البداية والنهاية/كتاب الفتن والملاحم/ذكر طول يوم القيامة وما ورد في مقداره


[ص:401]

ذكر المقام المحمود الذي خص به رسول الله من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام


ومن ذلك الشفاعة العظمى في أهل الموقف، ليجيء الرب عز وجل، فيفصل بينهم، ويريح المؤمنين من ذلك الحال إلى حسن المآل.

قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا[الإسراء: 79].

قال البخاري: حدثنا علي بن عياش، حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله قال«من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة». انفرد به دون مسلم.

[ص:410] وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا داود، وهو ابن يزيد بن عبد الرحمن الزعافري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [الإسراء: 79]. قال«الشفاعة». إسناده حسن.

وثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث جابر، وغيره، عن رسول الله أنه قال«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ; نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة».

فقوله«وأعطيت الشفاعة». يعني بذلك الشفاعة التي تطلب من آدم، فيقول: لست بصاحب ذاكم، اذهبوا إلى نوح، فيقول لهم كذلك ويرشدهم إلى إبراهيم، فيرشدهم إلى موسى، فيرشدهم موسى إلى عيسى، فيرشدهم عيسى إلى محمد ، فيقول«أنا لها، أنا لها». وسيأتي ذلك مبسوطا في أحاديث الشفاعة، في إخراج العصاة من النار، وقد ذكرنا ذلك بطوله مبسوطا عن جماعة من الصحابة عند تفسير هذه الآية.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: «أنا سيد [ص:411] ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع». ولمسلم أيضا، عن أبي بن كعب; في حديث قراءة القرآن على سبعة أحرف، قال رسول الله «فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم».

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر الأزدي، حدثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، عن النبي قال«إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم غير فخر».

ورواه الترمذي، وابن ماجه، من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثني محمد بن حرب، حدثنا الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، أن رسول الله قال ؟ " يبعث الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي عز وجل حلة خضراء، ثم يؤذن لي; فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود ".

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا يزيد بن أبي [ص:412] حبيب، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله «أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له برفع رأسه، فأنظر إلى بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك». فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال«هم غر محجلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم».

وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حرب بن ميمون; أبو الخطاب الأنصاري، عن النضر بن أنس، عن أنس، قال: حدثني نبي الله ، قال«إني لقائم، أنتظر أمتي حتى تعبر الصراط إذ جاءني عيسى ابن مريم عليه السلام، فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألونك أو قال: يجتمعون إليك - يدعون الله عز وجل، أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله ; لغم ما هم فيه، فالخلق ملجمون بالعرق، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة، وأما الكافر فيغشاه الموت». فقال«انتظر حتى أرجع إليك». فذهب نبي الله ، «فقام تحت العرش، فيلقى ما لم يلق ملك [ص:413] مصطفى، ولا نبي مرسل. " فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد، وقل له: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع. فشفعت في أمتي، فقال: أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا، فما زلت أتردد إلى ربي عز وجل، فلا أقوم منه مقاما إلا شفعت، حتى أعطاني الله عز وجل من ذلك أن قال: يا محمد، أدخل من خلق الله من أمتك من شهد أن لا إله إلا الله يوما واحدا مخلصا، ومات على ذلك».

وروى الإمام أحمد من حديث علي بن الحكم البناني، عن عثمان، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود، فذكر حديثا طويلا، وفيه أن رسول الله قال«وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة». فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، وما ذلك المقام المحمود ؟ قال«ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا، فيكون أول من يكسى إبراهيم، يقول الله عز وجل: اكسوا خليلي، فيؤتى بريطتين بيضاوين، فيلبسهما، ثم يقعد مستقبل العرش، ثم أوتى بكسوتي، فألبسها، فأقوم عن يمينه مقاما لا يقومه أحد، فيغبطني به الأولون والآخرون». قال«ويفتح نهر من الكوثر إلى الحوض». وذكر تمام الحديث في صفة الحوض كما سيأتي قريبا.

وذكرنا في " المسند الكبير " عن حيدة الصحابي، عن رسول الله [ص:414] قال«تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا، وأول من يكسى إبراهيم الخليل، يقول الله تعالى: اكسوا خليلي. ليعلم الناس فضله، ثم يكسى الناس على قدر الأعمال».

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت، عن أنس، أن رسول الله قال:«يطول على الناس يوم القيامة، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر، فليشفع لنا إلى ربنا، فليقض بيننا. فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، فاشفع لنا إلى ربك، فليقض بيننا. فيقول: إني لست هناكم، ولكن ائتوا نوحا رأس النبيين. فيأتونه، فيقولون: يا نوح، اشفع لنا إلى ربك، فليقض بيننا. فيقول: إني لست هناكم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الله». قال«فيأتونه، فيقولون: يا إبراهيم، اشفع لنا إلى ربك، فليقض بيننا. فيقول: إني لست هناكم، ولكن ائتوا موسى الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه». قال: «فيأتونه، فيقولون: يا موسى، اشفع لنا إلى ربك، فليقض بيننا. فيقول: إني لست هناكم، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته. فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى، اشفع لنا إلى ربك، فليقض بيننا، فيقول: إني لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا ; فإنه خاتم النبيين، وإنه قد حضر اليوم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ويقول عيسى: أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه، هل كان [ص:415] يقدر على ما في ذلك الوعاء حتى يفض الخاتم ؟ فيقولون: لا. قال: فإن محمدا خاتم النبيين». قال رسول الله «فيأتوني، فيقولون: يا محمد، اشفع لنا إلى ربك، فليقض بيننا. فأقول: نعم، فآتي باب الجنة، فآخذ بحلقة الباب، فأستفتح، فيقال: من أنت؟ فأقول: محمد، فيفتح لي، فأخر ساجدا، فأحمد ربي عز وجل، بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي، ولا يحمده بها أحد كان بعدي، فيقول: ارفع رأسك، وقل يسمع منك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أي رب، أمتي أمتي، فيقال: أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان». قال«فأخرجهم، ثم أخر ساجدا». فذكر مثل ذلك. {{حديث| فيقال: أخرج من كان في قلبه مثقال برة من إيمان، قال: فأخرجهم، ثم أخر ساجدا ". فذكر مثل ذلك. «فيقال: أخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، قال: فأخرجهم». وقد رواه البخاري ومسلم، من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، نحوه.

رواية أبي هريرة رضي الله عنه: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا أبو حبان، حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: أتي رسول الله بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، [ص:416] فنهس منها نهسة، ثم قال: «أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه ؟ ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم. فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة، فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدا شكورا، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول: إن ربي قد [ص:417] غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله - وذكر كذباته - نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته، وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه - قال: هكذا هو - وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله - ولم يذكر ذنبا - اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فيأتوني، فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش، فأتي ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي، ويلهمني من محامده، وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: رب، أمتي أمتي، يا رب، أمتي أمتي، يا رب، أمتي أمتي. فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك [ص:418] من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب». ثم قال«والذي نفس محمد بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى». أخرجاه في الصحيحين، من حديث أبي حيان يحيى بن سعيد بن حيان، به.

ورواه ابن أبي الدنيا في " الأهوال "، عن أبي خيثمة، عن جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي ، فذكره بطوله، وزاد في السياق«وإني أخاف أن يطرحني في النار، انطلقوا إلى غيري». في قصة آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وهي زيادة غريبة جدا، ليست في الصحيحين، ولا في أحدهما، بل ولا في شيء من بقية " السنن "، وهي منكرة جدا، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة، قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة، فقال: قال رسول الله : «إنه لم يكن نبي إلا له دعوة قد تنجزها في الدنيا، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا [ص:419] فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر، ويطول يوم القيامة على الناس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبينا، فليشفع لنا إلى ربنا، فليقض بيننا. فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا إلى ربنا، فليقض بيننا. فيقول: إني لست هناكم، إني قد أخرجت من الجنة، وإنه لا يهمني اليوم إلا نفسي، ولكن ائتوا نوحا رأس النبيين». فذكر الحديث، كنحو ما تقدم إلى أن قال«فيأتوني، فيقولون: يا محمد، اشفع لنا إلى ربك، فليقض بيننا. فأقول: أنا لها، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يصدع بين خلقه، نادى مناد: أين أحمد وأمته؟ فنحن الآخرون الأولون; آخر الأمم، وأول من يحاسب، فتفرج لنا الأمم طريقا، فنمضي غرا محجلين من أثر الوضوء، فتقول الأم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها، فآتي باب الجنة». وذكر تمام الحديث في الشفاعة، في عصاة هذه الأمة.

وقد ورد هذا الحديث هكذا عن جماعة من الصحابة، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، من رواية حذيفة بن اليمان عنه، وسيأتي في أحاديث الشفاعة. والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث في أكثر طرقه، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في إتيان الرب لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور، كما تقدم، وهو المقصود في هذا المقام.

[ص:420] ومقتضى سياق أول الحديث ; فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل الله عز وجل بين الناس ؟ ليستريحوا من مقامهم ذلك، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى المحز إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار، وكأن مقصود السلف في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، الذين ينكرون خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث، وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور، كما تقدم أن الناس يذهبون إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى، ثم يأتون رسول الله ، فيذهب، فيسجد لله تحت العرش في مكان يقال له: الفحص. إلى أن قال«فيقول: شفعتك. أنا آتيكم فأقضي بينكم». قال«فأرجع، فأقف مع الناس». إلى أن قال«فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه». وذكر الحديث كما تقدم.

وقال عبد الرزاق: أنبا معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين زين العابدين، قال: قال رسول الله «إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه». قال رسول الله «فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرحمن عز وجل، والله ما رآه قبلها، فأقول: أي رب، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي، فيقول الله: صدق. ثم أشفع، فأقول: يا رب، عبادك عبدوك في أطراف الأرض. فهو المقام المحمود».

[ص:421] هذا مرسل من هذا الوجه، وعندي أن معنى قوله«عبادك عبدوك في أطراف الأرض». أي وقوف في أطراف الأرض، أي الناس مجتمعون فى صعيد واحد، مؤمنهم وكافرهم، فيشفع عند الله ليأتي لفصل القضاء بين عباده، ويميز مؤمنهم من كافرهم في الموقف والمصير فى الحال، والمآل، ولهذا قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل فى قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. هو المقام الذي يقومه رسول الله يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.

وقال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا أبو الأحوص، عن آدم بن علي، قال: سمعت ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان، اشفع، يا فلان، اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي ، فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا.

قال: ورواه حمزة بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي .

وقد أسند ما علقه ههنا في موضع آخر من " الصحيح "، فقال في كتاب الزكاة: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، [ص:422] سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر، سمعت عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله : ( لا يزال العبد يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم ". وقال«إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك إذ استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد ». زاد عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن ابن أبي جعفر«فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم».

وكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، به، بنحوه.