البيعة المراكشية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبحان من لا يرضى لعباده الكفر، ويرضى لهم الإيمان والحمد والشكر. والحمد لله الذي جعل الخلافة زينة للدنيا والدين. وفصم بها عرى العداة المعتدين. وحقن بها الأعراض والدماء والأموال. وانتصف بها من البغات والعتات (كذل) الهائمين في أودية الضلال، وهيأ للخلق من تكون لهم به الحماية، وتنالهم بسببه الحياطة والمنعة والعناية. إذ الرعية لا بد لها من حقطيظ، يرعى حق الله فيها، ويجتهد في إصلاح أحوالها وتلافيها. لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل وكان أضعفها نهبا لأقواها.
والصلاة والسلام على من ملأ نوره الآفاق، وطبق بهديه السبع الطباق، وأخبر بأن الله تعالى خص بهذا الأمر قريشا. وأنزل عليه في ذلك والله يؤتي ملكه من يشاء. والرضى عن ءاله الذين ظاهروه على إقامة الحق الساطع الأنوار، وصحبه القائمين بعده بالعدل الحامين للضمار.
أما بعد فلما كانت الخلافة العظمى قطبا يدور عليه ناموس الإسلام، وعقدا محرزا ضابطا كفيلا لصلاح الخاص والعام كان منصبها أعظم وأشرف وأسمى نظام أمر الخطط الدينية وأسنى المراتب.
ولذلك وقع من السادات القادة أئمة الدين والعلماء المهتدين على اشتراط شروط فيمن يطوق رقبتها ويملك أزمتها. منها وهو سادسها: الكفاية في ضبط أمور المسلمين والنظر في مصالحهم المهمة كسد الثغور وتحصينها إلى غير ذلك. وقالوا إن فاقد بعض الشروط لا تنعقد له البيعة مع وجود المستوفي لجميعها، بل يلزم الرعية نظر غيره [ومبايعة من استوفى الشروط].
ثم لما كان المشروط متوفقا على وجود شرطه، بان وانكشف واتضح وتحقق أن المسلمين كانوا في فوضى عامة من وفاة سيدنا المقدس بالله إلى الآن لعدم كفاية المقلد بعده. حتى وفعوا في عقبات وحسرات ونكبات، بموالاته عدو الله وعدو الدين، حتى أسلم إليه أمره في يده وما نظر عاقبة يومه ولا غده. ودبر معه في قبور الأسرار، وصدور الأستار، حتى فضح الله سرائرهم وأبرز للظالم ضمائرهم، فعظم على المسلمين بالمغرب في هذا الزمان المصاب، وذاقوا من شدائده كل مر وصاب. وأطلت عليهم النوائب إطلال العقاب، فكانوا من عدوهم بين ضفر وناب. وناوشهم من كل نقطة وثغر، وفعل بأهل الإسلام ما أذهل كل فكر وتقلصت بسماعه الشفاه من كل ثغر.
فاستولى أولا على مدينة وجدة، وأناخ على أهلها بكلكله، وأعمل فيهم من سيف قهره حده، ولم يجبدوا ناصرا ولا معينا، وصار كل ما فيها بيده رهينا. وصدرت المكاتب بالمطابع من فاس، وتليت على المنابر بما يثبطهم ويقعدهم على بساط الغرور والأماني في القرى والحواضر، بتمويهات هاوية وترهات فضائية. واستوطنها وزاد فيها زيادات واخترع فيها بناءات. وأجيرها على مدائن مملكته، وصيرها في ملكيته. وأخذ كل ما بحورتها من القبائل. وما تأثر لذلك كبير الإسلام، ولا انزعج ولا فهض لإزالة هذا [الضنك والحرج] وهذا سادس الشهور والعدو مستوليا عليها.
ثم عمد إلى الدار البيضاء وعاث فيها وقتل، وسبا وأحرق وملأ من جثثهم الفضاء وضاعت بها أموال لا تحصى ومتمولات لا تستقصى. ثم شاع أنه حيث لم ير من يعارضه في ذلك ولا من يقابله ولو بالمحاققة معه عند غيره من الأحناس، على مقتضى الشروط المقررة، وذلك لضعف الإيمان، تشوف للاحتلال ببقية الثغور ومراكش وفاس.
ولما تحقق المؤمنون في هذه النواحي بادية وحاضرة بأن ما يفعله العدو من الهجوم على البلاد [وإخضاعها] إنما يصير في الأسماع حكايات وخبرا، هالهم الحال وراعهم وشوش وكدر أرواحهم. واستغاثة القبائل المجاورة للثغور ضارعة مما حل بنواحيهم من شدائد البأس والشرور. واشتد تخوف أهل مراكش من سائر الوجوه، سيما وهم طالما [تعودوا] في الجرائد بإيقاع المكروه. واجتمع جم غفير من جلة أعيان هذه الحضرة المراكشية وولاة أمرها وشرفائها وعلمائها وقضاتها، وأهل زواياها مع من حضر من العمال وأعيان القبائل، وتجار أهل فاس الذين هنا، وعرضوا القضية على العلماء منهم طالبين بيان الحكم الشرعي فيها.
فأجابوا بأن ذلك المقلد لا تبقى له بعية في الأعناق. بل الواجب هو نزع تلك الرقبة من الأطواق. وأنه لا عذر في ترك الجهاد ولا سيما [بسبب غزو العدو البلاد].
[وتدبورا أفكارهم وعملوا أنظارهم، وتعاطوا رأيهم، تاركين أهوائهم وراءهم، فيمن يؤم بهم طريق] الهدى والرشاد، ويسوقهم إلى ما فيه صلاح الدين [والدنيا] ويحمل لواء هذا المنصب الفخيم ويقف عند صراطه المستقيم، فما وقع نظرهم ولا اجتمع إجماعهم إلا على من أحرز أشتات الفضائل والفواضل، واعترف بجلالته وعلو منصبه كل فاضل، والعالم المشارك الفهامة المتفنن، النحرير المتقن، شريف العلماء وعالم الشرافاء الشريف الهمام، الهصور المقدام ذو الرأي والتدبير، والسماحة والمجد الشهير، أبو السعود والسعادات، سيدنا ومولانا عبد الحفيظ بن مولانا الحسن بن مولانا محمد بن مولانا عبد الرحمان بن هشام. فاعقد الإجماع في هذه المدينة المراكشية على بيعته، واستشرفت الأصقاع لولايته. وباعيوه أسعد الله أيامه، ونشر به للعدل ألويته وأعلامه، بيعة حضرها وجوه الأعيان وغيرهم من المسطرين في الأصل. بيعة جارية على السنة والجماعة، سالمة من كل كلفة وتباعة. رضي الكل بها وارتضاها والتزم حكمها بالسمع والطاعة، كما التزم المقيد (المقلد) أيده الله القيام بها علي حسب ما تقتضيه الشريعة المطهرة بمفاخره المسطرة المنتشرة.
أشهدوا بذلك على أنفسهم، وكفى بالله شهيدا. فليأخذ سيدنا هذه الأمانة باليمين وليتلقاها تلقى الخلفاء الراشدين عالما بحديث جده سيد ولد عدنان، المقسطون علي يمين الرحمان.
اللهم يسر له الفتوحات وانصر جيوشه وعساكره واجعل فيما يرضيك ويرضي رسولك صلى الله عليه وسلم موارده وصدوره.
فمن حضر جمع أولئك الجمهور وسمع الكلام المسطور على الوجه المذكور قيده شاهدا به عليهم بأتمه في سادس رجب الفرد الحرام عام خمسة وعشرين وثلاثمئة وألف.
الحمد لله [شكل]
الحمد لله [شكل]
الحمد لله أديا فقبلا وأعلم [شكل]
الحمد لله أديا وأعلم عبد ربه [شكل]