، فبينا نحن عنده يوما وهو قاعد بفنائه، محتبٍ بكسائه، أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف، فقالوا: هذا ابنك قتله ابن أخيك.

قال: فوالله ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه، ثم التفت إلى ابن له في المسجد، فقال: أطلق عن ابن عمك، ووار أخاك، واحمل إلى أمه مائة من الإبل فإنها غريبةً.

ويقال: إنه لما حضرته الوفاة جلس حوله بنوه - وكانوا اثنين وثلاثين ذكرا - فقال لهم: يا بنيّ، سوِّدوا عليكم أكبركم تخلفوا أباكم، ولا تسوِّدوا أصغركم فيزدري بكم أكفاؤكم، وعليكم بالمال واصطناعه فإنه نعم ما يهبه الكريم، ويستغني به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس فإنها من أخس مكسبة الرجل، ولا تنوحوا علي فإن رسول الله لم ينح عليه، ولا تدفنوني حيث يشعر بكر بن وائل، فإني كنت أعاديهم في الجاهلية.

وفيه يقول الشاعر:

عليك سلام الله قيس بن عاصم * ورحمته ما شاء أن يترحما

تحية من أوليتهُ منك منة * إذا ذكرت مثلها تملأ الفما

فما كان قيس هلكهُ هلكُ واحد * ولكنه بنيان قوم تهدما

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين

عدل

فيها: شتى أبو عبد الرحمن القتبي بالمسلمين ببلاد أنطاكيا.

وفيها: غزا عقبة بن عامر بأهل مصر البحر، وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم نائب المدينة.

سنة تسع وأربعين

عدل

فيها: غزا يزيد بن معاوية بلاد الروم حتى بلغ قسطنطينية، ومعه جماعات من سادات الصحابة منهم: ابن عمرو بن عباس، وابن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري.

وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله قال: «أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» فكان هذا الجيش أول من غزاها، وما وصلوا إليها حتى بلغوا الجهد.

وفيها توفي أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري

وقيل: لم يمت في هذه الغزوة بل بعدها سنة إحدى أو ثنتين أو ثلاث وخمسين كما سيأتي.

وفيها: عزل معاوية مروان عن المدينة، وولى عليها سعيد بن العاص، فاستقضى سعيد عليها أبا سلمة بن عبد الرحمن.

وفيها: شتى مالك بن هبيرة الفزاري بأرض الروم.

وفيها: كانت غزوة فضالة بن عبيد، وشتى هنالك ففتح البلد وغنم شيئا كثيرا.

وفيها: كانت صائفة عبد الله بن كرز.

وفيها: وقع الطاعون بالكوفة فخرج منها المغيرة فارا، فلما ارتفع الطاعون رجع إليها فأصابه الطاعون فمات، والصحيح أنه مات سنة خمسين كما سيأتي.

فجمع معاوية لزياد الكوفة إلى البصرة فكان أول من جمع له بينهما، فكان يقيم في هذه ستة أشهر وهذه ستة أشهر، وكان يستخلف على البصرة سمرة بن جندب. وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص.

ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان

الحسن بن علي بن أبي طالب

عدل

أبو محمد القرشي الهاشمي، سبط رسول الله ابن ابنته فاطمة الزهراء، وريحانته، وأشبه خلق الله به في وجهه، ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، فحنكه رسول الله بريقه وسماه حسنا، وهو أكبر ولد أبويه.

وقد كان رسول الله يحبه حبا شديدا حتى كان يقبل ذبيبته وهو صغير، وربما مص لسانه واعتنقه وداعبه.

وربما جاء رسول الله ساجد في الصلاة فيركب على ظهره فيُقره على ذلك ويطيل السجود من أجله.

وربما صعد معه إلى المنبر، وقد ثبت في الحديث أنه عليه السلام بينما هو يخطب، إذ رأى الحسن والحسين مقبلين فنزل إليهما فاحتضنهما وأخذهما معه إلى المنبر وقال: «صدق الله { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } 6 إني رأيت هذين يمشيان ويعثران فلم أملك أن نزلت إليهما» ثم قال: «إنكم لمن روح الله، وإنكم لتبجلون وتحببون».

وقد ثبت في صحيح البخاري: عن أبي عاصم، عن عمر ابن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، أن أبا بكر صلى بهم العصر بعد وفاة رسول الله بليالٍ، ثم خرج هو وعلي يمشيان فرأى الحسن يلعب مع الغلمان فاحتمله على عنقه، وجعل يقول: بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي.

قال: وعلي يضحك.

وروى سفيان الثوري وغير واحد قالوا: ثنا وكيع، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمعت أبا جحيفة يقول: رأيت النبي وكان الحسن بن علي يشبهه.

ورواه البخاري ومسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد، قال وكيع: لم يسمع إسماعيل من أبي جحيفة إلا هذا الحديث.

وقال أحمد: ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا زمعة، عن ابن أبي مليكة قالت: كانت فاطمة تنقر للحسن بن علي وتقول: بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي.

وقال عبد الرزاق وغيره: عن معمر، عن الزهري، عن أنس قال: كان الحسن بن علي أشبههم وجها برسول الله .

ورواه أحمد: عن عبد الرزاق بنحوه.

وقال أحمد: ثنا حجاج، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ، عن علي قال: الحسن أشبه برسول الله ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه برسول الله ما أسفل من ذلك.

ورواه الترمذي من حديث إسرائيل وقال: حسن غريب.

وقال أبو داود الطيالسي: ثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي قال: كان الحسن أشبه الناس برسول الله من وجهه إلى سرته، وكان الحسين أشبه الناس به ما أسفل من ذلك.

وقد روي عن ابن عباس، وابن الزبير، أن الحسن بن علي كان يشبه النبي .

وقال أحمد: ثنا حازم بن الفضيل، ثنا معتمر، عن أبيه، قال: سمعت أبا تميمة يحدث عن أبي عثمان النهدي، يحدثه أبو عثمان، عن أسامة بن زيد، قال: كان النبي يأخذني فيقعدني على فخده، ويقعد الحسن على فخده الأخرى، ثم يضمنا ثم يقول: «اللهم ارحمهما فإني أرحمهما».

وكذا رواه البخاري، عن النهدي، عن محمد بن الفضيل أخو حازم به، وعن علي بن المديني، عن يحيى القطان، عن سليمان التيمي، عن أبي تميمة، عن أبي عثمان، عن أسامة.

وأخرجه أيضا: عن موسى بن إسماعيل ومسدد، عن معتمر، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن أسامة فلم يذكر أبا تميمة، والله أعلم.

وفي رواية: «اللهم إني أحبهما فأحبهما».

وقال شعبة: عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: رأيت النبي والحسن بن علي عاتقه، وهو يقول: «اللهم إني أحبه فأحبه». أخرجاه من حديث شعبة.

ورواه علي بن الجعد، عن فضيل بن مرزوق، عن عدي، عن البراء، فزاد: «وأحب من أحبه».

وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال أحمد: ثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي هريرة، عن النبي قال للحسن بن علي: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه».

ورواه مسلم: عن أحمد، وأخرجاه من حديث شعبة، وقال أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا ورقاء، عن عبيد الله، عن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن أبي هريرة.

قال: كنت مع النبي في سوق من أسواق المدينة، فانصرف وانصرفت معه، فجاء إلى فناء فاطمة، فقال: أي لكع، أي لكع، أي لكع، فلم يجبه أحد، فانصرف وانصرفت معه إلى فناء فقعد.

قال: فجاء الحسن بن علي - قال أبو هريرة: ظننا أن أمه حبسته لتجعل في عنقه السخاب - فلما دخل التزمه رسول الله، والتزم هو رسول الله، ثم قال: «إني أحبه وأحب من يحبه» ثلاث مرات.

وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة، عن عبد الله به.

وقال أحمد: ثنا حماد الخياط، ثنا هشام بن سعد، عن نعيم بن عبد الله المجمر، عن أبي هريرة.

قال: خرج رسول الله إلى سوق بني قينقاع متكئا على يدي، فطاف فيها، ثم رجع فاحتبى في المسجد، وقال: «أين لكاع، ادعوا لي لكاع» فجاء الحسن فاشتد حتى وثب في حبوته فأدخل فمه في فمه، ثم قال: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه» ثلاثا.

قال أبو هريرة: ما رأيت الحسن إلا فاضت عينيّ، أو قال دمعت عينيّ، أو بكيت.

وهذا على شرط مسلم ولم يخرجوه.

وقد رواه الثوري، عن نعيم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، فذكر مثله، أو نحوه.

ورواه معاوية بن أبي برود، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه، وفيه زيادة.

وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي نحوا من هذا.

ورواه عثمان بن أبي اللباب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة بنحوه، وفيه زيادة.

وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي نحوا من هذا السياق.

وقال سفيان الثوري وغيره: عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:

قال رسول الله : «من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني» غريب من هذا الوجه.

وقال أحمد: ثنا ابن نمير، ثنا الحجاج - يعني: ابن دينار - عن جعفر بن إياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة قال:

خرج علينا رسول الله ومعه حسن وحسين هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة، وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله إنك لتحبهما.

فقال: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني». تفرد به أحمد.

وقال أبو بكر ابن عياش: عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: كان رسول الله يصلي، فجاء الحسن والحسين، فجعلا يتوثبان على ظهره إذا سجد، فأراد الناس زجرهما، فلما سلم قال للناس: «هذان ابناي، من أحبهما فقد أحبني».

ورواه النسائي من حديث: عبيد الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن عاصم به.

وقد ورد عن عائشة، وأم سلمة أميّ المؤمنين، أن رسول الله اشتمل على الحسن والحسين وأمهما وأبيهما فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».

وقال محمد بن سعد: ثنا محمد بن عبد الله الأسدي، ثنا شريك، عن جابر، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله.

قال: قال رسول الله : «من سره أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن بن علي».

وقد رواه وكيع، عن الربيع بن سعد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر، فذكر مثله، وإسناده لا بأس به، ولم يخرجوه.

وجاء من حديث علي وأبي سعيد وبريده أن رسول الله قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما».

وقال أبو القاسم البغوي: ثنا داود بن عمرو، ثنا إسماعيل ابن عياش، حدثني عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعد بن راشد، عن يعلى بن مرة.

قال: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى رسول الله، فجاء أحدهما قبل الآخر فجعل يده تحت رقبته ثم ضمه إلى إبطه، ثم جاء الآخر فجعل يده إلى الأخرى في رقبته ثم ضمه إلى إبطه، وقبّل هذا، ثم قبّل هذا.

ثم قال: «اللهم إني أحبهما فأحبهما»، ثم قال: «أيها الناس إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة».

وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي خيثم، عن محمد بن الأسود بن خلف، عن أبيه: أن رسول الله أخذ حسنا فقبله، ثم أقبل عليهم فقال: «إن الولد مبخلة مجبنة».

وقال ابن خزيمة: ثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي، ثنا زيد بن الحباب ح، وقال أبو يعلى أبو خيثمة: ثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين بن واقد، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال:

كان رسول الله يخطب، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر.

ثم قال: «صدق الله! { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ }، رأيت هذين الصبين فلم أصبر، ثم أخذ في خطبته».

وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الحسين بن واقد.

وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه.

وقد رواه محمد الضمري، عن زيد بن أرقم، فذكر القصة للحسن وحده.

وفي حديث عبد الله بن شداد، عن أبيه، أن رسول الله صلى بهم إحدى صلاتي العشي فسجد سجدة أطال فيها السجود، فلما سلم قال الناس له في ذلك، قال: «إن ابني هذا - يعني: الحسن - ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته».

وقال الترمذي: عن أبي الزبير، عن جابر، قال: دخلت على رسول الله وهو حامل الحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما على أربع، فقلت: نعم الحمل حملكما فقال: «ونعم العدلان هما». على شرط مسلم ولم يخرجوه.

وقال أبو يعلى: ثنا أبو هاشم، ثنا أبو عامر، ثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس.

قال: خرج رسول الله وهو حامل الحسن على عاتقه فقال له رجل: يا غلام، نعم المركب ركبت، فقال رسول الله: «ونعم الراكب هو».

وقال أحمد: حدثنا تليد بن سليمان، ثنا أبو الحجاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

قال: نظر رسول الله إلى علي وحسن وحسين وفاطمة فقال: «أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم».

وقد رواه النسائي من حديث أبي نعيم، وابن ماجه من حديث وكيع، كلاهما عن سفيان الثوري، عن أبي الحجاف داود بن أبي عوف، قال وكيع: وكان مريضا - عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله قال عن الحسن والحسين: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني». وقد رواه أسباط عن السدي، عن صبيح مولى أم سلمة، عن زيد بن أرقم فذكره.

وقال بقية: عن بجير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب، قال: سمعت رسول الله يقول: «الحسن مني والحسين من علي». فيه نكارة لفظا ومعنى.

وقال أحمد: ثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن عوف، عن عمير بن إسحاق.

قال: كنت مع الحسن بن علي فلقينا أبو هريرة فقال: أرني أقبّل منك حيث رأيت رسول الله يقبّل، فقال: بقميصه، قال: فقبّل سرته.

تفرد به أحمد، ثم رواه عن إسماعيل بن علية، عن ابن عوف.

وقال أحمد: ثنا هاشم بن القاسم، عن جرير، عن عبد الرحمن أبي عوف الجرشي، عن معاوية.

قال رأيت رسول الله يمص لسانه - أو قال شفته يعني: الحسن بن علي - وإنه لن يُعذب لسان أو شفتان يمصهما رسول الله . تفرد به أحمد.

وقد ثبت في الصحيح عن أبي بكرة.

وروى أحمد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».

وقد تقدم هذا الحديث في دلائل النبوة، وتقدم قريبا عند نزول الحسن لمعاوية عن الخلافة، ووقع ذلك تصديقا لقوله .

هذا، وكذلك ذكرناه في كتاب دلائل النبوة ولله الحمد والمنة.

وقد كان الصديق يجله ويعظمه ويكرمه ويحبه ويتفداه.

وكذلك عمر ابن الخطاب، فروى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبيه: أن عمر لما عمل الديوان فرض للحسن والحسين مع أهل بدر في خمسة آلاف خمسة آلاف، وكذلك كان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما.

وقد كان الحسن بن علي يوم الدار - وعثمان بن عفان محصور - عنده ومعه السيف متقلدا به يحاجف عن عثمان فخشي عثمان عليه فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييبا لقلب علي، وخوفا عليه رضي الله عنهم.

وكان علي يكرم الحسن إكراما زائدا، ويعظمه ويبجله، وقد قال له يوما: يا بني ألا تخطب حتى أسمعك؟

فقال: إني أستحي أن أخطب وأنا أراك، فذهب علي فجلس حيث لا يراه الحسن، ثم قام الحسن في الناس خطيبا وعليّ يسمع، فأدى خطبة بليغة فصيحة.

فلما انصرف جعل علي يقول ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.

وقد كان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا من النعم عليه.

وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما، رضي الله عنهما وأرضاهما.

وكان ابن الزبير يقول: والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي.

وقال غيره: كان الحسن إذا صلى الغداة في مسجد رسول الله يجلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس، ويجلس إليه من يجلس من سادات الناس يتحدثون عنده، ثم يقوم فيدخل على أمهات المؤمنين فيسلم عليهن وربما أتحفنه، ثم ينصرف إلى منزله.

ولما نزل لمعاوية عن الخلافة من ورعه صيانة لدماء المسلمين، كان له على معاوية في كل عام جائزة، وكان يفد إليه، فربما أجازه بأربعمائة ألف درهم، وراتبه في كل سنة مائة ألف.

فانقطع سنة عن الذهاب، وجاء وقت الجائزة فاحتاج الحسن إليها - وكان من أكرم الناس - فأراد أن يكتب إلى معاوية ليبعث بها إليه.

فلما نام تلك الليلة رأى رسول الله في المنام فقال له: «يا بني أتكتب إلى مخلوق بحاجتك؟» وعلمه دعاء يدعو به.

فترك الحسن ما كان همّ به من الكتابة، فذكره معاوية وافتقده، وقال: ابعثوا إليه بمائتي ألف فلعل له ضرورة في تركه القدوم علينا، فحملت إليه من غير سؤال.

قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: الحسن بن علي مدني ثقة.

حكاه ابن عساكر في تاريخه.

قالوا: وقاسم الله ماله ثلاث مرات، وخرج من ماله مرتين، وحج خمسا وعشرين مرة ماشيا وإن الجنائب لتقاد بين يديه.

وروى ذلك البيهقي من طريق عبيد الله بن عمير، عن ابن عباس وقال: علي بن زيد بن جدعان.

وقد علق البخاري في صحيحه: أنه حج ماشيا والجنائب تقاد بين يديه.

وروى داود بن رشيد، عن حفص، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: حج الحسن بن علي ماشيا والجنائب تقاد بين يديه ونجائبه تقاد إلى جنبه.

وقال العباس بن الفضل: عن القاسم، عن محمد بن علي قال: قال الحسن بن علي: إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين مرة إلى المدينة على رجليه.

قالوا: وكان يقرأ في بعض خطبه سورة إبراهيم، وكان يقرأ كل ليلة سورة الكهف قبل أن ينام، يقرأها من لوح كان يدور معه حيث كان من بيوت نسائه، فيقرأه بعد ما يدخل في الفراش قبل أن ينام رضي الله عنه.

وقد كان من الكرم على جانب عظيم

قال محمد بن سيرين: ربما أجاز الحسن بن علي على الرجل الواحد بمائة ألف.

وقال سعيد بن عبد العزيز: سمع الحسن رجلا إلى جانبه يدعو الله أن يملكه عشرة آلاف درهم، فقام إلى منزله فبعث بها إليه.

وذكروا أن الحسن رأى غلاما أسود يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلبا هناك لقمة، فقال له: ما حملك على هذا؟

فقال: إني أستحي منه أن آكل ولا أطعمه.

فقال له الحسن: لا تبرح من مكانك حتى آتيك، فذهب إلى سيده فاشتراه واشترى الحائط الذي هو فيه، فأعتقه وملّكه الحائط.

فقال الغلام: يا مولاي قد وهبت الحائط للذي وهبتني له.

قالوا: وكان كثير التزوج، وكان لا يفارقه أربع حرائر، وكان مطلاقا مصداقا.

يقال: إنه أحصن سبعين امرأة.

وذكروا أنه طلق امرأتين في يوم، واحدة من بني أسد، وأخرى من بني فزارة - فزارية - وبعث إلى كل واحدة منهما بعشرة آلاف، وبزقاق من عسل.

وقال للغلام: اسمع ما تقول كل واحدة منهما.

فأما الفزارية فقالت: جزاه الله خيرا، ودعت له.

وأما الأسدية فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.

فرجع الغلام إليه بذلك فارتجع الأسدية وترك الفزارية.

وقد كان علي يقول لأهل الكوفة: لا تزوجوه فإنه مطلاق.

فيقولون: والله يا أمير المؤمنين لو خطب إلينا كل يوم لزوجناه منا من شاء ابتغاء في صهر رسول الله .

وذكروا أنه نام مع امرأته خولة بنت منظور الفزاري -وقيل: هند بنت سهيل - فوق إجار فعمدت المرأة فربطت رجله بخمارها إلى خلخالها، فلما استيقظ قال لها: ما هذا؟

فقالت: خشيت أن تقوم من وسن النوم فتسقط فأكون أشأم سخلة على العرب، فأعجبه ذلك منها، واستمر بها سبعة أيام بعد ذلك.

وقال أبو جعفر الباقر: جاء رجل إلى الحسين بن علي فاستعان به في حاجة، فوجده معتكفا فاعتذر إليه، فذهب إلى الحسن فاستعان به فقضى حاجته، وقال: لقضاء حاجة أخ لي في الله أحب إليّ من اعتكاف شهر.

وقال هشيم: عن منصور، عن ابن سيرين قال: كان الحسن بن علي لا يدعو إلى طعامه أحدا يقول: هو أهون من أن يدعى إليه أحد.

وقال أبو جعفر: قال علي: يا أهل الكوفة، لا تزوجوا الحسن بن علي فإنه مطلاق.

فقال رجل من همذان: والله لنزوجنه، فما رضي أمسك، وما كره طلق.

وقال أبو بكر الخرائطي - في كتاب مكارم الأخلاق -: ثنا ابن المنذر - هو إبراهيم - ثنا القواريري، ثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد بن سيرين قال:

تزوج الحسن بن علي امرأة فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم.

وقال عبد الرزاق: عن الثوري، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال: متع الحسن بن علي امرأتين بعشرين ألفا وزقاق من عسل، فقالت إحداهما - وأراها الحنفية - متاع قليل من حبيب مفارق.

وقال الواقدي: حدثني علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين قال: كان الحسن بن علي مطلاقا للنساء، وكان لا يفارق امرأة إلا وهي تحبه.

وقال جويرية بن أسماء: لما مات الحسن بكى عليه مروان في جنازته.

فقال له الحسين: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه؟

فقال: إني كنت أفعل إلى أحلم من هذا، وأشار هو إلى الجبل.

وقال محمد بن سعد: أنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، عن ابن عون، عن محمد بن إسحاق قال: ما تكلم عندي أحد كان أحب إليّ إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي.

وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة، فإنه كان بينه وبين عمرو بن عثمان خصومة فقال: ليس له عندنا إلا ما رغم أنفه، فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط.

قال محمد بن سعد: وأنا الفضل بن دكين، أنا مساور الجصاص، عن رزين بن سوار قال: كان بين الحسن ومروان خصومة، فجعل مروان يغلظ للحسن وحسن ساكت، فامتخط مروان بيمينه.

فقال له الحسن: ويحك! أما علمت أن اليمنى للوجه، والشمال للفرج؟ أفٍ لك.

فسكت مروان.

وقال أبو العباس: محمد بن يزيد المبرد، قيل للحسن بن علي: إن أبا زر يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى، والسقم أحب إليّ من الصحة، فقال: رحم الله أبا زر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمنَ أن يكون في غير الحالة التي اختار الله له.

وهذا أحد الوقوف على الرضا بما تعرف به القضاء.

وقال أبو بكر محمد بن كيسان الأصم: قال الحسن ذات يوم لأصحابه:

إني أخبركم عن أخٍ لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان عظيم ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجا عن سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجا عن سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه.

وكان خارجا عن سلطان جهله فلا يمد يدا إلا على ثقة المنفعة، ولا يخطو خطاة إلا لحسنة، وكان لا يسخط ولا يتبرم.

كان إذا جامع العلماء يكون على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على الصمت، كان أكثرهم دهره صامتا، فإذا قال يذر القائلين.

وكان لا يشارك في دعوى، ولا يدخل في مراء، ولا يدلي بحجة، حتى يرى قاضيا يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول تفضلا وتكرما، كان لا يغفل عن إخوانه ولا يستخص بشيء دونهم.

كان لا يكرم أحدا فيما يقع العذر بمثله، كان إذا ابتداه أمران لا يرى أيهما أقرب إلى الحق نظر فيما هو أقرب إلى هواه فخالفه.

رواه ابن عساكر والخطيب.

وقال أبو الفرج المعافي بن زكريا الحريري: ثنا بدر بن الهيثم الحضرمي، ثنا علي بن المنذر الطريفي، ثنا عثمان ابن سعيد الدارمي، ثنا محمد بن عبد الله أبو رجاء - من أهل تستر - ثنا شعبة بن الحجاج الواسطي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث الأعور أن عليا سأل ابنه - يعني الحسن - عن أشياء من المروءة فقال: يا بني ما السداد؟.

قال: يا أبة السداد دفع المنكر بالمعروف.

قال: فما الشرف؟.

قال: اصطناع العشيرة، وحمل الجريرة.

قال: فما المروءة؟.

قال: العفاف وإصلاح المرء ماله.

قال: فما الدنيئة؟.

قال: النظر في اليسير ومنع الحقير.

قال: فما اللوم؟.

قال: احتراز المرء نفسه وبذله عرسه.

قال: فما السماحة؟.

قال: البذل في العسر واليسر.

قال: فما الشح؟.

قال: أن ترى ما في يديك سرفا، وما أنفقته تلفا.

قال. فما الإخاء؟.

قال: الوفاء في الشدة والرخاء.

قال: فما الجبن؟.

قال: الجرأة على الصديق، والنكول عن العدو.

قال: فما الغنيمة؟.

قال: الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا.

قال: فما الحلم؟.

قال: كظم الغيظ، وملك النفس.

قال: فما الغنى؟.

قال: رضى النفس بما قسم الله لها، وإن قلّ، فإنما الغنى غنى النفس.

قال: فما الفقر؟.

قال: شره النفس في كل شيء.

قال: فما المنعة؟.

قال: شدة البأس ومقارعة أشد الناس.

قال: فما الذل؟.

قال: الفزع عند المصدوقية.

قال: فما الجرأة؟.

قال: موافقة الأقران.

قال: فما الكلفة؟.

قال: كلامك فيما لا يعنيك.

قال: فما المجد؟.

قال: أن تعطي في الغرم وأن تعفو عن الجرم.

قال: فما العقل؟.

قال: حفظ القلب كل ما استرعيته.

قال: فما الخرق؟.

قال: معاداتك إمامك، ورفعك عليه كلامك.

قال: فما الثناء؟.

قال: إتيان الجميل، وترك القبيح.

قال: فما الحزم؟.

قال: طول الأناة، والرفق بالولاة، والاحتراس من الناس بسوء الظن هو الحزم.

قال: فما الشرف؟.

قال: موافقة الإخوان، وحفظ الجيران.

قال: فما السفه؟.

قال: اتباع الدناة، ومصاحبة الغواة.

قال: فما الغفلة؟.

قال: تركك المسجد، وطاعتك المفسد.

قال: فما الحرمان؟.

قال: تركك حظك وقد عرض عليك.

قال: فمن السيد؟.

قال: الأحمق في المال المتهاون بعرضه، يشتم فلا يجيب، المتحرن بأمر العشيرة هو السيد.

قال: ثم قال علي: يا بني سمعت رسول الله يقول:

«لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أفضل من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف، ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء، ورأس الإيمان الصبر، وآفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الطرف الصلف، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء، وآفة الحب الفخر».

ثم قال علي: يا بني لا تستخفن برجل تراه أبدا، فإن كان أكبر منك فعدّه أباك، وإن كان مثلك فهو أخوك، وإن كان أصغر منك فاحسب أنه ابنك.

فهذا ما سأل علي ابنه عن أشياء من المروءة.

قال القاضي أبو الفرج: ففي هذا الخبر من الحكمة، وجزيل الفائدة ما ينتفع به من راعاه، وحفظه ووعاه وعمل به وأدب نفسه بالعمل عليه، وهذبها بالرجوع إليه، وتتوفر فائدته بالوقوف عنده.

وفيما رواه أمير المؤمنين وأضعافه عن النبي ما لا غنى لكل لبيب عليم، وقدرة حكيم، عن حفظه وتأمله، والمسعود من هدي لتلقيه، والمجدود من وفق لامتثاله وتقبله.

قلت: ولكن إسناد هذا الأثر وما فيه من الحديث المرفوع ضعيف، ومثل هذه الألفاظ في عبارتها ما يدل ما في بعضها من النكارة على أنه ليس بمحفوظ، والله أعلم.

وقد ذكر الأصمعي والعتبي والمدائني وغيرهم: أن معاوية سأل الحسن عن أشياء تشبه هذا، فأجابه بنحو ما تقدم، لكن هذا السياق أطول بكثير مما تقدم، فالله أعلم.

وقال علي بن العباس الطبراني: كان على خاتم الحسن بن علي مكتوبا:

قدم لنفسك ما استطعت من التقى * إن المنية نازلة بك يا فتى

أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى * أحباب قلبك في المقابر والبلى

قال الإمام أحمد: حدثنا مطلب بن زياد بن محمد، ثنا محمد بن أبان، قال: قال الحسن بن علي لبنيه وبني أخيه: تعلموا فإنكم صغار قوم اليوم وتكونوا كبارهم غدا، فمن لم يحفظ منكم فليكتب.

ورواه البيهقي: عن الحاكم، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه.

وقال محمد بن سعد: ثنا الحسن بن موسى، وأحمد بن يونس قالا: ثنا زهير بن معاوية، ثنا أبو إسحاق، عن عمرو الأصم، قال: قلت للحسن بن علي: إن هذه الشيعة تزعم أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة.

قال: كذبوا، والله! ما هؤلاء بالشيعة، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا اقتسمنا ماله.

وقال عبد الله بن أحمد: حدثني أبو علي سويد الطحان، ثنا علي بن عاصم، ثنا أبو ريحانة، عن سفينة، عن النبي قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة».

فقال رجل كان حاضرا في المجلس: قد دخلت من هذه الثلاثين ستة شهور في خلافة معاوية.

فقال: من هاهنا أتيت تلك الشهور كانت البيعة للحسن بن علي، بايعه أربعون ألفا أو اثنان وأربعون ألفا.

وقال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: بايع الحسن تسعون ألفا فزهد في الخلافة وصالح معاوية، ولم يسل في أيامه محجمة من دم.

وقال ابن أبي خيثمة: وحدثنا أبي، ثنا وهب بن جرير قال: قال أبي: فلما قُتل علي بايع أهل الكوفة الحسن بن علي وأطاعوه، وأحبوه أشد من حبهم لأبيه.

وقال ابن أبي خيثمة: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، عن ابن شوذب قال: لما قتل علي سار الحسن في أهل العراق، وسار معاوية في أهل الشام، فالتقوا فكره الحسن القتال، وبايع معاوية على أن جعل العهد للحسن من بعده.

قال: فكان أصحاب الحسن يقولون: يا عار المؤمنين.

قال: فيقول لهم: العار خير من النار.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا العباس بن هشام، عن أبيه قال: لما قُتل علي بايع الناس الحسن بن علي فوليها سبعة وأحد عشر يوما.

وقال غير عباس: بايع الحسن أهل الكوفة، وبايع أهل الشام معاوية بإيلياء بعد قتل علي، وبويع بيعة العامة ببيت المقدس يوم الجمعة من آخر سنة أربعين.

ثم لقي الحسن معاوية بمسكن - من سواد الكوفة - في سنة إحدى وأربعين فاصطلحا، وبايع الحسن معاوية.

وقال غيره: كان صلحهما ودخول معاوية الكوفة في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين.

وقد تكلمنا على تفصيل ذلك فيما تقدم بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وحاصل ذلك أنه اصطلح مع معاوية على أن يأخذ ما في بيت المال الذي بالكوفة، فوفى له معاوية بذلك، فإذا فيه خمسة آلاف ألف.

وقيل: سبعة آلاف ألف، وعلى أن يكون خراج.

وقيل: دار أبجرد له في كل عام، فامتنع أهل تلك الناحية عن أداء الخراج إليه، فعوضه معاوية عن كل ستة آلاف ألف درهم في كل عام، فلم يزل يتناولها مع ماله في كل زيادة من الجوائز والتحف والهدايا، إلى أن توفي في هذا العام.

وقال محمد بن سعد: عن هودة بن خليفة، عن عوف، عن محمد بن سيرين قال: لما دخل معاوية الكوفة، وبايعه الحسن بن علي قال أصحاب معاوية لمعاوية:

مرْ الحسن بن علي أن يخطب فإنه حديث السن عيني، فلعله يتلعثم فيتضع في قلوب الناس.

فأمره فقام فاختطب فقال في خطبته: أيها الناس، لو اتبعتم بين جابلق وجابرس رجلا جده نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا بيعتنا لمعاوية، ورأينا أن حقن دماء المسلمين خير من إهراقها، والله ما أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين - وأشار إلى معاوية - فغضب من ذلك، وقال: ما أردت من هذه؟

قال: أردت منها ما أراد الله منها.

فصعد معاوية وخطب بعده.

وقد رواه غير واحد، وقدمنا أن معاوية عتب على أصحابه.

وقال محمد بن سعد: ثنا أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، عن يزيد قال:

سمعت جبير بن نفير الحضرمي يحدث عن أبيه قال: قلت للحسن بن علي: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة؟.

فقال: كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله، ثم أثيرها ثانيا من أهل الحجاز.

وقال محمد بن سعد: أنا علي بن محمد، عن إبراهيم بن محمد، عن زيد بن أسلم قال:

دخل رجل على الحسن بن علي وهو بالمدينة، وفي يده صحيفة فقال: ما هذه؟

فقال: ابن معاوية يعدنيها ويتوعد.

قال: قد كنت على النّصف منه.

قال: أجل، ولكن خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا، أو ثمانون ألفا، أو أكثر أو أقل، تنضح أوداجهم دما، كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه.

وقال الأصمعي: عن سلام بن مسكين، عن عمران بن عبد الله قال:

رأى الحسن بن علي في منامه أنه مكتوب بين عينيه «قل هو الله أحد»، ففرح بذلك، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال: إن كان رأى هذه الرؤيا فقلّ ما بقي من أجله.

قال: فلم يلبث الحسن بن علي بعد ذلك إلا أياما حتى مات.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن بن صالح العتكي، ومحمد بن عثمان العجلي قالا: ثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق.

قال: دخلت أنا ورجل آخر من قريش على الحسن بن علي، فقام فدخل المخرج ثم خرج، فقال: لقد لفظت طائفة من كبدي أقلبها بهذا العود، ولقد سقيت السم مرارا، وما سقيت مرة هي أشد من هذه.

قال: وجعل يقول لذلك الرجل: سلني قبل أن لا تسألني.

فقال: ما أسألك شيئا يعافيك الله.

قال: فخرجنا من عنده، ثم عدنا إليه من الغد.

وقد أخذ في السوق، فجاء حسين حتى قعد عند رأسه فقال: أي أخي! من صاحبك؟

قال: تريد قتله.

قال: نعم!.

قال: لئن كان صاحبي الذي أظن لله أشد نقمة.

وفي رواية: فالله أشد بأسا وأشد تنكيلا، وإن لم يكنه ما أحب أن تقتل بي بريئا.

ورواه محمد بن سعد، عن ابن علية، عن أبي عون.

وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور.

قالت: الحسن سقي مرارا كل ذلك يفلت منه، حتى كانت المرة الآخرة التي مات فيها، فإنه كان يختلف كبده، فلما مات أقام نساء بني هاشم عليه النوح شهرا.

وقال الواقدي: وحدثنا عبدة بنت نائل، عن عائشة قالت: حد نساء بني هاشم على الحسن بن علي سنة.

قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن حسن قال: كان الحسن بن علي كثير نكاح النساء، وكان قل ما يحظين عنده، وكان قل امرأة تزوجها إلا أحبته وضنت به.

فيقال: أنه كان سُقي سما، ثم أفلت، ثم سُقي فأفلت، ثم كانت الآخرة توفي فيها.

فلما أحضرته الوفاة قال الطبيب وهو يختلف إليه: هذا رجل قطع السم أمعاءه.

فقال الحسين: يا أبا محمد أخبرني من سقاك؟

قال: ولما يا أخي؟

قال: أقتله والله قبل أن أدفنك، ولا أقدر عليه أو يكون بأرض أتكلف الشخوص إليه.

فقال: يا أخي إنما هذه الدنيا ليال فانية، دعه حتى ألتقي أنا وهو عند الله، وأبى أن يسميه.

وقد سمعت بعض من يقول: كان معاوية قد تلطف لبعض خدمه أن يسقيه سما.

قال محمد بن سعد: وأنا يحيى بن حمال أنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أم موسى أن جعدة بنت الأشعث بن قيس سقت الحسن السم، فاشتكى منه شكاة، قال: فكان يوضع تحته طشت ويرفع آخر نحوا من أربعين يوما.

وروى بعضهم: أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث: أن سمي الحسن، وأنا أتزوجك بعده.

ففعلت، فلما مات الحسن، بعثت إليه فقال: إنا والله لم نرضك للحسن افنرضاك لأنفسنا؟.

وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبي معاوية بطريق الأولى والأحرى، وقد قال كثير نمرة في ذلك:

يا جعد بكِّيه ولا تسأمي * بكاء حقٍ ليس بالباطل

لن تستري البيت على مثله * في الناس من حاف ولا ناعل

أعني الذي أسلمه أهله * للزمن المستخرج الماحل

كان إذا شبت له ناره * يرفعها بالنسب الماثل

كما يراها بائس مرمل * أو فرد قوم ليس بالآهل

تغلي بنيَّ اللحم حتى إذا * أنضج لم تغل على آكل

قال سفيان بن عيينة: عن رقبة بن مصقلة، قال لما احتضر الحسن بن علي قال:

أخرجوني إلى الصحن أنظر في ملكوت السموات.

فأخرجوا فراشه، فرفع رأسه فنظر، فقال: اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإنها أعز الأنفس عليّ.

قال: فكان مما صنع الله له أنه احتسب نفسه عنده.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: لما اشتد بسفيان الثوري المرض جزع جزعا شديدا، فدخل عليه مرحوم بن عبد العزيز فقال: ما هذا الجزع يا أبا عبد الله؟ تقدم على رب عبدته ستين سنة، صمت له، صليت له، حججت له، قال: فسري عن الثوري.

وقال أبو نعيم: لما اشتد بالحسن بن علي الوجع جزع فدخل عليه رجل فقال له:

يا أبا محمد، ما هذا الجزع؟ ما هو إلا أن تفارق روحك جسدك، فتقدم على أبويك علي وفاطمة، وعلى جديك النبي وخديجة، وعلى أعمامك حمزة وجعفر، وعلى أخوالك القاسم الطيب ومطهر وإبراهيم، وعلى خالاتك رقية وأم كلثوم وزينب، قال: فسرى عنه.

وفي رواية: أن القائل له ذلك الحسين، وأن الحسن قال له: يا أخي إني أدخل في أمر من أمر الله لم أدخل في مثله، وأرى خلقا من خلق الله لم أر مثله قط.

قال: فبكى الحسين رضي الله عنهما.

رواه عباس الدوري، عن ابن معين، ورواه بعضهم عن جعفر بن محمد، عن أبيه فذكر نحوهما.

وقال الواقدي: ثنا إبراهيم بن الفضل، عن أبي عتيق قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول:

شهدنا حسن بن علي يوم مات وكادت الفتنة تقع بين الحسين بن علي ومروان بن الحكم، وكان الحسن قد عهد إلى أخيه أن يدفن مع رسول الله، فإن خاف أن يكون في ذلك قتال أو شر فليدفن بالبقيع.

فأبى مروان أن يدعه - ومروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية - ولم يزل مروان عدوا لبني هاشم حتى مات.

قال جابر: فكلمت يومئذ حسين بن علي فقلت: يا أبا عبد الله اتق الله ولا تثر فتنة، فإن أخاك كان لا يحب ما ترى، فادفنه بالبقيع مع أمه ففعل.

ثم روى الواقدي: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن عمر قال:

حضرت موت الحسن بن علي فقلت للحسين بن علي: اتق الله، ولا تثر فتنة ولا تسفك الدماء، وادفن أخاك إلى جانب أمه، فإن أخاك قد عهد بذلك إليك، قال: ففعل الحسين.

وقد روى الواقدي: عن أبي هريرة نحوا من هذا.

وفي رواية: أن الحسن بعث يستأذن عائشة في ذلك، فأذنت له.

فلما مات لبس الحسين السلاح، وتسلح بنو أمية، وقالوا: لا ندعه يدفن مع رسول الله ، أيدفن عثمان بالبقيع، ويدفن الحسن بن علي في الحجرة؟

فلما خاف الناس وقوع الفتنة أشار سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وجابر، وابن عمر، على الحسين أن لا يقاتل، فامتثل ودفن أخاه قريبا من قبر أمه بالبقيع، رضي الله عنه.

وقال سفيان الثوري: عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي حازم قال: رأيت الحسين بن علي قدّم يومئذ سعيد بن العاص فصلى على الحسن وقال: لولا أنها سنة ما قدمته.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني مساور مولى بني سعد بن بكر قال: رأيت أبا هريرة قائما على مسجد رسول الله يوم مات الحسن بن علي، وهو ينادى بأعلا صوته:

يا أيها الناس مات اليوم حب رسول الله فابكوا.

وقد اجتمع الناس لجنازته حتى ما كان البقيع يسع أحدا من الزحام.

وقد بكاه الرجال والنساء سبعا، واستمر نساء بني هاشم ينحن عليه شهرا، وحدّت نساء بني هاشم عليه سنة.

قال يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال:

قتل علي وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ومات لها حسن، وقتل لها الحسين رضي الله عنهم.

وقال شعبة: عن أبي بكر بن حفص قال: توفي سعد، والحسن بن علي في أيام بعد ما مضى من إمارة معاوية عشر سنين.

وقال علية: عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: توفي الحسن وهو ابن سبع وأربعين، وكذا قال غير واحد، وهو أصح.

والمشهور أنه مات سنة تسع وأربعين كما ذكرنا.

وقال آخرون: مات سنة خمسين.

وقيل: سنة إحدى وخمسين أو ثمان وخمسين.

سنة خمسين من الهجرة

عدل

ففي هذه السنة توفي أبو موسى الأشعري في قول، والصحيح سنة ثنتين وخمسين كما سيأتي.

فيها: حج بالناس معاوية.

وقيل: ابنه يزيد، وكان نائب المدينة في هذه السنة سعيد بن العاص، وعلى الكوفة، والبصرة، والمشرق، وسجستان، وفارس، والسند، والهند زياد.

وفي هذه السنة: اشتكى بنو نهشل على الفرزدق إلى زياد فهرب منه إلى المدينة، وكان سبب ذلك أنه عرّض بمعاوية في قصيدة له فتطلبه زياد أشد الطلب ففر منه إلى المدينة، فاستجار بسعيد بن العاص، وقال في ذلك أشعارا، ولم يزل فيما بين مكة والمدينة حتى توفي زياد فرجع إلى بلاده، وقد طول ابن جرير هذه القصة.

وقد ذكر ابن جرير في هذه السنة من الحوادث ما رواه من طريق الواقدي: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار عن أبيه أن معاوية كان قد عزم على تحويل المنبر النبوي من المدينة إلى دمشق وأن يأخذ العصاة التي كان النبي يمسكها في يده إذا خطب فيقف على المنبر وهو ممسكها، حتى قال أبو هريرة، وجابر بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، نذكرك الله أن تفعل هذا فإن هذا، لا يصلح أن يخرج المنبر من موضع وضعه فيه رسول الله ، وأن يخرج عصاه من المدينة.

فترك ذلك معاوية، ولكن زاد في المنبر ست درجات واعتذر إلى الناس.

ثم روى الواقدي: أن عبد الملك بن مروان في أيامه عزم على ذلك أيضا، فقيل له: إن معاوية كان قد عزم على هذا ثم ترك، وأنه لما حرك المنبر خسفت الشمس فترك.

ثم لما حج الوليد بن عبد الملك أراد ذلك أيضا، فقيل له: إن معاوية وأباك أرادا ذلك ثم تركاه، وكان السبب في تركه أن سعيد بن المسيب كلم عمر بن عبد العزيز أن يكلمه في ذلك ويعظه فترك.

ثم لما حج سليمان أخبره عمر بن عبد العزيز بما كان عزم عليه الوليد، وأن سعيد بن المسيب نهاه عن ذلك.

فقال: ما أحب أن يذكر هذا عن عبد الملك ولا عن الوليد، وما يكون لنا أن نفعل هذا، مالنا وله، وقد أخذنا الدنيا فهي في أيدينا، فنريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يفد إليه الناس فنحمله إلى ما قبلنا.

هذا ما لا يصلح رحمه الله.

وفي هذه السنة: عزل معاوية عن مصر معاوية بن خديج، وولى عليها من إفريقية مسلمة بن مخلّد.

وفيها: افتتح عقبة بن نافع الفهري عن أمر معاوية بلاد أفريقية، واختط القيروان - وكان غيضة تأوي إليها السباع والوحوش والحيات العظام.

فدعا الله تعالى فلم يبق فيها شيء من ذلك، حتى إن السباع صارت تخرج منها تحمل أولادها، والحيات يخرجن من أجمارهن هوارب - فأسلم خلق كثير من البربر فبنى في مكانها القيروان.

وفيها: غزا بسر بن أبي أرطاة وسفيان بن عوف أرض الروم.

وفيها: غزا فضالة بن عبيد البحر.

وفيها توفي مدلاج بن عمرو السلمي صحابي جليل

عدل

شهد المشاهد كلها مع رسول الله ، ولم أر له ذكرا في الصحابة.

صفية بنت حيي بن أخطب

عدل

ابن شعبة بن ثعلبة بن عبد كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن نحوم، أم المؤمنين النضرية من سلالة هارون عليه السلام.

وكانت مع أبيها وابن عمها أخطب بالمدينة، فلما أجلى رسول الله بني النضير ساروا إلى خيبر.

وقتل أبوها مع بني قريظة صبرا كما قدمنا فلما فتح رسول الله خيبر كانت في جملة السبي، فوقعت في سهم دحية بن خليفة الكلبي، فذكر له جمالها، وأنها بنت ملكهم، فاصطفاها لنفسه وعوضه منها، وأسلمت وأعتقها وتزوجها.

فلما حلت بالصهباء بنى بها، وكانت ماشطتها أم سليم، وقد كانت تحت ابن عمها كنانة بن أبي الحقيق فقتل في المعركة، ووجد رسول الله بخدها لطمة فقال: «ما هذه؟»

فقالت: إني رأيت كأن القمر أقبل من يثرب فسقط في حجري فقصيّت المنام على ابن عمي فلطمني، وقال: تتمنين أن يتزوجك ملك يثرب؟ فهذه من لطمته.

وكانت من سيدات النساء عبادةً وورعا وزهادةً وبرا وصدقة، رضي الله عنها وأرضاها.

قال الواقدي: توفيت سنة خمسين.

وقال غيره: سنة ست وثلاثين، والأول أصح.

وأما أم شريك الأنصارية

عدل

ويقال: العامرية، فهي التي وهبت نفسها للنبي ، فقيل قبلها.

وقيل: لم يقبلها، ولم تتزوج حتى مات رضي الله عنها وهي التي سقيت بدلو من السماء لما منعها المشركون الماء، فأسلموا عند ذلك.

واسمها: غزية.

وقيل: عزيلة بني عامر على الصحيح.

قال ابن الجوزي: ماتت سنة خمسين ولم أره لغيره.

وأما عمرو بن أمية الضمري

عدل

فصحابي جليل، أسلم بعد أُحد، وأول مشاهدة بئر معونة، وكان ساعي رسول الله بعثه إلى النجاشي في تزويج أم حبيبة، وأن يأتي بمن بقي من المسلمين، وله أفعال حسنة، وآثار محمودة رضي الله عنه، توفي في خلافة معاوية.

وذكر أبو الفرج ابن الجوزي - في كتابه المنتظم -: أن في هذه السنة توفي جبير بن مطعم وحسان بن ثابت، والحكم بن عمرو الغفاري، ودحية بن خليفة الكلبي، وعقيل بن أبي طالب، وعمرو بن أمية الضمري بدري، وكعب بن مالك، والمغيرة بن شعبة، وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حيي، وأم شريك الأنصارية. رضي الله عنهم أجمعين.

أما جبير بن مطعم

عدل

ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي أبو محمد.

وقيل: أبو عدي المدني، فإنه قدم وهو مشرك في فداء أسارى بدر، فلما سمع قراءة رسول الله في سورة الطور: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } 7 دخل في قلبه الإسلام، ثم أسلم عام خيبر.

وقيل: زمن الفتح، والأول أصح.

وكان من سادات قريش وأعلمها بالأنساب، أخذ ذلك عن الصديق، والمشهور أنه توفي سنة ثمان وخمسين.

وقيل: سنة تسع وخمسين.

وأما حسان بن ثابت

عدل

شاعر الإسلام فالصحيح أنه توفي سنة أربع وخمسين كما سيأتي.

وأما الحكم بن عمر بن مجدع الغفاري

عدل

أخو رافع بن عمرو، ويقال له: الحكم بن الأقرع، فصحابي جليل له عند البخاري حديث واحد في النهي عن لحوم الحمر الأنسية.

استنابه زياد بن أبيه على غزو جبل الأشل فغنم شيئا كثيرا، فجاء كتاب زياد إليه على لسان معاوية أن يصطفي من الغنيمة لمعاوية ما فيها من الذهب والفضة لبيت ماله فرد عليه: إن كتاب الله قبل كتاب المؤمنين، أَوَلم يسمع لقوله عليه السلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؟»، وقسم في الناس غنائمهم.

فيقال: إنه حبس إلى أن مات بمرو في هذه السنة.

وقيل: في سنة إحدى وخمسين رحمه الله.

وأما دحية بن خليفة الكلبي

عدل

فصحابي جليل، كان جميل الصورة، فلهذا كان جبريل يأتي كثيرا في صورته، وكان رسول الله أرسله إلى قيصر، أسلم قديما ولكن لم يشهد بدرا، وشهد ما بعدها، ثم شهد اليرموك، وأقام بالمزة - غربي دمشق - إلى أن مات في خلافة معاوية.

وفيها: توفي عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي أبو سعيد العبشمي، أسلم يوم الفتح.

وقيل: شهد موته، وغزا خراسان، وافتتح سجستان وكابل وغيرها، وكانت له دار بدمشق وأقام بالبصرة.

وقيل: بمرو، قال محمد بن سعد وغير واحد: مات بالبصرة سنة خمسين.

وقيل: سنة إحدى وخمسين، وصلى عليه زياد، وترك عدة من الذكور، وكان اسمه في الجاهلية عبد كلال.

وقيل: عبد كلوب.

وقيل: عبد الكعبة، فسماه رسول عبد الرحمن.

وهو كان أحد السفيرين بين معاوية والحسن رضي الله عنهما.

وفيها: توفي عثمان بن أبي العاص الثقفي، أبو عبد الله الطائفي، له ولأخيه الحكم صحبة، قدم على رسول الله في وفد ثقيف فاستعمله رسول الله على الطائف، وأمّره عليها أبو بكر وعمر، فكان أميرهم وإمامهم مدة طويلة حتى مات سنة خمسين. وقيل: سنة إحدى وخمسين رضي الله عنه.

وأما عقيل بن أبي طالب

عدل

أخو علي فكان أكبر من جعفر بعشر سنين، وجعفر أكبر من علي بعشر سنين، كما أن طالب أكبر من عقيل بعشر، وكلهم أسلم إلا طالبا، أسلم عقيل قبل الحديبية وشهد مؤتة.

وكان من أنسب قريش، وكان قد ورث أقرباءه الذين هاجروا وتركوا أموالهم بمكة، ومات في خلافة معاوية.

وفيها: كانت وفاة عمرو بن الحمق بن الكاهن الخزاعي، أسلم قبل الفتح وهاجر.

وقيل: إنه إنما أسلم عام حجة الوداع.

وورد في حديث أن رسول الله دعا له أن يمتعه الله بشبابه، فبقي ثمانين سنة لا يُرى في لحيته شعرة بيضاء.

ومع هذا كان أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان، ثم صار بعد ذلك من شيعة علي، فشهد معه الجمل وصفين، وكان من جملة من أعان حجر بن عدي فتطلبه زياد فهرب إلى الموصل.

فبعث معاوية إلى نائبها فوجدوه قد اختفى في غار فنهشته حية فمات، فقطع رأسه فبعث به إلى معاوية، فطيف به في الشام وغيرها، فكان أول رأس طيف به.

ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته آمنة بنت الشريد -وكانت في سجنه - فأُلقي في حجرها، فوضعت كفها على جبينه ولثمت فمه وقالت: غيبتموه عني طويلا، ثم أهديتموه إليّ قتيلا، فأهلا بها من هدية غير قالية ولا مقيلة.

وأما كعب بن مالك الأنصاري السلمي

عدل

شاعر الإسلام، فأسلم قديما وشهد العقبة ولم يشهد بدرا كما ثبت في الصحيحين في سياق توبة الله عليه، فإنه كان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم من تخلفهم عن غزوة تبوك كما ذكرنا ذلك مفصلا في التفسير، وكما تقدم في غزوة تبوك.

وغلط ابن الكلبي في قوله: إنه شهد بدرا، وفي قوله: إنه توفي قبل إحدى وأربعين، فإن الواقدي - وهو أعلم منه - قال: توفي سنة خمسين.

وقال القاسم بن عدي سنة إحدى وخمسين رضي الله عنه.

المغيرة بن شعبة

عدل

ابن أبي عامر بن مسعود أبو عيسى ويقال: أبو عبد الله الثقفي، وعروة بن مسعود الثقفي عم أبيه.

كان المغيرة من دهاة العرب، وذوي آرائها، أسلم عام الخندق بعد ما قتل ثلاثة عشر من ثقيف، مرجعهم من عند المقوقس وأخذ أموالهم فغرم دياتهم عروة بن مسعود، وشهد الحديبية، وكان واقفا يوم الصلح على رأس رسول الله بالسيف صلتا.

وبعثه رسول الله بعد إسلام أهل الطائف هو وأبو سفيان بن حرب فهدما اللات، وقدمنا كيفية هدمهما إياها.

وبعثه الصديق إلى البحرين، وشهد اليمامة واليرموك فأصيبت عينه يومئذ.

وقيل: بل نظر إلى الشمس وهي كاسفة فذهب ضوء عينه.

وشهد القادسية، وولاه عمر فتوحا كثيرة، منه همدان وميسان، وهو الذي كان رسول سعد إلى رستم فكلمه بذلك الكلام البليغ، فاستنابه عمر على البصرة.

فلما شهد عليه بالزنا ولم يثبت عزله عنها وولاه الكوفة، واستمر به عثمان حينا ثم عزله، فبقي معتزلا حتى كان أمر الحكمين فلحق بمعاوية.

فلما قتل علي وصالح معاوية الحسن ودخل الكوفة ولاه عليها فلم يزل أميرها حتى مات في هذه السنة على المشهور. قاله محمد بن سعد وغيره.

وقال الخطيب: أجمع الناس على ذلك، وذلك في رمضان منها عن سبعين سنة.

وقال أبو عبيد: مات سنة تسع وأربعين.

وقال ابن عبد البر: سنة إحدى وخمسين.

وقيل: سنة ثمان وخمسين.

وقيل: سنة ست وثلاثين وهو غلط.

قال محمد بن سعد: وكان أصهب الشعر جدا، أكشف، مقلص الشفتين، أهتم ضخم الهامة، عبل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين، وكان يفرق رأسه أربعة قرون.

وقال الشعبي: القضاة أربعة أبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وأبو موسى.

والدهاة أربعة: معاوية، وعمرو، والمغيرة، وزياد.

وقال الزهري: الدهاة في الفتنة خمسة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وكان معتزلا، وقيس بن سعد بن عبادة، وعبد الله بن بديل بن ورقاء، وكانا مع علي.

قلت: والشيعة يقولون: الأشباح خمسة: رسول الله ، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين.

والأضداد خمسة: أبو بكر، وعمر، ومعاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة.

وقال الشعبي: سمعت المغيرة يقول: ما غلبني أحد إلا فتى مرة، أردت أن أتزوج امرأة فاستشرته فيها.

فقال: أيها الأمير! لا أرى لك أن تتزوجها.

فقلت له: لِمَ؟

فقال: إني رأيت رجلا يقبلها.

ثم بلغني عنه أنه تزوجها.

فقلت له: ألم تزعم أنك رأيت رجلا يقبلها؟

فقال: نعم! رأيت أباها يقبلها وهي صغيرة.

وقال أيضا: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها.

وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: كان المغيرة بن شعبة يقول: صاحب المرأة الواحدة يحيض معها، ويمرض معها، وصاحب المرأتين بين نارين يشتعلان، وصاحب الأربعة قرير العين، وكان يتزوج أربعة معا ويطلقهن معا.

وقال عبد الله بن نافع الصائغ: أحصن المغيرة ثلثمائة امرأة.

وقال غيره: ألف امرأة.

وقيل: مائة امرأة.

وقيل: ثمانين امرأة.

جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية

عدل

وكان سباها رسول في غزوة المريسيع، وهي غزوة المصطلق، وكان أبوها ملكهم فأسلمت فأعتقها رسول الله وتزوجها.

وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وكاتبها فأتت رسول الله تستعينه في كتابتها فقال: «أو خير من ذلك؟»

قالت: وما هو يا رسول الله ؟

قال: «أشتريك وأعتقك وأتزوجك».

فأعتقها فقال الناس: أصهار رسول الله فاعتقوا ما بأيديهم من سبي بني المصطلق نحوا من مائة أهل بيت.

فقالت عائشة: لا أعلم امرأة أعظم بركة على أهلها منها.

وكان اسمها: برة، فسماها رسول الله جويرية.

وكانت امرأة ملاحة - أي حلوة الكلام - توفيت في هذا العام سنة خمسين كما ذكره ابن الجوزي وغيره عن خمس وستين سنة.

وقال الواقدي: سنة ست وخمسين رضي الله عنها وأرضاها، والله أعلم.

سنة إحدى وخمسين

عدل

فيها: كان مقتل حجر بن عدي بن جبل بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكبر بن الحارث بن معاوية بن ثور بن يزيغ بن كندي الكوفي.

ويقال له: حجر الخير.

ويقال له: حجر بن الأدبر، لأن أباه عديا طعن موليا فسمي الأدبر، وهو من كندة من رؤساء أهل الكوفة.

قال ابن عساكر: وفد إلى النبي ، وسمع عليا وعمارا وشراحيل بن مرة، ويقال: شرحبيل بن مرة.

وروى عنه أبو ليلى مولاه، وعبد الرحمن بن عباس، وأبو البختري الطائي.

وغزا الشام في الجيش الذين افتتحوا عذراء، وشهد صفين مع علي أميرا.

وقيل: بعذراء من قرا دمشق، ومسجد قبره بها معروف.

ثم ساق ابن عساكر بأسانيده إلى حجر يذكر طرفا صالحا من روايته عن علي وغيره، وقد ذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة، وذكر له وفادة، ثم ذكره في الأول من تابعي أهل الكوفة.

قال: وكان ثقة معروفا، ولم يرو عن غير علي شيئا.

قال ابن عساكر: بل قد روى عن عمار وشراحيل بن مرة.

وقال أبو أحمد العسكري: أكثر المحدثين لا يصححون له صحبة، شهد القادسية وافتتح برج عذراء، وشهد الجمل وصفين، وكان مع علي حجر الخير، وهو حجر بن عدي هذا - وحجر الشرف - وهو حجر بن يزيد بن سلمة بن مرة -.

وقال المرزباني: قد روي أن حجر بن عدي وفد إلى رسول الله مع أخيه هانئ بن عدي، وكان هذا الرجل من عباد الناس وزهادهم، وكان بارا بأمه، وكان كثير الصلاة والصيام.

قال أبو معشر: ما أحدث قط إلا توضأ، ولا توضأ إلا صلى ركعتين.

هكذا قال غير واحد من الناس.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثني الأعمش، عن أبي إسحاق.

قال: قال سلمان لحجر: يا ابن أم حجر لو تقطعت أعضاؤك ما بلغت الإيمان، وكان إذ كان المغيرة بن شعبة على الكوفة إذا ذكر عليا في خطبته يتنقصه بعد مدح عثمان وشيعته فيغضب حجر هذا ويظهر الإنكار عليه.

ولكن كان المغيرة فيه حلم وإناة، فكان يصفح عنه ويعظه فيما بينه وبينه، ويحذره غب هذا الصنيع، فإن معارضة السلطان شديد وبالها، فلم يرجع حجر عن ذلك.

فلما كان في آخر أيام المغيرة قام حجر يوما، فأنكر عليه في الخطبة وصاح به وذمه بتأخيره العطاء عن الناس، وقام معه فئام الناس لقيامه، يصدقونه ويشنعون على المغيرة.

ودخل المغيرة بعد الصلاة قصر الإمارة ودخل معه جمهور الأمراء، فأشاروا عليه بردع حجر هذا عما تعاطاه من شق العصى، والقيام على الأمير، وذمروه وحثوه على التنكيل فصفح عنه وحلم به.

وذكر يونس بن عبيد أن معاوية كتب إلى المغيرة يستمد بمالٍ يبعثه من بيت المال، فبعث عيرا تحمل مالا فاعترض لها حجر، فأمسك بزمام أولها وقال: لا والله حتى يوفى كل ذي حق حقه.

فقال شباب ثقيف للمغيرة: ألا نأتيك برأسه؟

فقال: ما كنت لأفعلن ذلك بحجر، فتركه.

فلما بلغ معاوية ذلك عزل المغيرة وولىّ زيادا، والصحيح أنه لم يعزل المغيرة حتى مات.

فلما توفي المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وجمعت الكوفة مع البصرة لزياد دخلها وقد التف على حجر جماعات من شيعة علي يقولون أمره ويشدون على يده، ويسبون معاوية، ويتبرأون منه.

فلما كان أول خطبة خطبها زياد بالكوفة، ذكر في آخرها فضل عثمان وذم من قتله أو أعان على قتله.

فقام حجر كما كان يقوم في أيام المغيرة، وتكلم بنحو مما قال المغيرة، فلم يعرض له زياد، ثم ركب زياد إلى البصرة، وأراد أن يأخذ حجرا معه إلى البصرة لئلا يحدث حدثا.

فقال: إني مريض.

فقال: والله إنك لمريض الدين والقلب والعقل، والله لئن أحدثت شيئا لأسعين في قتلك.

ثم سار زياد إلى البصرة فبلغه أن حجرا وأصحابه أنكروا على نائبه بالكوفة - وهو عمرو بن حريث - وحصبوه وهو على المنبر يوم الجمعة.

فركب زياد إلى الكوفة فنزل في القصر ثم خرج إلى المنبر وعليه قباء سندس، ومطرف خز أحمر، قد فرق شعره.

وحجر جالس وحوله أصحابه أكثر ما كانوا يومئذ، وكان من لبس من أصحابه يومئذ نحو من ثلاثة آلاف، وجلسوا حوله في المسجد في الحديد والسلاح، فخطب زياد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:

فإن غب البغي والغي وخيم، وإن هؤلاء أمنوني فاجترأوا عليّ، وأيم الله لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم.

ثم قال: ما أنا بشيء إن لم أمنع ساحة الكوفة من حجرٍ وأصحابه وأدعه نكالا لمن بعده، ويل أمك يا حجر، سقط بك العشاء على سرحان.

ثم قال: أبلغ نصحية أن راعي إبلها * سقط العشاء به على سرحان

وجعل زياد يقول في خطبته: إن من حق أمير المؤمنين - يعني كذا وكذا - فأخذ حجر كفا حصباء فحصبه وقال: كذبت! عليك لعنة الله.

فانحدر زياد فصلى، ثم دخل القصر واستحضر حجرا.

ويقال: إن زيادا لما خطب طول الخطبة وأخر الصلاة، فقال له حجر: الصلاة، فمضى في خطبته، فلما خشي فوت الصلاة عمد إلى كف حصباء ونادى الصلاة، وثار الناس معه.

فلما رأى ذلك زياد نزل فصلى بالناس.

فلما انصرف من صلاته كتب إلى معاوية في أمره وكثر عليه، فكتب إليه معاوية: أن شده في الحديد واحمله إليّ، فبعث إليه زياد وإلى الشرطة - وهو شداد بن الهيثم -ومعه أعوانه فقال له: إن الأمير يطلبك.

فامتنع من الحضور إلى زياد، وقام دونه أصحابه، فرجع الوالي إلى زياد فأعلمه، فاستنهض زياد جماعات من القبائل فركبوا مع الوالي إلى حجر وأصحابه فكان بينهم قتال بالحجارة والعصي، فعجزوا عنه.

فندب محمد بن الأشعث وأمهله ثلاثا وجهز معه جيشا، فركبوا في طلبه ولم يزالوا حتى أحضروه إلى زياد.

وما أغنى عنه قومه ولا من كان يظن أن ينصره، فعند ذلك قيده زياد وسجنه عشرة أيام وبعث به إلى معاوية، وبعث معه جماعة يشهدون عليه أنه سب الخليفة، وأنه حارب الأمير.

وأنه يقول: إن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل علي بن أبي طالب.

وكان من جملة الشهود عليه أبو بردة بن أبي موسى، ووائل بن حجر، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وإسحاق، وإسماعيل، وموسى بنو طلحة بن عبيد الله، والمنذر بن الزبير، وكثير بن شهاب، وثابت بن ربعي، في سبعين.

ويقال: إنه كتبت شهادة شريح القاضي فيهم، وأنه أنكر ذلك وقال: إنما قلت لزياد: إنه كان صواما قواما، ثم بعث زياد حجرا وأصحابه مع وائل بن حجر، وكثير بن شهاب إلى الشام.

وكان مع حجر بن عدي بن جبلة الكندي، من أصحابه جماعة.

قيل: عشرون.

وقيل: أربعة عشر رجلا منهم: الأرقم بن عبد الله الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسان العريان - من بني تميم - ومحرز بن شهاب التميمي، وعبيد الله بن حوية السعدي التميمي أيضا.

فهؤلاء أصحابه الذين وصلوا معه، فساروا بهم إلى الشام.

ثم إن زيادا أتبعهم برجلين آخرين، عتبة بن الأخنس من بني سعد، وسعد بن عمران الهمداني، فكملوا أربعة عشر رجلا.

فيقال: إن حجرا لما دخل على معاوية قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فغضب معاوية غضبا شديدا وأمر بضرب عنقه هو ومن معه.

ويقال: إن معاوية ركب فتلقاهم في مرج عذراء.

ويقال: بل بعث إليهم من تلقاهم إلى عذراء تحت الثنية - ثنية العقاب - فقتلوا هناك.

وكان الذين بعث إليهم ثلاثة وهم: هدبة بن فياض القضاعي، وحضير بن عبد الله الكلابي، وأبو شريف البدوي، فجاؤوا إليهم فبات حجر وأصحابه يصلون طول الليل، فلما صلوا الصبح قتلوهم، وهذا هو الأشهر، والله أعلم.

وذكر محمد بن سعد أنهم دخلوا عليه ثم ردهم فقتلوا بعذراء، وكان معاوية قد استشار الناس فيهم حتى وصل بهم إلى برج عذراء فمن مشير بقتلهم، ومن مشير بتفريقهم في البلاد.

فكتب معاوية إلى زياد كتابا آخر في أمرهم، فأشار عليه بقتلهم إن كان له حاجة في ملك العراق، فعند ذلك أمر بقتلهم، فاستوهب منه الأمراء واحدا بعد واحد حتى استوهبوا منه ستة، وقتل منهم ستة أولهم حجر بن عدي، ورجع آخر فعفى عنه معاوية.

وبعث بآخر نال من عثمان وزعم أنه أول من جار في الكلم ومدح عليا، فبعث به معاوية إلى زياد وقال له: لم تبعث إليّ فيهم أردى من هذا.

فلما وصل إلى زياد ألقاه في الناطف حيا وهو عبد الرحمن بن حسان الفري.

وهذه تسمية الذين قتلوا بعذراء: حجر بن عدي، وشريك بن شداد، وصيفي بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة، ومحرز بن شهاب المنقري، وكرام بن حيان.

ومن الناس من يزعم أنهم مدفونون بمسجد القصب في عرفة، والصحيح بعذراء.

ويذكر أن حجرا لما أرادوا قتله قال: دعوني حتى أتوضأ.

فقالوا: توضأ.

فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين فصلاهما وخفف فيهما، ثم قال: لولا أن يقولوا ما بي جزع من الموت لطولتهما.

ثم قال: قد تقدم لهما صلوات كثيرة.

ثم قدموه للقتل وقد حفرت قبورهم ونشرت أكفانهم، فلما تقدم إليه السياف ارتعدت فرائصه فقيل له: إنك قلت لست بجازع.

فقال: ومالي لا أجزع وأنا أرى قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا.

فأرسلها مثلا. ثم تقدم إليه السياف، وهو أبو شريف البدوي.

وقيل: تقدم إليه رجل أعور فقال له: أمدد عنقك.

فقال: لا أعين على قتل نفسي، فضربه فقتله.

وكان قد أوصى أن يدفن في قيوده، ففعل به ذلك.

وقيل: بل صلوا عليه وغسلوه.

وروي أن الحسن بن علي قال: أصلوا عليه ودفنوه في قيوده؟

قالوا: نعم!

قال: حجهم والله.

والظاهر أن الحسين قائل هذا فإن حجرا قتل في سنة إحدى وخمسين.

وقيل: سنة ثلاث وخمسين، وعلى كل تقدير فالحسن قد مات قبله، والله أعلم.

فقتلوه رحمه الله وسامحه.

وروينا أن معاوية لما دخل على أم المؤمنين عائشة فسلم عليها من وراء حجاب - وذلك بعد مقتله حجرا وأصحابه - قالت له: أين ذهب عنك حلمك يا معاوية حين قتلت حجرا وأصحابه؟.

فقال لها: فقدته حين غاب عني من قومي مثلك يا أماه.

ثم قال لها: فكيف برّي بك يا أمه؟

فقالت: إنك بي لبار.

فقال: يكفيني هذا عند الله، وغدا لي ولحجر موقف بين يدي الله عز وجل.

وفي رواية أنه قال: إنما قتله الذين شهدوا عليه.

وروى ابن جرير: أن معاوية جعل يغرغر بالموت، وهو يقول: إن يومي بك يا حجر بن عدي لطويل، قالها ثلاثا. فالله أعلم.

وقال محمد بن سعد في الطبقات: ذكر بعض أهل العلم أن حجرا وفد إلى رسول الله مع أخيه هانئ بن عدي - وكان من أصحاب علي -.

فلما قدم زياد بن أبي سفيان واليا على الكوفة دعا بحجر بن عدي فقال: تعلم أني أعرفك، وقد كنت أنا وأباك على أمر قد علمت - يعني: من حُب علي - وأنه قد جاء غير ذلك، وإني أنشدك الله أن تقطر لي من دمك قطرة فأستفرغه كله، أملْك عليك لسانك، وليسعك منزلك، وهذا سريري فهو مجلسك، وحوائجك مقضية لدّي، فاكفني نفسك فإني أعرف عجلتك.

فأنشدك الله في نفسك، وإياك وهذه السقطة وهؤلاء السفهاء أن يستنزلوك عن رأيك.

فقال حجر: قد فهمت، ثم انصرف إلى منزله، فأتاه الشيعة.

فقالوا: ما قال لك؟.

قال: قال لي: كذا وكذا.

وسار زياد إلى البصرة ثم جعلوا يترددون إليه يقولون له: أنت شيخنا، وإذا جاء المسجد مشوا معه، فأرسل إليه عمرو بن حريث - نائب زياد على الكوفة - يقول: ما هذه الجماعة وقد أعطيت الأمير ما قد علمت؟

فقال للرسول: إنهم ينكرون ما أنتم عليه، إليك وراءك أوسع لك.

فكتب عمرو بن حريث إلى زياد: إن كان لك حاجة بالكوفة فالعجل العجل، فأعجل زياد السير إلى الكوفة.

فلما وصل بعث إليه عدي بن حاتم، وجرير بن عبد الله البجلي، وخالد بن عرفطة في جماعة من أشراف الكوفة لينهوه عن هذه الجماعة، فأتوه فجعلوا يحدثونه ولا يرد عليهم شيئا.

بل جعل يقول: يا غلام أعلفت البكرَ؟ لبكر مربوط في الدار.

فقال له عدي بن حاتم: أمجنون أنت؟

نكلمك وأنت تقول: أعلفت البكر.

ثم قال عدي لأصحابه: ما كنت أظن هذا البائس بلغ به الضعف كل ما أرى.

ثم نهضوا فأخبروا زيادا ببعض الخبر وكتموه بعضا، وحسنوا أمره وسألوه الرفق به فلم يقبل، بل بعث إليه الشرط والمحاربة، فأُتي به وبأصحابه فقال له: مالك ويلك؟.

قال: إني على بيعتي لمعاوية، فجمع زياد سبعين من أهل الكوفة، فقال: اكتبوا شهادتكم على حجر وأصحابه، ففعلوا، ثم أوفدهم إلى معاوية، وبلغ الخبر عائشة فأرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية تسأله أن يخلي سبيلهم.

فلما دخلوا على معاوية قرأ كتاب زياد فقال معاوية: اخرجوا بهم إلى عذراء فاقتلوهم هناك، فذهبوا بهم ثم قتلوا منهم سبعة، ثم جاء رسول معاوية بالتخلية عنهم، وأن يطلقوهم كلهم.

فوجدوا قد قتلوا منهم سبعة، وأطلقوا السبعة الباقين، ولكن كان حجر فيمن قتل في السبعة الأول.

وكان قد سألهم أن يصلي ركعتين قبل أن يقتلوه، فصلى ركعتين فطوّل فيهما، وقال: إنهما لأخف صلاة صليتها.

وجاء رسول عائشة بعد ما فرغ من شأنهم.

فلما حج معاوية قالت له عائشة: أين عزب عنك حلمك حين قتلت حجرا؟.

فقال: حين غاب عني مثلك من قومي.

ويروى أن عبد الرحمن بن الحارث قال لمعاوية: أقتلت حجر بن الأدبر؟

فقال معاوية: قتله أحب إليّ من أن أقتل معه مائة ألف.

وقد ذكر ابن جرير وغيره عن حجر بن عدي وأصحابه أنهم كانوا ينالون من عثمان، ويطلقون فيه مقالة الجور، وينتقدون على الأمراء، ويسارعون في الإنكار عليهم، ويبالغون في ذلك، ويتولون شيعة علي، ويتشددون في الدين.

ويروى: أنه لما أخذ في قيوده سائرا من الكوفة إلى الشام، تلقته بناته في الطريق وهن يبكين، فمال نحوهن فقال: إن الذي يطعمكم ويكسوكم هو الله وهو باقٍ لكنّ بعدي، فعليكنّ بتقوى الله وعبادته، وإني إما أن أقتل في وجهي وهي شهادة، أو أن أرجع إليكن مكرما، والله خليفتي عليكم.

ثم انصرف مع أصحابه في قيوده.

ويقال: إنه أوصى أن يدفن في قيوده ففعل به ذلك، ولكن صلوا عليهم ودفنوهم مستقبل القبلة، رحمهم الله وسامحهم.

وقد قالت امرأة من المتشيعات ترثي حجرا - وهند بنت زيد بن مخرمة الأنصارية -.

ويقال: إنها لهند أخت حجر. فالله أعلم.

ترفع أيها القمر المنير * تبصر هل ترى حجرا يسير

يسير إلى معاوية بن حربٍ * ليقتله كما زعم الأمير

يرى قتل الخيار عليه حقا * له من شر أمته وزير

ألا يا ليت حجرا مات يوما * ولم يُنحر كما نحر البعير

تجبرت الجبابر بعد حجر * وطاب لها الخورنق والسدير

وأصبحت البلاد له محولا * كأن لم يحيها مزنٌ مطير

ألا يا حجر حجر بن عدي * تلقتك السلامة والسرور

أخاف عليك ما أردى عديا * وشيخا في دمشق له زبير

فإن تهلك فكل زعيم قومٍ * من الدنيا إلى هلكٍ يصير

فرضوا أن الآله عليك ميتا * وجنات بها نعمٌ وحور

وذكر ابن عساكر له مراثي كثيرة

عدل

وقال يعقوب بن سفيان: حدثني حرملة أنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود قال: دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء، حجرا وأصحابه؟

فقال: يا أم المؤمنين إني رأيت في قتلهم صلاحا للأمة، وفي مقامهم فسادا للأمة.

فقالت: سمعت رسول الله يقول: «سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء». وهذا إسناد ضعيف منقطع.

وقد رواه عبد الله بن المبارك، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود أن عائشة قالت: بلغني أنه سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء.

وقال يعقوب: حدثني ابن لهيعة، حدثني الحارث بن يزيد، عن عبد الله بن رزين الغافقي.

قال: سمعت عليا يقول: يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود.

قال: يقتل حجر وأصحابه - ابن لهيعة ضعيف -.

وروى الإمام أحمد: عن ابن علية، عن ابن عون، عن نافع قال: كان ابن عمر في السوق فنُعي له حجر فأطلق حبوته وقام وغلب عليه النحيب.

وروى أحمد: عن عفان، عن ابن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة - أو غيره - قال: لما قدم معاوية المدينة دخل على عائشة فقالت: أقتلت حجرا؟

فقال: يا أم المؤمنين، إني وجدت قتل رجل في صلاح الناس خير من استحيائه في فسادهم.

وقال حماد بن سلمة: عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن مروان.

قال: دخلت مع معاوية على أم المؤمنين عائشة فقالت: يا معاوية، قتلت حجرا وأصحابه وفعلت الذي فعلت، أما خشيت أن أخبأ لك رجلا يقتلك؟.

فقال: لا، إني في بيت الأمان، سمعت رسول الله يقول: «الإيمان ضد الفتك لا يفتك مؤمن».

يا أم المؤمنين كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك وأمرك؟.

قالت: صالح.

قال: فدعيني وحجرا حتى نلتقي عند ربنا عز وجل.

وفي رواية: أنها حجبته وقالت: لا يدخل عليّ أبدا، فلم يزل يتلطف حتى دخل فلامته في قتله حجرا، فلم يزل يعتذر حتى عذرته.

وفي رواية: أنها كانت تتوعده وتقول: لولا يغلبنا سفهاؤنا لكان لي ولمعاوية في قتله حجرا شأن، فلما اعتذر إليها عذرته.

وذكر ابن الجوزي في المنتظم أنه توفي في هذه السنة من الأكابر جرير بن عبد الله البجلي، وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث، وحارثة بن النعمان، وحجر بن عدي، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الله بن أنيس، وأبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي، رضي الله عنهم.

فأما جرير بن عبد الله البجلي

عدل

فأسلم بعد نزول المائدة، وكان إسلامه في رمضان سنة عشر، وكان قدومه ورسول الله يخطب، وكان قد قال في خطبته: «إنه يقدم عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن، وإن على وجهه مسحة ملك».

فلما دخل نظر الناس إليه، فكان كما وصف رسول الله ، وأخبروه بذلك فحمد الله تعالى.

ويروى: أن رسول الله لما جالسه بسط له رداءه وقال: «إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه».

وبعثه رسول الله إلى ذي الخلصة - وكان بيتا تعظمه دوس في الجاهلية - فذكر أنه لا يثبت على الخيل، فضرب في صدره وقال: «اللهم ثبته، واجعله هاديا مهديا» فذهب فهدمه.

وفي الصحيحين أنه قال: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم.

وكان عمر بن الخطاب يقول: جرير يوسف هذه الأمة.

وقال عبد الملك بن عمير: رأيت جريرا كأن وجهه شقة قمر.

وقال الشعبي: كان جرير هو وجماعة مع عمر في بيت، فاشتم عمر من بعضهم ريحا، فقال: عزمت على صاحب هذه الريح لما قام فتوضأ.

فقال جرير: أو نقوم كلنا فنتوضأ يا أمير المؤمنين؟.

فقال عمر: نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام.

وقد كان عاملا لعثمان على همدان، يقال: أنه أصيبت عينه هناك، فلما قتل عثمان اعتزل عليا معاوية، ولم يزل مقيما بالجزيرة حتى توفي بالسراة، سنة إحدى وخمسين، قاله الواقدي.

وقيل: سنة أربع.

وقيل: سنة ست وخمسين.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة ولي زياد على خراسان بعد موت الحكم بن عمرو الربيع بن زياد الحارثي، ففتح بلخ صلحا، وكانوا قد غلقوها بعد ما صالحهم الأحنف، وفتح قوهستان عنوة.

وكان عندها أتراك فقتلهم ولم يبق منهم إلا ترك طرخان، فقتله قتيبة بن مسلم بعد ذلك كما سيأتي.

وفي هذه السنة: غزا الربيع ما وراء النهر فغنم وسلم، وكان قد قطع ما وراء النهر قبله الحكم بن عمرو، وكان أول من شرب من النهر غلام للحكم، فسقى سيده وتوضأ الحكم وصلى وراء النهر ركعتين ثم رجع.

فلما كان الربيع هذا غزا ما وراء النهر فغنم وسلم.

وفي هذه السنة: حج بالناس يزيد بن معاوية فيما قاله أبو معشر والواقدي.

وأما جعفر بن أبي سفيان بن عبد المطلب

عدل

فأسلم مع أبيه حين تلقياه بين مكة والمدينة عام الفتح، فلما ردهما قال أبو سفيان: والله لئن لم يأذن لي عليه لآخذن بيد هذا فأذهبن في الأرض فلا يدري أين أذهب.

فلما بلغ ذلك رسول الله رق له وأذن له، وقبل إسلامهما فأسلما إسلاما حسنا، بعد ما كان أبو سفيان يؤذي رسول الله أذىً كثيرا، وشهد حنينا، وكان ممن ثبت يومئذ رضي الله عنهما.

وأما حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري

عدل

فشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد، وكان من فضلاء الصحابة.

وروى أنه رأى جبريل مع رسول الله بالمقاعد يتحدثان بعد خيبر، وأنه رآه يوم بني قريظة في صورة دحية.

وفي الصحيح أن رسول الله سمع قراءته في الجنة.

قال محمد بن سعد: حدثنا عبد الرحمن بن يونس، ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، ثنا محمد بن عثمان، عن أبيه أن حارثة بن النعمان كان قد كف بصره فجعل خيطا من مصلاه إلى باب حجرته.

فإذا جاءه المسكين أخذ من ذلك التمر، ثم أخذ يمسك بذلك الخيط حتى يضع ذلك في يد المسكين.

وكان أهله يقولون له: نحن نكفيك ذلك.

فيقول: سمعت رسول الله يقول: «مناولة المسكين تقي ميتة السوء».

وأما حجر بن عدي فقد تقدمت قصته مبسوطة.

وأما سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي

عدل

فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، وأخته عاتكة زوجة عمر، وأخت عمر فاطمة زوجة سعيد.

أسلم قبل عمر هو وزوجته فاطمة، وهاجرا، وكان من سادات الصحابة.

قال عروة، والزهري، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، والواقدي وغير واحد: لم يشهد بدرا لأنه قد كان بعثه رسول الله هو وطلحة بن عبيد الله بين يديه يتجسسان أخبار قريش، فلم يرجعا حتى فرغ من بدر، فضرب لهما رسول الله بسهمهما وأجرهما.

ولم يذكره عمر في أهل الشورى لئلا يحابى بسبب قرابته من عمر فيولى فتركه لذلك، وإلا فهو ممن شهد له رسول الله بالجنة في جملة العشرة، كما صحت بذلك الأحاديث المتعددة الصحيحة.

ولم يتول بعده ولاية، وما زال كذلك حتى مات بالكوفة.

وقيل: بالمدينة وهو الأصح.

قال الفلاس وغيره: سنة إحدى وخمسين.

وقيل سنة ثنتين وخمسين، والله أعلم.

وكان رجلا طوالا أشعر، وقد غسله سعد، وحمل من العقيق على رقاب الرجال إلى المدينة، وكان عمره يومئذ بضعا وسبعين سنة.

وأما عبد الله أنيس بن الجهني أبو يحيى المدني

عدل

فصحابي جليل شهد العقبة ولم يشهد بدرا.

وشهد ما بعدها، وكان هو ومعاذ يكسران أصنام الأنصار، له في الصحيح حديث أن ليلة القدر ثلاث وعشرين.

وهو الذي بعثه رسول الله إلى خالد بن سفيان الهذلي، فقتله بعرنة، وأعطاه رسول الله مخصره وقال: «هذه آية ما بينى وبينك يوم القيامة» فأمر بها فدفنت معه في أكفانه.

وقد ذكر ابن الجوزي أنه توفي سنة إحدى وخمسين.

وقال غيره: سنة أربع وخمسين.

وقيل: سنة ثمانين.

وأما أبو بكرة نفيع بن الحارث

عدل

ابن كلدة بن عمرو بن علاج بن أبي سلمة الثقفي فصحابي جليل كبير القدر.

ويقال كان اسمه: مسروح وإنما قيل له: أبو بكرة لأنه تدلى في بكرة يوم الطائف فأعتقه رسول الله وكل مولى فر إليهم يومئذ.

وأمه سمية هي أم زياد وكانا ممن شهد على المغيرة بالزنا هو وأخوه زياد ومعهما سهل بن معبد، ونافع بن الحارث.

فلما تلكأ زياد في الشهادة جلد عمر الثلاثة الباقين، ثم استتابهم فتابوا إلا أبا بكرة فإنه صمم على الشهادة.

وقال المغيرة: يا أمير المؤمنين اشفني من هذا العبد.

فنهره عمر وقال له: اسكت! لو كملت الشهادة لرجمتك بأحجارك.

وكان أبو بكرة خير هؤلاء الشهود، وكان ممن اعتزل الفتن فلم يكن في خيرهما، ومات في هذه السنة.

وقيل: قبلها بسنة.

وقيل: بعدها بسنة، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي، وكان قد آخى بينهما رسول الله .

وفيها توفيت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية

عدل

تزوجها رسول الله في عمرة القضاء سنة سبع.

قال ابن عباس - وكان ابن أختها أم الفضل لبابة بنت الحارث -: تزوجها رسول الله وهو محرم، وثبت في صحيح مسلم عنها أنهما كانا حلالين، وقولها مقدم عند الأكثرين على قوله.

وروى الترمذي عن أبي رافع - وكان السفير بينهما -أنهما كانا حلالين.

ويقال: كان اسمها برة، فسماها رسول الله ميمونة، وتوفيت بسرف بين مكة والمدينة، حيث بنى بها رسول الله في هذه السنة.

وقيل: في سنة ثلاث وستين.

وقيل: سنة ست وستين، والمشهور الأول، وصلى عليها ابن أختها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين

عدل

ففيها: غزا بلاد الروم وشتى بها سفيان بن عوف الأزدي، فمات هنالك، واستخلف على الجند بعده عبد الله بن مسعدة الفزاري.

وقيل: إن الذي كان أمير الغزو ببلاد الروم هذه السنة بُسر بن أبي أرطاة، ومعه سفيان بن عوف.

وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص نائب المدينة، قاله أبو معشر والواقدي وغيرهما.

وغزا الصائفة محمد بن عبد الله الثقفي.

وعمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة الماضية.

ذكر من توفي فيها من الأعيان:

خالد بن زيد بن كليب

عدل

أبو أيوب الأنصاري الخزرجي، شهد بدرا والعقبة والمشاهد كلها، وشهد مع علي قتال الحرورية.

وفي داره كان نزول رسول الله حين قدم المدينة فأقام عنده شهرا حتى بنى المسجد ومساكنه حوله، ثم تحول إليها.

وقد كان أبو أيوب أنزل رسول الله في أسفل داره، ثم تحرج من أن يعلو فوقه، فسأل من رسول الله أن يصعد إلى العلو ويكون هو وأم أيوب في السفل فأجابه.

وقد روينا عن ابن عباس أنه قدم عليه أبو أيوب البصرة وهو نائبها، فخرج له عن داره وأنزله بها، فلما أراد الانصراف خرج له عن كل شيء بها.

وزاده تحفا وخدما كثيرا أربعين ألفا، وأربعين عبدا إكراما له، لما كان أنزل رسول الله في داره، وقد كان من أكبر الشرف له.

وهو القائل لزوجته أم أيوب - حين قالت له: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة -؟

فقال: أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟

فقالت: لا والله.

فقال: والله لهي خير منك، فأنزل الله: { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرا } الآية 8.

وكانت وفاته ببلاد الروم قريبا من سور قسطنطينية من هذه السنة.

وقيل: في التي قبلها.

وقيل: في التي بعدها.

وكان في جيش يزيد بن معاوية، وإليه أوصى، وهو الذي صلى عليه.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان، ثنا همام، ثنا أبو عاصم، عن رجل من أهل مكة أن يزيد بن معاوية كان أميرا على الجيش الذي غزا فيه أبو أيوب.

فدخل عليه عند الموت، فقال له: إذا أنا مت فاقرأوا على الناس مني السلام، وأخبروهم أني سمعت رسول يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئا جعله الله في الجنة».

ولينطلقوا فيبعدوا بي في أرض الروم ما استطاعوا.

قال: فحدث الناس لما مات أبو أيوب فأسلم الناس وانطلقوا بجنازته.

وقال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي ظبيان قال: غزا أبو أيوب مع يزيد بن معاوية قال: فقال: إذا مت فأدخلوني في أرض العدو فادفنوني تحت أقدامكم حيث تلقون العدو، قال:

ثم قال: سمعت رسول الله يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة».

ورواه أحمد عن ابن نمير، ويعلى بن عبيد، عن الأعمش سمعت أبا ظبيان فذكره.

وقال فيه: سأحدثكم حديثا سمعته من رسول الله لولا حالي هذا ما حدثتكموه، سمعت رسول الله يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة».

وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثني محمد بن قيس - قاضي عمر بن عبد العزيز - عن أبي صرمة، عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله سمعته يقول: «لولا أنكم تذنبون لخلق الله قوما يذنبون فيغفر لهم».

وعندي أن هذا الحديث والذي قبله هو الذي حمل يزيد بن معاوية على طرف من الأرجاء، وركب بسببه أفعالا كثيرة أنكرت عليه، كما سنذكره في ترجمته، والله تعالى أعلم.

قال الواقدي: مات أبو أيوب بأرض الروم سنة ثنتين وخمسين، ودفن عند القسطنطينية، وقبره هنالك يستسقي به الروم إذا قحطوا.

وقيل: إنه مدفون في حائط القسطنطينية، وعلى قبره مزار ومسجد وهم يعظمونه.

وقال أبو زرعة الدمشقي: توفي سنة خمس وخمسين، والأول أثبت، والله أعلم.

وقال أبو بكر بن خلاد: حدثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا داود بن المحبر، ثنا ميسرة بن عبد ربه، عن موسى بن عبيدة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب الأنصاري، عن النبي .

قال: «إن الرجلين ليتوجهان إلى المسجد فيصليان فينصرف أحدهما وصلاته أوزن من صلاة الآخر، وينصرف الآخر، وما تعدل صلاته مثقال ذرة، إذا كان أورعهما عن محارم الله وأحرصهما على المسارعة إلى الخير».

وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله لرجل سأله أن يعلمه ويوجز فقال له: «إذا صليت صلاة فصلِ صلاة مودعٍ، ولا تكلمن بكلام تعتذر منه، واجمع اليأس مما في أيدي الناس».

وفيها كانت وفاة أبي موسى الأشعري

عدل

عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضار بن حرب بن عامر بن غز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن وائل بن ناجية بن جماهر بن الأشعر الأشعري، أسلم ببلاده، وقدم مع جعفر وأصحابه عام خيبر.

وذكر محمد بن إسحاق أنه هاجر أولا إلى مكة، ثم هاجر إلى اليمن، وليس هذا بالمشهور.

وقد استعمله رسول الله مع معاذ على اليمن، واستنابه عمر على البصرة، وفتح تستر، وشهد خطبة عمر بالجابية، وولاه عثمان الكوفة.

وكان أحد الحكمين بين علي ومعاوية، فلما اجتمعا خدع عمرو أبا موسى، وكان من قراء الصحابة وفقهائهم، وكان أحسن الصحابة صوتا في زمانه.

قال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار أطيب من صوت أبي موسى.

وثبت في الحديث أن رسول الله قال: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود».

وكان عمر يقول له: ذكرنا ربنا يا أبا موسى، فيقرأ وهم يسمعون.

وقال الشعبي: كتب عمر في وصيته أن لا يقر لي عامل أكثر من سنة إلا أبا موسى فليقر أربع سنين.

وذكر ابن الجوزي في المنتظم أنه توفي في هذه السنة وهو قول بعضهم.

وقيل: إنه توفي قبلها بسنة.

وقيل: في سنة ثنتين وأربعين.

وقيل: غير ذلك، والله أعلم.

وكانت وفاته بمكة لما اعتزل الناس بعد التحكيم.

وقيل: بمكان يقال له: الثوية على ميلين من الكوفة.

وكان قصيرا نحيف الجسم أسبط، أي: لا لحية له، رضي الله عنه.

وذكر ابن الجوري أنه توفي في هذه السنة أيضا من الصحابة.

قصة يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري مع ابني زياد عبيد الله وعباد

عدل

ذكر ابن جرير: عن أبي عبيدة معمر بن المثنى وغيره أن هذا الرجل كان شاعرا، وكان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، وضاق على الناس علف الدواب، فقال ابن مفرغ شعرا يهجو به ابن زياد على ما كان منه فقال:

ألا ليت اللحى كانت حشيشا * فنعلفها خيول المسلمينا

وكان عباد بن زياد عظيم اللحية كبيرها جدا، فبلغه ذلك فغضب وتطلبه فهرب منه وقال فيه قصائد يهجوه بها كثيرة فمن ذلك قوله:

إذا أودى معاوية بن حرب * فبشر شعب قعبك بانصداع

فأشهد أن أمك لم تباشر * أبا سفيان واضعة القناع

ولكن كان أمرا فيه لبس * على خوف شديد وارتياع

وقال أيضا:

ألا أبلغ معاوية بن حربٍ * مغلغلة من الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عفً * وترضى أن يقال أبوك زاني

فأشهد أن رحمك من زياد * كرحم الفيل من ولد الأتان

فكتب عباد بن زياد إلى أخيه عبيد الله وهو وافد على معاوية بهذه الأبيات، فقرأها عبيد الله على معاوية واستأذنه في قتله، فقال: لا تقتله، ولكن أدبه ولا تبلغ به القتل.

فلما رجع عبيد الله إلى البصرة استحضره وكان قد استجار بوالد زوجة عبيد الله بن زياد، وهو المنذر بن الجارود، وكانت ابنته بحرية عند عبيد الله، فأجاره وآواه إلى داره، وجاء الجارود مسلما على عبيد الله، وبعث عبيد الله الشرط إلى دار المنذر فجاؤوا بابن مفرع فأوقف بين يديه.

فقال المنذر: إني قد أجرته.

فقال: يمدحك ويمدح أباك فترضى عنه، ويهجوني ويهجو إلى ثم تجيره عليّ.

ثم أمر عبيد الله بابن مفرع فسقي دواء مسهلا وحملوه على حمار عليه إكاف وجعلوا يطوفون به في الأسواق وهو يسلح والناس ينظرون إليه، ثم أمر به فنفي إلى سجستان إلى عند أخيه عباد، فقال ابن مفرغ لعبيد الله بن زياد:

يغسل الماء ما صنعت وقولي * راسخ منك في العظام البوالي

فلما أمر عبيد الله بنفي ابن مفرغ إلى سجستان، كلم اليمانيون معاوية في أمر ابن مفرغ، وأنه إنما بعثه إلى أخيه ليقتله، فبعث معاوية إلى ابن مفرغ وأحضره، فلما وقف بين يديه بكى وشكى إلى معاوية ما فعل به ابن زياد.

فقال له معاوية: إنك هجوته، ألست القائل كذا؟ ألست القائل كذا؟

فأنكر أن يكون قال من ذلك شيئا، وذكر أن القائل ذلك هو عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان، وأحب أن يسندها إليّ، فغضب معاوية على عبد الرحمن بن الحكم ومنعه العطاء حتى يرضى عنه عبيد الله بن زياد، وأنشد ابن مفرع ما قاله في الطريق في معاوية يخاطب راحلته:

عدسٌ ما لعباد عليك إمارة * نجوت وهذا تحملين طليق

لعمري لقد نجاك من هوة الردى * إمام وحبل للأنام وثيق سأشكر ما أوليت من حسن نعمةٍ * ومثلي بشكر المنعمين حقيق

فقال له معاوية: أما لو كنا نحن الذين هجوتنا لم يكن من أذانا شيء يصل إليك، ولم نتعرض لذلك.

فقال: يا أمير المؤمنين إنه ارتكب فيّ ما لم يرتكب مسلم من مسلم على غير حدث ولا جرم، قال: ألست القائل كذا؟ ألست القائل كذا؟ فقد عفونا عن جرمك، أما إنك لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء فانظر الآن من تخاطب ومن تشاكل، فليس كل أحد يحتمل الهجاء، ولا تعامل أحدا إلا بالحسنى، وانظر لنفسك أي البلاد أحب إليك تقيم بها حتى نبعثك إليها، فاختار الموصل فأرسله إليها، ثم استأذن عبيد الله في القدوم إلى البصرة والمقام فأذن له.

ثم إن عبد الرحمن ركب إلى عبيد الله فاسترضاه فرضي عنه وأنشده عبد الرحمن:

لأنت زيادة في آل حربٍ * أحب إليّ من إحدى بناني

أراك أخا وعما وابن عمٍ * فلا أدري بغيبٍ ما تراني

فقال له عبيد الله: أراك والله شاعر سوء، ثم رضي عنه وأعاد إليه ما كان منعه من العطاء.

قال أبو معشر، والواقدي: وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وكان نائب المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وقاضيها شريح، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور والحارثي، من قبل عبيد الله بن زياد.

من توفي في هذه السنة من الأعيان

قال ابن الجوزي: توفي فيها أسامة بن زيد، والصحيح قبلها كما تقدم.

الحطيئة الشاعر

عدل

واسمه جرول بن مالك بن جرول بن مالك بن جوية بن مخزوم بن مالك بن قطيعة بن عيسى بن مليكة، الشاعر الملقب بالحطيئة لقصره.

أدرك الجاهلية وأسلم في زمن الصديق، وكان كثير الهجاء حتى يقال إنه هجا أباه وأمه، وخاله وعمه، ونفسه وعرسه، فمما قال في أمه قوله:

تنحي فاقعدي عني بعيدا * أراح الله منك العالمينا

أغرْبالا إذا استودعت سرا * وكانونا على المتحدثينا

جزاك الله شرا من عجوزٍ * ولقاك العقوق من البنينا

وقال في أبيه وعمه وخاله:

لحاك الله ثمَّ لحاكَ حقا * أبا ولحاكَ من عمٍ وخالِ

فنعمَ الشيخُ أنتَ لدى المخازي * وبئس الشيخُ أنتَ لدى المعالي

ومما قال في نفسه يذمها

أبتْ شفتايَ اليوم أن تتكلما * بشرٍ فما أدري لمن أنا قائله؟

أرى ليَ وجها شوّهَ الله خلقه * فقبحَ من وجهٍ وقبحَ حاملهْ

وقد شكاه الناس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأحضره وحبسه، وكان سبب ذلك أن الزبرقان بن بدر شكاه لعمر أنه قال له يهجوه:

دعْ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها * واقعدْ فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي

فقال له عمر: ما أراه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا؟

فقال: يا أمير المؤمنين إنه لا يكون هجاء أشد من هذا، فبعث عمر إلى حسان بن ثابت فسأله عن ذلك.

فقال: يا أمير المؤمنين ما هجاه ولكن سلح عليه، فعند ذلك حبسه عمر وقال: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين، ثم شفع فيه عمرو بن العاص فأخرجه وأخذ عليه العهد أن لا يهجو الناس واستتابه.

ويقال: إنه أراد أن يقطع لسانه فشفعوا فيه حتى أطلقه.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحرامي، عن عبد الله بن مصعب، حدثني عن ربيعة بن عثمان، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: أمر عمر بإخراج الحطيئة من الحبس وقد كلمه فيه عمرو بن العاص وغيره، فأخرج وأنا حاضر فأنشأ يقول:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ * زعب الحواصل لا ماء ولا شجر

غادرت كاسبهم في قعر مظلمةٍ * فارحم هداك مليك الناس يا عمر

أنت الإمام الذي من بعد صاحبه * ألقى إليك مقاليد النهى البشر

لم يؤثروك بها إذ قدموك لها * لكن لأنفسهم كانت بك الأثر

فامنن على صبيةٍ بالرمل مسكنهم * بين الأباطح يغشاهم بها القدر

نفسي فداؤك كم بيني وبينهم * من عرض واديةٍ يعمى بها الخبر

قال: فلما قال الحطيئة: ماذا تقول الأفراخ بذي مرخ، بكى عمر فقال عمرو بن العاص: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة.

ثم ذكروا أنه أراد قطع لسان الحطيئة لئلا يهجو به الناس فأجلسه على كرسي وجيء بالموس، فقال الناس: لا يعود يا أمير المؤمنين وأشاروا إليه قل: لا أعود.

فقال له عمر: النجا.

فلما ولى قال له عمر: ارجع يا حطيئة، فرجع فقال له: كأني بك عند شاب من قريش قد كسر لك نمرقة، وبسط لك أخرى.

وقال: يا حطيئة غننا، فاندفعت تغنيه بأعراض الناس.

قال أسلم: فرأيت الحطيئة بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر وقد كسر له نمرقة وبسط له أخرى.

وقال: يا حطيئة غننا فاندفع حطيئة يغني.

فقلت له: يا حطيئة أتذكر يوم عمر حين قال لك ما قال؟

ففزع وقال: رحم الله ذلك المرء، لو كان حيا ما فعلنا هذا.

فقلت لعبيد الله: إني سمعت أباك يقول كذا وكذا فكنت أنت ذلك الرجل.

وقال الزبير: حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال: قال عمر للحطيئة: دع قول الشعر.

قال: لا أستطيع.

قال: لم؟

قال: هو مأكلة عيالي، وعلة لساني.

قال: فدع المدحة المجحفة.

قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟

قال: تقول بنو فلان أفضل من بني فلان، امدح ولا تفضل.

فقال: أنت أشعر مني يا أمير المؤمنين.

ومن مديحه الجيد المشهور قوله:

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم * من اللوم أوسدّوا المكان الذي سدوا

أولئك قومي إن بنوا أحسنوا البنا * وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها * وإن أنعموا لا كدروها ولا كدّوا

قالوا: ولما احتضر الحطيئة، قيل له: أوص.

قال: أوصيكم بالشعر، ثم قال:

الشعر صعب وطويل سلّمة * إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه

زلت به إلى الحضيض قدمه * والشعر لا يستطبعه من يظلمه

أراد أن يعربه فأعجمه.

قال أبو الفرج الجوزي في المنتظم: توفي الحطيئة في هذه السنة.

وذكر أيضا فيها وفاة عبد الله بن عامر بن كريز، وقد تقدم في التي قبلها.

عبد الله بن مالك بن القشب

عدل

واسمه جندب بن نضلة بن عبد الله بن رافع الأزدي، أبو محمد حليف بني عبد المطلب، المعروف بابن بحينة، وهي أمه بحينة بنت الأرت، واسمه الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، أسلم قديما، وصحب رسول الله ، وكان ناسكا قواما صوّاما، وكان ممن يسرد صوم الدهر كله.

قال ابن سعد: كان ينزل بطن ريم على ثلاثين ميلا من المدينة، ومات في عمل مروان في المرة الثانية، ما بين سنة أربع وخمسين إلى ثمان وخمسين، والعجب: أن ابن الجوزي نقل من كلام محمد بن سعد، ثم إنه ذكر وفاته في هذه السنة - يعني: سنة تسع وخمسين - فالله أعلم.

قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي

عدل

صحابي جليل كأبيه، له في الصحيحينحديث، وهو القيام للجنازة، وله في المسند حديث في صوم عاشوراء، وحديث غسل رسول الله في دارهم وغير ذلك، وخدم رسول الله عشر سنين، وثبت في صحيح البخاري عن أنس قال: كان قيس بن سعد من النبي بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير.

وحمل لواء رسول الله في بعض الغزوات، واستعمله على الصدقة، ولما بعث رسول الله أبا عبيدة بن الجراح ومعه ثلثمائة من المهاجرين والأنصار، فأصابهم ذلك الجهد الكثير فنحر لهم قيس بن سعد تسع جزائر، حتى وجدوا تلك الدابة على سيف البحر فأكلوا منها، وأقاموا عليها شهرا حتى سمنوا.

وكان قيس سيدا، مطاعا، كريما، ممدحا، شجاعا، ولاه عليّ نيابة مصر، وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص، ولم يزل معاوية يعمل عليه حتى عزله علي عن مصر وولى عليها محمد بن أبي بكر الصديق، فاستخفه معاوية، ولم يزل حتى أخذ منه مصر كما قدمنا.

وأقام قيس عند علي فشهد معه صفين والنهروان ولزمه حتى قتل ثم صار إلى المدينة، فلما اجتمعت الكلمة على معاوية جاءه ليبايعه كما بايعه أصحابه.

قال عبد الرزاق: عن ابن عيينة قال: قدم قيس بن سعد على معاوية فقال له معاوية: وأنت يا قيس تلجم علي مع من ألجم؟ أما والله لقد كنت أحب أن لا تأتيني هذا اليوم إلا وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع.

فقال له قيس: وأنا والله قد كنت كارها أن أقوم في هذا المقام فأحييك بهذه التحية.

فقال له معاوية: ولم؟ وهل أنت إلا حبر من أحبار اليهود؟

فقال له قيس: وأنت يا معاوية كنت صنما من أصنام الجاهلية، دخلت في الإسلام كارها، وخرجت منه طائعا.

فقال معاوية: اللهم غفرا، مديدك.

فقال له قيس بن سعد: إن شئت، زدت وزدت.

وقال موسى بن عقبة: قالت عجوز لقيس: أشكو إليك قلة فأر بيتي.

فقال قيس: ما أحسن هذه الكناية!! املأوا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا.

وقال غيره: كانت له صحفة يدار بها حيث دار، وكان ينادى له مناد: هلموا إلى اللحم والثريد، وكان أبوه وجده من قبله يفعلان كفعله.

وقال عروة بن الزبير: باع قيس بن سعد من معاوية أرضا بتسعين ألفا، فقدم المدينة فنادى مناديه: من أراد القرض فليأت، فأقرض منها خمسين ألفا وأطلق الباقي، ثم مرض بعد ذلك فقل عواده.

فقال لزوجته: - قريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر الصديق -: إني أرى قلة من عادني في مرضي هذا، وإني لأرى ذلك من أجل مالي على الناس من القرض، فبعث إلى كل رجل ممن كان له عليه دين بصكه المكتوب عليه، فوهبهم ماله عليهم.

وقيل: إنه أمر مناديه فنادى: من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو منه في حل، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه من كثرة العواد.

وكان يقول: اللهم ارزقني مالا وفعالا، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال.

وقال سفيان الثوري: اقترض رجل من قيس بن سعد ثلاثين ألفا فلما جاء ليوفيه إياها قال له قيس: إنا قوم ما أعطينا أحدا شيئا فنرجع فيه.

وقال الهيثم بن عدي: اختلف ثلاثة عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم، فقال أحدهم: عبد الله بن جعفر، وقال الآخر: قيس بن سعد، وقال الآخر: عرابة الأوسي، فتماروا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة.

فقال لهم رجل: فليذهب كل رجل منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنه أكرم من غيره، فلينظر ما يعطيه وليحكم على العيان.

فذهب صاحب عبد الله بن جعفر إليه فوجده قد وضع رجله في الغرز ليذهب إلى ضيعة له، فقال له: يا بن عم رسول الله ابن سبيل ومنقطع به.

قال: فأخرج رجله في الغرز وقال: ضع رجلك واستو عليها فهي لك بما عليها، وخذ ما في الحقيبة، ولا تخدعن عن السيف فإنه من سيوف علي، فرجع إلى أصحابه بناقة عظيمة إذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار، ومطارف من خز وغير ذلك، وأجلُّ ذلك سيف علي بن أبي طالب.

ومضى صاحب قيس بن سعد إليه فوجده نائما، فقالت له الجارية: ما حاجتك إليه؟

قال: ابن سبيل ومنقطع به.

قالت: فحاجتك أيسر من إيقاظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس مال غيره اليوم، واذهب إلى مولانا في معاطن الإبل فخذ لك ناقة وعبدا، واذهب راشدا.

فلما استيقظ قيس من نومه أخبرته الجارية بما صنعت فأعتقها شكرا على صنيعها ذلك.

وقال: هلا أيقظتني حتى أعطيه ما يكفيه أبدا، فلعل الذي أعطيتيه لا يقع منه موقع حاجته.

وذهب صاحب عرابة الأوسي إليه فوجده وقد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يتوكأ على عبدين له - وكان قد كف بصره - فقال له: يا عرابة.

فقال: قل.

فقال: ابن سبيل ومنقطع به.

قال: فخلى عن العبدين ثم صفق بيديه، باليمنى على اليسرى، ثم قال: أوّه أوّه، والله ما أصبحت ولا أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عرابة شيئا، ولكن خذ هذين العبدين.

قال: ما كنت لأفعل.

فقال: إن لم تأخذهما فهما حران، فإن شئت فأعتق، وإن شئت فخذ.

وأقبل يلتمس الحائط بيده.

قال: فأخذهما وجاء بهما إلى صاحبيه.

قال: فحكم الناس على أن ابن جعفر قد جاد بمال عظيم، وأن ذلك ليس بمستنكر له، إلا أن السيف أجلها.

وأن قيسا أحد الأجواد حكم مملوكته في ماله بغير علمه واستحسن فعلها وعتقها شكرا لها على ما فعلت.

واجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسي، لأنه جاد بجميع ما يملكه، وذلك جهد من مقل.

وقال سفيان الثوري: عن عمرو، عن أبي صالح قال: قسم سعد بن عبادة ماله بين أولاده وخرج إلى الشام فمات بها، فولد له ولد بعد وفاته، فجاء أبو بكر وعمر إلى قيس بن سعد فقالا: إن أباك قسم ماله ولم يعلم بحال هذا الولد إذا كان حملا، فاقسموا له معكم.

فقال قيس: إني لا أغير ما فعله سعد ولكن نصيبي له.

ورواه عبد الرزاق: عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين فذكره.

ورواه عبد الرزاق: عن ابن جريج، أخبرني عطاء فذكره.

وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أبو نعيم، ثنا مسعر، عن معبد بن خالد.

قال: كان قيس بن سعد لا يزال هكذا رافعا أصبعه المسبحة - يعني: يدعو -.

وقال هشام بن عمار: ثنا الجراح بن مليح، ثنا أبو رافع، عن قيس بن سعد.

قال: لولا أني سمعت رسول الله يقول: «المكر والخديعة في النار»، لكنت من أمكر هذه الأمة.

وقال الزهري: دهات العرب حين ثارت الفتنة خمسة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل، وكانا مع علي، وكان المغيرة معتزلا بالطائف حتى حكم الخصمان فصارا إلى معاوية.

وقد تقدم أن محمد بن أبي حذيفة كان قد تغلب على مصر وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، نائب عثمان بعد عمرو بن العاص، فأقره عليها عليّ مدة يسيرة ثم عزله بقيس بن سعد.

فلما دخلها سار فيها سيرة حسنة وضبطها، وذلك سنة ست وثلاثين، فثقل أمره على معاوية وعمرو بن العاص فكاتباه ليكون معهما على علي فامتنع وأظهر للناس مناصحته لهما، وفي الباطن هو مع علي، فبلغ ذلك عليا فعزله.

وبعث إلى مصر الأشتر النخعي فمات الأشتر في الرملة قبل أن يصل إليها، فبعث علي محمد بن أبي بكر فخف أمره على معاوية وعمرو، فلم يزالا حتى أخذا منه الديار المصرية، وقتل محمد بن أبي بكر هذا وأحرق في جيفة حمار.

ثم سار قيس إلى المدينة، ثم سار إلى علي بن أبي طالب إلى العراق، فكان معه في حروبه حتى قتل علي، ثم كان مع الحسن بن علي حين سار إلى معاوية ليقاتله، فكان قيس على مقدمة الجيش.

فلما بايع الحسن معاوية ساء قيسا ذلك وما أحبه، وامتنع من طاعته معاوية، ثم ارتحل إلى المدينة، ثم قدم على معاوية في وفد من الأنصار فبايع معاوية بعد معاتبة شديدة وقعت بينهما، وكلام فيه غلظة، ثم أكرمه معاوية وقدمه وحظي عنده، فبينما هو مع الوفود عند معاوية إذ قدم كتاب ملك الروم على معاوية وفيه: أن ابعث إليّ بسراويل أطول رجل في العرب.

فقال معاوية: ما أرانا إلا قد احتجنا إلا سراويلك؟ - وكان قيس مديد القامة جدا، لا يصل أطول الرجال إلى صدره - فقام قيس فتنحى ثم خلع سراويله فألقاها إلى معاوية فقال له معاوية: لو ذهبت إلى منزلك ثم أرسلت بها إلينا، فأنشأ قيس يقول عند ذلك:

أردت بها كي يعلم الناس أنها * سراويل قيسٍ والوفود شهود

وأن لا يقولوا غاب قيسٌ وهذه * سراويل غادي سمدٌ وثمود

وإني من الحي اليماني لسيدٌ * وما الناس إلا سيدٌ ومسود

فكدهم بمثلي إنَّ مثلي عليهم * شديدٌ وخلقي في الرجال مديد

وفضلني في الناس أصلٌ ووالد * وباعٌ به أعلو الرجال مديد

قال: فأمر معاوية أطول رجل في الوفد فوضعها على أنفه فوقعت بالأرض.

وفي رواية: أن ملك الروم بعث إلى معاوية برجلين من جيشه يزعم أن أحدهما أقوى الروم، والآخر أطول الروم فانظر هل في قومك من يفوقهما في قوة هذا وطول هذا؟

فإن كان في قومك من يفوقهما بعثت إليك من الأسارى كذا وكذا، ومن التحف كذا وكذا، وإن لم يكن في جيشك من هو أقوى وأطول منهما فهادني ثلاث سنين.

فلما حضرا عند معاوية قال: من لهذا القوي؟

فقالوا: ماله إلا أحد رجلين، إما محمد بن الحنفية، أو عبد الله بن الزبير، فجيء بمحمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب.

فلما اجتمع الناس عند معاوية قال له معاوية: أتعلم فيم أرسلت إليك؟

قال: لا! فذكر له أمر الرومي وشدة بأسه.

فقال للرومي: إما أن تجلس لي أو أجلس إليك وتناولني يدك أو أناولك يدي، فأينا قدر على أن يقيم الآخر من مكانه غلبه، وإلا فقد غُلب.

فقال له: ماذا تريد؟ تجلس أو أجلس؟

فقال له الرومي: بل اجلس أنت، فجلس محمد بن الحنفية وأعطى الرومي يده فاجتهد الرومي بكل ما يقدر عليه من القوة أن يزيله من مكانه أو يحركه ليقيمه فلم يقدر على ذلك، ولا وجد إليه سبيلا، فغُلب الرومي: عند ذلك، وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غُلب.

ثم قام محمد بن الحنفية فقال للرومي: اجلس لي، فجلس وأعطى محمدا يده فما أمهلة أن أقامه سريعا، ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الأرض فسر بذلك معاوية سرورا عظيما.

ونهض قيس بن سعد فتنحى عن الناس ثم خلع سراويله وأعطاها لذلك الرومي الطويل فلبسها فبلغت إلى ثدييه وأطرافها تخط بالأرض، فاعترف الرومي بالغلب.

وبعث ملكهم ما كان التزمه لمعاوية، وعاتب الأنصار قيس بن سعد في خلعه سراويله بحضرة الناس فقال: ذلك الشعر المتقدم معتذرا به إليهم، وليكون ذلك ألزم للحجة التي تقوم على الروم، وأقطع لما حاولوه.

ورواه الحميدي: عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: كان قيس بن سعد رجلا ضخما جسيما، صغير الرأس له لحية في ذقنه، وكان إذا ركب الحمار العالي خطت رجلاه بالأرض.

وقال الواقدي، وخليفة بن خياط وغير واحد: توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية.

وذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة، فتبعناه في ذلك.

معقل بن يسار المزني

عدل

صحابي جليل شهد الحديبية، وكان هو الذي كان يرفع أغصان الشجرة عن وجه رسول الله وهو يبايع الناس تحتها، وكانت من السَّمُر، وهي المذكورة في القرآن في قوله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } 9.

وقد ولاه عمر إمرة البصرة فحفر بها النهر المنسوب إليه، فيقال: نهر معقل، وله بها دار.

قال الحسن البصري: دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار يعوده في مرضه الذي مات فيه.

فقال له معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله ، لو لم أكن على حالتي هذه لم أحدثك به، سمعته يقول: «من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام».

وممن توفي في هذه السنة:

أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه

عدل

وقد اختلف في اسمه في الجاهلية والإسلام، واسم أبيه على أقوال متعددة، وقد بسطنا أكثرها في كتابنا التكميل، وقد بسط ذلك ابن عساكر في تاريخه، والأشهر أن اسمه: عبد الرحمن بن صخر وهو من الأزد، ثم من دوس.

ويقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس.

وقيل: عبد نهم.

وقيل: عبد غنم، ويكنى بأبي الأسود، فسماه رسول الله عبد الله.

وقيل: عبد الرحمن، وكناه بأبي هُريرة.

وروي عنه أنه قال: وجدت هُريرة وحشية فأخذت أولادها فقال لي أبي: ما هذه في حجرك؟ فأخبرته.

فقال: أنت أبو هريرة.

وثبت في الصحيح أن رسول الله قال له: «أبا هر»، وثبت أنه قال له: «يا أبا هريرة».

قال محمد بن سع، وابن الكلبي، والطبراني: اسم أمه ميمونة بنت صفيح بن الحارث بن أبي صعب بن هبة بن سعد بن ثعلبة، أسلمت وماتت مسلمة.

وروى أبو هريرة عن رسول الله الكثير الطيب، وكان من حفاظ الصحابة، وروى عن أبي بكر، وعمر، وأبيّ بن كعب، وأسامة بن زيد، ونضرة بن أبي نضرة، والفضل بن العباس، وكعب الأحبار، وعائشة أم المؤمنين.

وحدث عنه خلائق من أهل العلم قد ذكرناهم مرتبين على حروف المعجم في التكميل، كما ذكره شيخنا في تهذيبه.

قال البخاري: روى عنه نحو من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيرهم.

وقال عمرو بن علي الفلاس: كان ينزل المدينة وكان إسلامه سنة خيبر.

قال الواقدي: وكان بذي الحليفة له دار.

وقال غيره: كان آدم اللون، بعيد ما بين المنكبين، ذا طفرتين، أقرن الثنيتين.

وقال أبو داود الطيالسي وغير واحد: عن أبي خلدة، خالد بن دينار، عن أبي العالية، عن أبي هريرة قال: لما أسلمتُ قال رسول الله : «ممن أنت؟»

فقلت: من دوس.

فوضع يده على جبهته وقال: «ما كنت أرى أن في دوس رجلا فيه خير».

وقال الزهري: عن سعيد، عن أبي هريرة قال: شهدت مع رسول الله خيبر.

وروى عبد الرزاق: عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل عن قيس.

قال: قال أبو هريرة: جئت يوم خيبر بعد ما فرغوا من القتال.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا الدراوردي.

قال: حدثني خيثم، عن عراك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة.

قال: خرج رسول الله واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة.

قال أبو هريرة: وقدمت المدينة فهاجروا فصليت الصبح وراء سباع فقرأ في السجدة الأولى سورة مريم، وفي الثانية ويل للمطففين.

قال أبو هريرة: فقلت في نفسي ويل لأبي فلان، لرجل كان بأرض الأزد - وكان له مكيالان مكيال يكيل به لنفسه، ومكيال يبخس به الناس -.

وقد ثبت في صحيح البخاري أنه ضل غلام له في الليلة التي اجتمع في صبيحتها برسول الله وأنه جعل ينشد:

يا ليلة من طولها وعنائها * على أنها من دارة الكفر نجت

فلما قدم على رسول الله قال له: «هذا غلامك؟».

فقال: هو حر لوجه الله عز وجل.

وقد لزم أبو هريرة رسول الله بعد إسلامه، فلم يفارقه في حضر ولا سفر، وكان أحرص شيء على سماع الحديث منه، وتفقه عنه، وكان يلزمه على شبع بطنه.

وقال أبو هريرة: - وقد تمخط يوما في قميص له كتان - بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني أخر فيما بين المنبر والحجر من الجوع.

فيمر المار فيقول: به جنون وما بي إلا الجوع، والله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وأشد الحجر على بطني من الجوع.

ولقد كنت أستقرئ أحدهم الآية وأنا أعلم بها منه، وما بي إلا أن يستتبعني إلى منزله فيطعمني شيئا، وذكر حديث اللبن مع أهل الصفة كما قدمناه في دلائل النبوة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، ثنا عكرمة بن عامر، حدثني أبو كثير - وهو يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة السحيمي الأعمى - حدثني أبو هريرة.

قال: والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.

قلت: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟

قال: إن أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى عليّ، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فكانت تأبى عليّ وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة.

فقال: «اللهم اهد أم أبي هريرة».

فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله لها، فلما أتيت الباب إذا هو مجاف، وسمعت خضخضة خشخشة، وسمعت خشف رجل - يعني: وقعها - فقالت: يا أبا هريرة كما أنت، ثم فتحت الباب وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها أن تلبسه.

وقالت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن.

فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعاءك، قد هدى الله أم أبي هريرة.

وقلت: يا رسول الله ادعو الله أن يحببني وأمي إلى عبادة المؤمنين.

فقال: «اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما».

قال أبو هريرة: فما خلق الله من مؤمن يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني.

وقد رواه مسلم من حديث عكرمة عن عمار نحوه.

وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس.

وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس في الجوامع المتعددة في سائر الأقاليم في الأنصات يوم الجمعة بين يدي الخطبة، والإمام على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له رضي الله عنه.

وقال هشام بن عمار: حدثنا سعيد، ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن المقبري، عن سالم مولى النضريين: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله يقول: «إنما محمد بشر أغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما رجل من المسلمين آذيته أو شتمته أو جلدته فاجعلها له قربة بها عندك يوم القيامة».

قال أبو هريرة: لقد رفع عليّ رسول الله يوما الدرة ليضربني بها فلأن يكون ضربني بها أحب إليّ من حمر النعم، ذلك بأني أرجو أن أكون مؤمنا وأن يستجاب لرسول الله دعوته.

وقال ابن أبي ذيب: عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.

قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثا كثيرا فأنساه.

فقال: «أبسط رداءك»، فبسطته.

ثم قال: «ضمه» فضممته فما نسيت حديثا بعد، رواه البخاري.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج.

قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله ، والله الموعد إني كنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله على ملء بطني.

وكان المهاجرون يشغلهم الصفق في الأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من رسول الله يوما مجلسا.

فقال: «من بسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئا سمعه مني».

فبسطت بردة عليَّ حتى قضى مقالته، ثم قبضتها إليّ فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئا سمعته منه بعد ذلك.

وقد رواه ابن وهب: عن يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة وله طرق أخر عنه.

وقد قيل: إن هذا كان خاصا بتلك المقالة لم ينس منها شيئا، بدليل أنه نسي بعض الأحاديث كما هو مصرح به في الصحيح، حيث نسي حديث: «لا عدوى ولا طيرة» مع حديثه: «لا يورد ممرض على مصح».

وقيل: إن هذا كان عاما في تلك المقالة وغيرها والله أعلم.

وقال الدراوردي: عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟

فقال: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن أحدا لا يسألني عن هذا الحديث أول منك، لما رأيت من حرصك على الناس، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه».

ورواه البخاري من حديث عمرو بن أبي عمرو به.

وقال ابن أبي ذيب: عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: حفظت من رسول الله وعاءين فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. رواه البخاري من حديث ابن أبي ذيب.

ورواه غير واحد، عن أبي هريرة، وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم وما وقع بين الناس من الحروب والقتال، وما سيقع التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه، وردوا ما أخبر به من الحق.

كما قال: لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني.

وقد يتمسك بهذا الحديث طوائف من أهل الأهواء والبدع الباطلة والأعمال الفاسدة، ويسندون ذلك إلى هذا الجواب الذي لم يقله أبو هريرة، ويعتقدون أن ما هم عليه كان في هذا الجواب الذي لم يخبر به أبو هريرة.

وما من مبطل مع تضاد أقوالهم إلا وهو يدّعي هذا وكلهم يكذبون، فإذا لم يكن أبو هريرة قد أخبر به فمن علمه بعده؟

وإنما كان الذي فيه شيء من الفتن والملاحم كما أخبر بها هو وغيره من الصحابة، مما ذكرناه ومما سنذكره في كتاب الفتن والملاحم.

وقال حماد بن زيد: حدثنا عمرو بن عبيد الأنصاري، ثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة وأقعده خلف السرير.

وجعل مروان يسأل وجعلت أكتب عنه، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به وأقعده من وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخّر.

وروى أبو بكر بن عياش وغيره، عن الأعمش، عن أبي صالح.

قال: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله ولم يكن بأفضلهم.

وقال الربيع: قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره.

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا أبو خيثمة، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول قال: تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية فاجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة فحدثهم عن رسول الله حتى أصبح.

وقال سفيان بن عيينة: عن معمر، عن وهب بن منبه، عن أخيه همام بن منبه.

قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب.

وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زرعة الرعيني، ثنا مروان بن محمد، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله ولألحقنك بأرض دوس.

وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة.

قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره، عن سعيد بن عبد العزيز نحوا منه ولم يسنده، وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص.

وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها الناس عنه أو نحو ذلك.

وقد جاء أن عمر أذن بعد ذلك في التحديث، فقال مسدد: حدثنا خالد الطحان، ثنا يحيى بن عبد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة.

قال: بلغ عمر حديثي فأرسل إليّ فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله في بيت فلان؟

قال: قلت: نعم! وقد علمت لِمَ تسألني عن ذلك؟

قال: ولِمَ سألتك؟

قلت: إن رسول الله قال يومئذ: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».

قال: أما إذا فاذهب فحدث.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا عبد الواحد - يعني: ابن زياد - ثنا عاصم بن كليب، حدثني أبي.

قال: سمعت أبا هريرة يقول - وكان يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق: «من كذب عليَّ عامدا فليتبوأ مقعده من النار».

وروى مثله من وجه آخر عنه.

وقال ابن وهب: حدثني يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان، أن أبا هريرة كان يقول: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي.

وقال صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله حتى قبض عمر.

وقال محمد بن يحيى الذهلي: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.

قال: قال عمر: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به.

قال: ثم يقول أبو هريرة: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذا لأيقنت أن المحففة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله.

ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالأحاديث، وأنا شريكك في ذلك.

هذا معروف عن عمر رضي الله عنه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر.

أنه مر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي أنه قال: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيرطان، القيراط أعظم من أُحُد».

فقال له ابن عمر: أبا هِرّ انظر ما تحدث عن رسول الله ، فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين أنشدك بالله أسمعت رسول الله يقول: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط فإن شهد دفنها فله قيراطان»؟.

فقالت: اللهم نعم.

فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله غرس بالوادي وصفق بالأسواق، إني إنما كنت أطلب من رسول الله كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها.

فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هر كنت ألزمنا رسول الله وأعلمنا بحديثه.

وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه.

قال: كنت مع ابن عمر في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه، ويقول: كان ممن يحفظ حديث رسول الله على المسلمين.

وقد روي: أن عائشة تأولت أحاديث كثيرة من أن أبي هريرة ووهمته في بعضها.

وفي الصحيح: أنها عابت عليه سرد الحديث، أي الإكثار منه في الساعة الواحدة.

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا إسحاق بن سعد، عن سعيد أن عائشة قالت لأبي هريرة: أكثرت الحديث عن رسول الله يا أبا هريرة.

قال: إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي.

قالت: لعله.

وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم الشامي، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها، فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث عن رسول الله ، فهل سمعته يقول: «في حلتي هذه شيئا؟»

قال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } 10 ما حدثتكم بشيء، سمعت أبا القاسم يقول: «إن رجلا ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة».

فوالله ما أدري لعله كان من قومك أومن رهطك - شك أبو يعلى - وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح.

قال: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: والله ما أنت بوالٍ، وإن الوالي لغيرك فدعه - يعني: حين أرادوا يدفنون الحسن مع رسول الله - ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك - يعني: معاوية -.

قال: فأقبل عليه مروان مغضبا فقال: يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله الحديث، وإنما قدمت قبل وفاة النبي بيسير.

فقال أبو هريرة: نعم! قدمت ورسول الله بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات، وأقمت معه حتى توفي، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله يومئذٍ مقلٍ، وأصلي خلفه وأحج وأغزو معه.

فكنت والله أعلم الناس بحديثه، قد والله سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار، وكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه، منهم: عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير.

فلا والله ما يخفى عليّ كل حديث كان بالمدينة، وكل من أحب الله ورسوله، وكل من كانت له عند رسول الله منزلة، وكل صاحب له، وكان أبو بكر صاحبه في الغار وغيره.

وقد أخرجه رسول الله أن يساكنه -يعرض بأبي مروان الحكم بن العاص، -.

ثم قال أبو هريرة: ليسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه فإنه يجد عندي منه علما جما ومقالا.

قال: فوالله ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة ويتقيه بعد ذلك ويخافه ويخاف جوابه.

وفي رواية: أن أبا هريرة قال لمروان: إني أسلمت وهاجرت اختيارا وطوعا، وأحببت رسول الله حبا شديدا، وأنتم أهل الدار وموضع الدعوة، أخرجتم الداعي من أرضه، وآذيتموه وأصحابه، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم.

فندم مروان على كلامه له واتقاه.

وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف، ثنا محمد بن سلمة، ثنا محمد بن إسحاق، عن عمر أو عثمان بن عروة، عن أبيه - يعني: عروة بن الزبير بن العوام - قال: قال لي أبي الزبير: ادنني من هذا اليماني - يعني: أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله .

قال: فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث، وجعل الزبير يقول: صدق، كذب صدق، كذب.

قال: قلت: يا أبة ما قولك صدق كذب؟

قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله فلا أشك، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه.

وقال علي بن المديني: عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي اليسر بن أبي عامر.

قال: كنت عند طلحة بن عبيد الله إذ دخل رجل فقال: يا أبا محمد والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله منكم، أم يقول على رسول الله ما لم يسمع، أو ما لم يقل؟

فقال طلحة: والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوما أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله طرفي النهار ثم نرجع.

وكان هو مسكينا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول الله ، وكان يدور معه حيث دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع.

وقد رواه الترمذي بنحوه.

وقال شعبة: عن أشعث بن سليم، عن أبيه قال: سمعت أبا أيوب يحدث عن أبي هريرة فقيل له: أنت صاحب رسول الله وتحدث عن أبي هريرة؟

فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإني إن أحدث عنه أحب إليّ من أن أحدث عن رسول الله - يعني: ما لم أسمعه منه -.

وقال مسلم بن الحجاج: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الأشج.

قال: قال لنا بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله .

وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث.

وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس - أي: يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز هذا من هذا - ذكره ابن عساكر.

وكان شعبة يشير بهذا إلى حديثه: «من أصبح جنبا فلا صيام له» فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله .

وقال شريك: عن مغيرة، عن إبراهيم.

قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة، وروى الأعمش عن إبراهيم.

قال: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة.

وقال الثوري: عن منصور، عن إبراهيم قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة شيئا، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة، إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهي عن شرٍ جاء القرآن به.

وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة وردّ هذا الذي قاله إبراهيم النخعي.

وقد قال ما قاله إبراهيم طائفة من الكوفيين، والجمهور على خلافهم.

وقد كان أبو هريرة من الصدق، والحفظ، والديانة، والعبادة، والزهادة، والعمل الصالح على جانب عظيم.

قال حماد بن زيد: عن عباس الجريري، عن أبي عثمان النهدي.

قال: كان أبو هريرة يقوم ثلث الليل.

وامرأته ثلثه، وابنته ثلثه، يقوم هذا ثم يوقظ هذا، ثم يوقظ هذا.

وفي الصحيحين عنه أنه قال: أوصاني خليلي بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام.

وقال ابن جريج عمن حدثه.

قال: قال أبو هريرة: إني أجزئ الليل ثلاثة أجزاء فجزءا لقراءة القرآن، وجزءا أنام فيه، وجزءا أتذكر فيه حديث رسول الله .

وقال محمد بن سعد: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن عثمان القرشي، ثنا أبو أيوب.

قال: كان لأبي هريرة مسجد في مخدعه، ومسجد في بيته، ومسجد في حجرته، ومسجد على باب داره إذا خرج صلى فيها جميعها، وإذا دخل صلى فيها جميعا.

وقال عكرمة: كان أبو هريرة يسبح كل ليلة ثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسبح على قدر ديتي.

وقال هشيم: عن يعلى بن عطاء، عن ميمون بن أبي ميسرة.

قال: كانت لأبي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار صيحة يقول: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار.

وإذا كان العشي يقول: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار.

وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا موسى بن عبيدة، عن زياد بن ثوبان، عن أبي هريرة.

قال: لا تغبطن فاجرا بنعمة فإن من ورائه طالبا حثيثا طلبه، جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا.

وقال ابن لهيعة: عن أبي يونس، عن أبي هريرة أنه صلى بالناس يوما فلما سلم رفع صوته فقال: الحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة إماما، بعدما كان أجيرا لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجله.

وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: ثنا عفان، ثنا سليم بن حيان، قال: سمعت أبي يحدث، عن أبي هريرة قال: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أحدو بهم إذا ركبوا وأحتطب إذا نزلوا، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة إماما.

ثم يقول: والله يا أهل الإسلام إن كانت إجارتي معهم إلا على كسرة يابسة، وعقبة في ليلة غبراء مظلمة، ثم زوجنيها الله فكنت أركب إذا ركبوا، وأخدم إذا خدموا، وأنزل إذا نزلوا.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجورجاني: حدثنا الحجاج بن نصر، ثنا هلال بن عبد الرحمن الحنفي، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي سلمة.

قال: قال أبو هريرة وأبو ذر: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا، وباب نعلمه عملنا به أو لم نعمل به أحب إلينا من مائة ركعة تطوعا.

وقالا: سمعنا رسول الله يقول: «إذا جاء طالب العلم الموت وهو على هذه الحال مات وهو شهيد».

وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وروى غير واحد عن أبي هريرة أنه كان يتعوذ في سجوده أن يزني أو يسرق، أو يكفر، أو يعمل كبيرة.

فقيل له: أتخاف ذلك؟

فقال: ما يؤمنني وإبليس حي، ومصرّف القلوب يصرفها كيف يشاء؟.

وقالت له ابنته: يا أبة إن البنات يعيرنني يقلن: لم لا يحليك أبوك بالذهب؟

فقال: يا بنية قولي لهن إن أبي يخشى عليّ حر اللهب.

وقال أبو هريرة: أتيت عمر بن الخطاب فقمت له وهو يسبح بعد الصلاة، فانتظرته فلما انصرف دنوت منه فقلت: اقرئني آيات من كتاب الله.

قال: وما أريد إلا الطعام.

قال: فأقرأني آيات من سورة آل عمران، فلما بلغ أهله دخل وتركني على الباب.

فقلت: ينزع ثيابه ثم أمر لي بطعام، فلم أر شيئا، فلما طال عليّ قمت فمشيت فاستقبلني رسول الله فكلمني.

فقال: «يا أبا هريرة إن خلوف فمك الليلة لشديد؟».

فقلت: أجل يا رسول الله، لقد ظللت صائما وما أفطرت بعد، وما أجد ما أفطر عليه.

قال: فانطلق، فانطلقت معه حتى أتى بيته فدعا جارية له سوداء فقال: إيتنا بتلك القصعة، فأتينا بقصعة فيها وضر من طعام أراه شعيرا قد أُكل وبقي في جوانبها بعضه وهو يسير، فسميت وجعلت أتتبعه فأكلت حتى شبعت.

وقال الطبراني: ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين أن أبا هريرة قال لابنته: لا تلبسي الذهب فإني أخشى عليك حر اللهب.

وقد رُوي هذا عن أبي هريرة من طرق.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي الربيع، عن أبي هريرة أنه قال: إن هذه الكناسة مهلكة دنياكم وآخرتكم - يعني: الشهوات وما يأكلونه -.

وروى الطبراني عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: أن عمر بن الخطاب دعاه ليستعمله فأبى أن يعمل له.

فقال: أتكره العمل وقد عمل من هو خير منك؟

أو قال: قد طلبه من هو خير منك -؟

قال: من؟

قال: يوسف عليه السلام.

فقال أبو هريرة: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة، فأخشى ثلاثا أو اثنتين.

فقال عمر: أفلا قلت خمسا؟

قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينتزع مالي، ويشتم عرضي.

وقال سعيد بن أبي هند: عن أبي هريرة أن رسول الله قال له: «لا تسألني من هذه الغنائم التي سألني أصحابك؟».

فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله.

قال: فنزع نمرة على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني إلى القمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعب حديثه قال: «اجمعها إليك فصرها» فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني».

وقال أبو عثمان النهدي: قلت لأبي هريرة: كيف تصوم؟

قال: أصوم أول الشهر ثلاثا، فإن حدث بي حدث كان لي أجر شهري.

وقال حمُاد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان النهدي: أن أبا هريرة كان في سفر ومعه قوم، فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه ليأكل معهم فقال: إني صائم.

فلما كادوا أن يفرغوا من أكلهم جاء فجعل يأكل، فجعل القوم ينظرون إلى رسولهم الذي أرسلوه إليه.

فقال لهم: أراكم تنظرون إليّ، قد والله أخبرني أنه صائم.

فقال أبو هريرة: صدق، إني سمعت رسول الله يقول: «صوم شهر صوم الصبر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر».

وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله عز وجل.

وروى الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إسماعيل، عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة أنه كان هو وأصحاب له إذا صاموا يجلسون في المسجد وقالوا: نطهر صيامنا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا عثمان الشحام، أبو سلمة، ثنا فرقد السبخي قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت وهو يقول: ويل لي من بطني، إن أشبعته كهظني، وإن أجعته أضعفني.

وروى الإمام أحمد: عن عكرمة قال: قال أبو هريرة: إني لأستغفر الله عز وجل وأتوب إليه كل يوم اثنتي عشرة ألف مرة، وذلك على قدر ديتي.

وروى عبد الله بن أحمد، عن أبي هريرة: أنه كان له خيط فيه اثنا عشر ألف عقدة يسبح به قبل أن ينام.

وفي رواية: ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به، وهو أصح من الذي قبله.

ولما حضره الموت بكى فقيل له: ما يبكيك؟

فقال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي علي بعد سفري وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود ومهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيهما يؤخذ بي.

وروى قتيبة بن سعيد: ثنا الفرج بن فضالة، عن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم.

وروى الطبراني عن معمر قال: بلغني عن أبي هريرة أنه كان إذا مر به جنازة قال: روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة، وعقلة سريعة، يذهب الأول ويبقى الآخر لا عقل له.

وقال الحافظ أبو بكر بن مالك: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو بكر ليث بن خالد البجلي، ثنا عبد المؤمن بن عبد الله السدوسي.

قال: سمعت أبا يزيد المديني يقول: قام أبو هريرة على منبر رسول الله دون مقام رسول الله بعتبة، فقال: ويل للعرب من شر قد اقترب، ويل لهم من إمارة الصبيان، يحكمون فيهم بالهوى ويقتلون بالغضب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن ثابت، عن أسامة بن زيد، عن أبي زياد - مولى ابن عباس - عن أبي هريرة قال: كانت لي خمس عشرة ثمرة فأفطرت على خمس وتسحرت بخمس وأبقيت خمسا لفطري.

وقال أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إسماعيل - يعني: العبدي - عن أبي المتوكل: أن أبا هريرة كانت لهم زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها يوما السوط ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك، أجوج ما أكون إليه، اذهبي فأنت حرة لله عز وجل.

وروى حماد بن سلمة: عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: أن أبا هريرة مرض فدخلت عليه أعوده فقلت: اللهم اشف أبا هريرة.

فقال: اللهم لا ترجعها، ثم قال: يا أبا سلمة يوشك أن يأتي على الناس زمان يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر.

وروى عطاء: عن أبي هريرة قال: إذا رأيتم ستا فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها، فلذلك أتمنى الموت أخاف أن تدركني، إذا أمرت السفهاء، وبيع الحكم، وتهون بالدم، وقطعت الأرحام، وكثرت الجلاوزة، ونشأ نشو يتخذون القرآن مزامير.

وقال ابن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي: أن ثعلبة بن أبي مالك القرظي حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمتي حطب - وهو يومئذ أمير لمروان بن الحكم - فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك.

فقلت: يرحمك الله يكفي هذا!

فقال: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه.

وله فضائل ومناقب كثيرة، وكلام حسن، ومواعظ جمة، أسلم كما قدمنا عام خيبر، فلزم رسول الله ولم يفارقه إلا حين بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، ووصاه به فجعله العلاء مؤذنا بين يديه.

وقال له أبو هريرة: لا تسبقني بآمين أيها الأمير.

وقد استعمله عمر بن الخطاب عليها في أيام إمارته، وقاسمه مع جملة العمال.

قال عبد الرزاق: حدثنا معمر: عن أيوب، عن ابن سيرين.

أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال أي: عدو الله وعدو كتابه؟.

فقال أبو هريرة: لست بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكن عدو من عاداهما.

فقال: فمن أين هي لك؟

قال: خيل نتجت، وغلة ورقيق لي، وأعطية تتابعت عليّ.

فنظروا فوجدوه كما قال.

فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى أن يعمل له.

فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرا منك؟ طلبه يوسف عليه السلام.

فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أمية وأخشى ثلاثا واثنين.

قال عمر: فهلا قلت خمسة؟.

قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، أو يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي.

وذكر غيره: أن عمر غرمه في العمالة الأولى اثني عشر ألفا فلهذا امتنع في الثانية.

وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن محمد بن زياد.

قال: كان معاوية يبعث أبا هريرة على المدينة فإذا غضب عليه عزله، وولى مروان بن الحكم، فإذا جاء أبو هريرة إلى مروان حجبه عنه، فعزل مروان ورجع أبو هريرة.

فقال لمولاه: من جاءك فلا ترده وأحجب مروان، فلما جاء مروان دفع الغلام في صدره فما دخل إلا بعد جهد جهيد، فلما دخل قال: إن الغلام حجبنا عنك.

فقال له أبو هريرة: إنك أحق الناس أن لا تغضب من ذلك.

والمعروف أن مروان هو الذي كان يستنيب أبا هريرة في إمرة المدينة، ولكن كان يكون عن إذن معاوية في ذلك والله أعلم.

وقال حماد بن سلمة: عن ثابت، عن أبي رافع: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة فيركب الحمار، ويلقى الرجل فيقول: الطريق قد جاء الأمير - يعني: نفسه -.

وكان يمر بالصبيان، وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب، وهو أمير، فلا يشعرون إلا وقد ألقى نفسه بينهم، ويضرب برجليه كأنه مجنون، يريد أن يضحكهم، فيفزغ الصبيان منه ويفرون عنه ههنا وههنا يتضاحكون.

قال أبو رافع: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه بالليل فيقول: دع العراق للأمير - يعني: قطع اللحم - قال: فأنظر فإذا هو ثريد بالزيت.

وقال ابن وهب: حدثني عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي أن ثعلبة بن أبي مالك، حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة مروان فقال: أوسع الطريق للأمير يا بن أبي مالك.

فقلت: أصلحك الله تلقى هذا.

فقال: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه.

وقد تقدم هذا.

وروى نحوه من غير وجه.

وقال أبو الزعيزعة كاتب مروان: بعث مروان إلى أبي هريرة بمائة دينار، فلما كان الغد بعث إليه: إني غلطت ولم أردك بها، وإني إنما أردت غيرك.

فقال أبو هريرة: قد أخرجتها فإذا خرج عطائي فخذها منه - وكان قد تصدق بها - وإنما أراد مروان اختباره.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الأعلا بن عبد الجبار، ثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد بن المسيب قال: كان معاوية إذا أعطى أبا هريرة سكت، وإذا أمسك عنه تكلم.

وروى غير واحد: عن أبي هريرة أنه جاءه شاب فقال: يا أبا هريرة إني أصبحت صائما فدخلت على أبي فجاءني بخبز ولحم فأكلت ناسيا.

فقال: طعمة أطعمكها الله لا عليك.

قال: ثم دخلت دارا لأهلي فجيء بلبن لقحة فشربته ناسيا.

قال: لا عليك.

قال: ثم نمت فاستيقظت فشربت ماء.

وفي رواية: وجامعت ناسيا.

فقال أبو هريرة: إنك يا بن أخي لم تعتد الصيام.

وقال غير واحد: كان أبو هريرة إذا رأى الجنازة قال: روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون.

وروى غير واحد: أنه لما حضرته الوفاة بكى فقيل: ما يبكيك؟

قال: على قلة الزاد وشدة المفازة، وأنا على عقبة هبوط إما إلى جنة أو إلى نار، فما أدري إلى أيهما أصير.

وقال مالك: عن سعيد بن أبي سعيد المقبري.

قال: دخل مروان على أبي هريرة في مرضه الذي مات فيه فقال: شفاك الله يا أبا هريرة.

فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.

قال: فما بلغ مروان أصحاب القطن حتى مات أبو هريرة.

وقال يعقوب بن سفيان: عن دحيم، عن الوليد بن جابر، عن عمير بن هانئ.

قال: قال أبو هريرة: اللهم لا تدركني سنة ستين، قال: فتوفي فيها أو قبلها بسنة، وهكذا قال الواقدي: إنه توفي سنة تسع وخمسين، عن ثمان وسبعين سنة.

قال الواقدي: وهو الذي صلى على عائشة في رمضان، وعلى أم سلمة في شوال سنة تسع وخمسين، ثم توفي أبو هريرة بعدهما فيها، كذا قال: والصواب أن أم سلمة تأخرت بعد أبي هريرة.

وقد قال غير واحد: إنه توفي سنة تسع وخمسين.

وقيل: ثمان.

وقيل: سبع وخمسين، والمشهور: تسع وخمسين.

قالوا: وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان نائب المدينة، وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد وخلق من الصحابة وغيرهم، وكان ذلك عند صلاة العصر.

وكانت وفاته في داره بالعقيق، فحمل إلى المدينة فصلي عليه، ثم دفن بالبقيع رحمه الله ورضي عنه.

وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، فكتب إليه معاوية: أن انظروا ورثته فأحسن إليهم، واصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، واعمل إليهم معروفا، فإنه كان ممن نصر عثمان، وكان معه في الدار رحمهما الله تعالى.

عبد الله بن المغفل المزني

عدل

وكان أحد البكائين وأحد العشرة الذين بعثهم عمر إلى البصرة ليفقهوا الناس، وهو أول من دخل تستر من المسلمين حين فتحها.

لكن الصحيح ما حكاه البخاري عن مسدد أنه توفي سنة سبع وخمسين.

وقال ابن عبد البر: توفي سنة ستين.

وقال غيره: سنة إحدى وستين فالله أعلم.

ويروى عنه أنه رأى في منامه كأن القيامة قد قامت، وكان هناك مكان من وصل إليه نجا، فجعل يحاول الوصول إليه.

فقيل له: أتريد أن تصل إليه وعندك ما عندك من الدنيا؟

فاستيقظ فعمد إلى عيبة عنده فيها ذهب كثير، فلم يصبح عليه الصباح إلا وقد فرقها في المساكين والمحاويج والأقارب رضي الله عنه.

وفيها توفي عمران بن حصين بن عبيد

عدل

ابن خلف أبو نجيد الخزاعي، أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر، وشهد غزوات، وكان من سادات الصحابة.

استقضاه عبد الله بن عامر على البصرة فحكم له بها، ثم استعفاه فأعفاه، ولم يزل بها حتى مات في هذه السنة.

قال الحسن وابن سيرين البصري: ما قدم البصرة راكب خير منه، وقد كانت الملائكة تسلم عليه، فلما اكتوى انقطع عنه سلامهم، ثم عادوا قبل موته بقليل فكانوا يسلمون عليه رضي الله عنه وعن أبيه.

كعب بن عجزة الأنصاري أبو محمد المدني

عدل

صحابي جليل، وهو الذي نزلت فيه آية الفدية في الحج.

مات في هذه السنة.

وقيل: قبلها بسنة عن خمس أو سبع وسبعين سنة.

معاوية بن خديج

عدل

ابن جفنة بن قتيرة الكندي الخولاني المصري، صحابي على قول الأكثرين، وذكره ابن حبان في التابعين من الثقاة، والصحيح الأول، شهد فتح مصر، وهو الذي وفد إلى عمر بفتح الإسكندرية.

وشهد مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح قتال البربر، وذهبت عينه يومئذ، ووليّ حروبا كثيرة في بلاد المغرب.

وكان عثمانيا في أيام علي ببلاد مصر، ولم يبايع عليا بالكلية.

فلما أخذ معاوية بن أبي سفيان مصر أكرمه ثم استنابه بها بعد عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه ناب بها بعد أبيه سنتين، ثم عزله معاوية، وولى معاوية بن خديج هذا، فلم يزل بمصر حتى مات بها في هذه السنة.

هانئ بن نيار أبو بردة البلوي

عدل

المخصوص بذبح العناق وإجرزائها عن غيرها من الأضاحي، وشهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها، وكانت راية بني حارثة معه يوم الفتح، رضي الله عنه.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين

عدل

ففيها: غزا عبد الرحمن بن أم الحكم بلاد الروم وشتى بها.

وفيها: افتتح المسلمون وعليهم جنادة ابن أبي أمية جزيرة رودس فأقام بها طائفة من المسلمين كانوا أشد شيء على الكفار، يعترضون لهم في البحر، ويقطعون سبيلهم.

وكان معاوية يدر عليهم الأرزاق والأعطيات الجزيلة، وكانوا على حذر شديد من الفرنج، يبيتون في حصن عظيم عنده فيه حوائجهم ودوابهم وحواصلهم، ولهم نواطير على البحر ينذرونهم إن قدم عدو، أو كادهم أحد.

وما زالوا كذلك حتى كانت إمرة يزيد بن معاوية بعد أبيه، فحولهم من تلك الجزيرة، وقد كانت للمسلمين بها أموال كثيرة وزراعات غزيرة.

وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص والي المدينة أيضا، قاله أبو معشر والواقدي.

وفي هذه السنة: توفي جبلة ابن الأيهم الغساني كما ستأتي ترجمته في آخر هذه التراجم

وفيها توفي الربيع بن زياد الحارثي

عدل

اختلف في صحبته، وكان نائب زياد على خراسان، وكان قد ذكر حجر بن عدي فأسف عليه، وقال: والله لو ثارت العرب له لما قتل صبرا، ولكن أقرت العرب فذلت.

ثم لما كان يوم الجمعة دعا الله على المنبر أن يقبضه إليه، فما عاش إلى الجمعة الأخرى.

واستخلف على عمله ابنه عبد الله بن الربيع فأقره زياد على ذلك، فمات بعد ذلك بشهرين، واستخلف على عملهم بخراسان خليد بن عبد الله الحنفي فأقره زياد.

رويفع بن ثابت

عدل

صحابي جليل شهد فتح مصر، وله آثار جيدة في فتح بلاد المغرب، ومات ببرقة واليا من جهة مسلمة بن مخلد نائب مصر.

وفى هذه السنة أيضا: توفي زياد بن أبي سفيان، ويقال له: زياد بن أبيه وزياد بن سمية - وهي أمه - في رمضان من هذه السنة مطعونا.

وكان سبب ذلك أنه كتب إلى معاوية يقول له: إني قد ضبطت لك العراق بشمالي ويميني فارغة، فارع لي ذلك، وهو يعرض له أن يستنيبه على بلاد الحجاز أيضا.

فلما بلغ أهل الحجاز جاؤوا إلى عبد الله بن عمر فشكوا إليه ذلك، وخافوا أن يلي عليهم زياد، فيعسفهم كما عسف أهل العراق.

فقام ابن عمر فاستقبل القبلة فدعا على زياد والناس يؤمنون، فطعن زياد بالعراق في يده فضاق ذرعا بذلك، واستشار شريحا القاضي في قطع يده.

فقال له شريح: إني لا أرى ذلك، فإنه إن لم يكن في الأجل فسحة لقيت الله أجذم قد قطعت يدك خوفا من لقائه، وإن كان لك أجل بقيت في الناس أجذم فيعير ولدك بذلك.

فصرفه عن ذلك، فلما خرج شريح من عنده عاتبه بعض الناس: وقالوا: هلا تركته فقطع يده؟!

فقال: قال رسول الله : «المستشار مؤتمن».

ويقال: إن زيادا جعل يقول: أأنام أنا والطاعون في فراش واحد؟

فعزم على قطع يده، فلما جيء بالمكاوي والحديد خاف من ذلك فترك ذلك.

وذكر أنه جمع مائة وخمسين طبيبا ليداووه مما يجد من الحر في باطنه، منهم ثلاثة ممن كان يطب كسرى بن هرمز، فعجزوا عن رد القدر المحتوم، والأمر المحموم.

فمات في ثالث شهر رمضان في هذه السنة، وقد قام في إمرة العراق خمس سنين.

ودفن بالثوية خارج الكوفة، وقد كان برز منها قاصدا إلى الحجاز أميرا عليها.

فلما بلغ خبر موته عبد الله بن عمر قال: اذهب إليك يا بن سمية، فلا الدنيا بقيت لك، ولا الآخرة أدركت.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني أبي يمن هشام بن محمد، حدثني يحيى بن ثعلبة أبو المقدم الأنصاري، عن أمه، عن عائشة، عن أبيها عبد الرحمن بن السائب الأنصاري.

قال: جمع زياد أهل الكوفة، فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرض عليهم البراءة من علي بن أبي طالب.

قال عبد الرحمن: فإني لمع نفر من أصحابي من الأنصار، والناس في أمر عظيم من ذلك وفي حصر.

قال: فهومت تهويمة - أي: نعست نعسة - فرأيت شيئا أقبل طويل العنق، له عنق مثل عنق البعير، أهدب أهدل فقلت: ما أنت؟

فقال: أنا النقاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب هذا القصر، فاستيقظت فزعا فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟

قالوا: لا! فأخبرتهم، وخرج علينا خارج من القصر فقال: إن الأمير يقول لكم: انصرفوا عني: فإني عنكم مشغول.

وإذا الطاعون قد أصابه.

وروى ابن أبي الدنيا: أن زيادا لما ولي الكوفة سأل عن أعبدها فدل على رجل يقال له: أبو المغيرة الحميري، فجاء به فقال له: إلزم بيتك ولا تخرج منه، وأنا أعطيك من المال ما شئت.

فقال: لو أعطيتني ملك الأرض ما تركت خروجي لصلاة الجماعة.

فقال: الزم الجماعة ولا تتكلم بشيء.

فقال: لا أستطيع ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأمر به فضربت عنقه.

ولما احتضر قال له ابنه: يا أبة قد هيأت لك ستين ثوبا أكفنك فيها.

فقال: يا بني، قد دنا من أبيك أمر إما لباس خير من لباسه، وإما سلب سريع.

وهذا غريب جدا.

صعصعة بن ناجية

عدل

ابن عفان بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، كان سيدا في الجاهلية وفي الإسلام.

يقال: أنه أحيى في الجاهلية ثلثمائة وستين موؤدة.

وقيل: أربعمائة.

وقيل: ستا وتسعين موؤدة.

فلما أسلم قال له رسول الله : «لك أجر ذلك إذ منّ الله عليك بالإسلام».

ويروى عنه: أنه أول ما أحيى الموؤدة أنه ذهب في طلب ناقتين شردتا له.

قال: فبينما أنا في الليل أسير، إذ أنا بنار تضيء مرة وتخبو أخرى.

فجعلت لا أهتدي إليها، فقلت: اللهم لك علي إن أوصلتني إليها أن أدفع عن أهلها ضيما إن وجدته بهم.

قال: فوصلت إليها وإذا شيخ كبير يوقد نارا، وعنده نسوة مجتمعات، فقلت: ما أنتن؟

فقلن: إن هذه امرأة قد حبستنا منذ ثلاث، تطلق ولم تخلص.

فقال الشيخ صاحب المنزل: وما خبرك؟

فقلت: إني في طلب ناقتين ندّتا لي.

فقال: قد وجدتهما، إنهما لفي إبلنا.

قال: فنزلت عنده.

قال: فما هو إلا أن نزلت إذ قلن: وضعت.

فقال الشيخ: إن كان ذكرا فارتحلوا، وإن كان أنثى فلا تسمعنني صوتها.

فقلت: علام تقتل ولدك ورزقه على الله؟

فقال: لا حاجة لي بها.

فقلت: أنا أفتديها منك وأتركها عندك حتى تبين عنك، أو تموت.

قال: بكم؟

قلت: بإحدى ناقتي.

قال: لا!.

قلت: فبهما.

قال: لا: إلا أن تزيدني بعيرك هذا فإني أراه شابا حسن اللون.

قلت: نعم على أن تردني إلى أهلي.

قال: نعم.

فلما خرجت من عندهم رأيت أن الذي صنعته نعمة من الله منَّ بها علي هداني إليها، فجعلت لله عليّ أن لا أجد موؤدة إلا افتديتها كما افتديت هذه.

قال: فما جاء الإسلام حتى أحييت مائة موؤدة إلا أربعا، ونزل القرآن بتحريم ذلك على المسلمين.

وممن توفي في هذه السنة من المشاهير المذكورين

جبلة بن الأيهم الغساني

عدل

ملك نصارى العرب وهو جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر، واسمه المنذر بن الحارث.

وهو: ابن مارية ذات القرطين.

وهو: ابن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، واسمه: كعب أبو عامر بن حارثة بن امرئ القيس، ومارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة.

ويقال غير ذلك في نسبه، وكنيته جبلة أبو المنذر الغساني الجفني، وكان ملك غسان، وهم نصارى العرب أيام هرقل.

وغسان أولاد عم الأنصار أوسها وخزرجها، وكان جبلة آخر ملوك غسان، فكتب إليه رسول الله ، كتابا مع شجاع بن وهب يدعوه إلى الإسلام فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله .

وقال ابن عساكر: إنه لم يسلم قط، وهكذا صرح به الواحدي وسعيد بن عبد العزيز.

وقال الواقدي: شهد اليرموك مع الروم أيام عمر بن الخطاب ثم أسلم بعد ذلك في أيام عمر، فاتفق أنه وطء رداء رجل من مزينة بدمشق، فلطمه ذلك المزني، فدفعه أصحاب جبلة إلى أبي عبيدة فقالوا: هذا لطم جبلة.

قال أبو عبيدة: فيلطمه جبلة.

فقالوا: أو ما يقتل؟.

قال: لا!.

قالوا: فما تقطع يده؟.

قال: لا، إنما أمر الله بالقود.

فقال جبلة: أترون أني جاعل وجهي بدلا لوجه مازني جاء من ناحية المدينة؟ بئس الدين هذا.

ثم ارتد نصرانيا، وترحل بأهله حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر فشق عليه وقال لحسان: إن صديقك جبلة ارتد عن الإسلام.

فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم قال: ولِمَ؟

قال: لطمه رجل من مزينة.

فقال: وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه.

ورواه الواقدي عن معمر وغيره، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، وساق ذلك بأسانيده إلى جماعة من الصحابة.

وهذا القول هو أشهر الأقوال.

وقد روى ابن الكلبي وغيره: أن عمر لما بلغه إسلام جبلة فرح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة.

وقيل: بل استأذنه جبلة في القدوم عليه فأذن له، فركب في خلق كثير من قومه.

قيل: مائة وخمسين راكبا.

فلما سلم على عمر رحب به عمر وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر في هذه السنة، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطء إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل.

ومن الناس من يقول: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري إلى عمر ومعه خلق كثير من بني فزارة، فاستحضره عمر فاعترف جبلة.

فقال له عمر: أقدته منك؟

فقال: كيف، وأنا ملك وهو سوقة؟.

فقال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقوى.

فقال جبلة: قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.

فقال عمر: دع ذاعنك، فإنك إن لم ترضِ الرجل أقدته منك.

فقال: إذا أتنصر.

فقال: إن تنصرت ضربت عنقك.

فلما رأى الحد قال: سأنظر في أمري هذه الليلة، فانصرف من عند عمر، فلما ادلهمّ الليل ركب في قومه ومن أطاعه فسار إلى الشام ثم دخل بلاد الروم ودخل على هرقل في مدينة القسطنطينية، فرحب به هرقل وأقطعه بلادا كثيرة، وأجرى عليه أرزاقا جزيلة، وأهدى إليه هدايا جميلة، وجعله من سمّاره، فمكث عنده دهرا.

ثم إن عمر كتب كتابا إلى هرقل مع رجل يقال له: جثامة بن مساحق الكناني.

فلما بلغ هرقل كتاب عمر بن الخطاب قال له هرقل: هل لقيت ابن عمك جبلة؟.

قال: لا!.

قال: فالقه، فذكر اجتماعه به وما هو فيه من النعمة والسرور والحبور الدنيوي، في لباسه وفرشه ومجلسه وطيبه وجواريه، حواليه الحسان من الخدم والقيان، ومطعمه وشرابه وسروره وداره التي تعوض بها عن دار الإسلام.

وذكر أنه دعاه إلى الإسلام والعود إلى الشام فقال: أبعد ما كان مني من الارتداد؟.

فقال: نعم! إن الأشعث بن قيس ارتد وقاتلهم بالسيوف، ثم لما رجع إلى الحق قبله منه وزوجه الصديق بأخته أم فروة.

قال: فالتهى عنه بالطعام والشراب، وعرض عليه الخمر فأبى عليه، وشرب جبلة من الخمر شيئا كثيرا حتى سكر، ثم أمر جواريه المغنيات فغنينه بالعيدان من قول حسان يمدح بني عمه من غسان، والشعر في والد جبلة هذا الحيوان:

لله در عصابةٍ نادمتهم * يوما بجلق في الزمان الأول

أولاد جفنة حول قبر أبيهم * قبر ابن مارية الكريم المفضل

يسقون من ورد البريص عليهم * بردى يصفّق بالرحيق السلسل

بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم * شم الأنوف من الطراز الأول

يغشون حتى ما تهر كلابهم * لا يسألون عن السواد المقبل

قال: فأعجبه قولهن ذلك.

ثم قال: هذا شعر حسان بن ثابت الأنصاري فينا وفي ملكنا.

ثم قال لي: كيف حاله؟

قلت: تركته ضريرا شيخا كبيرا.

ثم قال لهن: أطربنني، فاندفعن يغنين لحسان أيضا:

لمن الديار أوحشت بمغان * بين أعلا اليرموك فالصمان

فالقريات من بلامس فداريـ*ـا فكساء لقصور الدواني

فقفا جاسمٍ فأودية الصـ*ـفر مغنى قبائلٍ وهجان

تلك دار العزيز بعد أنيسٍ * وحلوكٍ عظيمة الأركان

صلوات المسيح في ذلك الديـ*ـر دعاء القسيس والرهبان

ذاك مغنى لآل جفنة في الدهـ*ـر محاه تعاقب الأزمان

قد أراني هناك حق مكينٍ * عند ذي التاج مجلسي ومكاني

ثكلت أمهم وقد ثكلتهم * يوم حلوا بحارث الحولاني

وقددنا الفصح فالولائد ينظمـ*ـن سراعا أكلة المرجان

ثم قال: هذا لابن الفريعة حسان بن ثابت فينا وفي ملكنا وفي منازلنا بأكناف غوطة دمشق.

قال: ثم سكت طويلا، ثم قال لهن: بكينني، فوضعن عيدانهن ونكسن رؤوسهن وقلن:

تنصرت الأشراف من عار لطمةٍ * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني فيها اللجاج ونخوةٌ * وبعت بها العين الصحيحة بالعور

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قاله عمر

ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ * وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ * أجالس قومي ذاهب السمع والبصر

أدين بما دانوا به من شريعةٍ * وقد يصبر العود الكبير على الدبر

قال: فوضع يده على وجهه فبكى حتى بلّ لحيته بدموعه وبكيت معه، ثم استدعى بخمسمائة دينار هرقلية فقال: خذ هذه فأوصلها إلى حسان بن ثابت، وجاء بأخرى فقال: خذ هذه لك.

فقلت: لا حاجة لي فيها ولا أقبل منك شيئا وقد ارتددت عن الإسلام.

فيقال: إنه أضافها إلى التي لحسان، فبعث بألف دينار هرقلية، ثم قال له: أبلغ عمر بن الخطاب مني السلام وسائر المسلمين.

فلما قدمت على عمر أخبرته خبره فقال: ورأيته يشرب الخمر؟

قلت: نعم!

قال: أبعده الله، تعجل فانية بباقية فما ربحت تجارته.

ثم قال: وما الذي وجه به لحسان؟

قلت: خمسمائة دينار هرقلية، فدعا حسانا فدفعها إليه، فأخذها وهو يقول:

إن ابن جفنة من بقية معشرٍ * لم يغرهم آباؤهم باللوم

لم ينسني بالشام إذ هو ربها * كلا ولا منتصرا بالروم

يعطي الجزيل ولا يراه عنده * إلا كبعض عطية المحروم

وأتيته يوما فقرب مجلسي * وسقا فرواني من المذموم

ثم لما كان في هذه السنة من أيام معاوية بعث معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري رسولا إلى ملك الروم، فاجتمع بجبلة بن الأيهم، فرأى ما هو فيه من السعادة الدنيوية والأموال من الخدم والحشم والذهب والخيول.

فقال له جبلة: لو أعلم أن معاوية يقطعني أرض البثينة فإنها منازلنا، وعشرين قرية من غوطة دمشق ويفرض لجماعتنا، ويحسن جوائزنا، لرجعت إلى الشام.

فأخبر عبد الله بن مسعدة معاوية بقوله، فقال معاوية: أنا أعطيه ذلك، وكتب إليه كتابا مع البريد بذلك، فما أدركه البريد إلا وقد مات في هذه السنة قبحه الله.

وذكر أكثر هذه الأخبار الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم وأرخ وفاته هذه السنة - أعني: سنة ثلاث وخمسين - وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه فأطال الترجمة وأفاد.

ثم قال في آخرها: بلغني أن جبلة توفي في خلافة معاوية بأرض الروم بعد سنة أربعين من الهجرة.

سنة أربع وخمسين

عدل

ففيها: كان شتى محمد بن مالك بأرض الروم، وغزا الصائفة معن بن يزيد السلمي.

وفيها: عزل معاوية سعيد بن العاص عن إمرة المدينة ورد إليها مروان بن الحكم، وكتب إليه أن يهدم دار سعيد بن العاص، ويصطفي أمواله التي بأرض الحجاز، فجاء مروان إلى دار سعيد ليهدمها فقال سعيد: ما كنت لتفعل ذلك، فقال: إن أمير المؤمنين كتب إليّ بذلك، ولو كتب إليك في داري لفعلته.

فقام سعيد فأخرج إليه كتاب معاوية إليه حين ولاه المدينة أن يهدم دار مروان ويصطفي ماله، وذكر أنه لم يزل يحاجف دونه حتى صرف ذلك عنه، فلما رأى مروان الكتاب إلى سعيد بذلك، ثناه ذلك عن سعيد، ولم يزل يدافع عنه حتى تركه معاوية في داره وأقرّ عليه أمواله.

وفيها: عزل معاوية سمرة بن جندب عن البصرة، وكان زياد استخلفه عليها فأقره معاوية ستة أشهر، وولى عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان.

وروى ابن جرير وغيره عن سمرة أنه قال لما عزله معاوية: لعن الله معاوية لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا. وهذا لا يصح عنه.

وأقر عبد الله بن خالد بن أسيد على نيابة الكوفة، وكان زياد قد استخلفه عليها فأبقاه معاوية.

وقدم في هذه السنة عبيد الله بن زياد على معاوية فأكرمه وسأله عن نواب أبيه على البلاد فأخبره عنهم، ثم ولاه إمرة خراسان وهو ابن خمس وعشرين سنة.

فسار إلى مقاطعته وتجهز من فوره غاديا إليها، فقطع النهر إلى جبال بخارا، ففتح رامس ونصف بيكند - وهما من معاملة بخارا - ولقي الترك هناك فقاتلهم قتالا شديدا وهزمهم هزيمة فظيعة بحيث إن المسلمين أعجلوا امرأة الملك أن تلبس خفيها.

فلبست واحدة وتركت أخرى، فأخذها المسلمون فقوموا جواهرها بمائتي ألف درهم، وغنموا مع ذلك غنائم كثيرة، وأقام عبيد الله بخراسان سنتين.

وفي هذه السنة: حج بالناس مروان بن الحكم نائب المدينة.

وكان على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد.

وقيل: بل كان عليها الضحاك بن قيس، وكان على البصرة عبد الله بن غيلان.

ذكر من توفي فيها من الأعيان:

أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي

عدل

أبو محمد المدني مولى رسول الله وابن مولاه، وحبه وابن حبه، وأمه بركة أم أيمن مولاة رسول الله وحاضنته، ولاه رسول الله الإمرة بعد مقتل أبيه فطعن بعض الناس في إمرته.

فقال رسول الله : «إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمرة أبيه من قبله، وأيم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ بعده».

وثبت في صحيح البخاري عنه أن رسول الله كان يجلس الحسن على فخذه ويجلس أسامة على فخذه الأخرى، ويقول: «اللهم إني أحبهما فأحبهما»، وفضائله كثيرة.

توفي رسول الله وعمره تسع عشرة سنة، وكان عمر إذا لقيه يقول: السلام عليك أيها الأمير.

وصحح أبو عمر بن عبد البر أنه توفي في هذه السنة.

وقال غيره: سنة ثمان، أو تسع وخمسين. وقيل: توفي بعد مقتل عثمان. فالله أعلم.

ثوبان بن مجدد

عدل

مولى رسول الله ، تقدمت ترجمته في مواليه ومن كان يخدمه عليه السلام، أصله من العرب فأصابه سبي فاشتراه رسول الله فأعتقه، فلزم رسول الله سفرا وحضرا.

فلما مات أقام بالرملة، ثم انتقل إلى حمص فابتنى بها دارا ولم يزل بها حتى مات في هذه السنة على الصحيح.

وقيل: سنة أربع وأربعين، وهو غلط.

ويقال: إنه توفي بمصر، والصحيح بحمص.

جبير بن مطعم

عدل

تقدم أنه توفي سنة خمسين.

الحارث بن ربعي

عدل

أبو قتادة الأنصاري، وقال الواقدي: اسمه النعمان بن ربعي.

وقال غيره: عمرو بن ربعي، وهو أبو قتادة الأنصاري السلمي المدني فارس الإسلام، شهد أحدا وما بعدها، وكان له يوم ذي قرد سعي مشكور كما قدمنا هناك.

قال رسول الله : «خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالاتنا سلمة بن الأكوع».

وزعم أبو أحمد الحاكم أنه شهد بدرا وليس بمعروف.

وقال أبو سعيد الخدري: أخبرني من هو خير مني أبو قتادة الأنصاري أن رسول الله قال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية».

قال الواقدي وغير واحد: توفي في هذه السنة - يعني: سنة أربع وخمسين - بالمدينة عن سبعين سنة.

وزعم الهيثم بن عدي وغيره توفي بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي بن أبي طالب، وهذا غريب.

حكيم بن حزام

عدل

ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي، أبو خالد المكي، أمه فاختة بنت زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى.

وعمته خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله ، وأم أولاده سوى إبراهيم.

ولدته أمه في جوف الكعبة قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، وذلك أنها دخلت تزور فضربها الطلق وهي في الكعبة فوضعته على نطع، وكان شديد المحبة لرسول الله .

ولما كان بنو هاشم وبنو المطلب في الشعب لا يبايعوا ولا يناكحوا، كان حكيم يقبل بالعير يقدم من الشام فيشتريها بكمالها، ثم يذهب بها فيضرب أدبارها حتى يلج الشعب يحمل الطعام والكسوة تكرمة لرسول الله ، ولعمته خديجة بنت خويلد.

وهو الذي اشترى زيد بن حارثة فابتاعته منه عمته خديجة فوهبته لرسول الله فأعتقه، وكان اشترى حلة ذي يزن فأهداها لرسول الله فلبسها، قال: فما رأيت شيئا أحسن منه فيها.

ومع هذا ما أسلم إلا يوم الفتح هو وأولاده كلهم.

قال البخاري وغيره: عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، وكان من سادات قريش وكرمائهم وأعلمهم بالنسب، وكان كثير الصدقة والبر والعتاقة، فلما أسلم سأل عن ذلك رسول الله فقال: «أسلمت على ما أسلمت من خير».

وقد كان حكيم شهد مع المشركين بدرا وتقدم إلى الحوض فكاد حمزة أن يقتله، فما سحب إلا سحبا بين يديه، فلهذا كان إذا اجتهد في اليمين يقول: لا والذي نجاني يوم بدر.

ولما ركب رسول الله إلى فتح مكة ومعه الجنود بمر الظهران، خرج حكيم وأبو سفيان يتجسسان الأخبار، فلقيهما العباس، فأخذ أبا سفيان فأجاره، وأخذ له أمانا من رسول الله ، وأسلم أبو سفيان ليلتئذ كرها.

ومن صبيحة ذلك اليوم أسلم حكيم وشهد مع رسول الله حنينا، وأعطاه مائة من الإبل، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه.

ثم قال: «يا حكيم إن هذه المال حلوة خضرة، وإنه من أخذه بسخاوة بورك له فيه، ومن أخذه بإسراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع».

فقال حكيم: والذي بعثك بالحق لا أرزأ بعدك أبدا.

فلم يرزأ أحدا بعده، وكان أبو بكر يعرض عليه العطاء فيأبى، وكان عمر يعرض عليه العطاء فيأبى، فيشهد عليه المسلمين، ومع هذا كان من أغنى الناس.

مات الزبير يوم مات ولحكيم عليه مائة ألف، وقد كان بيده حين أسلم الرفادة ودار الندوة فباعها بعد من معاوية بمائة ألف.

وفي رواية: بأربعين ألف دينار، فقال له ابن الزبير: بعت مكرمة قريش؟

فقال له حكيم: ابن أخي ذهبت المكارم فلا كرم إلا التقوى، يا بن أخي إني اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، ولأشترين بها دارا في الجنة، أشهدك أني قد جعلتها في سبيل الله.

وهذه الدار كانت لقريش بمنزلة دار العدل، وكان لا يدخلها أحد إلا وقد صار سنه أربعين سنة، إلا حكيم بن حزام فإنه دخلها وهو ابن خمس عشرة سنة، ذكره الزبير بن بكار.

وذكر الزبير أن حكيما حج عاما فأهدى مائة بدنة مجللة، وألف شاة، وأوقف معه بعرفات وصيف في أعناقهم أطوقة الفضة، وقد نقش فيها: هؤلاء عتقاء الله عن حكيم بن حزام، فأعتقهم وأهدى جميع تلك الأنعام رضي الله عنه.

توفي حكيم في هذه السنة على الصحيح.

وقيل: غير ذلك وله مائة وعشرون سنة.

حويطب بن عبد العزى العامري

عدل

صحابي جليل، أسلم عام الفتح، وكان قد عمّر دهرا طويلا، ولهذا جعله عمر في النفر الذين جددوا أنصاب الحرم، وقد شهد بدرا مع المشركين، ورأى الملائكة يومئذ بين السماء والأرض، وشهد الحديبية وسعى في الصلح.

فلما كان عمرة القضاء كان هو وسهيل هما اللذان أمرا رسول الله بالخروج من مكة، فأمر بلالا أن لا تغرب الشمس وبمكة أحد من أصحابه.

قال: وفي كل هذه المواطن أهم بالإسلام ويأبى الله إلا ما يريد، فلما كان زمن الفتح خفت خوفا شديدا وهربت فلحقني أبو ذر - وكان لي خليلا في الجاهلية - فقال: يا حويطب مالك؟

فقلت: خائف.

فقال: لا تخف فإنه أبر الناس وأوصل الناس، وأنا لك جار فاقدم معي، فرجعت معه فوقف بي على رسول الله وهو بالبطحاء ومعه أبو بكر وعمر، وقد علمني أبو ذر أن أقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما قلت ذلك قال: حويطب؟

قلت: نعم! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

فقال: الحمد لله الذي هداك.

وسُرَ بذلك واستقرضني مالا فأقرضته أربعين ألفا، وشهدت معه حنينا والطائف، وأعطاني من غنائم حنين مائة بعير.

ثم قدم حويطب بعد ذلك المدينة فنزلها وله بها دار، ولما ولي عليها مروان بن الحكم جاءه حويطب، وحكيم بن حزام، ومخرمة بن نوفل، فسلموا عليه وجعلوا يتحدثون عنده ثم تفرقوا، ثم اجتمع حويطب بمروان يوما آخر فسأله مروان عن عمره فأخبره، فقال له: تأخر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الأحداث.

فقال حويطب: الله المستعان، والله لقد هممت بالإسلام غير مرة كل ذلك يعوقني أبوك يقول تضع شرفك وتدع دين آبائك لدين محدث؟ وتصير تابعا؟

قال: فأسكت مروان وندم على ما كان قال له، ثم قال حويطب: أما كان أخبرك عثمان ما كان لقي من أبيك حين أسلم؟

قال: فازداد مروان غما.

وكان حويطب ممن شهد دفن عثمان، واشترى منه معاوية داره بمكة بأربعين ألف دينار فاستكثرها الناس.

فقال: وما هي في رجل له خمسة من العيال؟

قال الشافعي: كان حويطب جيد الإسلام، وكان أكثر قريش ريعا جاهليا.

وقال الواقدي: عاش حويطب في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، ومات حويطب في هذه السنة بالمدينة وله مائة وعشرون سنة.

وقال غيره: توفي بالشام.

له حديث واحد رواه البخاري، ومسلم، والنسائي من حديث السائب بن يزيد عنه عن عبد الله بن السعدي، عن عمر في العمالة، وهو من عزيز الحديث لأنه اجتمع فيه أربعة من الصحابة رضي الله عنهم.

معبد بن يربوع بن عنكثة

عدل

ابن عامر بن مخزوم، أسلم عام الفتح، وشهد حنينا، وأعطاه رسول الله خمسين من الإبل، وكان اسمه صرما، وفي رواية أصرم، فسماه معبدا.

وكان في جملة النفر الذين أمرهم عمر بتجديد أنصاب الحرم، وقد أصيب بصره بعد ذلك فأتاه عمر يعزيه فيه، رواه البخاري.

قال الواقدي وخليفة وغير واحد: مات في هذه السنة بالمدينة.

وقيل: بمكة وهو ابن مائة وعشرين سنة.

وقيل: أكثر من ذلك.

مرة بن شراحيل الهمداني

عدل

يقال له: مرة الطيب، ومرة الخير.

روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود وغيرهم.

كان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، فلما كبر صلى أربعمائة ركعة، ويقال: إنه سجد حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رُئي في المنام - وقد صار ذلك المكان نورا - فقيل له: أين منزلك؟

فقال: بدار لا يظعن أهلها ولا يموتون.

النعيمان بن عمرو

عدل

ابن رفاعة بن الحر، شهد بدرا وما بعدها، ويقال: إنه الذي كان يؤتى به في الشراب.

فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به!

فقال رسول الله : «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله».

سودة بنت زمعة

عدل

القرشية العامرية، أم المؤمنين، تزوجها رسول الله بعد خديجة، وكانت قبله عند السكران بن عمر وأخي سهيل بن عمرو، فلما كبرت همّ رسول الله بطلاقها.

ويقال: إنه طلقها، فسألته أن يبقيها في نسائه وتهب يومها لعائشة، فقبل ذلك رسول الله حتى أنزل الله: { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزا أَوْ إِعْرَاضا } الآية: 11.

وكانت ذات عبادة وورع وزهادة، قالت عائشة: ما من امرأة أحب إليّ أن أكون في مسلاخها غير أن فيها حدة تسرع منها الفيئة.

ذكر ابن الجوزي وفاتها في هذه السنة، وقال ابن أبي خيثمة: توفيت في آخر خلافة عمر بن الخطاب. فالله أعلم.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين

عدل

فيها: عزل معاوية عبد الله بن غيلان عن البصرة وولى عليها عبيد الله بن زياد، وكان سبب عزل معاوية بن غيلان عن البصرة: أنه كان يخطب الناس فحصبه رجل من بني ضبة فأمر بقطع يده.

فجاء قومه إليه فقالوا له: إنه متى بلغ أمير المؤمنين أنك قطعت يده في هذا الصنع فعل به وبقومه نظير ما فعل بحجر بن عدي، فاكتب لنا كتابا أنك قطعت يده في شبهة، فكتب لهم فتركوه عندهم حينا ثم جاؤوا معاوية فقالوا له: إن نائبك قطع يد صاحبنا في شبهة فأقدنا منه.

قال: لا سبيل إلى القود من نوابي ولكن الدية، فأعطاهم الدية وعزل ابن غيلان.

وقال لهم: اختاروا من تريدون فذكروا رجالا فقال: لا!

ولكن أولي عليكم ابن أخي عبيد الله بن زياد، فولاه فاستخلف ابن زياد على خراسان أسلم بن زرعة، فلم يغز ولم يفتح شيئا، وولى قضاء البصرة لزرارة بن أوفى ثم عزله وولى ابن أذينة، وولى شرطتها عبد الله بن الحصين.

وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم نائب المدينة.

وفيها: عزل معاوية عبد الله بن خالد بن أسيد عن الكوفة وولى عليها الضحاك بن قيس رضي الله عنه.

ذكر من توفي من الأعيان في هذه السنة

أرقم بن أبي الأرقم

عدل

عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أسلم قديما، يقال: سابع سبعة.

وكانت داره كهفا للمسلمين يأوي إليها رسول الله ومن أسلم من قريش، وكانت عند الصفا وقد صارت فيما بعد ذلك للمهدي فوهبها لامرأته الخيزران أم موسى الهادي وهارون الرشيد، فبنتها وجددتها فعرفت بها، ثم صارت لغيرها.

وقد شهد الأرقم بدرا وما بعدها من المشاهد، ومات بالمدينة في هذه السنة، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص أوصى به رضي الله عنهما، وله بضع وثمانون سنة.

سحبان بن زفر بن إياس

عدل

ابن عبد شمس بن الأجب الباهلي الوائلي، الذي يضرب بفصاحته المثل.

فيقال: أفصح من سحبان وائل، ووائل هو ابن معد بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن غيلان بن مضر بن نزار، وباهلة امرأة مالك بن أعصر، ينسب إليها ولدها، وهي باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة.

قال ابن عساكر: سحبان المعروف: بسحبان وائل، بلغني أنه وفد إلى معاوية فتكلم فقال معاوية: أنت الشيخ؟

فقال: إي والله وغير ذلك، ولم يزد ابن عساكر على هذا، وقد نسبه ابن الجوزي في كتابه المنتظم كما ذكرنا.

ثم قال: وكان بليغا بليغا يضرب المثل بفصاحته، دخل يوما على معاوية وعنده خطباء القبائل.

فلما رأوه خرجوا لعلمهم بقصورهم عنه، فقال سحبان:

لقد علم الحي اليمانون أنني * إذا قلت أما بعد أني خطيبها

فقال له معاوية: أخطب!

فقال: أنظروا لي عصى تقيم من أودي.

فقالوا: وماذا تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟

فقال: ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أن قاربت العصر، ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقيت عليه بقية فيه.

فقال معاوية: الصلاة!

فقال: الصلاة أمامك، ألسنا في تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه، وتذكير ووعد ووعيد؟

فقال معاوية: أنت أخطب العرب.

قال: العرب وحدها؟ بل أخطب الجن والإنس.

قال: كذلك أنت.

سعد بن أبي وقاص

عدل

واسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب، أبو إسحاق القرشي الزهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله وهو عنهم راضٍ.

أسلم قديما، قالوا: وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة.

وثبت عنه في الصحيح أنه قال: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام سابع سبعة.

وهو الذي كّوف الكوفة ونفى عنها الأعاجم، وكان مجاب الدعوة، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان فارسا شجاعا من أمراء رسول الله ، وكان في أيام الصديق معظما جليل المقدار، وكذلك في أيام عمر، وقد استنابه على الكوفة، وهو الذي فتح المدائن، وكانت بين يديه وقعة جلولاء.

وكان سيدا مطاعا، وعزله عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة، ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك.

وقد ذكره في الستة أصحاب الشورى، ثم ولاه عثمان بعدها، ثم عزله عنها.

وقال الحميدي: عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: شهد سعد بن أبي وقاص وابن عمر دومة الجندل يوم الحكمين.

وثبت في صحيح مسلم: أن ابنه عمر جاء إليه وهو معتزل في إبله فقال: الناس يتنازعون الإمارة وأنت هاهنا؟

فقال: يا بني إني سمعت رسول الله يقول: «إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي».

قال ابن عساكر: ذكر بعض أهل العلم أن ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص جاءه فقال له: يا عم هاهنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا الأمر.

فقال: أريد من مائة ألف سيفا واحدا إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا، وإذا ضربت به الكافر قطع.

وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: حدثني زكريا بن عمر وأن سعد بن أبي وقاص وفد على معاوية فأقام عنده شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر.

وقال غيره: فبايعه وما سأله سعد شيئا إلا أعطاه إياه.

قال أبو يعلى: حدثنا زهير ثنا إسماعيل بن علية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم.

قال: قال سعد: إني لأول رجل رمى بسهم في المشركين، وما جمع رسول الله أبويه لأحد قبلي.

ولقد سمعته يقول: «إرم فداك أبي وأمي».

وقال أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا إسماعيل، عن قيس سمعت سعد بن مالك يقول: والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله وما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة وهذا السَّمرُ، حتى أن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خِلطٌ.

ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الدين، لقد خبت إذا وضلّ عملي.

وقد رواه شعبة، ووكيع، وغير واحد، عن إسماعيل بن أبي خالد به.

وقال أحمد: حدثنا ابن سعيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن سعد.

قال: جمع لي رسول الله أبويه يوم أُحد.

ورواه أحمد أيضا: عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري.

وقد رواه الليث وغير واحد عن يحيى الأنصاري.

ورواه غير واحد، عن سعيد بن المسيب، عن سعد.

ورواه الناس من حديث عامر بن سعد، عن أبيه.

وفي بعض الروايات: «فداك أبي وأمي».

وفي رواية: فقال: «إرم وأنت الغلام الحزور».

قال سعيد: وكان سعد جيد الرمي.

وقال الأعمش: عن أبي خالد، عن جابر بن سمرة.

قال: أول الناس رمى بسهم في سبيل الله سعد رضي الله عنه.

وقال أحمد: حدثنا وكيع، ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن شداد سمعت عليا يقول: ما سمعت رسول الله يفدي أحدا بأبويه إلا سعد بن مالك، وإني سمعته يقول له يوم أحد: «ارم سعد فداك أمي وأبي».

ورواه البخاري: عن أبي نعيم، عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم به.

ورواه شعبة: عن سعد بن إبراهيم.

ورواه سفيان بن عيينة وغير واحد عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب فذكره.

وقال عبد الرزاق: أنا معمر، عن أيوب أنه سمع عائشة بنت سعد تقول: أنا بنت المهاجر الذي فداه رسول الله بالأبوين.

وقال الواقدي: حدثني عبيدة بن نابل، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها.

قال: لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أُحد فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، حتى كان بعد ذلك فظننت أنه ملك.

وقال أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، ثنا إبراهيم، عن سعد، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاص.

قال: لقد رأيت عن يمين رسول الله وعن يساره يوم أُحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد.

ورواه الواقدي: حدثني إسحاق بن أبي عبد الله، عن عبد العزيز - جد ابن أبي عون - عن زياد مولى سعد، عن سعد قال: رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن رسول الله أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وإني لأراه ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا مرة مسرورا بما ظفره الله عزّ وجلّ.

وقال سفيان: عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، عن أبيه.

قال: اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فيما أصبنا من الغنيمة، فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء.

وقال الأعمش: عن إبراهيم بن علقمة، عن ابن مسعود.

قال: لقد رأيت سعد بن أبي وقاص يوم بدر يقاتل قتال الفارس للراجل.

وقال مالك: عن يحيى بن سعيد، أنه سمع عبد الله بن عامر يقول: قالت عائشة: بات رسول الله أرقا ذات ليلة ثم قال: «ليت رجلا صالحا يحرسني الليلة؟».

قالت: إذ سمعنا صوت السلاح.

فقال: من هذا؟

قال: أنا سعد بن أبي وقاص، أنا أحرسك يا رسول الله.

قالت: فنام رسول الله حتى سمعت غطيطه. أخرجاه من حديث يحيى بن سعيد.

وفي رواية: فدعا له رسول الله ثم نام.

وقال أحمد: حدثنا قتيبة، ثنا رشدين بن سعد، عن يحيى بن الحجاج بن شداد، عن أبي صالح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: «أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة»، فدخل سعد بن أبي وقاص.

وقال أبو يعلى: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الله بن قيس الرقاشي الخراز، بصري: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر.

قال: كنا جلوسا عند رسول الله فقال: «يدخل عليكم من ذا الباب رجل من أهل الجنة».

قال: فليس منا أحد إلا وهو يتمنى أن يكون من أهل بيته، فإذا سعد بن أبي وقاص قد طلع.

وقال حرملة: عن ابن وهب، أخبرني حيوة، أخبرني عقيل، عن ابن شهاب، حدثني من لا أتهم عن أنس بن مالك.

قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله فقال: «يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة»، فاطلع سعد بن أبي وقاص، حتى إذا كان الغد قال رسول الله مثل ذلك.

قال: فاطلع سعد بن أبي وقاص على ترتيبه الأول، حتى إذا كان الغد قال رسول الله مثل ذلك.

قال: فطلع على ترتيبه.

فلما قام رسول الله ثار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني غاضبت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاث ليالٍ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تنحل يميني فعلت.

قال أنس: فزعم عبد الله بن عمرو أنه بات معه ليلة حتى إذا كان الفجر فلم يقم تلك الليلة شيئا، غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله وكبره حتى يقوم مع الفجر، فإذا صلى المكتوبة أسبغ الوضوء وأتمه ثم يصبح مفطرا.

قال عبد الله بن عمرو: فرمقته ثلاث ليال وأيامهن لا يزيد على ذلك، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله، قلت: إنه لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر.

ولكني سمعت رسول الله قال ذلك في ثلاث مرات في ثلاث مجالس: «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة» فاطلعت أنت أولئك المرات الثلاث.

فأردت أن آوي إليك حتى أنظر ما عملك فأقتدي بك لأنال ما نلت، فلم أرك تعمل كثير عمل، ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟

فقال: ما هو إلا الذي رأيت.

قال: فلما رأيت ذلك انصرفت فدعا بي حين وليت، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي سوءا لأحد من المسلمين، ولا أنوي له شرا ولا أقوله.

قال: قلت: هذه التي بلغت بك وهي التي لا أطيق.

وهكذا رواه صالح المزي، عن عمر بن دينار - مولى الزبير - عن سالم، عن أبيه فذكر مثل رواية أنس بن مالك.

وثبت في صحيح مسلم من طريق سفيان الثوري، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد في قوله تعالى: { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } 12 نزلت في ستة، أنا وابن مسعود منهم.

وفي رواية: أنزل الله فيَّ: { وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } 13.

وذلك أنه لما أسلم امتنعت أمه من الطعام والشراب أياما، فقال لها: تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء، إن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فنزلت هذه الآية.

وأما حديث الشهادة للعشرة بالجنة فثبت في الصحيح عن سعيد بن زيد.

وجاء من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة في قصة حراء ذكر سعد بن أبي وقاص منهم.

وقال هشيم وغير واحد: عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر.

قال: كنا مع رسول الله فأقبل سعد فقال رسول الله : «هذا خالي فليرني امرؤ خاله».رواه الترمذي.

وقال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا عبد الوهاب بن الضحاك، ثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التميمي، عن جابر قال: كنا مع رسول الله إذ أقبل سعد فقال: «هذا خالي».

وثبت في الصحيح من حديث مالك وغيره، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه: أن رسول الله جاءه يعوده عام حجة الوداع من وجع اشتد به.

فقلت: يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟

قال: «لا»!

قلت: فالشطر يا رسول الله ؟

قال: «لا»!

قلت: فالثلث؟

قال: «الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك».

قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟

فقال: «إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون».

ثم قال: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خوّلة يرثي له رسول الله أن مات بمكة».

ورواه أحمد: عن يحيى بن سعيد، عن الجعد بن أوس، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها فذكر نحوه، وفيه قال: فوضع يده على جبهته فمسح وجهه وصدره وبطنه وقال: «اللهم اشف سعدا وأتم له هجرته».

قال سعد: فما زلت يخيل إليّ أني أجد برده على كبدي حتى الساعة.

وقال ابن وهب: حدثني موسى بن علي بن رباح، عن أبيه: «أن رسول الله عاد سعدا فقال: «اللهم أذهب عنه البأس، إله الناس، ملك الناس، أنت الشافي لا شافي له إلا أنت، بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من حسد وعين، اللهم أصح قلبه وجسمه، واكشف سقمه وأجب دعوته».

وقال ابن وهب: أخبرني عمر، وعن بكر بن الأشج قال: سألت عامر بن سعد عن قول رسول الله لسعد: «وعسى أن تبقى وينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون».

فقال: أُمِّرَ سعد على العراق فقتل قوما على الردة فضرهم، واستتاب قوما كانوا سجعوا سجع مسيلمة الكذاب فتابوا فانتفعوا به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا المغيرة، ثنا معاذ بن رفاعة، حدثني علي بن زيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة.

قال: جلسنا إلى رسول الله فذكَّرنا ورققنا، فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء وقال: يا ليتني مت، فقال رسول الله : «يا سعد إن كنت للجنة خلقت فما طال عمرك أو حسن من عملك فهو خير لك».

وقال موسى بن عقبة وغيره: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن سعد: إن رسول الله قال: «اللهم سدد رميته وأجب دعوته».

ورواه سيار بن بشير: عن قيس، عن أبي بكر الصديق.

قال: سمعت رسول الله يقول لسعد: «اللهم سدد سهمه وأجب دعوته، وحببه إلى عبادك».

وروي من حديث ابن عباس، وفي رواية محمد بن عائد الدمشقي، عن الهيثم بن حميد، عن مطعم، عن المقدام وغيره أن سعدا قال: يا رسول الله ادع الله أن يجيب دعوتي.

فقال: «إنه لا يستجيب الله دعوة عبد حتى يطيب مطعمه».

فقال: يا رسول الله ادع الله أن يطيب مطعمي، فدعا له».

قالوا: فكان سعد يتورع من السنبلة يجدها في زرعه فيردها من حيث أخذت.

وقد كان كذلك مجاب الدعوة لا يكاد يدعو بدعاء إلا استجيب له، فمن أشهر ذلك ما رُوي في الصحيحين من طريق عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سلمة: أن أهل الكوفة شكوا سعدا إلى عمر في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي.

فقال سعد: أما إني لا آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله أطيل الأوليين وأحذف الأخرتين.

فقال: الظن بك يا أبا إسحاق، وكان قد بعث من يسأل عنه بمحال الكوفة، فجعلوا لا يسألون أهل مسجد إلا أثنوا خيرا، حتى مروا بمسجد لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أبو سعدة أسامة بن قتادة فقال: إن سعدا كان لا يسير في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية القضية.

فبلغ سعدا فقال: اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء وسمعة فأطل عمره، وأدم فقره، وأعمِ بصره، وعرضه للفتن.

قال: فأنا رأيته بعد ذلك شيخا كبيرا قد سقطت حاجباه على عينيه يقف في الطريق فيغمز الجواري فيقال له، فيقول: شيخ مفتون أصابته دعوة سعد.

وفي رواية غريبة أنه أدرك فتنة المختار بن أبي عبيد فقتل فيها.

وقال الطبراني: ثنا يوسف القاضي، ثنا عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن سعيد بن المسيب.

قال: خرجت جارية لسعد يقال لها زبراء، وعليها قميص جديد فكشفتها الريح فشد عليها عمر بالدرة، وجاء سعد ليمنعه فتناوله عمر بالدرة فذهب سعد يدعو على عمر، فناوله الدرة وقال: اقتص مني فعفى عن عمر.

وروي أيضا: أنه كان بين سعد وابن مسعود كلام فهمّ سعد أن يدعو عليه فخاف ابن مسعود وجعل يشتد في الهرب.

وقال سفيان بن عيينة: لما كان يوم القادسية كان سعد على الناس وقد أصابته جراح فلم يشهد يوم الفتح، فقال رجل من بجيلة:

ألم تر أن الله أظهر دينه * وسعد بباب القادسية معصم

فأبنا وقد أيمت نساء كثيرة * ونسوة سعد ليس فيهن أيم

فقال سعد: اللهم اكفنا يده ولسانه، فجاءه سهم غرب فأصابه فخرس ويبست يداه جميعا.

وقد أسند زياد البكائي وسيف بن عمر، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، عن ابن عمر فذكر مثله.

وفيه: ثم خرج سعد فأرى الناس ما به من القروح في ظهره ليعتذر إليهم.

وقال هشيم: عن أبي بلح، عن مصعب بن سعد: أن رجلا نال من علي فنهاه سعد فلم ينته، فقال سعد: أدعو عليك فلم ينته، فدعا الله عليه حتى جاء بعير نادٍ فتخبطه.

وجاء من وجه آخر عن عامر بن سعد: أن سعدا رأى جماعة عكوفا على رجل فأدخل رأسه من بين اثنين فإذا هو يسب عليا وطلحة والزبير، فنهاه عن ذلك فلم ينته، فقال: أدعو عليك، فقال الرجل: تتهددني كأنك نبي؟ فانصرف سعد فدخل دار آل فلان فتوضأ وصلى ركعتين ثم رفع يديه فقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما قد سبق لهم منك سابقة الحسنى، وأنه قد أسخطك سبه إياهم، فاجعله اليوم آية وعبرة.

قال: فخرجت بختية نادة من دار آل فلان لا يردها شيء حتى دخلت بين أضعاف الناس، فافترق الناس فأخذته بين قوائمها، فلم يزل تتخبطه حتى مات.

قال: فلقد رأيت الناس يشتدون وراء سعد يقولون: استجاب الله دعاءك يا أبا إسحاق.

ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب فذكر نحوه.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني الحسن بن داود بن محمد بن المنكدر القرشي، ثنا عبد الرزاق، عن أبيه، عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف: أن امرأة كانت تطلع على سعد فنهاها فلم تنته، فاطلعت يوما وهو يتوضأ، فقال: شاه وجهك، فعاد وجهها في قفاها.

وقال كثير النوري: عن عبد الله بن بديل قال: دخل سعد على معاوية فقال له: مالك لم تقاتل معنا؟

فقال: إني مرت بي ريح مظلمة فقلت: أخ أخ.

فأنخت راحلتي حتى انجلت عني ثم عرفت الطريق فسرت.

فقال معاوية: ليس في كتاب الله أخ أخ.

ولكن قال الله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } 14، فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية.

فقال سعد: ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي».

فقال معاوية: من سمع هذا معك؟

فقال: فلان، وفلان، وأم سلمة.

فقال معاوية: أما إني لو سمعته منه لما قاتلت عليا.

وفي رواية من وجه آخر: أن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجة حجها معاوية، وأنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها فحدثتهما بما حدث به سعد.

فقال معاوية: لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادما لعلي حتى يموت أو أموت.

وفي إسناد هذا ضعف والله أعلم.

وقد روي عن سعد أنه سمع رجلا يتكلم في علي وفي خالد، فقال: إنه لم يبلغ ما بيننا إلى ديننا.

وقال محمد بن سيرين: طاف سعد على تسع جوار في ليلة، فلما انتهى إلى العاشرة أخذه النوم فاستحيت أن توقظه.

ومن كلامه الحسن أنه قال لابنه مصعب: يا بني إذا طلبت شيئا فاطلبه بالقناعة، فإنه من لا قناعة له لم يغنه المال.

وقال حماد بن سلمة عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد.

قال: كان رأس أبي في حجري وهو يقضي فبكيت، فقال: ما يبكيك يا بني؟ والله إن الله لا يعذبني أبدا، وإني من أهل الجنة، إن الله يدين للمؤمنين بحسناتهم فاعملوا لله، وأما الكفار فيخفف عنهم بحسناتهم، فإذا نفدت قال: ليطلب كل عامل ثواب عمله ممن عمل له.

وقال الزهري: لما حضرت سعدا الوفاة، دعا بخلق جبة فقال: كفنوني في هذه فإني لقيت فيها المشركين يوم بدر، وإنما خبأتها لهذا اليوم.

وكانت وفاة سعد بالعقيق خارج المدينة، فحمل إلى المدينة على أعناق الرجال فصلى عليه مروان، وصلى بصلاته أمهات المؤمنين الباقيات الصالحات، ودفن بالبقيع، وكان ذلك في هذه السنة - سنة خمس وخمسين - على المشهور الذي عليه الأكثرون، وقد جاوز الثمانين على الصحيح.

قال علي بن المديني: وهو آخر العشرة وفاة.

وقال غيره: كان آخر المهاجرين وفاة رضي الله عنه وعنهم أجمعين.

وقال الهيثم بن عدي: سنة خمسين.

وقال أبو معشر، وأبو نعيم مغيث بن المحرر: توفي سعد سنة ثمان وخمسين.

زاد مغيث: وفيها: توفي الحسن بن علي، وعائشة، وأم سلمة، والصحيح الأول - خمس وخمسين - قالوا: وكان قصيرا، غليظا، شثن الكفين، أفطس، أشعر الجسد، يخضب بالسواد، وكان ميراثه مائتي ألف وخمسين ألفا.

فضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي

عدل

أول مشاهده أُحد وشهد بيعة الرضوان، ودخل الشام، وتولى القضاء بدمشق في أيام معاوية بعد أبي الدرداء.

قال أبو عبيد: مات سنة ثلاث وخمسين، وقال غيره: سنة سبع وستين.

وقال ابن الجوزي في المنتظم: توفي في هذه السنة والله أعلم.

قثم بن العباس بن عبد المطلب

عدل

كان أشبه الناس برسول الله ، تولى نيابة المدينة في أيام علي، وشهد فتح سمرقند فاستشهد بها.

كعب بن عمرو أبو اليسر

عدل

الأنصاري السلمي، شهد العقبة وبدرا، وأسر يومئذٍ العباس بن عبد المطلب، وشهد ما بعد ذلك من المشاهد كلها مع رسول الله .

قال أبو حاتم وغيره: مات سنة خمس وخمسين، زاد غيره وهو آخر من مات من أهل بدر.

ثم دخلت سنة ست وخمسين

عدل

وذلك في أيام معاوية.

ففيها: شتى جُنادة بن أبي أمية بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن بن مسعود. ويقال:

فيها: غزا في البحر يزيد بن سمرة، وفي البر عياض بن الحارث.

وفيها: اعتمر معاوية في رجب، وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.

وفيها: ولى معاوية سعيد بن عثمان بلاد خراسان، وعزل عنها عبيد الله بن زياد، فسار سعيد إلى خراسان والتقى مع الترك عند صغد سمرقند، فقتل منهم خلقا كثيرا، واستشهد معه جماعة منهم فيما قيل: قثم بن العباس بن عبد المطلب.

قال ابن جرير: سأل سعيد بن عثمان بن عفان معاوية أن يوليه خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد.

فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورقاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه، ولا جازيته بآلائه، وقدمت عليّ هذا - يعني يزيد بن معاوية - وبايعت له، ووالله لأنا خير منه أبا وأما ونفسا.

فقال له معاوية: أما بلاء أبيك عندي فقد يحق علي الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الأمور ولست بلائم لنفسي في التشمير.

وأما فضل أبيك على أبيه، فأبوك والله خير مني وأقرب برسول الله ، وأما فضل أمك على أمه، فما لا ينكر، فإن امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك - يعني أن الغوطة لو ملئت رجالا مثل سعيد بن عثمان - كان يزيد خيرا وأحب إليّ منهم.

فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره، وقد عتب عليك فيَّ فأعتبه.

فولاه حرب خراسان، فأتى سمرقند فخرج إليه أهل الصغد من الترك فقاتلهم وهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا خمسين غلاما يكونون في يده من أبناء عظمائهم، فأقام بالترمذ ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن معه إلى المدينة.

وفيها: دعا معاوية الناس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون ولي عهده من بعده، - وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة بن شعبة - فروى ابن جرير: من طريق الشعبي، أن المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من إمرة الكوفة، فأعفاه لكبره وضعفه، وعزم على توليتها سعيد بن العاص.

فلما بلغ ذلك المغيرة كأنه ندم، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن يسأل من أبيه أن يكون ولي العهد، فسأل ذلك من أبيه.

فقال: من أمرك بهذا؟

قال: المغيرة، فأعجب ذلك معاوية من المغيرة، ورده إلى عمل الكوفة، وأمره أن يسعى في ذلك، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك.

وكتب معاوية إلى زياد يستشيره في ذلك، فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك، وهو عُبيد بن كعب بن النميري - وكان صاحبا أكيدا لزياد - فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أولا.

فكلمه عن زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك، فإن تركه خير له من السعي فيه، فانزجر يزيد عما يريد من ذلك، واجتمع بأبيه واتفقا على ترك ذلك في هذا الوقت.

فلما مات زياد وكانت هذه السنة، شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه، وعقد البيعة لولده يزيد، وكتب إلى الآفاق بذلك، فبايع له الناس في سائر الأقاليم، إلا عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، والحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس.

فركب معاوية إلى مكة معتمرا، فلما اجتاز بالمدينة - مرجعه من مكة - استدعى كل واحد من هؤلاء الخمسة فأوعده وتهدده بانفراده، فكان من أشدهم عليه ردا وأجلدهم في الكلام، عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.

وكان ألينهم كلاما عبد الله بن عمر بن الخطاب.

ثم خطب معاوية وهؤلاء حضور تحت منبره، وبايع الناس ليزيد وهم قعود ولم يوافقوا ولم يظهروا خلافا، لمّا تهددهم وتوعدهم، فاتسقت البيعة ليزيد في سائر البلاد.

ووفدت الوفود من سائر الأقاليم إلى يزيد، فكان فيمن قدم الأحنف بن قيس، فأمره معاوية أن يحادث يزيد، فجلسا ثم خرج الأحنف فقال له معاوية: ماذا رأيت من ابن أخيك؟

فقال: إنا نخاف الله إن كذبنا ونخافكم إن صدقنا، وأنت أعلم به في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، وأنت أعلم به بما أردت، وإنما علينا أن نسمع ونطيع، وعليك أن تنصح للأمة.

وقد كان معاوية لما صالح الحسن عهد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوي، أمر يزيد عند معاوية، ورأى أنه لذلك أهلا، وذاك من شدة محبة الوالد لولده.

ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى.

ولهذا قال لعبد الله بن عمر فيما خاطبه به: إني خفت أن أذر الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راعٍ.

فقال له ابن عمر: إذا بايعه الناس كلهم بايعته ولو كان عبدا مجدع الأطراف.

وقد عاتب معاوية في ولايته يزيد، سعيد بن عثمان بن عفان وطلب منه أن يوليه مكانه.

وقال له سعيد فيما قال: إن أبي لم يزل معتنيا بك حتى بلغت ذروة المجد والشرف، وقد قدمت ولدك عليّ وأنا خير منه أبا وأما ونفسا.

فقال له: أما ما ذكرت من إحسان أبيك إليّ فإنه أمر لا ينكر، وأما كون أبيك خير من أبيه فحق، وأمك قرشية وأمه كلبية فهي خير منها، وأما كونك خيرا منه فوالله لو ملئت إلى الغوطة رجالا مثلك، لكان يزيد أحب إليّ منكم كلكم.

وروينا عن معاوية أنه قال يوما في خطبته: اللهم إن كنت تعلم أني وليته لأنه فيما أراه أهل لذلك فأتمم له ما وليته، وإن كُنت وليته لأني أحبه فلا تتمم له ما وليته.

وذكر الحافظ ابن عساكر: أن معاوية كان قد سمر ليلة فتكلم أصحابه في المرأة التي يكون ولدها نجيبا، فذكروا صفة المرأة التي يكون ولدها نجيبا.

فقال معاوية: وددت لو عرفت بامرأة تكون بهذه المئابة؟.

فقال أحد جلسائه: قد وجدت ذلك يا أمير المؤمنين.

قال: ومن؟

قال: ابنتي يا أمير المؤمنين.

فتزوجها معاوية فولدت له يزيد بن معاوية فجاء نجيبا ذكيا حاذقا.

ثم خطب امرأة أخرى فحظيت عنده وولدت له غلاما آخر، وهجر أم يزيد فكانت عنده في جنب داره، فبينما هو في النظارة ومعه امرأته الأخرى، إذ نظر إلى أم يزيد وهي تسرحه.

فقالت امرأته: قبحها الله وقبح ما تسرح.

فقال: ولم؟ فوالله إن ولدها أنجب من ولدك، وإن أحببت بينت لك ذلك، ثم استدعى ولدها.

فقال له: إن أمير المؤمنين قد عنَّ له أن يطلق لك ما تتمناه عليه فاطلب مني ما شئت.

فقال: أسأل من أمير المؤمنين أن يطلق لي كلابا للصيد وخيلا ورجالا يكونون معي في الصيد.

فقال: قد أمرنا لك بذلك، ثم استدعى يزيد، فقال له كما قال لأخيه.

فقال يزيد: أو يعفيني أمير المؤمنين في هذا الوقت عن هذا؟.

فقال: لا بد لك أن تسأل حاجتك؟.

فقال: أسأل - وأطال الله عمر أمير المؤمنين - أن أكون ولي عهده من بعده، فإنه بلغني أن عدل يوم في الرعية كعبادة خمسمائة عام.

فقال: قد أجبتك إلى ذلك.

ثم قال لامرأته: كيف رأيت؟ فعلمت وتحققت فضل يزيد على ولدها.

وقد ذكر ابن الجوزي في هذه السنة وفاة أم حرام بنت ملحان الأنصارية امرأة عبادة بن عُبادة بن الصامت، والصحيح الذي لم يذكر العلماء غيره أنها توفيت سنة سبع وعشرين، في خلافة عثمان.

وكانت هي وزوجها مع معاوية حين دخل قبرص، وقصتها بغلتها فماتت هناك وقبرها بقبرص.

والعجب أن ابن الجوزي أورد في ترجمتها حديثها المخرج في الصحيحين في قيلولة النبي في بيتها، ورؤياه منامه قوما من أمته يركبون ثبج البحر مثل الملوك على الأسرة غزاة في سبيل الله، وأنها سألته أن يدعو لها أن تكون منهم فدعا لها، ثم نام فرأى كذلك.

فقالت: ادعو الله أن يجعلني منهم.

فقال: «لا! أنت من الأولين».

وهم الذين فتحوا قبرص فكانت معهم، وذلك في سنة سبع وعشرين، ولم تكن من الآخرين الذين غزوا بلاد الروم سنة إحدى وخمسين مع يزيد بن معاوية ومعهم أبو أيوب.

وقد توفي هناك فقبره قريب من سور قسطنطينية وقد ذكرنا هذا مقرارا في دلائل النبوة.

سنة سبع وخمسين

عدل

فيها: كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم، قال الواقدي: وفي شوالها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة، وولى عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، لأنه صارت إليه إمرة المدينة.

وكان على الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان.

قال ابن الجوزي وفيها توفي عثمان بن حنيف الأنصاري الأوسي

عدل

وهو أخو عبادة وسهل ابني حُنيف، بعثه عمر لمساحة خراج السواد بالعراق، واستنابه عمر على الكوفة.

فلما قدم طلحة والزبير صحبة عائشة وامتنع من تسليم دار الإمارة، نتفت لحيته وحواجبه وأشفار عينيه ومُثل به.

فلما جاء علي وسلمه البلد قال له: يا أمير المؤمنين فارقتك ذا لحية واجتمعت بك أمرد.

فتبسم علي رضي الله عنه وقال: لك أجر ذلك عند الله.

وله في المسند والسنن حديث الأعمى الذي سأل رسول الله أن يدعو له ليرد الله عليه ضوء بصره فرده الله عليه.

وله حديث آخر عند النسائي، ولم أر أحدا أرّخ وفاته بهذه السنة سوى ابن الجوزي والله أعلم.

سنة ثمان وخمسين

عدل

فيها: غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم.

قال الواقدي: وفيها: قيل: شتى يزيد بن شجرة في البحر.

وقيل: بل غزا البحر وبلاد الروم جنادة بن أبي أمية.

وقيل: إنما شتى بأرض الروم عمرو بن يزيد الجهني.

قال أبو معشر والواقدي: وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.

وفيها: ولي معاوية الكوفة لعبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، ابن أم الحكم، وأم الحكم هي أخت معاوية، وعزل عنها الضحاك بن قيس، فولى ابن أم الحكم على شرطته زائدة بن قدامة، وخرجت الخوارج في أيام ابن أم الحكم.

وكان رئيسهم في هذه الوقعة حيان بن ضبيان السلمي، فبعث إليهم جيشا فقتلوا الخوارج جميعا، ثم إن ابن أم الحكم أساء السيرة في أهل الكوفة فأخرجوه من بين أظهرهم طريدا، فرجع إلى خاله معاوية فذكر له ذلك.

فقال: لأولينك مصرا هو خير لك، فولاه مصر.

فلما سار إليها تلقاه معاوية بن خديج على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك معاوية، فلعمري لا ندعك تدخلها فتسير فيها، وفينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة.

فرجع ابن أم الحكم إلى معاوية ولحقه معاوية بن خديج وافدا على معاوية، فلما دخل عليه وجد عنده أخته أم الحكم، وهي أم عبد الرحمن الذي طرده أهل الكوفة وأهل مصر، فلما رآه معاوية قال: بخ بخ، هذا معاوية بن خديج.

فقالت أم الحكم: لأمر حبابه، تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.

فقال معاوية بن خديج: على رسلك يا أم الحكم، أما والله لقد تزوجتِ فما أُكرمتِ، وولدتِ فما أنجبتِ، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا أهل الكوفة.

فما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضربا يطأطئ منه رأسه - أو قال: لضربنا ما صاصا منه - وإن كره ذلك الجالس - فالتفت إليها معاوية فقال: كفى.

قصة غريبة

عدل

ذكرها ابن الجوزي في كتابه المنتظم بسنده؛ وهو أن شابا من بني عذرة جرت له قصة مع ابن أم الحكم، وملخصها: أن معاوية بينما هو يوما على السماط إذا شاب من بني عذرة قد تمثل بين يديه فأنشده شعرا مضمونه التشوق إلى زوجته سعاد، فاستدناه معاوية واستحكاه عن أمره.

فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت مزوجا بابنة عمٍ لي، وكان لي إبل وغنم، وأنفقت ذلك عليها.

فلما قل ما بيدي رغب عني أبوها، وشكاني إلى عاملك بالكوفة، ابن أم الحكم، وبلغه جمالها فحبسني في الحديد وحملني على أن أطلقها.

فلما انقضت عدتها أعطاها عاملك عشرة آلاف درهم فزوجه إياها، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحزون الملهوف المكروب، وسند المسلوب، فهل من فرج؟

ثم بكى وأنشأ يقول:

في القلب مني نارٌ * والنار فيها شرار

والجسم مني نحيلٌ * واللون فيه اصفرار

والعين تبكي بشجوٍ * فدمعها مدرار

والحب ذا عبر * فيه الطبيب يحار

حملت فيه عظيما * فما عليه اصطبار

فليس ليلي بليلٍ * ولا نهاري نهار

قال: فرقّ له معاوية وكتب إلى ابن أم الحكم يؤنبه على ذلك ويعيبه عليه، ويأمره بطلاقها قولا واحدا.

فلما جاءه كتاب معاوية تنفس الصعداء وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنة، ثم عرضني على السيف، وجعل يؤامر نفسه على طلاقها فلا يقدر على ذلك ولا تجيبه نفسه، وجعل البريد الذي ورد عليه بالكتاب يستحثه، فطلقها وأخرجها عنه وسيرها مع الوفد إلى معاوية.

فلما وقفت بين يديه رأى منظرا جميلا، فلما استنطقها فإذا أفصح الناس وأحلاهم كلاما، وأكملهم جمالا ودلالا.

فقال لابن عمها: يا أعرابي هل من سلُوٍّ عنها بأفضل الرغبة؟

قال: نعم، إذا فرقت بين رأسي وجسدي ثم أنشأ يقول:

لا تجعلني والأمثال تضرب بي * كالمستغيث من الرمضاء بالنار

اردد سعاد على حيران مكتئبٍ * يمسي ويصبح في همٍ وتذكار

قد شفه قلقٌ ما مثله قلقٌ * وأسعر القلب منه أي إسعار

والله والله لا أنسى محبتها * حتى أغيب في رمسي وأحجاري

كيف السلو وقد هام الفؤاد بها * وأصبح القلب عنها غير صبار؟

فقال معاوية: فإنا نخيرها بيني وبينك وبين ابن أم الحكم فأنشأت تقول:

هذا وإن أصبح في إطارٍ * وكان في نقصٍ من اليسار

أحب عندي من أبي وجاري * وصاحب الدرهم والدينار

أخشى إذا غدرت حر النار

قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم، ومركب ووطاء، ولما انقضت عدتها زوجه بها وسلمها إليه.

حذفنا منها أشعارا كثيرة مطولة.

وجرت في هذه السنة فصول طويلة بين عبيد الله بن زياد والخوارج، فقتل منهم خلقا كثيرا، وجمعا غفيرا، وحبس منهم آخرين، وكان صارما كأبيه مقداما في أمرهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

توفي في هذا العام سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف

عدل

القرشي الأموي، قتل أبوه يوم بدر كافرا، قتله علي بن أبي طالب، ونشأ سعيد في حجر عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وكان عمر سعيد يوم مات رسول الله تسع سنين، وكان من سادات المسلمين والأجواد المشهورين.

وكان جده سعيد بن العاص - ويكنى: بأبي أجنحة - رئيسا في قريش، يقال له: ذو التاج، لأنه كان إذا أعتم لا يعتم أحد يومئذٍ إعظاما له.

وكان سعيد هذا من عمال عمر على السواد، وجعله عثمان فيمن يكتب المصاحف لفصاحته، وكان أشبه الناس لحية برسول الله ، وكان في جملة الاثني عشر رجلا، الذين يستخرجون القرآن ويعلمونه ويكتبونه، منهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت.

واستنابه عثمان على الكوفة بعد عزله الوليد بن عقبة، فافتتح طبرستان وجرجان، ونقض العهد أهل أذربيجان فغزاهم ففتحها.

فلما مات عثمان اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفين، فلما استقر الأمر لمعاوية وفد إليه فعتب عليه فاعتذر إليه فعذره في كلام طويل جدا، وولاّه المدينة مرتين، وعزله عنها مرتين بمروان بن الحكم.

وكان سعيد هذا لا يسبُّ عليا، ومروان يسبّه.

وروى عن النبي ، وعن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعائشة، وعنه ابناه عمرو بن سعيد الأشدق، وأبو سعيد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير وغيرهم، وليس له في المسند ولا في الكتب الستة شيء.

وقد كان حسن السيرة، جيد السريرة، وكان كثيرا ما يجمع أصحابه في كل جمعة فيطعمهم ويكسوهم الحلل، ويرسل إلى بيوتهم بالهدايا والتحف والبر الكثير، وكان يصر الصرر فيضعها بين يدي المصلين من ذوي الحاجات في المسجد.

قال ابن عساكر: وقد كانت له دار بدمشق تعرف بعده بدار نعيم، وحمام نعيم، بنواحي الديماس، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات، وكان كريما جوادا ممدحا.

ثم أورد شيئا من حديثه من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو سعيد الجعفي، ثنا عبد الله بن الأجلح، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه أن سعيد بن العاص قال: إن رسول الله قال: «خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية».

وفي طريق الزبير بن بكار: حدثني رجل، عن عبد العزيز بن أبان، حدثني خالد بن سعيد، عن أبيه، عن ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ببرد.

فقالت: إني نذرت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب.

فقال: «أعطه هذا الغلام» يعني - سعيد بن العاص - وهو واقف، فلذلك سميت الثياب السعيدية.

وأنشد الفرزدق قوله فيه:

ترى الغُرَّ الجحاجح من قريشٍ * إذا ما الخطب في الحدثان عالا

قياما ينظرون إلى سعيد * كأنهم يرون به هلالا

وذكر أن عثمان عزل عن الكوفة المغيرة وولاها سعيد بن أبي وقاص، ثم عزله وولاها الوليد بن عتبة، ثم عزله وولى سعيد بن العاص، فأقام بها حينا، ولم تحمد سيرته فيهم ولم يحبوه.

ثم ركب مالك بن الحارث - وهو الأشتر النخعي - في جماعة إلى عثمان وسألوه أن يعزل عنهم سعيدا فلم يعزله، وكان عنده بالمدينة فبعثه إليهم، وسبق الأشتر إلى الكوفة فخطب الناس وحثهم على منعه من الدخول إليهم، وركب الأشتر في جيش يمنعوه من الدخول.

قيل: تلقوه إلى العذيب، - وقد نزل سعيد بالرعثة - فمنعوه من الدخول إليهم، ولم يزالوا به حتى ردّوه إلى عثمان، وولى الأشتر أبا موسى الأشعري على الصلاة والثغر وحذيفة بن اليمان على الفيء.

فأجاز ذلك أهل الكوفة وبعثوا إلى عثمان في ذلك فأمضاه وسره ذلك فيما أظهره، ولكن هذا كان أول وهن دخل على عثمان.

وأقام سعيد بن العاص بالمدينة حتى كان زمن حصر عثمان فكان عنده بالدار.

ثم لما ركب طلحة والزبير مع عائشة من مكة يريدون قتلة عثمان ركب معهم، ثم انفرد عنهم هو والمغيرة بن شعبة وغيرهما، فأقام بالطائف حتى انقضت تلك الحروب كلها.

ثم ولاه معاوية إمرة المدينة سنة تسع وأربعين، وعزل مروان فأقام سبعا ثم رد مروان.

وقال عبد الملك بن عمير: عن قبيضة بن جابر قال: بعثني زياد في شغل إلى معاوية، فلما فرغت من أموري قلت: يا أمير المؤمنين لمن يكون الأمر من بعدك؟

فسكت ساعة ثم قال: يكون بين جماعة، إما كريم قريش سعيد بن العاص، وإما فتى قريش حياء ودهاء وسخاء، عبد الله بن عامر، وإما الحسن بن علي فرجل سيد كريم.

وإما القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله مروان بن الحكم، وإما رجل فقيه عبد الله بن عمر، وإما رجل يتردد الشريعة مع دواهي السباع ويروغ روغان الثعلب فعبد الله بن الزبير.

وروينا أنه استسقى يوما في بعض طرق المدينة، فأخرج له رجل من دار ماء فشرب، ثم بعد حين رأى ذلك يعرض داره للبيع فسأل عنه لِمَ يبيع داره؟

فقالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فبعث إلى غريمه فقال: هي لك عليّ، وأرسل إلى صاحب الدار فقال: استمتع بدارك.

وكان رجل من القراء الذين يجالسونه قد افتقر وأصابته فاقة شديدة.

فقالت له امرأته: إن أميرنا هذا يوصف بكرم، فلو ذكرت له حالك فلعله يسمح لك بشيء.

فقال: ويحك! لا تحلقي وجهي، فألحت عليه في ذلك، فجاء فجلس إليه، فلما انصرف الناس عنه مكث الرجل جالسا في مكانه.

فقال له سعيد: أظن جلوسك لحاجة؟

فسكت الرجل، فقال سعيد لغلمانه: انصرفوا، ثم قال له سعيد: لم يبق غيري وغيرك، فسكت، فأطفأ المصباح ثم قال له: رحمك الله لست ترى وجهي فاذكر حاجتك.

فقال: أصلح الله الأمير أصابتنا فاقة وحاجة فأحببت ذكرها لك فاستحييت.

فقال له: إذا أصبحت فالق وكيلي فلانا، فلما أصبح الرجل لقي الوكيل فقال له الوكيل: إن الأمير قد أمر لك بشيء فأت بمن يحمله معك.

فقال: ما عندي من يحمله.

ثم انصرف الرجل إلى امرأته فلامها وقال: حملتيني على بذل وجهي للأمير، فقد أمر لي بشيء يحتاج إلى من يحمله.

وما أراه أمر لي إلا بدقيق أو طعام، ولو كان مالا لما احتاج إلى من يحمله، ولأعطانيه.

فقالت له المرأة: فمهما أعطاك فإنه يقوتنا فخذه، فرجع الرجل إلى الوكيل، فقال له الوكيل: إني أخبرت الأمير أنه ليس لك أحد يحمله، وقد أرسل بهؤلاء الثلاثة السودان يحملونه معك، فذهب الرجل.

فلما وصل إلى منزله إذا على رأس كل واحد منهم عشرة آلاف درهم.

فقال للغلمان: ضعوا ما معكم وانصرفوا.

فقالوا: إن الأمير قد أطلقنا لك، فإنه ما بعث مع خادم هدية إلى أحد، إلا كان الخادم الذي يحملها من جملتها.

قال: فحسن حال ذلك الرجل.

وذكر ابن عساكر: أن زياد بن أبي سفيان بعث إلى سعيد بن العاص هدايا وأموالا وكتابا ذكر فيه أنه يخطب إليه ابنته أم عثمان من آمنة بنت جرير بن عبد الله البجلي.

فلما وصلت الهدايا والأموال والكتاب قرأه، ثم فرق الهدايا في جلسائه، ثم كتب إليه كتابا لطيفا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم! قال الله تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } 15 والسلام.

وروينا: أن سعيدا خطب أم كلثوم بنت علي من فاطمة، التي كانت تحت عمر بن الخطاب، فأجابت إلى ذلك وشاورت أخويها فكرها ذلك.

وفي رواية: إنما كره ذلك الحسين وأجاب الحسن، فهيأت دارها ونصبت سريرا وتواعدوا للكتاب، وأمرت ابنها زيد بن عمر أن يزوجها منه، فبعث إليها بمائة ألف.

وفي رواية: بمائتي ألف مهرا، واجتمع عنده أصحابه ليذهبوا معه، فقال: إني أكره أن أخرج أمي فاطمة، فترك التزويج وأطلق جميع ذلك المال لها.

وقال ابن معين، وعبد الأعلى بن حماد: سأل أعرابي سعيد بن العاص فأمر له بخمسمائة.

فقال الخادم: خمسمائة درهم أو دينار؟.

فقال: إنما أمرتك بخمسمائة درهم، وإذ قد جاش في نفسك أنها دنانير فادفع إليه خمسمائة دينار.

فلما قبضها الأعرابي جلس يبكي.

فقال له: مالك؟ ألم تقبض نوالك؟

قال: بلى والله! ولكن أبكي على الأرض كيف تأكل مثلك.

وقال عبد الحميد بن جعفر: جاء رجل في حمالة أربع ديات سأل فيها أهل المدينة، فقيل: له عليك بالحسن بن علي، أو عبد الله بن جعفر، أو سعيد بن العاص، أو عبد الله بن عباس.

فانطلق إلى المسجد فإذا سعيد داخل إليه، فقال: من هذا؟

فقيل: سعيد بن العاص فقصده فذكر له ما أقدمه فتركه حتى انصرف من المسجد إلى المنزل فقال للأعرابي: ائت بمن يحمل معك.

فقال: رحمك الله! إنما سألتك مالا لا تمرا.

فقال: أعرف، ائت بمن يحمل معك؟ فأعطاه أربعين ألفا فأخذها الأعرابي وانصرف ولم يسأل غيره.

وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني أجر لله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأما إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه، أوجاءك مخاطرا لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته.

وقال سعيد: لجليسي علي ثلاث، إذا دنا رحبت به، وإذا جلس أوسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه.

وقال أيضا: يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنيء فتهون عليه.

وفي رواية: فيجترئ عليك.

وخطب يوما فقال: من رزقه الله رزقا حسنا فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لأحد رجلين، إما مصلح فيسعد بما جمعت له وتخيب أنت، والمصلح لا يقل عليه شيء، وإما مفسد فلا يبقى له شيء.

فقال أبو معاوية: جمع أبو عثمان طرف الكلام.

وروى الأصمعي: عن حكيم بن قيس.

قال سعيد بن العاص: موطنان لا أستحي من رفقي فيهما والتأني عندهما، مخاطبتي جاهلا أو سفيها، وعند مسألتي حاجة لنفسي.

ودخلت عليه امرأة من العابدات وهو أمير الكوفة فأكرمها وأحسن إليها، فقالت: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت المنة لك في أعناق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمة جعلك سببا لردها عليه.

وقد كان له عشرة من الولد ذكورا وإناثا، وكانت إحدى زوجاته أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص - أخت مروان بن الحكم - ولما حضرت سعيدا الوفاة جمع بنيه.

وقال لهم: لا يفقدن أصحابي غير وجهي، وصلوهم بما كنت أصلهم به، وأجروا عليهم ما كنت أجري عليهم، واكفوهم مؤنة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه، وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد، فوالله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعا لحاجته أعظم منة عليكم مما تعطونه.

ثم أوصاهم بوصايا كثيرة منها: أن يوفوا ما عليه من الدين والوعود، وأن لا يزوجوا أخواتهم إلا من الأكفاء، وأن يسودوا أكبرهم.

فتكفل بذلك كله ابنه عمرو بن سعيد الأشدق.

فلما دفنه بالبقيع، ثم ركب عمرو إلى معاوية فعزاه فيه واسترجع معاوية وحزن عليه قال: هل ترك من دين عليه؟

قال: نعم!

قال: وكم هو؟

قال: ثلاثمائة ألف درهم، وفي رواية: ثلاث آلاف ألف درهم.

فقال معاوية: هي عليّ!

فقال ابنه: يا أمير المؤمنين، إنه أوصاني أن لا أقضي دينه إلا من ثمن أراضيه، فاشترى منه معاوية أراضي بمبلغ الدين، وسأل منه عمرو أن يحملها إلى المدينة فحملها له، ثم شرع عمرو يقضي ما على أبيه من الدين حتى لم يبق أحد، فكان من جملة من طالبه شاب معه رقعة من أديم فيها عشرون ألفا.

فقال له عمرو: كيف استحققت هذه على أبي؟

فقال الشاب: إنه كان يوما يمشي وحده، فأحببت أن أكون معه حتى يصل إلى منزله، فقال: أبغني رقعة من أدم، فذهبت إلى الجزارين فأتيته بهذه، فكتب لي فيها هذا المبلغ، واعتذر بأنه ليس عنده اليوم شيء.

فدفع إليه عمرو ذلك المال وزاده شيئا كثيرا، ويروى أن معاوية قال لعمرو بن سعيد: من ترك مثلك لم يمت.

ثم قال: رحم الله أبا عثمان، ثم قال: قد مات من هو أكبر مني ومن هو أصغر مني، وأنشد قول الشاعر:

إذا سار من دون امرئ وإمامه * وأوحش من إخوانه فهو سائر

وكانت وفاة سعيد بن العاص في هذه السنة.

وقيل: في التي قبلها وقيل: في التي بعدها.

وقال بعضهم: كانت وفاته قبل عبد الله بن عامر بجمعة.

شداد بن أوس بن ثابت

عدل

ابن المنذر بن حرام، أبو يعلى الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وهو ابن أخي حسان بن ثابت.

وحكى ابن منده: عن موسى بن عقبة أنه قال: شهد بدرا.

قال ابن منده: وهو وهم، وكان من الاجتهاد في العبادة على جانب عظيم، كان إذا أخذ مضجعه تعلق على فراشه ويتقلب عليه ويتلوى كما تتلوى الحية ويقول: اللهم إن خوف النار قد أقلقني، ثم يقوم إلى صلاته.

قال عبادة بن الصامت: كان شداد من الذين أوتوا العلم والحلم.

نزل شداد فلسطين وبيت المقدس، ومات في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة.

وقيل: مات سنة أربع وستين.

وقيل: سنة إحدى وأربعين، فالله أعلم.

عبد الله بن عامر

عدل

ابن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي، ابن خال عثمان بن عفان، ولد في حياة رسول الله وتفل في فيه، فجعل يبتلع ريق رسول الله ، فقال: إنه لمسقاء، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء، وكان كريما ممدحا ميمون النقيبة.

استنابه عثمان على البصرة بعد أبي موسى، وولاه بلاد فارس بعد عثمان بن أبي العاص، وعمره إذ ذاك خمسا وعشرين سنة، ففتح خراسان كلها، وأطراف فارس وسجستان وكرمان وبلا غزنة.

وقتل كسرى ملك الملوك في أيامه - وهو يزدجرد - ثم أحرم عبد الله بن عامر بحجة.

وقيل: بعمرة من تلك البلاد شكرا لله عز وجل، وفرق في أهل المدينة أموالا كثيرةً جزيلةً، وهو أول من لبس الخز بالبصرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وهو أول من اتخذ الحياض بعرفة وأجرى إليها الماء المعين والعين، ولم يزل على البصرة حتى قتل عثمان، فأخذ أموال بيت المال وتلقى بها طلحة والزبير وحضر معهم الجمل.

ثم سار إلى دمشق ولم يسمع له ذكر في صفين، ولكن ولاه معاوية البصرة بعد صلحه مع الحسن، وتوفي في هذه السنة بأرضه بعرفات، وأوصى إلى عبد الله بن الزبير.

له حديث واحد، وليس له في الكتب شيء، وروى مصعب الزبيري عن أبيه، عن حنظلة بن قيس، عن عبد الله بن عامر، أن رسول الله قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد».

وقد زوجه معاوية بابنته هند، وكانت جميلة، فكانت تلي خدمته بنفسها من محبتها له، فنظر يوما في المرآة فرأى صباحة وجهها وشيبة في لحيته فطلقها، وبعث إلى أبيها أن يزوجها بشاب كأن وجهه ورقة مصحف.

توفي في هذه السنة.

وقيل: بعدها بسنة.

عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما

عدل

وهو أكبر ولد أبي بكر الصديق، قاله الزبير بن بكار، قال: وكانت فيه دعابة، وأمه أم رومان، وأم عائشة فهو شقيقها، بارز يوم بدر، وأخذ مع المشركين، وأراد قتل أبيه أبي بكر، فتقدم إليه أبوه أبو بكر فقال له رسول الله : «أمتعنا بنفسك».

ثم أسلم عبد الرحمن بعد ذلك في الهدنة، وهاجر قبل الفتح، ورزقه رسول الله من خيبر كل سنة أربعين وسقا، وكان من سادات المسلمين، وهو الذي دخل على رسول الله يوم مات وعائشة مسندته إلى صدرها، ومع عبد الرحمن سواك رطب فأخذه بصره، فأخذت عائشة ذلك السواك فقضمته وطيبته.

ثم دفعته إلى رسول الله فاستن به أحسن استنان ثم قال: «اللهم في الرفيق الأعلا»، ثم قضى.

قالت: فجمع الله بين ريقي وريقه، ومات بين سحري ونحري، في بيتي ويومي لم أظلم فيه أحدا.

وقد شهد عبد الرحمن فتح اليمامة وقتل يومئذ سبعة، وهو الذي قتل محكم بن الطفيل.

صديق مسيلمة على باطله، كان محكم واقفا في ثلمة حائط فرماه عبد الرحمن فسقط محكم، فدخل المسلمون من الثلمة فخلصوا إلى مسيلمة فقتلوه.

وقد شهد فتح الشام، وكان معظما بين أهل الإسلام ونفل ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام، نفله إياها خالد بن الوليد عن أمر عمر بن الخطاب كما سنذكره مفصلا.

وقد قال عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكر - ولم يجرب عليه كذبة قط - ذكر عنه حكاية: أنه لما جاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة.

قال عبد الرحمن لمروان: جعلتموها والله هرقلية وكسروية - يعني: جعلتم ملك الملك لمن بعده من ولده -.

فقال له مروان: اسكت فإنك أنت الذي أنزل الله فيك { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } 16.

فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أنه أنزل عذري، ويروى أنها بعثت إلى مروان تعتبه وتؤنبه وتخبره بخبر فيه ذم له ولأبيه لا يصح عنها.

قال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه، عن جده.

قال: بعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، فردها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها، وقال: أبيع ديني بدنياي؟

وخرج إلى مكة فمات بها.

وقال أبو زرعة الدمشقي: ثنا أبو مسهر، ثنا مالك قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومة نامها.

ورواه أبو مصعب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد فذكره وزاد: فأعتقت عنه عائشة رقابا.

ورواه الثوري: عن يحيى بن سعيد، عن القاسم فذكره.

ولما توفي كانت وفاته بمكان يقال له الحبشي - على ستة أميال من مكة، وقيل: اثني عشر ميلا - فحمله الرجال على أعناقهم حتى دفن بأعلا مكة.

فلما قدمت عائشة مكة زارته وقالت: أما والله لو شهدتك لم أبكِ عليك، ولو كنت عندك لم أنقلك من موضعك الذي مت فيه، ثم تمثلت بشعر متمم بن نويرة في أخيه مالك: وكنا كند ماني جذيمة برهةً * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكٍ * لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا رواه الترمذي وغيره.

وروى ابن سعد: أن ابن عمر مرة رأى فسطاسا مضروبا على قبر عبد الرحمن - ضربته عائشة بعد ما ارتحلت - فأمر ابن عمر بنزعه وقال: إنما يظله عمله.

وكانت وفاته في هذا العام في قول كثير من علماء التاريخ.

ويقال: إن عبد الرحمن توفي سنة ثلاث وخمسين قاله الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد وأبو عبيد وغير واحد.

وقيل: سنة أربع وخمسين فالله أعلم.

قصته مع ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام

عدل

قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك الحزامي، عن أبيه: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قدم الشام في تجارة - يعني: في زمان جاهليته - فرأى امرأة يقال لها: ليلى ابنة الجودي على طنفسة لها، وحولها ولائدها فأعجبته.

قال ابن عساكر: رآها بأرض بصرى، فقال فيها:

تذكرت ليلى والسماوة دونها * فمال ابنة الجودي ليلى وماليا

وإني تعاطى قلبه حارثية * تؤمن بصرى أوتحل الحوابيا

وإني بلاقيها بلى ولعلها * إن الناس حجوا قابلا أن توافيا

قال: فلما بعث عمر بن الخطاب جيشه إلى الشام قال للأمير على الجيش: إن ظفرت بليلى بنت الجودي عنوة فادفعها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فظفر بها فدفعها إليه فأعجب بها وآثرها على نسائه حتى جعلن يشكونها إلى عائشة، فعاتبته عائشة على ذلك.

فقال: والله كأني أرشف بأنيابها حب الرمان، فأصابها وجع سقط له فوها، فجفاها حتى شكته إلى عائشة، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن، لقد أحببت ليلى فأفرطت، وأبغضتها فأفرطت، فإما أن تنصفها، وإما أن تجهزها إلى أهلها.

قال الزبيري: وحدثني عبد الله بن نافع، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال.

إن عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي حين فتح دمشق، وكانت ابنة ملك دمشق - يعني: ابنة ملك العرب الذين حول دمشق - والله أعلم.

عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب

عدل

القرشي الهاشمي، ابن عم النبي ، وكان أصغر من أخيه عبد الله بسنة، وأمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية.

وكان عبيد الله كريما جميلا وسيما يشبه أباه في الجمال، روينا أن رسول الله كان يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرا صفا ويقول: «من سبق إليّ فله كذا» فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم.

وقد استنابه علي بن أبي طالب في أيام خلافته على اليمن.

وحج بالناس سنة ست وثلاثين وسنة سبع وثلاثين، فلما كان سنة ثمان وثلاثين اختلف هو ويزيد بن سمرة الرهاوي الذي قدم على الحج من جهة معاوية.

ثم اصطلحا على شيبة بن عثمان الحجبي، فأقام للناس الحج عامئذٍ، ثم لما صارت الشوكة لمعاوية تسلط على عبيد الله بسر بن أبي أرطأة فقتل له ولدين، وجرت أمور باليمن قد ذكرنا بعضها.

وكان يقدم هو وأخوه عبد الله المدينة فيوسعهم عبد الله علما، ويوسعهم عبيد الله كرما.

وقد روي أنه نزل في مسير له مع مولى له على خيمة رجل من الأعراب، فلما رآه الأعرابي أعظمه وأجله، ورأى حسنه وشكله، فقال لامرأته: ويحك ماذا عندك لضيفنا هذا؟

فقالت: ليس عندنا إلا هذه الشويهة التي حياة ابنتك من لبنها.

فقال: إنه لا بد من ذبحها.

فقالت: أتقتل ابنتك؟

فقال: وإن فأخذ الشفرة والشاة وجعل يذبحها ويسلخها، وهو يقول مرتجزا:

يا جارتي لا توقظي البنية * إن توقظيها تنتحب عليه

وتنتزع الشفرة من يديه

ثم هيأها طعاما فوضعها بين يدي عبيد الله ومولاه فعشاهما، وكان عبيد الله قد سمع محاورته لامرأته في الشاة، فلما أراد الارتحال قال لمولاه: ويلك ماذا معك من المال؟

فقال: معي خمسمائة دينار فضلت من نفقتك.

فقال: ادفعها إلى الأعرابي.

فقال: سبحان الله! تعطيه خمسمائة دينار، وإنما ذبح لك شاة واحدة تساوي خمسة دراهم؟

فقال: ويحك والله لهو أسخى منا وأجود، لأنا إنما أعطيناه بعض ما نملك، وجاد هو علينا بجميع ما يملك، وآثرنا على مهجة نفسه وولده.

فبلغ ذلك معاوية فقال: لله در عبيد الله من أي بيضة خرج؟ ومن أي شيء درج.

قال خليفة بن خياط: توفي سنة ثمان وخمسين.

وقال غيره: توفي في أيام يزيد بن معاوية.

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: توفي في سنة سبع وثمانين، وكانت وفاته بالمدينة.

وقيل: باليمن، وله حديث واحد.

قال أحمد: ثنا هشيم، ثنا يحيى بن إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس قال: جاءت العميصا - أو الرميصا - إلى رسول الله تشكو زوجها تزعم أنه لا يصل إليها.

فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها، فزعم أنها كاذبة وأنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول.

فقال رسول الله : «ليس لك ذلك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره».

وأخرجه النسائي، عن علي بن حجرة، عن هشيم به وممن توفي فيها.

أم المؤمنين عائشة بنت أبو بكر الصديق

عدل

وزوجة رسول الله ، وأحب أزواجه إليه، المبرّأة من فوق سبع سموات رضي الله عنها، وعن أبيها.

وأمها: هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، تكنى عائشة: بأم عبد الله.

قيل: كناها بذلك رسول الله بابن أختها عبد الله بن الزبير.

وقيل: إنها أسقطت من رسول الله سقطا فسماه عبد الله، ولم يتزوج رسول الله بكرا غيرها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها.

تزوجها بمكة بعد وفاة خديجة، وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حريرة مرتين أو ثلاثا فيقول: هذه زوجتك.

قال: فأكشف عنك فإذا هي أنت، فأقول: «إن يكن هذا من عند الله يمضه» فخطبها من أبيها.

فقال: يا رسول الله أو تحل لك؟

قال: «نعم!»

قال: أولست أخوك؟

قال: «بلى في الإسلام، وهي لي حلال»، فتزوجها رسول الله فحظيت عنده.

وقد قدمنا ذلك في أول السيرة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين.

وقيل: بسنة ونصف.

وقيل: بثلاث سنين، وكان عمرها إذ ذاك ست سنين، ثم دخل بها وهي بنت تسع سنين بعد بدر، في شوال من سنة ثنتين من الهجرة فأحبها.

ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان، غار الله لها فأنزل لها براءتها في عشر آيات من القرآن تتلى على تعاقب الزمان.

وقد ذكرنا ذلك مفصلا فيما سلف، وشرحنا الآيات والأحاديث الواردة في ذلك في غزوة المريسيع، وبسطنا ذلك أيضا في كتاب التفسير بما فيه كفاية ومقنع، ولله الحمد والمنة.

وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها، واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين، هل يكفر من قذفهن أم لا؟

على قولين، وأصحهما أنه يكفر، لأن المقذوفة زوجة رسول الله ، والله تعالى إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله ، فهي وغيرها منهن سواء.

ومن خصائصها: رضي الله عنها أنها كان لها في القسم يومان يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقربا إلى رسول الله ، وأنه مات في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة، عن عائشة، عن النبي : قال: «إنه ليهون عليّ أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة» تفرد به أحمد.

وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة أنه يرتاح لأنه رأى بياض كفها أمامه في الجنة.

ومن خصائصها: أنها أعلم نساء النبي ، بل هي أعلم النساء على الإطلاق.

قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل.

وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة.

وقال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بفقه، ولا طب، ولا شعر من عائشة.

ولم ترو امرأة ولا رجل غير أبي هريرة عن رسول الله من الأحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها.

وقال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما.

رواه الترمذي، وقال أبو الضحى: عن مسروق رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض.

فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث: «خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء» فإنه ليس له أصل ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال: لا أصل له.

ثم لم يكن في النساء أعلم من تلميذاتها عمرة بنت عبد الرحمن، وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة.

وقد تفردت أم المؤمنين عائشة بمسائل عن الصحابة لم توجد إلا عندها، وانفردت باختيارات أيضا، وردت أخبار بخلافها بنوع من التأويل.

وقد جمع ذلك غير واحد من الأئمة، فمن ذلك قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات.

وثبت في صحيح البخاري من حديث أبي عثمان النهدي عن عمرو بن العاص قال:

قلت: يا رسول الله أي الناس أحب عليك؟

قال: «عائشة».

قلت: ومن الرجال؟

قال: «أبوها».

وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي موسى قال: قال رسول الله : «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

وقد استدل كثير من العلماء ممن ذهب إلى تفضيل عائشة على خديجة بهذا الحديث، قال: فإنه دخل فيه سائر النساء الثلاث المذكورات وغيرهن.

ويعضد ذلك أيضا الحديث الذي رواه البخاري، حدثنا إسماعيل بن خليل، ثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: «استأذنت هالة بنت خويلد - أخت خديجة - على رسول الله فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: «اللهم هالة».

قالت عائشة: فغرت وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر الأول، قد أبدلك الله خيرا منها؟

هكذا رواه البخاري، فأما ما يروى فيه من الزيادة: «والله ما أبدلني خيرا منها» فليس يصح سندها.

وقد ذكرنا ذلك مطولا عند وفاة خديجة، وذكرنا حجة من ذهب إلى تفضيلها على عائشة بما أغنى عن إعادته ههنا.

وروى البخاري: عن عائشة، أن النبي قال يوما: «يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام».

فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى.

وثبت في صحيح البخاري أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فاجتمع أزواجه إلى أم سلمة وقلن لها: قولي له يأمر الناس أن يهدوا له حيث كان.

فقالت أم سلمة: فلما دخل عليّ قلت له ذلك فأعرض عني، ثم قلن لها ذلك فقالت له فأعرض عنها، ثم لما دار إليها قالت له، فقال: «يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليّ الوحي في بيت وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها».

وذكر: «أنهن بعثن فاطمة ابنته إليه فقالت: إن نساءك ينشدونك العدل في ابنة أبي بكر بن أبي قحافة.

فقال: «يا بنية ألا تحبين من أحب؟»

قالت: قلت: بلى!.

قال: «فأحبي هذه».

ثم بعثن زينب بنت جحش فدخلت على رسول الله وعنده عائشة فتكلمت زينب ونالت من عائشة، فانتصرت عائشة منها وكلمتها حتى أفحمتها، فجعل رسول الله ينظر إلى عائشة ويقول: «إنها ابنة أبي بكر».

وذكرنا أن عمارا لما جاء يستصرخ الناس ويستفزهم إلى قتال طلحة والزبير أيام الجمل، صعد هو والحسن بن علي على منبر الكوفة، فسمع عمار رجلا ينال من عائشة فقال له: اسكت مقبوحا منبوذا، والله إنها لزوجة رسول الله في الدنيا وفي الآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أو إياها.

وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمر، ثنا زائدة، ثنا عبد الله بن خيثم، حدثني عبد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان - حاجب عائشة -: أنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة فجئت - وعند رأسها عبد الله بن أخيها عبد الرحمن -

فقلت: هذا ابن عباس يستأذن فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال: هذا عبد الله بن عباس يستأذن وهي تموت، فقالت: دعني من ابن عباس.

فقال: يا أماه!! إن ابن عباس من صالح بنيك يسلم عليك ويودعك.

فقالت: ائذن له إن شئت.

قال: فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري.

فقالت: بماذا؟

فقال: ما بينك وبين أن تلقي محمدا والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، وكنت أحب نساء رسول الله إليه، ولم يكن رسول الله يحب إلا طيبا.

وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله وأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم، فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله من الرخصة لهذه الأمة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار.

فقالت: دعني منك يا ابن عباس، والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا.

والأحاديث في فضائلها ومناقبها كثيرة جدا.

وقد كانت وفاتها في هذا العام سنة ثمان وخمسين.

وقيل: قبله بسنة.

وقيل: بعده بسنة، والمشهور في رمضان منه.

وقيل: في شوال، والأشهر ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان.

وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا، وصلى عليها أبو هريرة بعد صلاة الوتر، ونزل في قبرها خمسة، وهم عبد الله، وعروة ابنا الزبير بن العوام، من أختها أسماء بنت أبي بكر، والقاسم، وعبد الله ابنا أخيها محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر.

وكان عمرها يومئذ سبعا وستين سنة، لأنه توفي رسول الله وعمرها ثمان عشرة سنة، وكان عمرها عام الهجرة ثمان سنين أو تسع سنين فالله أعلم، ورضي الله تعالى عن أبيها وعن الصحابة أجمعين.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين

عدل

فيها: شتى عمرو بن مرة الجهني في أرض الروم في البر، قاله الواقدي: ولم يكن فيها غزو في البحر، وقال غيره: بل غزا في البحر عامئذ جنادة بن أبي أمية.

وفيها: عزل معاوية ابن أم الحكم عن الكوفة لسوء سيرته فيهم، وولى عليهم النعمان بن بشير.

وفيها: ولي معاوية عبد الرحمن بن زياد ولاية خراسان وعزل عنها سعيد بن عثمان بن عفان، فصار عبيد الله على البصرة، وأخوه عبد الرحمن هذا على خراسان، وعباد بن زياد على سجستان، ولم يزل عبد الرحمن عليها واليا إلى زمن يزيد، فقدم عليه بعد مقتل الحسين فقال له: كم قدمت به من هذا المال؟

قال: عشرون ألف ألف.

فقال له: إن شئت حاسبناك، وإن شئت سوغناكها وعزلناك عنها، على أن تعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم.

قال: بل سوغها.

وأما عبد الله بن جعفر فأعطيه ما قلت ومثلها معها، فعزله وولى غيره.

وبعث عبد الرحمن بن زياد إلى عبد الله بن جعفر بألف ألف درهم، وقال: خمسمائة ألف من جهة أمير المؤمنين، وخمسمائة ألف من قبلي.

وفي هذه السنة: وفد عبيد الله بن زياد على معاوية ومعه أشراف أهل البصرة والعراق، فاستأذن لهم عبد الله عليه على منازلهم منه، وكان آخر من أدخله على معاوية الأحنف بن قيس، - ولم يكن عبيد الله يجله -

فلما رأى معاوية الأحنف رحّب به وعظمه وأجله وأجلسه معه على السرير، ورفع منزلته، ثم تكلم القوم فأثنوا على عبيد الله والأحنف ساكت.

فقال له معاوية: مالك يا أبا بحر لا تتكلم؟

فقال له: إن تكلمت خالفت القوم.

فقال معاوية: انهضوا فقد عزلته عنكم فاطلبوا واليا ترضونه، فمكثوا أياما يترددون إلى أشراف بني أمية، يسألون كل واحد أن يتولى عليهم فلم يقبل أحد منهم ذلك، ثم جمعهم معاوية فقال: من اخترتم؟

فاختلفوا عليه، والأحنف ساكت.

فقال له معاوية: مالك لا تتكلم؟

فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد غير أهل بيتك فرأيك.

فقال معاوية: قد أعدته إليكم.

وقال ابن جرير: قال الأحنف: يا أمير المؤمنين إن وليت علينا من أهل بيتك فإنا لا نعدل بعبيد الله بن زياد أحدا، وإن وليت علينا من غيرهم فانظر لنا في ذلك.

فقال معاوية: قد أعدته إليكم.

ثم إن معاوية أوصى عبيد الله بن زياد بالأحنف خيرا، وقبح رأيه فيه وفي مباعدته، فكان الأحنف بعد ذلك أخص أصحاب عبيد الله، ولما وقعت الفتنة لم يفِ لعبيد الله غير الأحنف بن قيس والله أعلم.

سنة ستين من الهجرة النبوية

عدل

فيها: كانت غزوة مالك بن عبد الله مدينة سورية.

قال الواقدي: وفيها: دخل جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس.

وفيها: أخذ معاوية البيعة ليزيد من الوفد الذين قدموا صحبة عبيد الله بن زياد إلى دمشق.

وفيها: مرض معاوية مرضه الذي توفي فيه في رجب منها كما سنبينه.

فروى ابن جرير: من طريق أبي مخنف: حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها، دعا ابنه يزيد فقال: يا بني إني قد كفيتك الرحلة والرجال.

ووطأت لك الأشياء، ودللت لك الأعزاء، وأخضعت لك أعناق العرب، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي أسسته إلا أربعة نفر: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.

كذا قال، والصحيح أن عبد الرحمن كان قد توفي قبل موت معاوية بسنتين كما قدمنا، فأما ابن عمر فهو رجل ثقة قد وقدته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك.

وأما الحسين فإن أهل العراق خلفه لا يدعونه حتى يخرجونه عليك، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة، وحقا عظيما.

وأما ابن أبي بكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله، ليست له همة إلا في النساء واللهو.

وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، وإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إربا إربا.

قال غير واحد: فحين حضرت معاوية الوفاة كان يزيد في الصيد، فاستدعى معاوية الضحاك بن قيس الفهري - وكان على شرطة دمشق - ومسلم بن عقبة فأوصى إليهما أن يبلغا يزيد السلام ويقولان له يتوصى بأهل الحجاز، وإن سأله أهل العراق في كل يوم أن يعزل عنهم عاملا ويولي عليهم عاملا فليفعل.

فعزل واحد وأحب إليك من أن يُسل عليك مائة سيف، وأن يتوصى بأهل الشام، وأن يجعلهم أنصاره، وأن يعرف لهم حقهم، ولست أخاف عليه من قريش سوى ثلاثة: الحسين، وابن عمر، وابن الزبير.

ولم يذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا أصح، فأما ابن عمر فقد وقدته العبادة، وأما الحسين فرجل ضعيف، وأرجو أن يكفيكه الله تعالى بمن قتل أباه وخذل أخاه، وإن له رحما ماسة، وحقا عظيما.

وقرابة من محمد ، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فافصح عنه فإني لو صاحبته عفوت عنه.

وأما ابن الزبير: فإنه خب ضب فإن شخص لك فانبذ إليه إلا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل منه، واصفح عن دماء قومك ما استطعت.

وكان موت معاوية لاستهلال رجب من هذه السنة، قاله هشام بن الكلبي.

وقيل: للنصف منه، قاله الواقدي.

وقيل: يوم الخميس لثمان بقين منه، قاله المدائني.

قال ابن جرير: وأجمعوا على أنه هلك في رجب منها، وكان مدة ملكه استقلالا من جمادى سنة إحدى وأربعين حين بايعه الحسن بن علي باذرج، فذلك تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر.

وكان نائبا في الشام عشرين سنة تقريبا.

وقيل: غير ذلك.

وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة.

وقيل: خمسا وسبعين سنة.

وقيل: ثمانيا وسبعين سنة.

وقيل: خمسا وثمانين سنة، وسيأتي بقية الكلام في آخر ترجمته.

وقال أبو السكن زكريا بن يحيى: حدثني عم أبي زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب.

قال: كانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع الفاكه وهند فيه في وقت القائلة.

ثم خرج الفاكه لبعض شأنه، وأقبل رجل ممن كان يغشاه فولج البيت فلما رأى المرأة فيه ولى هاربا، ورآه الفاكه وهو خارج من البيت، فأقبل إلى هند وهي مضطجعة فضربها برجله وقال: من هذا الذي عندك؟

قالت: ما رأيت أحدا ولا انتبهت حتى أنبهتني أنت.

فقال لها: الحقي بأبيك، وتكلم فيها الناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك القالة فأنبئيني نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست إليه من يقتله فينقطع عنك القالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، فعند ذلك حلفت هند لأبيها بما كانوا يحلفون في الجاهلية إنه لكاذب عليها.

فقال عتبة بن ربيعة للفاكه: يا هذا إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، وعار كبير، لا يغسله الماء، وقد جعلتنا في العرب بمكان ذلة ومنقصة، ولولا أنك مني ذو قرابة لقتلتك، ولكن سأحاكمك إلى كاهن اليمن.

فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في بعض جماعة من بني مخزوم -أقاربه - وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، وخرجوا بهند ونسوة معها من أقاربهم، ثم ساروا قاصدين بلاد اليمن.

فلما شارفوا بلاد الكاهن قالوا: غدا نأتي الكاهن، فلما سمعت هند ذلك تنكرت حالها وتغير وجهها، وأخذت في البكاء.

فقال لها أبوها: يا بنية، قد أرى ما بك من تنكر الحال وكثرة البكاء، وما ذاك أراه عندك إلا لمكروه أحدثتيه، وعمل اقترفتيه، فهلا كان هذا قبل أن يشيع في الناس ويشتهر مسيرنا؟

فقالت: والله يا أبتاه ما هذا الذي تراه مني لمكروه وقع مني، وإني لبريئة، ولكن هذا الذي تراه من الحزن وتغير الحال هو أني أعلم أنكم تأتون هذا الكاهن وهو بشر يخطئ ويصيب، وأخاف أن يخطئ في أمري بشيء يكون عاره عليّ إلى آخر الدهر، ولا آمنه أن يسمني ميسما تكون عليّ سبة في العرب.

فقال لها أبوها: لا تخافي فإني سوف أختبره وأمتحنه قبل أن يتكلم في شأنك وأمرك، فإن أخطأ فيما أمتحنه به لم أدعه يتكلم في أمرك.

ثم إنه انفرد عن القوم - وكان راكبا مهرا - حتى توارى عنهم خلف رابية فنزل عن فرسه ثم صفر له حتى أدلى، ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليل المهر، وأوكى عليها بسير حتى أحكم ربطها.

ثم صفر له حتى اجتمع إحليله، ثم أتى القوم فظنوا أنه ذهب ليقضي حاجة له، ثم أتى الكاهن فلما قدموا عليه أكرمهم ونحر لهم.

فقال له عتبة: إنا قد جئناك في أمر، ولكن لا أدعك تتكلم فيه حتى تبين لنا ما خبأت لك، فإني قد خبأت لك خبيئا فانظر ما هو، فأخبرنا به.

قال الكاهن: ثمرة في كمرة.

قال: أريد أبين من هذا

قال: حبات بر في إحليل مهر.

قال: صدقت، فخذ لما جئناك له، انظر في أمر هؤلاء النسوة، فأجلس النساء خلفه وهند معهم لا يعرفها، ثم جعل يدنو من إحداهن فيضرب كتفها ويبريها ويقول: انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها وقال: انهضي حصان رزان، غير رسخا، ولا زانية، ولتلدنّ ملكا يقال له معاوية.

فوثب إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنترت يدها من يده، وقالت له: إليك عني، والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة، والله لأحرصن أن يكون هذا الملك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان بن حرب فجاءت منه بمعاوية هذا.

وفي رواية: أن أباها هو الذي قال للفاكه ذلك والله سبحانه أعلم.

وهذه ترجمة معاوية وذكر شيء من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله

عدل

وهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، القرشي الأموي، أبو عبد الرحمن، خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول رب العالمين.

وأمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.

أسلم معاوية عام الفتح، ورُوي عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية، ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك فقال لي: هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه، فقلت له: لم آلَ نفسي جهدا.

قال معاوية: ولقد دخل عليّ رسول الله مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي فجئته فرحب بي، وكتبت بين يديه.

قال الواقدي: وشهد معه حنينا، وأعطاه مائة من الإبل، وأربعين أوقية من ذهب، وزنها بلال، وشهد اليمامة.

وزعم بعضهم أنه هو الذي قتل مسيلمة، حكاه ابن عساكر، وقد يكون له شرك في قتله، وإنما الذي طعنه وحشي، وجلله أبو دجانة سماك بن خرشة بالسيف.

وكان أبوه من سادات قريش، وتفرد بالسؤدد بعد يوم بدر، ثم لما أسلم حسن بعد ذلك إسلامه، وكان له مواقف شريفة، وآثار محمودة في يوم اليرموك وما قبله وما بعده.

وصحب معاوية رسول الله ، وكتب الوحي بين يديه مع الكتّاب، وروى عن رسول الله أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كان معاوية طويلا، أبيض، جميلا، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب.

حدثني محمد بن يزيد الأزدي، ثنا أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز، عن أبي عبد رب قال: رأيت معاوية يصفر لحيته كأنها الذهب.

وقال غيره: كان أبيض طويلا، أجلح أبيض الرأس واللحية، يخضبهما بالحناء والكتم.

وقد أصابته لوقة في آخر عمره، فكان يستر وجهه ويقول: رحم الله عبدا دعا لي بالعافية، فقد رميت في أحسني وما يبدو مني ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.

وكان حليما وقورا رئيسا سيدا في الناس، كريما عادلا شهما.

وقال المدائني عن صالح بن كيسان قال: رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو صبي صغير، فقال: إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه.

فقالت هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه.

وقال الشافعي: قال أبو هريرة: رأيت هندا بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلاما إن عاش ليسودن قومه.

فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله، وهو معاوية بن أبي سفيان.

وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف قال: نظر أبو سفيان يوما إلى معاوية وهو غلام فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه.

فقالت هند: قومه فقط، ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة.

وكانت هند تحمله وهو صغير وتقول:

إنّ بني معرقٍ كريمٌ * محببٌ في أهله حليم

ليس بفاحشٍ ولا لئيمٌ * ولا ضجورٌ ولا سؤوم

صخر بني فهرٍ به زعيمٌ * لا يخلف الظن ولا يخيم

قال: فلما ولى عمر يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من الشام، خرج إليه معاوية فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت صار ابنك تابعا لابني؟

فقالت: إن اضطربت خيل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني.

فلما مات يزيد بن أبي سفيان سنة بضع عشرة، وجاء البريد إلى عمر بموته، رد عمر البريد إلى الشام بولاية معاوية مكان أخيه يزيد، ثم عزّى أبا سفيان في ابنه يزيد.

فقال: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟

قال: أخوه معاوية.

قال: وصلت رحما يا أمير المؤمنين.

وقالت هند لمعاوية فيما كتبت به إليه: والله يا بني إنه قل أن تلد حرة مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت.

وقال له أبوه: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله، وقصر بنا تأخيرنا فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعا، وقد ولوك جسيما من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس فإن بلغته أورثته عقبك.

فلم يزل معاوية نائبا على الشام في الدولة العمرية والعثمانية مدة خلافة عثمان.

وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرص وسكنها المسلمون قريبا من ستين سنة في أيامه ومن بعده، ولم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها.

فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم.

فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت.

فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة.

ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا.

فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية.

والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو.

وقد ثبت في صحيح مسلم: من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس.

قال: قال أبو سفيان: يا رسول الله ثلاثا أعطنيهن.

قال: «نعم»

قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.

قال: «نعم!»

قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.

قال: «نعم»: وذكر الثالثة، وهو أنه أراد أن يزوج رسول الله بابنته الأخرى عزة بنت أبي سفيان، واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة.

فقال: «إن ذلك لا يحل لي»، وقد تكلمنا على ذلك في جزء مفرد وذكرنا أقوال الأئمة واعتذارهم عنه ولله الحمد.

والمقصود منه: أن معاوية كان من جملة الكتّاب بين يدي رسول الله الذين يكتبون الوحي.

وروى الإمام أحمد، ومسلم، والحاكم في مستدركه من طريق أبي عوانة - الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء، عن ابن عباس.

قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله قد جاء فقلت: ما جاء إلا إليّ، فاختبأت على باب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين، ثم قال: «اذهب فادع لي معاوية» - وكان يكتب الوحي - قال: فذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل.

فأتيت رسول الله فقلت: إنه يأكل.

فقال: «اذهب فادعه»، فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل فأخبرته.

فقال في الثالثة: «لا أشبع الله بطنه».

قال: فما شبع بعدها؛ وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه.

أما في دنياه: فإنه لما صار إلى الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا، ويقول: والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.

وأما في الآخرة: فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة.

أن رسول الله قال: «اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارةً وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة».

فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك.

وقال المسيب بن واضح: عن أبي إسحاق الفزاري، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.

قال: أتى جبريل إلى رسول الله فقال: يا محمد أقرئ معاوية السلام واستوص به خيرا؛ فإنه أمين الله على كتابه ووحيه ونعم الأمين.

ثم أورده ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الملك بن أبي سليمان، ثم أورده أيضا من رواية علي، وجابر بن عبد الله: أن رسول الله استشار جبريل في استكتابه معاوية، فقال: استكتبه فإنه أمين.

ولكن في الأسانيد إليهما غرابة، ثم أورد عن علي في ذلك غرائب كثيرة عن غيره أيضا.

وقال أبو عوانة: عن سليمان، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو.

قال: كان معاوية يكتب للنبي .

وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد الصيدلاني، ثنا السري، عن عاصم، ثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه هشام بن عروة، عن عائشة.

قالت: لما كان يوم أم حبيبة من النبي ، دق الباب داق، فقال النبي : «انظروا من هذا؟»

قالوا: معاوية.

قال: «ائذنوا له»، فدخل وعلى أذنه قلم يخط به، فقال: «ما هذا القلم على أذنك يا معاوية؟»

قال: قلم أعددته لله ولرسوله.

فقال له: «جزاك الله عن نبيك خيرا، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله، وما أفعل من صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله، كيف بك لو قمصك الله قمصا» - يعني: الخلافة -؟

فقامت أم حبيبة فجلست بين يديه وقالت: يا رسول الله، وإن الله مقمصه قميصا؟

قال: «نعم! ولكن فيه هنات وهنات».

فقالت: يا رسول الله فادع الله له.

فقال: «اللهم اهده بالهدى، وجنبه الردى، واغفر له في الآخرة والأولى».

قال الطبراني: تفرد به السري، عن عاصم، عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن هشام.

وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث موضوعة، والعجب منه مع حفظه واطلاعه كيف لا ينبه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها، والله الموفق للصواب.

وقد أوردنا من طريق أبي هريرة، وأنس، وواثلة بن الأسقع مرفوعا: «الأمناء ثلاثة: جبريل، وأنا، ومعاوية».

ولا يصح من جميع وجوهه.

ومن رواية ابن عباس: «الأمناء سبعة: القلم، واللوح، وإسرافيل، وميكائيل، وجبريل، وأنا، ومعاوية».

وهذا أنكر من الأحاديث التي قبله، وأضعف إسنادا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية - يعني: ابن صالح - عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رهم، عن العرباض بن سارية السلمي.

قال: سمعت رسول الله يدعونا إلى السحور في شهر رمضان: «هلم إلى الغداء المبارك»، ثم سمعته يقول: «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب»، تفرد به أحمد.

ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي.

وكذلك رواه أسد بن موسى، وبشر بن السري، وعبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح بإسناده مثله.

وفي رواية بشر بن السري: «وأدخله الجنة».

ورواه ابن عدي وغيره من حديث عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عن عطاء، عن ابن عباس.

قال: قال رسول الله : «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب».

وقال محمد بن سعد: ثنا سليمان بن حرب والحسين بن موسى الأشيب قال: ثنا أبو هلال محمد بن سليم، ثنا جبلة بن عطية، عن مسلمة بن مخلد.

وقال الأشهب: قال أبو هلال: أو عن رجل عن مسلمة بن مخلد، وقال سليمان بن حرب: أو حدثه مسلمة عن رجل أنه رأى معاوية يأكل، فقال لعمرو بن العاص: إن ابن عمك هذا لمخضد.

قال: أما إني أقول لك هذا وقد سمعت رسول الله يقول: «اللهم علمه الكتاب ومكن له في البلاد وقه العذاب».

وقد أرسله غير واحد من التابعين منهم الزهري، وعروة بن رويم، وجرير بن عثمان الرحبي الحمصي، ويونس بن ميسرة بن حلبس.

وقال الطبراني: ثنا أبو زرعة، وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الدمشقيان قالا: ثنا أبو مسهر، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني - وكان من أصحاب النبي - أن رسول الله قال لمعاوية: «اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب».

قال ابن عساكر: وهذا غريب، والمحفوظ بهذا الإسناد حديث العرباض الذي تقدم.

ثم روي من طريق الطبراني، عن أبي زرعة، عن أبي مسهر، عن سعيد، عن ربيعة، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني.

قال: سمعت رسول الله يقول لمعاوية: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به».

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن بحر، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، عن النبي أنه ذكر معاوية فقال: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به».

وهكذا رواه الترمذي: عن محمد بن يحيى، عن أبي مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز به.

وقال: حسن غريب.

وقد رواه عمر بن عبد الواحد، ومحمد بن سليمان الحراني، كما رواه الوليد بن مسلم، وأبو مسهر، عن سعيد، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة.

ورواه محمد بن المصفى، عن مروان بن محمد الطاطري، عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن ابن أبي عميرة: أن رسول الله دعا لمعاوية فقال: «اللهم علمه العلم، واجعله هاديا مهديا، واهده واهد به».

وقد رواه سلمة بن شبيب، وصفوان بن صالح، وعيسى بن هلال، وأبو الأزهر، عن مروان الطاطري، ولم يذكر أبا إدريس في إسناده.

ورواه الطبراني: عن عبدان بن أحمد، عن علي بن سهل الرملي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني.

أنه سمع رسول الله وذكر معاوية فقال: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهده».

قال ابن عساكر: وقول الجماعة هو الصواب.

وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث وأطنب فيه، وأطيب وأطرب، وأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد، فرحمه الله، كم له من موطن قد تبرز فيه على غيره من الحفاظ والنقاد.

وقال الترمذي: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني قال: لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن الشام وولى معاوية، قال للناس: عزل عمر عميرا وولى معاوية.

فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله يقول: «اللهم اهد به».

تفرد به الترمذي، وقال: غريب.

وعمرو بن واقد ضعيف، هكذا ذكره أصحاب الأطراف في مسند عمير بن سعد الأنصاري.

وعندي: أنه ينبغي أن يكون من رواية عمر بن الخطاب، ويكون الصواب فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلا بخير، ليكون عذرا له في توليته له.

ومما يقوي هذا أن هشام بن عمار قال: حدثنا ابن أبي السائب - وهو عبد العزيز بن الوليد بن سليمان - قال: وسمعت أبي يذكر أن عمر بن الخطاب ولى معاوية بن أبي سفيان فقالوا: ولى حدث السن.

فقال: تلومونني في ولايته، وأنا سمعت رسول الله يقول: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به».

وهذا منقطع يقويه ما قبله.

قال الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا نعيم بن حماد، ثنا محمد بن شعيب بن سابور، ثنا مروان بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الله بن بسر أن رسول الله : استشار أبا بكر وعمر في أمر، فقال: «أشيروا عليَّ».

فقالا: الله ورسوله أعلم.

فقال: «ادعوا معاوية؟».

فقال أبو بكر وعمر: أما في رسول الله ورجلين من رجال قريش ما يتقنون أمرهم، حتى يبعث رسول الله إلى غلام من غلمان قريش؟

فقال: «ادعو لي معاوية».

فدعي له، فلما وقف بين يديه قال رسول الله : «أحضروه أمركم وأشهدوه أمركم، فإنه قوي أمين».

ورواه بعضهم: عن نعيم وزاد: «وحملوه أمركم».

ثم ساق ابن عساكر أحاديث كثيرة موضوعة بلا شك في فضل معاوية، أضربنا عنها صفحا، واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصحاح والحسان والمستجادات عما سواها من الموضعات والمنكرات.

ثم قال ابن عساكر: وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي جمرة، عن ابن عباس: أنه كان كاتب النبي منذ أسلم.

أخرجه مسلم في صحيحه.

وبعده حديث العرباض: «اللهم علم معاوية الكتاب».

وبعده حديث ابن أبي عمير: «اللهم اجعله هاديا مهديا».

قلت: وقد قال البخاري في كتاب المناقب: ذكر معاوية بن أبي سفيان: حدثنا الحسن بن بشر، ثنا المعافى، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: أوتر معاوية بركعة بعد العشاء، فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله .

حدثنا ابن أبي مريم: ثنا نافع بن عمر، ثنا ابن أبي مليكة.

قال: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟

فإنه ما أوتر إلا بواحدة!

قال: أصاب، إنه فقيه.

ثنا عمرو بن عباس، ثنا جعفر، ثنا شعبة، عن أبي التياح قال: سمعت حمران، عن أبان، عن معاوية.

قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما - يعني: الركعتين بعد العصر -.

ثم قال البخاري بعد ذلك: ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة: حدثنا عبدان، ثنا عبد الله يونس، عن الزهري حدثني عروة أن عائشة قالت: «جاءت هند بنت عتبة - امرأة أبي سفيان إلى رسول الله - فقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إليّ من أن يذلُّوا من أهل خبائك.

ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك.

فقال: «وأيضا والذي نفسي بيده».

فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مِسِّيك، فهل عليّ من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟

قال: «لا إلا بالمعروف».

فالمدحة في قوله: «وأيضا والذي نفسي بيده»، وهو أنه كان يود أن هندا وأهلها وكل كافر يذلوا في حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحب أن يعزوا فأعزهم الله - يعني: أهل خبائها -.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، ثنا أبو أمية، عمرو بن يحيى بن سعيد قال: سمعت جدي يحدث: أن معاوية أخذ الأداوة بعد أبي هريرة فتبع رسول الله بها - وكان أبو هريرة قد اشتكى - فبينما هو يوضئ رسول الله إذ رفع رأسه إليه مرة أو مرتين وهو يتوضأ فقال: «يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل».

قال معاوية: فما زلت أظن أني سأبتلي بعملٍ لقول النبي حتى ابتليت. تفرد به أحمد.

ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي إسحاق الهمذاني، سعيد بن زنبور بن ثابت، عن عمرو بن يحيى بن سعيد.

ورواه ابن منده من حديث بشر بن الحكم، عن عمرو بن يحيى به.

وقال أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده عن معاوية قال: اتبعت رسول الله بوضوء، فلما توضأ نظر إليّ فقال: «يا معاوية إن وليت أمرا فاتق واعدل».

فما زلت أظن أني مبتلى بعمل حتى وليت.

ورواه غالب القطان عن الحسن.

قال: سمعت معاوية يخطب وهو يقول: صببت يوما على رسول الله وضوءه، فرفع رأسه إليّ فقال: «أما إنك ستلي أمر أمتي بعدي، فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم».

وقال: فما زلت أرجو حتى قمت مقامي هذا.

وروى البيهقي عن الحاكم بسنده إلى إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير.

قال قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله : «إن ملكت فأحسن».

قال البيهقي: إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف، إلا أن للحديث شواهد.

وروى ابن عساكر بإسناده عن نعيم بن حماد: ثنا محمد بن حرب، عن أبي بكر بن أبي مريم، ثنا محمد بن زياد، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: بينما أنا راقد في كنيسة يوحنا - وهي يومئذٍ مسجد يصلى فيها - إذا انتبهت من نومي فإذا أنا بأسد يمشي بين يدي، فوثبت إلى سلاحي، فقال الأسد: مه! إنما أرسلت إليك برسالة لتبلغها.

قلت: ومن أرسلك؟

قال: الله أرسلني إليك لتبلغ معاوية السلام وتعلمه أنه من أهل الجنة.

فقلت له: ومن معاوية؟

قال: معاوية بن أبي سفيان.

ورواه الطبراني عن أبي يزيد القراطيسي عن المعلى بن الوليد القعقاعي، عن محمد بن حبيب الخولاني، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، وفيه ضعف وهذا غريب جدا، ولعل الجميع مناما، ويكون قوله إذا انتبهت من نومي مدرجا لم يضبطه ابن أبي مريم، والله أعلم.

وقال محمد بن عائذ: عن الوليد، عن ابن لهيعة، عن يونس، عن الزهري قال: قدم عمر الجابية فنزع شرحبيل وأمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، ونفى الشام على أميرين أبي عبيدة ويزيد، ثم توفي أبو عبيدة فاستخلف عياض بن غنم، ثم توفي يزيد فأمر معاوية مكانه، ثم نعاه عمر لأبي سفيان، فقال لأبي سفيان: احتسب يزيد بن أبي سفيان.

قال: من أمرت مكانه؟

قال: معاوية.

فقال: وصلت رحما يا أمير المؤمنين، فكان معاوية على الشام وعمير بن سعد حتى قتل عمر رضي الله عنهم.

وقال محمد بن إسحاق: مات أبو عبيدة في طاعون عمواس واستخلف معاذا، فمات معاذ واستخلف يزيد بن أبي سفيان فمات، واستخلف أخاه معاوية فأقره عمر، وولى عمرو بن العاص فلسطين والأردن، ومعاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولى سعد بن عامر بن جذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية بن أبي سفيان، ثم أمره عثمان بن عفان على الشام.

وقال إسماعيل بن أمية: أفرد عمر معاوية بإمرة الشام، وجعل له في كل شهر ثمانين دينارا.

والصواب أن الذي جمع لمعاوية الشام كلها عثمان بن عفان، وأما عمر فإنه إنما ولاه بعض أعمالها.

وقال بعضهم: لما عزيت هند في يزيد بن أبي سفيان - ولم يكن منها - قيل لها: إنه قد جعل معاوية أميرا مكانه، فقالت: أو مثل معاوية يجعل خلفا من أحد؟ فوالله لو أن العرب اجتمعت متوافرة ثم رُمي به فيها لخرج من أي أعراضها - نواحيها - شاء.

وقال آخرون: ذكر معاوية عند عمر، فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها، إنه لمن يضحك في الغضب ولا ينال منه إلا على الرضا، ومن لا يؤخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن قدامة الجوهري، حدثني عبد العزيز بن يحيى، عن شيخ له.

قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا من عمر قال له: أنت صاحب الموكب؟

قال: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟

قال: هو ما بلغك من ذلك.

قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافيا إلى بلاد الحجاز.

قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت.

فقال له عمر: يا معاوية ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقا إنه لرأي أريت، ولئن كان باطلا إنه لخديعة أديت.

قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت.

قال: لا آمرك ولا أنهاك.

فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه؟!

فقال عمر: لحسن موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه.

وفي رواية: أن معاوية تلقى عمر حين قدم الشام، ومعاوية في موكب كثيف، فاجتاز بعمر وهو وعبد الرحمن بن عوف راكبان على حمار، ولم يشعر بهما، فقيل له: إنك جاوزت أمير المؤمنين، فرجع، فلما رأى عمر ترجل وجعل يقول له ما ذكرنا.

فقال عبد الرحمن بن عوف: ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين؟!

فقال: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه.

وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: أخبرنا محمد بن ذئب، عن مسلم بن جندب، عن أسلم مولى عمر قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض نص وبّاص؛ أبضّ الناس وأجملهم.

فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه فيعجب منه، ثم يضع أصبعه على متن معاوية ثم يرفعها عن مثل الشراك، فيقول: بخ بخ، نحن إذا خير الناس، أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة.

فقال معاوية: يا أمير المؤمنين سأحدثك إنا بأرض الحمامات والريف والشهوات.

فقال عمر: سأحدثك ما بك إلا إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك، وذووا الحاجات وراء الباب.

فقال: يا أمير المؤمنين علمني امتثل.

قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحا كأنه ريح طيب.

فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجا مقلا حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما؟!.

فقال معاوية: إنما لبستهما لأدخل فيهما على عشيرتي وقومي، والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام، فالله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه، ثم نزع معاوية ثوبيه ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني أبي، عن هشام بن محمد، عن أبي عبد الرحمن المدني.

قال: كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.

وهكذا حكى المدائني عن عمر أنه قال ذلك.

وقال عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي، عن جده.

قال: دخل معاوية على عمر وعليه حلة خضراء؛ فنظر إليها الصحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدرة فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين الله الله فيّ.

فرجع عمر إلى مجلسه فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين؟ وما في قومك مثله؟

فقال: والله ما رأيت إلا خيرا، وما بلغني إلا خير، ولو بلغني غير ذلك لكان مني إليه غير ما رأيتم، ولكن رأيته - وأشار بيده - فأحببت أن أضع منه ما شمخ.

وقد قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا يحيى بن حمزة، ثنا ابن أبي مريم: أن القاسم بن مخيمرة أخبره، أن أبا مريم الأزدي أخبره.

قال: دخلت على معاوية فقال: ما أنعمنا بك أبا فلان - وهي كلمة تقولها العرب - فقلت: حديث سمعته أخبرك به، سمعت رسول الله يقول: «من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره».

قال: فجعل معاوية حين سمع هذا الحديث رجلا على حوائج الناس. ورواه الترمذي وغيره.

وقال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، ثنا حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز.

قال: خرج معاوية على الناس فقاموا له.

فقال: سمعت رسول الله يقول: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار».

وفي رواية: قال: خرج معاوية على ابن عامر وابن الزبير، فقام له ابن عامر ولم يقم له ابن الزبير.

فقال معاوية لابن عامر: اجلس! فإني سمعت رسول الله يقول: «من أحب أن يتمثل له العباد قياما فليتبوأ مقعده من النار».

ورواه أبو داود والترمذي من حديث حبيب بن الشهيد. وقال الترمذي: حديث حسن.

وروى أبو داود من حديث الثوري، عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد المقري الحمصي، عن معاوية.

قال: قال رسول الله : «إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم».

قال: كلمة سمعها معاوية نفعه الله بها.

تفرد به أحمد - يعني: أنه كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير الستر رحمه الله تعالى - وثبت في الصحيحين من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن معاوية.

أنه قال: سمعت رسول الله يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون».

وفي رواية: «وهم على ذلك».

وقد خطب معاوية بهذا الحديث مرة ثم قال: وهذا مالك بن يخامر يخبر عن معاذ أن رسول الله قال وهم بالشام - يحث بهذا أهل الشام على مناجزة أهل العراق: «وإن أهل الشام هم الطائفة المنصورة على من خالفها» وهذا مما كان يحتج به معاوية لأهل الشام في قتالهم أهل العراق.

وقال الليث بن سعد: فتح معاوية قيسارية سنة تسع عشرة في دولة عمر بن الخطاب.

وقال غيره: وفتح قبرص سنة خمس.

وقيل: سبع.

وقيل: ثمان وعشرين في أيام عثمان.

قالوا: وكان عام غزوة المضيق - يعني: مضيق القسطنطينية - في سنة ثنتين وثلاثين في أيامه، وكان هو الأمير على الناس عامئذ.

وجمع عثمان لمعاوية جميع الشام.

وقيل: إن عمر هو الذي جمعها له، والصحيح: عثمان.

واستقضى معاوية فضالة بن عبيد بعد أبي الدرداء، ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان، على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم كما قدمنا، وكان الحق والصواب مع علي، ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفا وخلفا، وقد شهدت الأحاديث الصحيحة بالإسلام للفريقين من الطرفين - أهل العراق وأهل الشام -كما ثبت في الحديث الصحيح: «تمرق مارقة على خير فُرقة من المسلمين، فيقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق» فكانت المارقة الخوارج وقتلهم علي وأصحابه.

ثم قُتل علي، فاستقل معاوية بالأمر سنة إحدى وأربعين، وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، ويأمر رجلا من قومه فيحج بالناس، وحج هو سنة خمسين، وحج ابنه يزيد سنة إحدى وخمسين.

وفيها: أوفى التي بعدها أغزاه بلاد الروم، فسار معه خلق كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القسطنطينية.

وقد ثبت في الصحيح: «أول جيش يغزو القسطنطينة مغفور لهم».

وقال وكيع: عن الأعمش، عن أبي صالح.

قال: كان الحادي يحدو بعثمان فيقول:

إن الأمير بعده عليٌ * وفي الزبير خلفٌ مرضيُ

فقال كعب: بل هو صاحب البغلة الشهباء - يعني: معاوية -.

فقال: يا أبا إسحاق تقول هذا وههنا علي والزبير وأصحاب محمد ؟.

فقال: أنت صاحبها.

ورواه سيف عن بدر بن الخليل، عن عثمان بن عطية الأسدي، عن رجل من بني أسد.

قال: ما زال معاوية يطمع فيها منذ سمع الحادي في أيام عثمان يقول:

إن الأمير بعده عليٌ * وفي الزبير خلفٌ مرضيُ

فقال كعب: كذبت! بل صاحب البغلة الشهباء بعده - يعني: معاوية - فقال له معاوية في ذلك فقال: نعم! أنت الأمير بعده، ولكنها والله لا تصل إليك حتى تكذب بحديثي هذا، فوقعت في نفس معاوية.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عباد المكي، ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي هارون قال:

قال عمر: إياكم والفرقة بعدي، فإن فعلتم فإن معاوية بالشام، وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها دونكم.

ورواه الواقدي من وجه آخر: عن عمر رضي الله عنه.

وقد روى ابن عساكر عن عامر الشعبي: أن عليا حين بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية قبل وقعة صفين - وذلك حين عزم علي على قصد الشام، وجمع الجيوش لذلك -.

وكتب معه كتابا إلى معاوية يذكر له فيه أنه قد لزمته بيعته، لأنه قد بايعه المهاجرون والأنصار، فإن لم تبايع استعنت بالله عليك وقاتلتك.

وقد أكثرت القول في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب الله، في كلام طويل.

وقد قدمنا أكثره، فقرأه معاوية على الناس وقام جرير فخطب الناس، وأمر في خطبته معاوية بالسمع والطاعة، وحذره من المخالفة والمعاندة، ونهاه عن إيقاع الفتنة بين الناس، وأن يضرب بعضهم بعضا بالسيوف.

فقال معاوية: انتظر حتى آخذ برأي أهل الشام، فلما كان بعد ذلك أمر معاوية مناديا فنادى في الناس: الصلاة جامعة.

فلما اجتمع الناس صعد المنبر فخطب فقال: الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا، والشرائع للإيمان برهانا، يتوقد مصباحه بالسنة في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده، فأحلها أهل الشام ورضيهم لها، ورضيها لهم؛ لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابين عن دينه وحرماته.

ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما، وفي أعلام الخير عظاما، يردع الله بهم الناكثين، ويجمع بهم الألفة بين المؤمنين، والله نستعين على إصلاح ما تشعث من أمور المسلمين، وتباعد بينهم بعد القرب والألفة، اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائما، ويخيفون آمنا، ويريدون هراقة دمائنا، وإخافة سبلنا.

وقد يعلم الله أنا لا نريد لهم عقابا، ولا نهتك لهم حجابا، غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى، وقد علمنا أن الذي حملهم على خلافنا البغي والحسد لنا، فالله نستعين عليهم.

أيها الناس: قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أقم رجلا منكم على خزائه قط، وإني ولي عثمان وابن عمه.

قال الله تعالى في كتابه: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا } 17 وقد علمتم أنه قتل مظلوما، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.

فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلب بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني الله أرواحهم قبل ذلك.

فلما رأى جرير من طاعة أهل الشام لمعاوية ما رأى، أفزعه ذلك، وعجب منه.

وقال معاوية لجرير: إن ولاني عليّ الشام ومصر بايعته على أن لا يكون لأحد بعده على بيعة.

فقال: اكتب إلى علي بما شئت، وأنا أكتب معك، فلما بلغ عليا الكتاب قال: هذه خديعة، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدا } 18.

ثم كتب إلى جرير بالقدوم عليه، فما قدم إلا وقد اجتمعت العساكر إلى علي.

وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص - وكان معتزلا بفلسطين حين قتل عثمان - وكان عثمان قد عزله عن مصر فاعتزل بفلسطين، فكتب إليه معاوية يستدعيه ليستشيره في أموره، فركب إليه فاجتمعا على حرب علي.

وقد قال عقبة بن أبي معيط في كتاب معاوية إلى علي حين سأله نيابة الشام ومصر، فكتب إلى معاوية يؤنبه ويلومه على ذلك ويعرض بأشياء فيه:

معاوي إن الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا

فإن عليا ناظر ما تجيبه * فأهد له حربا يشيب النواصيا

وحام عليها بالقتال وبالقنا * ولا تكُ مخشوش الذراعين وانيا

وإلاّ فسلم إن في الأمن راحةً * لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وإن كتابا يا بن حربٍ كتبته * على طمع جانٍ عليك الدواهيا

سألت عليا فيه ما لا تناله * ولو نلته لم يبق إلا لياليا

إلى أن ترى منه الذي ليس بعدها * بقاءٌ فلا تكثر عليك الأمانيا

ومثل علي تغترره بخدعةٍ * وقد كان ما خربت من قبل بانيا

ولو نشبت أظفاره فيك مرةً * فراك ابن هندٍ بعد ما كنت فاريا

وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: أنت تنازع عليا أم أنت مثله؟

فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، وأنا أطلب بدمه وأمره إليَّ؟

فقولوا له: فليسلم إليَّ قتلة عثمان، وأنا أسلم له أمره.

فأتوا عليا فكلموه في ذلك فلم يدفع إليهم أحدا، فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية.

وعن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، وأبي جعفر الباقر.

قال: بعث علي رجلا إلى دمشق ينذرهم أن عليا قد نهد في أهل العراق إليكم ليستعلم طاعتكم لمعاوية، فلما قدم أمر معاوية فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فملأوا المسجد، ثم صعد المنبر فقال في خطبته: إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق فما الرأي؟

فضرب كل منهم على صدره، ولم يتكلم أحد منهم، ولا رفعوا إليه أبصارهم، وقام ذو الكلاع فقال: يا أمير المؤمنين عليك الرأي وعلينا الفعال.

ثم نادى معاوية في الناس: أن أخرجوا إلى معسكركم في ثلاث، فمن تخلف بعدها فقد أحل بنفسه، فاجتمعوا كلهم، فركب ذلك الرجل إلى علي فأخبره.

فأمر علي مناديا فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فقال: إن معاوية قد جمع الناس لحربكم، فما الرأي؟

فقال كل فريق منهم مقالة، واختلط كلام بعضهم في بعض، فلم يدر علي مما قالوا شيئا، فنزل عن المنبر وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله بها ابن آكلة الأكباد.

ثم كان من أمر الفريقين بصفين ما كان، كما ذكرناه مبسوطا في سنة ست وثلاثين.

وقد قال أبو بكر بن دريد: أنبأنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة.

قال: قال معاوية: لقد وضعت رجلي في الركاب وهممت يوم صفين بالهزيمة، فما منعني إلا قول ابن الأطنابة حيث يقول:

أبت لي عفتي وأبي بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإكراهي على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي

وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: الخلفاء أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.

فقيل له: فمعاوية؟

قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي، رحم الله معاوية.

وقال علي بن المديني: سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما كانت في علي خصلة تقصر به عن الخلافة، ولم يكن في معاوية خصلة ينازع بها عليا.

وقيل لشريك القاضي: كان معاوية حليما؟

فقال: ليس بحليم من سفه الحق وقاتل عليا.

رواه ابن عساكر.

وقال سفيان الثوري: عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه ذكر معاوية وأنه لبى عشية عرفة فقال فيه قولا شديدا، ثم بلغه أن عليا لبى عشية عرفة فتركه.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني عباد بن موسى، ثنا علي بن ثابت الجزري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عمر بن عبد العزيز.

قال: رأيت رسول الله في المنام، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينما أنا جالس إذ أُتي بعلي ومعاوية، فأدخلا بيتا وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة.

ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة.

وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي، أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية.

فقال له: ولم؟

قال: لأنه قاتل عليا.

فقال له أبو زرعة: ويحك إن معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما.

وسئل الإمام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية فقرأ: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 19.

وكذا قال غير واحد من السلف.

وقال الأوزاعي: سئل الحسن عما جرى بين علي وعثمان فقال: كانت لهذا سابقة ولهذا سابقة، ولهذا قرابة ولهذا قرابة، فابتلى هذا وعوفي هذا.

وسئل عما جرى بين علي ومعاوية فقال: كانت لهذا قرابة ولهذا قرابة، ولهذا سابقة ولم يكن لهذا سابقة، فابتلينا جميعا.

وقال كلثوم بن جوشن: سأل النضر أبو عمر الحسن البصري فقال: أبو بكر أفضل أم علي؟

فقال: سبحان الله ولا سواء، سبقت لعلي سوابق يشركه فيها أبو بكر، وأحدث علي حوادث لم يشركه فيها أبو بكر، أبو بكر أفضل.

قال: فعمر أفضل أم علي؟

فقال: مثل قوله في أبي بكر، ثم قال: عمر أفضل.

ثم قال: عثمان أفضل أم علي؟

فقال: مثل قوله الأول، ثم قال: عثمان أفضل.

قال: فعلي أفضل أم معاوية؟

فقال: سبحان الله ولا سواء، سبقت لعلي سوابق لم يشركه فيها معاوية، وأحدث علي أحداثا شركه فيها معاوية، علي أفضل من معاوية.

وقد رُوي عن الحسن البصري: أنه كان ينقم على معاوية أربعة أشياء: قتاله عليا، وقتله حجر بن عدي، واستلحاقه زياد بن أبيه، ومبايعته ليزيد ابنه.

وقال جرير بن عبد الحميد: عن مغيرة.

قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي.

فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟

فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم.

وفي رواية: أنها قالت له: بالأمس تقاتلنه، واليوم تبكينه؟.

قلت: وقد كان مقتل علي في رمضان سنة أربعين، ولهذا قال الليث بن سعد: إن معاوية بويع له بإيليا بيعة الجماعة، ودخل الكوفة سنة أربعين.

والصحيح الذي قاله ابن إسحاق والجمهور أنه بويع له بإيليا في رمضان سنة أربعين، حين بلغ أهل الشام مقتل علي، ولكنه إنما دخل الكوفة بعد مصالحة الحسن له في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة، وذلك بمكان يقال له: أدرج.

وقيل: بمسكن من أرض سواد العراق من ناحية الأنبار، فاستقل معاوية بالأمر إلى أن مات سنة ستين.

قال بعضهم: كان نقش خاتم معاوية: لكل عمل ثواب.

وقيل: بل كان: لا قوة إلا بالله.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور قالا: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد.

قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة - يعني: خارج الكوفة - الجمعة في الضحى، ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.

رواه محمد بن سعد عن يعلى بن عبيد، عن الأعمش به.

وقال محمد بن سعد: حدثنا عارم، ثنا حماد بن يزيد، عن معمر، عن الزهري، أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه، ثم إنه بَعُدَ عن ذلك.

وقال نعيم بن حماد: حدثنا ابن فضيل، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي، حدثني سفيان بن الليل قال: قلت للحسن بن علي لما قدم من الكوفة إلى المدينة: يا مذل المؤمنين.

قال: لا تقل ذلك، فإني سمعت رسول الله يقول: «لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك معاوية».

فعلمت أن أمر الله واقع، فكرهت أن تهراق بيني وبينه دماء المسلمين.

وقال مجالد: عن الشعبي، عن الحارث الأعور.

قال: قال علي بعد ما رجع من صفين: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل.

وقال ابن عساكر: بإسناده عن أبي داود الطيالسي، ثنا أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله في الخلافة؟

فقالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة، وكذلك غيره من الكفار.

وقال الزهري: حدثني القاسم بن محمد: أن معاوية حين قدم المدينة يريد الحج دخل على عائشة فكلمها خاليين لم يشهد كلامهما أحد، إلا ذكوان أبو عمر عمرو، ومولى عائشة.

فقالت: أمنت أن أخبأ لك رجلا يقتلك بقتلك أخي محمدا؟

فقال: صدقتي، فلما قضى معاوية كلامه معها تشهدت عائشة ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق، والذي سن الخلفاء بعده، وحضّت معاوية على العدل واتباع أثرهم.

فقالت في ذلك: فلم يترك له عذرا، فلما قضت مقالتها قال لها معاوية: أنت والله العالمة العاملة بأمر رسول الله ، الناصحة المشفقة، البلوغة الموعظة، حضضت على الخير، وأمرت به، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا مصلحة، وأنت أهل أن تطاعي.

وتكلمت هي ومعاوية كلاما كثيرا.

فلما قام معاوية اتكأ على ذكوان وقال: والله ما سمعت خطيبا ليس رسول الله أبلغ من عائشة.

وقال محمد بن سعد: حدثنا خالد بن مخلد البجلي، ثنا سليمان بن بلال، حدثني علقمة بن أبي علقمة، عن أمه قالت: قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة فأرسل إلى عائشة أن أرسلي بأنبجانية رسول الله وشعره.

فأرسلت به معي أحمله، حتى دخلت به عليه، فأخذ الانبجانية فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله وشربه وأفاض على جلده.

وقال الأصمعي: عن الهذلي، عن الشعبي قال: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلا أمرك.

فما رد عليهم جوابا حتى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد!

فإني والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه.

وأردتها على عمل ابن الخطاب فكانت أشد نفورا وأعظم هربا من ذلك، وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت عليّ وأين مثل هؤلاء؟

ومن يقدر على أعمالهم؟

هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم؟

رحمة الله ورضوانه عليهم، غير أني سلكت بها طريقا لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك.

ولكل فيه مواكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم.

والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه، فإنها بقاببة قوبها، وإن السيل إذا جاء يبرى، وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فلا تهتموا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستيصال، أستغفر الله لي ولكم، أستغفر الله. ثم نزل.

قال أهل اللغة: القاببة البيضة، والقوب الفرخ، قابت البيضة تقوب إذا انفلقت عن الفرخ -.

والظاهر: أن هذه الخطبة كانت عام حج في سنة أربع وأربعين، أو في سنة خمسين، لا في عام الجماعة.

وقال الليث: حدثني علوان بن صالح بن كيسان أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها.

فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل فسكن عائشة بنت عثمان، وأمرها بالكف وقال لها: يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا.

فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا؟

وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إليّ أن تكوني أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك.

وقد روى ابن عدي من طريق علي بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة عن أبي سعيد، ومن حديث مجالد، وهو ضعيف أيضا، عن أبي الوداك أبي سعيد.

أن رسول الله قال: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه».

وأسنده أيضا من طريق الحكم بن ظهير - وهو متروك - عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود مرفوعا.

وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحا لبادر الصحابة إلى فعل ذلك، لأنهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.

وأرسله عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، قال أيوب: وهو كذب.

ورواه الخطيب البغدادي بإسناد مجهول، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا: «إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه، فإنه أمين مأمون».

وقال أبو زرعة الدمشقي: عن دحيم، عن الوليد، عن الأوزاعي قال: أدركت خلافة معاوية عدة من الصحابة منهم: أسامة، وسعد، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك.

ورجال أكثر وأطيب ممن سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، ومن الدين جديده، وعرفوا من الإسلام ما لم يعرفه غيرهم، وأخذوا عن رسول الله تأويل القرآن.

ومن التابعين لهم بإحسان ما شاء الله، منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن محيريز، وفي أشباه لهم لم ينزعوا يدا من جماعة في أمة محمد .

وقال أبو زرعة: عن دحيم، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز.

قال: لما قتل عثمان لم يكن للناس غازية تغزو، حتى كان عام الجماعة فأغزا معاوية أرض الروم ست عشرة غزوة، تذهب سرية في الصيف ويُشَتُّوا بأرض الروم، ثم تقفل وتعقبها أخرى.

وكان في جملة من أغزى ابنه يزيد ومعه خلق من الصحابة، فجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل بهم راجعا إلى الشام، وكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال: شد خناق الروم.

وقال ابن وهب: عن يونس، عن الزهري قال: حج معاوية بالناس في أيام خلافته مرتين، وكانت أيامه عشرين سنة إلا شهرا.

وقال أبو بكر بن عياش: حج بالناس معاوية سنة أربع وأربعين، وسنة خمسين.

وقال غيره: سنة إحدى وخمسين فالله أعلم.

وقال الليث بن سعد: حدثنا بكير، عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال: ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب - يعني: معاوية -.

وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، ثنا المسور بن مخرمة: أنه وفد على معاوية.

قال: فلما دخلت عليه - حسبت أنه قال: سلمت عليه - فقال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟

قال: قلت: ارفضنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له.

فقال: لتكلمني بذات نفسك.

قال: فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلا أخبرته به.

فقال: لا تبرأ من الذنوب، فهل لك من الذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك؟

قال: قلت: نعم!

إن لي ذنوبا إن لم تغفرها هلكت بسببها.

قال: فما الذي يجعلك أحق بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوالله لما إليّ من إصلاح الرعايا وإقامة الحدود والإصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل الله، والأمور العظام التي لا يحصيها إلا الله ولا نحصيها أكثر مما تذكر من العيوب والذنوب، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيئات.

والله على ذلك ما كنت لأخيَّر بين الله وغيره إلا اخترت الله على غيره مما سواه.

قال: ففكرت حين قال لي ما قال فعرفت أنه قد خصمني.

قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير.

وقد رواه شعيب، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بنحوه.

وقال ابن دريد: عن أبي حاتم عن العتبي قال: قال معاوية: يا أيها الناس!

ما أنا بخيركم وإن منكم لمن هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدركم حلبا.

وقد رواه أصحاب محمد، عن ابن سعد، عن محمد بن مصعب، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن ثابت مولى معاوية: أنه سمع معاوية يقول نحو ذلك.

وقال هشام بن عمار خطيب دمشق: حدثنا عمرو بن واقد، ثنا يونس بن حلبس قال: سمعت معاوية على منبر دمشق يوم جمعة يقول:

أيها الناس اعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطن الله عليكم عدوكم فليسومنكم سوء العذاب.

تصدقوا ولا يقولن الرجل إني مقلٌ، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني، وإياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: سمعت وبلغني، فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا يزيد بن طهمان الرقاشي، ثنا محمد بن سيرين.

قال: كان معاوية إذا حدث عن رسول الله لم يتهم.

ورواه أبو القاسم البغوي: عن سويد بن سعيد، عن همام بن إسماعيل، عن أبي قبيل.

قال: كان معاوية يبعث رجلا يقال له أبو الجيش في كل يوم فيدور على المجالس يسأل هل ولد لأحد مولود؟

أو قدم أحد من الوفود؟

فإذا أخبر بذلك أثبت في الديوان - يعني: ليجري عليه الرزق -.

وقال غيره: كان معاوية متواضعا ليس له مجالد إلا كمجالد الصبيان التي يسمونها المخاريق فيضرب بها الناس.

وقال هشام بن عمار: عن عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس.

قال: رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردف وراءه وصفيا عليه قميص مرقوع الجيب، وهو يسير في أسواق دمشق.

وقال الأعمش: عن مجاهد أنه قال: لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي.

وقال هشيم: عن العوام، عن جبلة بن سحيم، عن ابن عمرو.

قال: ما رأيت أحدا أسود من معاوية.

قال: قلت: ولا عمر؟

قال: كان عمر خيرا منه، وكان معاوية أسود منه.

ورواه أبو سفيان الحيري: عن العوام بن حوشب به.

وقال: ما رأيت أحدا بعد رسول الله أسود من معاوية.

قيل: ولا أبو بكر؟

قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرا منه، وهو أسود.

وروى من طرق عن ابن عمر مثله.

وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن همام: سمعت ابن عباس يقول: ما رأيت رجلا كان أخلق بالملك من معاوية.

وقال حنبل بن إسحاق: حدثنا أبو نعيم، حدثنا ابن أبي عتيبة، عن شيخ من أهل المدينة قال: قال معاوية: أنا أول الملوك.

وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا حمزة، عن ابن شوذب قال: كان معاوية يقول: أنا أول الملوك وآخر خليفة.

قلت: والسُنَّة أن يقال لمعاوية: ملك، ولا يقال له خليفة حديث سفينة: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا».

وقال عبد الملك بن مروان يوما وذكر معاوية فقال: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه.

وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحدا أعظم حلما ولا أكثر سؤددا ولا أبعد أناة ولا ألين مخرجا، ولا أرحب باعا بالمعروف من معاوية.

وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلاما سيئا شديدا، فقيل له: لو سطوت عليه؟

فقال: إني لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي.

وفي رواية: قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟

فقال: إني لأستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي.

وقال الأصمعي عن الثوري: قال: قال معاوية: إني لأستحيي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو تكون عورة لا أواريها بستري.

وقال الشعبي والأصمعي: عن أبيه قالا: جرى بين رجل يقال له: أبو الجهم وبين معاوية كلام فتكلم أبو جهم بكلام فيه غَمْرٌ لمعاوية، فأطرق معاوية.

ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان، ويأخذ أخذ الأسد، وإن قليله يغلب كثير الناس.

ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمالٍ.

فقال أبو جهم في ذلك يمدح معاوية:

نميل على جوانبه كأنا * نميل إذا نميل على أبينا

نقلبه لنخبر حالتيه * فنخبر منهما كرما ولينا

وقال الأعمش: طاف الحسن بن علي مع معاوية فكان معاوية يمشي بين يديه، فقال الحسن: ما أشبه أليتيه بأليتي هند؟!

فالتفت إليه معاوية فقال: أما إن ذلك كان يعجب أبا سفيان.

وقال ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم لمعاوية: أن فلانا يشتمني.

فقال له: طأطئ لها فتمر فتجاوزك.

وقال ابن الأعرابي: قال رجل لمعاوية: ما رأيت أنذل منك.

فقال معاوية: بلى من واجه الرجال بمثل هذا.

وقال أبو عمرو بن العلاء: قال معاوية: ما يسرني بذل الكرم حمر النعم.

وقال: ما يسر بي بذل الحلم عز النصر.

وقال بعضهم: قال معاوية: يا بني أمية فارقوا قريشا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرما.

وقال: آفة الحلم الذل.

وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم.

وقال عبد الله بن الزبير: لله در ابن هند، إن كنا لنفرقه وما الليث على براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منة فيتخادع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا الجبل حجر - وأشار إلى أبي قبيس -.

وقال رجل لمعاوية: من أسود الناس؟

فقال: أسخاهم نفسا حين يسأل، وأحسنهم في المجالس خلقا، وأحلمهم حين يستجهل.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات كثيرا:

فما قتل السفاهة مثل حلمٍ * يعود به على الجهل الحليم

فلا تسفه وإن ملِّئت غيظا * على أحدٍ فإن الفحش لوم

ولا تقطع أخا لك عند ذنبٍ * فإن الذنب يغفره الكريم

وقال القاضي الماوردي في الأحكام السلطانية: وحكي أن معاوية أتي بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد من بينهم، فقال:

يميني أمير المؤمنين أعيذها * بعفوك أن تلقى مكانا يشينها

يدي كانت الحسناء لو تمَّ سترها * ولا تعدم الحسناء عيبا يشيبها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة * إذا ما شمالي فارقتها يمينها

فقال معاوية: كيف أصنع بك؟

قد قطعنا أصحابك؟

فقالت أم السارق: يا أمير المؤمنين! اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها.

فخلى سبيله، فكان أول حد ترك في الإسلام.

وعن ابن عباس أنه قال: قد علمت بم غلب معاوية الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقع طاروا.

وقال غيره: كتب معاوية إلى نائبه زياد:

إنه لا ينبغي أن يسوس الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا، ولا بالشدة فيحمل الناس على المهالك، ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأنا للين والألفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف وجد بابا يدخل منه.

وقال أبو مسهر: عن سعيد بن عبد العزيز.

قال: قضى معاوية عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدين الذي كانت تعطيه الناس.

وقال هشام بن عروة: عن أبيه قال: بعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف ففرقتها من يومها، فلم يبق منها درهم.

فقالت لها خادمتها: هلا أبقيت لنا درهما نشتري به لحما تفطري عليه؟

فقالت: لو ذكرتيني لفعلت.

وقال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة وهي بمكة بطوق قيمته مائة ألف فقبلته.

وقال زيد بن الحباب: عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة.

قال: قدم الحسن بن علي على معاوية فقال له: لأجيزنك بجائزة لم يجزها أحد كان قبلي، فأعطاه أربعمائة ألف ألف.

ووفد إليه مرة الحسن والحسين فأجازهما على الفور بمائتي ألف، وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي.

فقال له الحسين: ولم تعط أحد أفضل منا.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا يوسف ابن موسى، ثنا جرير بن مغيرة.

قال: أرسل الحسن بن علي، وعبد الله بن جعفر إلى معاوية يسألانه المال، فبعث إليهما - أو إلى كل منهما - بمائة ألف، فبلغ ذلك عليا فقال لهما: ألا تستحيان؟

رجل نطعن في عينه غدوةً وعشيةً تسألانه المال؟

فقالا: بل حرمتنا أنت وجاد هولنا.

وروى الأصمعي قال: وفد الحسن وعبد الله بن الزبير على معاوية فقال للحسن: مرحبا وأهلا بابن رسول الله، وأمر له بثلاثمائة ألف.

وقال لابن الزبير: مرحبا وأهلا بابن عمة رسول الله ، وأمر له بمائة ألف.

وقال أبو مروان المرواني: بعث معاوية إلى الحسن بن علي بمائة ألف فقسمها على جلسائه، وكانوا عشرة، فأصاب كل واحد عشرة آلاف.

وبعث إلى عبد الله بن جعفر بمائة ألف فاستوهبتها منه امرأته فاطمة فأطلقها لها، وبعث إلى مروان بن الحكم بمائة ألف فقسم منها خمسين ألفا وحبس خمسين ألفا، وبعث إلى ابن عمر بمائة ألف ففرق منها تسعين واستبقى عشرة آلاف.

فقال معاوية: إنه لمقتصد يحب الاقتصاد.

وبعث إلى عبد الله بن الزبير بمائة ألف فقال للرسول: لم جئت بها بالنهار؟

هلا جئت بها بالليل؟

ثم حبسها عنده ولم يعط منها أحدا شيئا.

فقال معاوية: إنه لخب ضبّ، كأنك به قد رفع ذنبه وقطع حبله.

وقال ابن دآب: كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، ويقضي له معها مائة حاجة، فقدم عليه عاما فأعطاه المال وقضى له الحاجات، وبقيت منها واحدة، فبينما هو عنده إذ قدم أصبغهند سجستان يطلب من معاوية أن يملكه على تلك البلاد، ووعد من قضى له هذه الحاجة من ماله ألف ألف.

فطاف على رؤوس الأشهاد والأمراء من أهل الشام وأمراء العراق، ممن قدم مع الأحنف بن قيس، فكلهم يقولون: عليك بعبد الله بن جعفر، فقصده الدهقان فكلم فيه ابن جعفر معاوية فقضى حاجته تكملة المائة حاجة.

وأمر الكاتب فكتب له عهده، وخرج به ابن جعفر إلى الدهقان فسجد له وحمل إليه ألف ألف درهم.

فقال له ابن جعفر: اسجد لله واحمل مالك إلى منزلك، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف بالثمن.

فبلغ ذلك معاوية فقال: لأن يكون يزيد قالها أحب إليّ من خراج العراق، أبت بنو هاشم إلا كرما.

وقال غيره: كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، فاجتمع عليه في بعض الأوقات دين خمسمائة ألف، فألحّ عليه غرماؤه فاستنظرهم حتى يقدم على معاوية فيسأله أن يسلفه شيئا من العطاء، فركب إليه فقال له: ما أقدمك يا بن جعفر؟

فقال: دين ألحّ علي غرماؤه.

فقال: وكم هو؟

قال: خمسمائة ألف.

فقضاها عنه وقال له: إن الألف ألف ستأتيك في وقتها.

وقال ابن سعيد: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا ابن هلال، عن قتادة.

قال: قال معاوية: يا عجبا للحسن بن علي!! شرب شربة عسل يمانية بماء رومة فقضى نحبه، ثم قال لابن عباس: لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي.

فقال ابن عباس لمعاوية: لا يحزنني الله ولا يسوءني ما أبقى الله أمير المؤمنين.

قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضا وأشياء.

وقال: خذها فاقسمها في أهلك.

وقال أبو الحسن المدايني: عن سلمة بن محارب قال: قيل لمعاوية: أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم؟

قال: كنا أكثر أشرافا وكانوا هم أشرف، فيهم واحد لم يكن في بني عبد مناف مثل هاشم، فلما هلك كنا أكثر عددا وأكثر أشرافا، وكان فيهم عبد المطلب لم يكن فينا مثله.

فلما مات صرنا أكثر عددا وأكثر أشرافا، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي.

فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد ، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف؟.

وروى ابن أبي خيثمة: عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن عمرو بن العاص قصّ على معاوية مناما رأى فيه أبا بكر، وعمر، وعثمان، وهم يحاسبون على ما وَلَّوه في أيامهم، ورأى معاوية وهو موكل به رجلان يحاسبانه على ما عمل في أيامه.

فقال له معاوية: وما رأيت ثم دنانير مصر؟.

وقال ابن دريد: عن أبي حاتم، عن العتبي.

قال: دخل عمرو على معاوية وقد ورد عليه كتاب فيه تعزية له في بعض الصحابة، فاسترجع معاوية فقال عمرو بن العاص:

تموت الصالحون وأنت حي * تخطاك المنايا لا تموت

فقال له معاوية:

أترجو أن أموت وأنت حي* فلست بميت حتى تموت

وقال ابن السماك: قال معاوية: كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها.

وقال الزهري: عن عبد الملك، عن أبي بحرية.

قال: قال معاوية: المروءة في أربع: العفاف في الإسلام، واستصلاح المال، وحفظ الإخوان، وحفظ الجار.

وقال أبو بكر الهذلي: كان معاوية يقول الشعر فلما ولي الخلافة قال له أهله: قد بلغت الغاية فماذا تصنع بالشعر؟

فارتاح يوما فقال:

صرمت سفاهتي وأرحت حلمي * وفيّ على تحملي اعتراض

على أني أجيب إذا دعتني * إلى حاجاتها الحدق المراض

وقال مغيرة: عن الشعبي: أول من خطب جالسا معاوية حين كثر شحمه وعظم بطنه.

وكذا روي عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قال: أول من خطب جالسا يوم الجمعة معاوية.

وقال أبو المليح عن ميمون: أول من جلس على المنبر معاوية واستأذن الناس في الجلوس.

وقال قتادة: عن سعيد بن المسيب: أول من أذن وأقام يوم الفطر والنحر معاوية.

وقال أبو جعفر الباقر: كانت أبواب مكة لا أغلاق لها، وأول من اتخذ الأبواب معاوية.

وقال أبو اليمان: عن شعيب، عن الزهري: مضت السُنَّة أن لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، وأول من ورث المسلم من الكافر معاوية، وقضى بذلك بنو أمية بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فراجع السنة، وأعاد هشام ما قضى به معاوية وبنو أمية من بعده.

وبه قال الزهري، ومضت السنة: أن دية المعاهد كدية المسلم، وكان معاوية أول من قصرها إلى النصف، وأخذ النصف لنفسه.

وقال ابن وهب: عن مالك، عن الزهري قال: سألت سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله فقال لي: اسمع يا زهري، من مات محبا لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وشهد للعشرة بالجنة، وترحم على معاوية، كان حقا على الله أن لا يناقشه الحساب.

وقال سعيد بن يعقوب الطالقاني: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: تراب في أنف معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز.

وقال محمد بن يحيى بن سعيد: سئل ابن المبارك عن معاوية فقال: ما أقول في رجل قال رسول الله سمع الله لمن حمده، فقال خلفه: ربنا ولك الحمد.

فقيل له: أيهما أفضل؟

هو أو عمر بن عبد العزيز؟

فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز.

وقال غيره: عن ابن المبارك، قال معاوية: عندنا محنة فمن رأيناه ينظر إليه شزرا اتهمناه على القول - يعني: الصحابة -.

وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وغيره: سئل المعافى بن عمران أيهما أفضل؟

معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟

فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلا من الصحابة مثل رجل من التابعين؟ معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله.

وقد قال رسول الله : «دعوا لي أصحابي وأصهاري، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

وكذا قال الفضل بن عتيبة.

وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: معاوية ستر لأصحاب محمد ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه.

وقال الميموني: قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام.

وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضي؟

فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدا من الصحابة إلا وله داخلة سوء.

وقال ابن مبارك: عن محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة.

قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا إنسان شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطا.

وقال بعض السلف: بينما أنا على جبل بالشام إذ سمعت هاتفا يقول: من أبغض الصديق فذاك زنديق، ومن أبغض عمر فإلى جهنم زمرا، ومن أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمن، ومن أبغض عليا فذاك خصمه النبي ، ومن أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنم الحامية، يرمى به في الحامية الهاوية.

وقال بعضهم: رأيت رسول الله وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية، إذ جاء رجل فقال عمر: يا رسول الله هذا يتنقصنا، فكأنه انتهره رسول الله .

فقال: يا رسول الله إني لا أتنقص هؤلاء ولكن هذا - يعني: معاوية -.

فقال: «ويلك أوليس هو من أصحابي؟» قالها ثلاثا، ثم أخذ رسول الله حربة فناولها معاوية فقال: «جابها في لبته».

فضربه بها وانتبهت فبكرت إلى منزلي فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات، وهو راشد الكندي.

وروى ابن عساكر: عن الفضيل بن عياض أنه كان يقول: معاوية من الصحابة، من العلماء الكبار، ولكن ابتلى بحب الدنيا.

وقال العتبي: قيل لمعاوية أسرع إليك الشيب؟

فقال: كيف لا ولا أزال أرى رجلا من العرب قائما على رأسي يلقح لي كلاما يلزمني جوابه، فإن أصبت لم أحمد، وإن أخطأت سارت بها البرود.

وقال الشعبي وغيره: أصابت معاوية في آخر عمره لوقة.

وروى ابن عساكر في ترجمة خديج الخصي مولى معاوية قال: اشترى معاوية جارية بيضاء جميلة فأدخلتها عليه مجردة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها - يعني: فرجها - ويقول: هذا المتاع لو كان لي متاع، اذهب بها إلى يزيد بن معاوية.

ثم قال: لا!

ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي - وكان فقيها - فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد.

قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإنها لا تصلح له.

فقال: نعم ما رأيت.

قال: ثم وهبها لعبد الله بن مسعدة الفزاري مولى فاطمة بنت رسول الله ، وكان أسود.

فقال له: بيض بها ولدك، وهذا من فقه معاوية ونحريه، حيث كان نظر إليها بشهوة، ولكنه استضعف نفسه عنها، فتحرج أن يهبها من ولده يزيد لقوله تعالى: { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } 20.

وقد وافقه على ذلك الفقيه ربيعة بن عمرو الجرشي الدمشقي.

وذكر ابن جرير: أن عمرو بن العاص قدم في وفد أهل مصر إلى معاوية، فقال لهم في الطريق: إذا دخلتم على معاوية فلا تسلموا عليه بالخلافة فإنه لا يحب ذلك، فلما دخل عليه عمرو قبلهم.

قال معاوية لحاجبه: أدخلهم، وأوعز إليه أن يخوفهم في الدخول ويرعبهم.

وقال: إني لأظن عمرا قد تقدم إليهم في شيء؟.

فلما أدخلوهم عليه - وقد أهانوهم - جعل أحدهم إذا دخل يقول: السلام عليك يا رسول الله .

فلما نهض عمرو من عنده قال: قبحكم الله! نهيتكم عن أن تسلموا عليه بالخلافة فسلمتم عليه بالنبوة.

وذكر أن رجلا سأل من معاوية أن يساعده في بناء داره باثني عشر ألف جذع من الخشب.

فقال له معاوية: أين دارك؟

قال: بالبصرة.

قال: وكم اتساعها؟

قال: فرسخان في فرسخين.

قال: لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري.

وذكر أن رجلا دخل بابن معه فجلسا على سماط معاوية فجعل ولده يأكل أكلا ذريعا، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن، فلما خرجا لامه أبوه وقطعه عن الدخول.

فقال له معاوية! أين ابنك التلقامة؟

قال: اشتكى.

قال: قد علمت أن أكله سيورثه داء.

قال: ونظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة فجعل يزدريه.

فقال: يا أمير المؤمنين إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من بها.

وقال معاوية: أفضل الناس من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا وعد أنجز، وإذا أساء استغفر.

وكتب رجل من أهل المدينة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:

إذا الرجال ولدت أولادها * واضطربت من كبر أعضادها

وجعلت أسقامها تعتادها * فهي زروع قد دنا حصادها.

فقال معاوية: نعى إليّ نفسي.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني هارون بن سفيان، عن عبد الله السهمي، حدثني ثمامة بن كلثوم أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال: أيها الناس! إن من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي خير مني.

وإنما يليكم من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيرا مني، ويا يزيد إذا دنا أجلي فولِّ غسلي رجلا لبيبا، فإن اللبيب من الله بمكان، فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير.

ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله ، وقراضة من شعره وأظفاره، فاستودع القراضة أنفي وفمي، وأذني وعيني، واجعل ذلك الثوب مما يلي جلدي دون لفافي.

ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي ووضعتموني في حفرتي، فخلوا معاوية وأرحم الراحمين.

وقال بعضهم: لما احتضر معاوية جعل يقول:

لعمري لقد عمرت في الدهر برهةً * ودانت لي الدنيا بوقع البواتر

وأعطيت حمر المال والحكم والنهى * ولي سلمت كل الملوك الجبابر

فأضحى الذي قد كان مما يسرني * كحكمٍ مضى في المزمنات الغوابر

فيا ليتني لم أعنِ في الملك ساعةً * ولم أسمع في لذات عيشٍ نواضر

وكنت كذي طمرين عاش ببلغةٍ * فلم يك حتى زار ضيق المقابر

وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد، عن محمد بن الحكم، عمن حدثه أن معاوية لما احتضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال - كأنه أراد أن يطيب له - لأن عمر بن الخطاب قاسم عماله.

وذكروا: أنه في آخر عمره اشتد به البرد فكان إذا لبس أو تغطى بشيء ثقيل يغمه، فاتخذ له ثوبا من حواصل الطير، ثم ثقل عليه بعد ذلك.

فقال: تبا لك من دار، ملكتك أربعين سنة، عشرين أميرا، وعشرين خليفة، ثم هذا حالي فيك، ومصيري منك، تبا للدنيا ولمحبيها.

وقال محمد بن سعد: أنبأنا أبو عبيدة، عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عمير.

قال: لما ثقل معاوية وتحدث الناس بموته قال لأهله: احشوا عيني إثمدا، وأوسعوا رأسي دهنا، ففعلوا وغرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له مجلس وقال: أسندوني.

ثم قال: إيذنوا للناس فليسلموا عليّ قياما ولا يجلس أحد، فجعل الرجل يدخل فيسلم قائما فيراه مكتحلا متدهنا فيقول متقول الناس: إن أمير المؤمنين لما به وهو أصح الناس.

فلما خرجوا من عنده، قال معاوية في ذلك:

وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع

وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع

قال: وكان به النقابة - يعني: لوقة - فمات من يومه ذلك رحمه الله.

وقال موسى بن عقبة: لما نزل بمعاوية الموت قال: يا ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى، ولم ألِ من هذا الأمر شيئا.

وقال أبو السائب المخزومي: لما حضرت معاوية الوفاة تمثل بقول الشاعر:

إن تناقش يكن نقاشك يا رب * عذابا لا طوق لي بالعذاب

أو تجاوز تجاوز العفو واصفح * عن مسيءٍ ذنوبه كالتراب

وقال بعضهم: لما احتضر معاوية جعل أهله يقلبونه.

فقال لهم: أي شيخ تقلبون؟ إن نجاه الله من عذاب النار غدا.

وقال محمد بن سيرين: جعل معاوية لما احتضر يضع خدا على الأرض ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك: { اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } 21 اللهم فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له.

وقال العتبي عن أبيه: تمثل معاوية عند موته بقول بعضهم وهو في السياق:

هو الموت لا منجا من الموت والذي * نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع

ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك.

ورواه ابن دريد: عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء فذكر مثله، وزاد: ثم مات.

وقال غيره: أغمي عليه ثم أفاق فقال لأهله: اتقوا الله فإن الله تعالى يقي من اتقاه، ولا يقي من لا يتقي، ثم مات رحمه الله.

وقد روى أبو مخنف: عن عبد الله بن نوفل.

قال: لما مات معاوية صعد الضحاك بن قيس المنبر فخطب الناس - وأكفانُ معاوية على يديه -

فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن معاوية الذي كان سُور العرب وعونهم وجدهم، قطع الله به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد، إلا إنه قد مات وهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله.

ثم هول البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى.

ثم نزل وبعث البريد إلى يزيد بن معاوية يعلمه ويستحثه على المجيء.

ولا خلاف أنه توفي بدمشق في رجب سنة ستين.

فقال جماعة: ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين.

وقيل: ليلة الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين.

قاله ابن إسحاق وغير واحد.

وقيل: لأربع خلت من رجب، قاله الليث.

وقال سعد بن إبراهيم: لمستهل رجب.

قال محمد بن إسحاق والشافعي: صلى عليه ابنه يزيد، وقد ورد من غير وجه أنه أوصى إليه أن يكفن في ثوب رسول الله الذي كساه إياه، وكان مُدَّخرا عنده لهذا اليوم، وأن يجعل ما عنده من شعره وقلامة أظفاره في فمه وأنفه وعينيه وأذنيه.

وقال آخرون: بل كان ابنه يزيد غائبا فصلى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة الظهر بمسجد دمشق، ثم دفن فقيل: بدار الإمارة وهي الخضراء.

وقيل: بمقابر باب الصغير، وعليه الجمهور فالله أعلم.

وكان عمره إذ ذاك ثمانيا وسبعين سنة.

وقيل: جاوز الثمانين وهو الأشهر والله أعلم.

ثم ركب الضحاك بن قيس في جيش وخرج ليتلقى يزيد بن معاوية - وكان يزيد بحوارين - فلما وصلوا إلى ثنية العُقاب تلقتهم أثقال يزيد، وإذا يزيد راكب على بختي وعليه الحزن ظاهر، فسلم عليه الناس بالإمارة وعزوه في أبيه، وهو يخفض صوته في رده عليهم، والناس صامتون لا يتكلم معه إلا الضحاك بن قيس.

فانتهى إلى باب توما، فظن الناس أنه يدخل منه إلى المدينة، فأجازه مع السور حتى انتهى إلى الباب الشرقي، فقيل: يدخل منه لأنه باب خالد، فجازه حتى أتى الباب الصغير فعرف الناس أنه قاصد قبر أبيه.

فلما وصل إلى باب الصغير ترجل عند القبر ثم دخل فصلى على أبيه بعد ما دفن ثم انفتل، فلما خرج من المقبرة أتى بمراكب الخلافة فركب.

ثم دخل البلد وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء فاغتسل ولبس ثيابا حسنة ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين.

فقال: بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس! إن معاوية كان عبدا من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده ودون من قبله، ولا أزكيه على الله عزّ وجلّ فإنه أعلم به، إن عفى عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه.

وقد وليت الأمر من بعده، ولستُ آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئا كان.

وقال لهم في خطبته هذه: وإن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملا أحدا من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتيا أحدا بأرض الروم، وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثا وأنا أجمعه لكم كله.

قال: فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحدا.

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: بعث معاوية وهو مريض إلى ابنه يزيد، فلما جاءه البريد ركب وهو يقول:

جاء البريد بقرطاس يخب به * فأوجس القلب من قرطاسه فزعا

قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم * قال الخليفة أمسى مثقلا وجعا

فمادت الأرض أو كادت تميد بنا * كأن أغبر من أركانها انقلعا

ثم انبعثنا إلى خوص مضمرة * نرمي الفجاج بها ما نأتلي سرعا

فما نبالي إذا بلغن أرجلنا * ما مات منهن بالمرمات أو طلعا

لما انتهينا وباب الدار منصفق * بصوت رملة ريع القلب فانصدعا

من لا تزل نفسه توفي على شرف * توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا

أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه * كأنا جميعا خليطا سالمين معا

أغر أبلج يستسقى الغمام به * لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا

لا يرقع الناس ما أوهى وإن جهدوا * أن يرقعوه ولا يوهون ما رقعا

وقال الشافعي: سرق يزيد هذين البيتين من الأعشى، ثم ذكر أنه دخل قبل موت أبيه دمشق وأنه أوصى إليه، وهذا قد قاله ابن إسحاق وغير واحد.

ولكن الجمهور على أن يزيد لم يدخل دمشق إلا بعد موت أبيه، وأنه صلى على قبره بالناس كما قدمناه والله أعلم.

وقال أبو الورد العنبري يرثي معاوية رضي الله عنه:

ألا أنعى معاوية بن حربٍ * نعاة الحل للشهر الحرام

نعاه الناعيات بكل فجٍ * خواضع في الأزمة كالسهام

فهاتيك النجوم وهن خرسٌ * ينحن على معاوية الهمام

وقال أيمن بن خريم يرثيه أيضا:

رمى الحدثان نسوة آل حربٍ * بمقدارٍ سمدن له سمودا

فرد شعورهن السود بيضا * ورد وجوههن البيض سودا

فإنك لو شهدت بكاء هندٍ * ورملة إذ يصفقن الخدودا

بكيت بكاء معولةٍ قريحٍ * أصاب الدهر واحدها الفريدا

ذكر من تزوج من النساء ومن ولد له

عدل

كان له عبد الرحمن وبه كان يكنى، وعبد الله، وكان ضعيف العقل.

وأمهما: فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، وقد تزوج بأختها منفردة عنها بعدها، وهي كنوة بنت قرظة، وهي التي كانت معه حين افتتح قبرص، وتزوج نائلة بنت عمارة الكلبية فأعجبته وقال لميسون بنت بحدل: ادخلي فانظري إلى ابنة عمك.

فدخلت فسألها عنها فقالت: إنها لكاملة الجمال، ولكن رأيت تحت سرتها خالا، وإني لأرى هذه يقتل زوجها ويوضع رأسه في حجرها.

فطلقها معاوية فتزوجها بعده حبيب بن سلمة الفهري، ثم خلف عليها بعده النعمان بن بشير فقُتل ووضع رأسه في حجرها.

ومن أشهر أولاده: يزيد وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة بن قنافة الكلبي، وهي التي دخلت على نائلة فأخبرت معاوية عنها بما أخبرته، وكانت حازمة عظيمة الشأن جمالا ورياسة وعقلا ودينا، دخل عليها معاوية يوما ومعه خادم خصي فاستترت منه وقالت: ما هذا الرجل معك؟

فقال: إنه خصي فأظهري عليه.

فقالت: ما كانت المثلة لتحل له ما حرم الله عليه، وحجبته عنها.

وفي رواية: أنها قالت له: إن مجرد مثلتك له لن تحل ما حرمه الله عليه، فلهذا أولى الله ابنها يزيد الخلافة بعد أبيه.

وذكر ابن جرير: أن ميسون هذه ولدت لمعاوية بنتا أخرى يقال لها: أمة رب المشارق، ماتت صغيرة.

ورملة تزوجها عمرو بن عثمان بن عفان، كانت دارها بدمشق عند عقبة السمك تجاه زقاق الرمان، قاله ابن عساكر، قال: ولها طاحون معروفة إلى الآن.

وهند بنت معاوية تزوجها عبد الله بن عامر، فلما أدخلت عليه بالخضراء جوار الجامع، أرادها على نفسها فتمنعت عليه وأبت أشد الإباء، فضربها فصرخت، فلما سمع الجواري صوتها صرخن وعلت أصواتهن، فسمع معاوية فنهض إليهن فاستعلمهن ما الخبر؟

فقلن: سمعنا صوت سيدتنا فصحنا، فدخل فإذا بها تبكي من ضربه.

فقال لابن عامر: ويحك!! مثل هذه تضرب في مثل هذه الليلة؟

ثم قال له: أخرج من ههنا، فخرج ابن عامر وخلا بها معاوية فقال لها: يا بنية إنه زوجك الذي أحله الله لك، أَوَ ما سمعت قول الشاعر:

من الخفرات البيض أّما حرامها * فصعب وأما حلها فذلول؟

ثم خرج معاوية من عندها وقال لزوجها: ادخل فقد مهدت لك خلقها ووطأته.

فدخل ابن عامر فوجدها قد طابت أخلاقها فقضى حاجته منها رحمهم الله تعالى.

كان على قضاء معاوية أبو الدرداء بولاية عمر بن الخطاب، فلما حضره الموت أشار على معاوية بتولية فضالة بن عبيد، ثم مات فضالة فولى أبا إدريس الخولاني.

فصل قضاء معاوية

عدل

وكان على حرسه رجل من الموالي يقال له: المختار، وقيل: مالك، ويكنى أبا المخارق - مولى لحمير -.

وكان معاوية أول من اتخذ الحرس، وعلى حجابته سعد مولاه وعلى الشرطة قيس بن حمزة، ثم زُميل بن عمرو العذري، ثم الضحاك بن قيس الفهري، وكان صاحب أمره سرجون بن منصور الرومي.

وكان معاوية أول من اتخذ ديوان الخاتم وختم الكتب.

وممن ذكر أنه توفي في هذه السنة - أعني: سنة ستين -

صفوان بن المعطل بن رخصة بن المؤمل بن خزاعي أبو عمرو

عدل

وأول مشاهده المريسي، وكان في الساقة يومئذ، وهو الذي رماه أهل الإفك بأم المؤمنين فبرأه الله وإياها مما قالوا.

وكان من سادات المسلمين، وكان ينام نوما شديدا حتى كان ربما طلعت عليه الشمس وهو نائم لا يستيقظ.

فقال له رسول الله : «إذا استيقظت فصلّ» وقد قتل صفوان شهيدا.

أبو مسلم الخولاني

عدل

عبد بن ثُوَب الخولاني من خولان ببلاد اليمن.

دعاه الأسود العنسي إلى أن يشهد أنه رسول الله فقال له: أتشهد أني رسول الله؟

فقال: لا أسمع، أشهد أن محمدا رسول الله، فأجج له نارا وألقاه فيها فلم تضره، وأنجاه الله منها فكان يشبه بإبراهيم الخليل.

ثم هاجر فوجد رسول الله قد مات، فقدم على الصديق فأجلسه بينه وبين عمر وقال له عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى في أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم الخليل، وقبّله بين عينيه، وكانت له أحوال ومكاشف والله سبحانه أعلم.

ويقال: إنه توفي فيها: النعمان بن بشير، والأظهر أنه مات بعد ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

يزيد بن معاوية وما جرى في أيامه

عدل

بويع له بالخلافة بعد أبيه في رجب سنة ستين، وكان مولده سنة ست وعشرين، فكان يوم بويع ابن أربع وثلاثين سنة، فأقر نواب أبيه على الأقاليم، لم يعزل أحدا منهم، وهذا من ذكائه.

قال هشام بن محمد الكلبي: عن أبي مخنف لوط بن يحيى الكوفي الأخباري: ولي يزيد في هلال رجب سنة ستين، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير الكوفة النعمان بن بشير، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية البيعة ليزيد.

فكتب إلى نائب المدينة الوليد بن عتبة:

بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد.

فإن معاوية كان عبدا من عباد الله أكرمه الله واستخلفه وخوّله ومكن له، فعاش بقدرٍ ومات بأجلٍ فرحمه الله، فقد عاش محمودا ومات برا تقيا والسلام.

وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن الفأرة:

أما بعد:

فخذ حُسينا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام.

فلما أتاه نعي معاوية فظع به وكَبرُ عليه، فبعث إلى مروان فقرأ عليه الكتاب واستشاره في أمر هؤلاء النفر، فقال: أرى أن تدعوهم قبل أن يعلموا بموت معاوية إلى البيعة، فإن أبَو ضربت أعناقهم.

فأرسل من فوره عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إلى الحسين وابن الزبير - وهما في المسجد - فقال لهما: أجيبا الأمير.

فقالا: انصرف الآن نأتيه.

فلما انصرف عنهما قال الحسين لابن الزبير: إني أرى طاغيتهم قد هلك.

قال ابن الزبير: وأنا ما أظن غيره.

قال: ثم نهض حسين فأخذ معه مواليه وجاء باب الأمير، فاستأذن فأذن له، فدخل وحده، وأجلس مواليه على الباب.

وقال: إن سمعتم أمرا يريبكم فادخلوا، فسلم وجلس ومروان عنده، فناوله الوليد بن عتبة الكتاب ونعى إليه معاوية، فاسترجع وقال: رحم الله معاوية، وعظم لك الأجر، فدعاه الأمير إلى البيعة.

فقال له الحسين: إن مثلي لا يبايع سرا، وما أراك تجتزئ مني بهذا، ولكن إذا اجتمع الناس دعوتنا معهم فكان أمرا واحدا.

فقال له الوليد: - وكان يحب العافية - فانصرف على اسم الله حتى تأتينا في جماعة الناس.

فقال مروان للوليد: والله لئن فارقك ولم يبايع الساعة ليكثرن القتل بينكم وبينه، فاحبسه ولا تخرجه حتى يبايع وإلا ضربت عنقه، فنهض الحسين وقال: يا ابن الزرقاء أنت تقتلني؟ كذبت والله وأثمت، ثم انصرف إلى داره، فقال مروان للوليد: والله لا تراه بعدها أبدا.

فقال الوليد: والله يا مروان ما أحب أن لي الدنيا وما فيها وأني قتلت الحسين، سبحان الله! أقتل حسينا أن قال لا أبايع؟ والله إني لأظن أن من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة.

وبعث الوليد إلى عبد الله بن الزبير فامتنع عليه وماطله يوما وليلة، ثم إن ابن الزبير ركب في مواليه واستصحب معه أخاه جعفرا، وسار إلى مكة على طريق الفُرع، وبعث الوليد خلف ابن الزبير الرجال والفرسان فلم يقدروا على رده، وقد قال جعفر لأخيه عبد الله وهما سائران متمثلا بقول صبرة الحنظلي:

وكل بني أمٍ سيمسون ليلةً * ولم يبق من أعقابهم غير واحد

فقال: سبحان الله! ما أردت إلى هذا؟

فقال: والله ما أردت به شيئا يسوءك.

فقال: إن كان إنما جرى على لسانك فهو أكره إليّ، أن قالوا وتطير به.

وأما الحسين بن علي فإن الوليد تشاغل عنه بابن الزبير وجعل كلما بعث إليه يقول: حتى تنظر وننظر، ثم جمع أهله وبنيه.

وركب ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب من هذه السنة، بعد خروج ابن الزبير بليلة، ولم يتخلف عنه أحد من أهله سوى محمد بن الحنفية.

فإنه قال له: والله يا أخي لأنت أعز أهل الأرض عليّ، وإني ناصح لك لا تدخلن مصرا من هذه الأمصار، ولكن اسكن البوادي والرمال، وابعث إلى الناس، فإذا بايعوك واجتمعوا عليك فادخل المصر، وإن أبيت إلا سكنى المصر فاذهب إلى مكة، فإن رأيت ما تحب وإلا ترفعت إلى الرمال والجبال.

فقال له: جزاك الله خيرا فقد نصحت وأشفقت.

وسار الحسين إلى مكة فاجتمع هو وابن الزبير بها، وبعث الوليد إلى عبد الله بن عمر فقال: بايع ليزيد.

فقال: إذا بايع الناس بايعت.

فقال رجل: إنما تريد أن تختلف الناس ويقتتلون حتى يتفانوا، فإذا لم يبق غيرك بايعوك؟

فقال ابن عمر: لا أحب شيئا مما قلت، ولكن إذا بايع الناس، فلم يبق غيري بايعت، وكانوا لا يتخوّفونه.

وقال الواقدي: لم يكن ابن عمر بالمدينة حين قدم نعي معاوية، وإنما كان هو وابن عباس بمكة فلقيهما وهما مقبلان منها الحسين وابن الزبير، فقال: ما وراءكما؟

قالا: موت معاوية والبيعة ليزيد بن معاوية.

فقال لهما ابن عمر: اتقيا الله ولا تفرقا بين جماعة المسلمين، وقدم ابن عمر وابن عباس إلى المدينة، فلما جاءت البيعة من الأمصار بايع ابن عمر مع الناس.

وأما الحسين وابن الزبير فإنهما قدما مكة فوجدا بها عمرو بن سعيد بن العاص فخافاه وقالا: إنا جئنا عواذا بهذا البيت.

وفى هذه السنة في رمضان منها: عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عتبة عن إمرة المدينة لتفريطه، وأضافها إلى عمرو بن سعيد بن العاص نائب مكة، فقدم المدينة في رمضان.

وقيل: في ذي القعدة، وكان متآلها متكبرا، وسلط عمرو بن الزبير - وكان عدوا لأخيه عبد الله - على حربه وجرده له، وجعل عمرو بن سعيد يبعث البعوث إلى مكة لحرب ابن الزبير.

وقد ثبت في الصحيحين: أن أبا شريح الخزاعي قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: إيذن لي أيها الأمير أن أحدثك حديثا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح.

سمعته أذناي ووعاه قلبي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه وقال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، وأنه لم يحل القتال فيها لأحد كان قبلي، ولم تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم قد صارت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب».

وفي رواية: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فيها فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم».

فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟

فقال: قال لي نحن أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم، ولا فارا بخربة.

قال الواقدي: ولىّ عمرو بن سعيد شرطة المدينة عمرو بن الزبير فتتبع أصحاب أخيه ومن يهوى هواه، فضربهم ضربا شديدا حتى ضرب من جملة من ضرب أخاه المنذر بن الزبير، وأنه لا بد أن يأخذ أخاه عبد الله في جامعة من فضة حتى يقدم به على الخليفة.

فضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم، ضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين جلدة.

وفرَّ منه عبد الرحمن بن عثمان التيمي، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل في أناس من مكة، ثم جاء العزم من يزيد إلى عمرو بن سعيد في تطلب ابن الزبير، وأنه لا يقبل منه وإن بايع حتى يؤتى به إليّ في جامعة من ذهب أو من فضة تحت برنسه، فلا ترى إلا أنه يسمع صوتها.

وكان ابن الزبير قد منع الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة، وكان نائب عمرو بن سعيد عليها فحينئذ صمم عمرو على تجهيز سرية إلى مكة بسبب ابن الزبير، فاستشار عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير: من يصلح أن نبعثه إلى مكة لأجل قتاله؟.

فقال له عمرو بن الزبير: إنك لا تبعث إليه من هو أنكى له مني.

فعينه على تلك السرية وجعل على مقدمته أُنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة مقاتل.

وقال الواقدي: إنما عينهما يزيد بن معاوية نفسه، وبعث بذلك إلى عمرو بن سعيد، فعسكر أنيس بالجرف وأشار مروان بن الحكم على عمرو بن سعيد أن لا يغزو مكة، وأن يترك ابن الزبير بها، فإنه عما قليل إن لم يقتل يمت.

فقال أخوه عمرو بن الزبير: والله لنغزونه ولو في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم.

فقال مروان: والله إن ذلك ليسرني.

فسار أنيس واتبعه عمرو بن الزبير في بقية الجيش - وكانوا ألفين - حتى نزل بالأبطح.

وقيل: بداره عند الصفا، ونزل أنيس بذي طوى، فكان عمرو بن الزبير يصلي بالناس، ويصلي وراءه أخوه عبد الله بن الزبير.

وأرسل عمرو إلى أخيه يقول له: برّ يمين الخليفة، وأتهِ وفي عنقك جامعة من ذهب أو فضة، ولا تدع الناس يضرب بعضهم بعضا، واتق الله فإنك في بلد حرام.

فأرسل عبد الله يقول لأخيه: موعدك المسجد.

وبعث عبد الله بن الزبير عبد الله بن صفوان بن أمية في سرية فاقتتلوا مع عمرو بن أنيس الأسلمي، فهزموا أنيسا هزيمة قبيحة، وتفرق عن عمرو بن الزبير أصحابه، وهرب عمرو إلى دار ابن علقمة.

فأجاره أخوه عبيدة بن الزبير، فلامه أخوه عبد الله بن الزبير وقال: تجير من في عنقه حقوق الناس؟

ثم ضربه بكل من ضربه بالمدينة إلا المنذر بن الزبير وابنه فإنهما أبيا أن يستقيدا من عمرو، وسجنه ومعه عارم، فسمي سجن عارم.

وقد قيل: إن عمرو بن الزبير مات تحت السياط والله أعلم.

قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله

عدل

ولنبدأ قبل ذلك بشيء من ترجمته ثم نتبع الجميع بذكر مناقبه وفضائله.

هو الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، أبو عبد الله، القرشي الهاشمي، السبط الشهيد بكربلاء ابن بنت رسول الله فاطمة الزهراء، وريحانته من الدنيا.

ولد بعد أخيه الحسن، وكان مولد الحسن في سنة ثلاث من الهجرة.

وقال بعضهم: إنما كان بينهما طهر واحد ومدة الحمل، وولد لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع.

وقال قتادة: ولد الحسين لست سنين وخمسة أشهر ونصف من التاريخ.

وقتل يوم الجمعة، يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين، وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف رضي الله عنه.

وروي عن النبي أنه حنكه وتفل في فيه ودعا له وسماه حسينا، وقد كان سماه أبوه قبل ذلك حربا.

وقيل: جعفرا.

وقيل: إنما سماه يوم سابعه وعق عنه.

وقال جماعة: عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي رضي الله عنه قال: الحسن أشبه برسول الله ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه به ما بين أسفل من ذلك.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك الحزامي.

قال: كان وجه الحسن يشبه وجه رسول الله ، وكان جسد الحسين يشبه جسد رسول الله .

وروى محمد بن سيرين، وأخته حفصة، عن أنس.

قال: كنت عند ابن زياد فجيء برأس الحسين، فجعل يقول بقضيب في أنفه ويقول: ما رأيت مثل هذا حسنا.

فقلت له: إنه كان من أشبههم برسول الله .

وقال سفيان: قلت لعبيد الله بن أبي زياد: رأيت الحسين؟

قال: نعم، أسود الرأس واللحية، إلا شعرات ههنا في مقدم لحيته، فلا أدري أخضب وترك ذلك المكان تشبها برسول الله ، أولم يكن شاب منه غير ذلك؟.

وقال ابن جريج: سمعت عمر بن عطاء قال: رأيت الحسين بن علي يصبغ بالوشمة، أما هو فكان ابن ستين سنة، وكان رأسه ولحيته شديدي السواد.

فأما الحديث الذي روي من طريقين ضعيفين أن فاطمة سألت رسول الله في مرض الموت أن يَنْحَل ولديها شيئا فقال: «أما الحسن فله هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فله جُرأتي وجودي» فليس بصحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب المعتبرة.

وقد أدرك الحسين من حياة النبي خمس سنين أو نحوها، وروى عنه أحاديث.

وقال مسلم بن الحجاج: له رؤية من النبي .

وقد روى صالح بن أحمد بن حنبل، عن أبيه أنه قال في الحسن بن علي: إنه تابعي ثقة، وهذا غريب فلأن يقول في الحسين إنه تابعي بطريق الأولى.

وسنذكر ما كان رسول الله يكرمهما به، وما كان يظهر من محبتهما والحنو عليهما.

والمقصود: أن الحسين عاصر رسول الله وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راضٍ، ولكنه كان صغيرا.

ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان، وصحب أباه وروى عنه، وكان معه في مغازيه كلها، في الجمل وصفين، وكان معظما موقرا، ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل.

فلما آلت الخلافة إلى أخيه وأراد أن يصالح شق ذلك عليه ولم يسدد رأي أخيه في ذلك، بل حثّه على قتل أهل الشام.

فقال له أخوه: والله لقد هممت أن أسجنك في بيتٍ وأطبق عليك بابه حتى أفرغ من هذا الشأن ثم أخرجك.

فلما رأى الحسين ذلك سكت وسلم، فلما استقرت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردد إليه مع أخيه الحسن فيكرمهما معاوية إكراما زائدا، ويقول لهما: مرحبا وأهلا، ويعطيهما عطاء جزيلا.

وقد أطلق لهما في يوم واحد مائتي ألف، وقال: خذاها وأنا ابن هند، والله لا يعطيكماها أحد قبلي ولا بعدي.

فقال الحسين: والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلا أفضل منا.

ولما توفي الحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه، وقد كان في الجيش الذين غزوا القسطنطينية مع ابن معاوية يزيد، في سنة إحدى وخمسين.

ولما أخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية كان الحسين ممن امتنع من مبايعته، هو وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عمر، وابن عباس، ثم مات ابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك.

فلما مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد، بايع ابن عمر وابن عباس، وصمم على المخالفة الحسين وابن الزبير، وخرجا من المدينة فارين إلى مكة فأقاما بها، فعكف الناس على الحسين يفدون إليه ويقدمون عليه ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد.

وأما ابن الزبير فإنه لزم مصلاه عند الكعبة، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولا يمكنه أن يتحرك بشيء مما في نفسه مع وجود الحسين، لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه عليه.

غير أنه قد تعينت السرايا والبعوث إلى مكة بسببه، ولكن أظفره الله بهم كما تقدم آنفا، فانقشعت السرايا عن مكة مفلولين وانتصر عبد الله بن الزبير على من أراد هلاكه من اليزيديين.

وضرب أخاه عمرا وسجنه واقتص منه وأهانه، وعظم شأن ابن الزبير عند ذلك ببلاد الحجاز، واشتهر أمره وبُعد صيته، ومع هذا كله ليس هو معظما عند الناس مثل الحسين.

بل الناس إنما ميلهم إلى الحسين لأنه السيد الكبير، وابن بنت رسول الله ، فليس على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساميه ولا يساويه، ولكن الدولة اليزيدية كانت كلها تناوئه.

وقد كثر ورود الكتب عليه من بلاد العراق يدعونه إليهم - وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد، ومصير الحسين إلى مكة فرارا من بيعة يزيد - فكان أول من قدم عليه عبد الله بن سبع الهمذاني، وعبد الله بن والٍ معمها كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية.

فقدما على الحسين لعشر مضين من رمضان من هذه السنة، ثم بعثوا بعدهما نفرا منهم: قيس بن مسهر الضدائي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكوا الأرحبي، وعمارة بن عبد الله السلولي، ومعهم نحو من مائة وخمسين كتابا إلى الحسين.

ثم بعثوا هانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السير إليهم، وكتب إليه شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث و يزيد بن رويم، وعمرو بن حجاج الزبيدي، ومحمد بن عمر بن يحيى التميمي:

أما بعد: فقد أخضرت الجنان، وأينعت الثمار، ولطمت الجمام، فإذا شئت فأقدم على جند لك مجندة والسلام عليك.

فاجتمعت الرسل كلها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضا عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه ويتكلمون في دولته، وأنهم لم يبايعوا أحدا إلى الآن، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم.

فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق، ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فإن كان متحتما وأمرا حازما محكما، بعث إليه ليركب في أهله وذويه، ويأتي الكوفة ليظفر بمن يعاديه.

وكتب معه كتابا إلى أهل العراق بذلك، فلما سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة فأخذ منها دليلين فسارا به على براري مهجورة المسالك.

فكان أحد الدليلين منهما أول هالك، وذلك من شدة العطش، وقد أضلوا الطريق فهلك الدليل الواحد بمكان يقال له: المضيق، من بطن خبيت، فتطير به مسلم بن عقيل، فتلبث مسلم على ما هنالك ومات الدليل الآخر.

فكتب إلى الحسين يستشيره في أمره، فكتب إليه يعزم عليه أن يدخل العراق، وأن يجتمع بأهل الكوفة ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم.

فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له: مسلم بن عوسجة الأسدي.

وقيل: نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي فالله أعلم.

فتسامع أهل الكوفة بقدومه، فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفا، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفا.

فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمهدت له البيعة والأمور، فتجهز الحسين من مكة قاصدا الكوفة كما سنذكره.

وانتشر خبرهم حتى بلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير خّبره رجل بذلك، فجعل يضرب عن ذلك صفحا ولا يعبأ به، ولكنه خطب الناس ونهاهم عن الاختلاف والفتنة، وأمرهم بالائتلاف والسنة.

وقال: إني لا أقاتل من لا يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليّ، ولا آخذكم بالظنة، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته لأقاتلنكم ما دام في يدي من سيفي قائمته.

فقام إليه رجل يقال له: عبد الله بن مسلم بن شعبة الحضرمي.

فقال له: إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالغشمة، وإن الذي سلكته أيها الأمير مسلك المستضعفين.

فقال له النعمان: لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون من الأقوياء الأعزين في معصية الله.

ثم نزل فكتب ذلك الرجل إلى يزيد يعلمه بذلك، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة، وعمرو بن سعد بن أبي وقاص، فبعث يزيد فعزل النعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة، وذلك بإشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية، وكان يزيد يستشيره.

فقال سرجون: أكنت قابلا من معاوية ما أشار به لو كان حيا؟

قال: نعم!

قال: فاقبل مني فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد، فوله إياها.

وكان يزيد يبغض عبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولاه البصرة والكوفة معا لما يريده الله به وبغيره.

ثم كتب يزيد إلى ابن زياد: إذا قدمت الكوفة فاطلب مسلم بن عقيل، فإن قدرت عليه فاقتله أو انفه، وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهلي، فسار ابن زياد من البصرة إلى الكوفة.

فلما دخلها متلثما بعمامة سوداء، فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قال: سلام عليكم.

فيقولون: وعليكم السلام مرحبا بابن رسول الله - يظنون أنه الحسين وقد كانوا ينتظرون قدومه - وتكاثر الناس عليه، ودخلها في سبعة عشر راكبا.

فقال لهم مسلم بن عمرو: من جهة يزيد، تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد، فلما علموا ذلك علتهم كآبة وحزن شديد، فتحقق عبيد الله الخبر، ونزل قصر الإمارة من الكوفة.

فلما استقر أمره أرسل مولى أبي رهم - وقيل: كان مولى له يقال له: معقل - ومعه ثلاثة آلاف درهم في صورة قاصد من بلاد حمص، وأنه إنما جاء لهذه البيعة، فذهب ذلك المولى فلم يزل يتلطف ويستدل على الدار التي يبايعون بها مسلم بن عقيل حتى دخلها، وهي دار هانئ بن عروة التي تحول إليها من الدار الأولى.

فبايع وأدخلوه على مسلم بن عقيل فلزمهم أياما حتى اطلع على جلية أمرهم، فدفع المال إلى أبي ثمامة العامري بأمر مسلم بن عقيل - وكان هو الذي يقبض ما يؤتى به من الأموال ويشتري السلاح - وكان من فرسان العرب، فرجع ذلك المولى وأعلم عبيد الله بالدار وصاحبها.

وقد تحول مسلم بن عقيل إلى دار هانئ بن حميد بن عروة المرادي، ثم إلى دار شريك بن الأعور، وكان من الأمراء الأكابر، وبلغه أن عبيد الله يريد عيادته.

فبعث إلى هانئ يقول له: ابعث مسلم بن عقيل حتى يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني.

فبعثه إليه فقال له شريك: كن أنت في الخباء، فإذا جلس عبيد الله فإني أطلب الماء وهي إشارتي إليك، فاخرج فاقتله.

فلما جاء عبيد الله جلس على فراش شريك وعنده هانئ بن عروة، وقام من بين يديه غلام يقال له مهران، فتحدث عنده ساعة.

ثم قال شريك: اسقوني، فتجبن مسلم عن قتله، وخرجت جارية بكوز من ماء، فوجدت مسلما في الخباء فاستحيت ورجعت بالماء ثلاثا.

ثم قال: اسقوني، ولو كان فيه ذهاب نفسي أتحمونني من الماء؟

ففهم مهران الغدر، فغمز مولاه فنهض سريعا وخرج.

فقال شريك: أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك.

فقال: سأعود!

فخرج به مولاه فأركبه وطرد به - أي ساق به - وجعل يقول له مولاه: إن القوم أرادوا قتلك.

فقال: ويحك إني بهم لرفيق، فما بالهم؟

وقال شريك لمسلم: ما منعك أن تخرج فتقتله؟

قال: حديث بلغني عن رسول الله أنه قال: «الإيمان ضد الفتك، لا يفتك مؤمن»، وكرهت أن أقتله في بيتك.

فقال: أَما لو قتلته لجلست في القصر لم يستعد منه أحد وليكفينك أمر البصرة، ولو قتلته لقتلت ظالما فاجرا، ومات شريك بعد ثلاث.

ولما انتهى ابن زياد إلى باب القصر وهو متلثم ظنه النعمان بن بشير الحسين قد قدم، فأغلق باب القصر وقال: ما أنا بمسلم إليك أمانتي.

فقال له عبيد الله: افتح لأفتحنه، ففتح وهو يظنه الحسين، فلما تحقق أنه عبيد الله أسقط في يده، فدخل عبيد الله إلى قصر الإمارة وأمر مناديا فنادى: إن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:

فإن أمير المؤمنين قد ولاني أمركم وثغركم وفيأكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدة على مريبكم وعاصيكم، وإنما أنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده.

ثم نزل وأمر العرفاء أن يكتبوا من عندهم من الزورية وأهل الريب والخلاف والشقاق، وأيما عريف لم يطلعنا على ذلك صلب أو نفي، وأسقطت عرافته من الديوان - وكان هانئ أحد الأمراء الكبار - ولم يسلم على عبيد الله منذ قدم وتمارض، فذكره عبيد الله وقال: ما بال هانئ لم يأتني مع الأمراء؟

فقالوا: أيها الأمير إنه يشتكي.

فقال: إنه بلغني أنه يجلس على باب داره.

وزعم بعضهم: أنه عاده قبل شريك بن الأعور ومسلم بن عقيل عنده، وقد هموا بقتله فلم يمكنهم هانئ لكونه في داره.

فجاء الأمراء إلى هانئ بن عروة فلم يزالوا به حتى أدخلوه على عبيد الله بن زياد، فالتفت عبيد الله إلى القاضي فقال متمثلا بقول الشاعر:

أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد

فلما سلم هانئ على عبيد الله قال: يا هانئ أين مسلم بن عقيل؟

قال: لا أدري.

فقام ذلك المولى التميمي الذي دخل دار هانئ في صورة قاصد من حمص فبايع في داره، ودفع الدراهم بحضرة هانئ إلى مسلم.

فقال: أتعرف هذا؟

قال: نعم!

فلما رآه هانئ قطع وأسقط في يده.

فقال: أصلح الله الأمير، والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه عليَّ.

فقال عبيد الله: فأتني به.

فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه.

فقال: أدنوه مني، فأدنوه فضربه بحربة على وجهه فشجه على حاجبه وكسر أنفه، وتناول هانئ سيف شرطي ليسله فدفع عن ذلك.

وقال عبيد الله: قد أحل الله لي دمك، لأنك حروري، ثم أمر به فحبسه في جانب الدار، وجاء قومه من بني مذحج مع عمرو بن الحجاج فوقفوا على باب القصر يظنون أنه قد قتل.

فسمع عبيد الله لهم جلبة، فقال لشريح القاضي وهو عنده: أخرج إليهم فقل لهم إن الأمير لم يحبسه إلا ليسأله عن مسلم بن عقيل.

فقال لهم: إن صاحبكم حي، وقد ضربه سلطاننا ضربا لم يبلغ نفسه، فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم.

فتفرقوا إلى منازلهم، وسمع مسلم بن عقيل الخبر فركب ونادى بشعاره: يا منصور أمت.

فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، وكان معه المختار بن أبي عبيد، ومعه راية خضراء، عبد الله بن نوفل بن الحارث براية حمراء، فرتبهم ميمنة وميسرة وسار هو في القلب إلى عبيد الله، وهو يخطب الناس في أمر هانئ ويحذرهم من الاختلاف، وأشراف الناس وأمراؤهم تحت منبره.

فبينما هو كذلك إذ جاءت النظارة يقولون: جاء مسلم بن عقيل، فبادر عبيد الله فدخل القصر ومن معه وأغلقوا عليهم الباب.

فلما انتهى مسلم إلى باب القصر وقف بجيشه هناك، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد الله في القصر، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف، وتهددوهم وتوعدوهم.

وأخرج عبيد الله بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل، ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت، الناس يكفونك.

ويقول الرجل لابنه وأخيه: كأنك غدا بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟

فتخاذل الناس وقصّروا وتصرّموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل، حتى لم يبق إلا في خمسمائة نفس.

ثم تقالّوا حتى بقي في ثلاثمائة، ثم تقالّوا حتى بقي معه ثلاثون رجلا، فصلى بهم المغرب وقصد أبواب كندة فخرج منها في عشرة.

ثم انصرفوا عنه فبقي وحده ليس معه من يدله على الطريق، ولا من يؤانسه بنفسه، ولا من يأويه إلى منزله، فذهب على وجهه واختلط الظلام وهو وحده يتردد في الطريق لا يدري أين يذهب.

فأتى بابا فنزل عنده وطرقه، فخرجت منه امرأة يقال لها: طوعة، كانت أم ولد للأشعث بن قيس، وقد كان لها ابن من غيره يقال له: بلال بن أسيد، خرج مع الناس وأمه قائمة بالباب تنتظره.

فقال لها مسلم بن عقيل: اسقني ماء فسقته، ثم دخلت وخرجت فوجدته.

فقالت: ألم تشرب؟

قال: بلى!

قالت: فاذهب إلى أهلك عافاك الله، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أجمله لك.

فقام فقال: يا أمة الله ليس لي في هذا البلد منزل ولا عشيرة، فهل إلى أجر ومعروف وفعل نكافئك به بعد اليوم؟

فقالت: يا عبد الله وما هو؟

قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغرّوني.

فقالت: أنت مسلم؟

قال: نعم!

قالت: ادخل! فأدخلته بيتا من دارها غير البيت الذي يكون فيه وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعش، فلم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول والخروج، فسألها عن شأنها.

فقالت: يا بني اله عن هذا، فألح عليها فأخذت عليه أن لا يحدث أحدا، فأخبرته خبر مسلم، فاضطجع إلى الصباح ساكتا لا يتكلم.

وأما عبيد الله بن زياد فإنه نزل من القصر بمن معه من الأمراء والأشراف بعد العشاء الآخرة، فصلى بهم العشاء في المسجد الجامع.

ثم خطبهم وطلب منهم مسلم بن عقيل وحث على طلبه، ومن وجد عنده ولم يعلم به فدمه هدر، ومن جاء به فله ديته، وطلب الشرط وحثهم على ذلك وتهددهم.

فلما أصبح ابن تلك العجوز ذهب إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأعلمه بأن مسلم بن عقيل في دارهم، فجاء عبد الرحمن فسارّ أباه بذلك وهو عند ابن زياد.

فقال ابن زياد: ما الذي سارّك به؟

فأخبره الخبر فنخس بقضيب في جنبه وقال: قم فأتني به الساعة.

وبعث ابن زياد عمر بن حريث المخزومي - وكان صاحب شرطته - ومعه عبد الرحمن، ومحمد بن الأشعث في سبعين أو ثمانين فارسا، فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط بالدار التي هو فيها.

فدخلوا عليه فقام إليهم بالسيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات، وأصيبت شفته العليا والسفلى.

ثم جعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطناب القصب فضاق بهم ذرعا، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم.

فأعطاه عبد الرحمن الأمان فأمكنه من يده، وجاؤوا ببغلة فأركبوه عليها وسلبوا عنه سيفه، فلم يبق يملك من نفسه شيئا.

فبكى عند ذلك وعرف أنه مقتول، فيئس من نفسه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال بعض من حوله: إن من يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي إذا نزل به هذا.

فقال: أما والله لست أبكي على نفسي، ولكن أبكي على الحسين، وآل الحسين، إنه قد خرج إليكم اليوم أو أمس من مكة، ثم التفت إلى محمد بن الأشعث فقال: إن استطعت أن تبعث إلى الحسين على لساني تأمره بالرجوع فافعل.

فبعث محمد بن الأشعث إلى الحسين يأمره بالرجوع فلم يصدق الرسول في ذلك، وقال: كل ما حم الإله واقع.

قالوا: ولما انتهى مسلم بن عقيل إلى باب القصر، إذا على بابه جماعة من الأمراء من أبناء الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه، ينتظرون أن يؤذن لهم على ابن زياد، ومسلم مخضب بالدماء في وجهه وثيابه، وهو مثخن بالجراح، وهو في غاية العطش، وإذا قلة من ماء بارد هنالك فأراد أن يتناولها ليشرب منها.

فقال له رجل من أولئك: والله لا تشرب منها حتى تشرب من الحميم.

فقال له: ويلك يا ابن ناهلة، أنت أولى بالحميم والخلود في نار الجحيم مني.

ثم جلس فتساند إلى الحائط من التعب والكلال والعطش، فبعث عمارة بن عقبة بن أبي معيط مولى له إلى داره فجاء بقلة عليها منديل، ومعه قدح.

فجعل يفرغ له في القدح ويعطيه فيشرب فلا يستطيع أن يسيغه من كثرة الدماء التي تعلو على الماء مرتين أو ثلاثا، فلما شرب سقطت ثناياه مع الماء.

فقال: الحمد لله لقد كان بقي لي من الرزق المقسوم شربة ماء.

ثم أدخل على ابن زياد، فلما وقف بين يديه لم يسلم عليه.

فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟!

فقال: لا! إن كان يريد قتلي فلا حاجة لي بالسلام عليه، وإن لم يرد قتلي فسأسلم عليه كثيرا.

فأقبل ابن زياد عليه فقال: إيه يا ابن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتتهم وتفرق كلمتهم، وتحمل بعضهم على قتل بعض؟

قال: كلا لست لذلك أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب.

قال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ لم لا كنت تعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟.

فقال: أنا أشرب الخمر؟! والله إن الله ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأنت أحق بذلك مني، فإني لست كما ذكرت، وإن أولى بها مني من يلغ في دماء المسلمين ولغا، ويقتل النفس التي حرم الله بغير نفس، ويقتل على الغضب والظن، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا.

فقال له ابن زياد: يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونك ودونه، ولم يرك أهله.

قال: فمن أهله يا ابن زياد؟

قال: أمير المؤمنين يزيد.

قال: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم.

قال: كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا؟

قال: لا والله ما هو بالظن ولكنه اليقين.

قال له: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس.

قال: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة المكتسبة عن كتابكم وجهالكم.

وأقبل ابن زياد يشتمه، ويشتم حسينا وعليا، ومسلم ساكت لا يكلمه.

رواه ابن جرير، عن أبي مخنف وغيره من رواة الشيعة.

ثم قال له ابن زياد: إني قاتلك.

قال: كذلك؟

قال: نعم.

قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي.

قال: أوص.

فنظر في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص.

فقال: يا عمر إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك. فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد.

فقام فتنحى قريبا من ابن زياد، فقال له مسلم: إنّ عليّ دينا في الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلا.

فقام عمر فعرض على ابن زياد ما قال له، فأجاز ذلك له كله.

وقال: أما الحسين فإنه لم يردنا لا نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه.

ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل فأصعد إلى أعلا القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا.

ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران، ثم ألقي رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده.

ثم أمر بهانئ بن عروة المذحجي فضربت عنقه بسوق الغنم، وصُلب بمكان من الكوفة يقال له: الكناسة.

فقال رجل شاعر في ذلك قصيدة:

فان كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل

أصابهما أمر الإمام فأصبحا * أحاديث من يغشى بكل سبيل

إلى بطلٍ قد هشم السيف وجهه * وآخر يهوي في طمار قتيل

ترى جسدا قد غير الموت لونه * ونضح دمٍ قد سال كلّ مسيل

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم * فكونوا بغيا أرضيت بقليل

ثم إن ابن زياد قتل معهما أناسا آخرين، ثم بعث برؤوسهما إلى يزيد بن معاوية إلى الشام، وكتب له كتابا صورة ما وقع من أمرهما.

وقد كان عبيد الله قبل أن يخرج من البصرة بيوم خطب أهلها خطبة بليغة، ووعظهم فيها وحذرهم، وأنذرهم من الاختلاف والفتنة والتفرق.

وذلك لما رواه هشام بن الكلبي وأبو مخنف، عن الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهدي.

قال: بعث الحسين مع مولى له يقال له: سلمان كتابا إلى أشراف أهل البصرة فيه:

أما بعد:

فإن الله اصطفى محمدا على خلقه وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وورثته وأحق الناس به وبمقامه في الناس.

فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا، وتحروا الحق فرحمهم الله وغفر لنا ولهم.

وقد بعثت إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فإن السنة قد أميتت، وإن البدعة قد أحييت، فتسمعوا قولي وتطيعوا أمري، فإن فعلتم أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله.

وعندي في صحة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنه مطرز بكلام مريد من بعض رواة الشيعة.

قال: فكل من قرأ ذلك من الأشراف كتمه إلا المنذر بن الجارود فإنه ظن أنه دسيسة من ابن زياد، فجاء به إليه، فبعث خلف الرسول الذي جاء به من حسين فضرب عنقه، وصعد عبيد الله بن زياد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:

فوالله ما بي تقرن الصعبة، وما يقعقع لي بالشنان، وإني لنكال لمن عاداني، وسهام لمن حاربني، أنصف القارة من رماها.

يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين ولاني الكوفة وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإياكم والخلاف والإرجاف، فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى.

حتى يستقيم لي الأمر، ولا يكن فيكم مخالف ولا مشاقق، أنا ابن زياد أشبهته من بين مَنْ وطئ الحصى، ولم يتنزعني شبه خالٍ ولا عمٍ.

ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي فكان من أمره ما تقدم.

قال أبو مخنف: عن الصقعب بن زهير، عن عون بن جحيفة قال: كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة، وقتل يوم الأربعاء لتسع مضين من ذي الحجة، وذلك يوم عرفة سنة ستين.

وكان ذلك بعد مخرج الحسين من مكة قاصدا أرض العراق بيوم واحد، وكان خروج الحسين من المدينة إلى مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بمكة بقية شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة.

وخرج من مكة لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية.

وفي رواية ذكرها ابن جرير: أن مسلم بن عقيل لما بكى قال له عبيد الله بن عباس السلمي: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذ أنزل به مثل الذي نزل بك.

قال: إني والله ما لنفسي أبكي، ومالها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكنني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي الحسين وآل حسين.

ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله! إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلا على لساني يبلغ حسينا عني رسالة؟

فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غدا هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول له: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل.

وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي.

فقال ابن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك.

قال أبو مخنف: فدعا محمد بن الأشعث إياس بن العباس الطائي من بني مالك بن ثمامة - وكان شاعرا - فقال له: اذهب فالق حسينا فأبلغه هذا الكتاب - وكتب فيه الذي أمره به ابن عقيل - ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره.

فخرج حتى لقي الحسين بزبالة، لأربع ليال من الكوفة فأخبره الخبر وأبلغه الرسالة.

فقال الحسين: كل ما حم نازل، عند الله نحتسب وأنفسنا وفساد أئمتنا.

ولما انتهى مسلم إلى باب القصر وأراد شرب الماء قال له مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها؟ والله لا تذوقها أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم.

فقال ابن عقيل: ويحك من أنت؟

قال: أنا من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال له مسلم: لأمك الويل! ما أجفاك وأفظّك، وأغلظك يا ابن ناهلة!! أنت والله أولى بالحميم ونار الجحيم.

صفة مخرج الحسين إلى العراق

عدل

لما تواترت الكتب إلى الحسين من جهة أهل العراق وتكررت الرسل بينهم وبينه، وجاءه كتاب مسلم بن عقيل بالقدوم عليه بأهله، ثم وقع في غبون ذلك ما وقع من قتل مسلم بن عقيل، والحسين لا يعلم بشيء من ذلك.

بل قد عزم على المسير إليهم، والقدوم عليهم، فاتفق خروجه من مكة أيام التروية قبل مقتل مسلم بيوم واحد - فإن مسلما قتل يوم عرفة - ولما استشعر الناس خروجه أشفقوا عليه من ذلك، وحذروه منه، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالمقام بمكة، وذكره ما جرى لأبيه وأخيه معهم.

قال سفيان بن عيينة: عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس، عن ابن عباس.

قال: استشارني الحسين بن علي في الخروج.

فقلت: لولا أن يزري بي وبك الناس لشبثت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب.

فكان الذي ردّ عليّ أن قال: لأن أقتل في مكان كذا وكذا أحب إليّ من أن أقتل بمكة.

قال: فكان هذا الذي سلَّى نفسي عنه.

وروى أبو مخنف: عن الحارث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان: أن حسينا لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه ابن عباس فقال: يا ابن عم إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع؟

فقال: إني قد أجمعت المسير في أحد يوميّ هذين إن شاء الله تعالى.

فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان قد دعوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك.

فقال الحسين: إني أستخير الله وأنظر ما يكون.

فخرج ابن عباس عنه، ودخل ابن الزبير فقال له: ما أدري ما تركنا لهؤلاء القوم ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم، أخبرني ما تريد أن تصنع؟.

فقال الحسين: والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلىّ شيعتي بها وأشرافها بالقدوم عليهم، وأستخير الله.

فقال ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت عنها.

فلما خرج من عنده، قال الحسين: قد علم ابن الزبير أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأن الناس لم يعدلوا بي غيري، فود أني خرجت لتخلو له.

فلما كان من العشي أو من الغد، جاء ابن عباس إلى الحسين فقال له: يا ابن عم! إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصونا وشعابا، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس في معزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب.

فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير.

فقال له: فإن كنت ولا بد سائرا فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.

ثم قال ابن عباس: أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه بالحجاز، فوالله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليّ وعليك الناس أطعتني وأقمت لفعلت ذلك.

قال: ثم خرج من عنده فلقي ابن الزبير فقال: قرت عينك يا ابن الزبير؟ ثم قال:

يالك من قنبرةٍ بمعمرٍ * خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري * صيادك اليوم قتيل فابشري

ثم قال ابن عباس: هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز.

وقال غير واحد: عن شبابة بن سوار.

قال: حدثنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسدي.

قال: سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر: أنه كان بمكة فبلغه أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليالٍ، فقال: أين تريد؟

قال: العراق، وإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم.

فقال: لا تأتهم؛ فأبى.

فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا، إن جبريل أتى النبي فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله ؛ والله ما يليها أحد منكم أبدا؛ وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع.

قال: فاعتنقه ابن عمر وبكى قال: أستودعك الله من قتيل.

وقال يحيى بن معين: حدثنا أبو عبيدة، ثنا سليم بن حيان، عن سعيد بن مينا.

قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: عجل حسين قدره، والله لو أدركته ما تركته يخرج إلا أن يغلبني، ببني هاشم فتح هذا الأمر، وببني هاشم يختم، فإذا رأيت الهاشمي قد ملك فقد ذهب الزمان.

قلت: وهذا مع حديث ابن عمر يدل على أن الفاطميين أدعياء كذبة، لم يكونوا من سلالة فاطمة كما نص عليه غير واحد من الأئمة على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي، ثنا أبو سفيان، ثنا عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب.

قال: قال ابن الزبير للحسين: أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟

فقال: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن تستحل بي - يعني: مكة -.

وقال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله أخبرني من سمع هشام بن يوسف يقول عن معمر قال: سمعت رجلا يحدّث عن الحسين أنه قال لعبد الله بن الزبير: أتتني بيعة أربعين ألفا يحلفون بالطلاق والعتاق إنهم معي.

فقال له ابن الزبير: أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟

قال هشام: فسألت معمرا عن الرجل فقال: هو ثقة.

قال الزبير: وقال عمي: وزعم بعض الناس أن ابن عباس هو الذي قال هذا.

وقد ساق محمد بن سعد كاتب الواقدي هذا سياقا حسنا مبسوطا.

فقال: أنبأنا علي بن محمد، عن يحيى بن إسماعيل بن أبي المهاجر، عن أبيه، وعن لوط يحيى العامري، عن محمد بن بشير الهمداني وغيره، وعن محمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، عن هارون بن عيسى، عن يونس بن إسحاق، عن أبيه، وعن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي.

قال محمد بن سعد: وغير هؤلاء قد حدثني أيضا في هذا الحديث بطائفة فكتبت جوامع حديثهم في مقتل الحسين رضي الله عنه وأرضاه.

قالوا: لما بايع الناس معاوية ليزيد كان حسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كل ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفية يطلبون إليه أن يخرج معهم فأبى، وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم.

فقال له الحسين: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويستنبطوا دماء الناس ودماءنا، فأقام حسين على ما هو عليه من الهموم، مرة يريد أن يسير إليهم، ومرة يجمع الإقامة عنهم.

فجاءه أبو سعيد الخدري فقال: يا أبا عبد الله! إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم، فإني سمعت أباك يقول بالكوفة: والله لقد مللتهم وأبغضتهم، وملوني وأبغضوني، وما يكون منهم وفاء قط، ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله ما لهم نيات ولا عزم على أمر، ولا صبر على السيف.

قال: وقدم المسيب بن عتبة الفزاري في عدة معه إلى الحسين بعد وفاة الحسن، فدعوه إلى خلع معاوية وقالوا: قد علمنا رأيك ورأي أخيك.

فقال: إني لأرجو أن يعطي الله أخي على نيته في حبه الكف، وأن يعطيني على نيتي في حبي جهاد الظالمين.

وكتب مروان إلى معاوية: إني لست آمن أن يكون حسين مرصدا للفتنة، وأظن يومكم من حسين طويلا.

فكتب معاوية إلى الحسين: إن من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء، وقد أنبئت أن قوما من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق، وأهل العراق من قد جربت قد أفسدوا على أبيك وأخيك، فاتق الله واذكر الميثاق، فإنك متى تكدني أكدك.

فكتب إليه الحسين: أتاني كتابك وأنا بغير الذي بلغك عني جدير، والحسنات لا يهدي لها إلا الله، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافا، وما أظن لي عند الله عذرا في ترك جهادك، وما أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة.

فقال معاوية: إن أثرنا بأبي عبد الله إلا شرا.

وكتب إليه معاوية أيضا في بعض ما بلغه عنه: إني لأظن أن في رأسك نزوة، فوددت أني أدركها فأغفرها لك.

قالوا: فلما احتضر معاوية دعا يزيد فأوصاه بما أوصاه به، فقال له: انظر حسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، فإنه أحب الناس إلى الناس، فصِلْ رحمه، وارفق به، يصلح لك أمره، فإن يكن منه شيء فإني أرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه.

وتوفي معاوية ليلة النصف من رجب سنة ستين، وبايع الناس يزيد، فكتب يزيد مع عبد الله بن عمرو بن أويس العامري عامر بن لؤي، إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو على المدينة: أن ادع الناس فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكن أول من تبدأ به الحسين بن علي، فإن أمير المؤمنين عهد إليّ في أمره الرفق به واستصلاحه.

فبعث الوليد من ساعته نصف الليل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير فأخبرهما بوفاة معاوية، ودعاهما إلى البيعة ليزيد بن معاوية.

فقالا: إلى أن نصبح وننظر ما يصنع الناس، ووثب الحسين فخرج وخرج معه ابن الزبير وقالا: هو يزيد الذي نعرف، والله ما حدث له عزم ولا مروءة.

وقد كان الوليد أغلظ للحسين فشتمه الحسين وأخذ عمامته فنزعها من رأسه.

فقال الوليد: إن هجنا بأبي عبد الله إلا شرا.

فقال له مروان - أو بعض جلسائه - اقتله.

فقال: إن ذلك لدم مضنون به مصون في بني عبد مناف.

قالوا: وخرج الحسين وابن الزبير من ليلتهما إلى مكة، وأصبح الناس فغدوا على البيعة ليزيد، وطلب الحسين وابن الزبير فلم يوجدا.

فقال المسور بن مخرمة: عجل الحسين وابن الزبير يلفته ويرجيه ليخلو بمكة، فقدما مكة فنزل الحسين دار العباس، ولزم ابن الزبير الحجر، ولبس المعافري وجعل يحرض الناس على بني أمية، وكان يغدو ويروح إلى الحسين ويشير عليه أن يقدم العراق، ويقول: هم شيعتك وشيعة أبيك.

وكان ابن عباس ينهاه عن ذلك، وقال له عبد الله بن مطيع: إني فداؤك وأبي وأمي، فأمتعنا بنفسك ولا تسر إلى العراق، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذونا عبيدا وخولا.

قالوا: ولقيهما عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وابن أبي ربيعة بالأبواء، منصرفين من العمرة.

فقال لهما ابن عمر: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس، وتنظرا فإن اجتمع الناس عليه فلم تشذا، وإن افترقوا عليه كان الذي تريدان.

وقال ابن عمر للحسين: لا تخرج فإن رسول الله خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنك بضعة منه ولا تنالها - يعني: الدنيا - واعتنقه وبكى وودعه، فكان ابن عمر يقول: غلبنا حسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، فرأى من الفتنة وخذلان الناس لهما ما كان ينبغي له أن لا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير.

وقال له ابن عباس: وأين تريد يا ابن فاطمة؟

فقال: العراق وشيعتي.

فقال: إني لكاره لوجهك هذا تخرج إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك حتى تركهم سخطة وملالة لهم؟ أذكرك الله أن تغرر بنفسك.

وقال أبو سعيد الخدري: غلبني الحسين على الخروج، وقلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك ولا تخرج على إمامك.

وقال أبو واقد الليثي: بلغني خروج الحسين بن علي فأدركته بملل، فناشدته الله أن لا يخرج فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما خرج يقتل نفسه.

فقال: لا أرجع.

وقال جابر بن عبد الله: كلمت حسينا فقلت: اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني.

وقال سعيد بن المسيب: لو أن حسينا لم يخرج لكان خيرا له.

وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: وقد كان ينبغي لحسين أن يعرف أهل العراق ولا يخرج إليهم، ولكن شجعه على ذلك ابن الزبير.

وكتب إليه المسور بن مخرمة: إياك أن تغتر بكتب أهل العراق وبقول ابن الزبير: الحق بهم فإنهم ناصروك.

وقال له ابن عباس: لا تبرح الحرم، فإنهم إن كانت بهم إليك حاجة فسيضربون إليك أباط الإبل حتى يوافوك فتخرج في قوة وعدة.

فجزاه خيرا وقال: أستخير الله في ذلك.

وكتبت إليه عمرة بنت عبد الرحمن تعظم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنه إن لم يفعل إنما يساق إلى مصرعه.

وتقول: أشهد لسمعت عائشة تقول: إنها سمعت رسول الله يقول: «يقتل الحسين بأرض بابل».

فلما قرأ كتابها قال: فلا بد لي إذا من مصرعي ومضى.

وأتاه بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له: يا ابن عم قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره، فأذكرك الله في نفسك.

فقال: جزاك الله يا ابن عم خيرا، مهما يقضي الله من أمر يكن.

فقال أبو بكر: إنا لله وإنا إليه راجعون، نحتسب أباه عبد الله عند الله.

وكتب إليه عبد الله بن جعفر كتابا يحذره أهل العراق ويناشده الله إن شخص إليهم.

فكتب إليه الحسين: إني رأيت رؤيا، ورأيت رسول الله أمرني بأمر وأنا ماضٍ له، ولست بمخبر بها أحدا حتى ألاقي عملي.

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص نائب الحرمين: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عما يرديك، بلغني أنك قد عزمت على الشخوص إلى العراق، وإني أعيذك الله من الشقاق، فإنك إن كنت خائفا فأقبل إليّ، فلك عندي الأمان والبر والصلة.

فكتب إليه الحسين: إن كنت أردت بكتابك بري وصلتي فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة، وأنه لم يشاقق من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، وخير الأمان أمان الله، ولم يؤمن بالله من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانا يوم القيامة عنده.

قالوا: وكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس يخبره بخروج الحسين إلى مكة، وأحسبه قد جاءه رجال من أهل المشرق فمنوه الخلافة، وعندك منهم خبر وتجربة، فإن كان قد فعل فقد قطع راسخ القرابة، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة.

وكتب لهذه الأبيات إليه وإلى من بمكة والمدينة من قريش:

يا أيها الراكب العادي مطيته * على غدافرةٍ في سيرها فحم

أبلغ قريشا على نأي المزار بها * بيني وبين حسين الله والرحم

وموقف بفناء البيت أنشده * عهد الإله وما توفي به الذمم

عنيتم قومكم فخرا بأمكم * أم لعمري حصان برة كرم

هي التي لا يداني فضلها أحدٌ * بنت الرسول وخير الناس قد علموا

وفضلها لكم فضل وغيركم * من قومكم لهم في فضلها قسم

إني لأعلم أو ظنا كعالمه * والظن يصدق أحيانا فينتظم

أن سوف يترككم ما تدعون بها * قتلى تهاداكم العقبان والرخم

يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ مسكت * ومسكوا بحبال السلم واعتصموا

قد جرب الحرب من قد كان قبلكم * من القرون وقد باذت بها الأمم

فانصفوا قومكم لا تهلكوا برحا * فرب ذي برحٍ زلت به القدم

قال: فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما تجتمع به الألفة وتطفي به الثائرة.

ودخل ابن عباس على الحسين فكلمه طويلا وقال له: أنشدك أن تهلك غدا بحال مضيعة لا تأتي العراق، وإن كنت لا بد فاعلا فأقم حتى ينقضي الموسم وتلقى الناس وتعلم ما يصدرون، ثم ترى رأيك، وذلك في عشر ذي الحجة.

فأبى الحسين إلا أن يمضي إلى العراق، فقال له ابن عباس: والله إني لأظنك ستقتل غدا بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان بين نسائه وبناته، والله إني لأخاف أن تكون أنت الذي يقاد به عثمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فقال له الحسين: أبا العباس إنك شيخ قد كبرت.

فقال له ابن عباس: لولا أن يزري ذلك بي وبك لنشبت يدي في رأسك، ولو أعلم أنا إذا تباصينا أقمت لفعلت، ولكن لا أخال ذلك مانعك.

فقال الحسين: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن أقتل بمكة وتستحل بي.

قال: فبكى ابن عباس وقال: أقررت عين ابن الزبير بذلك، وذلك الذي سلى نفسي عنه.

قال: ثم خرج ابن عباس عنه وهو مغضب وابن الزبير على الباب، فلما رآه قال: يا ابن الزبير قد أتى ما أحببت، قرت عينك، هذا أبو عبد الله خارج ويتركك والحجاز، ثم قال:

يالكِ من قنبرةٍ بمعمر * خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري * صيادك اليوم قتيل فأبشري

قال: وبعث الحسين إلى المدينة يقدم عليه من خفّ من بني عبد المطلب، وهم تسعة عشر رجلا ونساء وصبيان من إخوته وبناته ونسائه، وتبعهم محمد بن الحنفية، فأدرك حسينا بمكة، فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا.

فأبى الحسين أن يقبل، فحبس محمد بن الحنفية ولده فلم يبعث أحدا منهم حتى وجد الحسين في نفسه على محمد، وقال: ترغب بولدك عن موضع أُصاب فيه؟

فقال: وما حاجتي إلى أن تصاب ويصابون معك؟

وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم؟

قالوا: وبعث أهل العراق إلى الحسين الرسل والكتب يدعونه إليهم، فخرج متوجها إليهم في أهل بيته وستين شخصا من أهل الكوفة صحبته، وذلك يوم الاثنين في عشر ذي الحجة.

فكتب مروان إلى ابن زياد: أما بعد فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله ، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، فإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء، ولا تنساه العامة، ولا تدع ذكره آخر الدهر، والسلام.

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص: أما بعد فقد توجه إليك الحسين، وفي مثلها تعتق أو تكون عبدا تسترق كما يسترق العبيد.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه.

قال: كتب يزيد إلى ابن زياد: إنه قد بلغني أن حسينا قد سار إلى الكوفة، وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت أنت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبدا كما ترق العبيد وتعبّد، فقتله ابن زياد وبعث برأسه إليه.

قلت: والصحيح أنه لم يبعث برأس الحسين إلى الشام كما سيأتي.

وفي رواية: أن يزيد كتب إلى ابن زياد: قد بلغني أن الحسين قد توجه إلى نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس واحبس على الظنة وخذ على التهمة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إليّ في كل ما يحدث من خبر والسلام.

قال الزبير بن بكار: وحدثني محمد بن الضحاك قال: لما أراد الحسين الخروج من مكة إلى الكوفة مر بباب المسجد الحرام وقال:

لا ذعرت السوام في فلق الصبح * مغيرا ولا دعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيما * والمنايا ترصدنني أن أحيدا

وقال أبو مخنف: قال أبو جناب يحيى بن أبي خيثمة: عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عبد الله بن سليم، والمنذر بن المشمعل الأسديين قالا: خرجنا حاجين من الكوفة فقدمنا مكة فدخلنا يوم التروية فإذا نحن بالحسين وابن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر والباب، فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر فوازرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك؟

فقال الحسين: إن أبي حدثني أن لها كبشا يستحل حرمتها يقتل، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش.

فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وولني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى.

فقال: وما أريد هذا أيضا.

ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حتى سمعنا دُعَاةَ الناس متوجهين إلى منى عند الظهيرة.

قالا: فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصَّر من شعره، وحل من عمرته، ثم توجه نحو الكوفة وتوجهنا نحن مع الناس إلى منى.

وقال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان.

قال: لما خرج الحسين من مكة اعترضه رسل عمرو بن سعيد - يعني: نائب مكة - عليهم أخوه يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف أين تريد؟

فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسياط والعصي، ثم إن حسينا وأصحابه امتنعوا منهم امتناعا قويا، ومضى الحسين على وجهه ذلك، فناداه: يا حسين ألا تتقي الله؟

تخرج من الجماعة وتفرق بين الأمة بعد اجتماع الكلمة؟

قال: فتأول الحسين هذه الآية: { لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } 22.

قال: ثم إن الحسين مر بالتنعيم فلقي بها عيرا قد بعث بها بجير بن زياد الحميري نائب اليمن قد أرسلها من اليمن إلى يزيد بن معاوية، عليها ورس وحلل كثيرة، فأخذها الحسين وانطلق بها، واستأجر أصحاب الجمال عليها إلى الكوفة، ودفع إليهم أجرتهم.

ثم ساق أبو مخنف بإسناده الأول: أن الفرزدق لقي الحسين في الطريق فسلم عليه وقال له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب.

فسأله الحسين عن أمر الناس وما وراءه فقال له: قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.

فقال له: صدقت، لله الأمر من قبل ومن بعد، يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحق نيته، والتقوى سريرته، ثم حرك الحسين راحلته وقال: السلام عليكم ثم افترقا.

وقال هشام بن الكلبي: عن عوانة بن الحكم، عن ليطة بن غالب بن الفرزدق، عن أبيه.

قال: حججت بأمي فبينما أنا أسوق بها بعيرها حين دخلت الحرم في أيام الحج، وذلك في سنة ستين، إذ لقيت الحسين خارجا من مكة معه أسيافه وأتراسه، فقلت له: بأبي وأمي يا بن رسول الله، ما أعجلك عن الحج؟

فقال: لو لم أعجل لأخِذتُ، ثم سألني ممن أنت؟

فقلت: امرؤ من العراق، فسألني عن الناس فقلت له: القلوب معك والسيوف مع بني أمية، وذكر نحو ما تقدم.

قال الفرزدق: وسألت الحسين عن أشياء وعن المناسك فأخبرني بها، قال: وإذا هو ثقيل اللسان من برسام كان أصابه بمن بالعراق.

قال: ثم مضيت فإذا فسطاط مضروب في الحرم وهيئة حسنه، فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص، فسألني فأخبرته أني لقيت الحسين، قال: فهلا أتبعته؟ فإن الحسين لا يحيك فيه السلاح ولا يجوز فيه وفي أصحابه.

فندم الفرزدق وهمَّ أن يلحق به، ووقع في قلبه مقالة ابن عمرو، ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم فصدني ذلك عن اللحاق به.

فلما بلغه أنه قتل لعن ابن عمرو، وكان ابن عمرو يقول: والله لا تبلغ الشجرة ولا النخلة ولا الصغير حتى يبلغ هذا الأمر ويظهر، وإنما أراد ابن عمرو بقوله: لا يحيك فيه السلاح، أي: السلاح الذي لم يقدر أن يقتل به.

وقيل: غير ذلك.

وقيل: أراد الهزل بالفرزدق.

قالوا: ثم سار الحسين لا يلوي على شيء حتى نزل ذات عرق.

قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن على بن الحسين بن علي.

قال: لما خرجنا من مكة كتب عبد الله بن جعفر إلى الحسين مع ابنه عون ومحمد:

أما بعد:

فإني أسائلك بالله لما انصرفت حتى تنظر في كتابي هذا، فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طفئ نور الإسلام، فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في أثر كتابي والسلام.

ثم نهض عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد نائب مكة، فقال له: اكتب إلى الحسين كتابا تجعل له فيه الأمان، وتمنيه في البر والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع.

فقال له عمرو: اكتب عني ما شئت وأتني به حتى أختمه.

فكتب ابن جعفر على لسان عمرو بن سعيد ما أراد عبد الله، ثم جاء بالكتاب إلى عمرو فختمه بخاتمة، وقال عبد الله لعمرو بن سعيد: ابعث معي أمانك، فبعث معه أخاه يحيى، فانصرفا حتى لحقا الحسين فقرآ عليه الكتاب فأبى أن يرجع وقال: إني رأيت رسول الله في المنام وقد أمرني فيها بأمر وأنا ماضٍ له.

فقالا: وما تلك الرؤيا؟

فقال: لا أحدث بها أحدا حتى ألقى ربي عز وجل.

قال أبو مخنف: وحدثني محمد بن قيس: أن الحسين أقبل حتى إذا بلغ الحاجر من بطن ذي الرمة، بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم:

بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا، والطلب بحقنا، فنسأل الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر.

وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكتموا أمركم وجدوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قال: وكان كتاب مسلم قد وصل إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة، ومضمونه:

أما بعد:

فإن الرائد لا يكذب أهله، وإن جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي هذا والسلام عليكم.

قال: وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي بكتاب الحسين إلى الكوفة، حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله بن زياد فقال له ابن زياد: اصعد إلى أعلا القصر فسب الكذاب ابن الكذاب علي بن أبي طالب وابنه الحسين.

فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله، وهو ابن فاطمة بنت رسول الله وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر من بطن ذي الرمة، فأجيبوه واسمعوا له وأطيعوا.

ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلي والحسين.

فأمر به ابن زياد فأُلقي من رأس القصر فتقطع، ويقال: بل تكسرت عظامه وبقي فيه بقية رمق، فقام إليه عبد الملك بن عمير البجلي فذبحه.

وقال: إنما أردت إراحته من الألم.

وقيل: إنه رجل يشبه عبد الملك بن عمير وليس به، وفي رواية: أن الذي قدم بكتاب الحسين إنما هو عبد الله بن بقطر أخو الحسين من الرضاعة، فأُلقي من أعلى القصر، والله أعلم.

ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة ولا يعلم بشيء مما وقع من الأخبار.

قال أبو مخنف: عن أبي علي الأنصاري، عن بكر بن مصعب المزني.

قال: وكان الحسين لا يمر بماء من مياه العرب إلا اتبعوه.

قال: قال أبو مخنف: عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم، والمنذر بن المشمعل الأسديين قالا: لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين، فأدركناه وقد مر برجل من بني أسد فهمّ الحسين أن يكلمه ويسأله ثم ترك، فجئنا ذلك الرجل فسألناه عن أخبار الناس فقال: والله لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق.

قالا: فلحقنا الحسين فأخبرناه، فجعل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون مرارا.

فقلنا له: الله الله في نفسك.

فقال: لا خير في العيش بعدهما.

قلنا: خار الله لك.

وقال له بعض أصحابه: والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قد قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع.

وقال غيرهما: لما سمع أصحاب الحسين بمقتل مسلم بن عقيل، وثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب وقالوا: لا والله لا ترجع حتى ندرك ثأرنا، أو نذوق ما ذاق أخونا.

فسار الحسين حتى إذا كان بزرود بلغه أيضا مقتل الذي بعثه بكتابه إلى أهل الكوفة بعد أن خرج من مكة ووصل إلى حاجر، فقال: خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج عليه، وليس عليه منا ذمام.

قال: فتفرق الناس عنه أيادي سبا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة، وإنما فعل ذلك لأنه ظن أن من اتبعه من الأعراب إنما اتبعوه لأنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهلها، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون، وقد علم أنه إذا بينّ لهم الأمر لم يصحبه إلا من يريد مواساته في الموت معه.

قال: فلما كان السحر أمر فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا منه، ثم سار حتى مر ببطن العقبة فنزل بها.

وقال محمد بن سعد: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جعفر بن سليمان، عن يزيد الرشك قال: حدثني من شافه الحسين قال: رأيت أخبية مضروبة بفلاة من الأرض فقلت: لمن هذه؟

قالوا: هذه لحسين.

قال: فأتيته فإذا شيخ يقرأ القرآن والدموع تسيل على خديه ولحيته.

قال: قلت بأبي وأمي يا بن بنت رسول الله ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟

فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليّ ولا أراهم إلا قاتلي، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلا انتهكوها، فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الأمة - يعني: مقنعتها -.

وأخبرنا علي بن محمد، عن الحسن بن دينار، عن معاوية بن قرة.

قال: قال الحسين: والله لتعتدنّ عليّ كما اعتدت بنو إسرائيل في السبت.

وحدثنا علي بن محمد، عن جعفر بن سليمان الضبعي.

قال: قال الحسين: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الأمة.

فقتل بنينوى يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي، ثنا سفيان، ثنا شهاب بن حراش، عن رجل من قومه.

قال: كنت في الجيش الذين بعثهم ابن زياد إلى الحسين، وكانوا أربعة آلاف يريدون قتال الديلم، فعينهم ابن زياد وصرفهم إلى قتال الحسين، فلقيت حسينا فرأيته أسود الرأس واللحية.

فقلت له: السلام عليك أبا عبد الله.

فقال: وعليك السلام - وكانت فيه غنة -.

فقال: لقد باتت فيكم سللة منذ الليلة - يعني: سراقا -.

قال شهاب: فحدثت به زيد بن علي فأعجبه - وكانت فيه غنة -.

قال سفيان بن عيينة: وهي في الحسينيين.

قال أبو مخنف عن أبي خالد الكاهلي.

قال: لما صبحت الخيل الحسين بن علي رفع يديه فقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي من كل أمر نزل ثقة وعدة، فكم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، فأنزلته بك وشكوته إليك؛ رغبة فيه إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت لي وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل غاية.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني حجاج بن محمد، عن أبي معشر، عن بعض مشيخته.

قال: قال الحسين حين نزلوا كربلاء: ما اسم هذه الأرض؟

قالوا: كربلاء.

قال: كرب وبلاء.

وبعث عبيد الله بن زياد عمر بن سعد لقتالهم، فقال له الحسين: يا عمر اختبرني إحدى ثلاث خصال: إما أن تتركني أرجع كما جئت، فإن أبيت هذه فسيّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده فيحكم فيّ ما رأى، فإن أبيت هذه فسيّرني إلى الترك فأقاتلهم حتى أموت.

فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهمّ أن يسيره إلى يزيد، فقال شمر بن ذي الجوشن: لا! إلا أن ينزل على حكمك، فأرسل إلى الحسين بذلك.

فقال الحسين: والله لا أفعل، وأبطأ عمر عن قتاله فأرسل ابن زياد شمر بن ذي الجوشن وقال له: إن تقدم عمر فقاتل وإلا فاقتله وكن مكانه، فقد وليتك الإمرة.

وكان مع عمر قريب من ثلاثين رجلا من أعيان أهل الكوفة، فقالوا له: يعرض عليكم ابن بنت رسول الله ثلاث خصال فلا تقبلوا منها شيئا؟ فتحولوا مع الحسين يقاتلون معه.

وقال أبو زرعة: حدثنا سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، عن حصين قال: أدركت من مقتل الحسين قال: فحدثني سعد بن عبيدة قال: فرأيت الحسين وعليه جبة برود ورماه رجل يقال له: عمرو بن خالد الطهوي بسهمٍ، فنظرت إلى السهم معلقا بجبته.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عمار الرازي، حدثني سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، ثنا حصين: أن الحسين بعث إليه أهل الكوفة: إن معك مائة ألف.

فبعث إليهم مسلم بن عقيل فذكر قصة مقتل مسلم كما تقدم.

قال حصين: فحدثني هلال بن يساف: أن ابن زياد أمر الناس أن يأخذوا ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة حفظا فلا يدعون أحدا يلج ولا أحدا يخرج، وأقبل الحسين ولا يشعر بشيء حتى أتى الأعراب فسألهم عن الناس.

فقالوا: والله لا ندري، غير أنك لا تستطيع أن تلج ولا تخرج.

قال: فانطلق يسير نحو يزيد بن معاوية، فتلقته الخيول بكربلاء فنزل يناشدهم الله والإسلام.

قال: وكان بعث إليه ابن زياد عمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وحصين بن نمير، فناشدهم الله والإسلام أن يسيروه إلى أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده، فقالوا له: لا! إلا أن تنزل على حكم ابن زياد، وكان في جملة من معهم الحر بن يزيد الحنظلي ثم النهشلي على خيل.

فلما سمع ما يقول الحسين قال لهم: ألا تتقون الله؟ ألا تقبلون من هؤلاء ما يعرضون عليكم، والله لو سألتكم هذا الترك والديلم ما حلّ لكم أن تردوهم فأبوا إلا حكم ابن زياد؟ فضرب الحرّ وجه فرسه وانطلق إلى الحسين، فظنوا أنه إنما جاء ليقاتلهم، فلما دنا منهم قلب ترسه وسلم عليهم ثم كرّ على أصحاب ابن زياد فقتل منهم رجلين ثم قتل رحمه الله.

وذكر: أن زهير بن القين البجلي لقي الحسين وكان حاجا فأقبل معه، وخرج إليه ابن أبي مخرمة المرادي ورجلان آخران، وهما: عمرو بن الحجاج، ومعن السلمي، وأقبل الحسين يكلم من بعث إليه ابن زياد وعليه جبة من برود.

فلما كلمهم انصرف فرماه رجل من بني تميم يقال له: عمرو الطهوي بسهم بين كتفيه، فإني لأنظر إلى السهم بين كتفيه متعلقا بجبته، فلما أبوا عليه رجع إلى مصافّه وإني لأنظر إليهم وهم قريب من مائة رجل، فيهم لصلب علي خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر، ورجل من بني سُليم حليف لهم، ورجل من بني كنانة حليف لهم، وابن عم ابن زياد.

وقال حصين، حدثني سعد بن عبيدة قال: إنا لمستنقعون الماء مع عمر بن سعد إذ أتاه رجل فسارّه فقال له: قد بعث إليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك.

قال: فوثب إلى فرسه فركبها ثم دعا بسلاحه فلبسه وأنه لعلى فرسه، ونهض بالناس إليهم فقاتلوهم فجيء برأس الحسين إلى ابن زياد فوضع بين يديه فجعل يقول بقضيبه في أنفه ويقول: إن أبا عبد الله كان قد شمط.

قال: وجيء بنسائه وبناته وأهله قال: وكان أحسن شيء صنعه أن أمر لهم بمنزل في مكانٍ معتزلٍ وأجرى عليهم رزقا، وأمر لهم بنفقة وكسوة.

قال: وانطلق غلامان منهم من أولاد عبد الله بن جعفر - أو ابن أبي جعفر - فأتيا رجلا من طيء فلجآ إليه مستجيران به، فضرب أعناقهما وجاء برأسيهما حتى وضعهما بين يدي ابن زياد.

قال: فهمَّ ابن زياد بضرب عنقه وأمر بداره فهدمت.

قال: وحدثني مولى لمعاوية بن أبي سفيان قال: لما أتي يزيد برأس الحسين فوضع بين يديه رأيته يبكي ويقول: لو كان بين ابن زياد وبينه رحم ما فعل هذا - يعني: ابن زياد -.

قال الحصين: ولما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع.

قال أبو مخنف: حدثني لوذان، حدثني عكرمة أن أحد عمومته سأل الحسين: أين تريد؟

فحدثه، فقال له: أنشدك الله لما انصرفت راجعا، فوالله ما بين يديك من القوم أحد يذب عنك ولا يقاتل معك، وإنما والله أنت قادم على الأسنة والسيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطأوا لك الأشياء، ثم قدمت عليهم بعد ذلك كان ذلك رأيا، فأما على هذه الصفة فإني لا أرى لك أن تفعل.

فقال له الحسين: إنه ليس بخفي عليّ ما قلت وما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره، ثم ارتحل قاصدا الكوفة.

وقال خالد بن العاص:

رُبَّ مستنصح يغش ويردي * وظنينٍ بالغيب يلقى نصيحا

وقد حج بالناس في هذه السنة عمرو بن سعيد بن العاص وكان عامل المدينة ومكة ليزيد، وقد عزل يزيد عن إمرة المدينة الوليد بن عتبة وولاها عمرو بن سعيد بن العاص في شهر رمضان منها والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وستين

عدل

استهلت هذه السنة والحسين بن علي سائر إلى الكوفة فيما بين مكة والعراق ومعه أصحابه وقراباته، فقتل في يوم عاشوراء من شهر المحرم من هذه السنة على المشهور الذي صححه الواقدي وغير واحد، وزعم بعضهم أنه قتل في صفر منها والأول أصح.

وهذه صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة هذا الشأن لا كما يزعمه أهل التشيع من الكذب

عدل

قال أبو مخنف: عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن حرملة، عن عبد الله بن سليم، والمذرى بن المشمعل الأسديين قالا: أقبل الحسين فلما نزل شرف قال لغلمانه وقت السحر: استقوا من الماء فأكثروا، ثم ساروا إلى صدر النهار فسمع الحسين رجلا يكبر فقال له: مم كبرت؟

فقال: رأيت النخيلة، فقال له الأسديان: إن هذا المكان لم ير أحد منه نخيلة.

فقال الحسين: فماذا تريانه رأى؟

فقالا: هذه الخيل قد أقبلت.

فقال الحسين: أما لنا ملجأ نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟

فقالا: بلى: ذو حسم.

فأخذ ذات اليسار إليها فنزل، وأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي، وهم مقدمة الجيش الذين بعثهم ابن زياد، حتى وقفوا في مقابلته في نحو الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدون سيوفهم، فأمر الحسين أصحابه أن يرتووا من الماء ويسقوا خيولهم، وأن يسقوا خيول أعدائهم أيضا.

وروى هو وغيره قالوا: لما دخل وقت الظهر أمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي فأذن ثم خرج الحسين في إزار ورداء ونعلين فخطب الناس من أصحابه وأعدائه واعتذر إليهم في مجيئه هذا إلى ههنا، بأنه قد كتب إليه أهل الكوفة أنهم ليس لهم إمام، وإن أنت قدمت علينا بايعناك وقاتلنا معك، ثم أقيمت الصلاة فقال الحسين للحر: تريد أن تصلي بأصحابك؟

قال: لا! ولكن صلّ أنت ونحن نصلي وراءك.

فصلى بهم الحسين، ثم دخل إلى خيمته واجتمع به أصحابه، وانصرف الحر إلى جيشه وكلُّ على أهبته، فلما كان وقت العصر صلى بهم الحسين ثم انصرف فخطبهم وحثهم على السمع والطاعة له وخلع من عاداهم من الأدعياء السائرين فيكم بالجور.

فقال له الحر: إنا لا ندري ما هذه الكتب، ولا من كتبها، فأحضر الحسين خرجين مملوءين كتبا فنثرها بين يديه وقرأ منها طائفة.

فقال الحر: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك في شيء، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد.

فقال الحسين: الموت أدنى من ذلك.

ثم قال الحسين لأصحابه: اركبوا! فركبوا و ركب النساء، فلما أراد الانصراف حال القوم بينه وبين الانصراف.

فقال الحسين للحر: ثكلتك أمك، ماذا تريد؟

فقال له الحر: أما والله لو غيرك يقولها لي من العرب وهو على مثل الحال التي أنت عليها لأقتصن منه، ولما تركت أمه، ولكن لا سبيل إلى ذكر أمك إلا بأحسن ما نقدر عليه.

وتقاول القوم وتراجعوا.

فقال له الحر: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد، فإذا أبيت فخذ طريقا لا يقدمك الكوفة ولا تردك إلى المدينة، واكتب أنت إلى يزيد، وأكتب أنا إلى ابن زياد إن شئت، فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك.

قال: فأخذ الحسين يسارا عن طريق العُذيب والقادسية، والحر بن يزيد يسايره وهو يقول له: يا حسين إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى.

فقال له الحسين: أفبالموت تخوفني؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وقد لقيه وهو يريد نصرة رسول الله فقال: أين تذهب فإنك مقتول؟

فقال:

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى * إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق خوفا أن يعيش ويرغما

ويروى على صفة أخرى:

سأمضي وما بالموت عارٌ على امرئ * إذا ما نوى حقا ولم يلف مجرما

فإن مت أندم وإن عشت لم ألمْ * كفى بك موتا أن تذل وترغما

فلما سمع ذلك الحر منه تنحى عنه وجعل يسير بأصحابه ناحية عنه، فانتهوا إلى عذيب الهجانات وإذا سفر أربعة - أي: أربعة نفر - قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يخبون ويجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له: الكامل، قد أقبلوا من الكوفة يقصدون الحسين ودليلهم رجل يقال له: الطرماح بن عدي، راكب على فرس وهو يقول:

يا ناقتي لا تذعري من زجري * وشمّري قبل طلوع الفجر

بخير ركبانٍ وخير سفر * حتى تحلي بكريم النجر

الماجد الحرّ رحيب الصدر * أتى به الله لخير أمر

ثمت أبقاه بقاء الدهر

فأراد الحر أن يحول بينهم وبين الحسين، فمنعه الحسين من ذلك، فلما خلصوا إليه قال لهم: أخبروني عن الناس وراءكم، فقال له مجمع بن عبد الله العامري - أحد النفر الأربعة -:

أما أشراف الناس فهم إلب عليك، لأنهم قد عظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، يستميل بذلك ودهم ويستخلص به نصيحتهم، فهم إلب واحد عليك، وأما سائر الناس فأفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك.

قال لهم: فهل لكم برسولي علم؟

قالوا: ومن رسولك؟

قال: قيس بن مسهر الصيداوي.

قالوا: نعم أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عليك وعلى أبيك ولعن زياد وأباه، ودعا الناس إلى نصرتك وأخبرهم بقدومك فأمر به فأُلقي من رأس القصر فمات، فترقرت عينا الحسين، وقرأ قوله تعالى: { فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } الآية 23.

ثم قال: اللهم اجعل منازلهم الجنة نزلا، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، ورغائب مدخور ثوابك.

ثم إن الطرماح بن عدي قال للحسين: أنظر فما معك؟ لا أرى معك أحدا إلا هذه الشرذمة اليسيرة، وإني لأرى هؤلاء القوم الذين يسايرونك أكفاء لمن معك، فكيف وظاهر الكوفة مملوء بالخيول والجيوش يعرضون ليقصدونك، فأنشدك الله، إن قدرت أن لا تتقدم إليهم شبرا فافعل، فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به من ملوك غسان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر.

والله إن دخل علينا ذل قط فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم تبعث إلى الرجال من بأجأ وسلمى من طيء، ثم أقم معنا ما بدا لك، فأنا زعيم بعشرة آلاف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف.

فقال له الحسين: جزاك الله خيرا، فلم يرجع عما هو بصدده، فودعه الطرماح، ومضى الحسين، فلما كان من الليل أمر فتيانه أن يستقوا من الماء كفايتهم، ثم سرى فنعس في مسيره حتى خفق برأسه، واستيقظ وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين.

ثم قال: رأيت فارسا على فرس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نُعيت إلينا.

فلما طلع الفجر صلى بأصحابه وعجل الركوب ثم تياسر في مسيره حتى انتهى إلى نينوى، فإذا راكب متنكب قوسا قد قدم من الكوفة، فسلم على الحر بن يزيد ولم يسلم على الحسين، ودفع إلى الحر كتابا من ابن زياد ومضمونه: أن يعدل بالحسين في السير إلى العراق في غير قرية ولا حصن، حتى تأتيه رسله وجنوده، وذلك يوم الخميس الثاني من المحرم سنة إحدى وستين.

فلما كان من الغد قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف، وكان قد جهّزه ابن زياد في هؤلاء إلى الديلم، وخيم بظاهر الكوفة، فلما قدم عليهم أمر الحسين قال له: سر إليه، فإذا فرغت منه فسر إلى الديلم، فاستعفاه عمر بن سعد من ذلك.

فقال له ابن زياد: إن شئت عفيتك وعزلتك عن ولاية هذه البلاد التي قد استنبتك عليها.

فقال: حتى أنظر في أمري، فجعل لا يستشير أحدا إلا نهاه عن المسير إلى الحسين، حتى قال له ابن أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة: إياك أن تسير إلى الحسين فتعصي ربك، وتقطع رحمك، فوالله لأن تخرج من سلطان الأرض كلها أحب إليك من أن تلقى الله بدم الحسين.

فقال: إني أفعل إن شاء الله تعالى.

ثم أن عبيد الله بن زياد تهدده وتوعده بالعزل والقتل، فسار إلى الحسين فنازله في المكان الذي ذكرنا، ثم بعث إلى الحسين الرسل: ما الذي أقدمك؟

فقال: كتب إليّ أهل الكوفة أن أقدم عليهم، فإذ قد كرهوني فأنا راجع إلى مكة وأذركم.

فلما بلغ عمر بن سعد هذا قال: أرجو أن يعافيني الله من حربه، وكتب إلى ابن زياد ذلك، فرد عليه ابن زياد: أن حل بينهم وبين الماء كما فعل بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأعرض على الحسين أن يبايع هو ومن معه لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فإذا فعلوا ذلك رأينا رأينا.

وجعل أصحاب عمر بن سعد يمنعون أصحاب الحسين من الماء، وعلى سرية منهم عمرو بن الحجاج، فدعا عليهم بالعطش فمات هذا الرجل من شدة العطش.

ثم إن الحسين طلب من عمر بن سعد أن يجتمع به بين العسكرين، فجاء كل واحد منهما في نحو من عشرين فارسا، فتكلما طويلا حتى ذهب هزيع من الليل، ولم يدر أحد ما قالا، ولكن ظن بعض الناس أنه سأله أن يذهب معه إلى يزيد بن معاوية إلى الشام ويتركا العسكرين متواقفين.

فقال عمر: إذا يهدم ابن زياد داري.

فقال الحسين: أنا أبنيها لك أحسن مما كانت.

قال: إذا يأخذ ضياعي.

قال: أنا أعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز.

قال: فتكره عمر بن سعد من ذلك.

وقال بعضهم: بل سأل منه إما أن يذهبا إلى يزيد، أو يتركه يرجع إلى الحجاز أو يذهب إلى بعض الثغور فيقاتل الترك.

فكتب عمر إلى عبيد الله بذلك، فقال: نعم! قد قبلت، فقام الشمر بن ذي الجوشن فقال: لا والله حتى ينزل على حكمك هو وأصحابه.

ثم قال: والله لقد بلغني أن حسينا وابن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل.

فقال له ابن زياد: فنعم ما رأيت.

وقد روى أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عقبة بن سمعان قال: لقد صحبت الحسين من مكة إلى حين قتل، والله ما من كلمة قالها في موطن إلا وقد سمعتها، وأنه لم يسأل أن يذهب إلى يزيد فيضع يده إلى يده، ولا أن يذهب إلى ثغر من الثغور، ولكن طلب منهم أحد أمرين، إما أن يرجع من حيث جاء، وإما أن يدعوه يذهب في الأرض العريضة حتى ينظر ما يصير أمر الناس إليه.

ثم إن عبيد الله بعث شمر بن ذي الجوشن فقال: اذهب فإن جاء حسين وأصحابه على حكمي وإلا فمر عمر بن سعد أن يقاتلهم، فإن تباطأ عن ذلك فاضرب عنقه، ثم أنت الأمير على الناس.

وكتب إلى عمر بن سعد يتهدده على توانيه في قتال الحسين، وأمره إن لم يجئ الحسين إليه أن يقاتله ومن معه، فإنهم مشاقون.

فاستأمن عبيد الله بن أبي المحل لبني عمته أم البنين بنت حزام من علي: وهم: العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان.

فكتب لهم ابن زياد كتاب أمان وبعثه عبيد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له: كرمان، فلما بلغهم ذلك قالوا: أما أمان ابن سمية، فلا نريده، وإنا لنرجو أمانا خيرا من أمان ابن سمية.

ولما قدم شمر بن ذي الجوشن على عمر بن سعد بكتاب عبيد الله بن زياد، قال عمر: أبعد الله دارك، وقبح ما جئت به، والله إني لأظنك الذي صرفته عن الذي عرضت عليه من الأمور الثلاثة التي طلبها الحسين.

فقال له شمر: فأخبرني ما أنت صانع؟ أتقاتلهم أنت أو تاركي وإياهم؟

فقال له عمر: لا ولا كرامة لك! أنا أتولى ذلك.

وجعله على الرجالة ونهضوا إليهم عشية يوم الخميس التاسع من المحرم، فقام شمر بن ذي الجوشن، فقال: أين بنو أختنا؟

فقام إليه العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان بنو علي بن أبي طالب، فقال: أنتم آمنون.

فقالوا: إن أمنتنا وابن رسول الله ، وإلا فلا حاجة لنا بأمانك.

قال: ثم نادى عمر بن سعد في الجيش: يا خيل الله اركبي وابشري، فركبوا وزحفوا إليهم بعد صلاة العصر من يومئذ، هذا وحسين جالس أمام خيمته محتبيا بسيفه، ونعس فخفق برأسه وسمعت أخته الضجة فدنت منه فأيقظته، فرجع برأسه كما هو، وقال: إني رأيت رسول الله في المنام فقال لي: «إنك تروح إلينا» فلطمت وجهها وقالت: يا ويلتنا.

فقال: ليس لك الويل يا أختاه: اسكتي رحمك الرحمن.

وقال له أخوة العباس بن علي: يا أخي جاءك القوم.

فقال: اذهب إليهم فسلهم ما بدا لهم، فذهب إليهم في نحو من عشرين فارسا فقال: ما لكم؟

فقالوا: جاء أمر الأمير إما أن تأتوا على حكمه، وإما أن نقاتلكم.

فقال: مكانكم حتى أذهب إلى أبي عبد الله فأعلمه، فرجع ووقف أصحابه فجعلوا يتراجعون القول ويؤنب بعضهم بعضا.

يقول أصحاب الحسين: بئس القوم، أنتم تريدون قتل ذرّية نبيكم وخيار الناس في زمانهم؟

ثم رجع العباس بن علي من عند الحسين إليهم فقال لهم: يقول لكم أبو عبد الله: انصرفوا عشيتكم هذه حتى ينظر في أمره الليلة.

فقال عمر بن سعد لشمر بن ذي الجوشن: ما تقول؟

فقال: أنت الأمير والرأي رأيك.

فقال عمر بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله! والله لو سألكم ذلك رجل من الدليم لكان ينبغي إجابته.

وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة.

وهكذا جرى الأمر، فإن الحسين لما رجع العباس قال له: ارجع فارددهم هذه العشية لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة ونستغفره وندعوه، فقد علم الله مني إني أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، والاستغفار والدعاء.

وأوصى الحسين في هذه الليلة إلى أهله، وخطب أصحابه في أول الليل فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على رسوله بعبارة فصيحة بليغة، وقال لأصحابه: من أحب أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له فإن القوم إنما يريدونني.

فقال مالك بن النضر: عليّ دين ولي عيال.

فقال: هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه حجلا، ليأخذ كل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم اذهبوا في بسيط الأرض في سواد هذا الليل إلى بلادكم ومدائنكم، فإن القوم إنما يريدونني، فلو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري، فاذهبوا حتى يفرج الله عزّ وجل.

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا الله فيك ما نكره.

فقال الحسين: يا بني عقيل حسبكم بمسلم أخيكم، اذهبوا فقد أذنت لكم.

قالوا: فما تقول الناس إنا تركنا شيخنا، وسيدنا، وبني عمومتنا خير الأعمام، لم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، رغبة في الحياة الدنيا، لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.

وقال نحو ذلك مسلم بن عوسجة الأسدي.

وكذلك قال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك، والله لو علمت أني أقتل دونك ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عنك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك، لأحببت ذلك، وإنما هي قتلة واحدة.

وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا من وجه واحد، فقالوا: والله لا نفارقك، وأنفسنا الفداء لك، نقيك بنحورنا وجباهنا، وأيدينا وأبداننا، فإذا نحن قتلنا وفينا وقضينا ما علينا.

وقال أخوه العباس: لا أرانا الله يوم فقدك ولا حاجة لنا في الحياة بعدك.

وتتابع أصحابه على ذلك.

وقال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب، وأبو الضحاك، عن علي بن الحسين زين العابدين.

قال: إني لجالس تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرضني إذا اعتزل أبي في خبائه ومعه أصحابه، وعنده حويّ مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:

يا دهر أفٍ لك من خليلٍ * كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحبٍ أو طالبٍ قتيل * والدهر لا يقنع بالبديل

وإنما الأمر إلى الجليل * وكل حيٍ سالك السبيل

فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى حفظتها وفهمت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها، ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل.

وأما عمتي فقامت حاسرة حتى انتهت إليه فقالت: واثكلاه!! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم، ماتت أمي فاطمة، وعلي أبي، وحسن أخي، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي.

فنظر إليها وقال: يا أُخيّة، لا يذهبن حلمك الشيطان.

فقالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله، استقتلت؟

ولطمت وجهها، وشقت جيبها وخرت مغشيا عليها، فقام إليها فصبّ على وجهها الماء وقال: يا أُخيّه اتق الله واصبري وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته، ويميتهم بقهره وعزته، ويعيدهم فيعبدونه وحده، وهو فرد وحده.

واعلمي أن أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة حسنة.

ثم حرج عليها أن لا تفعل شيئا من هذا بعد مهلكه، ثم أخذ بيدها فردّها إلى عندي.

ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يدنوا بيوتهم بعضا من بعض حتى تدخل الأطناب بعضها في بعض، وأن لا يجعلوا للعدو مخلصا إليهم إلا من جهة واحدة، وتكون البيوت عن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن ورائهم.

وبات الحسين وأصحابه طول ليلهم يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون، وخيول حرس عدوهم تدور من ورائهم، عليها عزرة بن قيس الأحمسي، والحسين يقرأ: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْما وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } الآية 24.

فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرس من أصحاب ابن زياد فقال: نحن ورب الكعبة الطيبون، ميزنا الله منكم.

قال: فعرفته، فقلت لزيد بن حضير: أتدري من هذا؟

قال: لا!

فقلت: هذا أبو حرب السبيعي عبيد الله بن شمير - وكان مضحاكا بطالا - وكان شريفا شجاعا فاتكا.

وكان سعيد بن قيس ربما حبسه في خبائه.

فقال له يزيد بن حصين: يا فاسق متى كنت من الطيبين؟

فقال: من أنت ويلك؟

قال: أنا يزيد بن حصين.

قال: إنا لله! هلكت والله عدو الله! علام يريد قتلك؟

قال: فقلت له: يا أبا حرب هل لك أن تتوب من ذنوبك العظام؟ فوالله إنا لنحن الطيبون وأنكم لأنتم الخبيثون.

قال: نعم وأنا على ذلك من الشاهدين.

قال: ويحك أفلا ينفعك معرفتك؟

قال: فانتهره عزرة بن قيس أمير السرية التي تحرسنا فانصرف عنا.

قالوا: فلما صلى عمر بن سعد الصبح بأصحابه يوم الجمعة.

وقيل: يوم السبت - وكان يوم عاشوراء - انتصب للقتال.

وصلى الحسين أيضا بأصحابه وهم اثنان وثلاثون فارسا، وأربعون راجلا، ثم انصرف فصفّهم فجعل على ميمنته زهير بن القين، وعلى الميسرة حبيب بن المطهر، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت بما فيها من الحرم وراء ظهورهم.

وقد أمر الحسين من الليل فحفروا وراء بيوتهم خندقا، وقذفوا فيه حطبا وخشبا وقصبا، ثم أضرمت فيه النار لئلا يخلص أحد إلى بيوتهم من ورائها.

وجعل عمر بن سعد على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى الميسرة شمر بن ذي الجوشن - واسم ذي الجوشن شرحبيل بن الأعور بن عمرو بن معاوية من بني الضباب بن كلاب - وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجالة شبيث بن ربعي.

وأعطى الراية لوردان مولاه، وتواقف الناس في ذلك الموضع.

فعدل الحسين إلى خيمة قد نصبت فاغتسل فيها وانطلى بالنورة وتطيب بمسك كثير، ودخل بعده بعض الأمراء ففعلوا كما فعل.

فقال بعضهم لبعض: ما هذا في هذه الساعة؟

فقال بعضهم: دعنا منك، والله ما هذه بساعة باطل.

فقال يزيد بن حصين: والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شابا ولا كهلا، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاحقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء القوم فيقتلوننا.

ثم ركب الحسين على فرسه وأخذ مصحفا فوضعه بين يديه، ثم استقبل القوم رافعا يديه يدعو بما تقدم ذكره:

اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة إلى آخره.

وركب ابنه علي بن الحسين - وكان ضعيفا مريضا - فرسا يقال له: الأحمق، ونادى الحسين أيها الناس:

اسمعوا مني نصيحة أقولها لكم، فأنصت الناس كلهم، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس إن قبلتم مني وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ } 25، { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } 26.

فلما سمع ذلك أخواته وبناته ارتفعت أصواتهن بالبكاء.

فقال عند ذلك: لا يبعد الله ابن عباس - يعني: حين أشار عليه أن لا يخرج بالنساء معه ويدعهن بمكة إلى أن ينتظم الأمر - ثم بعث أخاه العباس فسكتهن، ثم شرع يذكر للناس فضله وعظمة نسبه وعلو قدره وشرفه، ويقول:

راجعوا أنفسكم وحاسبوها.

هل يصلح لكم قتال مثلي، وأنا ابن بنت نبيكم، وليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري؟ وعلي أبي، وجعفر ذو الجناحين عمي، وحمزة سيد الشهداء عم أبي؟ وقال لي رسول الله ولأخي: «هذان سيدا شباب أهل الجنة».

فإن صدقتموني بما أقول فهو الحق، فوالله ما تعمدت كذبةً منذ علمت أن الله يمقت عليّ الكذب، وإلا فاسألوا أصحاب رسول الله عن ذلك: جابر بن عبد الله، وأبا سعيد، وسهل بن سعد، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم بذلك، ويحكم! أما تتقون الله؟ أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟.

فقال عند ذلك شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف: إن كنت أدري ما يقول؟

فقال له حبيب بن مطهر: والله يا شمر إنك لتعبد الله على سبعين حرفا، وأما نحن فوالله إنا لندري ما يقول، وأنه قد طبع على قلبك.

ثم قال: أيها الناس ذروني أرجع إلى مأمني من الأرض.

فقالوا: ما يمنعك أن تنزل على حكم بني عمك؟

فقال: معاذ الله { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } 27.

ثم أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، ثم قال: أخبروني أتطلبوني بقتيل لكم قتلته؟

أو مال لكم أكلته؟

أو بقصاصة من جراحه؟

قال: فأخذوا لا يكلمونه.

قال: فنادى يا شبيث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أنه قد أينعت الثمار واخضر الجناب، فأقدم علينا فإنك إنما تقدم على جند مجندة؟

فقالوا له: لم نفعل.

فقال: سبحان الله! والله لقد فعلتم، ثم قال: يا أيها الناس: إذ قد كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم.

فقال له قيس بن الأشعث: ألا تنزل على حكم بني عمك فإنهم لن يؤذوك، ولا ترى منهم إلا ما تحب؟

فقال له الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن تطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟

لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لهم إقرار العبيد.

قال: وأقبلوا يزحفون نحوه وقد تحيز إلى جيش الحسين من أولئك طائفة قريب من ثلاثين فارسا فيما قيل، منهم: الحر بن يزيد أمير مقدمة جيش ابن زياد، فاعتذر إلى الحسين مما كان منهم، قال: ولو أعلم أنهم على هذه النية لسرت معك إلى يزيد، فقبل منه الحسين.

ثم تقدم بين يدي أصحاب الحسين فخاطب عمر بن سعد فقال: ويحكم ألا تقبلون من ابن بنت رسول الله ما يعرض عليكم من الخصال الثلاث واحدة منها؟

فقال: لو كان ذلك إليّ قبلت.

قال: وخرج من أصحاب الحسين زهير بن القين على فرس له شاك في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة، وعلى دين واحد، وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة.

إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيِّه لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية ابن الطاغية، عبيد الله بن زياد، فإنكم لم تدركوا منهما إلاّ سوء عموم سلطانهما، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه.

قال: فسبوه وأثنوا على ابن زياد ودعوا له، وقالوا: لا ننزع حتى نقتل صاحبك ومن معه.

فقال لهم: إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن أنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، خلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، نذهب حيث شاء، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين.

قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال له: اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال له زهير: يا ابن البوَّال على عقبيه، إياك أخاطب؟ إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحُكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك بعد ساعة.

فقال له زهير: أبالموت تخوفني؟ فوالله للموت معه أحب إليّ من الخلد معكم.

ثم إن زهيرا أقبل على الناس رافعا صوته يقول: عباد الله لا يغرنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا ينال شفاعة محمد قوم أهرقوا دماء ذريته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم.

وقال الحر بن يزيد لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟

قال: إي والله، قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.

وكان الحر من أشجع أهل الكوفة، فلامه بعض أصحابه على الذهاب إلى الحسين.

فقال له: والله إني أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها، ولو قطعت وحرقت.

ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين فاعتذر إليه بما تقدم، ثم قال: يا أهل الكوفة لأمكم الهبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير وقد صرعهم العطش؟

بئس ما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وترجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه.

فحملت عليه رجال لهم ترميه بالنبل فأقبل حتى وقف أمام الحسين.

وقال لهم عمر بن سعد: لو كان الأمر لي لأجبت الحسين إلى ما طلب، ولكن أبى عليّ عبيد الله بن زياد، وقد خاطب أهل الكوفة وأنبهم ووبخهم وسبهم.

فقال لهم الحر بن يزيد: ويحكم منعتم الحسين ونساءه وبناته الماء الفرات الذي يشرب منه اليهود والنصارى، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، فهو كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.

قال: فتقدم عمر بن سعد وقال لمولاه: يا دريد أدن رايتك، فأدناها، ثم شمر عمر عن ساعده ورمى بسهم وقال: اشهدوا أني أول من رمى القوم.

قال: فترامى الناس بالنبال، وخرج يسار مولى زياد، وسالم مولى عبيد الله، فقالا: من يبارز؟

فبرز لهما عبيد الله بن عمر الكلبي بعد استئذانه الحسين فقتل يسارا أولا، ثم قتل سالما بعده، وقد ضربه سالم ضربة أطار أصابع يده اليسرى، وحمل رجل يقال له: عبد الله بن حوزة حتى وقف بين يدي الحسين فقال له: يا حسين أبشر بالنار!

فقال له الحسين: كلا ويحك إني أقدم على ربٍ رحيمٍ وشفيعٍ مطاعٍ، بل أنت أولى بالنار.

قالوا: فانصرف فوقصته فرسه فسقط وتعلقت قدمه بالركاب، وكان الحسين قد سأل عنه فقال: أنا ابن حوزة، فرفع الحسين يده وقال: اللهم حزه إلى النار، فغضب ابن حوزة وأراد أن يقحم عليه الفرس وبينه وبينه نهر.

فحالت به الفرس فانقطعت قدمه وساقه وفخذه وبقي جانبه الآخر متعلقا بالركاب، وشد عليه مسلم بن عوسجة فضربه فأطار رجله اليمنى، وغارت به فرسه فلم يبقى حجر يمر به إلا ضربه في رأسه حتى مات.

وروى أبو مخنف عن أبي جناب قال: كان منا رجل يدعى عبد الله بن عمير من بني عليم، كان قد نزل الكوفة واتخذ دارا عند بئر الجعد من همدان، وكانت معه امرأة له من النمر بن قاسط.

فرأى الناس يتهيئون للخروج إلى قتال الحسين، فقال: والله لقد كنت على قتال أهل الشرك حريصا، وإني لأرجو أن يكون جهادي مع ابن بنت رسول الله لهؤلاء أفضل من جهاد المشركين، وأيسر ثوابا عند الله.

فدخل إلى امرأته فأخبرها بما هو عازم عليه، فقالت: أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك.

قال: فخرج بها ليلا حتى أتى الحسين، ثم ذكر قصة رمي عمر بن سعد بالسهم، وقصة قتله يسار مولى ابن زياد، وسالم مولى ابن زياد، وأن عبد الله بن عمير استأذن الحسين في الخروج إليهما فنظر إليه الحسين، فرأى رجلا آدم طويلا، شديد الساعدين، بعيد ما بين المنكبين.

فقال الحسين: إني لأحسبه للأقران قتّالا، اخرج إن شئت، فخرج فقالا له: من أنت؟

فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك إلا من خير منكما، ثم شد على يسار فكان كأمس الذاهب، فإنه لمشتغل به إذ حمل عليه سالم مولى ابن زياد فصاح به صائح قد رهقك العبد.

قال: فلم ينتبه حتى غشيته فضربه على يده اليسرى فأطار أصابعه، ثم مال على الكلبي فضربه حتى قتله وأقبل يرتجز ويقول:

إن تنكراني فأنا ابن كلبٍ * نسبي بيتي في عليم حسبي

إني امرؤ ذو مروءةٍ وعضب * ولست بالخوّار عند الكرب

إني زعيمٌ لك أم وهب * بالطعن فيهم مقدما والضرب

ضرب غلام مؤمن بالرب

فأخذت أم وهب عمودا ثم أقبلت نحو زوجها تقول له: فداؤك أبي وأمي، قاتل دون الطيبين ذرية محمد عليه السلام، فأقبل إليها يردها نحو النساء، فأقبلت تجاذبه ثوبه، قالت: دعني أكون معك، فناداها الحسين انصرفي إلى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس على النساء قتال، فانصرفت إليهن.

قال: وكثرت المبارزة يومئذ بين الفريقين والنصر في ذلك لأصحاب الحسين لقوة بأسهم، وأنهم مستميتون لا عاصم لهم إلا سيوفهم، فأشار بعض الأمراء على عمر بن سعد بعدم المبارزة، وحمل عمر بن الحجاج أمير ميمنة جيش ابن زياد.

وجعل يقول: قاتلوا من مرق من الدين وفارق الجماعة.

فقال له الحسين: ويحك يا حجاج أعليّ تحرض الناس؟ أنحن مرقنا الدين وأنت تقيم عليه؟ ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا من أولى بصلي النار.

وقد قتل في هذه الحملة مسلم بن عوسجة، وكان أول من قتل من أصحاب الحسين، فمشى إليه الحسين فترحم عليه، وهو على آخر رمق، وقال له حبيب بن مطهر: أبشر بالجنة.

فقال له بصوت ضعيف: بشرك الله بالخير.

ثم قال له حبيب: لولا أني أعلم أني على أثرك لاحقك لكنت أقضي ما توصي به.

فقال له مسلم بن عوسجة: أوصيك بهذا - وأشار إلى الحسين - إلى أن تموت دونه.

قالوا: ثم حمل شمر بن ذي الجوشن بالميسرة وقصدوا نحو الحسين فدافعت عنه الفرسان من أصحابه دفاعا عظيما، وكافحوا دونه مكافحة بليغة، فأرسلوا يطلبون من عمر بن سعد طائفة من الرماة الرجالة.

فبعث إليهم نحوا من خمسمائة، فجعلوا يرمون خيول أصحاب الحسين فعقروها كلها حتى بقي جميعهم رجالة، ولما عقروا جواد الحر بن يزيد نزل عنه وفي يده السيف كأنه ليث، وهو يقول:

إن تعقروا بي فأنا ابن الحر * أشجع من ذي لبد هزبر

ويقال: إن عمر بن سعد أمر بتقويض تلك الأبنية التي تمنع من القتال من أتى ناحيتها، فجعل أصحاب الحسين يقتلون من يتعاطى ذلك، فأمر بتحريقها فقال الحسين: دعوهم يحرقونها فإنهم لا يستطيعون أن يجوزوا منها وقد أحرقت.

وجاء شمر بن ذي الجوشن قبحه الله إلى فسطاط الحسين فطعنه برمحه - يعني: الفسطاط - وقال: إيتوني بالنار لأحرقه على من فيه، فصاحت النسوة وخرجن منه.

فقال له الحسين: أحرقك الله بالنار.

وجاء شبيث بن ربعي إلى شمر قبحه الله فقال له: ما رأيت أقبح من قولك ولا من فعلك وموقفك هذا أتريد أن ترعب النساء؟ فاستحي وهمّ بالرجوع.

وقال حميد بن مسلم قلت لشمر: سبحان الله! إن هذا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين؟ تعذب بعذاب الله، وتقتل الولدان والنساء؟ والله إن في قتلك الرجال لما ترضي به أميرك.

قال: فقال لي: من أنت؟

قلت: لا أخبرك من أنا - وخشيت أني إن أخبرته فعرفني أن يسوءني عند السلطان - وشد زهير بن القين في رجال من أصحاب الحسين على شمر بن ذي الجوشن فأزالوه عن موقفه، وقتلوا أبا عزة الضبابي - وكان من أصحاب شمر - وكان الرجل من أصحاب الحسين إذا قتل بان فيهم الخلل، وإذا قتل من أصحاب ابن زياد الجماعة الكثيرة لم يتبين ذلك فيهم لكثرتهم، ودخل عليهم وقت الظهر.

فقال الحسين: مروهم فليكفوا عن القتال حتى نصلي.

فقال رجل من أهل الكوفة: إنها لا تقبل منكم.

فقال له حبيب بن مطهر: ويحك!! أتقبل منكم ولا تقبل من آل رسول الله ؟

وقاتل حبيب قتالا شديدا حتى قتل رجلا يقال له: بديل بن صريم من بني عقفان، وجعل يقول:

أنا حبيبٌ وأبي مطهرٌ * فارس هيجاء وحرب مسعر

أنتم أوفر عدة وأكثر * ونحن أوفى منكم وأصبر

ونحن أعلى حجةً وأظهر * حقا وأبقى منكم وأطهر

ثم حمل على حبيب هذا رجل من بني تميم فطعنه فوقع، ثم ذهب ليقوم فضربه الحصين بن عمير على رأسه بالسيف فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه وحمله إلى ابن زياد، فرأى ابن حبيب رأس أبيه فعرفه، فقال لحامله: أعطني رأس أبي حتى أدفنه، ثم بكى.

وقال: فمكث الغلام إلى أن بلغ أشده ثم لم تكن له همة إلا قتل قاتل أبيه.

قال: فلما كان زمن مصعب بن عمير دخل الغلام عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فدخل عليه وهو قائل فضربه بسيفه حتى برد.

وقال أبو مخنف: حدثني محمد بن قيس قال: لما قتل حبيب بن مطهر هدّ ذلك الحسين وقال عند ذلك: أحتسب نفسي، وأخذ الحر يرتجز ويقول للحسين:

آليت لا تقتل حتى أقتلا * ولن أصاب اليوم إلا مقبلا

أضربهم بالسيف ضربا مقصلا * لأنا كلا عنهم ولا مهملا

ثم قاتل هو وزهير بن القين قتالا شديدا، فكان إذا شد أحدهما حتى استلحم شد الآخر حتى يخلصه، فعلا ذلك ساعة، ثم إن رجالا شدوا على الحر بن يزيد فقتلوه، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدو له، ثم صلى الحسين بأصحابه الظهر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعدها قتالا شديدا، ودافع عن الحسين صناديد أصحابه.

وقاتل زهير بن القين بين يدي الحسين قتالا شديدا، ورمى بعض أصحابه بالنبل حتى سقط بين يدي الحسين، وجعل زهير يرتجز ويقول:

أنا زهير وأنا ابن القين * أذودكم بالسيف عن الحسين

قال: وأخذ يضرب على منكب الحسين ويقول:

أقدم هديت هاديا مهديا * فاليوم تلقى جدك النبيا

وحسنا والمرتضى عليا * وذا الجناحين الفتى الكميا

وأسد الله الشهيد الحيا

قال: فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه.

قال: وكان من أصحاب الحسين نافع بن هلال الجملي، وكان قد كتب على فوق نبله فجعل يرمي بها مسمومة وهو يقول:

أرمي بها معلما أفواقها * والنفس لا ينفعها شقاقها

أنا الجملي أنا على دين علي

فقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح، ثم ضرب حتى كسرت عضداه، ثم أسروه فأتوا به عمر بن سعد فقال له: ويحك يا نافع، ما حملك على ما صنعت بنفسك؟

فقال: إن ربي يعلم ما أردت، والدماء تسيل عليه وعلى لحيته، ثم قال: والله لقد قتلت من جندكم اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني.

فقال شمر لعمر: اقتله.

قال: أنت جئت به، فإن شئت اقتله.

فقام شمر: فأنضى سيفه فقال له نافع: أما والله يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه.

ثم قتله، ثم أقبل شمر فحمل على أصحاب الحسين وتكاثر معه الناس حتى كادوا أن يصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا عليهم، وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين ولا أنفسهم، تنافسوا أن يقتلوا بين يديه.

فجاء عبد الرحمن، وعبد الله ابنا عزرة الغفاري، فقالا: أبا عبد الله عليك السلام حازنا العدو إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك وندفع عنك.

فقال: مرحبا بكما ادن مني فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريبا منه وهما يقولان:

قد علمت حقا بنو غفار * وخندفٍ بعد بني نزار

لنضربن معشر الفجار * بكل عضبٍ قاطع بتار

يا قوم ذودوا عن بني الأخيار * بالمشرفي والقنا الخطار

ثم أتاه أصحابه مثنى وفرادى يقاتلون بين يديه وهو يدعو لهم ويقول: جزاكم الله أحسن جزاء المتقين، فجعلوا يسلمون على الحسين ويقاتلون حتى يقتلوا.

ثم جاء عابس بن أبي شبيب فقال: يا أبا عبد الله! أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز علي منك، ولو قدرت أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد لي أني على هديك.

ثم مشى بسيفه صلتا وبه ضربة على جبينه - وكان أشجع الناس - فنادى: ألا رجل لرجل؟ ألا ابرزوا إلي.

فعرفوه فنكلوا عنه، ثم قال عمر بن سعد: أرضخوه بالحجارة، فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، والله لقد رأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس بين يديه.

ثم إنهم عطفوا عليه من كل جانب فقتل رحمه الله، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدد، كل يدعي قتله، فأتوا به عمر بن سعد فقال لهم: لا تختصموا فيه، فإنه لم يقتله إنسان واحد، ففرق بينهم بهذا القول.

ثم قاتل أصحاب الحسين بين يديه حتى تفانوا ولم يبق معه أحد إلا سويد بن عمرو بن أبي مطاع الخثعمي، وكان أول قتيل قتل من أهل الحسين من بني أبي طالب علي الأكبر بن الحسين بن علي، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، طعنه مرة بن منقذ بن النعمان العبدي فقتله، لأنه جعل يقي أباه، وجعل يقصد أباه، فقال علي بن الحسين:

أنا علي بن الحسين بن علي * نحن وبيت الله أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي * كيف ترون اليوم ستري عن أبي

فلما طعنه مرة احتوشته الرجال فقطعوه بأسيافهم، فقال الحسين: قتل الله قوما قتلوك يا بني ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك محارمه؟! فعلى الدنيا بعدك العفاء.

قال: وخرجت جارية كأنها الشمس حسنا، فقالت: يا أخياه ويا ابن أخاه، فإذا هي زينب بنت علي من فاطمة، فأكبت عليه وهو صريع.

قال: فجاء الحسين فأخذ بيدها فأدخلها الفسطاط، وأمر به الحسين فحول من هناك إلى بين يديه عند فسطاطه، ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل.

ثم قتل عون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر، ثم قتل عبد الرحمن وجعفر ابنا عقيل بن أبي طالب، ثم قتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي: أن يزيد بن زياد وكان راميا، وهو أبو الشعثاء الكناني من بني بهدلة، جث على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها على الأرض خمسة أسهم، فلما فرغ من الرمي قال: قد تبين لي أني قتلت خمسة نفر:

أنا يزيد وأنا المهاجر * أشجع من ليث قوي حادر

بربي إني للحسين ناصر * ولابن سعد تارك وهاجر

قالوا: ومكث الحسين نهارا طويلا وحده لا يأتي أحد إليه إلا رجع عنه، لا يحب أن يلي قتله، حتى جاءه رجل من بني بداء يقال له: مالك بن البشر، فضرب الحسين على رأسه بالسيف فأدمى رأسه، وكان على الحسين برنس فقطعه وجرح رأسه فامتلأ البرنس دما، فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين.

ثم ألقى الحسين ذلك البرنس ودعا بعمامةٍ فلبسها.

وقال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد قال: خرج إلينا غلام كأن وجهه فلقة قمر، في يده السيف، وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنها اليسرى.

فقال لنا عمر بن سعد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه.

فقلت له: سبحان الله! وما تريد إلى ذلك؟ يكفيك قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم.

فقال: والله لأشدن عليه، فشد عليه عمر بن سعد أمير الجيش، فضربه وصاح الغلام يا عماه.

قال: فشد الحسين على عمر بن سعد شدة ليث أعضب، فضرب عمر بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنها من لدن المرفق فصاح ثم تنحى عنه.

وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمر من الحسين فاستقبلت عمر بصدورها وحركت حوافرها، وجالت بفرسانها عليه، ثم انجلت الغبرة، فإذا بالحسين قائم على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله، والحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك.

ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك، صوت، والله كثر واتره وقل ناصره.

ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره، ثم جاء به حتى ألقاه مع ابنه علي الأكبر ومع من قتل من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وقال هانئ بن ثبيت الحضرمي: إني لواقف يوم مقتل الحسين عاشر عاشرة ليس منا رجل إلا على فرس، إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية، وعليه إزار وقميص، وهو مذعور يلتفت يمينا وشمالا، فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض فرسه حتى إذا دنا من الغلام مال عن فرسه ثم أخذ الغلام فقطعه بالسيف.

قال هشام السكوني: هانئ بن ثبيت هو الذي قتل الغلام، خاف أن يعاب ذلك عليه فكنى عن نفسه.

قال: ثم إن الحسين أعيا فقعد على باب فسطاطه، وأتي بصبي صغير من أولاده اسمه عبد الله، فأجلسه في حجره، ثم جعل يقبله ويشمه ويودعه ويوصي أهله، فرماه رجل من بني أسد يقال له: ابن موقد النار بسهم فذبح ذلك الغلام.

فتلقى حسين دمه في يده وألقاه نحو السماء، وقال: رب إن تك قد حبست عنا النصر من السماء فاجعله لما هو خير، وانتقم لنا من الظالمين.

ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بسهم فقتله أيضا، ثم قتل عبد الله، والعباس، وعثمان، وجعفر، ومحمد بنو علي بن أبي طالب إخوة الحسين، وقد اشتد عطش الحسين فحاول أن يصل إلى أن يشرب من ماء الفرات فما قدر، بل مانعوه عنه.

فخلص إلى شربه منه، فرماه رجل يقال له: حصين بن تميم بسهم في حنكة فأثبته، فانتزعه الحسين من حنكة ففار الدم فتلقاه بيديه، ثم رفعهما إلى السماء وهما مملوءتان دما، ثم رمى به إلى السماء وقال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر على الأرض منهم أحدا، ودعا عليهم دعاء بليغا.

قال: فوالله إن مكث الرجل الرامي إلا يسيرا حتى صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى ويسقى الماء مبردا، وتارة يبرد له اللبن والماء جميعا ويسقى فلا يروى بل يقول: ويلكم! اسقوني قتلني الظمأ.

قال: فوالله ما لبث إلا يسيرا حتى انفذ بطنه انفداد بطن البعير، ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نحو من عشرة من رجالة الكوفة قبل منزل الحسين الذي فيه ثقلة عياله، فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله.

فقال لهم الحسين: ويلكم!! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في دنياكم أحرارا وذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم.

فقال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يا ابن فاطمة، ثم أحاطوا به فجعل شمر يحرضهم على قتله.

فقال له أبو الجنوب: وما يمنعك أنت من قتله؟

فقال له شمر: إلي تقول ذا؟

فقال أبو الجنوب: إلي تقول ذا؟ فاستبا ساعة.

فقال له أبو الجنوب - وكان شجاعا -: والله لقد هممت أن أخضخض هذا السنان في عينك، فانصرف عنه شمر.

ثم جاء شمر ومعه جماعة من الشجعان حتى أحاطوا بالحسين، وهو عند فسطاطه، ولم يبق معه أحد يحول بينهم وبينه، فجاء غلام يشتد من الخيام كأنه البدر، وفي أذنيه درتان فخرجت زينب بنت علي لترده فامتنع عليها، وجاء يحاجف عن عمه فضربه رجل منهم بالسيف فاتقاه بيده فأطنها سوى جلده.

فقال: يا أبتاه.

فقال له الحسين: يا بني احتسب أجرك عند الله، فإنك تلحق بآبائك الصالحين.

ثم حمل على الحسين الرجال من كل جانب وهو يجول فيهم بالسيف يمينا وشمالا، فيتنافرون عنه كتنافر المعزى عن السبع، وخرجت أخته زينب بنت فاطمة إليه فجعلت تقول: ليت السماء تقع على الأرض.

وجاءت عمر بن سعد فقالت: يا عمر، أرضيت أن يقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟ فتحادرت الدموع على لحيته وصرف وجهه عنها، ثم جعل لا يقدم أحد على قتله، حتى نادى شمر بن ذي الجوشن: ويحكم! ماذا تنتظرون بالرجل، فاقتلوه ثكلتكم أمهاتكم.

فحملت الرجال من كل جانب على الحسين، وضربه زرعة بن شريك التميمي على كتفه اليسرى، وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو، ثم جاء إليه سنان بن أبي عمرو بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثم نزل فذبحه وحز رأسه، ثم دفع رأسه إلى خولي بن يزيد.

وقيل: إن الذي قتله شمر بن ذي الجوشن.

وقيل: رجل من مذحج.

وقيل: عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وليس بشيء، وإنما كان عمر أمير السرية التي قتلت الحسين فقط. والأول أشهر.

وقال عبد الله بن عمار: رأيت الحسين حين اجتمعوا عليه يحمل على من على يمينه حتى انذعروا عنه، فوالله ما رأيت مكثورا قط قد قتل أولاده وأصحابه أربط جأشا منه، ولا أمضى جنانا منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله.

وقال: ودنا عمر بن سعد من الحسين، فقالت له زينب: يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟ فبكى وصرف وجهه عنها.

وقال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن حميد بن مسلم قال: جعل الحسين يشد على الرجال وهو يقول: أعلى قتلي تحابون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله أسخط عليكم بقتله مني، وأيم الله إني أرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم الله لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.

قال: ولقد مكث طويلا من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكن كان يتقي بعضهم ببعض دمه، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء مؤنة قتله، حتى نادى شمر بن ذي الجوشن: ماذا تنتظرون بقتله؟

فتقدم إليه زرعة بن شريك التميمي فضربه بالسيف على عاتقه، ثم طعنه سنان بن أنس بن عمرو النخعي بالرمح، ثم نزل فاحتز رأسه ودفعه إلى خولي.

وقد روى ابن عساكر في ترجمة شمر بن ذي الجوشن، وذو الجوشن صحابي جليل، قيل: اسمه شرحبيل.

وقيل: عثمان بن نوفل.

ويقال: ابن أوس بن الأعور العامري الضبابي، بطن من كلاب، ويكنى شمر بأبي السابغة.

ثم روى من طريق عمر بن شبة: ثنا أبو أحمد، حدثني عمي فضيل بن الزبير، عن عبد الرحيم بن ميمون، عن محمد بن عمرو بن حسن قال: كنا مع الحسين بنهري كربلاء، فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال: صدق الله ورسوله، قال رسول الله : «كأني أنظر إلى كلب أبقع بلغ في دماء أهل بيتي».

وكان شمر - قبحه الله - أبرص.

وأخذ سنان وغيره سلبه، وتقاسم الناس ما كان من أمواله وحواصله وما في خبائه، حتى ما على النساء من الثياب الطاهرة.

وقال أبو مخنف: عن جعفر بن محمد قال: وجدنا بالحسين حين قتل ثلاث وثلاثين طعنة، وأربع وثلاثين ضربة، وهَمَّ شمر بن ذي الجوشن بقتل علي بن الحسين الأصغر زين العابدين، وهو صغير مريض حتى صرفه عن ذلك حميد بن مسلم أحد أصحابه.

وجاء عمر بن سعد فقال: ألا لا يدخلن على هذه النسوة أحد، ولا يقتل هذا الغلام أحد، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليرده عليهم.

قال: فوالله ما رد أحد شيئا.

فقال له علي بن الحسين: جزيت خيرا، فقد دفع الله عني بمقالتك شرا.

قالوا: ثم جاء سنان بن أنس إلى باب فسطاط عمر بن سعد، فنادى بأعلى صوته:

أوقر ركابي فضة وذهبا * أنا قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا

فقال عمر بن سعد: أدخلوه علي، فلما دخل رماه بالسوط، وقال: ويحك! أنت مجنون، والله لو سمعك ابن زياد تقول هذا لضرب عنقك.

ومنَّ عمر بن سعد على عقبة بن سمعان حين أخبره أنه مولى، فلم ينج منهم غيره.

والمرقع بن يمانة أسر فمنَّ عليه ابن زياد، وقتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفسا، فدفنهم أهل الغاضرية من بني أسد بعد ما قتلوا بيوم واحد.

قال: ثم أمر عمر بن سعد أن يوطأ الحسين بالخيل ولا يصح ذلك والله أعلم.

وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون نفسا.

وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال: قتل مع الحسين سبعة عشر رجلا كلهم من أولاد فاطمة.

وعن الحسن البصري أنه قال: قتل مع الحسين ستة عشر رجلا كلهم من أهل بيته ما على وجه الأرض يومئذٍ لهم شبه.

وقال غيره: قتل معه من ولده إخوته، وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلا.

فمن أولاد علي رضي الله عنه: جعفر، والحسين، والعباس، ومحمد، وعثمان، وأبو بكر.

ومن أولاد الحسين: علي الأكبر، وعبد الله.

ومن أولاد أخيه الحسن ثلاثة: عبد الله، والقاسم، وأبو بكر بنو الحسن بن علي بن أبي طالب.

ومن أولاد عبد الله بن جعفر اثنان: عون، ومحمد.

ومن أولاد عقيل: جعفر، وعبد الله، وعبد الرحمن، ومسلم قتل قبل ذلك كما قدمنا.

فهؤلاء أربعة لصلبه، واثنان آخران هما: عبد الله بن مسلم بن عقيل، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل، فكملوا ستة من ولد عقيل، وفيهم يقول الشاعر:

واندبي تسعة لصلب علي * قد أصيبوا وستة لعقيل

وسمى النبي غودر فيهم * قد علوه بصارم مصقول

وممن قتل مع الحسين بكربلاء، أخوه من الرضاعة عبد الله بن بقطر، وقد قيل: إنه قتل قبل ذلك حيث بعث معه كتابا إلى أهل الكوفة، فحمل إلى ابن زياد فقتله، وقتل من أهل الكوفة من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى، فصلى عليهم عمر بن سعد ودفنهم.

ويقال: إن عمر بن سعد أمر عشرة فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة، وأمر برأسه أن يحمل من يومه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد الأصبحي، فلما انتهى به إلى القصر وجده مغلقا، فرجع به إلى منزله فوضعه تحت إجانة، وقال لامرأته نوار بنت مالك: جئتك بعز الدهر.

فقالت: وما هو؟

فقال: برأس الحسين.

فقالت: جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت أنت برأس ابن بنت رسول الله ؟ والله لا يجمعني وإياك فراش أبدا، ثم نهضت عنه من الفراش واستدعى بامرأة له أخرى من بني أسد فنامت عنده.

قالت المرأة الثانية الأسدية: والله ما زلت أرى النور ساطعا من تلك الإجانة إلى السماء، وطيورا بيضاء ترفرف حولها، فلما أصبح غدا به إلى ابن زياد فأحضره بين يديه.

ويقال: إنه كان معه رؤوس بقية أصحابه، وهو المشهور، ومجموعها اثنان وسبعون رأسا، وذلك أنه ما قتل قتيل إلا احتزوا رأسه وحملوه إلى ابن زياد، ثم بعث بها ابن زياد إلى يزيد بن معاوية إلى الشام.

قال الإمام أحمد: حدثنا حسين، ثنا جرير، عن محمد، عن أنس قال: أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت عليه، وقال في حسنه شيئا، فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله ، وكان مخضوبا بالوشمة.

ورواه البخاري في المناقب عن محمد بن الحسين بن إبراهيم - هو ابن إشكاب - عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس فذكره.

وقد رواه الترمذي، من حديث حفصة بنت سيرين، عن أنس قال: حسن صحيح، وفيه: فجعل ينكت بقضيب في أنفه ويقول: ما رأيت مثل هذا حسنا.

وقال البزار: حدثنا مفرج بن شجاع بن عبيد الله الموصلي، ثنا غسان بن الربيع، ثنا يونس بن عبيدة، عن ثابت وحميد، عن أنس قال: لما أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه ويقول: لقد كان - أحسبه قال جميلا -

فقلت: والله لأسوءنك، إني رأيت رسول الله يلثم حيث يقع قضيبك.

قال: فانقبض.

تفرد به البزار من هذا الوجه، وقال: لا نعلم رواه عن حميد غير يونس بن عبدة، وهو رجل من أهل البصرة مشهور، وليس به بأس.

ورواه أبو يعلى الموصلي: عن إبراهيم بن الحجاج، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس فذكره.

ورواه قرة بن خالد، عن الحسن، عن أنس فذكره.

وقال أبو مخنف: عن سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال.

دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بما فتح الله عليه وبعافيته، فأجد ابن زياد قد جلس للناس، وقد دخل عليه الوفد الذين قدموا عليه فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت فيه بقضيب بين ثناياه ساعة.

فقال له زيد بن أرقم: ارفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الثنيتين يقبلهما، ثم انفضخ الشيخ يبكي.

فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك.

قال: فنهض فخرج، فلما خرج قال الناس: والله لقد قال زيد بن أرقم كلاما لو سمعه ابن زياد لقتله.

قال: فقلت ما قال؟ قالوا: مر بنا وهو يقول:

ملك عبد عبيدا * فاتخذهم تليدا

أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة فهو يقتل خياركم ويستعبد شرار كم، فبعدا لمن رضي بالذل.

وقد روي من طريق أبي داود بإسناده عن زيد بن أرقم بنحوه.

ورواه الطبراني من طريق ثابت عن زيد.

وقد قال الترمذي: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير قال.

لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه، فنصبت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيب.

ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا.

ثم قال الترمذي: حسن صحيح.

وأمر ابن زياد فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فذكر ما فتح الله عليه من قتل الحسين الذي أراد أن يسلبهم الملك ويفرق الكلمة عليهم، فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي.

فقال: ويحك يا ابن زياد!! تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين! فأمر به ابن زياد فقتل وصلب.

ثم أمر برأس الحسين فنصب بالكوفة وطيف به في أزقتها، ثم سيره مع زحر بن قيس ومعه رؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية بالشام، وكان مع زحر جماعة من الفرسان، منهم: أبو بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان الأزدي، فخرجوا حتى قدموا بالرؤوس كلها على يزيد بن معاوية.

قال هشام: فحدثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، عن أبيه، عن الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير.

قال: والله إني لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس فدخل على يزيد، فقال له يزيد: ويحك ما وراءك؟

فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله عليك ونصره، ورد علينا الحسين بن علي بن أبي طالب وثمانية عشر من أهل بيته، وستون رجلا من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال.

فغدونا إليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير مهرب ولا وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذا كما لاذ الحمام من صقر.

فوالله ما كانوا إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مزملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم.

قال: فدمعت عينا يزيد بن معاوية وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، ورحم الله الحسين.

ولم يصل الذي جاء برأسه بشيء.

ولما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد قال: أما والله لو إني صاحبك ما قتلتك، ثم أنشد قول الحسين بن الحمام المري الشاعر:

يفلقن هاما من رجالٍ أعزّةٍ * علينا وهم كانوا أعق وأظلما

قال أبو مخنف: فحدثني أبو جعفر العبسي قال: وقام يحيى بن الحكم -أخو مروان بن الحكم - فقال:

لهام بجنب الطف أدنى قرابةً * من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

سميةً أضحى نسلها عدد الحصى * وليس لآل المصطفى اليوم من نسل

قال: فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال له: اسكت.

وقال محمد بن حميد الرازي - وهو شيعي -: حدثنا محمد بن يحيى الأحمري، ثنا ليث، عن مجاهد قال: لما جيء برأس الحسين فوضع بين يدي يزيد تمثل بهذه الأبيات:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج في وقع الأسل

فأهلّوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا لي هنيا لا تسل

حين حكت بفناء بركها * واستحر القتل في عبد الأسل

قد قتلنا الضعف من أشرافكم * وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل

قال مجاهد: نافق فيها، والله ثم والله ما بقي في جيشه أحد إلا تركه أي: ذمه وعابه.

وقد اختلف العلماء بعدها في رأس الحسين هل سّيره ابن زياد إلى الشام إلى يزيد أم لا؟

على قولين، الأظهر منهما أنه سيره إليه، وقد ورد في ذلك آثار كثيرة فالله أعلم.

وقال أبو مخنف: عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الله اليماني، عن القاسم بن بخيت، قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينكت بقضيب كان في يده في ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين ابن الحمام المري:

يفلقن هاما من رجال أعزةٍ * علينا وهم كادونا أعق وأظلما

فقال له أبو برزة الأسلمي: أما والله لقد أخذ قضيبك هذا مأخذا لقد رأيت رسول الله يرشفه، ثم قال: ألا إن هذا سيجيء يوم القيامة وشفيعه محمد، وتجيء وشفيعك ابن زياد.

ثم قام فولى.

وقد رواه ابن أبي الدنيا، عن أبي الوليد، عن خالد بن يزيد بن أسد، عن عمار الدهني، عن جعفر.

قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد وعنده أبو برزة، وجعل ينكت بالقضيب فقال له: ارفع قضيبك فلقد رأيت رسول الله يلثمه.

قال ابن أبي الدنيا: وحدثني مسلمة بن شبيب، عن الحميدي، عن سفيان، سمعت سالم بن أبي حفصة قال: قال الحسن: لما جيء برأس الحسين جعل يزيد يطعن بالقضيب. 28؟؟.

قال سفيان: وأخبرت أن الحسن كان ينشد على إثر هذا:

سمية أمسى نسلها عدد الحصى * وبنت رسول الله ليس لها نسل

وأما بقية أهله ونسائه فإن عمر بن سعد وكّل بهم من يحرسهم ويكلؤهم، ثم أركبوهم على الرواحل في الهوادج، فلما مروا بمكان المعركة ورأوا الحسين وأصحابه مطرحين هنالك بكته النساء، وصرخن، وندبت زينب أخاها الحسين وأهلها.

فقالت وهي تبكي:

يا محمداه، يا محمداه، صلى عليك الله، ومليك السماه، هذا حسين بالعراه، مزمل بالدماه، مقطع الأعضاء يا محمده، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا.

قال: فأبكت والله كل عدوٍ وصديق.

قال قرة بن قيس: لما مرت النسوة بالقتلى صحن ولطمن خدودهن.

قال: فما رأيت من منظر من نسوة قط أحسن من منظر رأيته منهن ذلك اليوم، والله إنهن لأحسن من مهابيرين.

وذكر الحديث كما تقدم.

ثم قال: ثم ساروا بهم من كربلاء حتى دخلوا الكوفة فأكرمهم ابن زياد وأجرى عليهم النفقات والكساوى وغيرها.

قال: دخلت زينب ابنة فاطمة في أرذل ثيابها قد تنكرت وحفّت بها إماؤها، فلما دخلت على عبيد الله بن زياد قال: من هذه؟

فلم تكلمه.

فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة.

فقال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وكذّب أحدوثتكم.

فقالت: بل الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرا لا كما تقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر.

قال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتكم؟

فقالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فيحاجونك إلى الله.

فغضب ابن زياد واستشاط.

فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها؟ إنها لا تؤاخذ بما تقول ولا تلام على خطل.

وقال أبو مخنف: عن المجالد، عن سعيد: إن ابن زياد لما نظر إلى علي بن الحسين زين العابدين قال لشرطي: أنظر أأدرك هذا الغلام، فإن كان أدرك فانطلقوا به فاضربوا عنقه؟

فكشف إزاره عنه فقال: نعم!

فقال: اذهب به فاضرب عنقه.

فقال له علي بن الحسين: إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن.

فقال له ابن زياد: تعال أنت! فبعثه معهن.

قال أبو مخنف: وأما سليمان بن أبي راشد فحدثني عن حميد بن مسلم قال: إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين، فقال له: ما اسمك؟

قال: أنا علي بن الحسين.

قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟

فسكت.

فقال له ابن زياد: مالك لا تتكلم؟

قال: كان لي أخ يقال له: علي أيضا، قتله الناس.

قال: إن الله قتله.

فسكت.

فقال: مالك لا تتكلم؟

فقال: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } 29

{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } 30.

قال: أنت والله منهم، ويحك!! انظروا هذا أدرك؟ والله إني لأحسبه رجلا.

فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال: نعم قد أدرك.

فقال: اقتله.

فقال علي بن الحسين: من يوكل بهذه النسوة؟

وتعلقت به زينب عمته فقالت: يا ابن زياد حسبك منا ما فعلت بنا، أما رويت من دمائنا؟

وهل أبقيت منا أحدا؟

قال: واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلني معه.

وناداه علي فقال: يا ابن زياد!! إن كان بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإسلام.

قال: فنظر إليهن ساعة، ثم نظر إلى القوم فقال: عجبا للرحم!! والله إني لأظن أنها ودّت لو إني قتلته أن أقتلها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك.

قال: ثم إن ابن زياد أمر بنساء الحسين وصبيانه وبناته فجهزن إلى يزيد، وأمر بعلي بن الحسين فغل بغلٍ إلى عنقه، وأرسلهم مع محقر بن ثعلبة العائذي - من عائذة قريش - ومع شمر بن ذي الجوشن قبحه الله.

فلما بلغوا باب يزيد بن معاوية رفع محقر بن ثعلبة صوته فقال: هذا محقر بن ثعلبة، أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة.

فأجابه يزيد بن معاوية: ما ولدت أم محقر شر وألأم.

فلما دخلت الرؤوس والنساء على يزيد، دعا أشراف الشام فأجلسهم حوله، ثم دعا بعلي بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه، فأدخلن عليه والناس ينظرون.

فقال لعلي بن الحسين: يا علي أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.

فقال علي: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ } 31.

فقال يزيد لابنه خالد: أجبه.

قال: فما درى خالد ما يرد عليه.

فقال له يزيد: قل: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } 32 فسكت عنه ساعة، ثم دعا بالنساء والصبيان فرأى هيئة قبيحة.

فقال: قبح الله ابن مرجانة، لو كانت بينهم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بهم، ولا بعث بكم هكذا.

وروى أبو مخنف: عن الحارث بن كعب، عن فاطمة بنت علي قالت: لما أجلسنا بين يدي يزيد رق لنا وأمر لنا بشيء وألطفنا، ثم إن رجلا من أهل الشام أحمر قام إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه - يعنيني - وكنت جارية وضيئة، فارتعدت فزعة من قوله، وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب أختي زينب - وكانت أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذلك لا يجوز -.

فقالت: لذلك الرجل كذبت والله ولؤمت، وما ذلك لك وله.

فغضب يزيد، فقال لها: كذبتِ! والله إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت.

قالت: كلا! والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا.

قالت: فغضب يزيد واستطار.

ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.

فقالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك.

قال: كذبتِ يا عدوة الله.

قالت: أنت أمير المؤمنين مسلط تشتم ظالما، وتقهر بسلطانك.

قالت: فوالله لكأنه استحي فسكت، ثم قام ذلك الرجل فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه.

فقال له يزيد: اعزب وهب الله لك حتفا قاضيا.

ثم أمر يزيد النعمان بن بشير أن يبعث معهم إلى المدينة رجلا أمينا معه رجال وخيل، ويكون علي بن الحسين معهن.

ثم أنزل النساء عند حريمه في دار الخلافة فاستقبلهن نساء آل معاوية يبكين وينحن علي الحسين، ثم أقمن المناحة ثلاثة أيام، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا ومعه علي بن الحسين وأخوه عمر بن الحسين.

فقال يزيد يوما لعمر بن الحسين: - وكان صغيرا جدا- أتقاتل هذا؟ يعني: ابنه خالد بن يزيد - يريد ذلك ممازحته وملاعبته.

فقال: أعطني سكينا وأعطه سكينا حتى نتقاتل، فأخذه يزيد فضمه إليه وقال: شِنشنةٌ أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية؟.

ولما ودعهم يزيد قال لعلي بن الحسين: قبح الله ابن سمية، أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت.

ثم جهزه وأعطاه مالا كثيرا وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول، وقال له: كاتبني بكل حاجة تكون لك، فكان ذلك الرسول الذي أرسله معهن يسير عنهن بمعزل من الطريق، ويبعد عنهن بحيث يدركهن طرفه وهو في خدمتهم حتى وصلوا المدينة.

فقالت فاطمة بنت علي: قلت لأختي زينب: إن هذا الرجل أرسل معنا قد أحسن صحبتنا فهل لك أن نصله؟

فقالت: والله ما معنا شيء نصله به إلا حلينا.

قالت وقلت لها: نعطيه حلينا.

قالت: فأخذت سواري ودملجي، وأخذت أختي سوارها ودملجها، وبعثنا به إليه واعتذرنا إليه وقلنا: هذا جزاؤك بحسن صحبتك لنا.

فقال: لو كان الذي صنعت معكم إنما هو للدنيا كان في هذا الذي أرسلتموه ما يرضيني وزيادة، ولكن والله ما فعلت ذلك إلا لله تعالى ولقرابتكم من رسول الله .

وقيل: إن يزيد لما رأى رأس الحسين قال: أتدرون من أين أتى ابن فاطمة؟

وما الحامل له على ما فعل؟

وما الذي أوقعه فيما وقع فيه؟

قالوا: لا!

قال: يزعم أن أباه خير من أبي، وأمه فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، وجده رسول الله خير من جدي، وأنه خير مني وأحق بهذا الأمر مني.

فأما قوله: أبوه خير من أبي فقد حاج أبي أباه إلى الله عز وجل، وعلم الناس أيهما حكم له.

وأما قوله: أمه خير من أمي فلعمري إن فاطمة بنت رسول الله خير من أمي.

وأما قوله: جده رسول الله خير من جدي، فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى أن رسول الله فينا عدلا ولا ندا، ولكنه إنما أتى من قلة فقهه لم يقرأ: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } الآية 33.

وقوله تعالى: { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ } 34.

فلما دخلت النساء على يزيد قالت فاطمة بنت الحسين - وكانت أكبر من سكينة -: يا يزيد! بنات رسول الله سبايا.

فقال يزيد: يا بنت أخي، أنا لهذا كنت أكره.

قالت: قلت والله ما تركوا لنا خرصا.

فقال: ابنة أخي! ما أتى إليك أعظم مما ذهب لك.

ثم أدخلهن داره، ثم أرسل إلى كل امرأة منهن ماذا أخذ لك؟ فليس منهن امرأة تدّعي شيئا بالغا ما بلغ إلا أضعفه لها.

وقال هشام عن أبي مخنف: حدثني أبو حمزة الثمالي، عن عبد الله الثمالي، عن القاسم بن نجيب.

قال: لما أقبل وفد الكوفة برأس الحسين دخلوا به مسجد دمشق، فقال لهم مروان بن الحكم: كيف صنعتم؟

قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلا فأتينا والله على آخرهم، وهذه الرؤوس والسبايا.

فوثب مروان وانصرف، وأتاهم أخوه يحيى بن الحكم فقال: ما صنعتم؟

فقالوا له: مثل ما قالوا لأخيه.

فقال لهم: حجبتم عن محمد يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبدا، ثم قام فانصرف.

قال: ولما بلغ أهل المدينة مقتل الحسين بكى عليه نساء بني هاشم ونُحْنَ عليه.

وروي: أن يزيد استشار الناس في أمرهم فقال رجال ممن قبحهم الله: يا أمير المؤمنين لا يتخذن من كلب سوء جروا، اقتل علي بن الحسين حتى لا يبقى من ذرية الحسين أحد.

فسكت يزيد.

فقال النعمان بن بشير: يا أمير المؤمنين اعمل معهم كما كان يعمل معهم رسول الله لو رآهم على هذه الحال.

فرق عليهم يزيد وبعث بهم إلى الحمام وأجرى عليهم الكساوى والعطايا والأطعمة، وأنزلهم في داره.

وهذا يرد قول الرافضة: إنهم حملوا على جنائب الإبل سبايا عرايا، حتى كذب من زعم منهم أن الإبل البخاتي إنما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم لتستر عوراتهن من قبلهن ودبرهن.

ثم كتب ابن زياد إلى عمرو بن سعيد أمير الحرمين يبشره بمقتل الحسين، فأمر مناديا فنادى بذلك.

فلما سمع نساء بني هاشم ارتفعت أصواتهن بالبكاء والنوح، فجعل عمرو بن سعيد يقول: هذا بكاء نساء عثمان بن عفان.

وقال عبد الملك بن عمير: دخلت على عبيد الله بن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس، فوالله ما لبث إلا قليلا حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد، وإذا رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار على ترس، ووالله ما لبثت إلا قليلا حتى دخلت على عبد الملك بن مروان وإذا رأس مصعب بن الزبير على ترس بين يديه.

وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في تاريخه: حدثني زكريا بن يحيى الضرير، ثنا أحمد بن جناب المصيصي، ثنا خالد بن يزيد، عن عبد الله القسري، ثنا عمار الدهني قال: قلت لأبي جعفر: حدثني عن مقتل الحسين كأني حضرته.

فقال: أقبل الحسين بكتاب مسلم بن عقيل الذي كان قد كتبه إليه يأمره فيه بالقدوم عليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحر بن يزيد التميميي، فقال له: أين تريد؟

فقال: أريد هذا المصر.

فقال له: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرا أرجوه.

فهَمَّ الحسين أن يرجع، وكان معه أخوة مسلم بن عقيل، فقالوا: والله لا نرجع حتى نأخذ بثأرنا ممن قتل أخانا أو نقتل.

فقال: لا خير في الحياة بعدكم، فسار فلقيه أوائل خيل ابن زياد، فلما رأى ذلك عاد إلى كربلاء، فأسند ظهره إلى قصيتا وحلفا ليقاتل من جهة واحدة.

فنزل وضرب أبنيته وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه بن زياد الريّ وعهد إليه عهده، فقال: اكفني هذا الرجل واذهب إلى عملك.

فقال: اعفني.

فأبى أن يعفيه، فقال: أنظرني الليلة، فأخره فنظر في أمره، فلما أصبح غدا عليه راضيا بما أمره به، فتوجه إليه عمر بن سعد فلما أتاه قال له الحسين: اختر واحدة من ثلاث، إما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور.

فقبل ذلك عمر، فكتب إليه عبيد الله بن زياد: لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي.

فقال الحسين: لا والله لا يكون ذلك أبدا.

فقاتله فقتل أصحاب الحسين كلهم، وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته، وجاءه سهم فأصاب ابنا له في حجره فجعل يمسح الدم ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا.

ثم أمر بحبرة فشقها ثم لبسها وخرج بسيفه فقاتل حتى قتل، قتله رجل من مذحج وحز رأسه، فانطلق به إلى ابن زياد وقال في ذلك:

أوقر ركابي فضةً وذهبا * فقد قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا

قال: فأوفده إلى يزيد بن معاوية فوضع رأسه بين يديه، وعنده أبو برزة الأسلمي، فجعل يزيد ينكت بالقضيب على فيه ويقول:

يفلقن هاما من رجالٍ أعزةٍ * علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

فقال أبو برزة: ارفع قضيبك، فوالله لربما رأيت رسول الله واضعا فيه على فيه يلثمه.

قال: وأرسل عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى ابن زياد، ولم يكن بقي من آل الحسين إلا غلام، وكان مريضا مع النساء، فأمر به ابن زياد ليقتل فطرحت زينب نفسها عليه وقالت: والله لا يقتل حتى تقتلوني.

فرقّ لها وكف عنه، قال: فأرسلهم إلى يزيد فجمع يزيد من كان بحضرته من أهل الشام، ثم دخلوا عليه فهنوه بالفتح، فقام رجل منهم أحمر أزرق - ونظر إلى وصيفة من بناته - فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه.

فقالت زينب: لا ولا كرامة لك ولا له، إلا أن تخرجا من دين الله.

قال: فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كف عن هذا.

ثم أدخلهم على عياله، ثم حملهم إلى المدينة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها واضعة كُمها على رأسها تتلقاهم وهي تبكي وتقول:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم * ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحم

وقد روى أبو مخنف: عن سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود: أن بنت عقيل هي التي قالت هذا الشعر.

وهكذا حكى الزبير بن بكار: أن زينب الصغرى بنت عقيل بن أبي طالب هي التي قالت ذلك حين دخل آل الحسين المدينة النبوية.

وروى أبو بكر بن الأنباري بإسناده: أن زينب بنت علي بن أبي طالب من فاطمة - وهي زوج عبد الله بن جعفر أم بنيه - رفعت سجف خفائها يوم كربلاء يوم قتل الحسين، وقالت هذه الأبيات فالله أعلم.

وقال هشام بن الكلبي: حدثني بعض أصحابنا، عن عمرو بن المقدام قال: حدثني عمر بن عكرمة قال: أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة فإذا مولاة لنا تحدثنا قالت: سمعت البارحة مناديا ينادي وهو يقول:

أيها القاتلون ظلما حسينا * أبشروا بالعذاب والتنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم* من نبيٍ ومالكٍ وقبيل

لقد لعنتم على لسان بن داود * وموسى وحامل الإنجيل

قال ابن هشام: حدثني عمرو بن حيزوم الكلبي، عن أمه قالت: سمعت هذا الصوت، وقال الليث وأبو نعيم: يوم السبت.

ومما أنشده الحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيره لبعض المتقدمين في مقتل الحسين:

جاؤوا برأسك يا ابن بنت محمدٍ * متزملا بدمائه تزميلا

وكأن بك يا ابن بنت محمدٍ * قتلوا جهارا عامدين رسولا

قتلوك عطشانا ولم يتدبروا * في قتلك القرآن والتنزيلا

ويكبرون بأن قتلت وإنما * وقتلوا بك التكبير والتهليلا

فصل مقتل الحسين رضي الله عنه

عدل

وكان مقتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة، يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى وستين.

وقال هشام بن الكلبي: سنة اثنتين وستين، وبه قال علي بن المديني.

وقال ابن لهيعة: سنة ثنتين أو ثلاث وستين.

وقال غيره: سنة ستين.

والصحيح الأول.

بمكان من الطّفّ يقال له: كربلاء من أرض العراق وله من العمر ثمان وخمسون سنة أو نحوها.

وأخطأ أبو نعيم في قوله: إنه قتل وله من العمر خمس أو ست وستون سنة.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - يعني: ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال: استأذن ملك القطر أن يأتي النبي فأذن له فقال لأم سلمة: «احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد»، فجاء الحسين بن علي فوثب حتى دخل، فجعل يصعد على منكب النبي .

فقال الملك: أتحبه؟

قال: «نعم!»

فقال: إن أمتك تقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه.

قال: فضرب بيده فأراه ترابا أحمر، فأخذت أم سلمة ذلك التراب فصرته في طرف ثوبها.

قال: فكنا نسمع أنه يقتل بكربلاء.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثني عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن عائشة - أو أم سلمة -: أن رسول الله قال: «لقد دخل عليّ البيت ملك لم يدخل قبلها»، فقال لي: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك الأرض التي يقتل بها.

قال: فأخرج تربة حمراء.

وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أم سلمة.

ورواه الطبراني: عن أبي أمامة وفيه قصة أم سلمة.

ورواه محمد بن سعد، عن عائشة بنحو رواية أم سلمة فالله أعلم.

وروى ذلك من حديث زينب بنت جحش، ولبابة أم الفضل امرأة العباس.

وأرسله غير واحد من التابعين.

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا محمد بن هارون، أبو بكر، ثنا إبراهيم بن محمد الرقي، وعلي بن الحسن الرازي قالا: ثنا سعيد بن عبد الملك أبو واقد الحراني، ثنا عطاء بن مسلم، ثنا أشعث بن سحيم، عن أبيه قال: سمعت أنس بن الحارث يقول: سمعت رسول الله يقول: «إن ابني- يعني: الحسين - يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد منكم ذلك فلينصره».

قال: فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقتل مع الحسين.

قال: ولا أعلم رواه غيره.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، ثنا شراحيل بن مدرك، عن عبد الله بن يحيى، عن أبيه: أنه سار مع علي - وكان صاحب مطهرته - فلما جاؤوا نينوى وهو منطلق إلى صفين.

فنادى علي: اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله، بشط الفرات.

قلت: وماذا تريد؟

قال: دخلت على رسول الله ذات يوم وعيناه تفيضان فقلت: ما أبكاك يا رسول الله؟

قال: «بلى، قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات».

قال: فقال: هل لك أن أشمك من تربته؟

قال: «فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا». تفرد به أحمد.

وروى محمد بن سعد: عن علي بن محمد، عن يحيى بن زكريا، عن رجل، عن عامر الشعبي، عن علي مثله.

وقد روى محمد بن سعد وغيره من غير وجه عن علي بن أبي طالب أنه مر بكربلاء عند أشجار الحنظل، وهو ذاهب إلى صفين، فسأل عن اسمها، فقيل: كربلاء.

فقال: كربٌ وبلاء.

فنزل فصلى عند شجرة هناك ثم قال: يقتل ههنا شهداء هم خير الشهداء غير الصحابة، يدخلون الجنة بغير حساب -وأشار إلى مكان هناك - فعلّموه بشيء فقتل فيه الحسين.

وقد روي عن كعب الأحبار آثار في كربلاء.

وقد حكى أبو الجناب الكلبي وغيره: أن أهل كربلاء لا يزالون يسمعون نوح الجن على الحسين وهن يقلن:

مسح الرسول جبينه * فله بريقٌ في الخدود

أبواه من عليا قريشٍ * جده خير الجدود

وقد أجابهم بعض الناس فقال:

خرجوا به وفدا إليـ*ـه فهم له شر الوفود

قتلوا ابن بنت نبيهم * سكنوا به ذات الخدود

وروى ابن عساكر: أن طائفة من الناس ذهبوا في غزوة إلى بلاد الروم، فوجدوا في كنسية مكتوبا:

أترجو أمةٌ قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب؟

فسألوهم من كتب هذا؟

فقالوا: إن هذا مكتوب ههنا من قبل مبعث نبيكم بثلاثمائة سنة.

وروي: أن الذين قتلوه رجعوا فباتوا وهم يشربون الخمر والرأس معهم، فبرز لهم قلم من حديد فرسم لهم في الحائط بدم هذا البيت:

أترجو أمةٌ قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب؟

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن وعفان، ثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس.

قال: رأيت رسول الله في المنام نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، ما هذا؟

قال: «هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم».

قال عمار: فأحصينا ذلك اليوم فوجدناه قد قتل في ذلك اليوم.

تفرد به أحمد، وإسناده قوي.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الله بن محمد بن هانىء أبو عبد الرحمن النحوي، ثنا مهدي بن سليمان، ثنا علي بن زيد بن جدعان.

قال: استيقظ ابن عباس من نومه فاسترجع وقال: قتل الحسين والله.

فقال له أصحابه: لِمَ يا ابن عباس؟

فقال: رأيت رسول الله ومعه زجاجة من دم.

فقال: «أتعلم ما صنعت أمتي من بعدي؟ قتلوا الحسين وهذا دمه ودم أصحابه أرفعهما إلى الله».

فكتب ذلك اليوم الذي قال فيه، وتلك الساعة، فما لبثوا إلا أربعة وعشرين يوما حتى جاءهم الخبر بالمدينة أنه قتل في ذلك اليوم وتلك الساعة.

وروى الترمذي: عن أبي سعيد الأشج، عن أبي خالد الأحمر، عن رزين، عن سلمى قالت: دخلت على أم سلمة وهي تبكي فقلت: ما يبكيك؟

فقالت: رأيت رسول الله وعلى رأسه ولحيته التراب.

فقلت: ما لك يا رسول الله؟

قال: «شهدت قتل الحسين آنفا».

وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، أنبأنا قرة بن خالد، أخبرني عامر بن عبد الواحد، عن شهر بن حوشب قال: إنا لعند أم سلمة زوج النبي فسمعنا صارخةً فأقبلت حتى انتهت إلى أم سلمة، فقالت: قتل الحسين.

فقالت: قد فعلوها، ملأ الله قبورهم - أو بيوتهم -عليهم نارا، ووقعت مغشيا عليها، وقمنا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا ابن مسلم، عن عمار قال: سمعت أم سلمة قالت: سمعت الجن يبكين على الحسين، وسمعت الجن تنوح على الحسين.

رواه الحسين بن إدريس، عن هاشم بن هاشم، عن أمه، عن أم سلمة قالت: سمعت الجن ينحن على الحسين وهن يقلن:

أيها القاتلون جهلا حسينا * أبشروا بالعذاب والتنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم * ونبي ومرسل وقبيل

قد لعنتم على لسان ابن داود * وموسى وصاحب الإنجيل

وقد روي من طريق أخرى، عن أم سلمة بشعر غير هذا فالله أعلم.

وقال الخطيب: أنبأنا أحمد بن عثمان بن ساج السكري، ثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، ثنا محمد بن شداد المسمعي، ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: أوحى الله تعالى إلى محمد إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وأنا قاتل بابن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.

هذا حديث غريب جدا، وقد رواه الحاكم في مستدركه.

وقد ذكر الطبراني ههنا آثارا غريبة جدا، ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذبا فاحشا.

من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذٍ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه دم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضا، وأمطرت السماء دما أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذٍ، ونحو ذلك.

وروى ابن لهيعة: عن أبي قبيل المعافري: أن الشمس كسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم وقت الظهر.

وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دما، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يمس زعفران ولا ورس بما كان معه يومئذٍ إلا احترق من مسه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم.

إلى غير ذلك من الأكاذيب، والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء.

وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قل من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة وعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض، وأكثرهم أصابهم الجنون.

وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة، وفيما ذكرنا كفاية.

وفي بعض ما أوردناه نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ والأئمة ذكروه ما سقته، وأكثره من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى، وقد كان شيعيا، وهو ضعيف الحديث عند الأئمة، ولكنه أخباري حافظ، عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنفين في هذا الشأن ممن بعده والله أعلم.

وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها، فكانت الدبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذٍ موافقة للحسين لأنه قتل عطشانا.

ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والأهواء الفظيعة، والهتائك المخترعة، وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في دولتهم.

وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام، فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون، ويتطيبون، ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم.

وقد تأول عليه من قتله أنه جاء ليفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها، وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه.

وقد ورد في صحيح مسلم الحديث بالزجر عن ذلك، والتحذير منه، والتوعد عليه، وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأولوا عليه وقتلوه، ولم يكن لهم قتله، بل كان يجب عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاثة المتقدم ذكرها.

فإذا ذمت طائفة من الجبارين تذم الأمة كلها بكمالها وتتهم على نبيها ، فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الأئمة قديما وحديثا كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه، سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة قبحهم الله، وأكثرهم كانوا قد كاتبوه ليتوصلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة.

فلما علم ذلك ابن زياد منهم بلغهم ما يريدون من الدنيا، وآخذهم على ذلك وحملهم عليه بالرغبة والرهبة، فانكفوا عن الحسين وخذلوه ثم قتلوه.

وليس كل ذلك الجيش كان راضيا كما وقع من قتله، بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم، ولا كرهه، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، وكما صرح هو به مخبرا عن نفسه بذلك.

وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه ذلك والله أعلم.

فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله التي هي أفضل بناته، وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا، ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء.

وقد كان أبوه أفضل منه فقتل، وهم لا يتخذون مقتله مأتما كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة.

وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما.

وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، قتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما.

وكذلك الصديق كان أفضل منه ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتما، ورسول الله سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موتهم مأتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين.

ولا ذكر أحد أنه ظهر يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة، مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء، وغير ذلك.

وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ما رواه علي بن الحسين: عن جده رسول الله أنه قال: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب منها».

رواه الإمام أحمد وابن ماجه.

وأما قبر الحسين رضي الله عنه

عدل

فقد اشتهر عند كثير من المتأخرين أنه في مشهد علي بمكان من الطف عند نهر كربلاء، فيقال: إن ذلك المشهد مبني على قبره فالله أعلم.

وقد ذكر ابن جرير وغيره: أن موضع قتله عفي أثره حتى لم يطلع أحد على تعيينه بخبر.

وقد كان أبو نعيم، الفضل بن دكين، ينكر على من يزعم أنه يعرف قبر الحسين.

وذكر هشام بن الكلبي: أن الماء لما أجري على قبر الحسين ليمحي أثره نضب الماء بعد أربعين يوما، فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمها حتى وقع على قبر الحسين فبكى، وقال: بأبي أنت وأمي، ما كان أطيبك تربتك!!

ثم أنشأ يقول:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه * فطيب تراب القبر دل على القبر

وأما رأس الحسين رضي الله عنه

عدل

فالمشهور عند أهل التاريخ وأهل السير أنه بعث به ابن زياد إلى يزيد بن معاوية، ومن الناس من أنكر ذلك.

وعندي: أن الأول أشهر فالله أعلم.

ثم اختلفوا بعد ذلك في المكان الذي دفن فيه الرأس، فروى محمد بن سعد: أن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائب المدينة فدفنه عند أمه بالبقيع.

وذكر ابن أبي الدنيا من طريق عثمان بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمر بن صالح - وهما ضعيفان -: أن الرأس لم يزل في خزانة يزيد بن معاوية حتى توفي، فأخذ من خزانته فكفن ودفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق.

قلت: ويعرف مكانه بمسجد الرأس اليوم داخل باب الفراديس الثاني.

وذكر ابن عساكر في تاريخه: في ترجمته ريّا حاضنة يزيد بن معاوية، أن يزيد حين وضع رأس الحسين بين يديه تمثل بشعر ابن الزبعري يعني قوله:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل

قال: ثم نصبه بدمشق ثلاثة أيام، ثم وضع في خزائن السلاح، حتى كان زمن سليمان بن عبد الملك جيء به إليه، وقد بقي عظما أبيض، فكفنه وطيبه، وصلى عليه ودفنه في مقبرة المسلمين، فلما جاءت المسودّة - يعني: بني العباس - نبشوه وأخذوه معهم.

وذكر ابن عساكر: أن هذه المرأة بقيت بعد دولة بني أمية، وقد جاوزت المائة سنة فالله أعلم.

وادّعت الطائفة المسمون بالفاطميين الذين ملكوا الديار المصرية قبل سنة أربعمائة إلى ما بعد سنة ستين وستمائة، أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها، وبنوا عليه المشهد المشهور به بمصر، الذي يقال له: تاج الحسين بعد سنة خمسمائة.

وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة.

وقد نص على ذلك القاضي الباقلاني وغير واحد من أئمة العلماء، في دولتهم في حدود سنة أربعمائة، كما سنبين ذلك كله إذا انتهينا إليه في مواضعه إن شاء الله تعالى.

قلت: والناس أكثرهم يروج عليهم مثل هذا، فإنهم جاؤوا برأس فوضعوه في مكان المسجد المذكور، وقالوا: هذا رأس الحسين.

فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم.

فصل شيء من فضائله

عدل

روى البخاري من حديث شعبة، ومهدي بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب: سمعت ابن أبي نعيم قال: سمعت عبد الله بن عمر، وسأله رجل من أهل العراق عن المحرم يقتل الذباب.

فقال: أهل العراق يسألون عن قتل الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله ، وقد قال رسول الله : «هما ريحانتاي من الدنيا».

ورواه الترمذي: عن عقبة بن مكرم، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن أبي يعقوب به نحوه: أن رجلا من أهل العراق سأل ابن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب.

فقال ابن عمر: انظروا إلى أهل العراق، يسألون عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت محمد .

وذكر تمام الحديث.

ثم قال: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن أبي الحجاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

قال: قال رسول الله : «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني» - يعني: حسنا وحسينا -.

وقال الإمام أحمد: حدثنا تليد بن سليمان، كوفي، ثنا أبو الحجاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

قال: نظر النبي إلى علي والحسن والحسين وفاطمة فقال: «أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم».

تفرد بهما الإمام أحمد.

وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن عمير، ثنا الحجاج - يعني: ابن دينار - عن جعفر بن إياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة.

قال: خرج علينا رسول الله ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه الواحد، وهذا على عاتقه الآخر، وهو يلثم هذا مرة وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله! والله إنك لتحبهما.

فقال: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني». تفرد به أحمد.

وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثني عقبة بن خالد، حدثني يوسف بن إبراهيم التميمي: أنه سمع أنس بن مالك يقول: سئل رسول الله : أي أهل بيتك أحب إليك؟

قال: «الحسن والحسين».

قال: وكان يقول: «ادع لي ابنيَّ فيشمهما ويضمهما إليه».

وكذا رواه الترمذي عن أبي سعيد الأشج به، وقال: حسن غريب من حديث أنس.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، وعفان، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس.

أن رسول الله كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر فيقول: «الصلاة يا أهل البيت، { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا } 35».

ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن عفان به، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة.

وقال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو أسامة، عن فضيل بن مرزوق، عن عدي، عن ثابت، عن البراء: أن رسول الله أبصر حسنا وحسينا، فقال: «اللهم إني أحبهما فأحبهما».

ثم قال: حسن صحيح.

وقد روى الإمام أحمد: عن زيد بن الحباب، عن الحسين بن واقد.

وأهل السنن الأربعة من حديث الحسين بن واقد، عن بريدة، عن أبيه.

قال: كان رسول الله يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } 36 نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتها».

وهذا لفظ الترمذي، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد.

ثم قال: حدثنا الحسين بن عرفة، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن راشد، عن يعلى بن مرة.

قال: قال رسول الله : «حسين مني، وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط».

ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن.

ورواه أحمد عن عفان، عن وهب، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم به.

ورواه الطبراني عن بكر بن سهل، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح بن راشد بن سعد، عن يعلى بن مرة أن رسول الله قال: «الحسن والحسين سبطان من الأسباط».

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي نعيم، عن أبي سعيد الخدري.

قال: قال رسول الله : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».

ورواه الترمذي: من حديث سفيان الثوري وغيره، عن يزيد بن أبي زياد، وقال: حسن صحيح.

وقد رواه أبو القاسم البغوي عن داود بن رشيد، عن مروان الفزاري، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبيه، عن أبي سعيد.

قال: قال رسول الله : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة، يحيى وعيسى ».

وأخرجه النسائي من حديث مروان بن معاوية الفزاري به.

ورواه سويد بن سعيد، عن محمد بن حازم، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن ربيع بن سعد، عن أبي سابط قال: دخل حسين بن علي المسجد، فقال جابر بن عبد الله: من أحب أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى هذا، سمعته من رسول الله . تفرد به أحمد.

وروى الترمذي والنسائي من حديث إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن حذيفة: أن أمه بعثته ليستغفر له رسول الله ولها، قال: فأتيته فصليت معه المغرب ثم صلى حين صلى العشاء، ثم انفتل فتبعته فسمع صوتي فقال: «من هذا؟ حذيفة؟»

قلت: نعم!

قال: «ما حاجتك غفر الله لك ولأمك؟» إن هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قبل هذه الليلة استأذن ربه بأن يسلم عليّ ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.

ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ولا يعرف إلا من حديث إسرائيل.

وقد رُوي مثل هذا من حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث الحسين نفسه، وعمر وابنه عبد الله، وابن عباس، وابن مسعود وغيرهم، وفي أسانيده كلها ضعف، والله أعلم.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا موسى بن عطية، عن أبيه، عن أبي هريرة.

قال: سمعت رسول الله يقول في الحسن والحسين: «من أحبني فليحب هذين».

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، ثنا إسماعيل - يعني: ابن جعفر - أخبرني محمد - يعني: ابن حرملة - عن عطاء.

أن رجلا أخبره أنه رأى النبي يضم إليه حسنا وحسينا ويقول: «اللهم إني أحبهما فأحبهما».

وقد رُوي عن أسامة بن زيد، وسلمان الفارسي شيء يشبه هذا وفيه ضعف وسقم والله أعلم.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا كامل وأبو المنذر ابنا كامل، قال أسود: أنبأنا المعنى عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: كنا نصلي مع رسول الله العشاء فإذا سجد وثب الحسين والحسن على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما أخذا رفيقا فيضعهما على الأرض، فإذا عاد عادا، حتى قضى صلاته أقعدهما على فخذيه.

قال: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله أردهما إلى أمهما؟

قال: فبرقت برقة فقال لهما: «الحقا بأمكما».

قال: فمكث ضؤها حتى دخلا على أمهما.

وقد روى موسى بن عثمان الحضرمي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة نحوه.

وقد روي عن أبي سعيد، وابن عمر قريب من هذا.

فقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا معاذ بن معاذ، ثنا قيس بن الربيع، عن أبي المقدام عبد الرحمن الأزرق، عن علي قال: دخل علي رسول الله وأنا نائم، فاستسقى الحسن أو الحسين فقام رسول الله إلى شاةٍ لنا كي يحلبها فدرت فجاءه الآخر فنحاه.

فقالت فاطمة: يا رسول الله كأنه أحبهما إليك؟

قال: «لا ولكنه استسقى قبله» ثم قال: «إني وإياك وهذين وهذا الراقد في مكان واحد يوم القيامة»

تفرد به أحمد.

ورواه أبو داود الطيالسي: عن عمر بن ثابت، عن أبيه، عن أبي فاختة، عن علي فذكر نحوه.

وقد ثبت: أن عمر بن الخطاب كان يكرمهما ويحملهما، ويعطيهما كما يعطي أباهما، وجيء مرة بحلل من اليمن فقسمها بين أبناء الصحابة ولم يعطهما منها شيئا، وقال: ليس فيها شيء يصلح لهما، ثم بعث إلى نائب اليمن فاستعمل لهما حلتين تناسبهما.

وقال محمد بن سعد: أنبأنا قبيصة بن عقبة، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث قال: بينما عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة إذ رأى الحسين مقبلا فقال: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء.

وقال الزبير بن بكار: حدثني سليمان بن الدراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن رسول الله بايع الحسن والحسين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر وهم صغار لم يبلغوا، ولم يبايع صغيرا إلا منا.

وهذا مرسل غريب.

وقال محمد بن سعد: أخبرني يعلى بن عبيد، ثنا عبد الله بن الوليد الرصافي، عن عبد الله بن عبيد الله بن عميرة.

قال: حج الحسين بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا ونجائبه تقاد بين يديه.

وحدثنا أبو نعيم - الفضل بن دكين - ثنا حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن الحسين بن علي حج ماشيا وأن نجائبه لتقاد وراءه.

والصواب: أن ذلك إنما هو الحسن أخوه، كما حكاه البخاري.

وقال المدائني: جرى بين الحسن والحسين كلام فتهاجرا، فلما كان بعد ذلك أقبل الحسن إلى الحسين فأكب على رأسه يقبله، فقام الحسين فقبله أيضا.

وقال: إن الذي منعني من ابتدائك بهذا، أني رأيت أنك أحق بالفضل مني فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به مني.

وحكى الأصمعي: عن ابن عون: أن الحسن كتب إلى الحسين يعيب عليه إعطاء الشعراء فقال الحسين: إن أحسن المال ما وقى العرض.

وقد روى الطبراني: حدثنا أبو حنيفة محمد بن حنيفة الواسطي، ثنا يزيد بن البراء بن عمرو ابن البراء الغنوي، ثنا سليمان بن الهيثم قال: كان الحسين بن علي يطوف بالبيت فأراد أن يستلم فما وسع له الناس.

فقال رجل: يا أبا فراس من هذا؟

فقال الفرزدق:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم

يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم

في كفه خيزران ريحها عبق * بكف أورع في عرنينه شمم

مشتقة من رسول الله نسبته * طابت عناصره والخيم والشيم

لا يستطيع جواد بعد غايته * ولا يدانيه قوم إن هموا كرموا

من يعرف الله يعرف أوّلية ذا * فالدين من بيت هذا ناله أمم

أيُّ العشائر هم ليست رقابهم * لأولية هذا أوله نعم

هكذا أوردها الطبراني في ترجمة الحسين في معجمه الكبير، وهو غريب، فإن المشهور أنها من قيل الفرزدق في علي بن الحسين لا في أبيه، وهو أشبه فإن الفرزدق لم ير الحسين إلا وهو مقبل إلى الحج والحسين ذاهب إلى العراق.

فسأل الحسين الفرزدق عن الناس فذكر له ما تقدم ثم أن الحسين قتل بعد مفارقته له بأيام يسيرة، فمتى رآه يطوف بالبيت والله أعلم.

وروى هشام عن عوانة قال: قال عبيد الله بن زياد لعمر بن سعد: أين الكتاب الذي كتبته إليك في قتل الحسين؟

فقال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب.

فقال له ابن زياد: لتجيئن به.

قال: ضاع.

قال: والله لتجيئن به.

قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش أعتذر إليهن بالمدينة، أما والله لقد نصحتك في حسين نصيحة لو نصحتها إلى سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه.

فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله، صدق عمر والله.

ولوددت والله أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأن حسينا لم يقتل.

قال: فوالله ما أنكر ذلك عليه عبيد الله بن زياد.

فصل في شيء من أشعاره التي رويت عنه

عدل

فمن ذلك ما أنشده أبو بكر بن كامل، عن عبد الله بن إبراهيم وذكر أنه للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:

إغنَ عن المخلوق بالخالق * تسد على الكاذب والصادق

واسترزق الرحمن من فضله * فليس غير الله من رازق

من ظن أن الناس يغنونه * فليس بالرحمن بالواثق

أو ظن أن المال من كسبه * زلت به النعلان من حالق

عن الأعمش أن الحسين بن علي قال:

كلما زيد صاحب المال مالا * زيد في همه وفي الاشتغال

قد عرفناك يا منغصة العيـ*ـش ويا دارَ كل فانٍ وبالي

ليس يصفو لزهدٍ طلب الزهـ * ـد إذا كان مثقلا بالعيال

وعن إسحاق بن إبراهيم قال: بلغني أن الحسين زار مقابر الشهداء بالبقيع فقال:

ناديت سكان القبور فأسكتوا * وأجابني عن صمتهم ترب الحصا

قالت أتدري ما فعلت بساكني * مزقت لحمهم وخرقت الكسا

وحشوت أعينهم ترابا بعد ما * كانت تأذى باليسير من القذا

أما العظام فإنني مزقتها * حتى تباينت المفاصل والشوا

قطعت ذا زادٍ من هذا كذا * فتركتها رمما يطوف بها البلا

وأنشد بعضهم للحسين رضي الله عنه أيضا:

لئن كانت الدنيا تعد نفيسةً * فدار ثواب الله أعلى وأنبل

وإن كانت الأبدان للموت أنشئت * فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل

وإن كانت الأرزاق شيئا مقدرا * فقله سعي المرء في الرزق أجمل

وإن كانت الأموال للترك جمعها * فما بال متروك به المرء يبخل

ومما أنشد الزبير بن بكار من شعره في امرأته الرباب بنت أنيف، ويقال: بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس الكلبي أم ابنته سكينة:

لعمرك إنني لأحب دارا * تحل بها سكينة والرباب

أحبهما وأبذل جل مالي * وليس للائمي فيها عتاب

ولست لهم وإن عتبوا مطيعا * حياتي أو يعليني التراب

وقد أسلم أبوها على يدي عمر بن الخطاب وأمره عمر على قومه، فلما خرج من عنده خطب إليه علي بن أبي طالب أن يزوج ابنه الحسن أو الحسين من بناته، فزوج الحسن ابنته سلمى، والحسين ابنته الرباب، وزوج عليا ابنته الثالثة، وهي المحياة بنت امرئ القيس في ساعة واحدة، فأحب الحسين زوجته الرباب حبا شديدا وكان بها معجبا يقول فيها الشعر.

ولما قتل بكربلاء كانت معه فوجدت عليه وجدا شديدا، وذكر أنها أقامت على قبره سنة، ثم انصرفت وهي تقول:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

وقد خطبها بعده خلق كثير من أشراف قريش فقالت: ما كنت لأتخذ حموا بعد رسول الله ، ووالله لا يؤويني رجلا بعد الحسين سقف أبدا.

ولم تزل عليه كمدة حتى ماتت، ويقال: أنها إنما عاشت بعده أياما يسيرة فالله أعلم.

وابنتها سكينة بنت الحسين كانت من أجمل النساء حتى إنه لم يكن في زمانها أحسن منها فالله أعلم.

وروى أبو مخنف: عن عبد الرحمن بن جندب أن ابن زياد بعد مقتل الحسين تفقد أشراف أهل الكوفة فلم ير عبيد الله بن الحر بن يزيد، فتطلبه حتى جاءه بعد أيام فقال: أين كنت يا ابن الحر؟

قال: كنت مريضا.

قال: مريض القلب أم مريض البدن؟

قال: أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد منَّ الله عليه بالعافية.

فقال له ابن زياد: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا.

قال: لو كنت مع عدوك لم يخف مكان مثلي، ولكان الناس شاهدوا ذلك.

قال: وعقل عن ابن زياد عقلةً فخرج ابن الحر فقعد على فرسه.

ثم قال: أبلغوه أني لا آتيه والله طائعا.

فقال ابن زياد: أين ابن الحر؟

قال: خرج.

فقال: عليَّ به، فخرج الشرط في طلبه فأسمعهم غليظ ما يكرهون، وترضى عن الحسين وعن أخيه وأبيه، ثم أسمعهم في ابن زياد غليظا من القول، ثم امتنع منهم وقال في الحسين وفي أصحابه شعرا:

يقول أميرٌ غادرٌ حق غادرٍ * ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه

فيا ندمي أن لا أكون نصرته * لذو حسرةٍ ما أن تفارق لازمه

سقى الله أرواح الذين تبارزوا * على نصره سقيا من الغيث دائمه

وقفت على أجداثهم وقبورهم * فكان الحشى ينقض والعين ساجمه

لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى * سراعا إلى الهيجا حماة حضارمه

تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم * بأسيافهم أسَّاد غبل ضراغمه

فإن يقتلوا تلك النفوس التقية * على الأرض قد أضحت لذلك واجمة

فما إن رأى الراؤون أفضل منهم * لدى الموت سادات وزهر قمامه

أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا * فذى خطة ليست لنا بملائمه

لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم * فكم ناقمٍ منا عليكم وناقمه

أهمُّ مرارا أن أسير بجحفلٍ * إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه

فيا بن زيادٍ استعد لحربنا * وموقف ضنكٍ تقصم الظهر قاصمه

وقال الزبير بن بكار: قال سليمان بن قتيبة يرثي الحسين رضي الله عنه:

وإن قتيل ألطفِّ من آل هاشم * أذل رقابا من قريشٍ فذلت

فإن تتبعوه عائذا لبيتٍ تصبحوا * كعادٍ تعمت عن هداها فضلت

مررت على أبيات آل محمدٍ * فألفيتها أمثالها حيث حلت

وكانوا لنا غنما فعادوا رزيةً * لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

فلا يبعد الله الديار وأهلها * وإن أصبحت منهم بزعمي تحلت

إذا افتقرت قيس خبرنا فقيرها * وتقتلنا قيس إذا النعل زلت

وعند يزيد قطرةٌ من دمائنا * سنجزيهم يوما بها حيث حلت

ألم تر أن الأرض أضحت مريضةً * لقتل حسينٍ والبلاد اقشعرت

ومما وقع من الحوادث في هذه السنة - أعني: سنة إحدى وستين - بعد مقتل الحسين.

ففيها: ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد سجستان وخراسان حين وفد عليه، وله من العمر أربعة وعشرون سنة، وعزل عنها أخويه عبادا وعبد الرحمن، وسار سلم إلى عمله فجعل ينتخب الوجوه والفرسان، ويحرض الناس على الجهاد.

ثم خرج في جحفل عظيم ليغزو بلاد الترك، ومعه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص، فكانت أول امرأة من العرب قطع بها النهر، وولدت هناك ولدا أسموه صغدى، وبعثت إليها امرأة صاحب صغدى بتاجها من ذهب ولآلئ؟؟.

وكان المسلمون قبل ذلك لا يشتون في تلك البلاد، فشتى بها سلم بن زياد.

وبعث المهلب بن أبي صفرة إلى تلك المدينة التي هي للترك، وهي: خوارزم فحاصرهم حتى صالحوه على نيف وعشرين ألف ألف، وكان يأخذ منهم عروضا عوضا، فيأخذ الشيء بنصف قيمته فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظي بذلك المهلب عند سلم بن زياد.

ثم بعث من ذلك ما اصطفاه ليزيد بن معاوية مع مرزبان ومعه وفد، وصالح سلم أهل سمرقند في هذه الغزوة على مالٍ جزيل.

وفيها: عزل يزيد عن إمرة الحرمين عمرو بن سعيد، وأعاد إليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فولاه المدينة، وذلك أن ابن الزبير لما بلغه مقتل الحسين شرع يخطب الناس ويعظم قتل الحسين وأصحابه جدا، ويعيب على أهل الكوفة وأهل العراق ما صنعوه من خذلانهم الحسين، ويترحم على الحسين ويلعن من قتله.

ويقول: أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا في النهار صيامه، أما والله ما كان يستبدل بالقرآن الغنا والملاهي، ولا بالبكاء من خشية الله اللغو والحداء، ولا بالصيام شرب المدام وأكل الحرام، ولا بالجلوس في حلق الذكر طلب الصيد، - يُعرّض في ذلك بيزيد بن معاوية - فسوف يلقون غيا، ويؤلب الناس على بني أمية ويحثهم على مخالفته، وخلع يزيد.

فبايعه خلق كثير في الباطن، وسألوه أن يظهرها فلم يمكنه ذلك مع وجود عمرو بن سعيد، وكان شديدا عليه ولكن فيه رفق، وقد كان كاتبه أهل المدينة وغيرهم.

وقال الناس: أما إذ قتل الحسين فليس ينازع أحد ابن الزبير، فلما بلغ ذلك يزيد شق ذلك عليه.

وقيل له: إن عمرو بن سعيد لو شاء لبعث إليك برأس ابن الزبير، أو يحاصره حتى يخرجه من الحرم، فبعث فعزله وولى الوليد بن عُتبة فيها.

وقيل: في مستهل ذي الحجة، فأقام للناس الحج فيها، وحلف يزيد ليأتيني ابن الزبير في سلسلة من فضة، وبعث بها مع البريد ومعه برنس من خزٍ ليبر يمينه، فلما مر البريد على مروان وهو بالمدينة وأخبره بما هو قاصد له وما معه من الغل، أنشأ مروان يقول:

فخذها فما هي للعزيز بخطةٍ * وفيها مقال لامرئ متذلل

أعامر إنَّ القوم ساموك خطةً * وذلك في الجيران غزل بمغزل

أراك إذا ما كنت في القوم ناصحا * يقال له بالدلو أدبر وأقبل

فلما انتهت الرسل إلى عبد الله بن الزبير بعث مروان ابنيه عبد الملك، وعبد العزيز ليحضرا مراجعته في ذلك، وقال: أسمعاه قولي في ذلك.

قال عبد العزيز: فلما جلس الرسل بين يديه جعلت أنشده ذلك، وهو يسمع ولا أشعره، فالتفت إليّ فقال: أخبرا أباكما أني أقول:

إني لمن نبعةٍ صمٌ مكاسرها * إذا تناوحت القصباء والعشر

ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

قال عبد العزيز: فما أدري أيما كان أعجب!!

قال أبو معشر: لا خلاف بين أهل السير أن الوليد بن عتبة حج بالناس في هذه السنة، وهو أمير الحرمين وعلى البصرة والكوفة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان وسجستان سلم بن زياد أخو عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.

ذكر من توفي فيها من الأعيان

الحسين بن علي رضي الله عنهما

عدل

ومعه بضعة عشر من أهل بيته قتلوا جميعا بكربلاء. وقيل: بضعة وعشرون كما تقدم. وقتل معهم جماعة من الأبطال والفرسان.

جابر بن عتيك بن قيس

عدل

أبو عبد الله الأنصاري السلمي، شهد بدرا وما معه، وكان حامل راية الأنصار يوم الفتح، كذا قال ابن الجوزي، قال: وتوفي في هذه السنة عن إحدى وسبعين سنة.

حمزة بن عمرو الأسلمي

عدل

صحابي جليل ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: سأل حمزة بن عمرو رسول الله فقال: إني كثير الصيام، أفأصوم في السفر؟

فقال له: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر».

وقد شهد فتح الشام، وكان هو البشير للصديق يوم أجنادين.

قال الواقدي: وهو الذي بشر كعب بن مالك بتوبة الله عليه فأعطاه ثوبيه.

وروى البخاري في التاريخ بإسناد جيد عنه أنه قال: كنا مع رسول الله في ليلة مظلمة فأضاءت لي أصابعي حتى جمعت عليها كل