البداية والنهاية/كتاب الفتن والملاحم/حديث معاوية بن أبي سفيان في قتال الترك


حديث معاوية بن أبي سفيان في قتال الترك: قال أبو يعلى: ثنا محمد بن يحيى البصري، ثنا محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن إبراهيم، حدثني إسحاق بن إبراهيم بن الغمر، مولى سموك، ثنا أبي، عن جدي، سمعت معاوية بن حديج يقول: كنت عند معاوية بن أبي سفيان إذ جاءه كتاب عامله يخبر أنه أوقع بالترك وهزمهم، وبكثرة من قتل منهم وكثرة ما غنم منهم، فغضب معاوية من ذلك، ثم أمر أن يكتب إليه: قد فهمت ما ذكرت مما قتلت وغنمت فلا أعلمن أنك عدت إلى شيء من ذلك، ولا تقاتلهم حتى يأتيك [ص:17] أمري. فقلت له: ولم أمير المؤمنين؟ فقال: سمعت رسول الله يقول:" إن الترك تحارب العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم". فأكره قتالهم لذلك. طريق أخرى عن معاوية: قال الطبراني: ثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثنا أبو صالح الحراني، ثنا ابن لهيعة، عن كعب بن علقمة التنوخي، ثنا حسان بن كريب الحميري، سمعت ابن ذي الكلاع يقول: سمعت معاوية بن أبي سفيان يقول: سمعت رسول الله يقول:" اتركوا الترك. ما تركوكم". وروى الطبراني، عن إبراهيم بن أبي حاتم، عن نعيم بن حماد في كتاب" الملاحم"، ثنا يحيى بن سعيد العطار وأبو المغيرة، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن دينار، عن كعب الأحبار قال: ينزل الترك آمد ويشربون من نهر الدجلة والفرات، سبعون ألفا، ويسعون في الجزيرة وأهل الإسلام، في الحيرة، لا يستطيعون لهم شيئا، فيبعث الله عليهم ثلجا بغير كيل فيه صر من ريح شديدة وجليد، فإذا هم خامدون. فيرجعون فيقولون: إن الله قد أهلكهم وكفاكم العدو، ولم يبق منهم أحد، قد هلكوا من عند آخرهم. والمقصود: أن الترك قاتلهم الصحابة، فهزموهم، وغنموهم، وسبوا نساءهم وأبناءهم، وظاهر هذه الأحاديث أن قتالهم يكون من أشراط الساعة، [ص:18] وأشراطها لا تكون إلا بين يديها قريبا منها، فقد يكون هذا واقعا مرة أخرى عظيمة بين المسلمين والترك، حتى يكون آخر ذلك قتالهم مع الدجال، ويأجوج ومأجوج، كما سيأتي ذكر ذلك، وإن كان أشراط الساعة أعم من أن يكون بين يديها قريبا منها، أو يكون مما يقع في الجملة، حتى ولو تقدم قبلها بدهر طويل، إلا أنه مما يقع بعد زمن النبي ، وهذا هو الذي يظهر بعد تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب، كما ترى ذلك قريبا إن شاء الله تعالى.

وقد ذكرنا ما ورد في مقتل الحسين بن علي بكربلاء، في أيام يزيد بن معاوية، كما سلف. وما ورد من الأحاديث في ذكر خلفاء بني أمية وأغيلمة بني عبد المطلب; قال أحمد: حدثنا روح، حدثنا أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، أخبرني جدي سعيد بن عمرو بن سعيد، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله  يقول:" هلكة أمتي على يدي غلمة". فقال مروان، وهو معنا في الحلقة قبل أن يلي شيئا: لعنة الله عليهم غلمة. قال أبو هريرة: أما والله لو أشاء أن أقول بني فلان، وبني فلان لفعلت. قال: فكنت أخرج مع أبي وجدي إلى بني مروان بعد ما ملكوا، فإذا هم يبايعون [ص:19] الصبيان، ومنهم من يبايع له وهو في خرقة. قال لنا: هل عسى أصحابكم هؤلاء أن يكونوا الذين سمعت أبا هريرة يذكر أن هذه الملوك يشبه بعضها بعضا. ورواه البخاري بنحوه عن أبي هريرة. والأحاديث في هذا كثيرة جدا، وقد حررناها في دلائل النبوة.
وتقدم الحديث في ذكر الكذاب والمبير من ثقيف، فالكذاب هو المختار بن أبي عبيد الذي ظهر بالكوفة أيام عبد الله بن الزبير، وكان رافضيا خبيثا،. بل كان ينسب إلى الزندقة، وادعى أنه يوحى إليه، وقد قتله مصعب بن الزبير، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي قتل عبد الله بن الزبير، وكان ناصبيا جبارا عنيدا، عكس الأول في الرفض. وتقدم حديث الرايات السود التي جاء بها بنو العباس من خراسان لما استلبوا الملك من أيدي بني أمية، وذلك في سنة ثنتين وثلاثين ومائة، أخذوا الخلافة من مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن العاص ويعرف بمروان الحمار الجعدي; لاشتغاله على الجعد بن درهم المعتزلي، وكان آخر خلفاء بني أمية، فصارت الخلافة إلى السفاح أول خلفاء بني العباس، وقد صرح باسمه في الحديث الذي رواه أحمد، وقد تقدم ذلك.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا جرير بن حازم، عن ليث، عن [ص:20] عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، عن النبي  قال:" إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عزة وجبرية وفسادا في الأمة، يستحلون الفروج، والخمور، والحرير، وينصرون على ذلك، ويرزقون أبدا، حتى يلقوا الله". وروى البيهقي من حديث عبد الله بن الحارث بن محمد بن حاطب الجمحي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله :" يكون بعد الأنبياء خلفاء يعملون بكتاب الله، ويعدلون في عباد الله، ثم يكون من بعد الخلفاء ملوك يأخذون بالثأر، ويقتلون الرجال، ويصطفون الأموال، فمغير بيده، ومغير بلسانه، ومغير بقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان شيء".
وثبت في" صحيح البخاري" من حديث شعبة، عن فرات القزاز، عن [ص:21] أبي حازم، عن أبي هريرة، عن رسول الله  قال:" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء; كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وإنه سيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال:" فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم; فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
وفي" صحيح مسلم" من حديث أبي رافع، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله :" ما كان نبي إلا كان له حواريون يهدون بهديه، ويستنون بسنته، ثم يكون من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويعملون ما ينكرون".
وثبت في" الصحيحين" من رواية عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، عن النبي  قال:" يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش". ورواه أبو داود من طريق أخرى، عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله  يقول:" لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون اثنا عشر خليفة". وفي رواية:" لا تزال هذه الأمة مستقيما أمرها، ظاهرة على عدوها، حتى يمضي منهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش". قالوا: ثم يكون ماذا؟ قال:" يكون الهرج".
فهؤلاء الخلفاء المبشر بهم في هذا الحديث ليسوا بالاثني عشر الذين تزعمهم [ص:22] الروافض، فإن ذلك كذب وبهتان منهم، لأن أكثر أولئك لم يل أحد منهم شيئا من أعمال هذه الأمة في خلافة، بل ولا في بلد من البلدان، وإنما ولى منهم علي وابنه الحسن، وليس المراد من هؤلاء الاثني عشر الذين تتابعت ولايتهم سردا إلى أثناء دولة بني أمية; لأن حديث سفينة:" الخلافة بعدي ثلاثون سنة". يمنع من هذا المسلك، وإن كان البيهقي قد رجحه، وقد بحثنا معه في كتاب دلائل النبوة من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد، ولكن هؤلاء الأئمة الاثني عشر وجد منهم الأئمة الأربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وابنه الحسن بن علي أيضا، ومنهم عمر بن عبد العزيز، كما هو عند كثير من الأئمة، وجمهور الأمة، وكذلك وجد منهم طائفة من بني العباس، وسيوجد بقيتهم فيما يستقبل من الزمان، حتى يكون منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة فيه، كما سيأتي بيانها، وبالله المستعان، وعليه التكلان، وقد نص على هذا الذي قلناه غير واحد، كما قررنا ذلك.