البداية والنهاية/كتاب الفتن والملاحم/النفخ في الصور



فصل (النفخ في الصور)


فأما النفخات في الصور فثلاث; نفخة الفزع، ثم نفخة الصعق، ثم نفخة البعث، كما تقدم بيان ذلك في حديث الصور بطوله. وقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «ما بين النفختين أربعون». قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوما؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت. قال: «ثم ينزل الله من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل». قال: «وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة». ورواه البخاري من حديث الأعمش.

وحديث عجب الذنب، وأنه لا يبلى، وأن الخلق يبدأ منه ومنه يركب يوم القيامة - ثابت من رواية أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن [ص:325] أبي هريرة. ورواه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق. ورواه أحمد أيضا، عن يحيى القطان، عن محمد بن عجلان، ثنا أبو الزناد، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: «كل ابن آدم يبلى، ويأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق، وفيه يركب». انفرد به أحمد، وهو على شرط مسلم. ورواه أحمد أيضا، من حديث إبراهيم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة، مرفوعا بنحوه.

وقال أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله قال: «يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه». قيل: ومثل ما هو يا رسول الله؟ قال: «مثل حبة خردل، منه تنبتون».

والمقصود هنا إنما هو ذكر النفختين، وأن بينهما أربعين; إما أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة، وهاتان النفختان هما، والله أعلم، نفخة الصعق، ونفخة القيام للبعث والنشور، بدليل إنزال الماء بينهما، وذكر عجب الذنب الذي منه يخلق الإنسان، وفيه يركب عند بعثه يوم القيامة. ويحتمل أن يكون المراد منهما ما بين نفخة الفزع ونفخة الصعق، وهو الذي نريد ذكره في هذا المقام. وعلى كل تقدير فلا بد من مدة بين نفختي الفزع والصعق.

[ص:326] وقد ذكر في حديث الصور أنه يكون فيها أمور عظام، من ذلك زلزلة الأرض وارتجاجها، وميدانها بأهلها، وتكفيها يمينا وشمالا، قال الله تعالى: إذا زلزلت الأرض زلزالها [الزلزلة: 1]. وقال تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم [الحج: 1]. وقال تعالى: إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا الآيات كلها إلى قوله: هذا نزلهم يوم الدين [الواقعة: 1 - 56].

ولما كانت هذه النفخة - أعني نفخة الفزع - أول مبادئ القيامة، كان اسم يوم القيامة صادقا على ذلك كله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: «ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها». وهذا إنما يتجه على ما قبل نفخة الفزع، وعبر عن نفخة الفزع بأنها الساعة لما كانت أول مبادئها، وتقدم في الحديث في صفة أهل آخر الزمان أنهم شرار الناس، وعليهم تقوم الساعة.

وقد ذكر في حديث ابن رافع في حديث الصور المتقدم، أن السماء تنشق فيما بين نفختي الفزع والصعق، وأن نجومها تتناثر، ويخسف شمسها وقمرها. والظاهر، والله أعلم، أن هذا إنما يكون بعد نفخة الصعق حين: [ص:327] تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار [إبراهيم: 48 - 50]. وقال تعالى: إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت الآيات [الانشقاق: 1، 2]. وقال تعالى: فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر إلى قوله: ولو ألقى معاذيره [القيامة: 7 - 15].

وسيأتي تقرير هذا كله، وأنه إنما يكون بعد نفخة الصعق، وأما زلزال الأرض وانشقاقها بسبب تلك الزلزلة، وفرار الناس إلى أقطارها وأرجائها - فمناسب أنه بعد نفخة الفزع، وقبل الصعق، قال الله تعالى، إخبارا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم [غافر: 32، 33]. وقال تعالى: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان [الرحمن: 33 - 36].

وقد تقدم الحديث في مسند أحمد، وصحيح مسلم، والسنن الأربعة، عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد أن رسول الله قال: «إن الساعة لن تقوم حتى تروا عشر آيات». فذكرهن، إلى أن قال: «وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن، تسوق الناس إلى المحشر». وهذه النار تسوق الموجودين في آخر الزمان في سائر أقطار الأرض إلى أرض الشام منها، وهي بقعة المحشر والمنشر.