التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين

التبصير في الدين
وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين
  ► ◄  



قال الإمام الكبير حجة المتكلمين أبو المظفر الإسفراييني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله أجمعين وأصحابه البررة الطاهرين.

اعلموا أسعدكم الله أن الله تبارك وتعالى أمر عبده بمعرفته في ذاته وصفاته وعدله وحكمته وكماله في صفته ونفوذ مشيئته وكمال مملكته وعموم قدرته. ولا تتكامل المعرفة بذلك كله إلا بنفي النقائص عنه وبإثبات أوصاف الكمال له من غير أن يشوبه شيء من بدع المبتدعين وإلحاد الملحدين. وكان أمره تعالى متضمنا لأمرين: المعرفة بما أوجب معرفته والإحاطة بما أوجب عليه مجانبته، حتى إذا اجتمع له الوصفان تحقق له وصف الإيمان على سبيل الإتقان والإيقان والمفارقة لما يوسوس لكثير منهم من الشبه وحبائل الشيطان، فيكون إيمانه كما أخبر الله تعالى به عن إيمان خليل الرحمن حين قال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} أثنى عليه لهذه المعرفة لجمعه بين المعرفة بكمال أوصافه وميله عن كل معبود يخالفه في وصفه، فوصفه أي الله تعالى الخليل بكونه حنيفا أي مائلا عن عبادة الأوثان وحبائل الشيطان وما يخالفه من الطرق والأديان. وبمثله أقر رسوله المصطفى عليه السلام حين قال: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) وقال: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} فأمره بالمعرفة ومغادرة كل دين يخالفه في حقيقته. وأمره أن يخبر عن نفسه بصفة معرفته الجامعة لوصفي النفي والإثبات ومعرفة ما يجب معرفته ومجانبة ما تجب مجانبته فقال: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} وأمر سبحانه الكافة بكلمة الإيمان - لا إله إلا الله - جمع فيها بين النفي والإثبات، وقدم النفي على الإثبات ليعلم أن الإثبات لا يحصل إلا بصيانته عن كل ما يتضمن مخالفته. وهكذا جمع في سورة الإخلاص بين النفي والإثبات فوصف نفسه بأوصاف الكمال في قوله {قل هو الله أحد الله الصمد} ونفي عن نفسه النقصان بقوله {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} حتى قال أهل المعارف في تحقيق صفة الصمد إنه يتضمن إثبات كل صفة لا يتم الخلق إلا بها ونفي كل صفة لا يجوز وصفه بها لأن الصمد في اللغة هو السيد الذي يرجع إليه في الحوائج وهذا يوجب له إثبات صفات الكمال التي يتم بها اتساق الأفعال. وقد جاء إيضاح اللغة في تفسيره أن الصمد هو الذي لا جوف له، وهذا يتضمن نفي النهاية ونفي الحد والجهة ونفي كونه جسما أو جوهرا لأن من اتصف بشيء من تلك الأوصاف لم يستحل اتصافه بالتركيب ووجود الجوف له. وتقرر بهذه الجملة وجوب المعرفة بالنفي والإثبات والتمييز بين الحق والباطل ومن لم يتحقق له معرفة نفي صفة الباطل لم يتحقق له معرفة إثبات صفة المعرفة بالحق.

وقد كان أصحاب رسول الله يسألونه عن الحق لصحة الاعتقاد والمعرفة وعن الباطل والشر للتمكن من المجانبة، حتى قال حذيفة بن اليمان: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر. وإنما كان يفعله لتصح له مجانبته لأن من لم يعرف الشر يوشك أن يقع فيه كما قال الشاعر:

(عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ** ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه)

وقد أخبر رسول الله أنه سيظهر في زمن الإسلام من الفرق المختلفة ما ظهر في الأديان قبله فقال: «افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة» فقيل: يا رسول الله من الناجية؟ فقال: «ما أنا عليه وأصحابي» وفي خبر آخر أنه قال: «الجماعة».

وروى عبد الله بن عمر بن الخطاب أن النبي قال في تفسير قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} إن الذين ابيضت وجوههم هم الجماعة والذين اسودت وجوههم أهل الأهواء. فبين رسول الله أن هذه الأمة يلبس بها وينسب إلى جملتها كثير من أهل الأهواء يفارقونهم في حقيقة الإيمان وإن كانوا يلتبسون بهم في ظاهر الحال. فلا بد للمؤمن من أن يعرف حالهم حتى يتميز عنهم ويصون عقيدته عما هم عليه من البدع ولا يكون كمن وصفه الله حيث قال: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وقد قال رسول الله : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر» و "لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان". وإنما يحصل مثقال ذرة من الإيمان باعتقاد صحيح سليم عن جميع شوائب البدع والإلحاد وأنواع الكفر. وما لم يتبين العاقل أوصاف البدع وأهلها لم يتقرر له حقيقة الإيمان المستخلص عن جميعها. وكلام النبي صدق ووعده حق. وهذا الذي أخبر عن وجود فرق الضلال فيما بين المسلمين لا محالة كائن.

وقد اختلف مشايخ أهل التحقيق من علماء المسلمين فيه فقال بعضهم لم يتكامل وجود هذه الفرق من أهل البدع بين المسلمين بعد وإنما وجد بعضهم وسيوجد بعدهم قبل يوم القيامة جميعهم فإن ما أخبر الرسول كائن لا محالة، وقال الباقون وهم الذين يتتبعون التواريخ ويفتشون عن المقالات المنقولة من أرباب المذاهب المتسمة بسمة الإسلام إن تمام هذه الفرق الضالة قد وجدت في زمرة الاسلام ووجب على المرء المحصل أن يميز عقيدته عن عقائدهم الفاسدة ودينه عن أديانهم الضالة. وقد ظهر في بلاد الإسلام أقوام من أهل البدع يخدعون العوام ويلبسون عليهم الأديان وينتسبون إلى فريقي أهل السنة والجماعة أصحاب الحديث والرأي ويستظهرون بصدور لا يعرف حالهم من صدور أهل الإسلام ليتقوى بهم على خداع أهل الغرة من المسلمين ويظهرون به للأغمار أن لهم الغلبة والقوة، ولا يعرف الجاهل بأحوالهم أن الباطل قد يكون له جولة ثم يسقط كما سارت به الامثال على لسان الكافة أن الباطل يجول جولة ثم يضمحل، وكما يقال: الحق أبلج والباطل لجلج. وقال تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}

فأردت أن أجمع كتابا فارقا بين الفريقين جامعا بين وصف الحق وخاصيته والإشارة إلى حججه ووصف الباطل وحد شبهه ليزداد المطلع عليه استيقانا في دينه وتحقيقا في يقينه، فلا ينفذ عليه تلبيس المبطلين ولا تدليس المخالفين للدين. وقسمته بحول الله وقوته على خمسة عشر بابا جامعة لبيان أوصاف عقائد أهل الدين وفضائح أهل الزيغ والملحدين. والله تعالى ولي التوفيق لإتمامه بفضله وإنعامه إنه على ما يشاء قدير وبالفضل والأحسان جدير.

الباب الأول في بيان أول خلاف ظهر في الإسلام بعد وفاة رسول الله وما ظهر من الخلاف في أيام الصحابة أو قريبا منهم

الباب الثاني في بيان فرق الأمة على الجملة

الباب الثالث في تفصيل مقالات الروافض وبيان فضائحهم

الباب الرابع في بيان مقالات الخوارج وبيان فضائحهم

الباب الخامس في تفصيل مقالات القدرية الملقبة بالمعتزلة وبيان فضائحهم

الباب السادس في تفصيل مقالات المرجئة وبيان فضائحهم

الباب السابع في تفصيل مقالات النجارية وبيان فضائحهم

الباب الثامن في تفصيل مقالات الضرارية وبيان فضائحهم

الباب التاسع في تفصيل مقالات البكرية وبيان فضائحهم

الباب العاشر في تفصيل مقالات الجهمية وبيان فضائحهم

الباب الحادي عشر في تفصيل مقالات الكرامية وبيان فضائحهم

الباب الثاني عشر في تفصيل مقالات المشبهة وبيان فضائحهم

الباب الثالث عشر في بيان فرق ينتسبون إلى دين الإسلام ولا يعدون في جملة المسلمين ولا يكونون من جملة الاثنتين والسبعين وهم أكثر من عشرين فرقة

الباب الرابع عشر في بيان مقالات أقوام من الملحدين كانوا قبل ظهور دولة الإسلام وإنما أذكر جملة منهم

الباب الخامس عشر في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة وبيان ما لهم من المفاخر والمحاسن والآثار في الدين

وذكرت في كل باب ما يقتضيه شرطه على حد الاقتصار والاعتدال مصونا من الأملال والإكثار بفضل الله وتوفيقه.

الباب الأول في بيان أول خلاف ظهر بعد المصطفى وفي أيام الصحابة أو قريبا من عهدهم

اعلم أن المسلمين وقت النبي وبعد وفاته كانوا على طريق واحدة لم يكن بينهم خلاف ظاهر، ومن كان بينهم من المخالفين المنافقين ما كان يتمكن من إظهار ما كان يستسره من أخباره.

فكان أول خلاف ظهر بين المسلمين اختلافهم في وفاة رسول الله حتى قال قوم منهم أنه لم يمت ولكنه رفع كما رفع عيسى بن مريم، وارتفع هذا الخلاف ببركات أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين صعد المنبر وخطب خطبة وتلا عليهم قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} ثم قال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لا يموت. فسكنت النفوس واطمأنت القلوب وأذعنت له الرقاب واعترفت الكافة بما ظهر من الأمر وزال الخلاف.

الثاني أنهم اختلفوا في موضع دفنه . قال قوم إنه يدفن بمكة لأنها مولده وبها قبلته وبها مشاعر الحج وبها نزل عليه الوحي وبها قبر جده إسماعيل عليه السلام، وقال آخرون إنه ينقل إلى بيت المقدس فإن به تربة الأنبياء ومشاهدهم صلوات الرحمن عليهم، وقال أهل المدينة إنه يدفن في المدينة لأنها موضع هجرته وأهلها أهل نصرته. فزال هذا الخلاف ببركة الصديق حين روى أن رسول الله قال: "الأنبياء يدفنون حيث يقبضون". فقبلوا منه روايته ورجعوا إلى قوله ودفنوه في حجرته.

الثالث اختلافهم في باب الإمامة. فقالت الأنصار منا إمام ومنكم إمام وطال بينهم الكلام في ذلك حتى صعد الصديق رضي الله عنه المنبر وخطب ثم تلا وعليهم قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} قال: فسمانا الصادقين، ثم أمر المؤمنين -أي الله تعالى- أن يكونوا مع الصادقين بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وروى لهم أن رسول الله قال: «الأئمة من قريش». فصدقوه في روايته ونزلوا على قضيته واتفقوا على قوله. فزال هذا الخلاف أيضا ببركة الصديق. ثم حدث فيه خلاف قوم من الخوارج حيث قالوا بجواز الخلافة في غير قريش كما نذكره إن شاء الله تعالى.

الخلاف لا يكون خطرا إلا إذا كان في أصول الدين. ولم يكن اختلاف بينهم في ذلك بل كان اختلاف من يختلف في فروع الدين مثل مسائل الفرائض، فلم يقع خلاف يوجب التفسيق والتبري، هكذا جرى الأمر على السداد أيام أبي بكر وعمر وصدر من زمان عثمان. ثم اختلف في أمر عثمان وخرج عليه قوم منهم فكان من أمره ما كان.

ثم بعد ذلك حدث الاختلاف في أمر علي وفي حال أصحاب الجمل وصفين وفي حال الحكمين، وظهر من ذلك خلاف الخوارج في أيام علي رضي الله عنه كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. وظهر في وقته أيضا خلاف السبأية من الروافض وهم الذين قالوا إن عليا إله الخلق، حتى أحرق علي جماعة منهم وظهر بعد ذلك سائر أصناف الروافض كما نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وظهر في أيام المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية وكانوا يخوضون في القدر والاستطاعة كمعبد الجهني وغيلان الدمشقي وجعد بن درهم، وكان ينكر عليهم من كان قد بقي من الصحابة كعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن أبي أوفى وجابر وأنس وأبي هريرة وعقبة بن عامر الجهني وأقرانهم، وكانوا يوصون إلى أخلافهم بأن لا يسلموا عليهم ولا يعودوهم إن مرضوا ولا يصلوا عليهم إذا ماتوا.

ثم ظهر بعدهم في زمان الحسن البصري بالبصرة خلاف واصل بن عطاء الغزال في القدر وفي القول بمنزلة بين المنزلتين ووافقه عمرو بن عبيد فيما أحدثه من البدعة، فطردهم الحسن البصري من مجلسه فاعتزلوه بأتباعهم جانبا من المسجد فسموا معتزلة لاعتزالهم مجالس المسلمين وقولهم بمنزلة بين المنزلتين وزعمهم أن الفاسق الملي لا مؤمن ولا كافر وأن الفساق من أهل الملة خرجوا من الإيمان ولم يبلغوا الكفر وأنهم مع الكفار في النار خالدين مخلدين لا يجوز لله تعالى أن يغفر لهم وأنه لو غفر لهم لخرج من الحكمة. ولما أظهروا هذه المقالة هجرهم المسلمون وخذلوهم كما كان قد أوصى إليهم أسلافهم من الصحابة.

ثم ظهر خلاف النجارية في أيام المأمون الخليفة واستعد جماعة منهم بالري ونواحيها.

ثم ظهر أيضا دعوة الباطنية من حمدان قرمط وعبد الله بن ميمون القداح. ولا يعدون من فرق المسلمين فإنهم في الحقيقة على دين المجوس كما شرحنا أديانهم في كتاب الأوسط.

ثم ظهر في زمان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان خلاف الكرامية كما نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

الباب الثاني في بيان فرق الأمة على الجملة

اعلم أن الله حقق في افتراق هذه الأمة ما أخبر به الرسول من افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية والباقون في النار.

فأما الاثنتان والسبعون:

فعشرون منهم الروافض. من جملتهم الزيديون وهم ثلاث فرق الجارودية والسليمانية والأبترية. ومن جملتهم الكيسانية وهم فرقتان كما نبينه فيما بعد. ومن جملة الروافض الإمامية وهم خمس عشرة فرقة: المحمدية والباقرية والناووسية والشميطية والعمارية والإسماعيلية والمباركية والموسوية والقطعية والاثنا عشرية والهشامية والزرارية واليونسية والشيطانية والكاملية. فهذه جملة فرق الروافض الذين يعدون في زمرة المسلمين. فأما البيانية والمغيرية والمنصورية والجناحية والخطابية والحلولية منهم فلا يعدون في زمرة المسلمين لأنهم كلهم يقولون بإلهية الأئمة كما نفصله فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وعشرون منهم الخوارج. وهم المحكمة الأولى والأزارقة والنجدات والصفرية والعجاردة والإباضية. فالعجاردة منهم فرق كالخازمية والشعيبية والشيبانية والمعبدية والرشيدية والمكرمية والحمزية والإبراهيمية والواقفية. والإباضية منهم أربع فرق الحفصية والحارثية واليزيدية وأصحاب طاعة لا يراد بها الله تعالى. ولا يعد اليزيدية من فرق الإسلام لأنهم جوزوا فسخ شريعة الإسلام وذلك خلاف أجماع المسلمين. ومن جملة العجاردة فرقة يقال لهم الميمونية ولا يعدون من فرق المسلمين لأنهم يجوزون التزوج ببنات البنات ويبيحونه وذلك خلاف ما عليه المسلمون.

وعشرون منهم القدرية المعتزلة، كل فريق منهم يكفر سائرهم. وهم الواصلية والهذلية والعمروية والنظامية والأسوارية والمعمرية والإسكافية والجعفرية والبشرية والمردارية والهشامية والثمامية والجاحظية والخابطية والحمارية والخياطية والشحامية وأصحاب صالح قبة والمؤنسية والكعبية والجبائية والبهشمية. وفرقتان من هذه الجملة لا يعدان من فرق الاسلام وهما الخابطية والحمارية كما نذكره فيما بعد.

وثلاث فرق هم المرجئة. فريق منهم يجمعون بين الإرجاء في الإيمان وبين القول بالقدر كأبي شمر ومحمد بن شبيب البصري والخالدية فهؤلاء مرجئون قدريون؛ وفريق منهم يجمعون القول بالارجاء في الايمان وبين قول جهم كما سنذكره فيما بعد فهؤلاء هم مرجئون جهميون؛ وفريق جوزوا القول بالارجاء ولا يقولون بالجبر ولا بقدر، وهم فيما بينهم خمس فرق: اليونسية والغسانية والثوبانية والتومنية والمريسية. فصارت المرجئة على هذا التفصيل سبع فرق.

وفرقة هم البكرية، وفرقة هم النجارية المقيمون بالري ونواحيها وهم أكثر من عشر فرق فيما بينهم كالبرغوثية والزعفرانية والمستدركة وغيرهم ويعدون فرقة واحدة. وفرقة هم الضرارية، وفرقة هم الجهمية، وفرقة هم كرامية خراسان وهم ثلاث فرق: الحقائقية والطرائقية والإسحاقية ويعدون فرقة واحدة لأن بعض فرقهم لا يكفر بعضا.

فهؤلاء الذين ذكرناهم اثنتان وسبعون فرقة.

والفرقة الثالثة والسبعون هي الناجية وهم أهل السنة والجماعة من أصحاب الحديث والرأي وجملة فرق الفقهاء الذين اختلفوا في فروع الشريعة التي لا يجري فيها التبري والتكفير، وهم من أخبر النبي عنهم بقوله: "الخلاف بين أمتي رحمة". والله ولي العصمة من كل إلحاد وبدعة.

الباب الثالث في تفصيل مقالات الروافض وبيان فضائحهم

اعلم أن الروافض يجمعهم ثلاث فرق الزيدية والإمامية والكيسانية

الزيدية

فأما الزيدية منهم فثلاث فرق الجارودية والسليمانية والأبترية.

الجارودية

فأما الجارودية فهم أتباع أبي الجارود. وكان مذهبه أن النبي نص على إمامه علي بالصفة لا بالاسم وكان من مذهبه أن الصحابة كفروا كلهم بتركهم بيعة علي ومخالفتهم النص الوارد عليه وكان يقول إن الإمام بعده الحسن بن علي ثم بعده الحسين بن علي ويكون بعدهما الإمامة شورى في أولادهما فمن خرج من أولادهما شاهرا سيفه داعيا إلى دينه وكان عالما ورعا فهو الإمام.

وزعم قوم من الجارودية أن الإمام المنتظر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ويقولون إنه لم يمت ولم يقتل.

وزعم قوم منهم أن المنتظر محمد بن القاسم صاحب الطالقان وأنه لم يمت ولم يقتل.

وزعم قوم منهم أن المنتظر يحيى بن عمر الذي قتل بالكوفة وهم لا يصدقون بقتله.

السليمانية

وأما السليمانية فهم أتباع سليمان بن جرير الزيدي، وكان يقول إن الإمامة شورى ومتى ما عقدها اثنان من أخيار الأئمة لمن يصلح لها فهو إمام في الحقيقة. وكان يقر بإمامة أبي بكر وعمر ويجوّز إمامة المفضول. وكان يقول إن الصحابة تركوا الأصلح بتركهم بيعة علي فإنه كان أولى بها وكان إعراضهم عنه خطأ لا يوجب كفرا ولا فسقا. وهؤلاء كانوا يكفرون عثمان بسبب ما أخذ عليه من الأحداث، وكفرهم أهل السنة والجماعة بتكفيرهم عثمان. وربما يدعى هؤلاء جريرية.

الأبترية

فأما الأبترية منهم فهم أتباع الحسن بن صالح بن حي وكثير النواء الملقب بالأبتر. وقول هؤلاء كقول السليمانية غير أنهم يتوقفون في عثمان ولا يقولون فيه خيرا ولا شرا. وقد أخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح بن حي في المسند الصحيح لما أنه لم يعرف منه هذه الخصال فأجراه على ظاهر الحال.

واعلم أن السليمانية والأبترية يكفرون الجارودية منهم لتكفيرهم أبا بكر وعمر ومن تابعهما من الصحابة. وجميع فرق الزيدية يجمعهم القول بتخليد أهل الكبائر في النار ووافقوا القدرية في هذا المعنى ووافقوا الخوارج أيضا في أن فساق الملة كفار يخلدون في النار مع الكفار ويقنطون من رحمة الله ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وهؤلاء الفرق الثلاثة إنما يسمون زيدية لقولهم بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي في وقته وإمامه ابنه يحيى بن زيد في وقته. وكان أمر زيد هذا أنه بايعه خمسة آلاف من أهل الكوفة فأخذ يقاتل بهم يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام بن عبد الملك فلما اشتد بهم القتال قال الذين بايعوه له: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال زيد: أثنى عليهما جدي علي وقال فيهما حسنا، وإنما خروجي على بني أمية فإنهم قاتلوا جدي عليا وقتلوا جدي حسينا، فخرجوا عليه ورفضوه فسموا رافضة بذلك السبب وهجروه كلهم ولم يبق منهم إلا نضر بن خزيمة العبسي ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة مع مقدار مائتي رجل، فأتى القتل على جميعهم وقتل زيد ودفن فأخرج بعده من القبر وأحرق وهرب ابنه يحيى بن زيد إلى خراسان وصار إلى ناحية جوزجان وخرج على نصر بن سيار والي خراسان فبعث نصر بن سيار إليه سلم بن أحوز المازني في ثلاثة آلاف من المقاتلة، فاستشهد يحيى بن زيد في ذلك القتال ومشهده بجوزجان.

الكيسانية

وأما الكيسانية فهم أتباع مختار بن أبي عبيد الثقفي الذي كان قام يطلب ثأر الحسين بن علي بن أبي طالب وكان يقتل من يظفر به ممن كان قاتله بكربلاء. وهؤلاء الكيسانية فرق يجمعهم القول بنوعين من البدعة: أحدهما تجويز البداء على الله تعالى تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا؛ الثاني قولهم بإمامة محمد بن الحنفية. ثم اختلفوا في سبب إمامته فمنهم من قال إن سبب إمامته أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دفع الراية إليه يوم الجمل وقال له:

(أطعنهم طعن أبيك تحمد ** لا خير في حرب إذا لم توقد)

(بالمشرفي والقنا المشرد)

ومنهم من قال إن سبب إمامته أن الإمامة كانت لعلي ثم للحسن ثم للحسين، وقد أوصى حسين بها لأخيه محمد بن الحنفية في الوقت الذي كان يهرب من المدينة ويقصد مكة إذ كان مطالبا ببيعة يزيد بن معاوية، وهؤلاء الذين يقولون بإمامة محمد بن الحنفية.

الكربية

وقوم منهم يقال لهم الكربية أصحاب أبي كرب الضرير، يقولون إن محمد بن الحنفية لم يمت ولم يقتل وأنه في جبل رضوى وعنده عين من الماء وعين من العسل يتناول منهما وعنده أسد ونمر تحفظانه من الأعداء إلى أن يؤذن له في الخروج وهو المهدي المنتظر عندهم.

وقوم من الكيسانية أقروا بموته ثم اختلفوا فقال قوم منهم إن الإمامة بعده رجعت إلى ابن أخيه علي بن الحسين زين العابدين.

الهاشمية

وقال قوم إنها رجعت إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية. ثم قال قوم رجعت بعد أبي هاشم إلى محمد بن عبد الله بن عباس بوصية أبي هاشم له بها، وهذا قول ابن الراوندي وأتباعه.

البيانية

وقال قوم رجعت إلى بيان بن سمعان التميمي. وهؤلاء قوم يلقبون بالبيانية، وهم من جملة الغلاة يدعون آلهية بيان بن سمعان ويزعمون أن روح الإله حل في أبي هاشم ثم رجع إلى بيان.

وقال قوم بل رجعت إلى عبد الله بن عمرو بن حرب، وكانوا يدعون إلهيته. وكان كثير الشاعر والسيد الحميري من جملة الكيسانية كانا ينتظران محمد بن الحنفية ولهما في ذلك أشعار كثيرة فمما قاله السيد الحميري في معناه:

(ألا قل للوصي فدتك نفسي ** أطلت بذلك الجبل المقاما)

(أضر بمعشر والوك منا ** وسموك الخليفة والإماما)

(وعادوا فيك أهل الأرض طرا ** مقامك عندهم ستين عاما)

المختارية

وأول من قام ببدعة الكيسانية ودعا إلى إمامة محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد، أخذ في طلب ثأر الحسين بن علي وظفر بأعدائه. ولما تم له الظفر في حروب كثيرة اغتر بنفسه فأخذ يتكلم بأسجاع كأسجاع الكهنة ولما بلغ خبر كهانته إلى محمد بن الحنفية خاف أن يقع بسببه فتنة في الدين، وهم ليقبض عليه فلما علم به المختار وخاف على نفسه منه اختار قتله بحيلة فقال لقومه: المهدي محمد بن الحنفية وأنا على ولايته غير أن للمهدي علامة وهي أن يضرب عليه بالسيف فلا يحيك فيه السيف، وأنا أجرب هذا السيف على محمد بن الحنفية فإن حاك فيه فليس بمهدي. فلما بلغ إلى محمد بن الحنفية هذا الخبر خاف أن يقتله بما ذكرناه من حيلته فتوقف حيث كان.

ثم إن السبأية خدعوا المختار وقالوا له أنت حجة الزمان وحملوه على دعوى النبوة فادعاها وزعم أن أسجاعه وحي يوحى إليه. ثم قويت شوكته واستفحل أمره حتى قصد جندا من جنود مصعب بن الزبير فهزمهم وأسر جماعة منهم فيهم سراقة بن مرداس البارقي. فلما قدم إلى المختار احتال وقال لم تهزمنا جندك ولا أسرنا قومك ولكن الملائكة الذين جاؤوا لنصرتك ونصره جندك هم الذين هزمونا فاعف عنا فإنا لم نعلم أنك على الحق والآن فقد علمناه فعليك أقسم بحق أولئك الملائكة الذين كانوا على أفراس بلق قائمين بنصرتك أن تعفو عنا. فعفا عنهم وعاد سراقة إلى جند مصعب بن الزبير بالبصرة وأنشأ هذه الأبيات وبعث بها إلى المختار:

(ألا بلغ أبا إسحاق أني ** رأيت البلق دهما مصمتات)

(أري عيني ما لم ترأياه ** كلانا عالم بالترهات)

(كفرت بوحيكم وجعلت نذرا ** علي قتالكم حتى الممات)

واعلم أن السبب الذي جوزت الكيسانية البداء على الله تعالى أن مصعب بن الزبير بعث إليه عسكرا قويا فبعث المختار إلى قتالهم أحمد بن شميط مع ثلاثة آلاف من المقاتلة وقال لهم: أوحي إلي أن الظفر يكون لكم. فهُزم ابن شميط فيمن كان معه فعاد إليه فقال: أين الظفر الذي قد وعدتنا؟ فقال له المختار: هكذا كان قد وعدني ثم بدا فإنه سبحانه وتعالى قد قال {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} ثم خرج المختار إلى قتال مصعب ورجع مهزوما إلى الكوفة فقتلوه بها.

واعلم أن الكيسانية اختلفوا في حبس محمد بن الحنفية بجبل رضوى فمنهم من قال كان ذلك عقوبة له على خروجه بعد قتل الحسين بن علي إلى يزيد بن معاوية وطلب الأمان منه وقبوله العطاء من قبله وعلى أنه خرج من مكة في أيام ابن الزبير وقصد عبد الملك بن مروان ثم انصرف من الطريق وعدل إلى الطائف وكان بها عبد الله بن عباس فتوفي عبد الله بن عباس وصلى عليه بها محمد بن الحنفية ودفنه هناك ثم قصد اليمن فلما بلغ شعب رضوى توفي هناك ودفن. والذين يقولون بانتظاره ينكرون موته ويزعمون أنه غيب عن الناس إلى أن يؤذن له في الخروج. وقال قوم من الكيسانية لا ندري سبب حبسه هناك ولله في حبسه سر لا يعلمه إلا هو. هذا تفصيل قول الكيسانية من الروافض.

الإمامية

أما الإمامية منهم فهم خمس عشرة فرقة:

الكاملية

إحداها الكاملة وهم أتباع أبي كامل، يقولون إن الصحابة كلهم كفروا بتركهم بيعة علي وكفر علي أيضا بتركه قتالهم إذ كان واجبا عليه أن يقاتلهم كما قاتل أهل صفين والجمل. وكان بشار بن برد الشاعر منهم لما سئل عن الصحابة فقال: كفروا، فقيل له: ما تقول في علي؟ فأنشد قول الشاعر:

(وما شر الثلاثة أم عمرو ** بصاحبك الذي لا تصحبيا)

وبشار هذا زاد على الكاملية بنوعين من البدعة: أحدهما أنه كان يقول بالرجعة قبل القيامة كما كان يقولها الرجعية من الروافض، والثاني أنه كان يقول بتصويب إبليس في تفضيل النار على الأرض، ولذلك قال:

(الأرض مظلمة والنار مشرقة ** والنار معبودة مذ كانت النار)

ووفق الله سبحانه المهدي بن منصور الخليفة حتى غرقه وأتباعه في دجلة، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

المحمدية

وهم يقولون بانتظار محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ويقولون إنه لم يمت وأنه حي في جبل حاجر من ناحية نجد وأنه يقيم هناك إلى أن يؤذن له في الخروج فيخرج ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وكان المغيرة بن سعيد العجلي على هذا المذهب وكان يدعو الناس إليه ودخل في دعوته جماعة من أهل المدينة وأهل مكة وأهل اليمن، فجمع منهم عسكرا وغلب على نواحي البصرة واستولى فريق من جنده على نواحي المغرب، وكان ذلك منهم في زمن المنصور فبعث إليهم عيسى بن موسى بجيش عظيم فاستشهد محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة. واختلف أصحاب المغيرة في حاله فمنهم من أقر بقتله وخرجوا على المغيرة وقالوا إن المغيرة صدق فيما ذكر أن محمدا لم يقتل وإنما غاب عن أعين الناس في جبال حاجر إلى أن يؤذن له في الخروج فيخرج ويملك الأرض ويبايعه بين الركن والمقام سبعة عشر رجلا يجيئون لأجله ويعطي كل واحد منهم حرفا من حروف اسم الله الأعظم فهم يهزمون العساكر في ذلك، وهؤلاء يزعمون أن الذي قتله عيسى بن موسى بالمدينة كان شيطانا تصور في صورة محمد وأنه لم يقتل في الحقيقة. وأصحابنا يقولون لهم جوابكم أن ترتكبوا مثل هذه الخرافات، فهلا انتظرتم الحسين بن علي وقلتم إنه لم يقتل، وهلا انتظرتم علي بن أبي طالب وقلتم إن الذي قتله ابن ملجم كان شيطانا تصور بصورة علي.

الباقرية

وهؤلاء يقولون إن الإمامة كانت في أولاد علي إلى أن انتهى الامر إلى محمد بن علي بن الحسين الباقر، وهم ينتظرونه ولا يصدقون بموته، ويقولون إن سبب إمامته أن النبي أخبر جابر بن عبد الله الأنصاري أن سيطول عمره ويدرك أيامه وقال له اقرأ مني عليه السلام. وكان جابر آخر من مات بالمدينة من الصحابة وكان قد كف بصره في آخر عمره فجاءت جارية ووضعت في حجره صبيا وقالت: هذا علي بن الحسين بن علي، فأدى جابر الأمانة وبلغه سلام جده وتوفي جابر في ليلته. فرد هؤلاء أن رسول الله أخبر عمر وعليا بأنهما يدركان رجلا اسمه أويس القرني وأمرهما أن يبلغاه سلام رسول الله ، وذلك لا يوجب أن يكون هو المهدي المنتظر فإنه استشهد في حرب صفين، كذلك التسليم على محمد بن علي لا يوجب كونه مهديا منتظرا.

الناووسية

وهم أتباع رجل من أهل البصرة كان ينسب إلى ناووس كان هناك. وهم يسوقون الإمامة في أولاد علي إلى جعفر بن محمد الصادق ويزعمون أنه لم يمت وأنه المهدي المنتظر. وجماعة من السبأية يوافقونهم في هذا القول ويزعمون أنه كان يعلم كل ما يحتاج إلى عمله من دين أو دنيا عقلي وشرعي، ويقلدونه في جملة أبواب الدين حتى لو سئل واحد منهم عن جواز الرؤية على الله تعالى وعن نفي خلق القرآن أو عن إثبات الصفات أو غير ذلك لكان جوابه أن يقول إنا نقول فيه بقول جعفر ولا ندري ما قول جعفر فيه. غير أنهم يتفقون في تكفير أبي بكر وعمر ولو طردوا أصلهم في تقليده لأجابوا به أيضا عليه.

الشميطية

فالشميطية منهم هم أتباع يحيى بن شميط. وهؤلاء يقولون إن الإمامة صارت من جعفر إلى ابنه محمد بن جعفر وأنها تدور في أولاده وأن المنتظر واحد من أولاده.

العمارية

العمارية منهم وهؤلاء يقولون إن الإمامة صارت من جعفر إلى أكبر أولاده عبد الله الذي كان يدعى أفطح. وهؤلاء يدعون الأفطحية بسببه.

الإسماعيلية

وهم يزعمون أن الإمامة صارت من جعفر إلى ابنه إسماعيل. وكذّبهم في هذه المقالة جميع أهل التواريخ لما صح عندهم من موت إسماعيل قبل أبيه جعفر. وقوم من هذه الطائفة يقولون بإمامة محمد بن إسماعيل، وهذا مذهب الإسماعيلية من الباطنية.

الموسوية

الثامنة الموسوية منهم وهؤلاء يزعمون أن الإمامة صارت بعد جعفر إلى ابنه موسى بن جعفر وأنه حي لم يمت وأنه المنتظر. ويقولون إنه دخل دار الرشيد ولم يخرج، ونحن نشك في موته. وهذا القول منهم يوجب عليهم أن يشكوا في إمامته كما شكوا في حياته، على أن هذا القول هوس منهم لأن مشهد موسى بن جعفر مشهور ببغداد في الجانب الغربي يزار ويتبرك به. ولهؤلاء الموسوية لقب آخر وهو أنهم يدعون الممطورة لأن زرارة بن أعين قال لهم يوما: أنتم أهون في عيني من الكلاب الممطورة - أراد الكلاب التي ابتلت بالمطر والناس يطردونهم ويتحرزون منهم.

المباركية

وهم أيضا يقولون بإمامة محمد بن إسماعيل كما نذكره بعد.

القطعية

القطعية منهم سموا بذلك لأنهم ساقوا الإمامة بعد جعفر إلى ابنه موسى ثم قطعوا بموت موسى وقالوا إن المهدي المنتظر محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى الكاظم وهؤلاء يدعون الاثنى عشرية، لأنهم ادعوا أن الإمام المنتظر هو الثاني عشر من أولاد علي بن أبي طالب، ثم اختلف هؤلاء في سنة وفاة أبيه فمنهم من قال إنه كان ابن أربع سنين ومنهم من قال ابن ثمان سنين. ثم قال قوم منهم إنه كان إماما واجب الطاعة في ذلك الوقت وكان عالما بجميع معالم الدين، وقال قوم إنه كان إماما على معنى أنه سيصير إماما إذا بلغ وأنه غاب عن أعين الناس إلى أن يؤذن له في الخروج.

الهشامية

الهشامية منهم وهم فريقان أصحاب ابن الحكم الرافضي وأصحاب هشام بن سالم الجواليقي. والفريقان جميعا يدينون بالتشبيه والتجسيم وإثبات الحد والنهاية. حتى قال هشام بن الحكم إنه نور يتلألأ كقطعة من السبيكة الصافية أو كلؤلؤة بيضاء. والجواليقي يقول بالصورة وإثبات اللحم والدم واليد والرجل والأنف والأذن والعين وإثبات القلب. والعقل بأول وهلة يعلم أن من كانت هذه مقالته لم يكن له في الإسلام حظ.

الثانية عشرة أحد هذين الفريقين من الهشامية

الزرارية

الزرارية منهم وهم أتباع زرارة بن أعين. وقد كان على مذهب القطعية الذين كانوا يقولون بإمامة عبد الله بن جعفر ثم انتقل عنه فكان يقول بمذهب الموسوية. وكان يقول إن الله تعالى لم يكن عالما ولا قادرا ثم خلق لنفسه علما وحياة وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا. وجرى على قياس قولهم قوم من بصرية القدرية فقالوا كلام الله مخلوق له وإرادته مخلوقة له. وزاد عليه الكرامية فقالوا إن إرادته وإدراكاته حادثة.

اليونسية

اليونسية وهم أتباع يونس بن عبد الرحمن القمي. وكان في الإمامة على مذهب القطعية وكان مفرطا في التشبيه حتى كان يقول إن حملة العرش يحملون إله العرش وهو أقوى منهم كما أن الكركي تحمله أرجله وهو أقوى من أرجله. والعاقل لا يستجرىء أن يقول مثل هذا الكلام.

الشيطانية

الشيطانية منهم وهم أتباع محمد بن علي بن النعمان الرافضي الذي كان يلقب بشيطان الطاق. وكان في الإمامة على مذهب القطعية وكان يقول إن الله تعالى لا يعلم الشر قبل أن يكون كما كان يقوله هشام بن الحكم. وقد كان يوافق هشاما الجواليقي في كثير من بدعه.

واعلم أن الزيدية والإمامية منهم من يكفر بعضهم بعضا والعداوة بينهم قائمة دائمة، والكيسانية يعدون في الإمامية. واعلم أن جميع من ذكرناهم من فرق الإمامية متفقون على تكفير الصحابة ويدعون أن القرآن قد غيّر عما كان ووقع فيه الزيادة والنقصان من قبل الصحابة. ويزعمون أنه قد كان فيه النص على إمامة علي فأسقطه الصحابة عنه. ويزعمون أنه لا اعتماد على القرآن الآن ولا على شيء من الأخبار المروية عن المصطفى . ويزعمون أنه لا اعتماد على الشريعة التي في أيدي المسلمين. وينتظرون إماما يسمونه المهدي يخرج ويعلمهم الشريعة. وليسوا في الحال على شيء من الدين. وليس مقصودهم من هذا الكلام تحقيق الكلام في الإمامة ولكن مقصودهم إسقاط كلفة تكليف الشريعة عن أنفسهم حتى يتوسعوا في استحلال المحرمات الشرعية ويعتذروا عند العوام بما يعدونه من تحريف الشريعة وتغيير القرآن من عند الصحابة. ولا مزيد على هذا النوع من الكفر إذ لا بقاء فيه على شيء من الدين.

وأما الهشامية فإنهم أفصحوا عن التشبيه بما هو كفر محض باتفاق جميع المسلمين وهم الأصل في التشبيه. وإنما أخذوا تشبيههم من اليهود حين نسبوا إليه الولد وقالوا عزيز ابن الله وأثبتوا له المكان والحد والنهاية والمجيء والذهاب، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ولهذا المعنى شبه النبي الروافض باليهود فقال: الروافض يهود هذه الأمة. وقال الشعبي: إن الروافض شر من اليهود والنصارى فإن اليهود سئلوا عن أخيار ملتهم فقالوا أصحاب موسى، والنصارى سئلوا عن أخيار ملتهم فقالوا الحواريون الذين كانوا مع عيسى عليه السلام، وسئلت الرافضة عن شر هذه الأمة فقالوا أصحاب محمد ، فلا جرم يكون سيف الحق مسلولا عليهم إلى يوم القيامة ولا يرى لهم قدم ثابت ولا كلمة مجتمعة ولا راية منصوبة ولا ينصرهم أحد إلا صار مخذولا لشؤم بدعتهم.

والعجب أنهم يتكلمون في الصحابة ويسيئون القول فيهم ولا يتأملون كتاب الله حيث أثنى عليهم بقوله سبحانه: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل} إلى آخر السورة، فأثنى عليهم كما ترى، فأخبر أن صفتهم مذكورة في التوراة والأنجيل كما أخبر به {كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار}. حتى قال أبو إدريس المفسر إن ظاهر هذه الآية يوجب أن الروافض كفار لأن [في] قلوبهم غيظا من الصحابة وعداوة لهم، ألا تراه يقول {ليغيظ بهم الكفار} فبين أن من كان في قلبه غيظ منهم من الكفار. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي قال: سيكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الروافض يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون. وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله قال: "يا علي تكون أنت في الجنة وشيعتك يكونون في الجنة وسيكون بعدي قوم يدعون ولايتك يدعون الرافضة فإن وجدتهم فاقتلهم فإنهم مشركون" فقال علي: وما علامتهم يا رسول الله، فقال: "لا يكون لهم جمعة ولا جماعة ويشتمون أبا بكر وعمر".

واعلم أن هذه المقالة التي رويناها عن الروافض ليست مما يستدل على فسادها فإن العاقل ببديهة العقل يعلم فسادها وينكر عليها فلا يمكن أن تحمل منهم هذه المقالات إلا على أنهم قصدوا بها إظهار ما كانوا يضمرونه من الإلحاد والشر بموالاة قوم من أشراف أهل البيت، وإلا فليس لهم دليل يعتمدون عليه ويجعلون خرافات مقالاتهم إليه، حتى أنهم لما رأوا الجاحظ يتوسع في التصانيف ويصنف لكل فريق قالت له الروافض: صنف لنا كتابا، فقال لهم: لست أدري لكم شبهة حتى أرتبها وأتصرف فيها، فقالوا له: إذا دللتنا على شيء نتمسك به، فقال: لا أرى لكم وجها إلا أنكم إذا أردتم أن تقولوا شيئا مما تزعمونه أنه قول جعفر بن محمد الصادق، لا أعرف لكم سببا تستندون إليه غير هذا الكلام. فتمسكوا بحمقهم وغباوتهم بهذه السوءة التي دلهم عليها، وكلما أرادوا أن يختلقوا بدعة أو يخترعوا كذبة نسبوها إلى ذلك السيد الصادق، وهو عنها منزه وعن مقالتهم في الدارين بريء. حتى حكي عنه أنه قال: كادت الروافض أن تنصر عليا فنسبته إلى العجز، وكادت المعتزلة أن توحد ربها فشركته، وأرادت أن تعدّل ربها فجورته، أو لفظ هذا معناه.

الباب الرابع في تفصيل مقالات الخوارج وبيان فضائحهم

اعلم أن الخوارج عشرون فرقة كما ترى بيانهم في هذا الكتاب وكلهم متفقون على أمرين لا مزيد عليهما في الكفر والبدعة: أحدهما أنهم يزعمون أن عليا وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين وكل من رضي بالحكمين كفروا كلهم. والثاني أنهم يزعمون أن كل من أذنب ذنبا من أمة محمد فهو كافر ويكون في النار خالدا مخلدا، إلا النجدات منهم فإنهم قالوا إن الفاسق كافر على معنى أنه كافر نعمة ربه فيكون إطلاق هذه التسمية عند هؤلاء منهم على معنى الكفران لا على معنى الكفر.

ومما يجمع جميعهم أيضا تجويزهم الخروج على الإمام الجائر. والكفر لا محالة لازم لهم لتكفيرهم أصحاب رسول الله .

المحكمة الأولى الفرقة الأولى

منهم المحكمة الأولى وأول من قال منهم لا حكم إلا الله عروة بن حدير أخو مرداس الخارجي. وقيل إن أول من قاله يزيد بن عاصم المحاربي وقيل إنه رجل من بني يشكر كان مع علي رضي الله عنه بصفين ولما اتفق الفريقان على التحكيم ركب وحمل على أصحاب علي وقتل منهم واحدا ثم حمل على أصحاب معاوية وقتل منهم واحدا ثم نادى بين العسكرين أنه بريء من علي ومعاوية وأنه خرج من حكمهم، فقتله رجل من همدان، ثم أن جماعة ممن كانوا مع علي رضي الله عنه في حرب صفين استمعوا منه ذلك الكلام واستقرت في قلوبهم تلك الشبهة ورجعوا مع علي إلى الكوفة ثم فارقوه ورجعوا إلى حروراء وكانوا اثني عشر ألف رجل من المقاتلة، ومن هنا سميت الخوارج حرورية. وكان زعيمهم يومئذ عبد الله بن الكواء وشبث بن ربعي. وخرج إليهم علي وناظرهم فظهر بالحجة عليهم فاستأمن إليه ابن الكواء في ألف مقاتل واستمر الباقون على ضلالهم وخرجوا إلى النهروان وأمروا عليهم رجلين منهم أحدهما عبد الله بن وهب الراسي والثاني حرقوص بن زهير البجلي وكان يلقب بذي الثدية، ورأوا في طريقهم حال خروجهم إلى النهروان عبد الله بن خباب بن الأرت فقالوا له: حدث لنا حديثا سمعته من أبيك عن رسول الله ، فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله يقول: "ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والواقف فيها خير من السائر والماشي فيها خير من العادي، ومن أمكنه أن يكون مقتولا فيها يقصدن أن يكون قاتلا" أو لفظ هذا معناه، فلما سمعوا منه هذا الخبر قصدوا قتله وقتله رجل منهم اسمه مسمع وجرى دمه على وجه الماء قائما كالشراك حتى انهال من إحدى شطئ النهر إلى الآخر ثم قصدوا بيته وقتلوا أولاده وأمهات أولاده بالنهروان. وكثر عددهم وقويت شوكتهم فقصدهم علي رضي الله عنه في أربعة آلاف رجل وكان مقدمهم عدي بن حاتم الطائي وينشد لهم أشعارا يترنمون بها في مذمتهم ومدح علي رضي الله عنه، فلما ازدلفوا اليهم بعث علي رضي الله عنه إليهم رسولا أن ادفعوا إلي قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله ولو ظفرنا بك لقتلناك أيضا، فوقف عليهم علي رضي الله عنه بنفسه وقال لهم: يا قوم ماذا نقمتم مني حتى فارقتموني لأجله، قالوا قاتلنا بين يديك يوم الجمل وهزمنا أصحاب الجمل فأبحت لنا أموالهم ولم تبح لنا نسائهم وذراريهم، وكيف تحل مال قوم وتحرم نسائهم وذراريهم، وقد كان ينبغي أن تحرم الأمرين أو تبيحهما لنا. فاعتذر علي رضي الله عنه بأن قال: أما أموالهم فقد أبحتها لكم بدلا عما أغاروا عليه من مال بيت المال الذي كان بالبصرة قبل أن وصلت إليهم ولم يكن لنسائهم وذراريهم ذنب فإنهم لم يقاتلونا كان حكمهم حكم المسلمين ومن لا يحكم له بالكفر من النساء والوالدان لم يجز سبيهم واسترقاقهم وبعد لو أبحت لكم نساءهم من كان منكم يأخذ عائشة في قسمة نفسه. فلما سمعوا هذا الكلام خجلوا وقالوا قد نقمنا منك سببا آخر وهو أنك يوم التحكيم كتبت اسمك في كتاب الصلح: "إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية حكما فلانا" فنازعك معاوية وقال: لو كنا نعلم أنك أمير المؤمنين ما خالفناك، فمحوت اسمك فإن كانت إمامتك حقا فلم رضيت به؟ فاعتذر أمير المؤمنين وقال: إنما فعلت كما فعل النبي عليه السلام حين صالح سهيل بن عمرو وكتب في كتاب الصلح: "هذا ما صالح محمد رسول الله سهيل بن عمرو" فقال له سهيل: لو علمنا أنك رسول الله ما خالفناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمر النبي حتى كتب: "هذا ما صالح محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو" فقال لي رسول الله : "إنك ستبتلى بمثله يوما"، فالذي فعلته بإذنه واقتداء به. ثم قالت الخوارج له: لم قلت للحكمين إن كنت أهلا للخلافة فقرراني ولم شككت في خلافتك حتى تكلمت بهذا الكلام ولو كنت شاكا لما ادعيت الخلافة؟ فقال علي: إنما أردت أن أنصف الخصم وأسكن النائرة ولو قلت للحكمين احكما لي لم يرض بذلك معاوية، وهكذا فعل النبي مع نصارى نجران حين دعاعم إلى المباهلة فقال: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} وهذا إنما قاله على سبيل الإنصاف لا على سبيل التشكك وهو كقوله تعالى: {قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} ولهذا المعنى حكّم النبي سعد بن معاذ في بني قريظة والحق في الحقيقة كان لرسول الله ، ثم إن حكم رسول الله [حكم] بالعدل وحكمي الذي حكمته خدع فكان من الأمر ما كان. فلما سمعت الخوارج هذه الحجج القاطعة استأمن ثمانية آلاف منهم وثبت على قتاله أربعة آلاف منهم، فقال إلى الذين استأمنوا إليه منهم: امتازوا اليوم مني جانبا وقاتل بمن كان معه، وقال لأصحابه لما أراد أن يبتدئ القتال: لا يقتل منا عشرة ولا ينجو منهم عشرة. واشتغلوا بالقتال فلم يقتل يومئذ من أصحاب علي أكثر من تسعة أنفس وخرج حرقوص بن زهير في وجه علي رضي الله عنه وقال: والله لا نريد بقتالك إلا وجه الله تعالى والنجاة في الآخرة، فتلا عليه: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) ثم حمل عليهم، وقتل عبد الله بن وهب في المبارزة والتحم القتال حتى لم يبق من جملة الخوارج إلا تسعة فوقع اثنان منهم إلى سجستان واثنان إلى اليمن واثنان إلى عمان واثنان إلى الجزيرة وواحد إلى ناحية الآبار، وخوارج هذه النواحي من أتباع هذه التسعة. وأمر علي رضي الله عنه أصحابه بطلب ذي الثدية فوجدوه قد هرب واستخفى في موضع فظفروا به وتفحصوا عنه فوجدوا له ثديا كثدي النساء فقال علي رضي الله عنه: صدق الله وصدق رسوله، وأمر بقتله فقتل. وقد كان مر على النبي ذو الثدية وهو يقسم غنائم بدر فقال له: اعدل يا محمد فقال له عليه الصلاة والسلام: خبت وخسرت إذا من يعدل، ثم قال: «إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».

هذه قصة المحكمة الأولى وهم يكفرون بتكفيرهم عليا وعثمان وتكفيرهم فساق أهل الملة.

ثم خرج بعدهم جماعة من الخوارج بأرض العراق فكان علي رضي الله عنه يبعث اليهم السرايا ويقاتلهم إلى أن استأثر الله بروحه ونقله إلى جنته. وبقيت الخوارج على مذهب المحكمة الأولى إلى أن ظهرت فتنة الأزارقة منهم فعند ذلك اختلفوا كما نذكره إن شاء الله تعالى.

الفرقة الثانية الأزارقة

منهم الأزارقة وهم أتباع رجل منهم يقال له أبو راشد نافع بن الأزرق الحنفي. ولم يكن للخوارج قوم أكثر منهم عددا وأشد منهم شوكة. ولهم مقالات فارقوا بها المحكمة الأولى وسائر الخوارج. منها أنهم يقولون إن من خالفهم من هذه الأمة فهو مشرك والمحكمة كانوا يقولون إن مخافهم كافر ولا يسمونه مشركا. ومما ومما اختصوا به أيضا أنهم يسمون من لم يهاجر إلى ديارهم من موافقيهم مشركا وان كان موافقا لهم في مذهبهم. وكان من عاداتهم فيمن هاجر اليهم أن يمتحنوه بان يسلموا اليه أسيرا من أسراء مخالفيهم وأطفالهم ويأمروه بقتله. ويزعمون أيضا أن أطفال مخالفيهم مشركون ويزعمون أنهم يخلدون في النار.

وأول من أظهر هذه البدع الزائدة على أولئك رجل منهم يدعى عبد ربه الكبير وقيل عبد ربه الصغير وقيل عبد الله بن الوضين. وكان نافع بن الأزرق يخالفه حتى مات ثم رجع إلى مذهبه.

وقد أطبقت الأزارقة على أن ديار مخالفيهم ديار الكفر وان قتل نساءهم وأطفالهم مباح وأن رد أماناتهم لا تجب لنص كتاب الله تعالى حيث قال: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} وزعموا أيضا أن الرجم لا يجب على الزاني المحصن خلافا لإجماع المسلمين وقالوا إن من قذف رجلا محصنا فلا حد عليه ومن قذف امرأة محصنة فعليه الحد، وقالوا إن سارق القليل يجب عليه القطع. وهذه بدع زادوا بها على جميع الخوارج فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين.

وهذه الأزارقة غلبوا على بلاد الأهواز وأرض فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير حين بعث عاملا له على البصرة فأخرج سرية إلى قتالهم وهم ألف مقاتل فقتلهم الخوارج ثم بعث إليهم بثلاثة آلاف من المقاتلة فظفر الخوارج أيضا بهم، فبعث عبد الله بن الزبير من مكة كتابا وجعل قتالهم إلى المهلب بن أبي صفرة حتى جمع عسكرا عظيما وهزم نافع بن الأزرق وجعدة. وقتل نافع في تلك الهزيمة وبايعت الأزارقة بعده رجلا آخر منهم فهزمه المهلب أيضا وقتلوه في الهزيمة فبايعوا قطري بن الفجاءة التميمي وسموه أمير الموت وكان المهلب يقاتلهم حتى هزمهم. وانحازوا إلى سابور من بلاد فارس وجعلوا ذلك دار هجرتهم. وكان المهلب وأولاده يقاتلونهم تسع عشرة سنة بعضها في زمان عبد الله بن الزبير وبعضها في زمان عبد الملك بن مروان. ولما ولي الحجاج بن يوسف العراق أقر المهلب على قتالهم وكان يقاتلهم إلى أن ظهر بينهم الخلاف وخالف عبد ربه الكبير قطريا وخرج إلى جيرفت كرمان في سبعة آلاف رجل وخالفه أيضا عبد ربه الصغير وانحاز إلى ناحية من نواحي كرمان. وكان المهلب يقاتل قطريا بناحية سابور إلى أن هزمه فخرج إلى كرمان وكان المهلب يسير على أثره ويقاتله حتى هزمه إلى الري، ثم كان يقاتل عبد ربه الصغير حتى كفى شغله وقتله. وبعث الحجاج عسكرا عظيما إلى الري فقاتلوا قطريا فانهزم منهم إلى طبرستان وتبعوه حتى قتلوه وكفى الله تعالى شغله وكان قد هرب في جملة من قومه إلى قومس عبيدة بن الهلال اليشكري فقصده جند الحجاج حتى قتلوه وطهر الله وجه الأرض من جملة الأزارقة ولم يبق منهم واحد.

الفرقة الثالثة النجدات

منهم النجدات وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي. وكان من حاله أنه لما سمى نافع بن الأزرق من كان قد امتنع من نصرته مشركا وأباح قتل نساء مخالفيهم وأطفالهم خرج عليه قوم من أتباعه وصاروا إلى اليمامة وبايعوا نجدة وقالوا إن من يقول ما قاله نافع فهو كافر، ثم افترق هؤلاء ثلاث فرق وخرجوا على نجدة فصار فريق منهم مع عطية بن الأسود الحنفي إلى سجستان، وخوارج سجستان أتباع هؤلاء ولذلك كانوا يدعون العطوية، وصار فريق منهم تبعا لرجل كان يقال له أبو فديك وكانوا يقاتلون نجدة حتى قتلوه، وإنما خرج هؤلاء عليهم لأنهم أخذوا عليه أشياء منها أنه بعث جندا للغزو في البر وجندا في البحر ثم فضل في العطاء من بعثه في البحر فأنكروا عليه وقالوا لم يكن من حقه أن يفضل هؤلاء، والثاني أنهم قالوا إنك بعثت جندا إلى المدينة حتى أغاروا عليها وسبوا جارية من أولاد عثمان بن عفان. وكاتبه في ذلك المعنى عبد الملك بن مروان فاشتراها عمن كانت في يده. وبعثها إلى عبد الملك بن مروان فأخذوا عليه هذا، وقالوا إنه رد جارية غنمناها إلى عدونا وقالوا له تب فتاب. وقال قوم إنه كان معذورا فيما فعل وقالوا له كان لك أن تجتهد ولم يكن لنا أن نستتيبك فتب عن توبتك فتاب. واختلفوا عليه كما ذكرنا إلى أن قتله أبو فديك، وبعث عبد الملك بن مروان جندا إلى أبي فديك فقتل وكفى الله المسلمين شرهم. وبدع النجدات كثيرة ومن اطلع على ما ذكرناه من حالهم لم يخف عليه أمرهم.

الفرقة الرابعة الصفرية

وهم أتباع زياد بن الأصفر وقولهم كقول الأزارقة في فساق هذه الأمة ولكنهم لا يبيحون قتل نساء مخالفيهم ولا أطفالهم.

وقال فريق منهم كل ذنب له حد معلوم في الشريعة لا يسمى مرتكبه مشركا ولا كافرا بل يدعى باسمه المشتق من جريمته يقال سارق وقاتل وقاذف، وكل ذنب ليس فيه حد معلوم في الشريعة مثل الإعراض عن الصلاة فمرتكبه كافر. ولا يسمون مرتكب واحد من هذين النوعين جميعا مؤمنا. وقال فريق منهم إن المذنب لا يكون كافرا إلى أن يحده الوالي ويحكم بكفره. وهؤلاء الفرق الثلاثة من الصفرية يقولون بإمامة رجل كان اسمه أبو بلال مرداس الخارجي ويقولون بعده بإمامة عمران بن حطان السدوسي. وكان خروج أبي بلال في أيام يزيد بن معاوية بناحية البصرة على عامله عبيد الله بن زياد، فبعث إليه زرعة بن مسلم العامري في ألفي مقاتل وكان زرعة يميل إلى رأي الخوارج، فلما اصطف العسكران قال زرعة يا أبا بلال إني أعلم أنك على الحق ولكننا لو لم نقاتلك يحبس عبيد الله بن زياد عطاءنا عنا، فقال أبو بلال: ليتني فعلت كما أمرني به أخي عروة فإنه أمرني أن أستعرض الناس بالسيف فأقتل كل من استقبلني، ثم هزمه أبو بلال فبعث عبيد الله بن زياد إلى قتال أبي بلال عبادا التميمي حتى حمل رأسه إلى عبيد الله بن زياد، فدعا عبيد الله عروة أخاه وقال له: يا عدو الله أمرت أخاك أن يستعرض المسلمين، قد انتقم الله تعالى منه وأمر بصلب عروة. ثم إن الصفرية بعد أبي بلال بايعوا عمران بن حطان وكان رجلا شاعرا نسابة وكان يرثي مرداسا ومن جملة ما رثاه به قوله:

(أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ** ما الناس بعدك يا مرداس بالناس)

وكان من شقاوته أنه رثى عبد الرحمن بن ملجم بقوله:

(يا ضربة من منيب ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا)

(إني لأذكره يوما فأحسبه ** أوفى البرية عند الله ميزانا)

ومن كان اعتقاده على هذه الجملة لم تعترض أهل الديانة في كفره شبهة.

الفرقة الخامسة العجاردة

منهم العجاردة وهم أتباع عبد الكريم بن عجرد. وكان من أتباع عطية بن أسود الحنفي. ومما اتفق عليه العجاردة قولهم إن كل طفل بلغ فإنه يدعى إلى أن يقر بدين الإسلام وقبل أن يبلغ يتبرؤون عنه ولا يحكمون له بحكم الإسلام في حالة طفوليته. وخاصة مذهبهم أن[هم] كانوا [لا] يبيحون أموال مخالفيهم حتى يقتل صاحب المال أولا. وهؤلاء الذين ينتحلون هذا المذهب افترقوا:

فمنهم الخازمية

وهم الأكثرون منهم. وافقوا أهل السنة في القدر والاستطاعة والمشيئة فيقولون لا خالق إلا الله ولا يكون إلا ما يريد والاستطاعة مع الفعل. ويقولون بتكفير القدرية بهذه المسائل التي ذكرناها، ولكن يكفرون عثمان وعليا والحكمين.

ومنهم الشعيبية

وكان سبب ظهورهم أن زعيمهم نازع رجلا من الخوارج يقال له ميمون وكان له على شعيب مال فطالب به شعيبا فقال شعيب: أؤديه إن شاء الله تعالى، فقال ميمون: الآن شاء الله ذلك ألا تراه قد أمر به، فقال شعيب: لو كان الله شاء لم أقدر على مخالفته. فظهر بسبب ذلك الخلاف بين العجاردة في مسألة المشيئة. فكتبوا هذه القصة إلى عبد الكريم بن عجرد وهو محبوس في حبس السلطان. فكتب في جوابه نحن نقول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا نلحق به سوءا. وقال ميمون: من قال إنه لم يرد أن يؤدي إلي حقي فقد ألحق به سوءا، وقال شعيب: بل وافقني في الجواب، ألا تراه يقول وما لم يشأ لم يكن. ورجع الخازمية إلى قول شعيب والحمزية منهم إلى قول ميمون القدري، وهو الذي يجوز نكاح بنات البنين وبنات البنات: وهذا خلاف إجماع المسلمين وهذا منه كفر زاده على قوله بالقدر.

ومنهم الخلفية

وكان خلف هذا من أتباع ميمون القدري ثم تاب ورجع عن أقواله إلى مذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر والمشيئة والاستطاعة. وخوارج مكران وكرمان بايعوه على ذلك. وكان حمزة الخارجي القدري يقاتلهم، ففقدوا خلقا في بعض تلك الحروب فهم من معرفته في شك ثابتون على دعوى إمامته ولم يقاتلوا بعد فقده أحدا، فإن من مذهبهم أنهم لا يقاتلون إلا إذا كان بينهم الإمام وصاروا إلى مذهب الأزارقة في شيء واحد وهو قولهم إن أطفال مخالفيهم يكونون في النار.

ومنهم المعلومية

ويدعى فريق منهم المجهولية. والفريقان جميعا كانا من جملة الخازمية، ثم المعلومية خالفوهم وزعموا أن من لم يعلم الله بجميع أسمائه فهو جاهل به والجاهل به كافر وزعموا أيضا أن أفعال العباد لا تكون مخلوقة لله وزعموا أن من كان منهم على دينهم وخرج على أعدائه بالسيف فهو الإمام. والمجهولية يقولون من عرف الله ببعض أسمائه يكون عالما به ولا يشترطون معرفة جميع أسمائه ويكفرون المعلومية بهذا السبب.

ومنهم الصلتية

وهم أتباع صلت بن عثمان وقيل صلت بن أبي الصلت وهؤلاء يقولون إنا نوالي كل من كان على مذهبنا ولكنا نتبرأ عن أطفالهم إلى أن يبلغوا ونعرض عليهم الإسلام فيقبلوه، يريدون به عرض مذهبهم وقبوله.

ومنهم الحمزية

وهم أتباع حمزة، وهو الذي صدر منه الفساد الكبير في نواحي سجستان وديار خراسان وكرمان ومكران وقهستان، وهزموا كثيرا من العساكر. وكان في الأصل على دين الخازمية ثم خالفهم في القدر والاستطاعة ورجع إلى قول القدرية. وكان يزعم أن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون وأن غنائمهم لا تحل لنا وكان يأمر بإحراق الغنائم وعقر دواب مخالفيهم. وظهرت فتنته في أيام هارون الرشيد وبقي إلى أن مضى برهة من أيام المأمون ثم صار مقتولا على أيدي غزاة نيسابور.

ومنهم الثعالبة

وهم أتباع ثعلبة بن مشكان. وهؤلاء كانوا يقولون بإمامة عبد الكريم بن عجرد ويقولون إنه كان الإمام إلى أن خالفه ثعلبة في حكم الأطفال فصار على زعمهم كافرا وكان ثعلبة إماما. وكان سبب اختلافهم أن رجلا من العجاردة خطب بنت ثعلبة فقال له أظهر لنا مهرا وقدره فبعث الخاطب إلى أم البنت وقال تعرفيني عن أمرها هل بلغت هذه البنت وهل قبلت الإسلام فإن كانت بالغة وللإسلام قابلة على الشرط لم يبال كم كان مهرها فقالت الأم: هي مسلمة، فلما بلغ هذا الخبر إلى ثعلبة اختار أن يتبرأ من أطفال المسلمين وخالف في هذا عبد الكريم بن عجرد. وبسبب هذا الخلاف تبرأ أحدهما عن صاحبه وكان يكفر كل منهما صاحبه.

ومنهم المعبدية

وهؤلاء يقولون بإمامة معبد بعد ثعلبة وخالف معبد الثعالبة بأن قال يجوز أخذ الزكاة من العبيد ويجوز دفعها إليهم. وزعم بأن من لم يوافقه في هذه المقالة فهو كافر. وأتباعه يكفرون جملة الثعالبة والثعالبة يكفرونهم.

ومنهم الأخنسية

وهم أتباع رجل اسمه أخنس وكان على مذهب الثعالبة في موالاة الأطفال ثم خنس من بينهم وزعم أنه يجب التوقف في جميع من كان في دار التقية إلا من عرفنا منه نوعا من الكفر فحينئذ نتبرأ عنه ومن عرفنا منه الإيمان فنواليه وكان يقول إن قتل مخالفيهم في السر لا يجوز ولا يجوز ابتداء أحد من أهل القبلة بالقتال حتى يدعوه أولا إلى مذهبهم.

ومنهم الشيبانية

وهم أتباع شيبان بن سلمة الخارجي وهم كانوا يعينون أبا مسلم في حروبه وكان يذهب إلى مذهب المشبهة وساير الثعالبة ثم خالفهم وقال كل زرع يسقى بنهر أو عين ففيه نصف العشر وقال كل زرع سقي بالسماء ففيه عشر كامل.

ومنهم المكرمية

وهم أتباع أبي مكرم. وكان يقول من ترك الصلاة فقد كفر لا لأنه ترك الصلاة ولكن لأنه يكون جاهلا بالله تعالى. وكان يقول إن المذنبين كلهم جاهلون بالله. وكان يقول في الموالاة والمعاداة بالموافاة وكان يقول إن الاعتبار بما سبق في كتاب الله تعالى.

الفرقة السادسة الإباضية

الإباضية وهم أتباع عبد الله بن إباض. ثم هم فيما بينهم فرق، وكلهم يقولون إن مخالفيهم من فرق هذه الأمة كفار لا مشركون ولا مؤمنون، ويجوزون شهادتهم ويحرمون دماءهم في السر ويستبيجونها في العلانية، ويجوزون مناكحتهم ويثبتون التوارث بينهم ويحرمون بعض غنائمهم ويحللون بعضها، يحللون ما كان من جملة الأسلاب والسلاح ويحرمون ما كان من ذهب أو فضة ويردونها إلى أربابها.

ذكر الحفصية منهم

ومن الإباضية يقال لهم الحفصية وهم أتباع حفص بن أبي المقدام، وكان يقول ليس بين الكفر والإيمان إلا معرفة الله فمن عرفه فهو مؤمن وإن كان كافرا بالرسول وبالجنة والنار واستحل جميع المحرمات كالقتل والزنا واللواط والسرقة فهو كافر ولكنه بريء من الشرك. وهؤلاء يقولون في عثمان كما تقول الروافض في أبي بكر وعمر، ويقولون: في علي نزل قوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} وفي عبد الرحمن بن ملجم قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد} وهذا من أتم الفضائح والبدع.

ذكر الحارثية منهم

ومن الإباضية قوم يقال لهم الحارثية. وهم أتباع الحارث بن مزيد الإباضي وكانوا يقولون بقول القدرية في القدر والاستطاعة. وسائر الإباضية كانوا يكفرونهم بسبب ذلك.

ذكر أصحاب طاعة (لا يراد الله بها)

ومن الإباضية فريق يقال لهم أصحاب طاعة لا يراد الله بها. وهؤلاء يقولون بجواز طاعات كثيرة من العبد لا يقصد بها طاعة ربه كما كان يقوله أبو الهذيل المعتزلي. وكان من قصتهم أن رجلا من الإباضية اسمه إبراهيم أضاف جماعة من أهل مذهبه وكانت له جارية على مذهبه قال لها: قدمي شيئا فأبطأت فحلف ليبيعها من الأعراب، وكان فيما بينهم رجل اسمه ميمون ذكرناه في العجاردة فقال له تبيع جارية مؤمنة من قوم كفار فقال: {وأحل الله البيع وحرم الربا} وعليه كان أصحابنا، وطال الكلام بينهما حتى تبرأ كل واحد منهما من صاحبه وتوقف قوم منهم في كفرهما وكتبوا إلى علمائهم فرجع الجواب بحواز ذلك البيع وبوجوب التوبة على ميمون وعلى كل من توقف في نصر إبراهيم. فمن هاهنا افترقوا ثلاث فرق الإبراهيمية والميمونية والواقفية.

وظهر بعدهم قوم آخرون يقال لهم البيهسية أصحاب أبي بيهس هصيم بن عامر. وهؤلاء يقولون إن ميمونا كفر بقوله إن بيع تلك الجارية من كفار يكونون في ديار التقية حرام، وكفروا الواقفية أيضا لتوقفهم في كفر ميمون، وكفروا إبراهيم لتبريه من هؤلاء الواقفية. ثم قالت البيهسية لا يطلق على المذنب أنه كافر أو مؤمن حتى يدفع إلى السلطان ويقيم عليه الحد، وقال بعضهم متى ما كفر الإمام كفر رعيته أيضا، وقال قوم منهم إن السكر كفر إذا كان معه ترك الصلاة.

الفرقة السابعة الشبيبية

منهم الشبيبية وهم أتباع شبيب بن يزيد الشيباني، وكان كنيته أبو الصحارى. وقد تسمى هذه الفرقة صالحية لانتسابهم إلى رجل اسمه صالح بن مسرح التميمي الخارجي. وكان شبيب هذا من أصحابه وصار بعده واليا على عسكره. وكان خروجه في أيام الحجاج وخالف صالحا في تجويز إمامة النساء إذا قمن بأمر الرعية كما ينبغي وخرجن على مخالفيهم. وكان أتباعه يقولون إن غزالة أم شبيب كانت هي الإمام بعد شبيب إلى أن قتلت. وكان السبب في قولهم بإمامة أم شبيب أن شبيبا لما دخل الكوفة أمر أمه حتى صعدت منبر الكوفة وخطبت. وكان من قصة شبيب في أول أمره أنه قصد بالشام روح بن زنباع ونزل عنده والتمس منه أن يسأل أمير المؤمنين حتى يجعل عطاءه مساويا لعطاء أهل الشرف فسأله ذلك فقال عبد الملك بن مروان: هذا رجل لا أعرفه، فقال شبيب: يوشك أن يعرفني، وجمع الصالحية من الخوارج مع أصحابه من بني شيبان وغلب على حد كسكران المدائن فبعث الحجاج إليه ألف فارس فهزمهم فبعث إليه ألفين فهزمهم. وكان لا يزال يزيد في العساكر يبعثهم إليه وهو يهزمهم حتى هزم عشرين جيشا من عساكره في مدة سنتين. ثم هجم على الكوفة بالليل مع ألف فارس من الخوارج وكانت معه أمه غزالة وامرأته جهيزة مع مائة وخمسين امرأة فتقلدن السيوف واعتقلن الرماح، فقتل حراس الكوفة وأمر أمه حتى صعدت المنبر وخطبت. فقال خزيمة بن فاتك الأسدي في وصف تلك الحالة:

(أقامت غزالة سوق الضرار ** لأهل العراقين حولا قميطا)

(سمت للعراقين في جندها ** فلاقى العراقان منها أطيطا)

وصبر الحجاج تلك الليلة في داره حتى اجتمع جنده لوقت الصبح وصلى في مسجد الكوفة صلاة الصبح بجنده وقرأ في الصلاة سورة البقرة وآل عمران، فقصده الحجاج بأربعة آلاف فارس والتحم القتال بينهما في سوق الكوفة حتى قتل أكثر أصحاب شبيب وفر مع من بقي من أصحابه وانحاز إلى ناحية الأنبار، وخرج الحجاج على أثره فانهزم إلى ناحية الأهواز، فبعث الحجاج على أثره سفيان بن الأبرد مع ثلاثة آلاف من المقاتلة فلحقوه [إلى] موضع يقال له دجيل، فقصد شبيب أن يعبر جسر دجيل فأمر سفيان قومه أن يقطعوا حبال الجسر ففعلوا فانقلب الجسر وغرق شبيب وهو يقول {ذلك تقدير العزيز العليم} ثم أمر سفيان بإعادة الجسر وعبره وقصد من بقي من أصحابه، وكانوا قد بايعوا أم شبيب فلم يزل بهم حتى قتل أكثرهم وقتل أم شبيب وأمر الغواصين حتى أخرجوا شبيبا من الماء وبعث برأسه وبمن كان قد أسر من أصحابه إلى الحجاج. قال بعض أولئك الأسراء: اسمع مني ببيتين أختم بهما عملي وأنشأ يقول:

(أبرأ إلى الله من عمرو وشيعته ** ومن علي ومن أصحاب صفين)

(ومن معاوية الطاغي وشيعته ** لا بارك الله في القوم الملاعين)

فأمر الحجاج بقتله وقتل جماعة من أولئك الأسراء.

هذه جملة فرق الخوارج، وبلغ ما ليس بمتداخل من أقاويلهم عشرين مقالة، فهم إذا عشرون فرقة كما سطرناه في أول الكتاب. ومن عجائب حال الخوارج أنهم خرجوا على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقالوا لم خرجت من بيتها والله تعالى يقول: {وقرن في بيوتكن} ثم صاروا تبعا لغوالة وجهيزة وجوزوا إمامتهما، فهلا تلوا هذه الآية عليهما ومنعوهما من الفتنة، غير أن الخذلان لا قياس عليه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الباب الخامس في تفصيل مقالات المعتزلة القدرية وبيان فضائحهم

قد بينا قبل أنهم ينقسمون إلى عشرين فرقة.

فمما اتفق عليه جميعهم من مساوئ فضائحهم نفيهم صفات الباري جل جلاله حتى قالوا إنه ليس له سبحانه علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا بقاء وأنه لم يكن له في الأزل كلام ولا إرادة ولم يكن له في الأزل اسم ولا صفة لأن الصفة عندهم هو وصف الواصف ولم يكن في الأزل واصف والاسم عندهم التسمية ولم يكن في الأزل مسمى اذ لم يكن له كلام في الأزل عندهم، وهذا يوجب أن لا يكون لمعبودهم اسم ولا صفة. هذا قولهم في صانع العالم وبديهة العقل تقتضي فساده لإحاطة العلم باستحالة كون من لا علم له ولا قدرة له ولا سمع له ولا بصر له صانعا للعالم ومدبرا للخليقة.

ومما اتفق جميعهم غير الصالحي من فضائحهم قولهم إن المعدوم شيء حتى قالوا إن الجوهر قبل وجوده جوهر والعرض عرض والسواد سواد والبياض بياض، ويقولون إن هذه الصفات كلها متحققة قبل الوجود وإذا وجد لم يزدد في صفاته شيء بل هو الجوهر والعرض والسواد في حال الوجود على حقائقها المتحققة في حال العدم. وهذا منهم تصريح بقدم العالم ومن كان قوله في الصانع على ما وصفناه وفي الصفة على ما ذكرناه لم يبق له اعتقاد صحيح ولم يكن دعواه في التلبس بالديانة إلا تلبيسا منه على أهل الديانة ليسلم من سيوف المسلمين المسلطة عليهم إلى يوم القيامة.

ومما اتفقوا عليه من فضائحهم قولهم إن الله تعالى لا يرى وأنه لا يرى نفسه. وقال كثير منهم إنه لا يرى شيئا ولا يبصر بحال. وليس معبودهم على هذا القول إلا كما نهى إبراهيم الخليل عليه السلام أباه عن عبادته حين قال: {إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا}

ومما اتفقوا عليه من فضائحهم قولهم إن كلام الله تعالى مخلوق له يخلق لنفسه كلاما في جسم من الأجسام فيكون فيه متكلما وأنه لم يكن متكلما قبل أن خلق لنفسه كلاما. ليت شعري كيف يكون كلام المتكلم مسموعا من غيره، ولو كان الأمر على ما قالوه لكان الأمر والنهي والشرع لذلك الجسم الذي خلق فيه الكلام، وذلك خلاف قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وزعموا أن الكلام هو المكتوب في الصحف والمقروء بالألسنة غير الكلام الذي نزل به جبريل على المصطفى عليهما الصلاة والسلام، بل كان ذلك عرضا معلوما وهذا الذي يتلى ويكتب عرض آخر وجد. وهذا خلاف قول الأمة قبلهم.

ومما اتفقوا عليه قولهم إن أفعال العباد مخلوقة لهم كل واحد منهم ومن جملة الحيوانات كالبقة والبعوض والنملة والنحلة والدودة والسمكة خالق خلق أفعاله، وليس الباري خالقا لأفعالهم ولا قادرا على شيء من أعمالهم وأنه قط لا يقدر على شيء مما يفعله الحيوانات كلها، ففعل الذباب والبقة والجرادة أفعال هي خالقة لها وليس الباري سبحانه قادرا عليها. فأثبتوا خالقين لا يحصون ولا يحصرون حتى أن مذبة لو تحركت على دن من الخل تطاير عنها أكثر من ألف خالق أو قريب منها. وقد فارقوا بهذه المقالة لسان الأمة، فإن الأمة كلهم قبلهم كانوا يقولون لا خالق إلا الله كما يقولون لا إله إلا الله، وخالفوا بهذا أيضا قوله سبحانه وتعالى: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} وقوله تعالى: {فأروني ماذا خلق الذين من دونه} فلو كان لغيره خلق على الحقيقة لبطل تحقيق هذه المطالبة ولم يكن لهذا الإنكار عليهم حقيقة.

ومما قالوا إن أفعال الحيوانات خارجة من قدرة الله تعالى ولم يوجبوا تخصيصا في وصف كونه قادرا، فقد مهدوا بذلك طريق القول بالتثنية كما بيناه في الأوسط.

ومما اتفقوا عليه من فضائحهم قولهم إن حال الفاسق الملي منزلة بين منزلتين، لا هو مؤمن ولا هو كافر، وإنه إن خرج من الدنيا قبل أن يتوب يكون خالدا مخلدا في النار مع جملة الكفار ولا يجوز لله تعالى أن يغفر له أو يرحمه، ولو أنه رحمه وغفر له يخرج من الحكمة وسقط من منزلة الآلهية بغفران الشرك به، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. يرد قولهم هذا قوله الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} وقوله تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} وليت شعري كيف حجروا على الله في مقدوره وحظروا عليه التصرف في مطلق ملكه وكيف منعوه العفو فيما يثبت له في عبده من حقه.

ومما اتفقوا عليه من مساوئ مقالاتهم قولهم إن الله تعالى لم يرد أن يكون الزنا واللواط والقتل ومعصية العصاة وكفر الكافرين وجميع الفواحش قبيحة مذمومة. وهذا يوجب أن تكون جميعها مرضية حسنة أو يكون عن جميعها غافلا ساهيا، وهذا خلاف قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن كان عليما حكيما} وخلاف قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} وخلاف ما اتفق عليه العقلاء من أن من لم يرد أن يكون القبيح قبيحا والمذموم مذموما ولم يرد أن يكون كفر الكافرين ومعصية العصاة وظلم الظالمين وزنا الزناة مذمومة غير مرضية كان في السفه والجًا وعن حكم الحكمة خارجا.

ومما اتفقوا عليه من فضائحهم قولهم إن كثيرا من الأشياء تجب على العبد من غير أن يكون من أمر الله تعالى فيه أمر، مثل النظر والاستدلال وشكر المنعم وترك الكفر والكفران، ثم يقولون إن هذا العبد إذا أتى بهذه الأشياء على قضية عقله دون أمر ربه سبحانه وجب على الله تعالى أن يثيبه من غير أن يكون من قبله فيه أمر أو خبر أو وعد أو وعيد أو تكليف، ثم إذا أتى به وجب على العبد شكره فإذا شكره وجب على الله ثوابه، وهكذا يدور الأمر بين العبد والرب. وهذا يوجب أن لا يتمكن الرب على قولهم من أن يخرج الرب من واجبات العبد -تعالى الله عن قولهم- من غير أن يكون عليه تكليف أو شريعة مرتبة عليه، وعلى قياس هذا يكون كل واحد منهما مؤديا للواجب ولا يكون لأحدهما فضل على الآخر. وزادوا على هذا فقالوا إذا خلق الله شيئا من الجماد وجب عليه أن يخلق حيا وأن يتم عقله حتى يستدل ويعتبر ويستحق الثواب بأداء المستحق ومن قضى واجبا لم يستحق عليه شيئا كمن يقضي دينا لم يستحق على صاحبه فضلا على هذا، فقالوا إن كل ما يناله العبد من ربه من النعم فإنما يناله باستحقاق منه لا بفضل من الله تعالى. فاستنكفوا من أن يروا لله تعالى فضلا على أنفسهم وقالوا إن أسنى المنازل منزلة الاستحقاق.

ومما اتفقوا عليه من فضائحهم قولهم إن العبد لا يحصل له صفة الإيمان حتى يعلم جميع ما هو شرط في اعتقادهم ويبلغ في معرفته درجة علمائهم كأبي الهذيل والنظام وغيرهما ويقدر فيه على تقرير الدلالة ويتمكن من المناظرة والمجادلة، ومن لم يبلغ تلك الدرجة كان كافرا لا يحكم له بالإيمان. ولهذا حكموا بالكفر على جميع عوام المسلمين، ولذلك زعموا أن علماء مخالفيهم كفرة كلهم وكفر كل فريق منهم جميع فرقهم، وهذا يوجب أن لا يكون عند كل واحد منهم مؤمن سواه وأن يكون منفردا بدخول الجنة، مع ما ورد من الأخبار في كثرة أهل الجنة. ولأجل هذه المقالة قال علماء أهل الحق وأئمتهم إن المعتزلي بالتقليد كافر بالإجماع.

ثم زادوا على هذا ما هو أفضح منه فأنكروا من مفاخر رسول الله ما كان مختصا به زائدا على الأنبياء، كوجود المعراج وثبوت الشفاعة له يوم القيامة ووجود حوض الكوثر وأنكروا ما ورد في هذه الأبواب من الآثار والأخبار. وأنكروا عذاب القبر أيضا، وأنكروا قول عمر إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر، مع اتفاق أهل النقل على روايته هذا الخبر على الاستقاضة وقول جميع المسلمين {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} وفي عذاب القبر قد بلغت الأخبار حد التواتر في المعنى وإن كان كل واحد منها لم يبلغ حد التواتر في اللفظ، فأنكروا ما في ذلك من نصوص القرآن كقوله تعالى في صفة آل فرعون {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}

واعلم أن ما ذكرناه من فضائحهم مما يعم جميعهم واتفقت عليه كلمتهم ونذكر بعد هذا ما اختص به كل واحد من فرقهم من المخازي والفضائح إن شاء الله عز وجل. وقد ذكرنا أنهم ينقسمون إلى عشرين فرقة.

الفرقة الأولى الواصلية

منهم الواصلية أتباع واصل بن عطاء الغزال. وهو رأس المعتزلة وأول من دعا الخلق إلى بدعتهم. وذلك أن معبدا الجهني وغيلان الدمشقي كانا يضمران بدعة القدرية ويخفيانها عن الناس، ولما أظهرا ذلك في أيام الصحابة لم يتابعهما عل ذلك أحد وصارا مهجورين بين الناس بذلك السبب إلى أيام الحسن البصري، وكان واصل في غرار من القولين يختلف إليه الناس وكان في السر يضمر اعتقاد معبد وغيلان وكان يقول بالقدر والمسلمون كانوا في فساق أهل الملة على قولين، فكانت الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة يقولون إنهم مؤمنون موحدون بما معهم من الاعتقاد الصحيح فاسقون عصاة بما يقدمون عليه من المعصية وأن أفعالهم بالأعضاء والجوارح لا تنافي إيمانا في قلوبهم، وكان الخوارج يقولون إنهم كفرة مخلدون في النار مع الكفار. فخالف واصل القولين وقال إن الفاسق لا مؤمن ولا كافر وأنه في منزلة بين المنزلتين وحكمهم في الآخرة أنهم مخلدون في النار مع الكفار وأن من خرج منهم من الدنيا قبل أن يتوب لم يجز لله تعالى أن يغفر له. فخالف في هذا القول جميع المسلمين واعتزل به دين المسلمين. فطرده الحسن البصري من مجلسه فاعتزل جانبا مع أتباعه، فسموا معتزلة لاعتزالهم مجلسه واعتزالهم قول المسلمين. ولما أظهر واصل هذه البدعة واعتزل جانبا وافقه عمرو بن عبيد على هذه البدعة ولم يقدرا على إظهار قولهما، فلما عرف الناس من واصل قوله بالقدر وكانوا يكفرونه بالقول الأول الذي ابتدعه في فساق أهل الملة كانوا يضربون به المثل ويقولون مع كفره قدري، فصار ذلك مثلا سائرا بين الناس يضربونه لكل من جمع بين خصلتين فاسدتين. وكان قوله موافقا لقول الخوارج في تخليد العصاة في النار مخالفا لهم في القول بمنزلة بين المنزلتين. والمعتزلة بعده تمسكوا بهذا القول. ولهذا قيل في المعتزلة إنهم مخانيث الخوارج. ونسبهم إسحاق بن سويد إلى الخوارج في شعره فقال:

(برئت من الخوارج لست منهم ** من الغزال منهم وابن باب)

(ومن قوم إذا ذكروا عليا ** يردون السلام على السحاب)

ثم أحدث واصل بدعة ثالثة، وذلك أن المسلمين كانوا في علي وأصحابه وفي أصحاب الجمل الذين كانت فيهم عائشة وطلحة والزبير على قولين، فكانت الخوارج تقول إن عائشة وطلحة والزبير كفروا بمقاتلتهم عليا وكان علي يومئذ على الحق ولكنه كفر بعد ذلك بالتحكيم، وكان الباقون من الأمة يقولون إن فريقي حرب الجمل كانوا مؤمنين مسلمين ولكن الحق كان مع علي رضي الله عنه والآخرون كانوا على خطإ اجتهاد لا يلزم به الكفر ولا الفسق ولا التبري والعداوة. ثم إن واصل بن عطاء خالف الفريقين وزعم أن فريقي حرب الجمل كانوا فساقا لا بعينه. ورتب على هذا فقال لو شهد عندي رجلان من هذا العسكر ورجل من ذلك العسكر لم أقبل. فقيل له: شهد من هذا العسكر علي والحسن والحسين وابن عباس وعمار بن ياسر رضي الله عنهم ومن ذلك العسكر عائشة وطلحة والزبير هل تقبل شهادتهم؟ فقال: لو شهدوا جميعهم على باقة بقل لم أقبل. هذا قول شيخ المعتزلة الذي به يفتخرون في أعلام الدين وأعيان الصحابة. وليس العجب من المعتزلة حين بايعوه وافتخروا به وبقوله، بل العجب من الروافض حين افتخروا بقوله وانتحلوا مذهبه وهذا قوله في علي وأصحابه، وكيف يوالون عليا وأولاده ويذهبون إلى مذهب هذا الشيخ الضال الذي يقول في علي وأولاده ما ذكرناه.

الفرقة الثانية العمرية

منهم العَمرية وهم أتباع عمرو بن عبيد مولى بني تميم وكان يوافق واصلا فيما ذكرنا من بدعته. وزاد عليه أن قال كلا الفريقين من أصحاب حرب الجمل فسقوا وهو خالدون مخلدون في النار. وهؤلاء لا يقبلون شهادة واحد من فريقي حرب الجمل.

الفرقة الثالثة الهذلية

منهم الهذلية وهم أتباع أبي الهذيل محمد بن الهذيل المعروف بالعلاف. وكان من موالي عبد القيس وله فضائح كثيرة فيما أحدثه من البدع حتى كفر بتلك البدع جميع الأمة وكفر أيضا سائر المعتزلة. وصنف المردار من المعتزلة كتابا في تكفير أبي الهذيل وكذا الجبائي وذكرا في تصنيفهما أن قوله يؤدي إلى قول الدهرية.

فمن جملة فضائحه قوله بتناهي مقدورات الباري جل جلاله حتى إذا انتهت مقدوراته لا يقدر على شيء. قال: وإذا دخل ذلك الوقت فنى نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار حتى لا يقدر الباري سبحانه وتعالى عندهم على أن يزيد في نعيم أهل الجنة ذرة ولا أن يزيد في عذاب أهل النار ذرة وتفنى قدرة أهل الجنة حتى لو كان قد مد واحد من أهل الجنة يده إلى شيء من ثمارها ودخل تلك الحالة لم يقدر الباري تعالى أن يوصل تلك الثمرة إلى يده ولا على أن يقدر العبد على أن يوصل يده إليها وأهل الجنة كلهم يبقون همودا جمودا ساكنين لا يقدرون على حركة ولا على نطق وينقطع عذاب أهل النار في ذلك الوقت. وهذا قول منه يبطل الرغبة والرهبة ويهدم فائدة الوعد والوعيد. ولئن قصد بعض أصحابه أن يستر عليه هذه الفضيحة ويخفي هذه البدعة لم يمكنه لأنه ذكرها في تصانيف له مثل كتاب الحجج وغيره من الكتب التي صنفها على الدهرية وطرقها بهذه المقالة إلى تمهيد إلحاد الدهرية وطول لسانهم على المسلمين بإرتكابهم هذه البدعة.

ومن فضائحه قوله بطاعة لا يراد بها الله تعالى. وركب على هذه البدعة فقال: ليس في الدنيا زنديق ولا دهري إلا وهو قطب الله تعالى في كثير من الأشياء ولم يكن له قصد التقرب إلى الله عز وجل لأنه لا يعذبه.

ومن فضائحه بأن علم الباري هو هو وقدرته هي هو. ولو كان كما قاله لم يكن عالما ولا قادرا ولكن علمه قدرته وقدرته علمه، وكان لا يتحقق الفرق بينهما اذا كانا يرجعان إلى ذات واحدة.

ومن فضائحه قوله في أن كلام الله تعالى ما هو إلا عرض لا في محل. ولو جاز هذا لجاز أن يكون سائر الأعراض لا في محل ولكن ما لا محل له لا يكون متكلما به لا هو ولا غيره، ولا يمكنه أن يقول إن فاعل الكلام هو المتكلم به، لأن كلام أهل الجنة وأهل النار وجميع أفعالهم مخلوقة له تعالى في الآخرة فلا يمكنه أن يقول إنه متكلم بكلامهم. وله من الفضائح ما لا يحتمل هذا المختصر بيانه.

الفرقة الرابعة النظامية

فيهم النظامية أتباع أبي إسحاق إبراهيم بن سيار الذي كان يلقب بالنظام. والمعتزلة يقولون إنما سمي نظاما لأنه كان حسن الكلام في النظم والنثر، وليس كذلك وإنما سمي به لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ويبيعها. وكان في حداثة سنة يصحب الثنوية والسمنية الذين يقولون بتكافئ الأدلة، وفي حال كهوليته كان يصحب ملحدة الفلاسفة، وكان قد أخذ منهم قولهم بأن أجزاء الجزء لا تتناهى ولا يزال يمكن أن يفصل من الخردلة الواحدة شيئا بعد شيء ما لا ينتهي إلى جزء واحد لا جزء له. ولزمه على هذا قدم العالم، وهذا ركوب منه ما لا يقبله عقل أصلا، إذ لو كان يمكن أن يفصل من الخردلة من الأجزاء ما لا يتناهى وكان ممكنا ذلك في الجبل العظيم بطل الفرق بينهما. ولا يمكنه أن يعتذر عنه بأن الأجزاء المفصولة من الجبل تكون أعظم من المفصولة من الخردلة لان الخردلة إذا كان يمكن أن يفصل عنها ما لا يتناهى فلا يزال يفصل منها ويجمع حتى يتركب ويتراكم ويصير مثل الجبل وأضعافه. وكلمه أبو الهذيل في هذه المسألة فقال لو كان كل جزء من الجسم لا نهاية له لكانت النملة إذا دبت على البقلة لا تنتهي إلى طرفها فقال إنها تطفر بعضا وتقطع بعضا. وهذا منه كلام لا يقبله عقول العقلاء لأن ما لا يتناهى كيف يمكن قطعه بالطفرة. فصار قوله هذا مثلا سائرا يضرب لكل من تكلم بكلام لا تحقيق له ولا يتقرر في العقل معناه.

ومن فضائحه قوله يجب على الله تعالى أن يفعل بالعبد ما فيه صلاح العبد لأنه لو لم يفعل به ما فيه صلاحه لكان قد بخل عليه. وركب على هذا فقال كل ما فعله الله بالكفار فهو صلاحهم ولم يكن في مقدوره أصلح مما فعل. وقد بينا نحن أن الوجوب على الله تعالى محال، وكل عاقل يعلم أن الكافر لا صلاح له في كفره ولا ما يحل به من تبعات فعله. فعلى هذا يجب أن يكون حجة الله منقطعة حتى لا يكون له على عبيده حجة. ويصور ذلك في ثلاثة ولدوا دفعة واحدة بطنا واحدا فأمات الله أحدهم في حال الطفولية وبلغ منهم اثنان فكفر أحدهما وآمن آخر فيدخل الله يوم القيامة في الجنة من مات في حال الطفولية ولا يبلغه منها الدرجة العظيمة ويدخل الذي آمن الجنة ويعطيه الدرجة العظيمة ويدخل الذي كفر النار فيقول الطفل الذي مات في صغره لم لم تبلغني درجة الذي آمن بعد البلوغ فيقول له لأنه آمن وأنت لم تؤمن فيقول الذي مات طفلا هلا بلغتني حال البلوغ حتى كنت أؤمن بك كما آمن هو فيقول الله تعالى له لم أبلغك حال البلوغ لأني علمت أنك لو بقيت لكفرت فاخترمتك قبل البلوغ لأن صلاحك كان فيه حتى سلمت من النار فإذا سمع الذي في النار هذا الكلام يقول فلم لم تخترمني قبل البلوغ حتى كنت أسلم من النار وكان يكون فيه صلاحي, فنعوذ بالله من مذهب يؤدي إلى مثل هذه الرذيلة.

ومن فضائحه قوله في القرآن إنه لا معجزة في نظمه. وكان ينكر سائر المعجزات مثل انشقاق القمر وإن كان قد نطق به القرآن في قوله: {اقتربت الساعة وانشق القمر} وكذلك كان ينكر تسبيح الحصى في يده ونبوع الماء من بين أصابعه. وكان في الباطن يميل إلى مذهب البراهمة الذين ينكرون جميع الأنبياء، فتكلم بهذين المذهبين اللذين يبطل أحدهما حدوث العالم والآخر يبطل ثبوت النبوة. وكان لا يقدر على إظهار ما كان يضمره من الإلحاد. وكان لا يعجبه أن يقبل كلف العبادات. وكان يقول إن الإجماع ليس بحجة والخبر المتواتر ليس بحجة. وكان يرد على الصحابة جميع ما تكلموا فيه واتفقوا عليه. وكان سيرته الفسق والفجور. فلا جرم كان عاقبته أنه مات سكران وكان قد قال صفة حاله:

(ما زلت آخذ روح الزق في لطف ** وأستبيح دما من غير مذبوح)

(حتى انتشبت ولي روحان في بدن ** والزق مطرح جسم بلا روح)

وكان آخر كلامه وما ختم به عمره أنه كان يده في القدح وهو على علية فأنشأ يقول:

(اشرب على طرب وقل لمهدد ** هون عليك يكون ما هو كائن)

فلما تكلم بهذا الكلام سقط من تلك العلية ومات باذن الله تعالى. وفرق الإسلام كلهم يكفرونه وأسلاف المعتزلة أيضا يكفرونه. وكفره أبو الهذيل في كتاب الأعراض. وصنف الإسكافي منهم كتابا في تكفيره وصنف جعفر بن حرب أيضا في تكفيره. فمن وقف من حاله على هذا القدر الذي وصفناه استغنى به عن ذكر سائر فضائحه. ونسأل الله تعالى العصمة من كل بدعة.

الفرقة الخامسة الأسوارية

منهم الأسوارية وهم أتباع على الأسواري. وكان من أتباع النظام موافقا له في جميع ما ذكرناه من فضائحه وضلالاته، وزاد عليه بأن قال إن ما علم الله تعالى أن لا يكون لم يكن مقدورا لله تعالى. وهذا القول منه يوجب أن تكون قدرة الله تعالى متناهية، ومن كان قدرته متناهية كان ذاته متناهية، والقول به كفر من قائله.

الفرقة السادسة المعمرية

منهم المعمرية أتباع معمر بن عباد. وكان رأسا من رؤوس الضلال والإلحاد وكان يقول إن الله تعالى لم يخلق من الأعراض من لون أو كون أو طعم أو رائحة أو حياة أو موت أو سمع أو بصر وأنه لم يخلق شيئا من صفات الأجسام. وهذا خلاف قوله تعالى: {قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} وخلاف قوله تعالى في صفة نفسه {له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير}. وكان يقول هذا الملحد إن الله تعالى خلق الأجسام بفعل الأعراض بطبائعها، فقوله يوجب أن لا يكون لله تعالى كلام ولا نهي لأنه لا يقول كلام الله تعالى أزلي كما يقول أهل السنة ولا يقول إنه مخلوق لله تعالى لأن عنده إنه لم يخلق الأجسام وأنه لم يخلق ما ليس بجسم.

ومن بدعه أنه كان يقول ليس الأنسان الصورة التي شاهدناها وإنما هو شيء في هذه الصورة عالم قادر مختار يدبر التدبير لا متحرك ولا ساكن ولا متلون ولا مرئي ولا مدرك بالذوق والشم ولا بشيء من الحواس وأنه ليس في مكان دون مكان. ولم يذكر هذا إلا من يصف الإنسان بصفات خالقه ومن لا يطلق عليه ما لا يطلقه على خالقه. ويلزم على هذا القول أن لا يكون في الدنيا من رأى انسانا قط، وهذا يوجب أن يقال إن الصحابة لم يروا رسول الله وأن أحدا لم ير نفسه ولا أباه ولا أمه ولا رآه غيره. ومن كان هذه مقالته لم يكن معدودا في جملة العقلاء. وأعجب من ذهابه إلى هذه المذاهب الفاحشة افتخار الكعبي به في كتابه وإثباته إياه في مشايخ المعتزلة ومثله لا يفتخر به إلا مثله، وكل طير يقع مع شكله، وقد وهبناه له ولأمثاله كما قال الشاعر:

(هل مشتر والسعيد بايعه ** هل بائع والسعيد من وهبا)

الفرقة السابعة البشرية

منهم البشرية وهم أتباع بشر بن المعتمر. ومن فضائحه قوله في باب التولد إن الإنسان يخلق اللون والطعم والرائحة والسمع والبصر وجميع الإدراكات على سبيل التولد وكذلك يخلق الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وهو في هذا القول مخالف لإجماع المسلمين لأن أهل السنة لا يقولون بالتولد أصلا والمعتزلة الذين يقولون بالتولد لا يفرطون فيه ولا يقولون بالتولد إلا في الحركات والاعتمادات، فهذه له بدعة زائدة على بدعهم.

ومن ضلالة قوله أن حركة الجسم في المكان الأول في مكان ثان ولا واسطة بينهما ، وإذا لم يكن بين المكانين واسطة لم يكن هذا الكلام الذي يقول معقولا ولم يكن له حقيقة بحال. ومن ضلالته قوله إن الله إذا غفر ذنوب عبد من عباده ثم رجع العبد إلى ذنب عذبه على هذا الذنب الثاني وعلى ما تقدم من ذنوبه التي غفرها له ، قيل له فما تقول في كافر تاب عن كفره ثم شرب الخمر ثم يموت قبل أن يتوب من شرب الخمر فقال يعاقب على شرب الخمر وعلى كفره الذي كان من قبل، فقيل له أتوجب أن يكون من شرب الخمر من المسلمين يناله في العاقبة ما ينال الكفار من العقوبة قال هذا قول[ي]. وهذا منه قول بخلاف إجماع المسلمين، لأن المعتزلة وإن قالوا بمنزلة بين المنزلتين وأن الفاسق يخلد في النار فإنهم لا يقولون إنه يعاقب في النار على ما تاب منه من الذنوب والأفعال.

الفرقة الثامنة الهشامية

منهم الهشامية أتباع هشام بن عمرو الفوطي. وكان من جملة القدرية وزاد عليهم في بدع كثيرة. منها قوله إنه لا يجوز لواحد من المسلمين أن يقول {حسبنا الله ونعم الوكيل} فخرق بهذا القول إجماع المسلمين وزعم أنه لا يجوز أن يسمى وكيلا خلاف قوله تعالى: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} وخلاف قول النبي فيما ذكره من أسمائه سبحانه فإنه عد منها الوكيل. وهذا شيء وقع لهذا الجاهل لشدة غباوته وجهله بمواقع اللغة، فإن الوكيل في اللغة بمنزلة الكافي ويكون بمنزلة الحفيظ لقوله تعالى: {وما أنت عليهم بوكيل} أو حفيظ.

ومن بدعه قوله إن الله تعالى لم يؤلف بين قلوب المؤمنين ولم يضل الكافرين. فقد قال تعالى: {لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} وقال تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} وقال: {وما يضل به إلا الفاسقين}

واعلم أن عباد بن سليمان كان من أصحابه وزاد عليه بدعة فقال ما خلق الله سبحانه وتعالى كافرا قط، قال لأن الكافر يشتمل على ذاته وكفره، قال والله لا يخلق الكفر عندي. وقياس قوله يوجب أن لا يكون خالقا لمؤمن لأن إيمان المؤمن لا يكون مخلوقا عنده للباري تعالى. وقال أيضا إن الأعراض لا تدل على شيء، وركب عليه فقال إن إنشقاق القمر وفلق البحر وقلب العصا حية لا يدل على شيء من معجزاتهم.

ومن فضائح الفوطي وبدعه قوله إن الجنة والنار ليستا بمخلوقتين الآن وإن كل من قال إنهما مخلوقتان الآن فهو كافر. وهذا القول منه زيادة منه على ضلالة المعتزلة، لأن المعتزلة لا يكفرون من قال بوجودهما وإن كانوا ينكرون وجودهما الآن. وكل من أنكر كون النار مخلوقة يقال له يوم القيامة ما أخبر الله عنه وهو قوله: {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون}

ومن جهالاته قوله إن الجنة لا يكون فيها افتضاض إذ لا يكون هناك ألم. ولم يعرف هذا الأحمق أن القادر على أن يخلق الجنة ونعيمها وأن يزينها بالحور العين قادر على أن يحفظهم من الألم عند الملاقاة. وكان هذا المدبر يجوز قتل مخالفيه حيلة. ومن جوز هذا في المسلمين لم يتحاش المسلمون عن تجويزه فيه وفي أتباعه.

الفرقة التاسعة المردارية

هم المردارية أتباع أبي موسى المردار. وكان يقال له راهب المعتزلة، يشتغل بالترهب كما كان يشتغل به رهبان النصارى. وكان في الحقيقة مردارا أحق الله فيه حقيقة لقبه كما قال الشاعر:

(وقلّ ما أبصرت عيناك من رجل ** إلا ومعناه إن فكرت في لقبه)

وكان من أنواع ما ارتكبه من كفره قوله إن الناس قادرون على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وبما هو أفصح منه. وكان يقول إن كل من جالس السلاطين فهو كافر لا يرث المسلمين ولا يرثه المسلمون. والباقون من المعتزلة كانوا يقولون إن من جالس السلطان فهو فاسق لا مؤمن ولا كافر خالد مخلد في النار، وهذا خلاف قول المسلمين قبلهم وخلاف أصول أهل السنة. وكان يقول إن الله قادر على أن يظلم ويكذب ولو ظلم وكذب كان إلها ظالما كاذبا، وهذا القول لا يليق إلا بدينه الرقيق الذي ليس به تحقيق. وكان يقول كل من قال بجواز رؤية الباري سبحانه فهو كافر ومن شك في كفره فهو كافر ومن شك في كفر من شك في كفره فهو كافر لا إلى غاية. وكل من أطلق مثل هذه المقالة فهو مخذول لا شك في كفره.

الفرقة العاشرة الجعفرية

منهم الجعفرية وهم أتباع جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب. وهما كانا أصلين في الجهالة والضلالة. كان جعفر بن مبشر يقول فساق هذه الأمة شر من اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة مع قوله بأنهم موحدون في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، وكيف يعقل قول القائل إن الموحد شر من المشرك ومن كان هذا قوله كان حقيقا بأن يقال بأنه شر من جميع الكفرة. وكان يقول في الفروع إن رجلا لو كان يخطب امرأة واجتمعا للعقد بينهما فوثب عليها وأطاعته فألم بها إن المرأة لا حد عليها والرجل يجب عليه الحد، وقوله في المرأة خلاف إجماع المسلمين. وكان جعفر بن حرب على ضلالة أستاذه المردار، وزاد عليه بأن قال إن بعضا من الجملة يكون غير الجملة، وهذا يوجب أن تكون الجملة غير نفسها لأن كل بعض منها عنده غيرها. وكان يقول إن الممنوع من الفعل قادر على الفعل ولكنه لا يتمكن من الفعل، ولو جاز مثل هذا لجاز أن يقال إن العالم بالشيء عالم به ولكنه لا يعرف شيئا. وهذا متناقض في نفسه.

الفرقة الحادية عشر الإسكافية

منهم الإسكافية وهم أتباع محمد بن عبد الله الإسكافي الذي اقتدى في ضلالة القدرية بجعفر بن حرب وكان أستاذه ثم زاد عليه فقال إن الله تعالى قادر على ظلم الأطفال والمجانين وليس بقادر على ظلم العقلاء البالغين ومن خرافاته أنه يقول إن الله تعالى كلم عبده ولا يجوز أن يقال متكلم فكيف يجوز أن يكون مكلما ولا يجوز أن يكون متكلما فان منعه لأجل رواية لزمه أن يمنع كونه منكرا وقد ورد به القرآن والسنة.

الفرقة الثانية عشرة الثمامية

منهم الثمامية أتباع أبي معن ثمامة بن أشرس النميري. وكان من مواليهم لا من نسبهم، وكان زعيم القدرية في أيام المأمون والمعتصم والواثق، وزاد على أسلافه من ملاعين المعتزلة شيئين:

أحدهما قوله بأن المعارف ضرورية كما تقوله الجاحظية. وكان يقول إن من لم يعرف الله سبحانه وتعالى ضرورة ليس عليه أمر ولا نهي وأن الله خلقه للسخرة والاعتبار لا للتكليف في جنة ولا نار وأن الله يجعلهم في الآخرة ترابا، وكذلك كان يقول فيمن مات في حال الطفولية.

وبدعته الثانية أنه كان يقول إن الأفعال المتولدة لا فاعل لها، وهذا يؤدي إلى القول بنفي الصانع إذ لو جاز أن يكون فعل بلا فاعل لجاز أن يكون كل فعل بلا فاعل كما لو جاز أن تكون كتابة بلا كاتب جاز أن تكون كل كتابة بلا كاتب. وكان يقول إن دار الإسلام دار شرك لغلبة من يخالفه في بدعته في دار الإسلام. وكان يقول لا يجوز سبي النساء من دار الكفر وأن من سبى امراة ثم ألم بها فهو زان وأن ولده ولد الزنا. هذا منه إقرار بأنه من ولد الزنا لأنه كان من أولاد السبايا.

واعلم أن هذا المبتدع كان يظهر البدعة وكان في الحقيقة ملحدا ولكنه كان يستر إلحاده بما كان يظهر من موافقة أهل البدع. ثم كان يتغلب إلحاده الشيء بعد الشيء في الأحايين كما ذكره عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتاب مختلف الحديث أن ثمامة رأى يوما ناسا يسارعون إلى صلاة الجمعة مخافة أن تفوتهم الصلاة فأقبل على عبد كان معه وقال انظر إلى هؤلاء الحمير ماذا فعل بهم ذلك العربي، وكان يريد النبي . وذكر الجاحظ في كتاب المضاحك أن المأمون الخليفة كان قد ركب يوما فرأى ثمامة وهو سكران قد وقع في الوحل فقال له: أنت ثمامة؟ فقال: إي والله، فقال له: ألا تستحي؟ فقال: لا والله، فقال: عليك لعنة الله، فقال: تترى ثم تترى.

وأورد الجاحظ في كتابه من نوادر إلحاده أن غلام ثمامة قال له: قم فصل، فتغافل عنه، فقال له ثانيا: قم فصل فتخلص، فقال: أما أنا فقد تخلصت إن تركنتني أنت.

وكان من شدة عداوته لأهل السنة أنه أغرى الواثق بأحمد بن نصر المروزي السني الخزاعي لأجل أنه كان يطعن على القدرية ووافقه ابن الزيات وابن أبي دؤاد لما قتله ندم على قتله وعاتبهم على ذلك، فقال ابن الزيات تطييبا لقلب الواثق إن لم يكن قتله صوابا فقتلني الله بين الماء والنار. وقال ابن أبي دؤاد حبسني الله في جلدي إن لم يكن قتله صوابا. وقال ثمامة سلط الله علي السيوف إن لم يكن قتله صوابا. فاستجاب الله دعواتهم. فأما ابن الزيات فإنه لما دخل الحمام خسف به الأرض ووقع في الأتون وهلك فيه بين الماء والنار. وأما ابن أبي دؤاد فأصابه الفالج فبقي في جلده حبوسا إلى أن مات. وأما ثمامة فرآه بنو خزاعة بمكة وقالوا هذا الذي سعى في دم عالمنا أحمد بن نصر ثم أحاطوا به وتبادروا بالسيف فقتلوه ثم أخرجوا جيفته من الحرم حتى أكلته السباع. هذه كانت عاقبته في الدنيا. وسيناله شؤم بدعته في الآخرة كما يستحقه.

الفرقة الثالثة عشرة الجاحظية

منهم الجاحظية وهم أتباع عمرو بن بحر الجاحظ. فقد اغتر أصحابه بحسن بيانه في تصانيفه، ولو عرفوا ضلالته وما أحدثه في الدين من بدعه وجهالاته لكانوا يستغفرون عن مدحه ويستنكفون عن الانتساب إلى مثله.

فمن جهالاته المعروفة قوله إن المعارف كلها طباع وأن كل من عرف شيئا فإنما يعرفه بطبعه لا بأن يتعلمه ولا بأن يخلق الله تعالى له علما به.

ومن جهالاته قوله إن العباد لا يفعلون إلا الإرادة فقط لا فعل لهم سواها.

ومن بدعه قوله لا يبلغ أحد من الناس إلا وهو عالم بالله تعالى. وهذا يوجب أن يكون جميع المنكرين لله تعالى عارفين به وهذا خلاف المعقول والشرع.

وأما قوله إن العبد لا يفعل إلا الإرادة فيجب أن لا يكون العبد فعل صلاة ولا حجا وأن لا يكون قد فعل من موجبات الحدود مثل السرقة والزنا شيئا.

وأما قوله إن المعارف ضرورية فإنه يوجب أن لا يكون ثواب ولا عقاب على أفعاله الموجودة منه وهذا خلاف قول المسلمين. وإنما صنف كتاب طبائع الحيوان لتمهيد هذه البدعة الشنعاء، أراد أن يقرر في نفوس من يطالعه هذه البدعة ويزينها في عينه فيغتر بحسن ألفاظه المبتذلة فيها ويظن أنه إنما جمعه لنشر نوع من العلم ولا يعلم أنه إنما قصد به التمهيد لبدعته حتى إذا ألفه واستأنس به واعتقد مقتضاه انسلخ به عن دينه.

وقد ركب الجاحظ على قوله هذا قولا هو شر من هذا فقال إن الله تعالى لا يدخل أحدا النار ولكن النار بطبعها تجذب إلى نفسها أهلها ثم تمسكهم في جوفها خالدا مخلدا، وهذا يوجب أن يقال في الجنة مثل هذا فقال إنها تجذب أهلها إلى نفسها بطبعها فيبطل به الرغبة والرهبة والثواب والعقاب من الله تعالى حيث يقول {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}

واعلم أن الكعبي عده من مشايخ المعتزلة وافتخر بتصانيفه وزعم أنه عربي من بني كنانة ولو كان كما قاله لما صنف كتابا في مفاخر القحطانية على العدنانية والكنانية، وما كان يجمع فيه ما هجا به القحطانية العدنانية وكان لا يستجيز إنشادها فإن من كان ابن رشدة لا يرضى بهجاء أبيه، ولو كان عربيا لما صنف كتابه في فضل الموالي على العرب.

وأما تصانيفه فمن تعرف ما فيها وتأمل معانيها ومقاصده فيها علم أنه لا يشتغل بتصنيف أمثالها إلا من لا خلاق له ولا مروءة، فإن أعلى تصانيفه كتاب طبائع الحيوان وقد بينا مقصوده فيه وذلك من شر المقاصد وكيف ما كان، وقد سرق أصوله من كتاب أرسطاطاليس ومن كتاب المدايني الذي صنفه في منافع أصناف الحيوان ولم يورد فيه شيئا من كيسه ولا من ذات نفسه إلا أبياتا ضمها إليها قالتها العرب في معانيها زين بها حشو كتابه وأودعه مناظرة الكلب والديك والكلب والهرة والكلب والذئب وما أشبه ذلك. والعاقل لا يضيع وقته بمثله فإن شغل الوقت بأمثاله نوع من المقت.

ومن كتبه كتاب حيل اللصوص، فيه الحيل التي يتوصلون بها إلى الفساد، يمدحهم بالشطارة ويزعم أنها من مروءتهم ويمدحهم باختيارهم الغلمان على النسوان وبأنهم يلعبون بالنرد والشطرنج ويحثهم على القمار ويزعم أنه من المروءة ومن الآداب المرضية. ومن عد الدعارة والشطارة من المروءة وزينها وحث عليها فقد خالف الشريعة والمروءة، لأن المسلمين أطبقوا على أن من كانت هذه طريقته كان مذموما في الشريعة والمروءة.

ومن كتبه ما صنفه في غش الصناعات أفسد بذلك على المفسدين أموالهم وحث بذلك الناس على الغش والخيانة.

ومن كتبه ما صنفه في وصف الكلاب والقحاب والمغنين وحيل الماكرين. ولا يفتخر بمثل هذه الكتب إلا من كان مثله لا خلاق له في دين ولا مروءة.

وكان مع هذه البدع الفاحشة الوحشة كريه المنظر حتى قال في وصفه الشاعر:

(لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ** ما كان إلا دون قبح الجاحظ)

(شخص ينوب عن الجحيم بنفسه ** وهو القذى في كل طرف لاحظ)

الفرقة الرابعة عشرة الشحامية

الشحامية أتباع أبي يعقوب بن الشحام أستاذ الجبائي في ضلالة القدرية. وجوز هو والعلاف مقدورا بين قادرين كما قاله أهل السنة ولكنهم جوزوا انفراد كل واحد منهما بخلقه بخلاف أهل السنة وخلاف قول أهل القدر.

الفرقة الخامسة عشرة الخياطية

منهم الخياطية أتباع أبي الحسين الخياط أستاذ الكعبي في ضلالته، فقد أفرط في قوله في صفة المعدوم حتى زاد فيه على جميع القدرية فوصف المعدوم بأنه جسم فيلزمه أن يجوز كون المعدوم رجلا راكبا جملا وبيده سيف مسلط عليه يصول عليه ويلقنه مثل هذه البدع، ويفصح عنها وينشرها توقيا من صولته. وقد تبرأ منه صاحبه الكعبي بسبب هذه البدعة واستفظعها منه وقال: وإن القدرية وإن قالوا في المعدوم إنه شيء وجوهر وعرض وسواد وبياض فإنهم لا يقولون إنه جسم وأنه قابل للأعراض، وهذا القول منه يوجب كون الأجسام قديمة ويفضي به إلى نفي الصانع. وقد ضلله الكعبي بهذه المسألة وبانكاره أخبار الآحاد وقوله لا يحتج به في أحكام الشريعة. وكفى الكعبي فخرا أن يكون له مثل هذا الأستاذ الذي هو عنده ضال مبتدع، وذلك ذل له في الدنيا وله في الآخرة عذاب عظيم .

الفرقة السادسة عشرة الكعبية

منهم الكعبية أتباع عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي المعروف بأبي القاسم الكعبي. وكان يدعي في كل علم، ولم يكن خلص إلى خلاصة شيء من العلوم بل كان متحليا بطرف من كل شيء، كان يدعي فيه شيئا من العلوم. وخالف قدرية البصرة في أشياء.

منها قوله بأن الله تعالى لا يرى نفسه ولا يرى غيره.

ومنها قوله إن الله لا يسمع وكان يزعم أن معنى وصفه بأنه سميع بصير عالم بالمسموع وبالمرئي.

ومنها أنه كان يزعم أن الله تعالى لا إرادة له وأن علمه يغني عن إرادته لأن معلومه كان لا محالة قصده أو لم يقصده. وهذا القول منه يوجب نفي القدرة وكونه قادرا، إذ كان تقوله في نفس الإرادة على أن معلومه كائن لا محالة. وأيضا فإن الشاهد يقضي بخلاف مذهبه وذلك أن القادر منا قد يقدر على شيء باستطاعة عرفية ولا يكون مقدوره واقعا حتى يقصد فعله ويريده.

ومنها أنه كان يقول بإيجاب الأصلح للعبد على الله تعالى. والإيجاب على الله تعالى محال لاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئا.

الفرقة السابعة عشرة الجبائية

الجبائية أتباع أبي علي الجبائي. وهو الذي أغوى أهل خوزستان، وله من البدع الفاحشة ما لا يحصى.

منها أن شيخ أهل السنة أبا الحسن الأشعري رحمه الله تعالى سأله يوما عن حقيقة الطاعة فقال هي موافقة الإرادة، فقال له هذا يوجب أن يكون الله تعالى مطيعا لعبده إذا أعطاه مراده، فقال نعم يكون مطيعا. وخالف الإجماع بإطلاق هذا اللفظ لأن المسلمين أجمعوا قبله على أن من قال إن الباري سبحانه مطيع لعبده كان موصوفا بالكفر في عقده. ولو جاز أن يقال إنه لعبده مطيع لجاز أن يقال إنه لعبده خاضع وخاشع.

ومنها أنه كان يقول أن أسماء الباري تعالى يجوز أن تؤخذ قياسا ويجوز أن يشتق له من أفعاله اسما لم يرد به السمع ولم يأذن فيه الشرع. حتى قيل له: يجوز أن يسمى محبل النساء؟ قال: نعم. وهذه بدعة شنيعة فضيحة.

ومنها أنه كان يقول إن العرض الواحد يجوز أن يكون في محال كثيرة، وذلك أنه كان يقول إن الكلام يكتب في محل فيكون عرضا موجودا فيه ثم يكتب في محل ثان فيصير أيضا موجودا فيه من غير أن ينتقل من المحل الأول أو يعدم فيه.

ومنها أنه كان يقول إن الله تعالى ليس بقادر على أن يفني شيئا من أجسام العالم بانفراده ولكنه إن شاء أفنى العالم بفناء يخلقه لا في محل فيفني به جميع العالم. وهذا القول منه يوجب تخصيص قدرة الباري ببعض المقدورات. وفيه التنبيه على صحة التثنية ويجوز كون الفناء لا في محل فناء للقديم تخصيصا لما وجد لا في محل بما وجد لا في محل كما خصوا الإرادة الحادثة لا في محل بالقديم سبحانه لأنه لا في محل.

الفرقة الثامنة عشرة البهشمية

منهم البهشمية أتباع أبي هاشم بن الجبائي. وأكثر المعتزلة اليوم على مذهبه لأن ابن عباد كان يدعو إلى مذهبه. ويسمى أصحابه الذمية لتجويزه كون العبد مستحقا للعقاب لا على فعل فعله، وهذا يوجب أن المرء يكون عاصيا لا على معصية فعلها ويوجب أن يكون مطيعا لا على طاعة فعلها وكافرا لا لكفر كفره.

وكان أبو هاشم هذا يقول إن من تاب عن ذنب مع إصراره على ذنب آخر لا تصح توبته عما تاب. حتى أن يهوديا تاب عن كفره ولكنه منع حبة مثلا عن مستحق لم تصح توبته عن اليهودية. وهذا يوجب أن يؤخذ منه الجزية بعد ما أسلم وأن لا تحل ذبيحته ولا مناكحته إذا أسلم عن مجوسيته مع هذه الحالة. فهذا خلاف إجماع الأمة.

وكان يقول إن التوبة عن الذنب بعد عجز المذنب عن الذنب لا تقبل، حتى لو كذب ثم قطع لسانه قبل أن يتوب أو زنى ثم قطع فرجه قبل أن يتوب لم تصح توبته. وهذا يوجب أن يكون الظالم الذي ظلمه بقطع لسانه منع ربه عن قبول توبته.

وكان أبو هاشم هذا مع إفراطه في القول بالوعيد أفسق أهل زمانه حتى قال في صفته شاعر عن المرجئة:

(يعيب القول بالإرجاء حتى ** يرى بعض الرجاء من الجرائر)

(وأعظم من ذوي الإرجاء جرما ** وعيديٌّ أصر على الكبائر)

وكان من جهالته قوله بالأحوال حتى كان يقول إن العالم له حال يفارق به من ليس بعالم وللقادر حال به يفارق حال العالم. ثم كان يقول إن الحال ليست بموجودة ولا معدومة ولا مجهولة وإن العالم يعلم على حاله ولا يعلم حال العالم ولا حال القادر ولا يمكن الفرق بين حال العالم وبين حال القادر إذ لا يعلم حال واحد منهما. ومن لا يعلم من نفسه ما يقول كيف يقدر أن يعلمه غيره. واقتدى في ذلك بقول الباطنية حيث قالوا إن الصانع لا معدوم ولا موجود وما من ثابت إلا وهو في الحقيقة موجود إذ لا واسطة بين العدم والوجود ولو ثبت بينهما واسطة لجاز أن يخرج الشيء من العدم إلى الثبوت ثم من الثبوت إلى الوجود كما جاز أن يخرج من القيام إلى القعود ثم من القعود إلى الاضطجاع إذ كان القعود واسطة بين الطرفين.

ومن ضلالاته قوله إن الطهارة ليست بواجبة. وكان يقول تجوز الطهارة بماء مغصوب ولا تجوز الصلاة في أرض مغصوبة. وكان يفرق بينهما بأن الطهارة غير واجبة والصلاة واجبة. وهذا القول منه خلاف إجماع الأمة. ثم كان يستدل على أن الطهارة ليست بواجبة لجواز أن يطهر غيره وهو صحيح. ثم كان يرتب على هذا فيقول إن الوقوف بعرفة والسعي والطواف ليست بواجبة لأن مشي دابته في جميع ذلك ينوب عن مشيه. ويلزم على هذا أن يقول إن الزكوات والكفارات كلها ليست بواجبة لجواز أدائها بالوكلاء والنائبين. وهذا القول كفر منه خالف فيه جميع الأمة. [و] كان مع ارتكابه هذه البدع يكفر المعتزلة ويتبرأ منهم حتى كان يكفر أباه وتبرأ منه ولم يأخذ ميراثه بعد موته لتكفيره إياه وتبرئه منه. وكان سائر المعتزلة يكفرونه أيضا. وحالهم في هذا المعنى كما وصفه الله تعالى من حال الكفار حيث قال: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب}

ومما يكشف عن افتضاحهم في مذاهبهم وتبرئ بعضهم من بعض ما حكاه أصحاب المقالات من أن سبعة من رؤوس القدرية اجتمعوا في مجلس واحد وتناظروا في أن الله تعالى هل يقدر على ظلم وكذب يختص به فافترقوا من هذا المجلس وكل منهم كان يكفر الباقين. وذلك لأن النظام سئل في ذلك المجلس عنه فقال إنه ليس بقادر على ذلك إذ لو قدر عليه لم يأمن أن يقع منه ظلم أو كذب فيما مضى أو يقع ذلك في المستقبل أو وقع أو يقع ذلك في طرف من أطراف الأرض. فقال له علي الأسواري ينبغي على هذه العلة أن لا يقدر على خلاف المعلوم والمخبر عنه، فقال هو لازم فما تقول أنت، فقال الأسواري أنا أقول إنه لا يقدر على الظلم والكذب ولا يقدر على خلاف المعلوم، فقال له النظام هذا الذي تقول كفر وإلحاد. ثم قال له أبو الهذيل ما تقول في فرعون وفي كل من علم الله أنه لا يؤمن أو أخبر عنه أنه لا يؤمن إن قلت إنه لم يكن مقدورا لهم أن يؤمنوا لزمك تكليف ما لا يطاق وأنت لا تقول به وإن قلت إنه كان مقدورا لهم كان محالا لأنه يؤدي إلى أن يكون العبد قادرا على تجهيله وتكذيبه تعالى الله عن قولهم، فقالوا له هذا الجواب لازم فما تقول أنت فقال أنا أقول إنه قادر على أن يظلم ويكذب وقادر أيضا على خلاف المعلوم، فقال له أرأيتك لو ظلم وكذب فقال إنه محال منه، فقالوا له ما كان محالا لا يكون مقدورا، فتحير هؤلاء الثلاثة ولم يدروا كيف سبيل الجواب، فقال بشر بن المعتمر كل ما أنتم عليه فهو تخليط، فقالوا له: فأيش تقول أنت هل يقدر على أن يعذب طفلا ليس له ذنب؟ فقال يقدر، فقالوا فلو عذبه كيف حكمه؟ قال يكون الطفل عاقلا بالغا عاصيا مستحقا للعقاب ويكون الباري عادلا بتعذيبه، فقالوا له كيف يكون الطفل بالغا وكيف يكون من فعل الظلم عادلا به؟ فتحير فقال له المردار منهم أخذتم على أستاذي بشر شيئا منكرا مستفيضا ولكن يجوز أن يغلط الأستاذ، فقال له بشر فما تقول أنت؟ قال أقول إنه قادر على الظلم والكذب ولو وجد ذلك منه كان إلها ظالما كاذبا، فقالوا له ومن كان بهذه الصفة هل يكون مستحقا للشكر والعبادة أو يكون مذموما؟ فقال لا يكون مستحقا للشكر والعبادة، فقالوا ومن لا يكون مستحقا للشكر والعبادة لا يكون إلها، فتحير فقال زعيم من زعمائهم يقال له الأشج أنا أقول إنه قادر على أن يظلم ويكذب ولكنه إن ظلم وكذب كان عادلا صادقا، فقال الإسكافي كيف ينقلب الظلم عدلا والكذب صدقا؟ فتحير فقال له ما تقول أنت؟ فقال أنا أقول إن ظلم أو كذب لم تكن عقول العقلاء موجودة في تلك الحالة فلا يتوجه عليه المذمة والملامة لعدم وجود عقل عاقل ينكره عليه، فقال جعفر بن حرب كأنه يقول إنه قادر على ظلم المجانين ولا يقدر على ظلم العقلاء! فتحيروا وصاروا كلهم منقطعين متحيرين وكان كل واحد يعتقد أن أقوال الباقين كلها كفر.

فلما انتهت زعامتهم إلى الجبائي وابنه أبي هاشم قالا جميعا هذه مسألة لا يمكن أن يجاب عنها ورضيا بالجهل فيما يرجع إلى وصف الاعتقاد. ولو وافقهم التوفيق لتمسكوا بمذهب أهل الحق وتركوا التردد من باطل إلى باطل ولم يتمردوا فيه كما تمردوا في مسألة العالم، كانوا لا يزالون يترددون من باطل إلى باطل حتى انتهوا إلى القول بأحوال مجهولة واعترفوا بأنهم يهرفون بما لا يعرفون وينتحلون ما لا يعقلون. وكما تمردوا على باطلهم في مسألة الرؤية حتى انتهى بهم الكلام إلى أن قالوا إنه لا يسمع ولا يبصر ولا يرى نفسه ولا غيره كما حكيناه عن الكعبي وكما تمردوا في مسئلة خلق الأفعال حتى وصل بهم إلى أن قالوا بخالقين كثيرين زائدين على ألف ألف وزادوا في ذلك المجوس والثنوية من وجهين: أحدهما أن المجوس والثنوية قالوا بخالقين اثنين وهم بخالقين لا يحصرون. والثاني أن الثنوية والمجوس لم ينفوا كون الباري سبحانه خالقا، وهؤلاء الذين قالوا إن العبد يسمى خالقا والباري سبحانه لا يجوز أن يسمى خالقا، خالفوا به إجماع هذه الأمة.

وكما تمردوا في مسألة القرآن حتى أدى بهم القول إلى أن قالوا إنه يخلق كلاما في محل فيكون متكلما بما خلقه في ذلك المحل فلزمهم بذلك أن لا يكون هو آمرا ولا ناهيا وأن يكون الأمر والنهي لذلك المحل وأن لا يكون الله تعالى على عبده شرع ولا تكليف.

وكما تمردوا في مسئلة التعديل والتجوير أنه واجب عليه أن يخلق بعض مقدوراته وحرام عليه أن يفعل بعضها، فرتبوا عليه شريعة في الواجب والمحظور أعظم مما رتبه على عبيده لأنهم زعموا أنه لو خالف في شيء مما وجب عليه أو هو محظور عليه خرج من الحكمة وسقط به عن منزلة الإلهية، والعبد وأن خالف في شيء مما شرع له لم يسقط عن منزلة العبودية وأن توجه عليه نوع من العقوبة. ولو أنهم بدل ما تلبسوا به من العنت والتمرد راجعوا مذهب أهل الحق سلموا عن هذه البدع. غير أن التوفيق أعز من أن يناله أهل الشقاق والعصبية. وفضائحهم أفظع وأكثر من أن يمكن جمعها في مثل هذا الكتاب. وقد جمعنا في تفصيلها كتبا تشتمل على معظمها. وعاداتهم التنقل في أباطليهم وتكفير بعضهم لبعض في أقاويلهم. واعلم أن جميع ما ذكرناه من مقالاتهم الشنيعة ومذاهبهم الفظيعة لا يخفى على العاقل فسادها إذا صرف الهمة إلى تأملها.

ومن أفظع ما ينتحلونه نسبتهم التقدير إلى أنفسهم لا إلى صانعهم. وقد ورد في ذمهم أخبار كثيرة عن النبي أنه قال: لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا. وفي رواية: القدرية والمرجئة لعنتا على لسان سبعين نبيا. وقال وهب بن منبه: أنزل الله تعالى على رسله كتبا كثيرة أكثر من نيف وتسعين كتابا فقرأت منها ثمانين كتابا فوجدت في جميعها أن كل من جعل إلى نفسه أمرا أو شيئا من المشيئة فهو كافر بالله تعالى. وروى أن النبي : قال القدرية مجوس هذه الأمة. وإنما شبههم بالمجوس لأن المجوس ينسبون بعض التقدير إلى يزدان وبعضه إلى أهرمن وهو اسم الشيطان، فأثبتوا تقديرا في مقابلة تقدير الباري جل جلاله وقالوا بجواز حصول أحد التقديرين دون الآخر، فكذلك القدرية أثبتوا تقديرين أحدهما للرب تبارك وتعالى والآخر للعبد وجعلوا أحد التقديرين في مقابلة الأخر وجوزوا حصول أحد التقديرين دون الآخر وزعموا أن تقدير الرب يصير ممنوعا منه تقدير العبد، ثم زادوا على المجوس وذلك أن المجوس جعلوا في مقابلة تقديره تقديرا واحدا وهم جعلوا في مقابلة تقديره تقدير جميع الحيوانات من الآدمي وغير الآدمي حتى البقة والبعوضة والنملة والنحلة والسمكة والدودة وقالوا تقدير الدودة يحصل وتقدير القديم سبحانه لا يحصل فإن الدودة تمنعه بتقدير نفسها عن تقديره. وقد ورد الرد عليهم في كتاب الله سبحانه بأصرح ما يكون حيث قال : {إنا كل شيء خلقناه بقدر} ومن عرف معنى هذه الأية وما ورد في معانيها من السلف علم في الحقيقة أن القدري من يجعل لنفسه شيئا من القدر وينفيه عن ربه -تعالى الله عن قولهم- وتحقق له أنه ليس بقدري من أثبت القدرة لله ونفاها عن نفسه كما بينه الله تعالى في هذه الآية، وتقرر عنده أن من قال بالتسليم الكلي وفوض الأمر إلى الرب القوي فهو من أهل السنة والجماعة. فمن اعتقد أن شيئا من أفعاله لا يكون ظلما ولا باطلا وأنه لا اعتراض عليه في شيء مما يأتيه أو يذره ولا يقول كما يقول القدرية إن له أن يفعل كذا وليس له أن يفعل كذا وبنى عقائده على قوله تعالى: {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} لم يكن قدريا وكان من المقاتلة والخصومة بريا. وأي تسليم وبراءة من الخصومة أكبر من قول أهل السنة إن كل ما جرى على العبد من المعاصي فهو خلق من الله تعالى وهو عدل منه سبحانه ومعصية من العبد، وكل ما جرى من العبد من الطاعات فهو خلق من الله تعالى وهو من الله فضل، فهما من العبد طاعة ومعصية ومن الرب فضل وعدل.

وقد بين رسول الله في خبر جبريل عليه السلام أصل الكلام في القدر فقال في جواب جبريل عليه السلام: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره حلوه ومره من الله". فبين أن القدر كله من الله وأن لا قدر للعبد في شيء الأشياء. وكان سبب نزول قوله: إ}نا كل شيء خلقناه بقدر إن مشركي قريش جاؤوا إلى النبي وكانوا يخاصمونه في القدر فأنزل الله تعالى هذه الآية: {إن المجرمين في ضلال وسعر} إلى آخر السورة. وقال قوم من المفسرين إن وفد بني نجران وردوا على رسول الله فقالوا أما الآجال والأرزاق فبتقدير الله تعالى وأما أعمال العباد فليست بتقدير الله تعالى فأنزل الله تعالى: {إن المجرمين في ضلال وسعر} إلى آخر السورة. وروي عن عمرو بن زرارة أنه قال سمعت أبي يقول كنت جالسا عند رسول الله فقرأ : {إن المجرمين في ضلال وسعر} إلى آخر السورة ثم قال: إنما نزل هذا في ناس يكونون في آخر أمتي يكذبون بالقدر. وقيل لابن عباس إن قوما يتكلمون في القدر فقال نزل فيهم قوله تعالى: {ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر} إن مرضوا لا تعودوهم وإن ماتوا لا تصلوا على جنائزهم ولو أرى واحدا منهم لقلعت بهاتين الإصبعين عينيه. ولما نزل قوله تعالى}إنا كل شيء خلقناه بقدر} قيل لرسول الله : ففيم العمل؟ فقال رسول الله : «اعملوا فكل ميسر لم خلق له». قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله : إن الله قدر التقادير ودبر التدابير قبل أن خلق آدم عليه السلام بألفي عام. ولم يرد بها تخصيص هذه الأمة ولكنه أراد أن يقدر في نفوس السامعين أن التقادير كانت سابقة في المعلوم قبل خلق آدم عليه السلام. وروى أبو هريرة أن النبي قال: "الإيمان بالقدر يذهب الغم". وقال ابن عباس لما كثرت القدرية بالبصرة: خربت البصرة أو لفظ هذا معناه. وروي عن جماعة السلف الصالح أنهم قالوا إذا سلم عليك القدري فأجب كما تجيب اليهود وقل: وعليك. وقد بين الله تعالى الرد عليهم بأشفى بيان في قوله {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} فبين أن الأمور كلها بمشيئة الله تعالى وإرادته. وقد أورد أبو القاسم بن حبيب في تفسيره بإسناده أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سأله سائل عن القدر فقال: طريق دقيق لا تمش فيه، فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، فقال: بحر عميق لا تخض فيه، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، فقال: سر خفي لله لا تفشه، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر فقال علي رضي الله عنه: يا سائل إن الله تعالى خلقك كما شاء أو كما شئت؟ فقال: كما شاء، قال: إن الله تعالى يبعثك يوم القيامة كما شئت أو كما يشاء؟ فقال: كما يشاء، فقال: يا سائل لك مشيئة مع الله أو فوق مشيئته أو دون مشيئته فإن قلت مع مشيئته ادعيت الشركة معه وإن قلت دون مشيئته استغنيت عن مشيئته وإن قلت فوق مشيئته كانت مشيئتك غالبة على مشيئته، ثم قال ألست تسأل الله العافية؟ فقال نعم فقال فعن ماذا تسأله العافية أمن بلاء هو ابتلاك به أو من بلاء غيره ابتلاك به قال من بلاء ابتلاني به فقال ألست تقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال بلى قال تعرف تفسيرها فقال لا يا أمير المؤمنين علمني مما علمك الله فقال تفسيره إن العبد لا قدرة له على طاعة الله ولا على معصيته إلا بالله عز وجل يا سائل إن الله يسقم ويداوي منه الداء ومنه الدواء اعقل عن الله، فقال السائل عقلت فقال له ألا صرت مسلما قوموا إلى أخيكم المسلم وخذوا بيده، ثم قال علي لو وجدت رجلا من أهل القدر لأخذت بعنقه ولا أزال أضربه حتى أكسر عنقه فإنهم يهود هذه الأمة.

وقد قال الشافعي رحمه الله في هذا المعنى الذي إليه أشار أمير المؤمنين:

(ما شئتَ كان وإن لم أشا ** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن)

(خلقتَ العباد على ما علمت ** ففي العلم يجري الفتى والمسن)

(على ذا مننت وهذا خذلت ** وهذا أعنت وذا لم تعن)

(فمنهم شقي ومنهم سعيد ** ومنهم قبيح ومنهم حسن)

فقوله ففي العلم يجري الفتى والمسن رد على المعتزلة في جميع ما يوردونه من الشبه في التعديل والتجوير لأنهم وإن خالفوا في الإرادة لم يمكنهم الخلاف في العلم لاطباق الأمم على استحالة الخلاف في المعلوم.

وقد ورد في الأخبار إن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون فقال كيف أذهب وأنت تعلم أنه لا يؤمن فقال افعل ما تؤمر فإن في السماء اثني عشر ملكا يريدون أن يدركوا علم القدر ولم يدركوه. وإنما قاله على معنى أنهم كانوا يطلبون علم قوله ولا يدركون علم فعله يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.

وروي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله : "ينادي يوم القيامة مناد أين خصماء الله فيقوم القدرية ووجوههم سود وأعينهم زرق وأفواههم عوج يسيل منها اللعاب وهم يقولون تالله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا نتخذ دونك إلها". فقال ابن عباس صدقوا بالله فيما قالوا ولكن أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا ابن عباس قوله تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء إلا أنهم هم الكاذبون} ثم قال ثلاث مرات: إنهم القدرية.

واعلم أن الذين ذكرناهم من فرقهم يعدون في فرق الإسلام، وبقي منهم فريقان آخران لا يعدون من فرق الإسلام نذكرهم فيما بعد من الفرق الذين لا يعدون في فرق الإسلام إن شاء الله تعالى.

الباب السادس في تفصيل مقالات المرجئة وبيان فضائحهم

وجملة المرجئة ثلاث فرق يقولون بالإرجاء في الإيمان. غير أن فريقا منهم وافقوا القدرية في القول بالقدر مثل غيلان الدمشقي وأبي شمر المرجئ ومحمد بن شبيب البصري، وهؤلاء داخلون في قول النبي إن القدرية والمرجئة لعنتا على لسان سبعين نبيا. فيستحقون اللعن من وجهين من جهة القول بالإرجاء ومن جهة القول بالقدر. ووافق فريق منهم الجهمية في القول بالجبر فجمعوا بين دعوى الجبر والإرجاء. وانفرد فريق منهم بالإرجاء المحض لا يقولون بالجبر ولا بالقدر.

واعلم أن الإرجاء في اللغة هو التأخير وإنما سموا مرجئة لأنهم يؤخرون العمل من الإيمان على معنى أنهم يقولون لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر. وقولهم بالإرجاء خلاف قول المسلمين قبلهم. وهؤلاء افترقوا خمس فرق:

الفرقة الأولى اليونسية

اليونسية وهم أتباع يونس بن عون وكان يقول إن الإيمان في القلب وفي اللسان وحقيقته المعرفة بالله سبحانه والمحبة له والخضوع له والتصديق لرسله وكتبه. قال ومعرفتها في الجملة إيمان فكأن كل خصلة من خصال الإيمان ليس بإيمان ولا بعض إيمان وجملتها إيمان.

الفرقة الثانية الغسانية

منهم الغسانية وهم أتباع غسان المرجئ الذي كان يقول الإيمان إقرار بالله ومحبة لله تعالى وتعظيم له وهو يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان على خلاف ما قاله أبو حنيفة رحمه الله حيث قال لا يزيد ولا ينقص وكان يقول كل خصلة من خصال الإيمان بعض الإيمان بخلاف ما حكيناه عن اليونسية.

الفرقة الثالثة التومنية

منهم التومنية أصحاب أبي معاذ التومني الذي كان يقول الإيمان ما وقاك عن الكفر وإن الإيمان اسم يقع على خصال كثيرة كل من ترك خصلة منها كفر والخصلة الواحدة منها لا تسمى إيمانا ولا بعض إيمان. وكان يقول لو ترك فريضة مما تعد في الإيمان عنده يقال فيه فسق ولا يقال إنه فاسق. وكان يقول إن الفاسق على الإطلاق من ترك جميع خصال الإيمان وأنكرها كلها.

الفرقة الرابعة الثوبانية

منهم الثوبانية أصحاب أبي ثوبان المرجئ الذي كان يقول الإيمان إقرار ومعرفة بالله وبرسله وبكل شيء يقدر وجوده في العقل، فزاد هذا القائل القول بالواجبات العقلية بخلاف الفرق الباقية.

الفرقة الخامسة المريسية

منهم المريسية أصحاب بشر المريسي. ومرجئة بغداد من أتباعه وكان يتكلم بالفقه على مذهب أبي يوسف القاضي ولكنه خالفه بقوله إن القرآن مخلوق. وكان مهجورا من الفريقين وهو الذي ناظر الشافعي رضي الله عنه في أيامه.

هذه فرق المرجئة المحضة الذين يتبرؤون عن القول بالجبر والقدر.

الباب السابع في تفصيل مقالات النجارية وبيان فضائحهم

وهم أتباع الحسين بن محمد النجار. وهؤلاء يوافقون أهل السنة في بعض أصولهم مثل خلق الأفعال والاستطاعة والإرادة وأبواب الوعيد، ويوافقون القدرية في بعض الأصول مثل نفي الرؤية ونفي الحياة والقدرة ويقولون بحدوث الكلام. والقدرية يكفرونهم بسبب ما وافقوا فيه المعتزلة من المسائل. ومما أطبق عليه النجارية قولهم إن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وبالفرائض التي أجمع عليها المسلمون والخضوع لله والإقرار بجميع ذلك باللسان. وقالوا إن كل خصلة من خصال الإيمان تكون طاعة ولا تكون إيمانا وإن الإيمان يزيد ولا ينقص. ويقولون إن حقيقة الجسم أعراض مجتمعة كاللون والطعم والرائحة وما لا يخلو عنه الجسم من جملة الأعراض، ويقولون إن هذه الأعراض إذا اجتمعت كانت جسما وربما قالوا كانت جواهر. وهذا متناقض لأن الجسم أو الجوهر لا يكون إلا قائما بنفسه والعرض لا يكون قائما بنفسه. ويقولون إن كلام الله إذا قرئ فهو عرض وإذا كتب فهم جسم، قالوا ولو كتب بالدم على موضع صار ذلك الدم كلام الله تعالى. واختلف أصحاب النجار في العبارة عن قولهم بخلق القرآن بعد اتفاقهم على أنه مخلوق وفي غيره اختلافا كثيرا فأشهرهم ثلاث فرق:

الفرقة الأولى منهم البرغوثية

أتباع محمد بن عيسى الملقب ببرغوث، وكان على مذهب الحسين النجار إلا أنه خالفه في قوله إن المكتسب لا يكون فاعلا على الحقيقة. وكان يقول إن الأفعال المتولدة فعل الله تعالى لا باختيار منه لكنه بإيجاب الطبع والخلقة، وكان يخالف به النجار إذ كان النجار يوافق أهل السنة في قوله إن الأفعال المتوالدة فعل الله تعالى لا بإيجاب الطبع والخلقة.

الفرقة الثانية منهم الزعفرانية

أتباع الزعفراني الذي كان بالري، وكان يعبر عن مذهبهم بعبارات متناقضة فكان يقول كلام الله تعالى غيره وإن كل ما هو غيره فهو مخلوق، ثم كان يقول الكلب خير ممن يقول إن كلام الله مخلوق. ومن كان كلامه على هذا النمط كان الكلام في عقله لا في دينه.

الفرقة الثالثة منهم المستدركة

وهم قوم من الزعفرانية سموا بهذا الاسم لأنهم زعموا أنهم استدركوا على أسلافهم ما خفي عليهم، ثم افترقوا فرقتين فقالت فرقة منهم إن النبي قال كلام الله تعالى مخلوق، وقالوا قاله على هذا الترتيب بهذه الحروف، قالوا وكل من لم يقل إن النبي قال هذا فهو كافر. وقالت الفرق الأخرى إن النبي لم يقل إن كلام الله تعالى مخلوق ولم يتكلم بهذه الكلمة على هذا الترتيب ولكنه يعتقد أن كلام الله تعالى مخلوق وتكلم بكلمات تدل على أن القرآن مخلوق. ومن المستدركة أقوام يقولون إن أقوال مخالفيهم كلها كذب.

وكان واحد من أهل السنة يباطن واحدا منهم فقال له السني أنت رجل عاقل ابن حلال لرشده فقال له صاحبه أنت كاذب في هذا القول فقال له السني أنت صادق في وصفك قولي هذا بأنه كذب فانقطع خصمه.

الباب الثامن في تفصيل مقالات الضرارية وبيان فضائحهم

وهم أتباع ضرار بن عمرو. وهو موافق لأهل السنة في القول بخلق الأفعال وفي نفي التولد، وهو موافق لأهل القدر في قولهم إن الاستطاعة قبل الفعل لكنه زاد عليهم بأن قال يجب أن يكون مع الفعل أيضا وفارقهم أيضا بقولهم إن الاستطاعة بعض من المطيع ووافق النجار في وقوله إن الجسم أعراض مجتمعة وزاد على الجميع بأن قال إن الله يرى بحاسة سادسة خلاف الحواس الخمس التي هي مستعملة للخلق فيما بينهم، وكان يقول إن لله تعالى ماهية يرى هو في تلك الماهية. وكان ينكر قراءة ابن مسعود وقراءة أبي بن كعب وكان يقول أشهد أن الله تعالى ما أنزل ذلك على الخلق، وكان يضلل هذين الإمامين من اعلام الصحابة في مصحفيهما وكان يقول لا أدري أن عوام المسلمين كفار أو مسلمون وكان لا يحكم بظاهر حالهم وكان يقول لعل سرائرهم كلها شرك وكفر. وهذا خلاف إجماع أهل السنة حيث قالوا إنا نقطع أن في عوام المسلمين مؤمنين عارفين براء من الكفر والشرك. وكان يقول إن الله تعالى يسمى حيا عالما قادرا على معنى أنه ليس بميت ولا جاهل ولا عاجز لا على معنى أن له صفة ترجع إلى ذاته. وهذا الكلام منه يوجب أن يكون العرض حيا عالما قادرا لأنه ليس بميت ولا جاهل ولا عاجز.

الباب التاسع في تفصيل مقالات الجهمية وبيان فضائحهم

وهم أتباع جهم بن صفوان. وكان من مذهبه أن لا اختبار لشيء من الحيوانات في شيء مما يجري عليهم فإنهم كلهم مضطرون لا استطاعة لهم بحال وإن كل من نسب فعلا إلى أحد غير الله فسبيله سبيل المجاز وهو بمنزلة قول القائل سقط الجدار ودارت الرحى وجرى الماء وانخسفت الشمس. وهذا القول خلاف ما تجده العقلاء في أنفسهم لأن كل من رجع إلى نفسه يفرق في نفسه بين ما يرد عليه من أمر ضروري لا اختيار له فيه وبين ما يختاره ويضيفه إلى نفسه، كما أن كل عاقل يفرق بين كل حركة ضرورية، كحركة المرتعش وحركة المختار يجد العاقل في نفسه فرقا بينهما ومن أنكر هذه التفرقة لم يعد من العقلاء. وكل ما ورد في القرآن من قوله يعملون ويعقلون ويكسبون ويصنعون حجة عليهم، وكذلك قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} ولو لم يكن للعبد اختيار كان الخطاب معه محالا والثواب والعقاب عنه ساقطين كالجمادات، فقد رد الله تعالى على الجبرية والقدرية في آية واحدة حيث قال: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} ومعناه وما رميت من حيث الخلق إذ رميت من حيث الكسب ولكن الله رمى من حيث الخلق والكسب خلقه خلقا لنفسه كسبا فهو مخلوق لله تعالى من وجهين.

ومن ضلالات جهم قوله إن الجنة والنار يفنيان كما يفنى سائر الأشياء. ومن ضلالاته قوله إن علم الله تعالى حادث وإنه لا يعلم ما يكون حتى يكون. وكان يقول إن الله تعالى لا يوصف بشيء مما يوصف به العباد، فلا يجوز أن يقال في حقه إنه حي أو عالم أو مريد أو موجود لأن هذه صفات تطلق على العبيد. وقال إنما يقال في وصفه إنه قادر موجد فاعل خالق محيي ومميت لأن هذه الصفات لا تطلق على العبيد. وكان يقول كلام الله حادث ولكن لا يجوز أن يسمي متكلما بكلامه. ومع هذه البدع التي حكيناها عنه كان يعاني الخروج وتعاطي السلاح وكان يحمل السلاح ويخرج على السلطان وينصب القتال معه. ورافق سريج بن الحارث في وقائعه وخرج على نصر بن سيار حتى قتله سلم بن أحوز المازني في آخر أيام المروانية. وأكثر أتباعه اليوم بنواحي ترمذ. وأهل السنة يكفرونهم لقولهم بأن علم الله حادث وأنه لا يعلم ما يكون حتى يكون وأن كلامه حادث. وأهل القدر أيضا يكفرون لقولهم بخلق الأفعال.

الباب العاشر في تفصيل مقالات البكرية وبيان فضائحهم

وهم أتباع رجل اسمه بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد، وكان في أيام النظام وكان يوافقه في قوله إن الإنسان هو الروح لا هذا القالب الذي تكون الروح فيه. وكان يقول في التولد بقول أهل السنة وكان ينفرد بضلالات تكفره بها الكافة.

منها قوله إن الله تعالى يرى يوم القيامة في صورة يخلقها يكون فيها ويكلم العباد من تلك الصورة.

ومنها أنه كان يقول من وجد منه كبيرة من أهل القبلة فهو منافق وعابد الشيطان وإن كان من أهل القبلة ويكون في الدرك الأسفل من النار مع المنافقين خالدا مخلدا ومع هذا كان يقول إنه مؤمن مسلم.

وكان يقول في علي وطلحة والزبير إنهم أذنبوا ذنوبا كفروا بذلك وصاروا مشركين ولكن الله يغفر لهم لأن النبي قال: إن الله تعالى اطلع على أهل بدر وقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وكان يقول مقالا لا يقبله عقل العاقل وذلك أنه كان يقول إن الصبيان في المهد لا يجدون ألما حتى لو حرقوا وقطعوا وقرضوا بالمقراض وهم يبكون ويضجون ويصيحون ولا ينالهم من ذلك ألم بحال. وكان مع هذه البدع يتكلم في الفقه ويقول بتحريم الثوم والبصل وكان يقول متى ما تحرك ريح في الجوف وجب به الطهارة. ومن كان هذا حاله في انتحال مثل هذه البدع لم يعد خلافه خلافا في الشريعة. ونسأل الله سبحانه وتعالى العصمة من مثل هذه الأقوال الفظيعة.

الباب الحادي عشر في تفصيل مقالات الكرامية وبيان فضائحهم

وجملة الكرامية ثلاث فرق حقائقية وطرائقية وإسحاقية، ويعد جميعهم فريقا واحدا إذ لا يكفر بعضهم بعضا. وزعيمهم محمد بن كرام كان من سجستان فنفي عنها فوقع في غرجستان فاغتر بظاهر عبادته أهل شومين وأفشين وانخدعوا بنفاقه وبايعوه على خرافاته، وخرج معه قوم إلى نيسابور في أيام محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر فاغتر بما كان يريه من زهده جماعة من أهل السواد فدعاهم إلى بدعه وأفشى فيهم ضلالاته واتبع بها قوم من أتباعه وتمردوا على نصرة جهالاته. وما أحدثه من البدع في الإسلام أكثر من أن يمكن جمعه في هذا المختصر ولكننا نذكر من كل نوع شيئا يتنبه به العاقل عن فساد ما كان ينتحله.

منها أنه كان يسمى معبوده جسما وكان يقول له حد واحد من الجانب الذي ينتهي إلى العرش ولا نهاية له من الجوانب الأخر كما قالت الثنوية في معبودهم إنه نور متناه من الجانب الذي يلي الظلام فأما من الجوانب الخمس الأخر فلا يتناهى. وقد ذكر في كتاب عذاب القبر أن معبوده أحدي الذات أحدي الجوهر وأطلق عليه اسم الجوهر كما أطلقه النصارى. وأتباعه يتبرأون من اطلاق اسم الجوهر ويطلقون عليه اسم الجسم كامتناع المعروف بشيطان الطاق من الروافض من اطلاق اسم الجسم عليه ثم قوله على أنه صورة إنسان فكان ما فروا اليه شرا مما فروا عنه. ومما ذكر في ذلك الكتاب قوله إنه تعالى مماس للعرش والعرش مكان له. ولما نظر أتباعه اليه فروا مما فيه من الشنعة فقالوا لا نقول إنه مماس للعرش ولكنا نقول إنه ملاق للعرش. وليت شعري أي تفرقة بينهما لولا غباوة الخلق وغفلتهم عن التحقيق. وسأل بعض أتباع الكرامية في مجلس محمود بن سبكتكين سلطان زمانه رحمه الله إمام زمانه أبا إسحاق الإسفراييني رحمه الله عن هذه المسئلة فقال هل يجوز أن يقال الله سبحانه وتعالى على العرش وأن العرش مكان له فقال لا وأخرج يديه ووضع إحدى كفيه على الأخرى وقال كون الشيء على الشيء يكون هكذا ثم لا يخلوا أن يكون مثله أو يكون أكبر منه أو أصغر منه فلا بد من مخصص خصه وكل مخصوص يتناهى والمتناهى لا يكون إلها لأنه يقتضي مخصصا ومنتهى وذلك علم الحدوث، فلم يمكنهم أن يجيبوا عنه فأغروا به رعاعهم حتى دفعهم عنه السلطان بنفسه. فلما دخل عليه وزيره أبو العباس الإسفرايني قال له محمود كجابودي أين هم شهرى توخداي كراميان رابسرايشان به زد؟ ولما ورد عليهم هذا الإلزام تحيروا فقال قوم منهم إنه أكبر من العرش وقال قوم إنه مثل العرش وارتكب ابن المهاجر منهم قوله إن عرضه عرض العرش. وهذه الأقوال كلها متضمنة لإثبات النهاية وذلك علم الحدوث لا يجوز أن يوصف به صانع العالم.

ومما ابتدعوه من الضلالات مما لم يتجاسر على إطلاقه قبلهم واحد من الأمم لعلمهم بافتضاحه هو قولهم بأن معبودهم محل الحوادث تحدث في ذاته أقواله وإرادته وإدراكه للمسموعات والمبصرات، وسموا ذلك سمعا وتبصرا، وكذلك قالوا تحدث في ذاته ملاقاته للصفحة العليا من العرش، زعموا أن هذه أعراض تحدث في ذاته تعالى الله عن قولهم. قالوا إن هذه الحوادث هي الخلق والقدرة تتعلق بهذه الحوادث والمخلوق يقع تحت الخلق لا تتعلق به القدرة. فالخلق عندهم هو القدرة على التخليق، وهو قوله لما يريد أن يخلقه كن جوهرا وهذا يوجب أن يحدث في ذاته كاف ونون وجيم وواو وهاء وراء وألف وسمع وإرادة. قالوا وإذا أراد إعدام شيء يقول له افن فيصير الشيء فانيا والإفناء والإعدام يكونان في ذاته لا يفنيان. وهذا يوجب أن يكون الشيء موجودا معنى لوجود الإعدام والإيجاد في ذاته على زعمهم وإن قالوا إنهما يغنيان عن ذاته حكموا بتعاقب الحوادث وهو أول ما يستدل به على حدوث الأجسام، كيف وقولهم يوجب أن الحوادث في ذاته سبحانه أضعاف الحوادث في العالم فإذا دلت حوادث العالم على حدوثه فما هو أضعاف تلك الحوادث أولى أن يدل على حدوث محلها. ولم يجد هؤلاء في الأمم من يكون لهم القول بحدوث الحوادث في ذات الصانع غير المجوس فرتبوا مذهبهم على قولهم، وذلك أن المجوس قالوا تفكر يزدان في نفسه أنه يجوز أن يظهر له منازع ينازعه في مملكته فاهتم لذلك فحدثت في ذاته عفونة بسبب هذه الفكرة فخلق منها الشيطان، فلما سمعت الكرامية هذه المقالة بنوا عليها قولهم بحدوث الحوادث في ذاته سبحانه تعالى الله عن قولهم فلزمهم أن يجوزوا حلول الألم واللذة والشهوة والموت والعجز والمرض عليه فإن من كان محلا للحوادث لم يستحل عليه هذه الحوادث كالأجسام.

ومما أحدثوه من البدع قولهم إن كل اسم يشتق له من أفعاله كان ذلك الاسم ثابتا له في الأزل مثل الخالق والرازق والمنعم، وقالوا إنه كان خالقا قبل أن خلق ورازقا قبل أن رزق ومنعما قبل أن أنعم، فقيل لهم إذا لم يكن خلق فبماذا يكون خالقا فقالوا خالق بخالقيه ورازق برازقيه، ثم طردوا سخنت عيونهم فقالوا عليم بعالمية قادر بقادرية لا بعلم ولا بقدرة وإن كان له علم وقدرة فلحقوا بالمعتزلة في قولهم إنه عليم قادر لا بقدرة، وزادوا عليهم قولهم إن له علما، ثم امتنعوا أن يقولوا إنه في الأزل خالق بخلقه أو لخلقه، قالوا إذا لم يكن خلق لا يمكن أن يقال إنه خالق بخلقه. وهذا يوجب عليهم أن لا يمكنهم القول بأنه خالق في الأزل إذ لا خالق بلا خلق كما لا يمكنهم القول بأنه خالق لخلقه إذ لا خالق بلا خلق كما لا خالق للخلق إلا بخلق.

وقولهم بالخالقية والعالِمية إحداث لفظ لم يتكلم به عربي ولا عجمي. ولا تعجب منهم أن يحدثوا مثل هذه العبارة وقد تكلم زعيمهم في كتاب القبر مما هو أعجب منه فقال باب كيفوفية الله، فلا يدري العاقل مم يتعجب من لفظه الذي أطلقه أو من حسن معرفته بمواضع العربية، وليت شعري كيف أطلق الكيفية عليه ولعله أراد أن يخترع من نفسه عبارة لم يسبق إليها تليق بعقله فإنه قد قال في هذا الكتاب لما أراد أن يعبر عن مكان معبوده فقال له حيثوثية يختص بها، وأراد أن يتكلم على مخالفيه فقال إذا قال لك الشكاك بأحموقيتهم. وهذا الكتاب الملقب بعذاب القبر أصل مذهبهم وحكمة في الوصف والمعنى كما ذكرت لك. ولما اغتر بهم بعض أغمار الولاة نفق لهم سوق تطاولوا به على الرعايا فلحق بهم أقوام مسهم شيء من الفضل في باب الأدب فاستحيوا من إظهار كتاب الملقب بعذاب القبر فوضعوا كتابا آخر سموه بهذا الاسم ونسبوه إليه وهم يظهرونه وأخفوا أصله الذي صنفه.

واعلم أن من نوادر جهالاتهم فرقهم بين القول والكلام وقولهم إن كلام الله قديم وقوله حادث وليس بمحدث وله حروف وأصوات وإنما هو قدرته على التكليم والتكلم. وأي عاقل يسوغ تفسير الكلام بالقدرة. وقالوا كلامه ليس بمسموع وقوله مسموع. ومن سوء اختيارهم لحوقهم بالمعتزلة في القول بالواجبات العقلية قبل ورود الشرع، وفي القول بإيجاب أشياء وحظر أشياء على الله تعالى وترتيبهم عليه شريعة كما رتبها عليهم. ومن كانت هذه مقالته لم يكن في نفسه الانقياد للعبودية وإنما يطلب درجة المساواة معه. ونعوذ بالله من قول يؤدي إلى ذلك.

ومن بدعهم في باب النبوة والرسالة قولهم إن النبوة والرسالة عرضان حالان في الرسول والنبي، والنبوة ليست هي المعجزة ولا الوحي ولا العصمة. ويزعمون أن من حصل فيه ذلك المعنى وجب على الله تعالى أن يرسله إلى الخلق رسولا بذلك المعنى فإذا أرسله يكون مرسلا ولم يكن قبله مرسلا. ولهذا المعنى يقولون إن النبي في القبر رسول وليس بمرسل. والذي عليه أهل السنة أنه في القبر رسول ومرسل على معنى أن الله تعالى أرسله وأنه أدى رسالته، وهذا الاسم مستحق له وإن كان قد فرغ من ذلك الفعل، كما أن المؤمن في قبره مؤمن على معنى أن هذا الاسم مستحق له فيما تقدم من فعله. وكذلك في العرف والعادة يطلق اسم ما فعله الإنسان من قبيح وإن كان قد فرغ من فعله، كما يسمى حاجا وغازيا أو سارقا أو زانيا وإن كان قد فرغ من فعله، وكذلك اسم الحرف كالخياط والنجار والصفار وإن كان فارغا من فعله. ولا عاقل يستجيز أن يقول إن المسمى بالرسول مشتغل بأداء رسالته في قبره كما أن المسمى لهذه الأسماء التي عددناها لا يكون مشتغلا بفعله الذي سمي به ولكنه يكون مستحقا لوصفه بما سبق منه من فعله. واعلم بأن هذا الذي قالوه في وصف الرسول من أن هذا المعنى فيه عندهم عرض خلق فيه قبل أن أوحي إليه ليس بكسب ولا له فيه كسب وما لا يتعلق بكسبه لا يكون له عليه أجر بحال كخلقه وخلقه ولونه وكونه.

ومن بدعهم في باب الإمامة أن عليا ومعاوية كانا إمامين محقين في وقت واحد وكان واجبا على أتباع كل واحد منهما طاعة أميره. ولو كان كما قالوا لوجب أن يكون كل واحد منهما ظالما في مقاتلة صاحبه لأن من زاحم إماما عادلا محقا كان مبطلا ظالما.

ومن بدعهم في باب الإيمان قولهم إن الإيمان قول مجرد لا هذا القول الذي يقوله القائل الآن أنه لا إله إلا الله ولكن هذا القول الذي صدر عن ذرية آدم في بعث الميثاق حين قال الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} ويقولون إن ذلك القول قول باق أبدا لا يزول حكمه إلا أن يرتد عنه فحينئذ يزول حكمه. وقالوا إن الزنديق أو المنافق إذا قال بلسانه لا إله إلا الله وفي قلبه النفاق والزندقة فهو مؤمن حقا وإيمانه كإيمان الأنبياء والمرسلين. وقالوا إن المنافقين الذين كانوا في عهد رسول الله كان إيمانهم كإيمان جبريل ومكائيل وجميع الأنبياء والأولياء.

ومن خرافاتهم في باب الفقه قولهم إن الصلاة جائزة في أرض نجسة وفي مكان نجس وفي ثياب نجسة وإنها جائزة وإن كان بدنه نجسا. وزعموا أن الطهارة من النجاسة ليست بواجبة ولكن الطهارة من الحدث واجبة. وزعموا أن غسل الميت ليس بواجب [و] أن الصلاة عليه ليست بواجبة ولكن تكفينه ودفنه واجب. وزعموا أن الصلاة المفروضة والحج المفروض لا يحتاجان إلى النية ويكفي فيهما النية السابقة في الذر الأول، وكذلك في جميع الفرائض ولكن النوافل تجب فيها النية لأنهم لم يقبلوها في الذر الأول. وليتهم علموا أنهم من أين يقولون هذا ومن أين علموا أنه قد عرضت عليهم الفرائض بتفاصيلها وقبولها، فإن كانوا يبنون هذا على ما في القرآن وليس في القرآن أكثر من عرض كلمة الإيمان عليهم.

ومن حماقاتهم مع ما حكيناه من جهالاتهم في الفروع والأصول أن زعيما من زعمائهم كان يريد تفضيل الكلام على الفقه وكان يقول إن علم الشافعي وأبي حنيفة جملته لا تخرج من سراويل امرأة. ومن تكلم على سبيل التحقير على علم الشريعة وقصد الإزراء بأئمة الدين وتكلم فيهم وفي علم الشريعة بمثل هذا الكلام كان بعيدا من أن يكون له حظ من الديانة.

وكان من متأخريهم رجل يقال له إبراهيم بن مهاجر وكان يقول إن الاسم عرض في المسمى قائم به وكان مع ذلك يقول إن الله تعالى جسم وكان يقول إن قول القائل الله الرحمن الرحيم الخالق الرازق كلها أعراض في المسمى، وكان يجري ذلك في أسماء الناس، وكان يقول إن الزاني ليس بجسم بل هو عرض في جسم وأن الحد يكون حدا على الجسم لا على الزاني، وهكذا كان يقول في السارق وغيره من الأسماء. وهذا يوجب أن يكون معبوده عرضا لا ذات الباري جل جلاله. ومن أراد أن يجمع كتابا يحصر فيه فضائحهم طال عليه الأمر وتعذر عليه الحصر. فنسأل الله التوفيق والعصمة من كل إلحاد وبدعة.

الباب الثاني عشر في تفصيل مقالات المشبهة وبيان فضائحهم

وجملة المشبهة صنفان صنف منهم يشبه ذاته بغيره من الذوات وصنف منهم يشبه صفاته بصفات أغياره.

وأول من أفرط في التشبيه من هذه الأمةالسبأية من الروافض الذين قالوا بإلهية علي كرم الله وجهه حتى أحرق على قوما منهم فازدادوا بعده عتوا في ضلالتهم وقالوا الآن علمنا على الحقيقة أنه الإله لأن النبي قال: لا يعذب بالنار إلا رب النار.

ثم البيانية أتباع بيان بن سمعان الذي كان يقول إن معبوده نور صورته صورة إنسان وله أعضاء كأعضاء الإنسان وأن جميع أعضائه تفنى إلا الوجه.

ثم المغيرية أتباع مغيرة بن سعيد العجلي الذي كان يقول إن للمعبود أعضاء وأعضاؤه على صورة حروف الهجاء.

ثم المنصورية أتباع أبي منصور العجلي الذي كان يقول إنه صعد إلى السماء إلى معبوده وإن معبوده مسح على رأسه وقال: يا بني بلغ عني.

ثم الخطابية الذين كانوا يقولون بإلهية الأئمة وكانوا يقولون إن أبا الخطاب الأسدي إله.

ثم الحلولية الذي كانوا يقولون إن الله تعالى يحل في صورة الحسان ومتى ما رأوا صورة حسنة سجدوا لها.

ومن جملة المشبهة المقنعية وهم مبيضة ما وراء النهر يدعون إلهية المقنع.

ومن جملتهم الهشامية أتباع هشام بن الحكم الرافضي الذي كان يقيس معبوده على الناس، وكان يزعم أن معبوده سبعة أشبار بشبر نفسه وأنه يتلألأ كما تتلألأ النقرة البيضاء من كل جانب.

ومن جملتهم الهشامية وهم أتباع هشام بن سالم الجواليقي الذي كان يزعم أن معبوده على صورة إنسان ولكن نصفه الأسفل مصمت ونصفه الأعلى مجوف وله شعر أسود على رأسه وأن قلبه منبع بالحكمة نبع الماء من العيون.

ومن جملتهم اليونسية أتباع يونس بن عبد الرحمن القمي الذي كان يقول حملة عرش الرحمن يحملونه وإن كان هو أقوى منهم كما أن رجل الكركي تحمل بدنه وإن كان بدنه أقوى من رجله.

وكان داود الجواربي من جملة المشبهة يثبت لمعبوده جميع أعضاء الإنسان وكان يقول أعفوني عن الفرج واللحية.

والكرامية من جملة المشبهة لقولهم بأنه جسم وله حد ونهاية وأنه محل الحوادث وأنه مماس للعرش ملاق له.

فهؤلاء كلهم مشبهة ذاته بالذوات.

وأما مشبهة الصفات فهم المعتزلة البصرية الذين أثبتوا إرادة حادثة كإرادات الإنسان قالوا إنها من جنس إرادتهم وشبهوا كلامه بكلام الخلق وقالوا إنه عرض حال في جسم. وكذلك الكرامية شبهوا في الصفات فقالوا إن إرادته وقوله عرض حادث من جنس كلام الخلق وإرادتهم.

والزرارية من الروافض أتباع زرارة بن أعين زعموا أن حياته وعلمه وقدرته وسمعه وبصره كحياة الخلق وعلمهم وقدرتهم وسمعهم وبصرهم وزعموا أنها كلها حادثة مثل صفات الأجسام.

والشيطانية من الروافض زعموا أن الله تعالى لا يعلم الشيء قبل أن يكون حتى يكون وإن علمه محدث كعلوم العباد.

ومن تأمل قول هؤلاء المشبهة علم كفرهم وضلالتهم ولم يبق له في ذلك شبهة فاستغنى بذكرها عن إقامة الحجة عليها.

الباب الثالث عشر في بيان فرق أهل البدع الذين ينتسبون إلى دين الإسلام ولا يعدون في زمرة المسلمين ولا يكونون من جملة الاثنين والسبعين

وهم أكثر من عشرين فرقة

الفرقة الأولى منهم السبأية

أتباع عبد الله بن سبأ، وقد ذكرنا من مقالتهم طرفا ونزيدها شرحا وبيانا. وذلك أنه كان من غلاة الروافض وكان يقول في أول أمره إن عليا كان نبيا ثم زاد على ذلك فقال كان إلها، وكان يقول هو الإله في الحقيقة وكان يدعو الخلق إلى مقالته. فأجابته جماعة إليها في وقت علي كرم الله وجهه، فلما رفع خبره إلى علي أمر بحفر حفرتين وكان يحرقهم فيهما حتى قال الشاعر في معناه:

(لترم الحوادث بي حيث شاءت ** إذا لم ترم بي في الحفرتين)

ولما أحرقهم علي رضي الله عنه نفى عبد الله بن سبأ إلى ساباط المدائن. فلما قتل علي قال عبد الله بن سبأ إن عليا حي لم يقتل ولم يمت وإنما الذي قتل شيطان تصور بصورته وتوهمت الناس أنه قتل كما توهم اليهود والنصارى أن المسيح قتل. قال وهذا التوهم منهم خطأ وهذا القول منهم كذب بل هو في السماء وعن قريب ينزل وينتقم من أعدائه. وقال بعضهم إنه في الغيم والرعد صوته والبرق سوطه، وإذا سمعوا سوط الرعد قالوا السلام عليك يا أمير المؤمنين. وقال إسحاق بن سويد العدوي في صفتهم:

(برئت من الخوارج لست منهم ** من الغزال منهم وابن باب)

(ومن قوم إذا ذكروا عليا ** يردون السلام على السحاب)

(ولكني أحب بكل قلبي ** وأعلم أن ذاك من الصواب)

(رسول الله والصديق حبا ** به أرجو غدا حسن الثواب)

ووافق ابن السوداء عبد الله بن سبأ بعد وفاة علي في مقالته هذه وكانا يدعوان الخلق إلى ضلالتهما ويقولان إذا نزل من السماء تفتح له عينان في مسجد الكوفة إحداهما من العسل والأخرى من السمن وشيعته يأكلون منهما.

واعلم أن ابن السوداء كان رجلا يهوديا وكان قد تستر بالإسلام أراد أن يفسد الدين على المسلمين فتعلق بهؤلاء ووافقهم فيما كانوا فيه لهذا الغرض الفاسد. والعجب من هؤلاء [أنهم] يلعنون ابن ملجم ويزعمون أن الذي قتله ابن ملجم كان شيطانا، ومن قتل شيطانا كان محمودا، فكيف يلعنونه مع هذه العقيدة.

الفرقة الثانية منهم البيانية

أتباع [بيان] بن سمعان التميمي الذين كان يقول بإمامة محمد بن الحنفية وقد ذكرناهم قبل، غير أن كثيرا من أتباعه يقولون إنه كان نبيا وأنه نسخ بعض شريعة محمد . وقالوا هو المراد بقوله {هذا بيان للناس}. وقوم من أتباعه قالوا إنه كان إلها وقالوا إنه روح الإله قد حل فيه وأنه يحل في الأنبياء والأئمة وينتقل من واحد إلى واحد آخر، وقالوا إن روح الإله قد انتقل عن أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى بيان وكان يدعي لنفسه الإلهية على معنى الحلول وكان يدعي أنه يعرف اسم الله الأعظم وأنه يدعو به الزهرة فتجيبه. ولما وصل خبره إلى خالد بن عبد الله القسري صلبه وكفى الله شره.

الفرقة الثالثة منهم المغيرية

أتباع مغيرة بن سعيد العجلي وكان في الابتداء يدعي موالاة الإمامية وكان يقول بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي. وكان يستدل بما روى أن النبي قال إن المهدي يوافق اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، وكان يقول إن هذا محمد بن عبد الله والنبي عليه السلام محمد بن عبد الله، فلما استقام له التقدم بين الروافض ادعى النبوة لنفسه. وكان يدعي أنه يعرف اسم الله الأعظم وأنه يحيي به الموتى ويهزم به الجيوش. وكان يقول إن معبوده رجل من نور على رأسه تاج من نور. وله خرافات كثيرة كان يلبس بها على أتباعه. ولما رفع خبره إلى خالد بن عبد الله القسري صلبه. وتعرف أتباعه اليوم بمحمدية الروافض لقوله بإمامة محمد بن عبد الله.

الفرقة الرابعة منهم الحربية

أتباع عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي، وكان على دين البيانية وكان يدعي أن روح الإله انتقل عن عبد الله بن محمد الحنفية إليه وكان يدعي لنفسه الإلهية على معنى الحلول.

الفرقة الخامسة منهم المنصورية

وهم أتباع أبي منصور العجلي. وكان يدعي أن الإمامة انتقلت إليه من الباقر. وكان يدعي أنه رفع إلى السماء وأن الله مسح على رأسه وأنزله إلى الأرض وكان يقول إنما هو الكسف الذي في قوله تعالى: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم} وهذه الفرقة ينكرون القيامة والجنة والنار ويقولون إن الجنة نعيم الدنيا والنار محن الدنيا. وعادتهم الخنق يستحلون خنق مخالفيهم. وبقيت فتنتهم إلى أيام يوسف بن عمر الثقفي والي العراق، فلما عرف حالهم صلب العجلي وانقطعت فتنتهم.

الفرقة السادسة منهم الجناحية

وهم من جملة الغلاة أتباع عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. يزعمون أن روح الإله تحل في الأنبياء والأئمة وتنتقل من بعضهم إلى بعض. وكانوا ينكرون القيامة والجنة والنار ويستحلون الزنا واللواطة وشرب الخمر وأكل الميتة، ولا يرون وجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج ويؤولون ذلك على موالاة قوم من أهل البيت، ويدعون أن عبد الله بن معاوية لم يمت وأنه في جبل أصفهان إلى أن يخرج. والمشهور أن أبا مسلم صاحب دولة بني العباس بعث إليه عسكرا فصلبوه وقتلوه.

الفرقة السابعة هم الخطابية

أتباع أبي الخطاب الأسدي. وهم خمس فرق هم يقولون إن الإمامة كانت في أولاد علي إلى أن انتهت إلى محمد بن جعفر الصادق، ويقولون إن الأئمة كانوا آلهة. وكان أبو الخطاب يقول في أيامه إن أولاد الحسن والحسين كانوا أبناء الله وأحباؤه، وكان يقول إن جعفرا إله فلما بلغ ذلك جعفرا لعنه وطرده، وكان أبو الخطاب يدعي بعد ذلك الإلهية. وكان أتباعه يقولون إن جعفرا كان إلها إلا أن أبا الخطاب كان أفضل منه. والخطابية يرون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم. وخرج أبو الخطاب على والي الكوفة في أيام المنصور فبعث عسكرا إليه فاسروه وأمر بصلبه في كناسة الكوفة. وأتباعه كانوا يقولون ينبغي أن يكون في كل وقت إمام ناطق وآخر ساكت والأئمة يكونون آلهة ويعرفون الغيب، ويقولون إن عليا كان في وقت النبي صامتا وكان النبي ناطقا ثم صار علي بعده ناطقا وهكذا يقولون في الأئمة إلى أن انتهى الأمر إلى جعفر وكان أبو الخطاب في وقته إماما صامتا وصار بعده ناطقا. وأتباع أبي الخطاب افترقوا بعد صلبه خمس فرق:

منهم المعمرية

كانوا يقولون إن الإمام بعد أبي الخطاب رجل اسمه معمر وكانوا يعبدونه كما يعبدون أبا الخطاب وكانوا يقولون إن الدنيا لا تفنى وكانوا ينكرون القيامة ويقولون بتناسخ الأرواح.

ومنهم الربيعية

أتباع أبي ربيع وكان يقول إن جعفرا كان إلها ولم يكن جعفر ذلك الذي يراه الناس بل كان ما يراه الناس في صورة مثاله وكانوا يقولون إنه لا مؤمن إلا والله تعالى يوحي إليه وعلى هذا المعنى كانوا يتأولون قوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} وكان يقول معناه بوحي الله. وكان يقول إذا جاز أن يوحي إلى النحل كما ورد في قوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون} لم لا يجوز أن يوحي إلينا. وكان يقول قد يكون فيما بينهم من هو أفضل من جبريل ومكائيل ومحمد عليهم السلام، وإن الواحد منهم إذا انتهى إلى النهاية رفع إلى الملكوت وهم يرون الذين رفعوا إلى الملكوت غدوة وعشيا.

ومنهم العمروية

أتباع عمرو بن بيان العجلي وهؤلاء كانوا يعبدون جعفرا ويرونه إلها.

ومنهم المفضلية

أتباع مفضل الصيرفي وكان يقول بإلهية جعفر ويتبرأ من أبي الخطاب.

ومنهم الخطابية المطلقة

وكانوا يقولون إنه لم يكن بعد أبي الخطاب إمام.

الفرقة الثامنة الغرابية

وكانوا يقولون إن الله تعالى بعث جبريل إلى علي فغلط وجاء إلى محمد، قالوا وإنما غلط لأنه كان يشبه محمدا وكان أشبه به من الغراب بالغراب والذباب بالذباب، من أجل هذا سموا غرابية. وهؤلاء كانوا يلعنون صاحب الريش - يعنون به جبريل عليه الصلاة والسلام. وقد أنزل الله سبحانه في صفة اليهود حين قالوا إن جبريل عدو لنا ولم يكونوا يلعنونه قوله تعالى: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} وهؤلاء أولى بهذه الصفة لأنهم يلعنونه واليهود ما كانوا يلعنونه.

واعلم أن من هؤلاء الغرابية قوم يقال لهم المفوضة كانوا يقولون إن الله تعالى خلق محمدا وفوض إليه تدبير العالم فكان هو الخالق للعالم ثم إنه فوض بعده إلى علي تدبير العالم. فهؤلاء القوم شر من المجوس الذين قالوا إن الله خلق الشيطان وفوض إليه الأمر فكان الشيطان يخلق الشرور لأن هؤلاء قالوا بالتفويض في الشر والخير. وهؤلاء شر من النصارى حين قالوا إن عيسى كان إلها وكان المدبر الثاني للعالم لأن هؤلاء نقلوه من شخص إلى شخص وأولئك اقتصروا على المسيح.

ومن الغرابية أيضا قوم يقال لهم الذمية كانوا يقولون إن عليا بعث محمدا حتى يدعو الخلق إلى إلهيته فجاء محمد وادعى الرسالة من إله آخر. ويذمون محمدا بهذا السبب ولهذا سموا الذمية.

الفرقة التاسعة منهم الشريعية والنميرية

والشريعية أتباع رجل كان يدعى شريعا وكان يقول إن الله تعالى حل في خمسة أشخاص في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، وكانوا يقولون إن هؤلاء آلهة ولهؤلاء الخمسة خمسة أضداد. ثم كان قوم منهم يقولون إن أضدادهم مذمومون وقوم منهم يقولون إنهم لا يذمون لأن فضل هؤلاء لا يتبين إلا بأضدادهم. وهذا الشريعي كان يدعي لنفسه الإلهية.

وكان النميري خليفته وكان يدعي لنفسه مثله بعده. وجملة النميرية والشريعية والخطابية كانوا يدعون إلهية جعفر الصادق وكانوا يقولون إن جعفرا دفع إليهم جلدا مكتوبا فيه كل علم يحتاجون إليه، وكانوا يقولون لا يقرأ ما في ذلك الجلد إلا من كان على دينهم. وقال هارون بن سعد العجلي في صفتهم:

(ألم تر أن الرافضين تفرقوا ** وكلهم في جعفر قال منكرا)

(فطائفة قالوا إله ومنهم ** طوائف سمته النبي المطهرا)

(ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم ** برئت إلى الرحمن ممن تجعفرا)

(برئت إلى الرحمن من كل رافض ** بصير بباب الكفر في الدين اعورا)

(ولو قيل إن الفيل ضب لصدقوا ** ولو قيل زنجي تحول أحمرا)

(وأخلف من بول البعير فإنه ** إذا هو للإقبال وُجّه أدبرا)

الفرقة العاشرة منهم الحلولية

وهم فرق ظهرت في دولة الإسلام كان غرضهم إفساد التوحيد على المسلمين. فمن جملتهم ما ذكرناهم من غلاة الروافض الذين ادعوا حلول الإله في الأئمة كما حكيناه عنهم من قبل. وحدث بعدهم أقوام من الحلولية كالمقنعية بما وراء النهر والرزامية والبركوكية والحلمانية والحلاجية والغذافرة.

أما الرزامية

فإنهم افرطوا في موالاة أبي مسلم صاحب الدولة العباسية وقالوا إن الإمامة انتقلت من أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن عبد الله بن عباس بوصية أبي هاشم ثم انتقلت من محمد إلى ابنه إبراهيم ثم من إبراهيم إلى عبد الله الذي كان يدعى أبا العباس السفاح ومنه إلى أبي مسلم. وهؤلاء يعترفون بموت أبي مسلم إلا فريق منهم اسمهم أبومسلمية قالوا إن أبا مسلم حي وإنه روح الإله انتقلت إليه وهم على انتظاره، ويقولون إن الذي قتله أبو جعفر المنصور كان شيطانا تصور بصورة أبي مسلم.

وأما المقنعية

فهم مبيضة ما وراء النهر وكان زعيمهم رجلا كان يعرف بالمقنع وكان رجلا قصارا أعور من قرية من قرى مرو كان قد نظر في شيء من الهندسة والنيرنجات وكان على دين الرزامية ثم ادعى لنفسه الإلهية واحتجب من الناس، فاغتر به جماعة من أهل جبل إبلاق ودامت فتنته أربع عشرة سنة ووافقه جماعة من الأتراك على كفره وكانوا يغيرون على المسلمين ويهزمون عساكر المسلمين في أيام المهدي بن المنصور. وكان المقنع أحل المحرمات لأتباعه وأسقط منهم الصلاة والصوم وجملة الفرائض وكان يقول لأتباعه إنه هو الإله وإنه يظهر مرة بصورة آدم وكان يظهر بعده في صورة كل واحد من الأنبياء وظهر في صورة علي ثم في صورة أولاده على الترتيب الذي ذكرناه ثم في صورة أبي مسلم وقد ظهر الآن في صورة هشام بن الحكم يعني به نفسه. وكان يقول إنما يظهر في هذه الصورة لأن عبيده لا يطيقون أن يروه في صورته الأصلية وأن من رآه في صورته الأصلية احترق، فألح عليه قومه وقالوا نحن نريد أن نراك في الصورة الأصلية فقال هذا شيء سأله قوم موسى فاحترقوا وذلك في القرآن في قوله: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون} فقال قوم منهم رضينا بذلك ويجوز لنا أن نراك ونحترق فوعدهم يوما وأمر فوضع له منبر في مقابلة الشمس وقت الضحوة وعلق مرآة مقعرة من الحديد الصيني فوق المنبر بحيث يكون شعاعها الخارج بينهما بالزاوية القائمة في مقابلة الباب الذي يدخلون منه ثم أذن لهم بعد ارتفاع النهار وأمر برفع الستر فلما وقع عليهم الشعاع احترق منهم قوم وهرب الباقون من ذلك المكان فاغتر به القوم ولم يطالبوه بعد ذلك بالرؤية، وكانوا يتابعونه بعد فيما يأمرهم به. واتخذ حصارا بكش وكان عرض جداره مائة آجرة، وكان قد أحدث قدام الجدار ثلاثة خنادق بين كل خندقين جدار فبعث المهدي جندا فيهم سبعون ألف مقاتل وأتبعهم سعد بن عمرو الجرشي مع عسكر آخر وكانوا يقاتلون المقنع سنين فأمر هو بإصلاح سلالم من الخشب ومن الحديد وكان يصنعها على عرض تلك الخنادق وبعث إلى مولتان حتى حمل إليه عدد كثير من جلود الجواميس فملأها رملا وطرحها في الخندق ليعبر عليه العسكر فلما رأوا تلك الحال استأمن إليه ثلاثون ألفا منهم وقتل الباقون. وكان المقنع قد أصلح تنورا أذاب فيه السكر والقطران فلما ضاق به الأمر طرح نفسه فيه حتى ذاب ولم يبق منه شيء يظهر، فلما طلبه من بقي من أتباعه لم يجدوا منه شيئا قالوا إنه رفع إلى السماء. وأتباعه اليوم أكثر تلك القرى وبحبل أبلاق لا يصلون ولا يصومون ولهم مساجد بنوها يستأجرون من يؤذن لهم فيها، يستحلون أكل الميتة والخنزير والزنا حتى أن كل واحد منهم يستحل حليلة صاحبه ويخفون هذه الأحوال عن عوام أبلاق.

وأما الحلمانية

أتباع رجل يقال له أبو حلمان الدمشقي وكان أصله من فارس ولكنه أظهر بدعته في دمشق وكان يقول كل شخص حسن فروح الإله حال فيه. وقومه إذا رأوا صورة حسنة سجدوا لها. وكان يقول إن كل من كان اعتقاده مثل اعتقادي فلا تكليف عليه وكل ما يشتهيه فهو حلال له.

وأما الحلاجية

فهم ينتسبون إلى أبي المغيث الحسين بن منصور الحلاج من أرض فارس من بلد يقال له بيضاء. وكان في أول أمره يتكلم على لسان الصوفية ويتعاطى العبارات التي تسميها الصوفية الشطح وهو أن يتكلم بكلام يحتمل معنيين أحدهما مذموم والآخر محمود. وكان يدعي في كل علم. وافتتن به أهل العراق وجماعة من أهل طالقان خراسان. واختلف المتكلمون والفقهاء والصوفية في حاله. أما المتكلمون فأكثرهم على أنه من الحلولية وكان محتالا ممخرقا وإليه ذهب القاضي أبو بكر وحكى في كتابه كثيرا من حيله. وجماعة من متكلمي البصرة يقال لهم السالمية وهم من جملة الحشوية يتكلمون ببدع متناقضة قبلوه وقالوا إنه كان صوفيا محققا وله كلام في معان دقيقة في حقائق الصوفية. وكذلك الفقهاء اختلفوا في حاله، سئل أبو العباس بن سريج عن حاله لما أريد قتله فتوقف فيه وأفتى أبو بكر بن داود بجواز قتله. وكذلك أهل التصوف اختلفوا في حاله فرده عمرو بن عثمان المكي وأبو يعقوب الأقطع وردوا من كلامه أنه قال يوما للجنيد أنا الحق، فقال له الجنيد أنت بالحق أي خشبة تفسد، فظهرت فراسته حتى صلب بعد ذلك. وقبله أبو العباس بن عطاء وأبو عبد الله بن خفيف وأبو القاسم النصرآبادي وفارس الدينوري وقالوا أظهر الله عليه أحوالا من الكرامات وكان من حقه أن يحفظ سره فيها فعاقبه الله تعالى بتسليط من كان يرده عليه حتى بقي حاله مشكلا ملبسا، قالوا والدليل على صحة باطنه أنه كان يقطع يده ورجله ويقول حسب الواجد إفراد الواحد. وحكي عنه أنه سئل يوما عن دينه فقال ثلاث أحرف لا عجم فيها ومعجومان وانقطع الكلام، قالوا أراد به التوحيد والذين قالوا بتفكيره إنما قالوه لما حكوا عنه أنه كان يقول كل من هذب نفسه في الطاعة وصبر على اللذة وصفا حتى لا يبقى فيه شيء من البشرية حل فيه روح الإله كما حل في عيسى عليه السلام ولا يريد شيئا إلا كان كما أراد ويكون جملة فعله قول الله تعالى. وكان يدعي لنفسه هذه المنزلة ووجد له كتب كتبها إلى أتباعه عنوانها "من الهو هو رب الأرباب المتصور في كل صورة إلى عبده فلان". وأتباعه كانوا يكتبون إليه يا ذات الذات ومنتهى غاية اللذات نشهد أنك تتصور فيما شئت من الصور وأنك الآن متصور في صورة الحسين بن منصور ونحن نستجيرك يا علام الغيوب. ويقال إنه اختدع جماعة من خواص المقتدر فخاف المقتدر فتنة فعرض حاله على الفقهاء واستفتى فيه الفقهاء فوافق مراده فتوى أبي بكر بن داود فأمر حتى ضرب ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه وصلب يوم الثلاثاء لثلاث بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة، ثم أمر حتى أنزل من خشبته وأحرق وطرح رماده في دجلة. وأتباعه الذين من أهل طالقان قالوا إنه حي وإن الذي قتل كان شخصا ألقي عليه شبهه والله أعلم بحقيقة الأمر.

وأما العذافرة

فهم أتباع رجل ظهر في أيام الراضي بن المقتدر سنة اثنين وعشرين وثلثمائة، وهو أبو العذافر محمد بن علي الشلمغاني. وكان يدعي أن روح الإله قد حل فيه وكان يسمي نفسه روح القدس، وكان قد وضع لأصحابه كتابا سماه كتاب الحاسة السادسة وكان قد أباح لهم اللواطة في ذلك الكتاب، وأتباعه كانوا يبيحون له حرمهم وكانوا يقولون إنه إذا ألم بشخص وصل نوره إليه. فقتله الراضي بالله وظفر بجماعة من أصحابه مثل الحسين بن القاسم بن عبد الله وأبي عمران إبراهيم بن محمد بن المنجم ووجد الكتب التي كتبوها إليه. فوجد فيها أنهم قالوا في وصفه إنه قادر على كل شيء، فعرضوا على الفقهاء الذين كانوا في زمانه مثل ابن سريج فأظهروا التوبة فأفتى أبو العباس بن سريج بقبول توبتهم كما هو مذهب الشافعي وأفتى أبو الفرج المالكي على مذهب مالك أنه لا تقبل توبتهم إذا عثر عليهم وإنما تقبل إذا أظهروا حالهم على الابتداء، فأمر الراضي بالله بقتلهما مع أبي العذافر وطرح رمادهم في دجلة بعد إحراق جثثهم.

الفرقة الحادية عشرة منهم الخرمية

وهم فرقتان:

فرقة منهم كانوا قبل دولة الإسلام وهم المزدكية كانوا يستحلون المحرمات كلها وكانوا يقولون إن الناس كلهم شركاء في الأموال والحرم. وقتلهم أنوشروان في أيام مملكته.

والفريق الثاني من الخرمية ظهروا في دولة الإسلام كالبابكية والمازبارية ويسمون المحمرة.

فالبابكية أتباع بابك الخرمي الذي ظهر بناحية أذربيجان وكثرت أتباعه. وكان يستحل المحرمات كلها وهزم كثيرا من عساكر بني العباس في مدة عشرين سنة إلى أن أسر مع أخيه إسحاق وصلب بسر من رأى في أيام المعتصم.

وأما المازبارية فهم أتباع مازبار، فإنه كان يدعو إلى دين المحمرة، وظهر له أتباع في جبال طبرستان وإليهم تنسب قنطرة المحمرة بجرجان وذاك من آثارهم. وقبض عليه أيضا في أيام المعتصم وصلب أيضا بسر من رأى في مقابلة بابك الخرمي.

وللبابكية في تلك الجبال ليلة يجتمعون فيها على كل نوع من الفساد من الخمر والزمر وغير ذلك ويجتمع فيها الرجال والنساء ثم يطفئون السراج والنيران ويقوم كل واحد منهم بواحدة من النساء اللاتي جلسن معهم كيفما يقع. وهؤلاء الخرمية يدعون أنه كان لهم ملك في الجاهلية اسمه شروين ويفضلونه على الأنبياء، ومتى ما ناحوا على ميت لهم أخذوا باسمه ندبة ونياحا تفجعا عليه .

الفرقة الثانية عشرة منهم أهل التناسخ

وهم قوم من الفلاسفة قبل الإسلام، وكان سقراط من جملتهم. وكان في دولة الإسلام من أهل التناسخ فريقان فريق من جملة القدرية وفريق من غلاة الروافض. وماني الثنوي قال بالتناسخ في بعض كتبه وذكر أن أرواح الصديقين إذا خرجت من أبدانهم اتصلت بعمود الصبح إلى أن تبلغ النور الذي فوق الفلك ويكونون في السرور دائما، وأرواح أهل الضلالة تتناسخ في أجسام الحيوان فلا تزال تنتقل من حيوان إلى حيوان إلى أن يصفو من ظلمته فحينئذ يتوصل بالنور الذي فوق الفلك. وقوم من اليهود أيضا يقولون بتناسخ الأرواح ويقولون إنهم وجدوا في كتاب دانيال أن الله تعالى مسخ بخت نصر في سبع صور من صور الدواب والسباع.

وأما الذين يقولون بالتناسخ من القدرية فهم أتباع أحمد بن خابط، وكان من أصحاب النظام وكان ينتسب إليه ويقول بالطفرة وينفي الجزء الذي لا يتجزئ. وكان يقول إن قدرة الله تعالى تنقطع حتى لا يقدر على أن يزيد في نعيم أهل الجنة شيئا ولا أن يزيد في عذاب أهل النار شيئا، وكان انتسابه إليهم بهاتين المقالتين ثم زاد عليهم القول بمذهب أهل التناسخ. وكان أحمد بن بانوش من أصحابه وكان ينتسب إليه ويقول بالتناسخ. وبينهما خلاف كثير في مواضع. وكان أحمد بن محمد القحطي في زمان الجبائي يجمع بين القول بالاعتزال والتناسخ. وكان عبد الكريم ابن أبي العوجاء خال معن بن زائدة في السر على دين المانوية وكان يقول بالتناسخ وكان في الظاهر ينتسب إلى القدرية والرافضة ووضع كثيرا من الأحاديث اغتر بها الروافض وأفسد على الروافض صومهم ووضع لهم حسابا يغيرون به رءوس الشهور ونسب ذلك إلى جعفر بن محمد بن جعفر الصادق رضي الله عنه، ولما ظهر خبر وضع الحساب أمر بقتله أبو جعفر محمد بن سليمان الهاشمي فصلب. وبينهم خلاف كثير في معنى التناسخ، كان أحمد بن خابط يقول إن الله خلق الخلق في أبدان صحيحة وعقول تامة في دار ليست دار الدنيا وخلق لهم المعرفة به وأتم نعمته عليهم وأمرهم بشكره وكان يقول إن الإنسان في الحقيقة هو الروح لا هذا القالب الذي نشاهده وإن الروح هي عالم قادر وكان يقول إن الحيوانات كلها جنس واحد وإن جميع الحيوانات في محل التكليف ثم كان يقول إن من أطاعه في تلك الدار أقره هناك ومن عصاه هناك أخرجه منها إلى النار، وكل من عصاه في البعض وأضاعه في البعض بعثه إلى دار الدنيا وألبسه هذه القوالب وابتلاهم تارة بالشدة وتارة بالراحة وتارة بالألم وتارة باللذة وجعل قوما منهم في صورة الناس وقوما في صورة الطيور وقوما في صورة السباع وقوما في صورة الدواب وقوما في صورة الحشرات كالحية وما أشبه ذلك، وكانت درجاتهم في هذا المعنى على قدر معاصيهم فمن كانت معصيته أقل في تلك الدار كانت صورته في الدنيا أحسن ومن كانت معصيته هناك أكثر كان قالب روحه في الدنيا أقبح، ويقولون إن الحيوان في الحقيقة هو الروح ولا يزال في دار الدنيا ينتقل من قالب إلى قالب على مقدار الطاعات والمعاصي من قوالب الناس والدواب حتى تتمحص طاعاته فينقل إلى دار النعيم أو معاصيه فينقل إلى دار الجحيم. وخالفه أحمد بن بانوش فقال متى كان في صورة بهيمة لا يكون عليه تكليف. وكان أحمد ابن خابط يقول بل يكون عليه التكليف ويكون التسخير للذبح والركوب عقوبة له. وكان أحمد بن بانوش يقول من المكلفين من يكرر طاعاته حتى يصير مستحقا لأن يصير نبيا أو ملكا. وكان القحطي منهم يقول إن الله تعالى لم يكلفهم ابتداء ولكنهم سألوا أن يكلفهم ليرفع به درجاتهم لأن الله تعالى عرفهم أنهم لا يدركون الدرجات إلا بالتكليف وأنهم إن عصوا يستحقون العقوبة وقالوا رضينا به وكان يقول هذا معنى قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} وكان أبو مسلم الحراني منهم يقول إن الله تعالى خلق أرواحهم وكلف به من علم أنه يعصيه لكنهم عصوا على الابتداء فنقلهم بالمسخ والنسخ إلى قوالب مختلفة على قدر معاصيهم.

الفرقة الثالثة عشرة خابطية القدر

أصحاب أحمد بن خابط. وقد ذكرنا قوله في التناسخ وكان مشاركا للفضل الحدثي في ضلالاته وهو أنه كان يقول للخلق إلهان أحدهما قديم والآخر محدث وهو عيسى بن مريم وكان يقول عيسى بن مريم ابن الله لا على معنى الولادة ولكن على معنى أنه تبناه وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة وهو الذي يقول الله تعالى فيه {وجاء ربك والملك صفا صفا} ويقول فيه {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور} قال فقد خلقه الله على صورة نفسه قال وهو المراد بقول النبي : «ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» وبقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله لما خلق العقل وقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال له ما خلقت خلقا أكرم منك بك أعطي وبك آخذ". وقولهم في هذا شر من قول الثنوية حين أضافوا الأفعال إلى فاعلين اثنين.

الفرقة الرابعة عشرة الحمارية من القدرية

وهم قوم من المعتزلة يسكنون عسكر مكرم واختاروا من بدع القدرية ما هو شر وأقبح لركاكة عقولهم وسخافة معارفهم، فأخذوا القول بالتناسخ من أحمد بن خابط وأخذوا من عباد بن سليمان الضمري قوله إن الذين مسخهم الله قردة وخنازير كانوا ناسا بعد المسخ وأخذوا من جعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري قوله إن النظر الأول الذي تحصل به المعرفة فعل لا فاعل له، وكان يقول إن الخمر ليس من فعل الله ولكنه من فعل الخمار وكان يقول إن من وضع اللحم حتى يدود كان الدود من خلقه ومن دفن الآجر والتبن حتى تولد منه العقرب كان العقرب من فعله ومن دفن الكمأة حتى صارت حية كانت الحية من فعله، فنسبوا خلق الدود والحية والعقرب إلى الإنسان في هذه المواضع.

الفرقة الخامسة عشرة منهم يزيدية الخوارج

أتباع يزيد الخارجي. وكان من البصرة ثم رجع إلى جور فارس، وكان على رأي الإباضية من الخوارج وكان يقول إن الله تعالى يبعث رسولا من العجم وينزل عليه كتابا ينسخ به شريعة محمد وكان يقول أتباعه يكونون في الصائبة المذكورة في القرآن.

الفرقة السادسة عشرة منهم ميمونية الخوارج

وهم أتباع رجل كان اسمه ميمونا وكان على مذهب العجاردة ثم خالفهم ورجع إلى مذهب القدرية في باب القدر والإرادة والاستطاعة، ثم اختار من دين المجوس استحلال بنات النبات وبنات البنين وأباح لأتباعه التزوج بهن، وكذلك أباح لهم التزوج ببنات الإخوة والأخوات. وكان ينكر سورة يوسف ويقول إنها ليست من القرآن.

الفرقة السابعة عشرة منهم الباطنية

وفتنتهم على المسلمين شر من فتنة الدجال، فإن فتنة الدجال إنما تدوم أربعين يوما وفتنة هؤلاء ظهرت أيام المأمون وهي قائمة بعد. وإنما ظهرت فتنتهم عن تدبير جماعة وهم عبد الله بن ميمون القداح وكان مولى جعفر بن محمد الصادق ومحمد بن الحسين المعروف بدندان وجماعة كانوا يدعون الجهاربجة الذين كانوا مع الملقب بدندان ومع ميمون بن ديصان، كلهم اجتمعوا في سجن العراق ووضعوا مذهب الباطنية فلما خلصوا من السجن ظهرت دعوتهم. وأول من قام بها محمد بن الحسين الملقب بدندان، ابتدأ الدعوة في أكراد جبال توز حتى دخل في دعوته جماعة من أهل بدين. ثم إن ميمون بن ديصان قصد ناحية المغرب وانتسب إلى عقيل بن أبي طالب فلما أجابته جماعة ادعى أنه من أولاد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق فقبله منه جماعة من الجهال الذين لم يعلموا أن محمد بن إسماعيل بن جعفر خرج من الدنيا ولم يعقب، وهذا شيء قد اتفق عليه النسابة. ثم ظهر في أتباعه رجل اسمه حمدان قرمط فدعا أهل البحرين، وكان أبو سعيد الجنابي الذي تغلب على أهل البحرين من أتباعه وأجابه جماعة. ثم خرج سعيد بن الحسين بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح إلى المغرب وغير اسمه ونسبه فقال أنا عبيد الله بن الحسين بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأجابه جماعة من أهل المغرب. ثم خرج منهم رجل كان يدعى أبا حاتم إلى أرض الديلم فأجابته منهم جماعة. ودخل في دعوتهم من أهل خراسان الحسين بن علي المروزي في الوقت الذي كان يتولى هراة ومروروذ، ولما قتل قام بدعوته فيما وراء النهر محمد بن أحمد النسفي المعروف بالبزدوي وأبو يعقوب السجزي أقام دعوته بناحية سجستان وهذا البزدوي صنف لهم كتبا سمى واحدا منها كتاب المحصول وآخر كتاب أساس الدعوة وآخر كتاب كشف الأسرار وآخر كتاب تأويل الشريعة. وذكر أهل التاريخ أن دعوة الباطينة ظهرت في أيام المأمون وانتشرت في أيام المعتصم، ودخل في دعوتهم من حشم المعتصم رجل يقال له أفشين وكان بسببه يداهن بابك الخرمي حتى هزم عددا من عساكر المسلمين حتى اجتمع أبو دلف العجلي وقواد عبد الله بن طاهر وهزموا بابك الخرمي وأسروه وصلب بسر من رأى سنة ثلاث وعشرين ومائتين.

وذكر أهل التواريخ أن الذين وضعوا دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس وكان ميلهم إلى دين أسلافهم ولكنهم لم يقدروا على إظهاره مخافة سيوف المسلمين فوضعوا قواعد على موافقة أساس وضعوه حتى تغتر به الأغمار، وذلك أن الثنوية قالوا إن للعالم صانعين أحدهما النور يكون منه الخيرات والمنافع والآخر الظلمة يكون منه الشرور والمضار وقالوا إن جملة الأجسام امتزجت منهما ثم قالوا إن كل واحد من هذين الأصلين له طبائع أربعة الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ثم اقتدى بهم المجوس وقالوا إن للعالم صانعين يزدان وأهرمن، ثم غيرت الباطنية عباراتهم فقالوا إن الله تعالى خلق النفس وكان الله هو الأول والنفس هو الثاني وربما قالوا العقل هو الأول والنفس هو الثاني، وزعموا أن هذين يدبران العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأربعة، وهذا بعينه قول المجوس حيث قالوا إن مدبر العالم اثنان أحدهما قديم والآخر حادث حدث من فكرته، إلا أن المجوس قالوا هما يزدان وأهرمن والباطنية قالوا هما العقل والنفس. وقد كان منهم من جملة البرامكة من سعى في إظهار عبادة النار بين المسلمين فقال لهارون الرشيد ينبغي أن ترتب في الكعبة إحراق العود والند ليكون ذلك أثرا زائدا على من قبلك وأراد بذلك أن يجعل الكعبة بيت نار فلما وقف عليه علماء زمانهم عرّفوا الخليفة حاله وصرفوه عن ذلك الرأي.

وكما أن الباطنية احتالوا في أصول الدين احتالوا في اختداع أتباعهم واستمالة قلوبهم فأباحوا لهم جملة اللذات والشهوات وأباحوا لهم نكاح البنات والأخوات وأسقطوا عنهم فرائض العبادات وتأولوا أركان الشريعة فقالوا معنى الفرائض موالاة زعمائهم وأئمتهم ومعنى المحرمات تحريم موالاة أبي بكر وعمر وكل من خالف مذهب الباطنية ، وكانوا يؤولون الملائكة على دعاتهم الذين يدعون إلى بدعتهم وقالوا إن الشياطين هم الذين لا يكونون على مذهبهم من المسلمين من علماء أصحاب الحديث والرأي، وكانوا يسمون موافقيهم على بدعهم المؤمنين ومخالفيهم الحمير والظاهرية.

وكان من جملتهم رجل اسمه عبيد الله بن الحسين القيرواني كتب رسالة إلى سليمان بن الحسن القرمطي وكتب فيها: أوصيك بتشكيك الناس في التوراة والإنجيل والقرآن فإنه أعظم عون لك على القول بقدم العالم وأوصيت إليك بأن تعرف مخاريق الأنبياء والأمور التي ناقضوا فيها كما قال عيسى لليهود أنا لا أرفع شيئا من شريعتكم ولا أنسخ ثم رفع السبت ووضع بدله الأحد وغير قبلة موسى فلما عثر اليهود منه على هذه المناقضة قتلوه وينبغي أن لا تكون كصاحب الأمة المنكوسة لما سألوه عن الروح لم يدر ما يقول فقال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وهم قبلوا منه ذلك وينبغي أن لا تكون كموسى ادعى ما ادعاه ولم يكن له برهان سوى المخرقة وحيل الشعبذة وذلكم المحق في زمانه قال: {فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى} - وإنما سماه محقا على مذهبه على معنى أنه كان صاحب زمانه في دوره - وذكر في تلك الرسالة فقال: وأعجب من هذا في دينهم أن الواحد منهم يكون له ابنة حسناء يحرمها على نفسه ويبيحها للأجنبي ولو كان له عقل لعلم أنه أولى بها من الرجل الأجنبي ولكنهم قوم خدعهم رجل بشيء لا يكون أبدا خوّفهم بالقيامة والنار ومنّاهم الجنة واستعبدهم لهذا السبب، فكيف لم يخف في نفسه مما خوفهم به حين استعبدهم في العاجل ولم يبال به. ثم ذكر المدبر في آخر هذا الكتاب: إنك وإخوانك هم الوارثون الذين ورثوا الفردوس، وأراد بإخوانه الباطنية وزعم أنهم هم الذين يرثون الفردوس، ثم فسر الفردوس فقال هو نعيم الدنيا ولذاتها التي حرمها على هؤلاء الجهال الذين تمسكوا بشرائع قوم من المتنبئين هنيئا لكم الراحات التي وصلتم إليها والخلاص من التكليفات التي ابتلوا بها.

واعلم أن أول ما يحتالون به هؤلاء على السلاطين والعوام الذين لا خبرة لهم في العلوم تقبيحهم العلماء في أعين العوام يقولون للواحد منهم إن علماءكم لا يعرفون شيئا ولو شئتم لجربتموهم وعرفتم من حالهم ما يقولون سلوهم لم وجب غسل الوجه في الوضوء والحدث خرج من موضع آخر وأي حكمة وأي عاقل يستحسن مثل هذا ولم وجب غسل جميع البدن من قطرة مني خرجت منه ولم يجب على كثير من الحدث والبول يخرج منه إلا غسل أعضاء من البدن قالوا وهذا بالعكس أولى واسألوا منهم لم كانت صلاة المغرب ثلاث ركعات وصلاة الصبح ركعتين كل واحد منهما في طرف من طرفي النهار ولم كان الركوع واحدا والسجود اثنين ولم لم يقطع فرج الزاني وتقطع يد السارق وهما جميعا آلة الخيانة واسألوهم لم كان اللسان واحدا والأذن اثنتين والذكر واحدا والخصية اثنتين ولم كانت الأهداب ثابتة على جفن الإنسان ولا يكون لسائر الحيوانات الأهداب إلا على أحد الجفنين ولم كان ثدي الإنسان على صدره وثدي سائر الحيوانات على بطنها ولم كان بعض الحيوانات يبيض وبعضها يلد. وإذا ظفروا بواحد من السلاطين والمحتسبين قالوا له وضعت هذه الشريعة للحمير والعوام وأنتم من جملة الخواص، ينبغي أن يكون لدينك خاصية تخالف دينهم، ويقولون إن النبي لم يكن نبيا ولا رسولا ولكنه كان حكيما أراد أن يستعبد العوام فكلفهم هذه التكاليف ولا بد للخواص أن يتميزوا عنهم ولا ينقادوا لشيء لا أصل له.

وإذا وردت هذه الأسئلة على العامي تحير فيها ورجع إلى واحد من أهل العلم فيقول العالم لا تسمع هذا الكلام ولا تغتر به لأنه كلام الباطنية وهذا الذي تسألني عنه إنما هو أمور أمر الله بها فلا اعتراض عليه ولو أمر بخلافه لكان يجوز وأشياء خلقها الله كان يجوز أن يخلق بخلافها لعموم قدرته ألا ترى أن الله تبارك وتعالى خلق بعض الحيوانات على رجلين وبعضها على أربع وبعضها خلق بلا رجل تمشي على بطنها وفيها ما يطير بالجناح وخلق بعضها يمشي على البر ولو سقط في الماء هلك وبعضها يعيش في البر والبحر وخلق بعض الأجسام بحيث ترسب في الماء مثل الحجر والحديد وبعضها يطفو على الماء كالخشب وغيره فهذا كله دليل عموم قدرة الله تعالى وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}

فإذا رجع العامي إلى من لقنه تلك الأسئلة وذكر له الجواب الذي وصفه قال له قد علمت الآن أنك لا تعرف شيئا فشككه في أمر الدين وفي حال العالم فأوهم بذلك الغر الغمر أن تحتها حكمة عظيمة يعرفها ويقولون إذا تحير العامي لا يعرف أسرار هذه الأمور غيرنا فإذا طالبهم العامي ببيانه يقولون ليس هذا من الأسرار التي تفشى بلا عهد ولا ميثاق فإنها أسرار يعرفها الخواص فيحلفونه بالله وبالرسول وبالعتاق والطلاق وتسبيل المال والنعم -وإن كان هذا اليمين لا خطر لها عندهم فإنهم لا يؤمنون بالله وبالرسول ولكنهم يريدون التهويل على المسلم- ويقولون أيضا لا نظهره إلا بتقديم خير عليه فيطلبون مائة وتسعة عشر درهما من السبيكة الخالصة ويقولون هذا تأويل قول الله تعالى: {وأقرضوا الله قرضا حسنا} فالحاء والسين والنون والألف إذا جمع عددهم بحساب الجمل يكون مبلغه مائة وتسعة عشر فإذا سمع الغر هذا الكلام وبذل لهم العهد وأعطى هذا المال قال لهم لم يبق إلا أن تهدوني إلى طريقكم وتفشوا إلي أسراركم فيخافون أن يظهروا له حقيقة ما هم عليه فيظهرون له ما يشبه أن يكون ظاهره دين الإسلام حتى لا يبادر إلى الإنكار عليهم ويستقر مع ذلك مقدار من خرافاتهم ثم يلقون الأمر إليه درجة درجة فيسلخونه من الدين سلخا. فمما يلقونه إلى المبتديء قولهم إن الله تعالى خلق ذوات الأربع من الحيوانات فاختار منها واحدا وهو الظبية جعلها محلا للمسك الذي فيه تكون هذه الروائح الطيبة في هذه الجنة ويعنون بالجنة دار الدنيا ونعيمها وخلق ذوات الأجنحة من الحيوانات واختار منها واحدة وهي النحلة وجعلها محلا للشهد الذي منه أطيب الحلاوات في هذه الجنة وخلق الحيوانات التي تمشي وتتحرك على بطنها فاختار واحدة وهي دودة القز وجعل منها الإبريسم الذي منه زينة هذه الجنة وخلق الناس واختار منهم محمدا فيستحسن المبتدئ هذا الكلام الذي يلقيه إليه ويقول أتدري من محمد فيقول نعم محمد رسول الله خرج من مكة وادعى النبوة وأظهر الرسالة وعرض المعجزة فيقول ليس هذا الذي تقول إلا كقول هؤلاء الحمير -يعنون به المؤمنين من أهل الإسلام- إنما محمد أنت، فيستعيذ السامع ويقول لست أنا محمدا فيقول له: الله تعالى وصف في هذا القرآن فقال {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} وهؤلاء الحمير يقولون من مكة، فيقول له الغر الغمر على أي معنى نقول أنا محمد فيقول خلقك وصورك خلقة محمد فالرأس بمنزلة الميم واليدان بمنزلة الحاء والسرة بمنزلة الميم والرجلان بمنزلة الدال، وكذلك أنت عليٌّ أيضا عينك هي العين والأنف هي اللام والفم هي الياء ثم يقول إن الله ما خلق شيئا إلا على صورة محمد وعلي حتى الفأرة خلقها على هذه الصورة، يوهمه بأن قول القائل محمد وعلي رضي الله عنه لا لشخصين من الأشخاص المعينة يريد النبي والمسمى بعلي رضي الله عنه. وكذلك يقولون إن المراد بإثبات الذات يرجع إلى نفسك ويؤولون عليه قول تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت} ويقولون الرب هو الروح والبيت هو البدن، يمهدون بكلامهم هذا أن لا إله ولا نبي سوى هذا البدن على التصوير الذي صوره حتى يقرروا عنده أن لا تكليف عليه ولا قطع له عن الراحة البشرية، ويبتدؤن بالدعاء لأهل البيت ويجتمعون بالسلخ عن الديانة وربما دعوا إلى الأئمة السبعة أو الأئمة الاثني عشر فإذا أجابهم الجاهل وأنس بهم قالوا هذه الأئمة ناس مثلك ليس لهم شرف عليك هذه أسماء تذكر ولها سر معلوم أنها هي المدبرة للعالم بطباعها فيخرجونه عن الدين بمثل هذه الحيل. وإن صادفوا من له حرص على التنسك والعبادة كلفوه الوصال في الصوم أياما حتى إذا ضعف المسكين ومل عن جميعه ورأوا منه السآمة الظاهرة دعوه إلى ترك العبادات والإقبال على اللذات وصوروا له أن الأصل لهذه التكليفات في الأمور الشرعية مثل ما ذكرناه بشرط تفهم وربما صوروا للغر طريق التناسخ كما وصفناه قبل، ثم يختمون كلامهم بنفي الشريعة ونفي الرسول والمرسل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفي المسلمين شرهم فما هم إلا كما قال الله تعالى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون} لا جرم أنهم في الاخرة هم الخاسرون.

الباب الرابع عشر في بيان مقالات قوم كانوا قبل دولة الإسلام

والله اعلم بعددهم وإنما نذكر منهم ما اشتهر من جملتهم عند أرباب التواريخ وأصحاب المقالات

فمنهم قوم كانوا يعبدون صنما مصورا، وقوم كانوا يعبدون إنسانا مثل الذين كانوا يعبدون جمشيد والذين كانوا يعبدون نمروذ بن كنعان والذين كانوا يعبدون فرعون وهامان وما أشبه ذلك.

ومنهم قوم كان عاداتهم عبادة ما يستحسنونه من الصور المختلفة وهم من جملة الحلولية.

ومنهم قوم كانوا يعبدون الشمس والقمر والكواكب وقوم كانوا يعبدون بعض الكواكب مثل الشعرى والجوزاء.

وقوم كانوا يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله، وهم الذين قال الله تعالى في وصفهم {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى}

وقوم كانوا يعبدون حيطانا، وقوم كانوا يعبدون البقرة.

ومنهم قوم كانوا قبل دولة الإسلام يدعون سوفسطائية ينفون الحقائق. وقوم يسمون السمنية ينفون النظر والاستدلال ويقولون بقدم العالم. وقوم يقال لهم الدهرية يقولون بقدم العالم وينكرون الصانع. ومنهم قوم يدعون أصحاب الهيولى يقولون بقدم أصل العالم ويقرون بحدوث الأعراض. وقوم من الفلاسفة يقولون بأن للعالم صانعا قديما ولكن يقولون أيضا لأن العالم قديم كما أن صانعه قديم ويقولون بقدم الصنعة والصانع، وعلى هذا المذهب كان برقلس.

وقوم من الفلاسفة يقولون إن الطبائع الأربع قديمة وهي الأرض والماء والنار والهواء. وزاد على هؤلاء قوم منهم فقالوا إن هذه الأربعة قديمة والأفلاك والكواكب أيضا قديمة. وزاد قوم منهم طبيعة خامسة زعموا أنها قديمة.

ومنهم قوم يقال لهم المجوس وهم أربع فرق الزروانية والمسخية والخرم دينية والبه آفريدية. وهؤلاء كلهم على مذهب المجوس يقولون بيزدان وأهزمن.

ومنهم قوم يقال لهم الصابئة وهؤلاء قوم ينتحلون مذهب أصحاب الهيولى كما وصفناه.

ومنهم قوم يقال لهم البراهمة ينكرون جميع الأنبياء ولكنهم يقولون بحدوث العالم وتوحيد الصانع.

ومنهم قوم يقال لهم اليهود وقد ورد عن النبي أنهم يفترقون على إحدى وسبعين فرقة. واعلم أن سبب تفرقهم ما ذكره جمهور المفسرين أن قوما من بني إسرائيل لما طالت عليهم المدة وقست قلوبهم تكلفوا ووضعوا كتبا كما كانوا يشتهونه وكانوا يدعون أن تلك الكتب من عند الله وكانوا يقولون إن من خالفنا في هذا قتلناه ثم تفكروا فقالوا جميع بني إسرائيل لا يمكن قتلهم ولكن لبني إسرائيل عالم هو حبرهم فيما بينهم كبير نعرض ما وضعناه عليه فإن قبله صار من أتباعنا وإن لم يقبله قتلناه حتى يصير جميع بني إسرائيل تبعا لنا فراسلوه فعلم الرجل ما في أنفسهم فكتب كتاب الله في رق رقيق بخط دقيق ووضع ذلك في قرن ثم تقلد ذلك القرن ولبس فوقه الثياب ثم جاء إليهم فعرضوا عليه ما كان عندهم ودعوه إلى الإيمان به فأشار إلى صدره حيث كان ذلك القرن وقال: نعم آمنت بهذا وما لي لا أؤمن به، وكان له أصحاب كانوا يراعون حاله حتى مات فوجدوا معه ذلك القرن فقالوا إنه إنما قال لهذا القرن آمنت به واختلفوا فيه ووقع الخلاف بسببه في بني إسرائيل حتى صاروا إحدى وسبعين فرقة خيرهم أصحاب القرن.

وعلى الجملة جميع اليهود في أصل الدين فريقان: قوم منهم ينكرون نبوة محمد وقوم لا ينكرون يقولون إنه كان نبيا ولكن كان مبعوثا إلى العرب دون العجم وهم العيسويون يكونون بأصفهان.

واعلم أن جميع اليهود في أصول التوحيد فريقان:

فريق منهم المشبهة وهم الأصل في التشبيه وكل من قال قولا في دولة الإسلام بشيء من التشبيه فقد نسخ على منوالهم. وأخذ مقالة من مقالهم الروافض وغيرهم. ولهذا قال النبي : "الروافض يهود هذه الأمة" لأنهم أخذوا التشبيه من اليهود.

الفريق الثاني منهم هم القدرية ينكرون الرؤية ويقولون إن الحيوانات يخلقون أفعالهم وأكثر الأمم كان فيما بينهم جماعة من القدرية ولهذا قال النبي : لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا. والقدرية الذين ظهروا في دولة الإسلام أخذوا طريقهم من قدرية اليهود . وقد كان في عصرنا جماعة ممن ينتسب إلى أصحاب الرأي ويتستر بمذهبهم وهو يضمر الإلحاد والقول بالقدر وكان يراجع اليهود ويتعلم منهم الشبه التي يغرون بها العوام. وكفاهم خزيا تعلمهم من اليهود واقتداؤهم بهم والله سبحانه وتعالى يكفي المسلمين شرهم.

ومنهم قوم يقال لهم النصارى. وقد روينا في الخبر أن النبي قال إنهم يفترقون على اثنتين وسبعين فرقة. وكانوا متمسكين بدين عيسى عليه السلام بعد ما رفع إلى السماء إحدى وثلاثين سنة وكانوا يجرون على الاستقامة إلى أن وقع بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل اسمه بولس قتل منهم مقتلة عظيمة ثم قال لليهود إن كان قوم عيسى على الحق ونحن قد كفرنا بهم يكون علينا غبن عظيم فإنهم يدخلون الجنة ونحن ندخل النار ولكني أحتال حيلة حتى أفسد عليهم دينهم، وكان له فرس اسمه عقاب وكان يقاتل عليه فقام وعقر ذلك الفرس وأظهر الندم على ما كان منه ونثر التراب على رأسه ثم جاء إلى النصارى متندما بظاهره فقالوا له من أنت فقال أنا بولس كنت أشد عدوا لكم ولكني سمعت من السماء نداءين توبتك لا تقبل إلا أن تتنصر الآن تبت ورجعت إلى دينكم فأكرموه وأدخلوه كنيستهم فلازم بيتا من بيوتهم لم يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال سمعت من السماء أن توبتك قد قبلت وأن صدقك قد عرف وأنك قد أحببت وقبلت ثم خرج إلى بيت المقدس واستخلف رجلا من نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ثم خرج إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال لهم إن عيسى لم يكن ناسا ثم صار ناسا ولم يكن جسما ثم صار جسما وكان ابن الله وعلم يعقوب هذا القول ثم دعا رجلا كان اسمه ملكاء وقال له إن الإله الذي لم يزل ولا يزال هو عيسى ثم دعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة وقال له أنت صاحبي خالصا فإني أريد أن أفضي إليك سرا ينبغي أن لا تترك نحلتك هذه وتدعو الخلق إليها فقد رأيت عيسى عليه السلام البارحة في المنام وكان راضيا عني فينبغي أن لا ترجع عن نحلتك بحال فإني أريد أن أتقرب إلى الله تعالى بقربان لرضاه عني أذبح نفسي قربانا ثم قام ودخل المذبح وذبح نفسه. فلما كان اليوم الثالث من وفاته قام كل واحد من أولئك الثلاثة ودعا الناس إلى نحلته وتبع كل واحد منهم جماعة من الناس. وكانوا يتقاتلون فيما بينهم وبقي بينهم ذلك الخلاف ولم يزالوا يختلفون حتى بلغ عدد فرقهم مثل ما نطق به الخبر المروي في هذا الباب. وكان مذهبهم مذهب أصحاب الهيولى وكانوا في بعض دينهم مع اليهود وفي بعضه مع النصارى وابتدعوا من عند انفسهم أمورا كثيرة تخالف الفريقين.

ومنهم قوم يقال لهم السامرة وهم من جملة اليهود ولكنهم خالفوا في أشياء,

واعلم أن جميع من ذكرناهم في هذا الباب من الفرق كفار إلا أن أحكامهم في كفرهم مختلفة في الشريعة كما نذكره في كتب الفقه.

الباب الخامس عشر في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة وبيان مفاخرهم ومحاسن أحوالهم

ويقع في هذا الباب فصول ثلاثة:

أحدها في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة

الثاني في بيان تحقيق النجاة لهم بالطرق التي ننبه عليها

الثالث في بيان فضائلهم

الفصل الأول في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة السليم عن جميع ما ذكرناه من الضلالات

فهو

1 - أن تعلم أن العالم بجميع أركانه وأجسامه وما يشتمل عليه من أنواع النبات والحيوانات وجميع الأفعال والأقوال والاعتقادات كلها مخلوق كائن عن أول حادث بعد أن لم يكن شيئا ولا عينا ولا ذاتا ولا جوهرا ولا عرضا. والدليل على حدوثها أنها تتغير عليها الصفات وتخرج من حال إلى حال، وحقيقة التغيرات أن تبطل حالة وتحدث أخرى. فأما الحالة التي حدثت فحدوثها معلوم بالضرورة والمشاهدة وما كان ضروريا لم يفتقر إلى الاستدلال عليه. ولا يجوز أن يقال إنها انتقلت من باطن الجسم إلى ظاهره لاستحالة الانتقالات على الصفات. وأما الحالة التي بطلت لو كانت قديمة لم تبطل فبطلانها يدل على حدوثها لأن القديم لا يبطل، وإنما قلنا إن القديم لا يبطل لأن خروج الذات عن صفة واجبة له في حال محال لأنها لو جاز خروجها عن تلك الصفة لصارت جائزة الوجود وما كان واجب الوجود لا يصير جائز الوجود كما أن جائز الوجود لا يصير واجب الوجود بحال لأنهما صفتان متناقضتان. وإذا تقرر هذه الجملة أن صفات الأجسام مخلوقة ثبت أن الأجسام مخلوقة لأن ما لا يخلو من الحوادث لا يستحق أن يكون محدثا بالكسر وما لا يستحق أن يكون محدثا كان محدثا بالفتح مثلها. وقد نبه الله تعالى في كتابه على تحقيق هذه الدلالة وأثنى عليها وسماها حجة ومنّ على الخليل إبراهيم عليه السلام بإلهام هذه الدلالة إياه وجعلها سببا لرفع درجته حيث قال: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} إلى قوله {نرفع درجات من نشاء إن ربك عليم حكيم} استدل بالتغير على حدوث الكواكب والشمس والقمر، ثم إن الله تعالى نبه على هذه الطريقة من الإستدلال والاحتجاج فقال: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} وقال: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} إلى قوله: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله في السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}.

2 - وأن تعلم أن المخلوق لا بد له من خالق لأن الأجسام لو كانت بأنفسها مع تجانس ذواتها لم تختلف بالصفات والأوقات والأحوال والمحال، فلما اختلفت علمنا أن لها مخصصا قدم ما قدم وأخر ما أخر وخص كل واحد منها بما اختص به من الصفات لولاه لم يقع الاختصاص في شيء من الأوصاف لأن الاختصاص بأحد الجائزين يقتضي مخصصا لولاه لم يقع التخصيص به. وقد نبه الله تعالى على أصل هذه الدلالة بقوله: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} معناه أم خلقوا من غير خالق كأنه قال من غير شيء خلقهم لما تقرر من استحالة ثبوت ما ثبت بوصف الخلق من غير خالق خلق ولا صانع دبر وصنع. وأنت تعلم أيضا أن خالق الخلق قديم لأنه لو كان محدثا لافتقر إلى محدث وكان حكم الثاني والثالث وما انتهى إليه كذلك وكان كل خالق يفتقر إلى خالق آخر لا إلى نهاية وكان يستحيل وجود المخلوق والخالق جميعا لأن ما شرط وجوده بوجود ما لا نهاية له من الأعداد قبله لم يتقرر وجوده لاستحالة الفراغ عما لا نهاية له لتنتهي النوبة إلى ما بعد. وأصل هذه الدلالة في القرآن وهو قوله: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} فبين أنه كان قبل ما يشار إليه بأنه محدث وقوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} والقيوم مبالغة من القيام وهو الثبات والوجود وهذا دليل على اتصافه بالوجود في جميع الأحوال وأنه لا يجوز وصفه بالعدم بحال وذلك حقيقة القدم، وقوله: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} و {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} فإن البركة هي الثبات وأصله من البرك والبركة والبروك وتبارك مبالغة في معناه وهذا يوجب له الوجود في جميع الأحوال لم يزل ولا يزال . وقد ورد في خبر عمران بن حصين أن النبي قال: «كان الله ولم يكن معه شيء» وهذا يوجب الكون في جميع الأحوال.

3 - وأن تعلم أن خالق العالم واحد لأنه لو كان اثنين ولم يقدر أحدهما على كتمان شيء من صاحبه كانت قدرتهما ناقصة متناهية وإن قدر أحدهما على كتمان شيء من صاحبه كان علم كل واحد منهما ناقصا متناهيا ومن كان علمه أو قدرته متناهيا ناقصا لم يكن إلها صانعا بل كان مخلوقا مصنوعا. وقد نبه الله على هذه الدلالة بقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وقال: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لا تبغوا إلى ذي العرش سبيلا} وفي تحقيق التوحيد وردت سورة الإخلاص إلى آخرها وقوله تعالى: {قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد}

4 - وأن تعلم أن الخالق لشيء ثابت موجود لا يجوز وصفه بالعدم لأن الخالق لا يكون خالقا إلا بأن يكون قادرا ولا يكون قادرا إلا والقدرة قائمة والمعدوم لا يقبل هذه الصفات. وقال الله في تحقيقه: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال تعالى: {فتبارك الله رب العالمين} وذلك يوجب الثبات والقيام والوجود في جميع الأحوال من غير تغير ولا زوال.

5 - وأن تعلم أن الباري سبحانه وتعالى لا يجوز وصفه بالحاجة فإنه يلزمه أن يخرج من وصف الحاجة إلى وصف الاستغناء وذلك يتضمن بطلان صفة وحدوث صفة، والقديم سبحانه وتعالى لا يجوز عليه البطلان ولا الحدوث. وأصله قوله سبحانه وتعالى: {والله الغني وأنتم الفقراء} بين بهذا أن صفة الحاجة والافتقار عليه محال.

6 - وأن تعلم أن خالق العالم قائم بنفسه ومعناه أنه بوجوده مستغن عن خالق يخلقه وعن محل يحله وعن مكان يقله. قال الله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} مبالغة عن القيام والثبات على الإطلاق من غير حاجة إلى صانع يصنعه أو موجد يوجده أو مكان يحله.

7 - وأن تعلم أن القديم سبحانه يرى وتجوز رؤيته بالأبصار لأن ما لا تصح رؤيته لم يتقرر وجوده كالمعدوم وكل ما صح وجوده جازت رؤيته كسائر الموجودات. ودلائل هذه المسألة في كتاب الله كثيرة منها قوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} واللقاء إذا أطلق في اللغة وقع على الرؤية خصوصا حيث لا يجوز فيه التلاقي بالذوات والتماس بينهما. ومنها قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} ومنها قوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} ولا زيادة على نعيم الجنة غير رؤية الرب جل جلاله، وقد ورد عن الرسول تفسير هذه الآية بذلك. ومنها قوله في قصة موسى عليه السلام: {قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} ولو لم تكن الرؤية جائزة لكان لا يتمناها من هو موصوف بالنبوة. وأيضا فإنه سبحانه وتعالى قال في جوابه {لن تراني} ولم يقل لن أُرى وفيه دليل على أنه يصح أن يرى لأنه لو كان لا يصح رؤيته لكان يقول لن أُرى ولما خص نفي الرؤية به. ومنها قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} يبين أن جميع الأبصار لا تدركه، مفهومه أن بعضها يدركه، ثم بين الله سبحانه من يدرك ومن لا يدرك فقال: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} وأن الوجوه الباسرة محجوبة عنه كما فرق بين الفريقين في قوله: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} فالوجوه السود محجوبة عنه والوجوه البيض الناضرة ناظرة إليه. ثم إن النبي خص لأصحابه هذه الحالة فقال: «إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون ولا تضارون في رؤيته» وفي الحديث قيد تحمل عليه آية الرؤية فكأنه قال لا تدركه الأبصار في غير القيامة وتدركه يومئذ فإن المطلق يحمل على المقيد.

8 - وأن تعلم أن الخالق لا يشبه الخلق في شيء، لأن مثل الشيء ما يكون مشاركا له في جميع أوصافه الجائزة والواجبة والمستحيلة ويعبر عنه بأن المثلين كل شيئين ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده. وأصله قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وقوله {ولم يكن له كفوا أحد} وقوله {هل تعلم له سميا}.

9 - وأن تعلم أن خالق العالم لا يجوز عليه الحد والنهاية لأن الشيء لا يكون مخصوصا بحد إلا أن يخصه مخصص بذلك الحد ويقرره على تلك النهاية بجواز غيره من الحدود عليه، والصانع لا يكون مصنوعا ولا محدودا ولا مخصصا. وأصله في كتاب الله تعالى قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} الآية مع قوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} ومع قوله {الرحمن على العرش استوى} ولو كان مخصوصا بحد ونهاية وجملة لم يجز أن يكون منسوبا إلى أماكن مختلفة متضادة وكان لا يجوز أن يكون مع كل واحد وأن يكون على العرش وأن يأتي ببنيان قوم سلط عليهم الهلاك فجاء من الجمع بين هذه الآيات تحقيق القول بنفي الحد والنهاية واستحالة كونه مخصوصا بجهة من الجهات. وفي الجمع بين هذه الآيات دليل على أن معنى قوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} إنما هو بمعنى العلم بأسرارهم ومعنى قوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} أي خلق في بنيان القوم معنى من زلزلة ورجف يكون ذلك سبب خرابه كما قال: {فخر عليهم السقف من فوقهم} وأن معنى قوله {الرحمن على العرش استوى} معناه قصد إلى خلق العرش كما قال: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} ويكون معنى على في هذا الموضع بمعنى إلى أو يكون العرش في هذه الآية بمنزلة المملكة كما يقال ثل عرش فلان إذا زال ملكه وكما قال الشاعر:

(قد نال عرشا لم ينله نائل ** جن ولا أنس ولا ديار)

وقد روى في الخبر عن النبي ما تحقق به المعنى الذي بينا على هذه الظواهر، وذلك أنه قال كان ملك يجيء من السماء وآخر من الأرض السابعة فقال كل واحد منهما لصاحبه من أين تجيء قال من عند الله. ولو كان له حد ونهاية استحال كونه في جهتين مختلفتين فتقرر به استحالة الحد والنهاية وأن جملة الملكوت تحت سلطانه وقدرته وعلمه ومعرفته.

10 - وأن تعلم أن القديم سبحانه ليس بجسم ولا جوهر لأن الجسم يكون فيه التأليف والجوهر يجوز فيه التأليف والاتصال وكل ما كان له الاتصال أو جاز عليه الاتصال يكون له حد ونهاية، وقد دللنا على استحالة الحد والنهاية على الباري سبحانه وتعالى. وقد ذكر الله تعالى في صفة الجسم الزيادة فقال: {وزاده بسطة في العلم والجسم} فبين أن ما كان جسما جازت عليه الزيادة والنقصان ولا تجوز الزيادة والنقصان على الباري سبحانه.

11 - وأن تعلم أن القديم سبحانه ليس بعرض لأن العرض مما يستحيل بقاؤه ولا يكون الخالق إلا باقيا أيضا فإن العرض لا يقوم بنفسه ولا يكون الخالق إلا قائما بنفسه. ودليله من كتاب الله تعالى فإنه سبحانه أطلق اسم العرض على شيء يقل بقاؤه أو لا يعد باقيا في العرف والعادة حيث قال: {تريدون عرض الدنيا} و {هذا عارض ممطرنا}

12 - وأن تعلم أن الباري سبحانه وتعالى يستحيل عليه الولد والزوجة لأن ذلك لا يكون إلا بالاتصال والمماسة وذلك يوجب الحد والنهاية. وقد بينا استحالته عليه سبحانه وتعالى وحقق الله ذلك بقوله {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}

13 - وأن تعلم أنه لا يجوز الشريك له في المملكة لما قد بينا من أن الخالق واحد لا ثاني له والمملوك يستحيل أن يكون خارجا من ملك الخالق. وهذا تحقيق قوله {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا}

14 - وأن تعلم أن الحركة والسكون والذهاب والمجيء والكون في المكان والاجتماع والافتراق والقرب والبعد من طريق المسافة والاتصال والانفصال والحجم والجرم والجثة والصورة والحيز والمقدار والنواحي والأقطار والجوانب والجهات كلها لا تجوز عليه تعالى لأن جميعها يوجب الحد والنهاية، وقد دللنا على استحالة ذلك على الباري سبحانه وتعالى. وأصل هذا في كتاب الله تعالى، وذلك أن إبراهيم عليه السلام لما رأى هذه العلامات على الكواكب والشمس والقمر قال: {لا أحب الآفلين} فبين أن ما جاز عليه تلك الصفات لا يكون خالقا.

15 - وأن تعلم أن كل ما تصور في الوهم من طول وعرض وعمق وألوان وهيئات مختلفة ينبغي أن تعتقد أن صانع العالم بخلافه وأنه قادر على خلق مثله. وإلى هذا المعنى أشار الصديق رضي الله عنه بقوله العجز عن درك الإدراك إدراك. ومعناه إذا صح عندك أن الصانع لا يمكن معرفته بالتصوير والتركيب والقياس على الخلق صح عندك أنه خلاف المخلوقات، وتحقيقه أنك إذا عجزت عن معرفته بالقياس على أفعاله صح معرفتك له بدلالة الأفعال على ذاته وصفاته. وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بقوله {هو الله الخالق البارئ المصور} وما كان مصورا لم يكن مصورا كما أن من كان مخلوقا لم يكن خالقا.

16 - وأن تعلم أن الحوادث لا يجوز حلولها في ذاته وصفاته لأن ما كان محلا للحوادث لم يخل منها وإذا لم يخل كان محدثا مثلها . ولهذا قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {لا أحب الآفلين} بين به أن من حل به من المعاني ما يغيره من حال إلى حال كان محدثا لا يصح أن يكون إلها.

17 - وأن تعلم أن كل ما دل على حدوث شيء من الحد والنهاية والمكان والجهة والسكون والحركة فهو مستحيل عليه سبحانه وتعالى لأن ما لا يكون محدثا لا يجوز عليه ما هو دليل على الحدوث وعليه يدل ما ذكرناها قبل في قصة الخليل عليه السلام.

18 - وأن تعلم أنه سبحانه لا يجوز عليه النقص والآفة لأن الآفة نوع من المنع والمنع يقتضي مانعا وممنوعا وليس فوقه سبحانه مانع. وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون} والسلام هو الذي سلم من الآفات والنقائص والقدوس هو المنزه عن النقائص والموانع. ويعلم بذلك أن لا طريق للآفات والنقائص والموانع إليه. وقد وصف الله تعالى ذاته بقوله: {ذو العرش المجيد} والمجد في كلام العرب كمال الشرف، ومن كان لنوع من النقص إليه طريق لم يكمل شرفه ولم يجز وصفه بقوله مجيد، فلما اتصف به سبحانه علمنا أنه لا طريق للنقص إليه.

19 - وأن تعلم أنه لا يجوز عليه الكيفية والكمية والأينية لأن من لا مثل له لا يمكن أن يقال فيه كيف هو ومن لا عدد له لا يقال فيه كم هو ومن لا أول له لا يقال له مم كان ومن لا مكان له لا يقال فيه أين كان. وقد ذكرنا من كتاب الله تعالى ما يدل على التوحيد ونفي التشبيه ونفي المكان والجهة ونفي الابتداء والأولية. وقد جاء فيه عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أشفى البيان حين قيل له أين الله فقال إن الذي أيّن الأين لا يقال له أين فقيل له كيف الله فقال إن الذي كيف الكيف لا يقال له كيف. واعلم أن الله تعالى ذكر في سورة الإخلاص ما يتضمن إثبات جميع صفات المدح والكمال ونفي جميع النقائص عنه وذلك قوله تعالى: {قل هو الله أحد الله الصمد} في هذه السورة بيان ما ينفي عنه من نقائص الصفات وما يستحيل عليه من الآفات، بل في كلمة من كلمات هذه السورة وهو قوله {الله الصمد} والصمد في اللغة على معنيين أحدهما أنه لا جوف له وهذا يوجب أن لا يكون جسما ولا جوهرا لأن ما لا يكون بهذه الصفة جاز أن يكون له جوف، والمعنى الثاني للصمد هو السيد الذي يرجع إليه في الحوائج، وهذا يتضمن إثبات كل صفة لولاها لم يصح منه الفعل كما نذكره فيما بعد لأن من لا تصح منه الأفعال المختلفة لم يصح الرجوع إليه في الحوائج المتباينة، وقد جمع الله سبحانه وتعالى في هذه السورة بين صفات النفي والإثبات. وقال: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} وقد نبه عليه الرسول فقال: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" معناه من عرف نفسه بالعجز والضعف والنقص والقصور عرف أن له ربا موصوفا بالكمال يصح منه جميع الأفعال فلولاه لم يتم بالعبد العاجز شيء من الواردات عليه. وفي هذا المعنى ورد قول النبي : «تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله» أي ابتدئوا بالفكرة في خلق الله حتى إذا عرفتم الخلق بالعجز عرفتم أن له خالقا قادرا موصوفا بأوصاف الكمال، ومن ابتدأ بالنظر في الخالق أداه إلى ما لا يصح من تشبيه أو تعطيل.

20 - وأن تعلم أن صانع العالم حي قادر عالم مريد متكلم سميع بصير لأن من لم يكن بهذه الصفات كان موصوفا بأضدادها وأضدادها نقائص وآفات تمنع صحة الفعل فصحت ثبوت هذه الصفات له من وجهين أحدهما دلالة الفعل والثاني نفي النقائص. وقد دلت على إثبات هذه ظواهر نصوص القرآن وردت جميعها في الأسماء التسعة والتسعين التي استفاضت بها الأخبار في أسماء الرب جل جلاله. قال الله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} وقال: {وعنت الوجوه للحي القيوم} وقال: {قل هو القادر} وقال: {وهو بكل شيء عليم} وقال: {علام الغيوب} وقال: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء} وقال: {هو الحكيم العليم} والحكيم من وقع أفعاله على موافقة إرادته وجاء في صفته الرحمن الرحيم والغفار والغفور والكريم والتواب وكل ذلك يرجع إلى إرادته للتوبة والنعمة والمغفرة ويدل على إرادته. ومما يدل على إثبات كونه متكلما قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} والإذن من صفات الكلام وقوله {إنه غفور شكور} و {صبار شكور} وشكره للعباد مدحه إياهم على طاعته وذلك من صفات الكلام وورد في أسمائه المجيب وذلك يتم بالكلام. ومن أسمائه الباعث وذلك مما يدل على الكلام ولا يتم بعث الرسل إلا بالكلام وكذلك الشهيد معناه أنه يشهد أنه أرسله بالصدق يوم القيامة وذلك لا يتم إلا بالكلام وكذلك المؤمن ومعناه أنه يصدق أنبياءه ولا يتم ذلك إلا بالكلام. وورود السميع والبصير في الكتاب والسنة أظهر من أن يخفى.

21 - وأن تعلم أن له حياة وقدرة وعلما وإرادة وكلاما وسمعا وبصرا لأن من كان موصوفا بهذه الأوصاف ثبتت له هذه الصفات ولا يجوز أن يكون غير الموصوف بها موصوفا بهذه الصفات كما لا يجوز أن توجد الصفات من غير أن يكون الموصوف بتلك الأوصاف موصوفا بها. وقد ورد في إثبات العلم له آي كثيرة كقوله تعالى: {أنزله بعلمه} {ولا يحيطون بشيء من علمه} {قد أحاط بكل شيء علما} وورد في إثبات القدرة له: {ذو القوة المتين} والقوة والقدرة واحد في العربية. وورد في إثبات الإرادة {فعال لما يريد} {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} فيه دليل على إثبات الإرادة والمشيئة.

22 - وأن تعلم أن صانع العالم باق لأنا قد دللنا على أنه قديم ولا يكون القديم إلا باقيا. وقد ورد في أسمائه البديع الباقي وورد في أسمائه الحي القيوم والقيوم مبالغة من القيام وذلك يتضمن كونه باقيا.

23 - وأن تعلم أن له بقاء لأن ما وصف بكونه باقيا ثبت له البقاء وما لا بقاء له لا يكون باقيا بحال لأن الموجود لو كان باقيا بلا بقاء لكان مستغنيا عن القدرة ولوجب منه أن يكون كل موجود في أول حال وجوده قديما والمحدث لا يجوز أن يكون قديما بحال. وينبه على هذا المعنى قوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}.

24 - وأن تعلم أنه لا يجوز فيما ذكرناه من صفات القديم سبحانه أن يقال إنها هي هو أو غيره ولا هي هو ولا هي غيره ولا أنها موافقة أو مخالفة ولا إنها تباينه أو تلازمه أو تتصل به أو تنفصل عنه أو تشبهه أو لا تشبهه ولكن يجب أن يقال إنها صفات له موجودة به قائمة بذاته مختصة به. وإنما قلنا إنها لا هي هو لأن هذه الصفات لو كانت هي هو لم يجز أن يكون هو عالما ولا قادرا ولا موصوفا بشيء من هذه الأوصاف لأن العلم لا يكون عالما والقدرة لا تكون قادرة ولا موصوفا بشيء من هذه الصفات، وإنما قلنا لا يقال إنها غيره لأن الغيرين يجوز وجود أحدهما مع عدم الآخر ولما استحال هذا المعنى في الذات والصفات لم يجز فيه الخلاف المغاير، وإنما قلنا لا هي هو ولا هي غيره لأن في نفي كل واحد منهما إثبات الآخر وقد بينا استحالة الإثبات فيه، وإنما قلنا لا يقال إنها توافقه أو تخالفه أو تباينه أو تشبهه لأن جميع ذلك يتضمن المغايرة وذلك يتضمن جواز عدم أحدهما مع وجود الآخر وذلك محال.

25 - وأن تعلم أن ما يمتنع إطلاقه من هذه العبارات التي ذكرناها على الذات والصفات يمتنع إطلاقها أيضا على كل صفة منها مع سائر الصفات فلا يجوز أن يقال علمه قدرته ولا أن يقال إنه غيرها أو يخالفها أو يوافقها أو يشبهها أو لا يشبهها لأن جميع ذلك يتضمن إثبات المغايرة وذلك يتضمن جواز وجود أحدهما مع عدم الآخر وذلك محال في الصفات بعضها مع بعض. وقد نبه رسول الله في خبر عمران بن الحصين على ما يتضمن هذا المعنى الذي وصفناه حين قال: «كان الله ولم يكن معه شيء غيره» وذلك إثبات الصفات ونفي المغايرة بينها.

26 - وأن تعلم أن كل صفة قامت بذات الباري جل جلاله لم تكن إلا أزلية قديمة لما قد بينا قبل أن حدوث الحوادث في ذاته لا يجوز.

27 - وأن تعلم أن العدم لا يجوز عليه ولا على شيء من صفاته لأنا قد دللنا على قدم ذاته وصفاته والقديم لا يبطل وقد دللنا عليه لأن البطلان علم الحدوث: ولهذا قال إبراهيم الخليل: {لا أحب الآفلين} استدل بأفوله وبطلانه على حدوثه.

28 - وأن تعلم أن علمه سبحانه عام في جميع المعلومات وقدرته عامة في جميع المقدورات وإرادته عامة في جميع الإرادات، علمها على ما هي عليه وأراد أن يكون ما علم أن يكون وأراد أن لا يكون ما علم أن لا يكون، ولا يجري في مملكته ما لا يريد كونه لان شيئا من صفاته هذه لو اختص ببعض لما صح أن يكون عاما وما كان مختصا به متناهيا في ذاته اقتضى مخصصا يخصه بما اختص به وذلك علم الحدوث. ومما يدل على أوصافه من كتاب الله تعالى قوله {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة} وقوله تعالى {وكان الله بكل شيء عليما} وقوله تعالى في معنى القدرة {والله على كل شيء قدير} وقوله تعالى {الله خالق كل شيء} وهل يكون الخلق إلا بالقدرة، وذلك يدل على عموم القدرة في جميع المقدورات. وجاء في عموم الإرادة قوله تعالى {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وفي هذه الآية دليل على عموم إرادته وعلى أن كلامه قديم لأنه بين أنه لا يخلق شيئا إلا أن يقول له كن ولو كان ذلك محدثا لكان مفعولا له بكن وكذلك الثاني والثالث ويتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية له. ومما يدل على عموم كلامه في متعلقاته ونفي النهاية عنه قوله تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} وإذا تقرر عموم قدرته وعلمه فاعلم أنه يجوز أن يقال في وصفه سبحانه إنه عالم بكل شيء كما يجوز أن يقال إنه عالم بجميع المعلومات ويجوز أن يقال إنه سبحانه وتعالى قادر على جميع المقدورات ويستحيل أن يقال إنه قادر على كل شيء على هذا الإطلاق لأن القديم شيء يستحيل أن يتعلق به القدرة، والذي جاء في القرآن من إطلاق القول بأنه على كل شيء قدير دخله ضرب من التخصيص ومعناه على كل شيء مقدور قدير ولهذا قال أهل المعرفة إن آية العلم لم يدخلها التخصيص وآية القدرة دخلها تخصيص، فأما كون العلم والقدرة لم يدخلهما التخصيص فبمعنى أن يقال في العلم إنه عام في جميع المعلومات وفي القدرة إنها عامة في جميع المقدورات.

29 - وأن تعلم أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت لأن الحرف والصوت يتضمنان جواز التقدم والتأخر وذلك مستحيل على القديم سبحانه. وما دل من كتاب الله تعالى على أن متعلقات الكلام لا نهاية لها دليل على أنه ليس بحرف ولا صوت لوجوب التناهي فيما صح وصفه به.

30 - وأن تعلم أن كلام الله قديم وكلام واحد أمر ونهي وخبر واستخبار على معنى التقدير، وكل ما ورد في الكتب من الله تعالى باللغات المختلفة العبرية والعربية والسريانية كلها عبارات تدل على معنى كتاب الله تعالى ولو جاء أضعاف أضعافه لم تستغرق معاني كلامه، فمعاني كلام الله تعالى لا تستغرقها عبارات المعبرين كما أن معلومات علم الله لا يستغرقها عبارات المعبرين ومقدروات قدرته لا يمكن ضبطها بالحصر والتحديد. وعلى هذه الجملة يدل قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وقوله تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي} الآية كما وصفناه قبل.

31 - وأن تعلم أنه إذا تقرر استحالة التخصيص على صفاته القائمة بذاته ووجوب عمومها في متعلقاتها ثبت به عموم قدرته في جميع مقدوراتها وثبت أنه سبحانه قادر على إماتة جميع الخلق وإبطال جميع الموجودات وعلى أن يخلق أضعاف ما خلق كيف شاء ومتى شاء وأين شاء وأنه سبحانه وتعالى قادر على بعث الرسل وإنزال الكتب وإظهار المعجزات الدالة على صدقهم فإنه قادر على الحشر والنشر وثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي كما قال الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} وقال سبحانه {وإذا القبور بعثرت} وقال جل جلاله: {قال من يحيي العظام وهي رميم} وقال تعالى: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} وقال: {ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} وقال تعالى: {وعرضوا على ربك صفا} وقال تعالى: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا}

32 - وأن تعلم أنه سبحانه وتعالى لا اعتراض عليه في جميع ما يأتيه أو يذره، لا يقال فيما فعله لم فعله ولا فيما تركه لم تركه، لأن الاعتراض إنما يتوجه إلى من صدر قوله عن أمر آمر ونهي ناه وزجر زاجر، وإنما يتوجه الأمر على من إذا خالف كان للعقوبة إليه سبيل ولا سبيل للعقوبة إلى الله تعالى فلا يتوجه عليه الأمر وإذا لم يتوجه عليه الأمر استحال عليه الاعتراض. ولهذه النكتة قلنا إنه لا يجوز عليه سبحانه حظر ولا وجوب. وقد نبه الله سبحانه وتعالى على هذا المعنى بقوله: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة} وقال سبحانه وتعالى: {هو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} وقال سبحانه وتعالى: {ألا له الخلق والأمر} وقال سبحانه وتعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}

33 - وأن تعلم أنه سبحانه وتعالى حكيم في جميع أفعاله وحقيقة الحكمة في أفعاله سبحانه وتعالى وقوعها موافقة لعلمه وإرادته وهو الحكمة في أفعال الحكماء في الشاهد لأن من فعل فعلا لا يقع على موافقة إرادته يقال إنه لم يرتبه على حكمة منه فيه فإذا حصل مراده فيه يقال إنه حكيم في فعله ولا يمكن أن يقال في شيء من أفعاله إنه كان ينبغي أن يوقعه على خلاف ما أوقعه لأنه يتصرف في ملكه ومن تصرف في ملكه لم يتقرر عليه الاعتراض في فعله. ولهذا قلنا إن شيئا من أفعاله لا يكون ظلما وأنه سبحانه يستحيل الظلم في وصفه لأنه لا يتصرف في غير ملكه، ومن تصرف في ملكه لم يتقرر عليه الاعتراض في فعله ومن تصرف في ملكه فليس بظالم في أفعاله. قال الله تعالى: {تنزيل من حكيم حميد} وقال: {وكان الله بكل شيء عليما} وقال سبحانه وتعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون}

34 - وأن تعلم أن الدليل على صدق المدعي للنبوة هو المعجزة والمعجزة فعل يظهر على يدي مدعي النبوة بخلاف العادة في زمان التكليف موافقا لدعواه وهو يدعو الخلق إلى معارضته ويتحداهم أن يأتوا بمثله فيعجزوا عنه فيبين به صدق من يظهر على يده. وما من رسول من رسل الله تعالى إلا وقد كان مؤيدا بمعجزة أو معجزات كثيرة تدل على صدقه. وقد أخبر الله تعالى عن كثير منها فذكر في قصة موسى عليه السلام فلق البحر وقلب العصا حية واليد البيضاء، وفي قصة داود وسليمان تليين الحديد وتسخير الريح والشياطين والطيور وجميع دواب الأرض في البر والبحر، وفي قصة عيسى عليه السلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذكر في صفة المصطفى أنه يدعو مخالفيه إلى معارضة ما أتى به من القرآن أو سورة منه فقال تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} فكان القرآن معجزة له قاهرة لأعدائه إلى معجزات كثيرة سواها ظهرت على يده بخلاف العادة مثل تكليم الذراع وتسبيح الحصى في يده ونبوع الماء من بين أصابعه وحنين الجذع عند مفارقته وإجابة الشجرة عند دعوته وانشقاق القمر في وقته، كل ذلك قريب من مائتي معجزة ذكرنا أكثرها في الأوسط، كل ذلك مشهور في كتب الأخبار والتواريخ مذكور اتفق أهل النقل على وجودها ونقولها بطرق يجب القطع على معناها.

35 - وأن تعلم أن المعجزة لا يجوز ظهورها على أيدي الكذابين لأن التفرقة بين الصادق والكاذب من حيث الدليل أمر متوهم ولا سبيل إليه إلا بتخصيص الصادق بالمعجزة فلو أنها ظهرت على يد الكاذب بطريق التفرقة وجب به تناهي القدرة وذلك مستحيل في الحقيقة. وأيضا فإن حقيقة المعجزة هي الدلالة على صدق صاحب المعجزة ومن المحال الذي لا يعقل خروج الشيء عن حقيقته فكيف يظهر دليل الصدق على يد من هو كاذب في قوله وذلك متضمن لقلب الحقائق. وقد بين الله تعالى في كتابه أن المعجزة حجة الصادقين حيث قال: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وقوله تعالى: {قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} ولو أنها ظهرت على أيدي الكذابين لم تكن دلالة الصدق.

36 - وأن تعلم أنه لا يجب على الخلق شيء إلا بأمر يرد من قبل الله تعالى على لسان رسول مؤيد بالمعجزة وأن كل من أتى فعلا أو ترك أمرا لم يقطع له بثواب ولا عقاب من قبل الله تعالى إذ لا طريق في العقل إلى معرفة وجوب شيء على الخلق لأنه لو كان في العقل طريق إلى معرفة الوجوب في كل شيء فإن الوجوب له حقيقة واحدة فلو جاز معرفته مضافا إلى شيء جاز معرفته مضافا إلى كل شيء وكان يجب أن يعرف بالعقل جميع الواجبات من غير ورود شرع وأصله في كتاب الله وهو قوله سبحانه: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} فأمن من العقوبة من قبل الرسل، فلو تقرر قبله وجوب واجب لم يؤمن العقوبة على تركه. وقوله سبحانه {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا} وقوله تعالى: {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك} وقوله تعالى: {ألم يأتكم نذير} وقوله تعالى: {وجاءكم النذير} وقوله تعالى: {ألم يأتكم رسل منكم} وقوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} إلى قوله {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} فبين أن لا دليل على الخلق إلا قول الرسل فبان به أن مجرد العقول لا دليل فيه على الخلق من قبل التعبد. والذي يؤيد قولنا فيه أن من زعم أن العقل يدل على وجوب شيء يفضي به الأمر إلى إثبات الوجوب على الله سبحانه وتعالى لأنهم يقولون إذا شكر العبد الله وجب على الله الثواب ثم لا يزال الوجوب دائرا بينهما وذلك يؤدي إلى ما لا يتناهى وأي عقل يقبل توجه الوجوب عليه ولا واجب إلا بموجب وليس فوقه سبحانه موجب.

37 - وأن تعلم أن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب وبين الثواب والعقاب وأيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم وأوجب على لسانهم معرفة التوحيد والشريعة وكل ما قالوه فهو صدق وكل ما فعلوه فهو حق، والعلم الدال على وصفهم ذلك قيام المعجزات الظاهرة الدالة على صدقهم وصحة قولهم. وقد أخبر[وا] عنه سبحانه [أنه] أوجب التوحيد والشريعة، وقد بين الله تعالى ذلك في كتابه جملة وتفصيلا فالجملة في قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} أما التفصيل ففي مثل قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا} وقوله تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} وقوله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون} وقد نبه على الجملة أيضا في قوله {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك}

38 - وأن تعلم أن محمدا رسول رب العزة جاءنا بالصدق في رسالته وفي جميع أفعاله وأقواله وكان معجزته القرآن تلاه على الخلق وتحداهم إلى معارضته وطلب الطاعة منهم وقال لهم متى أتيتم بسورة من مثله فلا طاعة لي عليكم، فاجتهد أهل اللغة في إسقاط طاعته عن أنفسهم وعن أموالهم وذراريهم فلم يمكنهم ولو أمكنهم أن يدفعوه عن أنفسهم وأموالهم وأهاليهم بكلام يأتون به لما قصدوا الحرب والمسايفة التي فيها القتل والأسر والاسترقاق والنهب والغصب والسلب في الذخائر والأموال، فلما لم يأتوا علمنا أنهم أعرضوا عن الإتيان به للعجز عنه، كما أن سحرة فرعون في زمان موسى عجزوا عن معارضته فبان به كونه محقا في دعوته، وكما أن عيسى عليه السلام في أيامه أعجز الأطباء عن مثل ما أتى به. واعلم أن تحقيق نبوة المصطفى ظاهرة في كتاب الله تعالى حين قال تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} وحيث قال: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} وذلك مذكور في غير موضع من الكتاب. وقال في وصف معجزته: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} الآيتين.

39 - وأن تعلم أن الذي بعث به المصطفى هو الإسلام وأن معجزته دليل على صدقه في جميع ما أخبر به. فمما أخبر به قوله أن «لا نبي بعدي» وقوله : «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» وبين أنها واجبة إلى يوم القيامة لا تنقطع ولا ترتفع. وأخبر أنهم يحيون في القبور ويسألون عن الدين ثم يعاقب العصاة وينعم أهل الطاعات إلى وقت المحشر ومما بعده ومما أخبر عنه هو الحشر والنشر وإقامة القيامة وأنها كائنة لا يعرف وقتها إلا الله وأن الخلق يحشرون ويحاسبون ثم يخلد أهل الجنة في الجنة في نعيم دائم وأنهم يرون ربهم زيادة في كرامتهم وإتماما لفضله عليهم، ويخلد الكفار والمرتدون في عذاب جهنم لا محيص لهم عنها بحال، وأن قوما من العصاة يعاقبون في النار ثم يخرجون منها بشفاعة المصطفى وبشفاعة العلماء والزهاد والعباد وشفاعة أطفال المؤمنين فمن لم تسعه شفاعة هؤلاء وكان قد سبق لهم الإيمان فإنه يخرج من النار برحمة الله جل جلاله، وكثير من عصاة المؤمنين يغفر لهم قبل إدخال النار إما بشفاعة الرسول وإما برحمة الجبار ولا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. واعلم أن المؤمن لا يصير كافرا بالمعصية ولا يخرج بها عن الإيمان لأن معصيته كائنة في طرف من الأطراف لا تنافي إيمانا في القلب وقد قال الله تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} وقال : "لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" و «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر» أي من الكفر. ومثقال ذرة من الإيمان اعتقاد مستخلص عن الشرك والإفك والشك والشبهة كما وصفناه. ومتى ما اختلط به شائب من شوائب الكفر والبدع لم يستحق صاحبه اسم الإيمان كما بينه الشافعي رحمه الله في قوله الشرك يشركه الشرك والإسلام لا يشركه الشرك، وقوله الحلف في الصفة كالحلف في العين. وقد نبه الله تعالى على هذا المعنى بقوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فتقرر به أن العقائد المشروطة في وصف الإيمان ما لم تسلم عن أنواع البدع والإلحاد لم يكن إيمانا على الحقيقة. وقد ورد في معنى الشفاعة قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وقد روى أنس بن مالك أن النبي قال في تفسير هذه: إذ جاء يوم القيامة طلب الخلق الشفاعة من الأنبياء عليهم السلام فيقولون عليهم السلام اذهبوا لمحمد عليه الصلاة والسلام فإنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتيه الخلق ويسألونه الشفاعة قال فأستأذن على الله فيأذن لي فأسجد ويلهمني الله محامد لم يلهمني مثلها قبله فأحمده ثم أرفع رأسي من السجود فيقال لي قل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فلا أزال أشفع حتى أخرج من النار كل من قال لا إله إلا الله. وورد في شفاعة الأطفال يظل الفرط محبنطئا على باب الجنة يقول لا أدخل حتى يدخل أبواي. وقال النبي : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فبين أن أهل الكبائر يومئذ لا ييأسون من رحمة الله تعالى. والأخبار في هذا الباب ظاهرة مستفيضة لا ينكرها من له معرفة بموارد الأخبار. وقد ورد في وصف الحساب والميزان قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} وقد ورد في الأخبار أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الذي يوزن به الأعمال فلما رآه سقط وغشي عليه فلما أفاق قال: من ذا الذي يطيق أن يملأ هذا من الحسنات؟ فقال: يا داود إذا رضيت عن عبدي ملأت هذا بثمرة واحدة. ومما جاء في الحساب قوله تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} وقوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} وقوله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا} وقوله تعالى: {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية} وقوله تعالى: {وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية}. وقد ورد في الخبر عن المصطفى أن "صحف الأعمال توزن فمن زادت حسناته على سيآته دخل الجنة". وقد ورد في معنى الحوض قوله تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر} وقد روى أنس رضي الله عنه أن النبي نعس نعسة ثم رفع رأسه فضحك وتبسم ثم قال: أتعرفون لماذا ضحكت فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: نزلت علي في هذه الساعة سورة {إنا أعطيناك الكوثر} أتعرفون ما الكوثر الكوثر نهر في الجنة أعده الله لي ولذلك النهر حوض تأتيه أمتي يوم القيامة وأوانيه عدد الكواكب أو أكثر وقد يأتيه من يمنع من ذلك فأقول يا رب إنه من أمتي فيقول ما تدري ما أحدث بعدك. ثم وصف النبي ذلك الحوض في أخبار كثيرة فقال: حصاه من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والدر والمرجان وحمأته من المسك وترابه من الكافور أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج خروجه يكون من تحت سدرة المنتهى طوله وعرضه ما بين المشرق والمغرب من شرب منه لم يظمأ بعده أبدا ومن توضأ منه لم يشعث أبدا تحوم حوله طيور أعناقها كأعناق الإبل، فقال أبو بكر وعمر: ما أنعم تلك الطيور فقال النبي أنعم منها من يأكلها. وقد ورد في معنى ما ذكرناه من أن المؤمن لا يكون بالمعاصي كافرا ولا يخرج من الإيمان ولا يكون خالدا مخلدا في النار واحد من المؤمنين لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقوله {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} وقال النبي : لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. وقد ورد في معنى إحياء الموتى في القبور ما لا يحصى من الآي والأخبار والآثار حتى لا يوجد موافق ولا مخالف إلا وهو يقرأ في التشهد: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا برحمتك عذاب القبر وعذاب النار. ومر المصطفى بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول» وقد ورد في الدعوات المأثورة عن المصطفى أعوذ بالله من الكفر والفقر وعذاب القبر. وقد وردت أخبار كثيرة عن الرسول في صفة منكر ونكير وذكر أنهما يسألان في القبر فقال عمر رضي الله عنه: أويكون معي عقلي؟ قال: نعم، قال: أنا أكفيهما. وإنما أراد بهذا الكلام أني أصف لهم الإيمان. وكل من خرج من الدنيا على صفة الإيمان ووصف لهما دينه لم يستعرضا له وكانا له مبشرا وبشيرا وقالا له: نم نومة العروس إلى يوم القيامة، فإن وصف بخلافه والعياذ بالله منه قالا له: نم نومة المنهوش. وقد ورد في الخبر الظاهر أن المنكر والنكير قد يسألان بعضهم فيقولان من ربك فيقول ربي الله فيقولان من رسولك فيقول محمد عليه السلام فيسألانه عن صفة الرب وصفة الرسول فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولونه وكنت أقول معهم، فيقولون له: لا دريت ويعذبانه فيمن يعذب. وأصل هذه المسألة في كتاب الله تعالى في قوله سبحانه في صفة آل فرعون {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} ولو كان المراد بالأول عذاب النار لما ورد القيامة بعده بالذكر، وقوله سبحانه في صفة المؤمنين {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} وقوله تعالى خبرا عنهم: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا} وأراد به الإماتة عند الخروج من الدنيا والإحياء في القبر ثم الإماتة فيه ثم الإحياء يوم الحشر والنشر، ولا يمكن حمله إلا على الإحياء بعد حلول الموت والمواتية لا تسمى موتا في عرف أهل اللغة. ولا ينكر ما استفاض به الإخبار ونطقت به الآيات من الإحياء في القبر إلا من ينكر عموم قدرة الله تعالى ومن أنكر عموم قدرته سبحانه وتعالى كان خارجا عن زمرة أهل الإسلام.

40 - وأن تعلم أن الصراط حق والجنة والنار مخلوقتان وكل ذلك وارد في القرآن وفي الأخبار الظاهرة عن المصطفى على وجه لا يبقي شكا ولا شبهة لمن ترك العصبية. وقد صرح الله تعالى بذكر النار والجنة ووجودهما وإعداد الجنة للمؤمنين والنار للكافرين وإنزال آدم عليه السلام في الجنة ثم إخراجه منها وإهباطه إلى الأرض، وما ورد عن الرسول أنه دخل الجنة ليلة المعراج ورأى فيها قصرا لعمر رضي الله عنه وقال لعمر: «ما منعني أن أدخله إلا غيرتك» فبكى عمر رضي الله عنه وقال أوعليك كنت أغار يا رسول الله. وقال : سمعت حسا فالتفت فإذا هو بلال. وكان ذلك من صفات الموجودات فإن المعدوم لا يتصف بهذه الصفات. ومن تأمل ما ورد فيه من الآي والأخبار والآثار لم يستجز إنكاره.

41 - وأن تعلم أن الإجماع حق وما اجتمع عليه الأمة يكون حقا مقطوعا على حقيقته قولا كان أو فعلا، لقوله : لا تجتمع أمتي على الضلالة. ولو جاز اتفاقهم بأجمعهم على الكذب لجاز اتفاقهم على كتمان شيء من الشريعة ولبطل به الاعتماد على الدلالة الموصلة إلى التكاليف الشرعية ولسقط التكليف والشريعة ولكان العلم بالبلدان النائية والقرون الخالية والملوك الماضية متعذرا إذ لا سبيل إلى معرفتها إلا بالنقل على التظاهر والتواتر والاتفاق عليه من أهل النقل. وأصل الإجماع من كتاب الله تعالى قوله سبحانه وتعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}

42 - وأن تعلم أن من جملة ما اجتمع عليه المسلمون أن عشرة من أصحاب رسول الله كانوا من أهل الجنة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة الجراح رضي الله عنهم أجمعين. وأجمعوا أيضا على أن نساءه وأولاده وأحفاده كلهم كانوا من أهل الجنة وأنهم كانوا مؤمنين وأنهم كانوا من أعلام الدين لم يكتموا شيئا من القرآن ولا من أحكام الشريعة. وكذلك أجمعوا على خلافة الخلفاء الأربعة بعد الرسول وعلى أنهم لم يكتموا شيئا من القرآن والشريعة بل ساروا أحسن سيرة ووفقوا بحسن السعي في تثبيت المسلمين على الدين. وقد أثنى الله تعالى في كتابه عليهم حيث قال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين أمنوا وعلموا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وقال في صفة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر». وقال في صفة عثمان رضي الله عنه: «ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة» وقال في صفة علي رضي الله عنه: أقضاكم علي. وقال في صفة الحسن والحسين رضي الله عنهما إنهما «سيدا شباب أهل الجنة» وقال في فاطمة رضي الله عنها: سيدات نساء العالمين أربع فاطمة وخديجة وآسية ومريم بنت عمران، و «فضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». وأخرج هذا الكلام مخرج عادة العرب في تفضيلهم الثريد حتى قالوا ثردوا ولو بالماء. وقال في عائشة: إنها لفقيهة. وقال في وصف فاطمة: إن فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها ويسوؤني ما يسوؤها. وقال في فضل أصحابه أجمعين: "كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم" وقال في وصف ابن مسعود رضي الله عنه: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد» وقال في وصف أبي ذر الغفاري: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء بعد النبيين أمرءا أصدق لهجة من أبي ذر» وقال في صفة أبي عبيدة الجراح أمين أمتي. وقال في الزبير: إن في كل أمة حواري وحواري أمتي الزبير. والأخبار في فضل الصحابة رضي الله عنهم أكثر من أن يحتمله هذا المختصر. والمقصود ههنا أن تعلم أن الخلفاء الراشدين كانوا على الحق وأن جملة أصحاب رسول الله كانوا محقين مؤمنين مخلصين صادقين وكان تقديمهم لمن قدموه وتقريرهم في ما قرروه حقا وصدقا وكلهم كانوا يقولون لأبي بكر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين وكانوا يخاطبون عمر وعثمان وعليا وكذلك علي رضي الله عنه كان يخاطبهم بذلك وكان يخاطب بمثله في أيامه.

43 - وأن تعلم أن كل من تدين بهذا الدين الذي وصفناه من اعتقاد الفرقة الناجية فهو على الحق وعلى الصراط المستقيم، فمن بدعه فهو مبتدع ومن ضلله فهو ضال ومن كفره فهو كافر، لأن من اعتقد أن الايمان كفر وأن الهداية ضلالة وأن السنة بدعة كان اعتقاده كفرا وضلالة وبدعة. وأصل هذا مأخوذ من قول النبي : من قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء به أحدهما. فجاء من هذه الجملة أنا لا نبدع إلا من بدعنا ولا نضلل من ضللنا ولا نكفر إلا من كفرنا وقد أنصف القارة من رماها.

44 - وأن تعلم أن كل ما يجب معرفته في أصول الاعتقاد يجب على كل بالغ عاقل أن يعرفه في حق نفسه معرفة صحيحة صادرة عن دلالة عقلية لا يجوز له أن يقلد فيه ولا أن يتكل فيه الأب على الابن ولا الابن على الأب ولا الزوجة على الزوج بل يستوي فيه جميع العقلاء من الرجال والنساء. وأما ما يتعلق بفروع الشريعة من المسائل فيجوز له أن يقلد فيه من كان من أهل الاجتهاد فإن في تكليف التعليم وتحصيل أوصاف المجتهدين على العموم قطع الخلق عن المعاش ثم المعاد وما كان في إثباته سقوطه وسقوط غيره كان ساقطا في نفسه. وقد ذكر الله تعالى الأصول والفروع فذم التقليد في الأصول وحث على السؤال في الفروع، فأما مذمة التقليد في الأصول ففي قوله تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} وفي آية أخرى {مقتدون} وأما الحث على السؤال في الفروع ففي قوله تعالى: {فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}

45 - وأن تعلم أن السؤال واجب عند الحاجة ووقوع الحادث لأنه لو لم يسأل وعمل من ذات نفسه وأخطأ أو أصاب لم يكن فعله امتثالا لأمر الله تعالى ولم يجز أن يكون عبادة يتقرب بها المتعبد. ولهذا أمر الله بالسؤال في قوله {فاسألوا أهل الذكر} وهذا كما أن المسلمين أجمعوا على أن الأعمى يسأل عن القبلة ثم يصلي إليها فإن لم يسأل وأصاب لم يعتد بصلاته وكانت الإعادة واجبة عليه كذلك العامي إذا عمل من ذات نفسه أو سأل من ليس من أهل السؤال فأصاب في عبادته لم يعتد له بفعله وكانت الإعادة واجبة عليه، هذا في العبادات على قول أكثر أهل السنة. فأما في العقود إذا وافق الشرط المعتبر فيه من غير سؤال كان جائزا لأن النية فيها غير معتبرة وهي في العبادة معتبرة. وحقيقة النية أن يوقع فعله امتثالا لأمر الآمر بطريقة فإذا عدل عن الطريق المأمور به لم يكن امتثالا لأمر الآمر فلم يصح الاعتداد به.

46 - وأن تعلم أن من كان من أهل التقليد في أحكام الشريعة فإنه يجب عليه السؤال ولا يجوز له أن يسأل كل أحد إذ لو جاز ذلك لجاز أن يعمل من ذات نفسه إذ لا فرق بين شخص وشخص إذا لم يعتبر فيه صفات المجتهدين ولهذا قال الله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وقال : إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. فثبت بهذا أن على العامي إذا أراد السؤال ضربا من الاجتهاد حتى يميز بين من يكون أهلا لمعرفة ما يسأل عنه وبين من لا يكون أهلا له ويحصل له المعرفة بطول الدراية والتسامع.

47 - وأن تعلم أن من حصل له ما ذكرناه من المعارف المشروطة في صحة الاعتقاد فواجب عليه إظهاره والإقرار به عند الحاجة إليه والمطالبة به، ولا يجوز له جحوده ولا كتمانه. قال الله تعالى: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} وحقيقة الإيمان أن يصحح المعرفة بما ذكرناه من شروط الإيمان ويقر به عند التمكن منه والأمان على النفس والمال والحرم والأسباب وإن أنكره عند المخافة من غير أن يغير من اعتقاده شيئا فلا حرج عليه فيه قال الله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}

واعلم أن جميع ما ذكرناه من صفات عقائد الفرقة الناجية يجب معرفته في صحة الإيمان. وقد شرحناه وقررنا كل واحد منها بدليل عقلي وآخر شرعي ليورد من أحكمه على الخصم المقر بالشريعة الأدلة الشرعية وعلى الخصم المنكر للشريعة من طبقات الملحدين الأدلة العقلية فيقوى على الفريقين بما جمعناه من الطريقين ولا تكاد تنفذ عليه حيل أهل الإلحاد والبدعة والخدعة عن الديانة.

واعلم أن جميع ما ذكرناه من اعتقاد أهل السنة والجماعة فلا خلاف في شيء منه بين الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله وجميع أهل الرأي والحديث مثل مالك والأوزاعي وداود والزهري والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه ومحمد بن إسحق الحنظلي ومحمد بن أسلم الطوسي ويحيى بن يحيى والحسين بن الفضل البجلي وأبي يوسف ومحمد وزفر وأبي ثور وغيرهم من أئمة الحجاز والشام والعراق وأئمة خراسان وما وراء النهر ومن تقدمهم من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين. ومن أراد أن يتحقق أن لا خلاف بين الفريقين في هذه الجملة فلينظر فيما صنفه أبو حنيفة رحمه الله في الكلام وهو كتاب العلم وفيه الحجج القاهرة على أهل الإلحاد والبدعة وقد تكلم في شرح اعتقاد المتكلمين وقرر أحسن طريقة في الرد على المخالفين وكتاب الفقه الأكبر الذي أخبرنا به الثقة بطريق معتمد وإسناد صحيح عن نصير بن يحيى عن أبي مطيع عن أبي حنيفة وما جمعه أبو حنيفة في الوصية التي كتبها إلى أبي عمرو عثمان البتي ورد فيها على المبتدعين، ولينظر فيما صنفه الشافعي في مصنفاته فلم يجد بين مذهبيهما تباينا بحال، وكل ما حكى عنهم خلاف ما ذكرناه من مذاهبهم فإنما هو كذب يرتكبه مبتدع ترويجا لبدعته، ومن لا يبالي أن يتدين بما لا حقيقة له في دينه لا يبالي نسبة الخرافات إلى أئمة الدين لأن من كذب على الله تعالى ورسوله لا يبالي أن يكذب على أئمة المسلمين. وقد نبغ من احداث أهل الرأي من تلبس بشيء من مقالات القدرية والروافض مقلدا فيها وإذا خاف سيوف أهل السنة نسب ما هو فيه من عقائده الخبيثة إلى أبي حنيفة تسترا به فلا يغرنك ما ادعوه من نسبتها إليه فإن أبا حنيفة بريء منهم ومما نسبوه إليه. والله تعالى يعصم أهل السنة والجماعة من جميع ما ينسبه إليهم أهل الغواية والضلالة وبالله التوفيق.

الفصل الثاني من هذا الباب في طريق تحقيق النجاة لأهل السنة والجماعة في العاقبة

اعلم أن الذي تحقق لهم هذه الصفة أمور منها قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} والمحبة من الله تعالى في متابعة الرسول سبب محبة الرب للعبد فكل من كان متابعتة للرسول أبلغ وأتم كانت المحبة له من الله أكمل وأتم. وليس في فرق الأمة أكثر متابعة لأخبار الرسول وأكثر تبعا لسنته من هؤلاء ولهذا سموا أصحاب الحديث وسموا بأهل السنة والجماعة. ومنها أن النبي لما سئل عن الفرقة الناجية قال: «ما أنا عليه وأصحابي» وهذه الصفة تقررت لأهل السنة لأنهم ينقلون الأخبار والآثار عن الرسول والصحابة رضي الله عنهم. ولا يدخل في تلك الجملة من يطعن في الصحابة من الخوارج والروافض ولا من قال من القدرية إن شهادة اثنين من أهل صفين غير مقبولة على باقة بقل. ومن ردهم وطعن فيهم لا يكون متابعا لهم ولا ملابسا بسيرتهم. ومنها ما جاء في رواية أخرى أنه سئل عن الفرقة الناجية فقال: الجماعة. وهذه صفة مختصة بنا لأن جميع الخاص والعام من أهل الفرق المختلفة يسمونهم أهل السنة والجماعة وكيف يتناول هذا الاسم الخوارج وهم لا يرون الجماعة والروافض وهم لا يرون الجماعة والمعتزلة وهم لا يرون صحة الإجماع وكيف تليق بهم هذه الصفة التي ذكرها الرسول .

ومنها أنهم يستعملون في الأدلة الشرعية كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة والقياس ويجمعون بين جميعها في فروع الشريعة ويحتجون بجميعها، وما من فريق من فرق مخالفيهم إلا وهم يردون شيئا من هذه الأدلة. فبان أنهم أهل النجاة باستعمالهم جميع أصول الشريعة دون تعطيل شيء منها.

ومنها أن أهل السنة مجتمعون فيما بينهم لا يكفر بعضهم بعضا وليس بينهم خلاف يوجب التبري والتفكير فهم إذا أهل الجماعة قائمون بالحق والله تعالى يحفظ الحق وأهله كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} قال المفسرون أراد به الحفظ عن التناقض. وما من فريق من فرق المخالفين إلا وفيما بينهم تكفير وتبري يكفر بعضهم بعضا كما ذكرنا من الخوارج والروافض والقدرية حتى اجتمع سبعة منهم في مجلس واحد فافترقوا عن تكفير بعضهم بعضا وكانوا بمنزلة اليهود والنصارى حين كفر بعضهم بعضا حتى قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء، وقال الله سبحانه وتعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}

ومنها أن فتاوى الأمة تدور على أهل السنة والجماعة فريقي الرأي والحديث ومعظم الأئمة ينتحلون مذهبهم ويجتمعون على طريقهم وهو الغالب على بلاد المسلمين فهم إذا أهل الجماعة من سائر الوجوه وكلهم متفقون على رد مذهب الروافض والخوارج والقدرية من أهل الأهواء والبدع.

ومنها أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه روى عن النبي في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} أن الذين تبيض وجوههم هم الجماعة والذين تسود وجوههم هم أهل الأهواء. وأهل الأهواء هم الذين لا يتابعون الكتاب ولا السنة.

ومنه قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} فتبين أن الذين فارقوا دينهم أو فرقوا دينهم هم ليسوا على طريق الحق، وجميع من ذكرناهم من فرق المخالفين يفرقون فيما بينهم كما وصفناه من اختلافهم فبان به أنهم مفارقون للدين. وأهل السنة والجماعة متمسكون به بعروة الإسلام وحبل الدين مجتمعون في أصولهم غير متفرقين فكانوا هم أهل النجاة دون من خالفهم في هذه الصفة.

الفصل الثالث من فصول المفاخر لأهل الإسلام وبيان فضائل أهل السنة والجماعة وبيان ما اختصوا به من مفاخرهم

اعلم أنه لا خصلة من الخصال التي تعد في المفاخر لأهل الإسلام من المعارف والعلوم وأنواع الإجتهادات إلا ولأهل السنة والجماعة في تزيينها القدح المعلى والسهم الأوفر.

أما العلوم فأولها الرقي في مدارج الفضل والأدب هو ترجمان جميع العلوم ومعرض جميع الفوائد الفاخرة في الدنيا والآخرة، إذ لا سبيل إلى تفسير القرآن وأخبار الرسول إلا بمعرفة الأدب. وجملة الأئمة في النحو واللغة من أهل البصرة والكوفة في دولة الإسلام كانوا من أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث والرأي، ولم يكن في مشاهيرهم من تدنس بشيء من بدع الروافض والخوارج والقدرية مثل أبي عمرو بن العلاء الذي قال له عمرو بن عبيد القدري قد ورد من الله تعالى الوعد والوعيد والله تعالى يصدق وعده ووعيده فأراد بهذا الكلام أن ينصر بدعته التي ابتدعها في أن العصاة من المؤمنين خالدون مخلدون فقال أبو عمرو: فأين أنت من قول العرب أن الكريم إذا أوعد عفا وإذا وعد وفى وافتخار قائلهم بالعفو عند الوعيد حيث قال:

(وإني إذا أوعدته أو وعدته ** لمخلف ميعادي ومنجز موعدي)

فعده من الكرم لا من الخلق المذموم. وكذلك لم يكن في أئمة الأدب أحد إلا وله إنكار على أهل البدعة شديد وبعد من بدعهم بعيد مثل الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب وسيبويه والأخفش والزجاج والمبرد وأبي حاتم السجستاني وابن دريد والأزهري وابن فارس والفارابي، وكذلك من كان من أئمة النحو واللغة مثل الكسائي والفراء والأصمعي وأبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة وأبي عمرو الشيباني وأبي عبيد القاسم بن سلام. وما منهم أحد إلا وله في تصانيفه تعصب لأهل السنة والجماعة ورد على أهل الإلحاد والبدعة. ولم يقر واحد في شيء من الأعصار من أسلاف أهل الأدب بشيء من بدع الروافض والقدرية. غير أن جماعة من المتأخرين من أهل الأدب تدنسوا بشيء من ذلك تقربا إلى ابن عباد طمعا في شيء من الدنيا والرياسة وأظهروا شيئا من الرفض والاعتزال. ومن كان متدنسا بشيء من ذلك لم يجز الاعتماد عليه في رواية أصول اللغة وفي نقل معاني النحو ولا في تأويل شيء من الأخبار ولا في تفسير آية من كتاب الله تعالى.

وثانيها علم تفسير القرآن ولم يكن في جميع من نسب إليه شيء من أصول تفسير القرآن من وقت الصحابة إلى يومنا هذا من تلوث بشيء من مذهب القدرية والخوارج والروافض مثل الخلفاء الراشدين الذين تكلموا في التفسير ومثل عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ومثل المشاهير من التابعين وأتباع التابعين الذين تكلموا في التفسير كسعيد بن جبير وقتادة وعطاء وعكرمة ومكحول وعطية ومن كان بعدهم كالواقدي ومحمد بن إسحاق بن يسار والسدي وغيرهم ممن كان بعدهم إلى أن انتهت النوبة إلى محمد بن جرير الطبري وأقرانه، وكان الزجاج رأسا في نصرة أهل السنة والرد على أهل البدعة وكذا الفراء قبله وقد ردا في كتابيهما المصنفين في المعاني على القدرية والخوارج والروافض وصنف بعض متأخري القدرية في تفسير القرآن على موافقة بدعتهم وذلك لا يتداوله من أهل صنعة التفسير إلا مخذول. وقد جمعنا في كتابنا المعروف بتاج التراجم ما هو المعتمد من أقوال المفسرين ابتعادا عما أحدثه فيه أهل الضلالة والزيغ من التأويلات على سبيل التحريف.

وثالثها العلوم المتعلقة بأحاديث المصطفى والتمييز بين الصحيح والسقيم من الروايات ومعرفة السلف الصالح. ولا يدخل في تلك الصنعة إلا أهل السنة والجماعة، وكذلك علوم القرآن لا حظ في شيء منها لأحد من الخوارج والروافض والقدرية وكيف يكون فيه حظ لمن يدعي أن في القرآن زيادة ونقصا ويقدح في الصحابة الذين عليهم مدار الأحاديث بل لا يبالي بأن يقدم عليهم بالتضليل والتكفير. وقد ندر فيما بين أهل القرآن والحديث من يتلبس بصنعتهم وهو يضمر سوء بدعته ونحن نذره وسوء سريرته لا نعتد به.

ورابعها علوم الفقه ويختص بالتبحر فيه أصحاب الحديث وأصحاب الرأي. ولم يكن قط للروافض والخوارج والقدرية تصنيف معروف يرجع إليه في تعرف شيء من الشريعة ولا كان لهم أمام يقتدي به من فروع الديانة.

وخامسها علوم المغازي والسير والتواريخ والتفرقة بين السقيم والمستقيم. وليس لأهل البدعة من هو رأس في شيء من هذه العلوم فهي مختصة بأهل السنة والجماعة.

وسادسها علم التصوف والإشارات وما لهم فيها من الدقائق والحقائق لم يكن قط لأحد من أهل البدعة فيه حظ بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة. وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي من مشايخهم قريبا من ألف وجمع إشاراتهم واحاديثهم ولم يوجد في جملتهم قط من ينسب إلى شيء من بدع القدرية والروافض والخوارج، وكيف يتصور فيهم من هؤلاء وكلامهم يدور على التسليم والتفويض والتبري من النفس والتوحيد بالخلق والمشئية، وأهل البدع ينسبون الفعل والمشيئة والخلق والتقدير إلى أنفسهم وذلك بمعزل عما عليه أهل الحقائق من التسليم والتوحيد.

وسابعها أن لأهل السنة والجماعة التفرد بأكثر من ألف تصنيف في أصول الدين منها ما هو مبسوط يكثر علمه ومنها ما هو لطيف يصغر حجمه في أعصار مختلفة من عصر الصحابة إلى يومنا هذا في نصرة الدين والرد على الملحدين والكشف عن أسرار بدع المبتدعين. ولم يكن لواحد من متقدمي القدرية والروافض والخوارج تصنيف في هذا النوع يظهر ويتداول، وهل كان لهم علم حتى يكون لهم فيه تصنيف. بلى قوم من متأخريهم تكلفوا جمع شبه يخادعون به القوم عن أديانهم وصنفوا فيها تصانيف أكثرها لا يوجد إلا بخط المصنف إذ كان الاشتغال بنقلها من قبيل تعطيل الوقت بالمقت. وقيض الله تعالى في عصرنا في كل إقليم من أقاليم العالم سادة من أعلام أئمة الدين صنفوا في نصرة الدين وتقوية ما عليه أهل السنة والجماعة والرد على أهل البدع فيما زوروه من الشبه مثل القاضي الإمام أبي بكر الأشعري وله قريب من خمسين ألف ورقة من تصانيفه في نصرة الدين والرد على أهل الزيغ والبدع لا تكاد تندرس إلى يوم القيامة مثل كتاب الهداية وكتاب نقض النقض وكتاب التقريب في الأصول والكتاب الكبير في الأصول يشتمل على عشرة آلاف ورقة وكتاب الكسب وكتاب التمهيد وغير ذلك من التصانيف التي لا يكاد يتفق مثلها إلا لمن وافقه التوفيق. ومثل الإمام أبي إسحاق الإسفراييني رحمه الله الذي عقمت النساء عن أن يلدن مثله ولم تر عيناه في عمره مثل نفسه وكان شديدا على خصمه يفرق الشيطان من حسه قدس الله روحه وله تصانيف في أصول التوحيد وأصول الفقه كل واحد منها معجز في فنه، منها كتاب الجامع وهو كتاب لم يصنف في الإسلام مثله ولم يتفق لأحد من الأئمة في شيء من العلوم مثل ذلك الكتاب، ومن حسن أحكامه أنه لا طريق لأحد من المخالف والموافق إلى نقضه لحسن تحقيقه وإتقانه ولا يتجاسر أحد لأن يتصدى لنقضه للطف صنعته في وضعه، وله في دقائق الفقه والمقدرات كتاب حير به الأفهام ولا يهتدي لحله إلا من أنفق دهره على حسه وله عدد كثير من لطائف التصانيف يهتدي بها الناس في أصول الدين مثل المختصر في الرد على أهل الاعتزال والقدر ولم يوجد في الإسلام كتاب مثل حجمه يجمع ما يجمعه من النكت في الرد على أهل الزيغ والبدع وكتاب الوصف والصفة لم ير كتاب في مثل حجمه يجمع من الفوائد في أصول الدين ما يجمعه وكتاب تحقيق الدعاوي وهو في لطافة حجمه يتضمن الطرف التي يتوصل بها إلى إبانة بطلان الباطل من المقالات وتصحيح الصحيح منها جميعها في سبع طرق من يهدي إليها لم تخف عليه كيفية الرد على شيء من مقالات الملحدين والمبتدعين وكتاب شرح الاعتقاد الذي لا يطلع على علومه أحد إلا استبان له طريق أهل السنة على وجه لا يتخالجه فيه شيء من الشك والشبهة وله في الأصول كتاب ترتيب المذهب وكتاب المختلف في الأصول لم يجمع مثلهما في علم أصول الفقه بعد الشافعي. ومثل الإستاذ أبي بكر بن فورك الأصفهاني رضي الله عنه الذي لم ير مثله في نشر دينه وقوة يقينه وله أكثر من مائة وعشرين تصنيفا في نشر الدين والرد على الملحدين وتحقيق أصول الدين وله في الإسلام آثار ظاهرة ولو لم يخرج من مجلسه من المتزهدين والأقوياء في نصرة الدين إلا الأستاذ الإمام أبو منصور الأيوبي رضي الله عنه وهو الذي كان يفر من حسه شيطان كل ملحد على وجه الأرض لقوة نظره وحسن عبارته ولطافته في الرد على خصمه وله كتاب التلخيص ولو لم يكن لأهل السنة والجماعة في الرد على أهل الإلحاد والبدعة سوى ذلك الكتاب في حسن بيانه ولطافة ترتيبه وتهذيبه كان فيه الكفاية في حسنه مع ما له من التصانيف الأخر التي تداولتها أيدي أهل الأقاليم بحسن البيان ولطافة التنميق. ولو لم يكن لأهل السنة والجماعة من مصنف لهم في جميع العلوم على الخصوص والعموم إلا من كان فرد زمانه وواحد أقرانه في معارفه وعلومه وكثرة الغرر من تصانيفه وهو الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي التميمي قدس الله روحه وما من علم من العلوم إلا وله فيه تصانيف ولو لم يكن له من التصانيف إلا كتاب الملل والنحل في أصول الدين وهو كتاب لا يكاد يسع في خاطر بشر أنه يتمكن من مثله لكثرة ما فيه من فنون علمه وتصانيفه في الكلام والفقه والحديث والمقدرات التي هي أم الدقائق تخرج عن الحصر لم يسبق إلى مثل كتبه في هذه الأنواع مع حسن عبارته وعذوبة بيانه ولطافة كلامه في جميع كتبه. وقد تأملنا ما جمعه هؤلاء الأئمة في أصول التوحيد من الكتب البسيطة والوجيزة ومن تقدم من سادة الأئمة وأعيان أهل السنة والجماعة فجمعنا نكتهم في كتاب الأوسط بعبارات قريبة وألفاظ وجيزة اتباعا لآثارهم وبناء على مقالاتهم، والله تعالى قد ينفع بجميع ما تيسر من التصانيف في الفقه والفرائض والمقدرات والكلام والتفسير والتعبير بالفارسية ما شاء الله بفضله وجوده.

وأما أنواع الاجتهادات الفعلية التي مدارها على أهل السنة والجماعة في بلاد الإسلام فمشهورة مذكورة مثل المساجد والرباطات المثبتة في بلاد أهل السنة إما في أيام بني أمية وإما في أيام بني العباس، مثل مسجد دمشق المبني في أيام الوليد بن عبد الملك وكان سنيا قتل في أيامه ما شاء الله من الخوارج والروافض والقدرية، وبنى أخوه مسلمة بن عبد الملك المسجد بالقسطنطينية. وما قام إلى هذه المدة بعمارة مسجد مكة والمدينة إلا من كان من أهل السنة والجماعة لم يكن لواحد من أهل بدع الخوارج والروافض والقدرية فيه سعي. وكان بعض المصريين يتغلبون ويسعون في عمارة شيء منه لكن لا موقع لما كانوا يفعلونه مع سوء اعتقادهم كما قال الله تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر} وكما قال تعالى: {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين} وقد تكلمنا قبل على سوء طريقهم وعظم فتنتهم فيما بين المسلمين ومن كانت هذه طريقته لم يكن له بعمارته المسجد موقع عند الله تعالى وعند المسلمين.

ومن آثارهم الاجتهادية سدهم ثغور الإسلام والمرابطة بها في أطراف الأرض مثل ثغور الروم وثغور أرمينية وانسداد جميعها ببركات أصحاب الحديث. وأما ثغور بلاد الترك فمشتركة بين أهل الحديث والرأي وليس لأهل الأهواء في شيء من الثغور مرابطة ولا أثر ظاهر بل هم أشد ضلالة.

فبان لك بما ذكرناه من مساعي أهل السنة والجماعة في العلوم والاجتهادات أنهم أهل الاجتهاد والجهاد. والجهاد في الدين يكون تارة بإقامة الحجة في الدعوة إلى المحجة ويكون تارة باستعمال السيف مع المجاهدين ضد أهل الخلاف من الأعداء وببذل الأموال والمهج. وقد خص الله تعالى فيهم قوله {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} وإذا كان في الجهاد في النوعين صادرا منهم كانت الهداية مختصة بهم {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}

وقد عصمهم الله أن يقولوا في أسلاف هذه الأمة منكرا أو يطعنوا فيهم طعنا فلا يقولون في المهاجرين والأنصار وأعلام الدين ولا في أهل بدر وأحد وأهل بيعة الرضوان إلا أحسن المقال ولا في جميع من شهد النبي لهم بالجنة ولا في أزواج النبي وأصحابه وأولاده وأحفاده مثل الحسن والحسين والمشاهير من ذرياتهم مثل عبد الله بن الحسن وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى الرضا ومن جرى منهم على السداد من غير تبديل ولا تغير ولا في الخلفاء الراشدين ولم يستجيزوا أن يطعنوا في واحد منهم وكذلك في أعلام التابعين وأتباع التابعين الذين صانهم الله تعالى عن التلوث بالبدع وإظهار شيء من المنكرات. ولا يحكمون في عوام المسلمين إلا بظاهر إيمانهم ولا يقولون بتكفير واحد منهم إلا أن يتبين منه ما يوجب تكفيره ويصدقون بقول النبي يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب يشفع كل واحد منهم في عدد ربيعة ومضر ويوجبون على أنفسهم الدعاء لمن سلف من هذه الأمة كما أمر الله تعالى في كتابه حيث قال: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}

تم الباب وتم بتمامه الكتاب والحمد لله على نعمه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وعلى أزواجه أمهات أهل الإسلام وحسبنا الله وكفى.