التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد/المجلد الأول/صفحة واحدة
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى أهله.
عونك اللهم
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الحافظ رضي الله عنه : الحمد لله الأول والآخر الظاهر الباطن القادر القاهر شكرا على تفضله وهدايته وفزعا إلى توفيقه وكفايته ووسيلة إلى حفظه ورعايته ورغبة في المزيد من كريم آلائه وجميل بلائه وحمدا على نعمه التي عظم خطرها عن الجزاء وجل عددها عن الإحصاء.
وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء وعلى آله أجمعين وسلم تسليما.
أما بعد فإني رأيت كل من قصد إلى تخريج ما في موطأ مالك بن أنس رحمه الله من حديث رسول الله ﷺ قصد بزعمه إلى المسند وأضرب عن المنقطع والمرسل وتأملت ذلك في كل ما انتهى إلى مما جمع في سائر البلدان وألف على اختلاف الأزمان فلم أر جامعيه وقفوا عند ما شرطوه ولا سلم لهم في ذلك ما أملوه بل أدخلوا من المنقطع شيئا في باب المتصل وأتوا بالمرسل مع المسند وكل من يتفقه منهم لمالك وينتحله إذا سألت من شئتمنهم عن مراسيل الموطا قالوا صحاح لا يسوغ لأحد الطعن فيها لثقة ناقليها وأمانة مرسليها وصدقوا فيما قالوه من ذلك لكنها جملة ينقضها تفسيرهم باضرابهم عن المرسل والمقطوع.
وأصل مذهب مالك رحمه الله والذي عليه جماعة أصحابنا المالكيين أن مرسل الثقة تجب به الحجة ويلزم به العمل كما يجب بالمسند سواء.
وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمت على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو أجماع على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافا.
وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السائل المستفتى لما يخبره به العالم الواحد إذا استفتاه فيما لا يعلمه وقبول خبر الواحد العدل فيما يخبر به مثله وقد ذكر الحجة عليهم في ردهم أخبار الآحاد جماعة من أئمة الجماعة وعلماء المسلمين.
وقد أفردت لذلك كتابا موعبا كافيا والحمد لله.
ولأئمة فقهاء الأمصار في انفاذ الحكم بخبر الواحد العدل مذاهب متقاربة بعد إجماعهم على ما ذكرت لك من قبوله وإيجاب العمل به دون القطع على مغيبة فجملة مذهب مالك في ذلك إيجاب العمل بمسنده ومرسله ما لم يعترضه العمل الظاهر ببلده ولا يبالي في ذلك من خالفه في سائر الأمصار ألا ترى إلى إيجابه العمل بحديث التفليس وحديث المصراة وحديث أبي القعيس في لبن الفحل وقد خالفه في ذلك بالمدينة وغيرها جماعة من العلماء وكذلك المرسل عنده سواء إلا تراه يرسل حديث الشفعة ويعمل به ويرسل حديث اليمين مع الشاهد ويوجب القول به ويرسل حديث ناقة البراء بن عازب في جنايات المواشي ويرى العمل به ولا يرى العمل بحديث خيار المتبايعين ولا بنجاسة ولوغ الكلب ولم يدر ما حقيقة ذلك كله لما اعترضهما عنده من العمل.
ولتخليص القول في ذلك موضع غير هذا.
وقالت طائفة من أصحابنا : مراسيل الثقات أو لى من المسندات واعتلوا بأن من أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك ومن أرسل من الأئمة حديثا مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك على صحته وكفاك النظر.
وقالت منهم طائفة أخرى : لسنا نقول إن المرسل أو لى من المسند ولكنهما سواء في وجوب الحجة والاستعمال واعتلوا بأن السلف رضوان الله عليهم أرسلوا ووصلوا واسندوا فلم يعب واحد منهم على صاحبه شيئا من ذلك بل كل من أسند لم يخل من الإرسال ولو لم يكن ذلك كله عندهم دينا وحقا مااعتمدوا عليه لأنا وجدنا التابعين إذا سئلوا عن شيء من العلم وكان عندهم في ذلك شيء عن نبيهم ﷺ أو عن أصحابه رضي الله عنهم قالوا قال رسول الله كذا وقال عمر كذا ولو كان ذلك لا يوجب عملا ولا يعد علما عندهم لما قنع به العالم من نفسه ولا رضى به منه السائل.
وممن كان يذهب إلى هذا القول من أصحابنا : أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي وأبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري وهو قول أبي جعفر محمد بن جرير الطبري.
وزعم الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل ولم يأت عنهم انكاره ولا عن أحد الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين كأنه يعني أن الشافعي أول من أبى من قبول المرسل.
وقالت طائفة أخرى من أصحابنا : لسنا نقول ان المسسند الذي اتفقت جماعة أهل الفقه والأثر في سائر الأمصار وهم الجماعة على قبوله والاحتجاج به واستعماله كالمرسل الذي اختلف في الحكم به وقبوله في كل أحواله بل نقول ان للمسند مزية فضل لموضع الاتفاق وسكون النفس إلى كثرة القائلين به وان كان المرسل يجب أيضا العمل به وشبه ذلك من مذهبه بالشهود يكون بعضهم أفضل حالا من بعض وأقعد وأتم معرفة وأكثر عددا وأن كان البعض عدلين جائزي الشهادة وكلا الوجهين يوجب العمل ولا يقطع العذر.
وممن كان يقول هذا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق بن خوازبنداذ البصرى المالكي.
وأما أبو حنيفة وأصحابه فانهم يقبلون المرسل ولا يردونه إلا بما يردون به المسند من التأويل والاعتلال على أصولهم في ذلك.
وقال سائر أهل الفقه وجماعة أصحاب الحديث في كل الأمصار فيما علمت الانقطاع في الاثر علة تمنع من وجوب العمل به وسواء عارضه خبر متصل أم لا وقالوا إذا اتصل خبر وعارضه خبر منقطع لم يعرج على المنقطع مع المتصل وكان المصير إلى المتصل دونه.
وحجتهم في رد المراسيل ما أجمع عليه العلماء من الحاجة إلى عدالة المخبر وأنه لا بد من علم ذلك فإذا حكى التابعي عمن لم يلقه لم يكن بد من معرفة الواسطة إذ قد صح ان التابعين أو كثيرا منهم رووا عن الضعيف وغير الضعيف فهذه النكتة عندهم في رد المرسل لأن مرسله يمكن أن يكون سمعه ممن يجوز قبول نقله وممن لا يجوز ولا بد من معرفة عدالة الناقل فبطل لذلك الخبر المرسل للجهل بالواسطة.
قالوا ولو جاز قبول المراسيل لجاز قبول خبر مالك والشافعي والأوزاعي ومثلهم إذا ذكروا خبرا عن النبي ﷺ ولو جاز ذلك فيهم لجاز فيمن بعدهم إلى عصرنا وبطل المعنى الذي عليه مدار الخبر.
ومن حجتهم أيضا في ذلك أن الشهادة على الشهادة قد أجمع المسلمون أنه لا يجوز فيها إلا الاتصال والمشاهدة فكذلك الخبر يحتاج من الاتصال والمشاهدة إلى مثل ما تحتاج إليه الشهادة إذ هو باب في إيجاب الحكم واحد.
هذا كله قول الشافعي وأصحابه وأهل الحديث ولهم في ذلك من الكلام ما يطول ذكره.
وأما أصحابنا فكلهم مذهبه في الأصل استعمال المرسل مع المسند كما يوجب الجميع استعمال المسند ولا يردون بالمسند المرسل كما لا يردون الخبرين المتصلين ما وجدوا إلى استعمالهما سبيلا وما ردوا به المرسل من حجة بتأويل أو عمل مستفيض أو غير ذلك من أصولهم فهم يردون به المسند سواء لا فرق بينهما عندهم.
قال أبو عمر : هذا أصل المذهب ثم انى تأملت كتب المناظرين والمختلفين من المتفقهين وأصحاب الأثر من أصحابنا وغيرهم فلم أر أحد ا منهم يقنع من خصمه إذا احتج عليه بمرسل ولا يقبل منه في ذلك خبرا مقطوعا وكلهم عند تحصيل المناظرة يطالب خصمه بالاتصال في الاخبار. والله المستعان.
وإنما ذلك لأن التنازع إنما يكون بين من يقبل المرسل وبين من لا يقبله فإن احتج به من يقبله على من لا يقبله قال له هات حجة غيره فإن الكلام بيني وبينك في أصل هذا ونحن لا نقبله وان احتج من لا يقبله على من يقبله كان من حجته كيف تحتج على بما ليس حجة عندك ونحو هذا.
ولم نشاهد نحن مناظرة بين مالكي يقبله وبين حنفي يذهب في ذلك مذهبه ويلزم على أصل مذهبهما في ذلك قبول كل واحد منهما من صاحبه المرسل إذا أرسله ثقة عدل رضا ما لم يعترضه من الأصول ما يدفعه وبالله التوفيق.
واختلف اصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل هل يوجب العلم والعمل جميعا أم يوجب العمل دون العلم والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا ولا خلاف فيه.
وقال قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر انه يوجب العلم الظاهر والعمل جميعا منهم الحسين الكرابيسي وغيره وذكر بن خوازبنداذ أن هذا القول يخرج على مذهب مالك.
قال أبو عمر : الذي نقول به أنه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشاهدين والأربعة سواء وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات ويعادى ويوالى علها ويجعلها شرعا ودينا في معتقده على ذلك جماعة أهل السنة ولهم في الأحكام ما ذكرنا وبالله توفيقنا.
ولما اجمع اصحابنا على ما ذكرنا في المسند والمرسل واتفق سائر العلماء على ما وصفنا رأيت أن أجمع في كتابي هذا كل ما تضمنه موطأ مالك بن أنس رحمه الله في رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلس عنه من حديث رسول الله ﷺ مسنده ومقطوعه ومرسله وكل ما يمكن اضافته إليه صلوات الله وسلامه عليه.
ورتبت ذلك مراتب قدمت فيها المتصل ثم ما جرى مجراه مما اختلف في اتصاله ثم المنقطع والمرسل.
وجعلته على حروف المعجم في أسماء شيوخ مالك رحمهم الله ليكون أقرب للمتناول. ووصلت كل مقطوع جاء متصلا من غير رواية مالك وكل مرسل جاء مسندا من غير طريقه رحمة الله عليه فيما بلغني علمه وصح بروايتي جمعه ليرى الناظر في كتابنا هذا موقع آثار الموطأ من الاشتهار والصحة واعتمدت في ذلك على نقل الائمة وما رواه ثقات هذه الأمة.
وذكرت من معاني الاثار وأحكامها المقصودة بظاهر الخطاب ما عول على مثله الفقهاء أو لو الألباب.
وجلبت من أقاويل العلماء في تأويلها وناسخها ومنسوخها وأحكامها ومعانيها ما يشتفى به القارىء الطالب ويبصره وينبه العالم ويذكره.
وأتيت من الشواهد على المعاني والإسناد بما حضرني من الأثر ذكره وصحبني حفظه مما تعظم به فائدة الكتاب.
وأشرت إلى شرح ما استعجم من الألفاظ مقتصرا على اقاويل أهل اللغة.
وذكرت في صدر الكتاب من الأخبار الدالة على البحث عن صحة النقل وموضع المتصل والمرسل ومن أخبار مالك رحمه الله وموضعه من الامامة في علم الديانة ومكانه من الانتقاد والتوقي في الرواية ومنزلة موطئه عند جميع العلماء المؤلفين منهم والمخالفين نبذا يستدل بها اللبيب على المراد وتغنى المقتصر عليها عن الازدياد.
وأومأت إلى ذكر بعض أحوال الرواة وأنسابهم وأسنانهم ومنازلهم.
وذكرت من حفظت تاريخ وفاته منهم معتمدا في ذلك كله على الاختصار ضاربا عن التطويل والاكثار.
والله أسأله العون على ما يرضاه ويزلف فيما قصدناه فلم نصل إلى شيء مما ذكرناه إلا بعونه وفضله لا شريك له فله الحمد كثيرا دائما على ما ألهمنا من العناية بخير الكتب بعد كتابه وعلى ما وهب لنا من التمسك بسنة رسوله محمد ﷺ وما توفيقي إلا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل.
وإنما اعتمدت على رواية يحيى بن يحيى المذكورة خاصة لموضعه عند أهل بلدنا من الثقة والدين والفضل والعلم والفهم ولكثرة استعمالهم لروايته وراثة عن شيوخهم وعلمائهم إلا أن يسقط من روايته حديث من أمهات أحاديث الأحكام أو نحوها فأذكره من غير روايته إن شاء الله.
فكل قوم ينبغي لهم امتثال طريق سلفهم فيما سبق إليهم من الخير وسلوك منهاجهم فيما احتملوا عليه من البر وان كان غيره مباحا مرغوبا فيه.
والروايات في مرفوعات الموطأ متقاربة في النقص والزيادة وأما اختلاف روايته في الإسناد والارسال والقطع والاتصال فأرجوا أن ترى ما يكفى ويشفى في كتابنا هذا مما لا يخرجنا عن شرطنا إن شاء الله لارتباطه به والله المستعان.
فأما روايتنا للموطأ من طريق يحيى بن يحيى الأندلسي رحمه الله : فحدثنا بها أبو عثمان سعيد بن نصر لفظا منه قراءة عليَّ من كتابه رحمه الله وأنا أنظر في كتابي قال حدثنا قاسم بن أصبغ ووهب بن مسرة قالا حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا يحيى بن يحيى عن مالك.
وحدثنا به أيضا أبو الفضل أحمد بن قاسم قراءة منى عليه قال حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم ووهب بن مسرة قالا حدثنا بن وضاح قال حدثنا يحيى عن مالك.
وحدثنا به أيضا أبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد قراءة منى عليه قال حدثنا وهب بن مسرة قال حدثنا بن ضاح قال حدثنا يحيى عن مالك.
وحدثني به أيضا أبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد المذكور رحمه الله قال حدثنا أبو عمر أحمد بن مطرف وأحمد بن سعيد قالا حدثنا عبيد الله بن يحيى بن يحيى قال حدثني أبي عن مالك.
وبين رواية عبيد الله ورواية بن وضاح حروف قد قيدتها في كتابي.
والله أسأله حسن العون على ما يرضيه ويقرب منه فإنما نحن به لا شريك له وحسبنا الله ونعم الوكيل.
باب معرفة المرسل والمسند والمنقطع والمتصل والموقوف ومعنى التدليس
قال أبو عمر : هذه أسماء اصطلاحية وألقاب اتفق الجميع عليها وأنا ذاكر في هذا الباب معانيها إن شاء الله.
اعلم وفقك الله اني تأملت اقاويل ائمة أهل الحديث ونظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم ومن لم يشترطه فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروط ثلاثة وهي :
عدالة المحدثين في أحوالهم.
ولقاء بعضهم بعضا مجالسة ومشاهدة.
وأن يكونوا براء من التدليس.
والإسناد المعنعن فلان عن فلان عن فلان عن فلان.
وقد حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن حدثنا إبراهيم بن بكر حدثنا محمد بن الحسين بن أحمد الأزدي الحافظ الموصلي، قال : حدثنا بن زاكيا قال حدثنا أبو معمر عن وكيع قال قال شعبة فلان عن فلان ليس بحديث قال وكيع وقال سفيان هو حديث.
قال أبو عمر : ثم ان شعبة انصرف عن هذا إلى قول سفيان.
وقد اعلمتك ان المتأخرين من أئمة الحديث والمشترطين في تصنيفهم الصحيح قد أجمعوا على ما ذكرت لك وهو قول مالك وعامة أهل العلم والحمد لله إلا أن يكون الرجل معروفا بالتدليس فلا يقبل حديثه حتى يقول حدثنا أو سمعت فهذا ما لا أعلم فيه أيضا خلافا.
ومن الدليل على أن عن محمولة عند أهل العلم بالحديث على الاتصال حتى يتبين الانقطاع فيها ما حكاه أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل أنه سئل عن حديث المغيرة بن شعبة "أن النبي عليه السلام مسح أعلى الخف وأسفله" فقال : هذا الحديث ذكرته لعبدالرحمن بن مهدي
فقال : عن ابن المبارك أنه قال عن ثور حدثت عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة وليس فيه المغيرة.
قال أحمد : وأما الوليد فزاد فيه عن المغيرة وجعله ثور عن رجاء ولم يسمعه ثور من رجاء لأن ابن المبارك قال فيه عن ثور حدثت عن رجاء.
قال أبو عمر : ألا ترى أن أحمد بن حنبل رحمه الله عاب على الوليد بن مسلم قوله : "عن" في منطقع ليدخله في الاتصال.
فهذا بيان أن "عن" ظاهرها الاتصال حتى يثبت فيها غير ذلك ومثل هذا عن العلماء كثير. وسنذكر هذا الحديث بطرقه عند ذكر حديث المغيرة بن شعبة في باب ابن شهاب عن عباد بن زياد إن شاء الله.
وأما التدليس
فهو أن يحدث الرجل عن الرجل قد لقيه وأدرك زمانه وأخذ عنه وسمع منه وحدث عنه بما لم يسمعه منه وإنما سمعه من غيره عنه ممن ترضى حاله أو لا ترضى على أن الأغلب في ذلك أن لو كانت حاله مرضيه لذكره وقد يكون لأنه استصغره.
هذا هو التدليس عند جماعتهم لا اختلاف بينهم في ذلك.
وسنبين معنى التدليس بالاخبار عن العلماء في الباب بعد هذا إن شاء الله.
واختلفوا في حديث الرجل عمن لم يلقه مثل مالك عن سعيد بن المسيب والثوري عن إبراهيم النخعي وما أشبه هذا فقالت فرقة هذا تدليس لأنهما لو شاءا لسميا من حدثهما كما فعلا في الكثير مما بلغهما عنهما قالوا وسكوت المحدث عن ذكر من حدثه مع علمه به دلسة.
قال أبو عمر : فإن كان هذا تدليسا فما أعلم أحد ا من العلماء سلم منه في قديم الدهر ولا في حديثه اللهم إلا شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان فإن هذين ليس يوجد لهما شيء من هذا لا سيما شعبة فهو القائل لأن أزني أحب إلى من أن أدلس.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني حدثنا بندار حدثنا غندر قال سمعت شعبة يقول التدليس في الحديث أشد من الزنا ولان أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلى من أن أدلس.
وقال أبو نعيم سمعت شعبة يقول : لان أزنى أحب إلى من ان أدلس.
وقال أبو الوليد الطيالسي : سمعت شعبة يقول لان أخر من السماء إلى الأرض أحب إلى من أن أقول زعم فلان ولم أسمع ذلك الحديث منه.
وقالت طائفة من أهل الحديث : ليس ما ذكرنا يجرى عليه لقب التدليس وإنما هو ارسال قالوا وكما جاز أن يرسل سعيد عن النبي صلى الله عيه وسلم وعن أبي بكر وعمر وهو لم يسمع منهما ولم يسم أحد من أهل العلم ذلك تدليسا كذلك مالك عن سعيد بن المسيب.
والإرسال قد تبعث عليه أمور لا تضيره
مثل أن يكون الرجل سمع ذلك الخبر من جماعة عن المعزى إليه الخبر وصح عنده ووقر في نفسه فارسله عن ذلك المعزى إليه علما بصحة ما أرسله.
وقد يكون المرسل للحديث نسى من حدثه به وعرف المعزى إليه الحديث فذكره عنه فهذا أيضا لا يضر إذا كان أصل مذهبه أن لا يأخذ إلا عن ثقة كمالك وشعبة.
أو تكون مذاكرة فربما ثقل معها الإسناد وخف الارسال أما لمعرفة المخاطبين بذلك الحديث واشتهاره عندهم أو لغير ذلك من الأسباب الكائنة في معنى ما ذكرناه.
والاصل في هذا الباب اعتبار حال المحدث فإن كان لا يأخذ إلا عن ثقة وهو في نفسه ثقة وجب قبول حديثه مرسله ومسنده وان كان يأخذ عن الضعفاء ويسامح نفسه في ذلك وجب التوقف عما أرسله حتى يسمى من الذي أخبره.
وكذلك من عرف بالتدليس المجتمع عليه وكان من المسامحين في الأخذ عن كل أحد لم يحتج بشيء مما رواه حتى يقول أخبرنا أو سمعت.
هذا إذا كان عدلا ثقة في نفسه وان كان ممن لا يروى إلا عن ثقة استغنى عن توقيفه ولم يسأل عن تدليسه.
وعلى ما ذكرته لك أكثر أئمة الحديث قال يعقوب بن شيبة سألت يحيى بن معين عن التدليس فكرهه وعابه.
قلت له فيكون المدلس حجة فيما روى حتى يقول حدثنا أو أخبرنا.
فقال لا يكون حجة فيما دلس فيه.
قال يعقوب وسألت على بن المديني عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل حدثنا.
فقال إذا كان الغالب عليه التدليس فلا حتى يقول حدثنا.
قال على والناس يحتاجون في صحيح حديث سفيان إلى يحيى القطان.
يعني على أن سفيان كان يدلس وان القطان كان يوقفه على ما سمع وما لم يسمع.
وسترى في الباب الذي بعد هذا ما يدلك على ذلك ويكشف لك المذهب والمراد فيه إن شاء الله.
فأما المرسل
فإن هذا الاسم أو قعوه باجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي ﷺ مثل أن يقول عبيد الله بن عدي بن الخيار أو أبو امامة بن سهل بن حنيف أو عبد الله بن عامر بن ربيعة ومن كان مثلهم قال رسول الله ﷺ .
وكذلك من دون هؤلاء مثل سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد ومن كان مثلهم.
وكذلك علقمة بن قيس ومسروق بن الأجدع والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير ومن كان مثلهم من سائر التابعين الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم.
فهذا هو المرسل عند أهل العلم.
ومثله أيضا مما يجرى مجراه عند بعض أهل العلم مرسل من دون هؤلاء مثل حديث ابن شهاب وقتادة وأبي حازم ويحيى بن سعيد عن النبي ﷺ يسمونه مرسلا كمرسل كبار التابعين.
وقال آخرون : حد يث هاؤلاء عن النبي ﷺ يسمى منقطعا لأنهم لم يلقوا من الصحابه إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين فما ذكروه عن النبي ﷺ يسمى منقطعا.
قال أبوعمر : المنقطع عندى كل مالايتصل سواء كان يعزي إلى النبي ﷺ أو الى غيره.
وأما المسند
فهو ما رفع إلى النبي ﷺ خاصة.
فالمتصل من المسند مثل : مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ ومالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن ابيه عن النبي ﷺ .
ومالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشه عن النبي ﷺ .
ومالك عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريره عن النبي ﷺ .
ومالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسبب أو أبي سلمة بن عبد الرحمن أو الاعرج عن أبي هريرة عن النبي ﷺ .
ومعمر عن همام بن منبه عن أبى هريره عن النبي ﷺ .
وأيوب عن ابن سيرين عن أبى هريرة عن النبي ﷺ .
وماكان مثل هذا كله.
والمنقطع من المسند مثل : مالك عن يحيى بن سعيد عن عائشه عن النبي ﷺ .
وعن عبد الرحمن بن قاسم عن عائشه عن النبي ﷺ .
وعن ابن شهاب عن ابن عباس عن النبي ﷺ
وعن ابن ابن شهاب عن أبي هريرة.
وعن زيد بن أسلم عن عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ .
فهذا وما كان مثله مسند لأنه أسند إلى النبي ﷺ ورفع إليه وهو مع ذلك منقطع لأن يحيى بن سعيد وعبدالرحمن بن القاسم لم يسمعا من عائشة وكذلك ابن شهاب لم يسمع من ابن عباس ولا من أبي هريرة ولا سمع زيد بن أسلم من عمر وقد اختلف في سماعه من ابن عمر والصحيح عندي أنه سمع منه.
وسترى ذلك في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله.
وأكثر من هذا في الانقطاع : مالك أنه بلغه عن جابر بن عبد الله عن النبي ﷺ وعن عائشة.
وعن أنس عن النبي ﷺ وما كان مثله.
وأما المتصل جملة فمثل
مالك عن نافع.
وعبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا أو موقوفا وكذلك أيوب عن أبي قلابة عن أنس مرفوعا أو موقوفا.
وشعبة عن قتادة عن أنس مرفوعا أو موقوفا.
وشعبة عن الحكم بن عتيبة عن مصعب بن سعد عن أبيه مرفوعا أو موقوفا.
ومثل منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعا أو موقوفا.
ومثل الأوزاعي وهشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا أو موقوفا.
والزهري عن أبي سلمة عن عائشة وأبي هريرة مرفوعا أو موقوفا وما كان مثل هذا.
وإنما سمي متصلا لأن بعضهم صحت مجالسته ولقاؤه لمن بعده في الإسناد وصح سماعه منه.
والموقوف
ما وقف على الصاحب ولم يبلغ به النبي ﷺ مثل مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر قوله.
وعن الزهري عن سالم عن أبيه قوله.
وابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس قوله وما كان مثل هذا.
والانقطاع يدخل المرفوع وغير المرفوع.
وقد ذهب قوم إلى أن المرفوع كل ما أضيف إلى النبي ﷺ متصلاكان أو مقطوعا وأن المسند لا يقع إلا على ما اتصل مرفوعا إلى النبي ﷺ .
ففرقوا بين المرفوع والمسند بأن المسند هو الذي لا يدخله انقطاع ومما يعرف به اتصال الرواة ولقاء بعضهم بعضا فلذا صار الحديث مقطوعا وان كان مسندا لأن ظاهره يتصل إلى النبي ﷺ وهو منقطع.
وقال آخرون المرفوع والمسند سواء وهما شيء واحد والانقطاع يدخل عليهما جميعا والاتصال.
واختلفوا في معنى أن هل هي بمعنى عن محمولة على الاتصال بالشرائط التي ذكرنا حتى يتبين انقطاعها أو هي محمولة على الانقطاع حتى يعرف صحة اتصالها.
وذلك مثل مالك عنن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب قال كذا
ومثل مالك عن هشام بن عروة أن أباه قال كذا.
ومثل حماد بن زيد عن أيوب أن الحسن قال كذا.
فجمهور أهل العلم على أن عن وأن سواء وأن الاعتبار ليس بالحروف وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحا كان حديث بعضهم عن بعض أبدا بأي لفظ ورد محمولا على الاتصال حتى تتبين فيه علة الانقطاع.
وقال البرديجي أن محمولة على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من طريق آخر أو يأتي ما يدل على أنه قد شهده وسمعه.
قال أبو عمر : هذا عندي لا معنى لا لاجماعهم على أن الإسناد المتصل بالصحابي سواء قال فيه قال رسول الله ﷺ أو أن رسول الله ﷺ قال أو عن رسول الله أنه قال أو سمعت رسول الله ﷺ كل ذلك سواء عند العلماء والله أعلم.
وأما التدليس
فمعناه عند جماعة أهل العلم بالحديث أن يكون الرجل قد لقى شيخا من شيوخه فسمع منه أحاديث لم يسمع غيرها منه ثم أخبره بعض أصحابه ممن يثق به عن ذلك الشيخ بأحاديث غير تلك التي سمع منه فيحدث بها عن الشيخ دون أن يذكر صاحبه الذي حدثه بها فيقول فيها عن فلان يعني ذلك الشيخ.
وهذا لا يجوز إلا في الإسناد المعنعن ولا أعلم أحدا يجيز للمحدث أن يقول أخبرني أو حدثني أو سمعت من لم يخبره ولم يحدثه ولم يسمع منه وإنما يقول اكتبوا فلان عن فلان كما لو قال مالك اكتبوا :
مالك عن نافع أو ابن عيينة يقول اكتبوا سفيان عن عمرو بن دينار أو الثوري أو شعبة يقول اكتبوا سفيان أو شعبة عن الأعمش وهو قد سمعه من رجل وثق به عن الذي حمله عنه.
وهذا أخف ما يكون في الذين لقى بعضهم بعضا وأخذ بعضهم عن بعض وإذا وقع ذلك فيمن لم يلقه فهو أقبح وأسمج.
وسئل يزيد بن هارون عن التدليس في الحديث فكرهه وقال هو من التزين.
باب بيان التدليس ومن يقبل نقله ويقبل مرسله وتدليسه ومن لا يقبل ذلك منه
قال أبو عمر : الذي اجتمع عليه أئمة الحديث والفقه في حال المحدث الذي يقبل نقله ويحتج بحديثه ويجعل سنة وحكما في دين الله هو أن يكون حافظا إن حدث من حفظه عالما بما يحيل المعاني ضابطا لكتابه إن حدث من كتاب يؤدي الشيء على وجهه متيقظاً غير مغفل وكلهم يستحب أن يؤدي الحديث بحروفه لأنه أسلم له فإن كان من أهل الفهم والمعرفة جاز له أن يحدث بالمعنى وان لم يكن كذلك لم يجز له ذلك لأنه لا يدري لعله يحيل الحلال إلى الحرام ويحتاج مع ما وصفنا أن يكون ثقة في دينه عدلا جائز الشهادة مرضيا فإذا كان كذلك وكان سالما من التدليس كان حجة فيما نقل وحمل من أثر في الدين.
وجملة تلخيص القول في التدليس الذي أجازه من أجازة من العلماء بالحديث هو أن يحدث الرجل عن شيخ قد لقيه وسمع منه بما لم يسمع منه وسمعه من غيره عنه فيوهم أنه سمعه من شيخه ذلك وإنما سمعه من غيره أو من بعض أصحابه عنه ولا يكون ذلك إلا عن ثقة فإن دلس عن غير ثقة فهو تدليس مذموم عند جماعة أهل الحديث وكذلك إن دلس عمن لم يسمع منه فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه وبالله العصمة لا شريك له.
وكل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة حتى تتبين جرحته في حاله أو في كثرة غلطه لقوله ﷺ "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله".
وسنذكر هذا الخبر بطرقه في آخر هذا الباب إن شاء الله.
قال صالح بن أحمد بن حنبل حدثنا علي بن المديني قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول قال شعبة يوما حدثني رجل عن سفيان عن منصور عن إبراهيم بكذا ثم قال ما يسرني أني قلت قال منصور وأن لي الدنيا كلها.
وقد يكون المحدث عدلا جائز الشهادة ولا يعرف معنى ما يحمل فلا يحتج بنقله قال أحمد بن حنبل سمعت يزيد بن هارون يقول قد تجوز شهادة الرجل ولا يجوز حديثه ولا يجوز حديثه حتى تجوز شهادته وقال أيوب إن بالبصرة رجلا من أزهدهم وأكثرهم صلاة عييا لو شهد عندي شهادة ما أجزت شهادته يريد فكيف أقبل حديثه.
وقال ابن مهدي إني لأدعو الله لقوم قد تركت حديثهم.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا الوليد بن شجاع حدثنا سويد بن عبد العزيز عن مغيرة قال خرجنا إلى شيخ بلغنا أنه يحدث بأحاديث فلما انتهينا إلى إبراهيم قال ما حبسكم قلنا أتينا شيخا يحدث بأحاديث قال إبراهيم لقد رأيتنا وما نأخذ الأحاديث إلا ممن يعرف وجوهها وإنا لنجد الشيخ يحدث بالحديث يحرف حلاله من حرامه وما يعلم.
وقال علي بن المديني سمعت يحيى بن سعيد يعنى القطان يقول : ينبغي لصاحب الحديث أن تكون فيه خصال ينبغي أن يكون جيد الأخذ ويفهم ما يقال له ويبصر الرجال ويتعاهد ذلك من نفسه.
وقد ذكرنا في باب أخبار مالك بعد هذا الباب قوله فيمن يؤخذ العلم عنه ومذهبه في ذلك هو مذهب جمهور العلماء.
والشرط في خبر العدل على ما وصفنا أن يروى عن مثله سماعا واتصالا حتى يتصل ذلك بالنبي ﷺ .
وأما الإرسال فكل من عرف بالأخذ عن الضعفاء والمسامحة في ذلك لم يحتج بما أرسله تابعيا كان أو من دونه وكل من عرف أنه لا يأخذ إلا عن ثقة فتدليسه ومرسله مقبول.
فمراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي عندهم صحاح وقالوا مراسيل عطاء والحسن لا يحتج بها لأنهما كانا يأخذان عن كل أحد وكذلك مراسيل أبي قلابة وأبي العالية.
"وقالوا لا يقبل تدليس الأعمش لأنه إذا وقف أحال على غير مليء يعنون على غير ثقة إذا سألته عمن هذا قال عن موسى بن طريف وعباية بن ربعى والحسن بن ذكوان.
قالوا : يقبل تدليس ابن عيينة لأنه إذا وقف أحال على ابن جريح ومعمر ونظائرهما.
أخبر ني أبو عثمان سعيد بن نصر رحمه الله قال حدثنا أبو عمر أحمد بن دحيم بن خليل قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا سفيان بن عيينة يوما عن زيد بن أسلم عن علي بن الحسين قال يجزى الجنب أن ينغمس في الماء قلنا من دون زيد بن أسلم قال معمر قلنا من دون معمر قال ذاك الصنعاني عبد الرزاق.
وروى عن ابن معين قال كان ابن عيينة يدلس فيقول عن الزهري فإذا قيل له من دون الزهري فيقول لهم أليس لكم في الزهري مقنع فيقال بلى فإذا استقصى عليه يقول معمر اكتبوا لا بارك الله لكم.
قال يحيى بن معين وكان هشيم مدلسا كان الأعمش مدلسا وكان الوليد بن مسلم مدلسا.
حدثنا أبو عبد الله محمد بن رشيق قال حدثنا أبو الطيب أحمد بن سليمان بن عمرو البغدادي قال حدثنا محمد بن محمد بن سليمان الباغنذي قال حدثنا علي بن عبد الله المديني قال حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري قال حدثنا سليمان الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال : "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة".
قال علي بن المديني قال يحيى بن سعيد قال سفيان وشعبة لم يسمع الأعمش هذا الحديث من إبراهيم التيمي.
قال أبو عمر : هذه شهادة عدلين إمامين على الأعمش بالتدليس وانه كان يحدث عن من لقيه بما لم يسمع منه وربما كان بينهما رجل أو رجلان.
فلمثل هذا وشبهه قال ابن معين وغيره في الأعمش أنه مدلس.
حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن حدثنا إبراهيم بن بكر بن عمران حدثنا محمد بن الحسين الأزدي حدثنا عمران بن موسى،
حدثنا أبو موسى الزمن حدثنا أبو الوليد قال سمعت أبا معاوية الضرير يقول كنت أحد ث الأعمش عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد فيجيء أصحاب الحديث بالعشى فيقولون حدثنا الأعمش عن مجاهد بتلك الأحاديث فأقول أنا حدثته عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد.
قال أبو عمر : التدليس في محدثي أهل الكوفة كثير قال يزيد بن هارون لم أر بالكوفة أحد ا إلا وهو يدلس إلا مسعرا وشريكا.
وذكر إسحاق بن إبراهيم عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش قال قال لي حبيب بن أبي ثابت لو أن رجلا حدثني عنك بحديث ما باليت أن أرويه عنك.
وروى معاذ بن معاذ عن شعبة قال مارأيت أحد إلاوهو يدلس إلاعمرو بن مرة وابن عون.
وقال يحيى بن سعيد القطان مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلى من الثوري عن إبراهيم لأنه لو كان شيخ الثورى فيه رمق لبرح به وصاح
وقال مرة أخرى كلاهما عندي شبه الريح.
حدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا سعيد بن عثمان حدثنا الخشني حدثنا أبو موسى الزمن حدثنا الحسن بن عبد الرحمن عن ابن عون قال ذكر أيوب لمحمد يوما حديثا عن أبى قلابة فقال أبو قلابة رجل صالح ولكن انظر عمن ذكره أبو قلابة.
وحدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا الحضرمي حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبى حدثنا إسماعيل بن عليه عن أيوب قال كان الرجل يحدث محمدا بالحديث فلا يقبل عليه ويقول والله ما أتهمك ولا أتهم ذاك ولكن أتهم من بينكما.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو داود يعني الطيالسي قال قال شعبة كنت أعرف إذا جاء ما سمع قتادة مما لم يسمع كان إذا جاء ما سمع يقول حدثنا أنس بن مالك وحدثنا الحسن وحدثنا سعيد بن المسيب وحدثنا مطرف وإذا جاء ما لم يسمع يقول قال سعيد بن جبير وقال أبو قلابة.
وذكر أبو عيسى الترمذي حدثنا حسين بن مهدي البصري حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن المبارك قال قلت لهشيم ما لك تدلس وقد سمعت كثيرا قال كان كبيراك يدلسان الأعمش والثوري وذكر أن الأعمش لم يسمع عن مجاهد إلا أربعة أحاديث.
وقال قال أبو عيسى قلت لمحمد بن إسماعيل البخاري لم يسمع الأعمش من مجاهد إلا أربعة أحاديث قال ريح ليس بشيء لقد عددت له أحاديث كثيرة نحوا من ثلاثين أو أقل أو أكثر يقول فيها حدثنا مجاهد.
قال البخاري ولا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور وذكر مشايخ كثيرة فقال لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليسا ما أقل تدليسه!
قال البخاري وكان حميد الطويل يدلس.
حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان الأعناقي قال حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن زيد بن اسلم قال قال عبد الله بن عمر : "دخل رسول الله ﷺ مسجد بني عمرو بن عوف يعني مسجد قباء يصلى فيه ودخلت رجال من الأنصار يسلمون عليه ودخل معهم صهيب فسألت صهيبا كيف كان النبي ﷺ يصنع إذا سلم عليه؟ قال : يشير بيده".
قال سفيان بن عيينة فقلت لرجل سل زيد بن أسلم وفرقت أن أسأله هل سمعت هذا من ابن عمر فقال له يا أبا أسامة أسمعته من ابن عمر قال زيد أما أنا فقد رأيته.
قال أبو عمر : جواب زيد هذا جواب حيرة عما سئل عنه وفيه دليل والله أعلم على أنه لم يسمع هذا الحديث من ابن عمر ولو سمعه منه لأجاب بأنه سمعه ولم يجب بأنه رآه وليست الرؤية دليلا على صحة السماع،
وقد صح سماعه من ابن عمر لأحاديث وقد ذكرنا ذلك في أول بابه من هذا الكتاب والحمد لله.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد بن حنبل شعيب بن حرب قال قال مالك بن أنس كنا نجلس إلى الزهري والى محمد بن المنكدر فيقول الزهري قال ابن عمر كذا وكذا فإذا كان بعد ذلك جلسنا إليه فقلنا له الذي ذكرت عن ابن عمر من أخبرك به قال ابنه سالم.
وقال حبيب بن الشهيد قال لي محمد بن سيرين سل الحسن ممن سمع حديث العقيقة فسألته فقال من سمرة.
قال أبو عمر : فهكذا مراسيل الثقات إذا سئلوا أحالوا على الثقات.
يقولون لم يسمع الحسن من سمرة غير حديث العقيقة هكذا قال ابن معين وغيره وقال البخاري قد سمع منه أحاديث كثيرة وصحح سماعه من سمرة فيما ذكر الترمذي أبو عيسى عن البخاري فالله أعلم.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن سليمان الأعمش قال قلت لإبراهيم : إذا حدثتني حديثا فأسنده فقال إذا قلت عن عبد الله يعني بن مسعود فاعلم أنه عن غير واحد وإذا سميت لك أحد ا فهو الذي سميت.
قال أبو عمر : إلى هذا نزع من أصحابنا من زعم أن مرسل الإمام أولى من مسنده لأن في هذا الخبر ما يدل على أن مراسيل إبراهيم النخعي أقوى من مسانيده وهو لعمري كذلك إلا أن إبراهيم ليس بعيار على غيره.
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن شاكر قال حدثنا محمد بن يحيى بن عبد العزيز قال حدثنا أسلم بن عبد العزيز قال حدثنا الربيع بن سلمان قال حدثنا الشافعي رحمه الله قال حدثنا عمى محمد بن علي بن شافع قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال إني لأسمع الحديث أستحسنه فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدث به عمن أثق به أو أسمعه من رجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به فلا أحدث به.
قال أبو عمر : هذا فعل أهل الورع والدين كيف ترى في مرسل عروة بن الزبير وقد صح عنه ماذكرنا اليس قد كفاك المؤنة ولو كان الناس على هذا المذهب كلهم لم يحتج إلى شيء مما نحن فيه.
وفي خبر عروة هذا دليل على أن ذلك الزمان كان يحدث فيه الثقة وغير الثقة فمن بحث وانتقد كان إماما ولهذا شرطنا في المرسل والمقطوع إمامة مرسله وانتقاده لمن يأخذ عنه وموضعه من الدين والورع والفهم والعلم.
حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن حدثنا إبراهيم بن بكر بن عمران حدثنا محمد بن الحسين بن أحمد الأزدي الحافظ قال حدثنا على بن إبراهيم قال حدثنا الربيع بن سليمان قال حدثنا الشافعي قال أخبر ني عمى محمد بن علي بن شافع قال حدثني هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال إني لأسمع الحديث أستحسنه فذكر كلام عروة كما تقدم حرفا بحرف إلى أخره إلا أنه قال في أخره فأدعه لا أحدث به وزاد قال الشافعي كان ابن سيرين وإبراهيم النخعي وطاوس وغير واحد من التابعين يذهبون إلى أن لا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي ويحفظ وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب.
قال أبو عمر : ما أظن قول عروة هذا إلا مأخوذ من قول ﷺ : "من روى عنى حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين".
وذلك أن كل من حدث بكل ما سمع من ثقة وغير ثقة لم يؤمن عليه أن يحدث بالكذب والله أعلم.
حدثني أحمد بن قاسم وسعيد بن نصر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي قال حدثنا نعيم بن حماد قال حدثنا ابن المبارك قال سمعت يحيى بن عبيد الله قال سمعت أبي يقول سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله ﷺ : "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" قال ابن المبارك وأخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال سمعت أبا بكر الصديق يقول : "اياكم والكذب فإنه مجانب الإيمان".
وروينا عن الثوري قال قال حبيب بن أبي ثابت الذي يروى الكذب هو الكذاب.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى القطان وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو علي الحسن بن سلام السويقي قال حدثنا عفان بن مسلم قالا حدثنا شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله ﷺ : "من روى عنى حديثا وهو يرى انه كذب فهو أحد الكاذبين".
قال أبو عمر : عن شعبة في هذا إسناد آخر أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد بن سلام السويقي قال حدثنا عفان بن مسلم وعلي بن الجعد قالا حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ قال : "من حدث عنني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" . ورواه الثوري عن حبيب بإسناده مثله.
حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله ﷺ فذكره.
حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال حدثنا الميمون بن حمزة الحسني قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا المزني وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا سليمان بن أيوب قال حدثنا أسلم بن عبد العزيز قال حدثنا الربيع بن سليمان قالا حدثنا الشافعي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج وحدثوا عني لا تكذبوا علي".
قال الشافعي رحمه الله : هذا أشد حديث روى في تخريج الرواية عمن لا يوثق بخبره عن النبي ﷺ لأنه ﷺ معلوم منه أنه لا يبيح اختلاق الكذب على بني إسرائيل ولا على غيرهم فلما فرق بين الحديث عن بني إسرائيل وبين الحديث عنه ﷺ لم يحتمل إلا انه أباح الحديث عن بني إسرائيل عن كل أحد، وأنه من سمع منهم شيئا جاز له أن يحدث به عن كل من سمعه منه كائنا من كان وأن يخبر عنهم بما بلغه لأنه والله أعلم ليس في الحديث عنهم ما يقدح في الشريعة ولا يوجب فيها حكما وقد كانت فيهم الأعاجيب فهي التي يحدث بها عنهم لا شيء من أمور الديانة وهذا الوجه المباح عن بني إسرائيل هو المحظور عنه ﷺ فلا ينبغي لأحد أن يحدث عنه ﷺ إلا عمن يثق بخبره ويرضى دينه وأمانته لأنها ديانة.
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثنا سليمان التيمي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ : "من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" أخبرنا محمد بن عبد الملك قال أخبرنا بن الأعرابي قال حدثنا سعدان بن نصر قال حدثنا سفيان عن هشام بن حجير عن طاوس قال كنت عند ابن عباس وبشير بن كعب العدوى يحدثه فقال بن عباس عد لحديث كذا وكذا فعاد له ثم انه حدث فقال له ابن عباس عد لحديث كذا وكذا فعاد له ثم انه حدث فقال له بشير ما لك تسألني عن هذا الحديث من بين حديثي كله أأنكرت حديثي كله وعرفت هذا أو عرفت حديثي كله وأنكرت هذا فقال له ابن عباس : "إنا كنا نحدث عن رسول الله ﷺ إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول
تركنا الحديث عنه". وفي هذا الحديث دليل على أن الكذب على النبي ﷺ قد كان أحس به بن عباس في عصره.
وقال رجل لابن المبارك هل يمكن أن يكذب أحد على رسول الله ﷺ فانتهره وقال وما ذا من الكذب.
وقال حماد بن زيد وضعت الزنادقة على رسول الله ﷺ اثني عشر ألف حديث بثوها في الناس.
قال أبو عمر : تخويف رسول الله ﷺ أمته بالنار على الكذب دليل على أنه كان يعلم أنه سيكذب عليه ﷺ .
حدثنا خلف بن قاسم حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق الرازي حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج القطان حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ويزيد بن موهب قالا حدثنا الليث بن سعد قال حدثني ابن شهاب عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال : "من كذب علي قال حسبت انه قال متعمدا فليتبوأ بيته في النار"
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي حدثنا أبو غياث أصرم بن غياث قال حدثني أبو سنان عن هرون بن عنترة قال قال أبو هريرة : "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه".
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير حدثنا الوليد بن شجاع حدثنا ابن المبارك عن ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن عامر بن سعد أن عقبة بن نافع قال لبنيه يا بني لا تقبلوا الحديث عن رسول الله ﷺ إلا من ثقة وروينا عن ابن معين أنه قال كان فيما أوصى به صهيب بنيه أن قال : "يا بني لا تقبلوا الحديث عن رسول الله ﷺ إلا من ثقة".
وقال ابن عون : "لا تأخذوا العلم إلا من شهد له بالطلب".
وفيما أجاز لنا عبد بن أحمد وحدثناه عبد الله بن سعيد عنه قال حدثنا علي بن عمر قال حدثنا محمد بن مسلم حدثنا محمد بن هشام بن البختري قال حدثنا هشام بن هارون حدثنا الحسين بن خالد عن حماد بن زيد عن شعيب بن الحبحاب قال غدوت إلى أنس بن مالك،
فقال يا شعيب ما غدا بك فقلت يا أبا حمزة غدوت لأتعلم منك وألتمس ما ينفعني فقال يا شعيب : "إن هذا العلم دين فانظر ممن تأخذه".
وقال سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى قال : "لا يؤخذ العلم من صحفي".
وقال القاسم بن محمد : "أقبح من الجهل أن أقول بغير علم أو أحدث عن غير ثقة".
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة حدثنا هشام بن حسان قال قال محمد بن سيرين : "انظروا عمن تأخذون هذا الحديث فإنما هو دينكم".
حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي حدثنا فضيل بن عياض عن هشام عن ابن سيرين قال إنما هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه حدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى المقري حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن سمعون ببغداد حدثنا محمد بن محمد بن أبي حذيفة حدثنا ربيعة بن الحارث حدثنا محمد بن زياد حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم قال : "إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" قال المغيرة كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى سمته وصلاته وقد روى جماعة عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال : "كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى هديه وسمته وصلاته ثم أخذوا عنه".
أخبرنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا بن أبي أو يس قال سمعت خالي مالك بن أنس يقول : "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم لقد أدركت سبعين" فذكر الحديث وهو بتمامه في الباب الذي بعد هذا في أخبار مالك رحمه الله.
حدثنا خلف بن أحمد وعبد الرحمن بن يحيى قالا حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن النعمان حدثنا محمد بن علي بن مروان قال سمعت عفان بن مسلم قال سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول سألت شعبة وابن المبارك والثوري ومالك بن أنس عن الرجل يتهم بالكذب فقالوا انشره فإنه دين.
وروينا عن حماد بن زيد أنه قال كلمنا شعبة في أن يكف عن أبان بن أبي عياش لسنه وأهل بيته فقال لي يا أبا إسماعيل لا يحل الكف عنه لأن الأمر دين.
حدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى العقيلي حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحسن بن علي قال سمعت يزيد بن هارون يقول حدث سليمان التيمي بحديث عن ابن سيرين فذكر له الحديث فقال له ابن سيرين ما هذا يا سليمان اتق الله ولا تكذب على فقال سليمان إنما حدثنا مؤذننا أين هو فجاء المؤذن فقال سليمان اليس حدثتني عن ابن سيرين بكذا وكذا فقال إنما حدثنيه رجل عن ابن سيرين.
أخبرنا خلف بن قاسم قال حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن مهران السراج قال حدثنا جعفر بن أحمد بن الفرج الدوري قال حدثنا محمد بن سعيد بن غالب قال حدثنا نصر بن حماد يعني الوراق قال كنا قعودا على باب شعبة نتذاكر الحديث فقلت حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني قال كنا نتناوب رعية الأبل على عهد رسول الله ﷺ فجئت ذات يوم والنبي عليه السلام حوله أصحابه فسمعته يقول : "من توضأ ثم صلى ركعتين ثم استغفر الله غفر له" قلت بخ بخ قال فجذبني رجل من خلف فالتفت فإذا عمر بن الخطاب فقال ما لك تبخبخ فقلت عجبا بها قال لو سمعت التي قبلها كانت أعجب وأعجب قلت وما قال قال قال رسول الله ﷺ : "من شهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله قيل له ادخل من أي أبواب الجنة شئت" قال : قال نصر فخرج علينا شعبة فلطمني ثم رجع فدخل قال فتنحيت ناحية أبكي ثم خرج فقال ما له بعد يبكي فقال له عبد الله بن إدريس انك أسأت إليه قال انظر ما يحدث به عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ أنا قلت لأبي إسحاق من حدثك قال حدثنا عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ فقلت لأبي إسحاق أو سمع عبد الله من عقبة قال فغضب ومسعر بن كدام حاضر فقال لي مسعر أغضبت الشيخ فقلت ليصححن هذا الحديث أو لأرمين بحديثه فقال لي مسعر هذا عبد الله بن عطاء بمكة قال شعبة فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديث فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته فقال سعد بن إبراهيم حدثني قال شعبة فلقيت مالك بن أنس فسألته عن سعد فقال سعد بن إبراهيم بالمدينة لم يحج العام فرحلت إلى المدينة فلقيت سعد بن إبراهيم بالمدينة فسألته فقال الحديث من عندكم حدثني زياد بن مخراق قال شعبة فلما ذكر زياد بن مخراق قلت أي شيء هذا بينما هو كوفي إذ صار مدنيا إذ صار بصريا قال شعبة فرحلت إلى البصرة فلقيت زياد بن مخراق فسألته فقال ليس الحديث من بانتك كذا فقلت حدثني به قال لا ترده قلت حدثني به قال حدثني شهر بن حوشب قلت ومن لي بهذا الحديث لو صح لي مثل هذا عن رسول الله ﷺ كان أحب إلي من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين وذكره الدارقطني عن أبي عبيد القاسم بن إسماعيل المحاملي ومحمد بن مخلد بن حفص العطار قالا حدثنا أبو يحيى محمد بن سعيد بن غالب قال سمعت نصر بن حماد يقول كنا قعودا على باب شعبة فذكر مثله إلى آخره.
وقد روى هذا المعنى من وجوه عن شعبة ولذلك ذكرته عن نصر بن حماد لأن نصر بن حماد الوراق يروى عن شعبة مناكير تركوه وقد رواه الطيالسي عن شعبة.
حدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا أحمد بن خالد حدثنا أحمد بن عبد الله الصنعاني قال سمعت أبا حفص يعنى الفلاس يقول سمعت أبا داود يقول كنا عند شعبة فجاء بشر بن المفضل فقال له أتحفظ عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ : "ما من مسلم يتوضأ" فضحك شعبة فقال بشر انا نراك قد سقط عنك حديث جيد من حديث أبي إسحاق وتضحك قال فقال شعبة كنت عند أبي إسحاق فحدث بهذا الحديث فقال حدثي عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر قال شعبة وكان أبو إسحاق إذا حدثني عن رجل لا أعرفه قلت أنت أكبر أم هذا فقال حدثني ذاك الفتى فتحولت فإذا شاب جالس فسألته فقال صدق أنا حدثته فقلت أنت من حدثك فقال حدثني نعيم بن أبي هند فأتيت نعيم بن أبي هند فقلت من حدثك قال زياد بن مخراق قال شعبة فقدمت البصرة فلقيت زياد بن مخراق فسألته فقال حدثني رجل من أهل البصرة لا أدري من هو عن شهر بن حوشب.
قال أبو عمر : هكذا يكون البحث والتفتيش وهذا معروف عن شعبة ولهذا وشبهه قال أبو عبد الرحمن النسائي أمناء الله عز وجل على حديث رسوله ثلاثة مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان.
قال أبو عمر : الحديث الذي جرى ذكره بين شعبة وبشرر بن المفضل من حديث أبي إسحاق حدثناه سعيد بن نصر حدثنا قاسم حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر قال كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فكنا نتناوب الرعية فلما كانت نوبتي سرحت ثم رحت فجئت ورسول الله ﷺ يخطب الناس فسمعته يقول : "ما من مسلم يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقوم في صلاته فيعلم ما يقول فيها إلا انفتل وهو كيوم ولدته امه من الخطايا ليس عليه ذنب قال فما ملكت نفسي عند ذلك ان قلت بخ بخ ".
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير الزهد وقال عفان سمعت محمد بن يحيى بن سعيد القطان يقول سمعت أبي يقول ما رأيت الصالحين أكذب منهم في الحديث.
قال أبو عمر : هذا معناه والله أعلم أنه ينسب إلى الخير وليس كما نسب إليه وظن به وقد روى عن النبي ﷺ أنه قيل له أيكون المؤمن كذابا قال لا وهذا أيضا على أنه لا يغلب عليه الكذب أو لا يكذب على دينه ليضل غيره.
وقد تكلمنا على هذا المعنى في باب صفوان بن سليم والحمد لله حدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز وحدثنا إبراهيم بن شاكر قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان حدثنا سعيد بن حميد وسعيد بن عثمان قالا حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح، قال حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا يزيد بن زريع حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال أمرني يحيى بن الحكم على جرش فقدمتها فحدثوني أن عبد الله بن جعفر حدثهم أن رسول الله ﷺ قال : "اتقوا صاحب هذا الداء يعني الجذام كما يتقى السبع إذا هبط واديا فاهبطوا غيره" فقلت والله لئن كان بن جعفر حدثكم هذا ما كذبكم قال فلما عزلني عن جرش قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن جعفر فقلت له يا أبا جعفر ما حديث حدثه عنك أهل جرش ثم حدثته الحديث فقال كذبوا والله ما حدثتهم ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعو بالاناء فيه الماء فيناله معيقبا وقد كان أسرع فيه هذا الداء ثم يتناوله فيتيمم بفمه موضع فمه يعلم أنه إنما يصنع ذلك كراهية أن يدخل نفسه شيء من العدوى ولقد كان يطلب له الطب من كل من سمع عنده بطب حتى قدم عليه رجلان من أهل اليمن فقال هل عندكما من طب لهذا الرجل فإن هذا الوجع قد أسرع فيه قالا أما شيء يذهبه فلا ولكنا نداويه دواء يقفه فلا يزيد قال عمر عافية عظيمة قالا هل تنبت أرضك هذا الحنظل قال نعم قالا فاجمع لنا منه قال ف أمر عمر فجمع منه مكتلتان عظيمتان فأخذا كل حنظلة فشقاها باثنتين ثم أخد كل واحد منها بقدم معيقيب فجعلا يدلكان بطون قدميه حتى إذا أمحقت طرحاها وأخذا أخرى حتى رأيا معيقيبا يتنخمه أخضرر مرا ثم أرسلاه قال فوالله ما زال معيقيب منها متماسكا حتى مات.
قال أبو عمر : فهذا محمود بن لبيد يحكى عن جماعة أنهم حدثوه عن عبد الله بن جعفر بما أنكره بن جعفر ولم يعرفه بل عرف ضده وهذا في زمن فيه الصحابة فما ظنك بزمن بعدهم وقد تقدم في هذا الباب عن ابن عباس في آلاف نحو هذا المعنى.
حدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم حدثنا أحمد بن خالد حدثنا بن وضاح حدثنا أحمد بن سعد حدثنا عمى سعيد بن أبي مريم عن الليث بن سعد قال قدم علينا رجل من أهل المدينة يريد الاسكندرية مرابطا فنزل على جعفر بن ربيعة قال فعرضوا له بالحملان وعرضوا له بالمعونة فلم يقبل واجتمع هو وأصحابنا يزيد بن أبي حبيب وغيره فأقبل يحدثهم حدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله ﷺ قال فجمعوا تلك الأحاديث وكتبوا بها إلى بن نافع وقالوا له ان رجلا قدم علينا وخرج إلى الإسكندرية مرابطا،
وحدثنا فأحببنا أن لا يكون بيننا وبينك فيها أحد فكتب إليهم والله ما حدث أبي من هذا بحرف قط فانظروا عمن تأخذون واحذروا قصاصنا ومن يأتيكم حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن الجهم حدثنا يعلى عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الربيع بن خثيم قال : "من قال لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان له كعتق رقاب أو رقبة" قال الشعبي فقلت للربيع بن خثيم من حدثك بهذا الحديث فقال عمرو بن ميمون الاودى فلقيت عمرو بن ميمون فقلت من حدثك بهذا الحديث فقال عبد الرحمن بن أبي ليلى فلقيت ابن أبي ليلى فقلت من حدثك قال أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله ﷺ فعلى هذا كان الناس على البحث عن الإسناد وما زال الناس يرسلون الأحاديث ولكن النفس أسكن عند الإسناد وأشد طمأنينة والأصل ما قدمنا حدثني خلف بن القاسم قال حدثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عمر بن راشد البجلي بدمشق قال حدثنا أبو زرعة الدمشقي قال حدثنا الحسن قال حدثنا أبو قطن عن أبي خلدة عن أبي العالية قال كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله ﷺ فما رضينا حتى رحلنا إليهم فسمعناها من أفواههم حدثنا أبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أبو علي الحسن بن سلمة بن المعلى قال حدثنا أبو عبد الله بن بحر المصري قال حدثنا الحسين بن الحسن المروزي قال سمعت ابن المبارك يقول لولا الإسناد لقال كل من شاء ما شاء ولكن إذا قيل له عن من بقي حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا عاصم الأحول عن أبي العالية قال حدثني من سمع من رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : "أعطوا كل سورة حظها من الركوع والسجود" قال عاصم فقلت لأبي العالية أنسيت من حدثك قال لا واني لأذكره وأذكر المكان الذي حدثني فيه حدثنا خلف بن أحمد الأموي مولى لهم قال أخبرنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن قاسم قال حدثنا محمد بن خيرون قال : حدثنا محمد بن الحسين البغدادي قال سمعت أحمد بن حنبل يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول الإسناد من الدين قال يحيى وسمعت شعبة يقول إنما يعلم صحة الحديث بصحة الإسناد وقرأت على خلف بن القاسم أن أبا الميمون عبد الرحمن بن عمر الدمشقي حدثهم بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أبو مسهر قال حدثنا عقبة صاحب الأوزاعي قال سمعت الأوزاعي يقول ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد.
أخبرنا أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال حدثنا إبراهيم بن بكر بن عمران قال حدثنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلى الحافظ قال حدثنا عمران بن موسى قال حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا الحسين بن عبد الرحمن قال حدثنا بن عون قال كان الحسن يحدثنا بأحاديث لو كان يسندها كان أحب إلينا.
قال أبو عمر : اختلف الناس في مراسيل الحسن فقبلها قوم وأباها آخرون وقد روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد قال ربما حدثت بالحديث الحسن ثم أسمعه بعد يحدث به فأقول من حدثك يا أبا سعيد فيقول ما أ دري غير أني قد سمعته من ثقة فأقول أنا حدثتك به.
وقال عباد بن منصور سمعت الحسن يقول ما حدثني به رجلان قلت قال رسول الله ﷺ
وقال ابن عون قال بكر المزني للحسن وأنا عنده عمن هذه الأحاديث التي تقول فيها قال رسول الله ﷺ قال عنك وعن هذا.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا أبي حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا بقية بن الوليد قال حدثنا أبو العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ : "هلاك أمتي في القدرية والعصبية" والرواية عن غير ثبت.
هذا حديث انفرد به بقية عن أبي العلاء هو إسناد فيه ضعف لا تقوم به حجة ولكنا ذكرناه ليعرف والحديث الضعيف لا يرفع وان لم يحتج به ورب حديث ضعيف الإسناد صحيح المعنى.
حدثنا أبو عثمان سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال سمعت سعد بن إبراهيم يقول لا يحدث عن رسول الله ﷺ إلا الثقات وهذا معناه لا يحدث عن رسول الله من لم يلقه إلا من يعرف كيف يؤخذ الحديث وعن من يؤخذ وهو الثقة.
حدثنا خلف بن أحمد الأموي قال حدثنا أحمد بن سعيد الصدفي قال حدثنا أبو جعفر العقيلي قال حدثنا جدي وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا يوسف بن أحمد قال حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو ابن موسى العقيلي قال حدثنا علي بن عبد العزيز قالا قال حدثنا القعنبي قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن معان بن رفاعة السلامي عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال قال رسول الله ﷺ : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".
وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال حدثنا إبراهيم بن بكر قال حدثنا محمد بن الحسين الأزدي قال حدثنا أبو يعلى وعبد الله بن محمد قالا حدثنا أبو الربيع الزهراني عن حماد بن زيد عن بقية بن الوليد عن معان بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال قال رسول الله ﷺ : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين".
حدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى العقيلي قال حدثنا أحمد بن داود القومسي قال حدثنا عبد الله بن عمر الخطابي قال حدثنا خالد بن عمرو عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة قالا قال رسول الله ﷺ : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" فذكره.
وروى أيضا من حديث القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي ﷺ مثله سواء.
حدثنا خلف بن أحمد قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد بن الفرج الزطني قال حدثنا محمد بن زكريا الجوهري قال سمعت أبا رجاء يقول بلغني أن عبد الرحمن بن مهدي قال لابن المبارك أما تخشى على هذا الحديث أن يفسدوه قال كلا فأين جهابذته.
حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال حدثنا أبو علي الحسن بن ياسر البغدادي قال حدثنا أبو حاتم الرازي قال حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال قلت لابن المبارك أما تخشى على العلم ان يجيء المبتدع فيزيد في الحديث ما ليس منه قال لا أخشى هذا بعيش الجهابذة النقاد.
قال أبو عمر : لعلم الإسناد طرق يصعب سلوكها على من لم يصل بعنايته اليها ويقطع كثيرا من أيامه فيها ومن اقتصر على حديث مالك رحمه الله فقد كفى تعب التفتيش والبحث ووضع يده من ذلك على عروة وثقى لا تنفصم لأن مالكا قد انتقد وانتقى وخلص ولم يرو إلا عن ثقة حجة وسترى موقع مرسلات كتابه وموضعها من الصحة والاشتهار في النقل في كتابنا هذا إن شاء الله.
وإنما روى مالك عن عبدالكريم بن أبي المخارق وهو مجتمع على ضعفه وتركه لأنه لم يعرفه إذ لم يكن من أهل بلده وكان حسن السمت والصلاة فغره ذلك منه ولم يدخل في كتابه عنه حكما أفرده به.
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري في كتابه "الاستيعاب" :
باب ذكر عيون من أخبار مالك رحمه الله وذكر فضل موطاه
حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر أحمد بن القاسم بن عبد الرحمن قالا حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا الحارث بن مسكين قال سمعت عبد الله بن وهب يقول : لولا أني أدركت مالكا والليث لضللت.
قال ابن وضاح : وسمعت أبا جعفر الأيلي يقول سمعت بن وهب ما لا أحصى يقول لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت.
حدثا أحمد بن عبد الله قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله قال حدثنا أحمد بن الحسين قال حدثنا علي قال حدثنا هارون قال سمعت الشافعي يقول وذكر الأحكام والسنن فقال العلم يعني الحديث يدور على ثلاثة مالك بن أنس وسفيان بن عيينة والليث بن سعد.
وقال عبد الرحمن بن مهدي أئمة الناس في زمانهم أربعة سفيان الثوري بالكوفة ومالك بالحجاز والأوزاعي بالشام وحماد بن زيد بالبصرة.
حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن وحدثنا خلف بن القاسم بن سهل قال حدثنا الحسن بن رشيق أنهما جميعا سمعا أبا عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي يقول أمناء الله عز وجل على علم رسوله ﷺ : شعبة بن الحجاج ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد القطان قال والثوري إمام إلا أنه كان يروى عن الضعفاء قال وكذلك ابن المبارك من أجل أهل زمانه إلا أنه يروى عن الضعفاء قال وما أحد عندي بعد التابعين أنبل من مالك بن أنس ولا أجل ولا آمن على الحديث منه ثم شعبة في الحديث ثم يحيى بن سعيد القطان وليس بعد التابعين آمن من هؤلاء الثلاثة ولا أقل رواية عن الضعفاء.
وقال يحيى القطان سفيان وشعبة ليس لهما ثالث إلا مالك.
حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا يحيى بن مالك قال حدثنا محمد بن سليمان بن أبي الشريف قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل الغافقي قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم والربيع بن سليمان قالا سمعنا الشافعي يقول لولا مالك وسفيان يعني ابن عيينة ذهب علم الحجاز قالا وسمعنا الشافعي يقول كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله.
حدثنا عبد الله حدثنا يحيى حدثنا بن أبي الشريف حدثنا إبراهيم بن إسماعيل حدثنا محمد بن عبد الحكم قال سمعت الشافعي يقول إذا جاء الأثر فمالك النجم.
حدثني خلف بن قاسم قال حدثنا عبد الله بن محمد بن المفسر قال حدثنا أحمد بن علي بن سعيد القاضي قال حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال كنا عند حماد بن زيد فجاءه نعى مالك بن أنس فسالت دموعه ثم قال يرحم الله أبا عبد الله لقد كان من الدين بمكان ثم قال حماد سمعت أيوب يقول لقد كانت له حلقه في حياة نافع.
حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي قال أخبرنا مسلم بن عبد العزيز قال حدثنا الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي يقول إذا جاء الحديث عن مالك فشد به يديك قال وسمعت الشافعي يقول إذا جاء الأثر فمالك النجم.
حدثنا خلف بن القاسم نا عبد الله بن جعفر بن الورد حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام الخفاف قال حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال سمعت على بن المدينى يقول مالك إمام قال على وسمعت سفيان بن عيينة يقول مالك إمام.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا علي بن المدينى قال حدثنا أيوب بن المتوكل عن عبد الرحمان بن مهدي قال لا يكون إمام في العلم من أخذ بالشاذ من العلم ولا يكون إمام في العلم من يروى عن كل أحد ولا يكون إماما في العلم من روى كل ما سمع قال والحفظ الإتقان.
قال أبو عمر : معلوم أن مالكا كان من أشد الناس تركا لشذوذ العلم وأشدهم انتقادا للرجال وأقلهم تكلفا وأتقنهم حفظا فلذلك صار إماما.
حدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن حدثنا علان حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل حدثنا علي بن المديني قالل سمعت يحي بن سعيد القطان يقول كان مالك إمام في الحديث قال علي وسمعت ابن عيينة يقول ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بهم قال صالح وحدثنا علي بن المديني قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول أخبر ني وهيب بن خالد وكان من أبصر الناس بالحديث وبالرجال أنه قدم المدنية قال فلم أر أحد ا إلا يعرف وينكر إلا مالكا ويحيى بن سعيد.
وكان عبد الرحمن بن مهدي يقول ما أقدم على مالك في صحة الحديث أحدا
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو يحيى عبد الله بن أبي مسرة بمكة قال حدثني مطرف بن عبد الله عن مالك بن أنس قال لقد تركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم من العلم شيئا وإنهم لممن يؤخذ عنهم العلم وكانوا أصنافا فمنهم من كان كذابا في غير علمه تركته لكذبه ومنهم من كان جاهلا بما عنده فلم يكن عندي موضعا للأخذ عنه لجهله ومنهم من كان يدين برأي سوء.
حدثنا أبو القاسم خلف بن القاسم قراءة منى عليه أن أبا الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى القاضي بمصر حدثهم قال حدثنا جعفر بن محمد بن الحسين الفريابي قال حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا معن بن عيسى ومحمد بن صدقة أحد هما أو كلاهما قالا كان مالك بن أنس يقول لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ من سوى ذلك.
لا يؤخذ من سفيه.
ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه،
ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وان كان لا يتهم على أحاديث رسول الله ﷺ ،
ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث.
قال إبراهيم بن المنذر فذكرت هذا الحديث لمطرف بن عبد الله فقال أشهد على مالك لسمعته يقول أدركت بهذا البلد مشيخة أهل فضل وصلاح يحدثون ما سمعت من أحد منهم شيئا قط قيل له لم يا أبا عبد الله قال كانوا لا يعرفون ما يحدثون.
وحدثنا خلف حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا أبو جعفر العقيلي حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ حدثنا إبراهيم بن المنذر أخبرنا معن بن عيسى قال كان مالك بن أنس يقول لا يؤخذ العلم من أربعة فذكره إلى آخره سواء لم يذكر فيه محمد بن صدقة.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال سمعت بن أبي أو يس يقول سمعت خالي مالك بن أنس يقول إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم لقد أدركت سبعين ممن يحدث قال فلان قال رسول الله ﷺ عند هذه الأساطين وأشار إلى مسجد رسول الله ﷺ فما أخذت عنهم شيئا وإن أحد هم لو اؤتمن على بيت المال لكان أمينا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم على بابه.
وحدثنا خلف بن أحمد وعبد الرحمن بن يحيى قالا حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا بن أبي مريم قال سمعت أشهب يقول سمعت مالكا يقول أدركت بالمدينة مشايخ أبناء مائة وأكثر فبعضهم قد حدثت بأحاديثه وبعضهم لم أحد ث بأحاديثه كلها وبعضهم لم أحد ث من أحاديثه شيئا ولم أترك الحديث عنهم لأنهم لم يكونوا ثقات فيما حملوا إلا أنهم حملوا شيئا لم يعقلوه.
وحدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا سعيد بن عثمان حدثنا محمد بن عبدالواحد الخولاني حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي حدثنا عمر بن أبي سلمة الدمشقي عن ابن كنانة عن مالك قال ربما جلس إلينا الشيخ فيتحدث كل نهاره ما نأخذ عنه حديثا واحدا وما بنا أنا نتهمه ولكنه ليس من أهل الحديث.
حدثنا أبو عثمان سعيد بن نصر وأبو القاسم عبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو قلابة محمد بن عبد الملك الرقاشي قال حدثنا بشر بن عمر قال سألت مالك بن أنس عن رجل فقال هل رأيته في كتبي قلت لا قال لو كان ثقة لرأيته في كتبى.
ومما يؤيد قول مالك رحمه الله أنه لا يؤخذ عن الكذاب في أحاديث الناس وإن لم يكن يكذب في حديث رسول الله ﷺ ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن موسى الجندي قال رد رسول الله ﷺ شهادة رجل في كذبة كذبها قال معمر لا أدرى أكذب على الله أو على رسوله أو كذب على أحد من الناس.
حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني قال حدثنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الرزاق فذكره.
حدثنا خلف بن أحمد قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن عمرو العقيلي قال حدثنا أحمد بن زكرياء قال حدثنا أحمد بن عبد المؤمن قال حدثنا يحيى بن قعنب قال حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : "كان رسول الله إذا اطلع على أحد من أهل بيته يكذب لم يزل معرضا عنه حتى يحدث لله توبة".
حدثنا خلف بن القاسم حدثنا سعيد بن عثمان بن الموطأ حدثنا بدر بن الهيثم القاضي حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي حدثنا علي بن حكيم حدثنا إبراهيم بن عبد الله الأنصاري قال سئل شريك فقيل له يا أبا عبد الله رجل سمعته يكذب متعمدا أأصلي خلفه قال : لا.
قال أبو عمر : قال يحيى بن معين آلة المحدث الصدق.
حدثنا خلف بن القاسم حدثنا الحسين بن عبد الله القرشي حدثنا عبد الله بن محمد القاضي حدثنا يونس بن عبد الأعلي قال سمعت بشر بن بكر قال رأيت الأوزاعي في المنام مع جماعة من العلماء في الجنة فقلت : وأين مالك بن أنس فقيل رفع فقلت بم ذا قال بصدقه.
حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن حدثنا إبراهيم بن بكر بن عمران حدثنا محمد بن الحسين بن أحمد الأزدي الحافظ حدثنا زكرياء بن يحيى الساجي حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن صالح الأزدي قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا مطرف قال سمعت مالك بن أنس يقول قل ما كان رجل صادقا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا نصر بن علي قال حدثنا حسين بن عروة عن مالك قال قدم علينا الزهري فأتيناه ومعنا ربيعة فحدثنا بنيف وأربعين حديثا قال ثم أتيناه من الغد فقال انظروا كتابا حتى أحدثكم منه أرأيتم ما حدثتكم أمس أي شيء في أيديكم منه قال فقال له ربيعة ها هنا من يرد عليك ما حدثت به أمس قال من هو قال ابن أبي عامر قال هات فحدثته بأربعين حدثنا منها فقال الزهري ما كنت أظن أنه بقى أحد يحفظ هذا غيري.
قال إسماعيل وحدثني عتيق بن يعقوب قال سمعت مالكا يقول حدثني ابن شهاب ببضعة وأربعين حديثا ثم قال إيه أعد على فأعدت عليه أربعين وأسقطت البضع.
حدثنا أبو عثمان سعيد بن سيد بن سعيد وعبد الله بن محمد بن يوسف قالا حدثنا عبد الله بن محمد الباجي قال حدثنا الحسن بن عبد الله الزبيدي قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأصبهاني في المسجد الحرام قال حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال سمعت أبي يقول كنت جالسا مع مالك بن أنس في مسجد رسول الله ﷺ إذ أتاه رجل فقال أيكم أبو عبد الله مالك فقالوا هذا فجاء فسلم عليه واعتنقه وقبل بين عينيه وضمه إلى صدره وقال والله لقد رأيت البارحة رسول الله ﷺ جالسا في هذا الموضع فقال هاتوا مالكا فأتى بك ترتعد فرائصك فقال ليس بك بأس يا أبا عبد الله وكناك وقال اجلس فجلست فقال افتح حجرك ففتحت فملأه مسكا منثورا وقال ضمه اليك وبثه في أمتي قال فبكى مالك طويلا قال الرؤيا تسر لا تغر وان صدقت رؤياك فهو العلم الذي أودعني الله.
وقال ابن بكير عن أبي لهيعة قال قدم علينا أبو الأسود يعني يتيم عروة سنة أحدى وثلاثين ومائة فقلت من للرأي بعد ربيعة بالحجاز فقال الغلام الأصبحي.
وعن ابن مهدي أنه سئل من أعلم مالك أو أبو حنيفة فقال مالك أعلم من أستاذ أبي حنيفة يعني حماد بن أبي سليمان.
أخبرني خلف بن قاسم قال حدثنا بن سفيان قال حدثنا إبراهيم بن عثمان قال حدثنا أبو داود السجستاني قال سمعت أحمد بن حنبل يقول مالك بن أنس اتبع من سفيان.
حدثنا خلف بن القاسم حدثنا أبو الميمون حدثنا أبو زرعة قال سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن سفيان ومالك إذا اختلفا في الرأي فقال مالك أكبر في قلبي فقلت فمالك والأوزاعي إذ اختلفا فقال مالك أحب إلى وان كان الأوزاعي من الأيمة فقيل له ومالك وإبراهيم النخعي فقال هذا كأنه سمعه ضعه مع أهل زمانه.
وأخبرنا خلف بن القاسم حدثنا أبو الميمون حدثنا أبو زرعة حدثني الوليد بن عقبة حدثنا الهيثم بن جميل قال شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري.
قال أبو زرعة وحدثني سليم بن عبد الرحمن حدثنا ابن وهب عن مالك قال سمعت ابن هرمز يقول ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلا في أيديهم فإذا سئل أحدهم عما لا يعلم قال لا أدري.
قال أبو زرعة وحدثنا محمد بن إبراهيم عن أحمد بن صالح عن يحيى بن حسان عن وهب يعني بن جرير قال سمعت شعبة يقول قدمت المدينة بعد موت نافع بسنة ولمالك يومئذ حلقة.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال سمعت يحيى بن معين يقول مالك بن أنس أثبت في نافع من عبيد الله بن عمر وأيوب وقال ابن أبي مريم قلت لابن معين الليث أرفع عندك أو مالك قال مالك قلت أليس مالك أعلى أصحاب الزهري قال نعم قال فعبيد الله أثبت في نافع أو مالك قال مالك أثبت الناس.
وقال يحيى بن معين كان مالك من حجج الله على خلقه.
حدثنا أبو محمد قاسم بن محمد قال حدثنا خلف بن سعد قال حدثنا أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن قال حدثنا إبراهيم بن نصر الحافظ قال سمعت يونس بن عبدالأعلى يقول سمعت الشافعي يقول إذا ذكر العلماء فمالك النجم وما أحد أمن على في علم من مالك بن أنس.
وروى طاهر بن خالد بن نزار عن أبيه عن سفيان بن عيينة أنه ذكر مالك بن أنس فقال كان لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا ولا يحدث إلا عن ثقات الناس وما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موت مالك بن أنس.
وحدثنا قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعد قال حدثنا عثمان بن عبد الرحمن قال حدثنا إبراهيم بن نصر قال سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول سمعت الشافعي يقول قال لي محمد بن الحسن صاحبنا أعلم من صاحبك وما كان على صاحبك أن يتكلم وما كان لصاحبنا أن يسكت قال فغضبت فقلت : نشدتك الله من كان أعلم بسنة رسول الله مالك أو أبو حنيفة؟
قال مالك لكن صاحبنا أقيس.
فقلت نعم ومالك أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله من أبي حنيفة فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ كان أولى بالكلام.
قال أبو عمر : الأخبار في إمامة مالك وحفظه وإتقانه وورعه وتثبته أكثر من أن تحصى وقد ألف الناس في فضائله كتبا كثيرة إنما ذكرت هاهنا فقرا من أخباره دالة على ما سواها.
حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا أحمد بن الحسن قال حدثنا علي بن حيون قال حدثنا هارون بن سعيد الأيلي قال سمعت الشافعي قال ما كتاب أكثر صوابا بعد كتاب الله من كتاب مالك يعني الموطأ.
حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا يحيى بن مالك قال حدثنا محمد بن سليمان بن ابى الشريف قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال قال الشافعي ما في الأرض بعد كتاب الله أكثر صوابا من موطأ مالك بن أنس.
وأنبأنا على بن إبراهيم قال حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المدني قال حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال سمعت هارون بن سعيد الأيلي يقول سمعت الشافعي يقول ما كتاب بعد كتاب الله عز وجل أنفع من موطأ مالك بن أنس.
وحدثنا علي بن إبراهيم أبو الحسن يعرف بابن حموية قال حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد المؤمن بن سليمان التنيسى أبو محمد قال أنبأنا أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي قال قال لنا عمر بن أبي سلمة ما قرأت كتاب الجامع من موطا مالك بن أنس إلا أنا أتاني آت في المنام فقال لي هذا كلام رسول الله ﷺ حقا.
أنبأنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عمرو القاضي المالكي قال أنبأنا إبراهيم بن حماد قال حدثنا أبو طاهر قال حدثنا صفوان عن عمر بن عبد الواحد صاحب الأوزاعي قال عرضنا على مالك الموطا في أربعين يوما فقال كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما قلما تفقهون فيه.
حدثنا عبد الله حدثنا القاضي حدثنا عبد الواحد بن العباس الهاشمي حدثنا عباس بن عبد الله الترقفي قال قال عبد الرحمن بن مهدي ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من الموطأ أو كلام هذا معناه.
حدثنا عبد الله حدثنا القاضي حدثنا القاسم بن علي حدثنا إبراهيم بن الحسن السرافي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال سمعت أبي يقول قال ابن وهب من كتب موطأ مالك فلا عليه أن لا يكتب من الحلال والحرام شيئا.
وحدثنا عبد الله حدثنا القاضي حدثنا القاسم بن على حدثنا إبراهيم بن الحسن قال سمعت يحيى بن عثمان يقول سمعت سعيد بن أبي مريم يقول وهو يقرأ عليه موطأ مالك وكان ابنا أخيه قد رحلا إلى العراق في طلب العلم فقال سعيد لو أن ابني أخي مكثا بالعراق عمرهما يكتبان ليلا ونهارا ما اتيا بعلم يشبه موطأ مالك وقال ما أتيا بسنة يجتمع عليها خلاف موطأ مالك بن أنس.
"وحدثنا عبد الله حدثنا القاضي قال حدثني علي بن الحسين القطان قال حدثنا عبد الله بن محمد القروي "ي " قال سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول : سمعت الشافعي يقول ما رأيت كتابا ألف في العلم أكثر صوابا من موطأ مالك.
حدثا أبو القاسم خلف بن قاسم قال حدثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عمر بن راشد البجلي بدمشق قال حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قال حدثنا أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى قال إذا كان فقه الرجل حجازيا وأدبه عراقيا فقد كمل.
أنبأنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ببغداد قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال حدثنا الأصمعي عن سفيان بن عيينة قال من أراد الإسناد والحديث المعروف الذي تسكن إليه القلوب فعليه بحديث أهل المدينة.
أنبأنا أحمد بن عبد الله قال أنبأنا عبد الرحمن بن محمد الغافقي الجوهري قال أخبر ني محمد بن أحمد المدني قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال قال محمد بن إدريس الشافعي إذا وجدت متقدم أهل المدينة على شيء فلا يدخل عليك شك أنه الحق وكل ما جاءك ذلك فلا تلتفت إليه فانك تقع في اللجج وتقع في البحار.
قال وحدثنا القاضي محمد بن أحمد الذهلي قال حدثنا جعفر قال حدثنا أبو قدامة قال قال عبد الرحمن بن مهدي السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة خير من الحديث يعنى حديث أهل العراق
حدثنا أحمد بن عمر قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا ملك بن سيف التجيبى قال حدثنا عبد الله بن عبد الحكم قال سمعت مالك بن أنس يقول إذا جاوز الحديث الحرتين ضعف نخاعه.
وحدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا أحمد بن الحسين قال حدثنا العتبي قال حدثنا الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي يقول إذا جاوز الحديث الحرتين ضعف نخاعه.
"وروى شعبة عن عمارة بن أبي حفصة عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال قدمت المدينة أاطلب العلم والشرف وذكر الحديث.
وأنبأنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا علي بن محمد بن مسرور قال حدثنا أحمد بن أبي سليمان قال حدثنا سحنون قال حدثنا ابن وهب قال سمعت مالكا يقول كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى وأن يعلموا بما عندهم ويكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع السنن ويكتب إليه بها فتوفى عمر وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث بها إليه.
قال ابن وهب وحدثني مالك قال كان أبو بكر بن حزم على قضاء المدينة قال وولى المدينة أميرا وقال له يوما قائل ما أدرى كيف أصنع بالاختلاف فقال له أبو بكر بن حزم يا ابن أخي إذا وجدت أهل المدينة مجتمعين على أمر فلا تشك فيه أنه الحق.
"قال ابن وهب وقال لي مالك لم يكن بالمدينة قط إمام أخبر بحديثين مختلفين.
حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله قال حدثنا محمد بن أحمد الذهلي قال حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا أبو قدامة عبيد الله بن سعد قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول ما أدركت أحد ا إلا وهو يخاف هذا الحديث إلا مالك بن أنس وحماد بن سلمة فإنهما كانا يجعلانه من أعمال البر قال وقال عبد الرحمن بن مهدي السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة خير من الحديث قال وقال أبو قدامة كان مالك بن أنس من أحفظ أهل زمانه وقال عبد الرحمن بن مهدي وقد سئل أي الحديث أصح قال حديث أهل الحجاز قيل له ثم من قال حديث أهل البصرة قيل ثم من قال حديث أهل الكوفة قالوا فالشام قال فنفض يده.
وذكر الحسن الحلواني قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث عن يحيى بن سعيد قال ما أعلم الورع اليوم إلا في أهل المدينة وأهل مصر.
قال أبو عمر : لقد أحسن القائل :
أقول لمن يروى الحديث ويكتب ... ويسلك سبل العلم فيه ويطلب
إن أحببت أن تدعى لدى الحق عالما ... فلا تعد ما يحتوي من العلم يثرب
أتترك دارا كان بين بيوتها ... يروح ويغدو جبرئيل المقرب
ومات رسول الله فيها وبعده ... بسنته أصحابه قد تأدبوا
وفرق سبل العلم في تابعيهم ... وكل امرئ منهم له فيه مذهب
وخلصه بالسبك للناس مالك ... ومنه صحيح في المقال وأجرب
فأبرا لتصحيح الرواية داءه ... وتصحيحها فيه دواء مجرب
ولو لم يلح نور الموطا لمن سرى ...بليل عماه ما درى أين يذهب
أبا طالبا للعلم إن كنت تطلب ... حقيقة علم الدين محضا وترغب ى
فبادر موطا مالك قبل فوته ... فما بعده ان فات للحق مطلب
ودع للموطأ كل علم تريده ... فان الموطأ الشمس والعلم كوكب
هو الأصل طاب الفرع منه لطيبه ... ولم لا يطيب الفرع والأصل طيب
هو العلم عند الله بعد كتابه ... وفيه لسان الصدق بالحق معرب
لقد أعربت آثاره ببيانها ... فليس لها في العالمين مكدب
ومما به أهل الحجاز تفاخروا ... بأن الموطأ بالعراق محبب
وكل كتاب بالعراق مؤلف ... نره بآثار الموطأ يعصب
ومن لم تكن كتب الموطأ ببيته ... فذاك من التوفيق بيت مخيب
أيعجب منه إذ علا في حياته ... تعاليه من بعد المنية أعجب
جزى الله عنا في موطاه مالكا ... بأفضل ما يجزي اللبيب المهذب
لقد أحسن التحصيل في كل ما روى ... كذا فعل من يخشى الإله ويرهب
لقد رفع الرحمان بالعلم قدره ... غلاما وكهلا ثم إذ هو أشيب
فمن قاسه بالشمس يبخسه حقه ... كلمع نجوم الليل ساعة تغرب
يرى علمهم أهل العراق مصدعا ... إذا لم يروه بالموطأ يعصب
وما لاح نور لامرئ بعد مالك ... فذمته من ذمة الشمس أو جب
لقد فاق أهل العلم حيا وميتا ... فأضحت به الأمثال في الناس عملا
وما فاقهم إلا بتقوى وخشية ... وإذ كان يرضى في الإله ويغضب
فلا زال يسقى قبره كل عارض ... بمنبعق ظلت غرابيه تسكب
ويسقى قبورا حوله دون سقيه ... فيصبح فيها بينها وهو معشب
وما بي بخل ان تسقى كسقيه ... ولكن حق العلم أولى وأوجب
فلله قبر دمعنا فوق ظهره ... وفي بطنه ودق السحائب تسكب
وقال غيره :
ألا إن فقد العلم في فقد مالك ... فلا زال فينا صالح الحال مالك
فلولاه ما قامت حقوق كثيرة ... ولولاه لانسدت علينا المسالك
يقيم سبيل الحق والحق واضح ... ويهدى كما تهدى النجوم الشوابك
وقال آخر في مالك رحمه الله
يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعن سلطان التقى ... فهو المطاع وليس ذا سلطان
حدثني أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس قال حدثنا أحمد بن محمد بن منير قال حدثنا محمد بن إبراهيم بن جناد قال حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال قال سفيان بن عيينة نرى أن هذا الحديث الذي يروى عن النبي ﷺ "تضرب الأكباد فلا يجدون أعلم من عالم المدينة" إنه مالك بن أنس وقال مصعب وكنت إذا لقيت سفيان بن عيينة سألني عن أخبار مالك.
قال أبو عمر : وهذا الحديث حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة"
وقال سعيد بن عبد الجبار كنا عند سفيان بن عيينة فأتاه نعي مالك بن أنس فقال مات والله سيد المسلمين.
وروى الحارث بن مسكين قال أخبرنا أشهب بن عبد العزيز قال سألت المغيرة المخزومي مع تباعد ما كان بينه وبين مالك عن مالك وعبد العزيز فقال ما اعتدلا في العلم قط ورفع مالكا على عبد العزيز وبلغني عن مطرف بن عبد الله صاحب مالك أنه قال قال لي مالك ما يقول الناس في موطئي فقلت له الناس رجلان محب مطر وحاسد مفتر فقال لي مالك إن مد بك العمر فسترى ما يراد الله به
حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن أحمد بن عمرو القاضي المالكي قال حدثني المفضل بن محمد بن حرب المدني قال أو ل من عمل كتابا بالمدينة على معنى الموطأ من ذكر ما اجتمع عليه أهل المدينة عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وعمل ذلك كلاما يغير حديث.
قال القاضي ورأيت أنا بعض ذلك الكتاب وسمعته ممن حدثني به وفي موطأ بن وهب منه عن شيء.
قال فأتى به مالك فنظر فيه فقال ما أحسن ما عمل ولو كنت أنا الذي علمت لبدأت بالآثار ثم شددت ذلك بالكلام قال ثم ان مالكا عزم على تصنيف الموطأ فصنفه فعمل من كان في المدينة يومئذ من العلماء الموطآت فقيل لمالك شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله فقال ائتوني بما عملوا فأتي بذلك فنظر فيه ثم نبذه وقال لتعلمن أنه لا يرتفع من هذا إلا ما أريد به وجه الله.
قال فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار وما سمع لشيء منها بعد ذلك بذكر.
حدثني أبو القاسم أحمد بن فتح بن عبد الله قال حدثنا أحمد بن الحسن الرازي بمصر قال حدثنا روح بن الفرج قال حدثنا أبو عدى محمد بن عدي بن أبي بكر الزهري قال رأيت مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي لم يكن يخضب ومات ابيض الرأس واللحية وشهدت جنازته.
قال أبو عمر : أبو عدي هذا هو محمد بن عدي بن أبي بكر بن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص الزهري لا أعلم له رواية عن مالك وهو يروى عن عبد الله بن نافع وغيره من أصحاب مالك.
وولد مالك بن أنس رضي الله عنه سنة ثلاث وتسعين فيما ذكره ابن بكير وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم ولد مالك بن أنس سنة أربع وتسعين قال محمد وفيها ولد الليث بن سعد.
ولا خلاف أنه مات سنة سبع وسبعين ومائة وفيها مات حماد بن زيد.
وقال أبو رفاعة عمارة بن وثيمة بن موسى ولد مالك في ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وتوفى بالمدينة لعشر خلون في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة مرض يوم الأحد ومات يوم الأحد لتمام اثنين وعشرين يوما وغسله بن كنانة وسعيد بن داود بن زنبر قال حبيب وكنت أنا وابنه يحيى بن مالك نصب الماء ونزل في قبره جماعة.
قال أبو عمر : كان لمالك رحمه الله أربعة من البنين.
يحيى ومحمد وحمادة وأم ابنها
فأما يحيى وأم ابنها فلم يوص بهما إلى أحد فكانا مالكين لأنفسهما.
وأما حمادة ومحمد فأوصى بهما إلى إبراهيم بن حبيب رجل من أهل المدينة كان مشاركا لمحمد بن بشير.
وأوصى مالك رحمة الله عليه أن يكفن في ثياب بيض ويصلى عليه في موضع الجنائز فصلى عليه عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس كان واليا على المدينة من قبل أبيه محمد بن إبراهيم بن علي وحضر جنازته ماشيا وكان أحد من حمل نعشه وبلغ كفنه خمسة دنانير وترك رحمه الله من الناض الفي دينار وستمائة دينار وتسعا وعشرين دينارا والف درهم فكان الذي اجتمع لورثته ثلاثة الاف دينار ثلاثمائة دينار ونيف فقبض إبراهيم بن حبيب مال محمد حمادة وقبض يحيى ماله كذلك أم ابنها قبضت مالها.
وكان الذي خلف مالكا في حلقته عثمان بن عيسى بن كنانة وحج هارون الرشيد رحمه الله عام مات مالك فوصل يحيى بن مالك بخمسمائة دينار ووصل جميع الفقهاء يومئذ بصلات سنية.
ذكر ذلك كله إسماعيل بن أبي أو يس وعبد العزيز بن أبي أو يس وحبيب وعمارة بن وثيمة وغيرهم دخل كلام بعضهم في بعض والله المستعان.
وقال البخاري : مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي كنيته أبو عبد الله حليف عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي القرشي بن اخي طلحة بن عبيد الله كان إماما روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري.
وأخبرني أحمد بن فتح قال حدثنا أحمد بن الحسن الرازي قال حدثنا روح بن الفرج أبو الزنباع قال سمعت أبا مصعب يقول مالك بن أنس من العرب صلبة وخلفه في قريش في بني تيم بن مرة.
وقال خليفة بن خياط مالك بن أنس بن أبي عامر من ذي أصبح من حمير مات سنة تسع وسبعين يكنى أبا عبد الله.
وقال الواقدي عاش مالك تسعين سنة وقال سحنون عن عبد الله بن نافع إن مالكا تتوفى وهو ابن سبع وثمانين سنة سنة تسع وسبعين ومائة أقام مفتيا بالمدينة بين أظهرهم ستين سنة.
قال أبو عمر : لا أعلم في نسبه اختلافا بين أهل العلم بالأنساب انه مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن حنبل بن عمرو ابن الحارث وهو ذو أصبح إلا أن بعضهم قال في عثمان غيمان بالغين المنقوطة والياء المنقوطة من أسفل باثنين وفي حنبل حتيل وقد قيل حسل والصواب حتيل كذلك ذكره أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني وأنا استغرب نسب مالك إلى ذي أصبح وأعتقد أن فيه نقصانا كثيرا لأن ذا أصبح قديم جدا وذو أصبح هو الحرث بن مالك بن زيد بن قيس بن صيفي بن زرعة حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب كهف الظلم بن بديل بن زيد الجمهور بن عمر بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن معن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يغوث بن قحطان.
وقيل في اسم أمه العالية بنت شريك بن عبد الرحمن بن شريك من الأزد وحمل به سنتين وقيل ثلاث سنين في بطن أمه وكان أشقر شديد البياض ربعة إلى الطول كبير الرأس أصلع ولم يكن بالطويل رحمة الله ورضوانه عليه.
روى عنه جماعة من الأئمة وحدثوا عنه وكلهم مات قبله بسنين ولو ذكرناهم لطال الكتاب بذكرهم وذكر وفاة كل واحد منهم.
واختلف أهل العلم بعد ذي اصبح في رفعه إلى آدم عليه السلام بما لم أر لذكره ها هنا معنى وقد ذكرنا أن ذا أصبح من حمير في كتابنا كتاب القبائل التي روت عن النبي ﷺ فاغنى عن إعادته هاهنا.
حدثنا خلف بن القاسم قال حدثني عبد الله بن جعفر قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام الخفاف قال حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أبو بكر الاويسي قال حدثنا سليمان بن بلال عن نافع بن مالك ابن أبي عامر عن أبيه قال قال لي عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي يا مالك هل لك إلى ما دعانا إليه غيرك فأبينا عليه أن يكون دمنا دمك وهدمنا هدمك ما بل بحر صوفة فأجبته إلى ذلك أخبرنا علي بن إبراهيم قال حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا علي بن يعقوب بن سويد الوراق قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج المهري قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا معن بن عيسى بن عمر قال كان نقش خاتم مالك بن أنس حسبي الله ونعم الوكيل فسئل عن ذلك فقال سمعت الله تبارك وتعالى قال لقوم : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران : من الآية174]
وأخبرنا علي بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز قال حدثنا يحيى بن بكير قال مات مالك بن أنس في ربيع الأول سنة سبع وتسعين ومائة وولد سنة ثلاث وتسعين.
قال أبو عمر : كذا يقول ابن بكير وغيره يخالفه في مولده على ما ذكرنا في كتابنا هذا.
وبالله توفيقنا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله رب العالمين.
باب الألف في أسماء شيوخ مالك وأولهم إبراهيم بن عقبة
وله حديث واحد مرسل
وهو إبراهيم بن عقبة بن أبي عياش المدني مولى لآل الزبير بن العوام وهم ثلاثة إخوة إبراهيم بن عقبة ومحمد بن عقبة وموسى بن عقبة بن أبي عياش مدنيون موالي الزبير بن العوام وكانن يحيى بن معين يقول هم موالى أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص ولم يتابع يحيى على ذلك والصواب أنهم موالي آل الزبير كذلك قال مالك وغيره وكذلك قال البخاري سمع إبراهيم بن عقبة من أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص وهي من المبايعات وسمع منها أخوه موسى بن عقبة حديثها في عذاب القبر عن النبي ﷺ وهو مشهور.
وأما رواية إبراهيم عنها فمن رواية الأصمعي عن ابن أبي الزناد عن إبراهيم بن عقبة قال قال سمعت أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاصي تقول : أبي أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم فحصل إبراهيم بروايته عن أم خالد من التابعين وسمع إبراهيم بن عقبة من سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وع أمر بن سعد بن أبي وقاص وأبي عبد الله القراظ وكريب مولى ابن عباس.
روى عنه مالك بن أنس ومعمر والثوري وحماد بن زيد ومحمد بن إسحاق وابن عيينة ومحمد بن جعفر بن أبي كثير والدراوردي وهو ثقة حجة فيما نقل هو أسن من موسى بن عقبة ومحمد بن عقبة أسن منه واكثرهم حديثا موسى وكلهم ثقة.
وذكر أبو داود السجستاني عن يحيى بن معين في بني عقبة قال موسى اكثرهم حديثا ومحمد أكبرهم قال ومحمد وإبراهيم أثبت من موسى.
لمالك عنه في الموطأ من حديث النبي ﷺ حديث واحد مرسل عند أكثر رواه الموطأ وهو مالك عن إبراهيم بن عقبه عن كريب مولى ابن عباس "أن رسول الله ﷺ مر بامرأة وهي في محفة لها فقيل لها هذا رسول الله ﷺ فأخذت بضبعي صبي كان معها فقالت ألهذا حج يا رسول الله قال نعم ولك أجر". كريب مولى ابن العباس هو كريب بن أبى مسلم مولى عبد الله بن العباس سمع أسامه بن زيد وعبد الله بن العباس روى عنه جماعة من جلة أهل المدينة منهم بنو عقبة ثلاثتهم وبكير بن الأشج وهو ثقة حجه فيما نقل من أثر في الدين.
قال الواقدي عن ابن أبى الزناد عن موسى بن عقبه مات كريب بالمدينة سنة ثمان وتسعين في أخر خلافه سليمان بن عبد الملك.
قال أبو عمر : المحفة شبيهة بالهودج وقيل المحفة لا غطاء عليها وأما الضبع فباطن الساعد وهذا الحديث مرسل عند أكثر الرواة للموطأ وقد أسنده عن مالك بن وهب والشافعي وابن عثمة وأبو المصعب وعبد الله بن يوسف قالوا فيه عن مالك عن إبراهيم عن عقبه عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس أن رسول ﷺ الحديث ورأيت في بعض نسخ موطأ مالك رواية بن وهب عنه هذا الحديث مرسلا من رواية يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب ولا أثق بما رأيته من ذلك لأن أبا جعفر الطحاوي ذكر هذا الحديث في كتابه كتاب تهذيب الآثار عن يونس عن ابن وهب عن مالك عن إبراهيم بن عقبه عن كريب عن ابن عباس مسندا وكذلك رواه سحنون والحارث بن مسكين وأحمد بن عمرو بن السرح وسليمان بن داود كلهم عن ابن وهب عن مالك عن إبراهيم بن عقبه عن كريب عن ابن عباس مسندا وكذلك ذكره الدارقطني من رواية أبي الطاهر وسليمان بن داوود والحارث بن مسكين عن ابن وهب مسندا وهو الصحيح من رواية ابن وهب والشافعي ومحمد بن خالد بن عثمة وأبى مصعب.
أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا الحسن بن عبد الله بن الخضر الأسيوطي رحمه الله وحدثنا على بن إبراهيم قال حدثنا الحسن بن رشيق قالا حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا هلال بن بشر قال أخبرنا محمد بن خالد بن عثمة قال أخبرنا مالك عن إبراهيم بن عقبه عن كريب عن ابن عباس " أن رسول الله ﷺ مر بامرأة وهي في محفتها فقيل لها هذا رسول الله ﷺ فأخذت بعضد صبي معها فقالت ألهذا حج يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ نعم ولك أجر".
أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي ومحمد بن محمد بن أبى دليم ومحمد بن يحيى بن عبد العزيز قالوا حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا يحيى بن عمر قال أخبرنا الحارث بن مسكين وسحنون بن سعيد وأحمد بن عمرو بن السرح قالوا حدثنا بن وهب عن مالك عن إبراهيم بن عقبه عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس "أن رسول الله ﷺ مر بامرأة وهي في خدرها أو محفتها ومعها صبي لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجر".
وأخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال حدثنا تميم بن محمد بن تميم أبو العباس قال حدثنا عيسى بن مسكين
وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قالا جميعا أخبرنا سحنون بن سعيد قال أخبرنا عبد الله بن وهب أن مالكا حدثه عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس "أن رسول الله ﷺ مر بامرأة وهي في خدرها معها صبى فقالت يا رسول الله ألهذا حج فقال نعم ولك أجر".
وكل ما في كتابنا من موطأ ابن وهب فهو بهذين الإسنادين عن سحنون وما كان من غيرها ذكرناه بإسناده إن شاء الله.
وأخبرنا خلف بن القاسم وعلى بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال أخبرنا سليمان بن داود عن ابن وهب قال أخبر ني مالك عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه سلم مر بامرأة وهي في خدرها معها صبي فقالت ألهذا حج قال نعم ولك أجر".
ورواية الشافعي ذكرها بقى بن مخلد عن حرملة بن يحيى عن الشافعي انه أخبره عن مالك عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس "أن رسول الله ﷺ مر بامرأة في محفتها فقيل لها هذا رسول الله صلى الله عليه فأخذت بعضد صبي كان معها فقالت ألهذا حج قال نعم ولك أجر".
وأخبرنا محمد قال حدثنا علي بن عمر الدارقطني الحافظ قال حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري قال حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا الشافعي أنبأنا مالك عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس "أن رسول الله ﷺ مر بامرأة في محفتها فقيل لها هذا رسول الله فأخذت بعضد صبي كان معها فقالت ألهذا حج قال نعم ولك أجر".
وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قراءة منى عليه أن الميمون بن حمزة الحسيني حدثهم بمصر قال حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلمة بن سلمة الأزدي الطحاوي قال أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني قالا أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي قال أخبرنا مالك بن أنس عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس "أن رسول الله ﷺ مر بامرأة في محفتها فقيل لها هذا رسول الله ﷺ فأخذت بعضد صبي كان معها فقالت ألهذا حج يا رسول الله قال نعم ولك أجر".
وأما رواية أبي مصعب فأخبرنا بها أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن يحيى قراءة منى عليه قال حدثنا الحسن بن عبد الله بن الخضر الأسيوطي قال حدثنا أبو الطاهر المدني القاسم بن عبد الله بن مهدي وحدثنا
خلف بن قاسم وعلي بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا محمد بن رزيق بن جامع قالا جميعا حدثنا أبو مصعب عن مالك عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ مر بامرأة فذكر مثل حديث يحيى.
وما كان في كتابنا من رواية أبي مصعب فهو من هذين الطريقين
واختلف علي بن القاسم في هذا الحديث فرواه عنه سحنون مرسلا كرواية يحيى وسائر الرواة ورواه عنه يوسف بن عمرو والحرث بن مسكين متصلا مسندا كرواية بن وهب وأبي مصعب ومن تابعهما.
وقد روى هذا الحديث عن إبراهيم بن عقبة جماعة من الأئمة الحفاظ فأكثرهم رواه مسندا وممن رواه مسندا معمر ومحمد بن إسحاق وسفيان بن عيينة وموسى بن عقبة واختلف فيه على الثوري كما اختلف على مالك وكان عند الثوري عن إبراهيم ومحمد ابني عقبة جميعا عن كريب فرواه أبو نعيم الفضل بن دكين عن الثوري عن إبراهيم بن عقبة عن كريب عن ابن عباس عن النبي ﷺ مسندا ورواه وكيع عن الثوري عن محمد وإبراهيم ابني عقبة عن كريب مرسلا ورواه يحيى القطان عن الثوري عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مرسلا وعن الثوري عن محمد بن عقبة عن كريب عن ابن عباس مسندا فقطع يحيى القطان عن الثوري حديث إبراهيم ووصل حديث محمد ورواه محمد بن كثير عن الثوري عن محمد بن عقبة عن كريب عن ابن عباس متصلا ومن وصل هذا الحديث وأسنده فقوله أولى.
والحديث صحيح مسند ثابت الاتصال لا يضره تقصير من قصر به لأن الذين أسندوه حفاظ ثقات.
فأما حديث بن عيينة عن إبراهيم بن عقبة فحدثنا به أبو عثمان سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن يوسف الترمذي قال حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي قال حدثنا سفيان ابن عيينة قال حدثني إبراهيم بن عقبة أخو موسى بن عقبة قال سمعت كريب يحدث أنه سمع ابن عباس يقول : "قفل رسول الله ﷺ فلما كان بالروحاء لقى ركبا فسلم عليهم فردوا عليه فقال من القوم قالوا المسلمون فمن القوم فقالوا رسول الله ﷺ ففزعت إليه امرأة فرفعت إليه صبيا لها من محفة فقالت يا رسول الله ألهذا حج قال النبي ﷺ نعم ولك أجر".
قال سفيان وكان بن المنكدر حدثناه أو لا مرسلا فقالوا لي إنما سمعه من إبراهيم فأتيت إبراهيم فسألته فحدثني به وقال حدثت به ابن المنكدر فحج بأهله كلهم قال سفيان وأخبرني المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه أنه قيل له أتحج بالصبيان فقال نعم أعرضهم على الله قال الحميدي وحدثنا سفيان قال حدثنا محمد بن سوقة قال قيل لابن المنكدر أتحج وعليك دين قال الحج أقضى للدين.
وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر التمار قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال كان رسول الله ﷺ بالروحاء وذكر الحديث قال " ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من مفحتها فقالت يا رسول الله هل لهذا حج قال نعم ولك أجر".
وأما حديث معمر فحدثناه خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا عبيد بن محمد قال حدثنا إبراهيم بن عباد قال قرأت على عبد الرزاق عن معمر عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : "لقي النبي ﷺ ناس من الأعراب فقالوا من انتم فقال أصحاب النبي ﷺ نحن عباد الله المسلمون قال فسألوا عنهم فقيل لهم إن النبي ﷺ معهم فعلقوه يسألونه فأخرجت امرأة صبيا فقالت أي رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجر".
ورواه محمد بن يوسف الحذاقي عن عبد الرزاق عن معمر عن إبراهيم عن كريب مرسلا وإبراهيم بن عباد أثبت.
وأما حديث موسى بن عقبة فأخبرني عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد البغدادي قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر الأثرم قال حدثنا هشام بن بهرام قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن موسى بن عقبة عن إبراهيم بن عقبة عن كريب عن ابن عباس "أن رسول الله صلي الله عليه وسلم مر بامرأة معها صبي لها صغير فرفعته لرسول الله ﷺ بيدها فقالت هل لهذا حج قال نعم ولك أجر".
قال أبو بكر أحمد بن محمد بن هاني الطائي الأثرم الوراق قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل رحمه الله الذي يصح في هذا الحديث حديث كريب مرسل أو عن ابن عباس فقال هو عن ابن عباس صحيح.
قيل لأبي عبد الله ان الثوري ومالكا يرسلانه فقال معمر وابن عيينة وغيرهما قد أسندوه.
وأما رواية من وصل حديث إبراهيم بن عقبة هذا عن الثوري من أصحابه فأخبرنا أحمد بن عبد الله وخلف بن سعيد وعبدالله بن محمد بن يوسف قالوا أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا سفيان الثوري عن إبراهيم بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال : "رفعت امرأة إلى النبي ﷺ صبيا فقالت ألهذا حج يا رسول الله قال نعم ولك أجر".
وأما رواية من وصل عن الثوري حديثه في ذلك عن محمد بن عقبة فحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان بن سعيد عن محمد بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال : "رفعت امرأة صبيا لها في محفة إلى النبي ﷺ فقالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجر" .
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى القطان حدثنا سفيان عن محمد عن كريب عن ابن عباس أن امرأة رفعت صبيا فذكر الحديث.
وقد روى هذا الحديث عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي ﷺ وعن عبدالكريم عن طاوس عن ابن عباس عن النبي ﷺ .
في هذا الحديث من الفقه أمور : منها الحج بالصبيان الصغار وقد اختلف العلماء في ذلك فأجازوه مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز من أصحابهما وغيرهم وأجازه الثوري وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأجازه الأوزاعي والليث بن سعد فيمن سلك سبيلهما من أهل الشام ومصر.
وكل من ذكرناه يستحب الحج بالصبيان ويأمر به ويستحسنه وعلى ذلك جمهور العلماء من كل قرن.
وقالت طائفة لا يحج بالصبيان وهو قول لا يشتغل به ولا يعرج عليه لأن النبي ﷺ حج بأغيلمة بني عبد المطلب وحج السلف بصبيانهم.
وقال صلي الله عليه وسلم في الصبي له حج وللذي يحجه أجر يعني بمعونته له وقيامه في ذلك به فسقط كل ما خالف هذا من القول وبالله التوفيق.
وروينا عن أبي بكر الصديق انه طاف بعبد الله بن الزبير في خرقه وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال كانوا يحبون إذا حج الصبي أن يجردوه وأن يجنبوه الطيب إذا أحرم وان يلبى عنه إذا كان لا يحسن التلبية.
قال وأخبرنا معمر عن الزهري قال يحج بالصغير ويرمى عنه ويجنب ما يجنب الكبير من الطيب ولا يخمر رأسه ويهدى عنه أن تمتع.
وقال مالك رحمه الله يحج بالصبي الصغير ويجرد للإحرام ويمنع من الطيب ومن كل ما يمنع منه الكبر فإن قوى على الطواف والسعي ورمي الجمار وإلا طيف به محمولا ورمى عنه وإن أصاب صيدا فدى عنه وان احتاج إلى ما يحتاج إليه الكبير فعل به ذلك وفدى عنه.
قال أبو عمر : قال مالك وما أصاب الصبي من صيد أو لباس أو طيب فدى عنه بذلك قال الشافعي.
قال أبو حنيفة لا جزاء عليه ولا فدية وقال ابن القاسم عن مالك الصغير الذي لا يتكلم إذا جرد ينوى بتجريده الإحرام قال ابن القاسم يغنيه تجريده عن التلبية عنه لا يلبى عنه أحد قال فإن كان يتكلم لبى عن نفسه
قال : وقال مالك لا يطوف به أحد لم يطف طوافه الواجب لأنه يدخل طوافين في طواف.
وقال ابن وهب عن مالك أرى أن يطوف لنفسه ثم يطوف بالصبي عنه ولا يركع عنه ولا شيء على الصبي في ركعتيه.
قال أبو عمر : فإن قبل فما معنى الحج بالصغير وهو عندكم غير مجزى عنه من حجة الإسلام إذا بلغ وليس ممن تجرى له وعليه قيل له أما جرى القلم له بالعمل الصالح فغير مستنكر أن يكتب للصبي درجة وحسنة في الآخرة بصلاته وزكاته وحجه وسائر أعمال البر التي يعملها على سنتها تفضلا من الله عز وجل عليه كما تفضل على الميت بأن يوجر بصدقة الحي عنه ويلحقه ثواب ما لم يقصده ولم يعمله مثل الدعاء له والصلاة عليه ونحو ذلك.
ألا ترى أنهم أجمعوا على أن أمروا الصبي إذا عقل الصلاة بأن يصلى وقد صلى رسول الله ﷺ بأنس واليتيم معه والعجوز من ورائهما.
وأكثر السلف على إيجاب الزكاة في أموال اليتامى ويستحيل أن لا يؤجروا على ذلك وكذلك وصاياهم إذا عقلوا وللذي يقوم بذلك عنهم أجر كما للذي يحجهم أجر فضلا من الله ونعمة فلأي شيء يحرم الصغير التعرض لفضل الله.
وقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه معنى ما ذكرت ولا مخالف له أعلمه ممن يجب اتباع قوله.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قراءة منى عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا عبيد بن عبدالواحد البزاز قال حدثنا علي ابن المديني قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا يحيى البكاء عن أبي العالية الرياحي قال قال عمر بن الخطاب : "تكتب للصغير حسناته ولا تكتب عليه سيئاته".
واختلف أيضا في حج الصبي هل يجزئه إذا بلغ من حجة الإسلام أم لا فالذي عليه فقهاء الأمصار الذين قدمنا ذكرهم في هذا الباب أن ذلك لا يجزيه إذا بلغ.
ذكر أبو جعفر الطحاوي في كتابه في شرح معاني الآثار حديث إبراهيم بن عقبة هذا عن كريب عن ابن عباس أن امرأة سألت النبي ﷺ عن صبي هل لهذا حج فقال : "نعم ولك أجر" قال أبو جعفر فذهب قوم إلى أن الصبي إذ حج قبل بلوغه أجزأه من حجة الإسلام ولم يكن عليه أن يحج بعد بلوغه واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. قال وخالفهم آخرون فقالوا لا يجزيه من حجة الإسلام وعليه بعد بلوغه حجه أخرى قال وكان من الحجة لهم عندنا على أهل المقالة الأولى إن هذا الحديث إنما فيه أن رسول الله ﷺ أخبر أن للصبي حجا وهذا مما قد أجمع الناس عليه ولم يختلفوا فيه أن للصبي حجا وليس ذلك عليه بفريضة من جهة القياس كما له صلاة وليست عليه الصلاة بفريضة فكذلك أيضا قد يجوز أن يكون له حج وليس الحج عليه بفريضة.
وإنما هذا الحديث حجه على من زعم انه لا حج للصبى فأما من يقول إن له حجا وأنه غير فريضة عليه فلم يخالف شيئا من هذا الحديث وإنما خالف تأويل مخالفه خاصة وهذا ابن عباس هو الذي روى هذا الحديث عن رسول الله ﷺ ثم صرف حج الصبي إلى غير الفريضة وانه لايجزيه بعد بلوغه عن حجه الإسلام وقد زعموا أن من روى حديثا فهو أعلم بتأويله قال أخبرنا محمد بن خزيمه قال أخبرنا عبد الله بن رجاء قال حدثنا إسرائيل عن أبى إسحاق عن أبى السفر قال سمعت بن عباس يقول أيما غلام حج به أهله فمات فقد قضى حجه الإسلام فإن أدرك فعليه الحج وأيما عبد حج به أهله فمات فقد قضى حجه الإسلام وان عتق فعليه الحج قال وحدثنا محمد بن خزيمة قال حدثنا حجاج قال حدثنا حماد بن سلمه عن يونس بن عبيد عن عبيد صاحب الحلي قال سألت بن عباس عن المملوك إذا حج ثم عتق بعد ذلك قال عليه الحج وعن الصبي يحج ثم يحتلم قال يحج أيضا.
قال أبو عمر : على هذا جماعه الفقهاء بالأمصار وأئمة الأثر إلا أن داود بن علي خالف في المملوك فقال يجزيه عن حجة الإسلام ولا يجزي الصبي وفرق بين الصبي والمملوك لأن المملوك مخاطب عنده بالحج فلزمه فرضه وليس الصبي ممن خوطب به لقول النبي ﷺ : "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم".
قال أبو عمر : وفي قول رسول الله ﷺ : "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم" دليل واضح على أن حج الصبي تطوع ولم يؤد به فرضا لأنه محال أن يؤدي فرضا من لم يجب عليه الفرض وأما المملوك فهو عند جمهور العلماء خارج من الخطاب العام في قوله عز وجل {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران : من الآية97] بديل عدم التصرف وأنه ليس له أن يحج بغير إذن سيده كما خرج من خطاب الجمعة وهو قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة : من الآية9] الآية عند عامة العلماء إلا من شذ وكما خرج من خطاب إيجاب الشهادة قال الله عز وجل : {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة : من الآية282] فلم يدخل في ذلك العبد وكما جاز خروج الصبي من قوله : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران : من الآية97] وهو من الناس بدليل رفع القلم عنه وخرجت المرأة من قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة : من الآية9] وهي ممن شمله اسم الإيمان فكذلك خروج العبد من الخطاب المذكور بما ذكرنا من دليل وهو قول فقهاء الحجاز والعراق والشام والمغرب ومثلهم لا يجوز عليهم تحريف تأويل الكتاب البتة بحال.
فإن قال قائل ممن يرى أن حج الصبي يجري عنه إذا بلغ أن الصبي إنما لم يجب عليه الحج لأنه ممن لا يستطيع السبيل إليه فإذا بلغ به البيت وجب عليه الحج وأجزأه كسائر من لا يلزمه الحج من البالغين لعدم الاستطاعة فإذا وصل إلى البيت لزمه الحج فإذا فعله أجزأ عنه.
قيل له إن الذي لا يجد السبيل إلى الحج إنما سقط عنه الفرض لعدم الوصول إلى البيت فإذا وصل إليه تعين عليه الفرض وارتفعت علته وصار من الواجدين السبيل فوجب عليه الحج لذلك.
وأما الصبي ففرض الحج غير واجب عليه كما لا تجب عليه الصلاة ولا الصيام فهو قبل وصوله إلى البيت وبعد وصوله سواء لرفع القلم عنه فإذا بلغ الحلم فحينئذ وجب عليه الحج.
أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال حدثنا عفان بن مسلم وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو العباس محمد بن يونس الكديمي قال حدثنا روح بن عباده قالا جميعا حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبى ضبيان قال في حديث عفان الجنبي ثم اتفقا على علي بن أبي طالب قال قال رسول الله ﷺ : "رفع القلم عن ثلاثه عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق".
قال يحيى بن معين رواية حماد بن سلمه عن عطاء بن السايب صحيحة لأنه سمع منه قبل أن يتغير وكذلك سماع الثوري وشعبه منه.
وروى حماد بن سلمه عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال : "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلى حتى يبرأ وعن الصبي حتى يعقل".
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن عطاء تقضى حجة الصغير عنه فإذا عقل فعليه حجة واجبة وعن معمر عن ابن طاوس عن أبيه مثله وذكر عن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي السفر عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه من حديث الطحاوي في هذا الباب وعن ابن عيينة عن مطرف عن أبي السفر عن ابن عباس مثله وعن الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن أبي عباس مثله.
قال أبو عمر : لا خلافا علمته فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة والقلم جار عليه وله أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه وخص الصبي بما ذكرنا وان لم يكن له قصد ولا نية لما وصفنا.
واختلف الفقهاء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة فقال مالك وأصحابه لا سبيل إلى رفض الإحرام لهذين ولا لأحد ويتماديان على إحرامهما ولا يجزيهما حجهما ذلك عن حجة الإسلام.
وقال أبو حنيفة إذا أحرم بالحج من لم يبلغ من الغلمان ثم بلغ قبل أن يقف بعرفة فوقف بها بعد بلوغه لم يجزه ذلك من حجة الإسلام فإن جدد إحراما بعد ما بلغ أجزاه وقالوا إن دخل عبد مع مولاه فلم يحرم من الميقات ثم أذن له فأحرم من مكة بالحج فعليه الدم إذا أعتق لتركه الميقات وليس على النصراني يسلم ولا على الصبي يحتلم لسقوط الإحرام عنهما دم ووجوبه على العبد ويجب على السيد أن يأذن لعبده في الحج إذا بلغ معه لأن العبد لا يدخل مكة بغير إحرام.
وقال الشافعي إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه ذلك من حجة الإسلام وكذلك العبد إذا أحرم ثم عتق قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه من حجة الإسلام ولم يحتج إلى تجديد إحرام واحد منهما قال ولو أعتق العبد بمزدلفة أو بلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزأت عنهما من حجة الإسلام ولم يكن عليهما دم ولو احتاطا فأهرقا دما كان أحب إلى قال وليس ذلك بالبين عندي.
قال أبو عمر : قد قال لكل قول من هذه الأقاويل الثلاثة جماعة من علماء التابعين وفقهاء المسلمين ومراعاة عرفة بادراك الوقوف بها ليلة النحر قبل طلوع الفجر إجماع من العلماء لقوله ﷺ : "الحج عرفات" وسنذكر هذا في باب ابن شهاب عن سالم ونذكر هناك ما للعلماء من التنازع في كيفية فرض وقتها وأنه لا حج لمن لم يقف بها إن شاء الله. فمن حجة مالك ومن قال بقوله أمر الله عز وجل كل من دخل في حج أو عمرة بإتمام ما دخل فيه لقوله وأتموا الحج والعمرة لله ومن رفض إحرامه فلم يتم حجه ولا عمرته.
ومن حجة أبي حنيفة أن الحج الذي كان فيه لما لم يكن يجزى عنه ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم به ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشتغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه كمن دخل في نافلة وأقيمت عليه المكتوبة وخشى فوتها قطع النافلة ودخل المكتوبة واحتاج إلى الإحرام عند أبي حنيفة لأن الحج عنده مفتقر إلى النية والنية والاحرام هما من فرائضه عنده.
وأما الشافعي فاحتج بهذه الحجة التي ذكرناها لأبي حنيفة واحتج في إسقاط تجديد النية بأنه جائز لكل من نوى بإهلاله الإحرام أن يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة بحديث على إذ قال له رسول الله ﷺ حين أقبل من اليمن : " مهلا بالحج بم أهللت؟ قال : قلت : لبيك اللهم بإهلال كإهلال النبي ﷺ فقال له رسول الله ﷺ فإني أهللت بالحج وسقت الهدي" ولم ينكر عليه رسول الله مقالته ولا أمره بتجديد نية لإفراد أو قرن أو متعة حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد حدثنا سعيد بن عثمان بن الموطأ حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل وذكر البخاري حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل عن حميد قال حدثنا بكر أنه ذكر لابن عمر أن أنسا حدثهم أن النبي ﷺ أهل بعمرة وحجة فقال : "أهل النبي ﷺ بالحج وأهللنا به فلما قدمنا مكة قال : "من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة" وكان مع النبي ﷺ هدى فقدم علينا علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اليمن حاجا فقال له النبي ﷺ : "بم أهللت؟ فإن معنا أهلك فقال : أهللت بما أهل به النبي ﷺ قال : فأمسك فإن معنا هديا" قال البخاري حدثنا مكي بن إبراهيم عن ابن جريج عن عطاء عن جابر قال : "أمر النبي ﷺ عليا أن يقيم على إحرامه" قال جابر وقدم علي من سعايته فقال له النبي ﷺ : "بم أهللت يا علي؟ قال : بما أهل به النبي قال فأهد وامكث حراما كما أنت" وحديث أبي موسى عن النبي ﷺ بمثل معنى حديث علي عنه في ذلك سواء وكلاهما حديث
ثابت صحيح ذكر البخاري قال حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق ابن شهاب عن أبي موسى قال بعثني النبي ﷺ إلى قومي باليمن فجئت وهو بالبطحاء فقال : "بم أهللت؟ قلت : أهللت بإهلال كإهلال النبي ﷺ قال : هل معك هدي؟ قلت : لا" وذكر الحديث.
ففي هذين الحديثين أن عليا وأبا موسى لم ينويا شيئا معينا من حج مفرد ولا عمرة ولا قران وإنما أهلا محرمين وعلقا النية في عملهما بما نواه وعمله غيرهما وهو رسول الله ﷺ فدل ذلك والله أعلم على أن النية في الإحرام بالحج ليس كالنية في الإحرام بالصلاة ألا ترى أن الدخول في الصلاة مفتقر إلى القول والنية جميعا وهو التكبير واعتقاد تعيين الصلاة بعينها وليس الحج كذلك لأنه يصح عندهم بالنية دون التلبية ألا ترى أن الحج قد يدخل فيه بغير التلبية من الأعمال مثل إشعار الهدي والتوجه نحو البيت إذا نوى بذلك الإحرام ومثل أن يقول قد أحرمت بالحج أو نحو ذلك ولا يصح الإحرام في الصلاة إلا بالتكبير فلهذا جاز نقل الإحرام في الحج من شيء إلى مثله ويصحح ذلك قول رسول الله ﷺ : "من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة" فأجاز أن يدخل فيه بوجه ويصرفه إلى غيره ولهذا قال إنه يدخل فيه الصغير ثم يبلغ فيبني على ذلك في عمله إذا صح له الوقوف بعرفة لأنه أصل الحج الذي يبنى عليه ما سواه منه والكلام في هذه المسألة يطول وفيما لوحنا به مقنع إن شاء الله.
وقد ذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن حاجا ولا معتمرا ولو نوى ولم يحرم حتى قضى المناسك كان حجه تاما واحتج بحديث النبي ﷺ : "الأعمال بالنية" قال ومن فعل مثل ما فعل علي رضي الله عنه حين أهل على إهلال النبي ﷺ أجزأته تلك النية لأنها وقعت على نية لغيره قد تقدمت.
قال أبو عمر : فان لم يكن العبد أحرم ولا الصبي أو كان ذمي دخل مكة وهو كرى لبعض الحاج فرزق الإسلام فأسلم وهو بعرفة أو بمكة قبل عرفة فانه يحرم بالحج إن أراد الحج من مكة أو بعرفة فإن أدرك الوقوف بعرفة قبل طلوع الفجر من ليلة النحر فقد أدرك الحج ويجزيه ذلك من حجة الإسلام ولا دم عليه في قول مالك وقال أبو حنيفة والشافعي عليه دم لترك الميقات وحجة تام وسيأتي القول في النية بالحج عند ذكر التلبية به في حديث نافع عن ابن عمر من كتابنا هذا إن شاء الله عز وجل.
إبراهيم بن أبي عبلة
إبراهيم بن أبي عبلة أبو إسحاق وقد قيل أبو إسماعيل قيل انه عقيل من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وقد قيل انه تميمي فالله أعلم.
واسم أبي عبلة شمير بن يقظان بن المرتحل معدود في التابعين رأى بن عمر وادرك أنس بن مالك وأبا أمامة وربيب عبادة بن الصامت أبا أبي بن أم حرام وروى عنهم واختلف في سماعه من واثلة بن الاسقع سكن الشام وعمر طويلا ومات في خلافة أبي جعفر سنة أحد ى أو اثنتين وخمسين ومائة وكان ثقة فاضلا له أدب ومعرفة وكان يقول الشعر الحسن روى عنه جلة مالك ويونس بن يزيد وبكر بن مضر.
لمالك عنه في الموطأ من حديث رسول الله ﷺ حديث واحد مرسل وهو مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله ﷺ قال : "ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذلك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر قيل وما رأى يوم بدر يا رسول الله فقال أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة هكذا".
هذا الحديث في الموطأ عند جماعة الرواة له عن مالك.
ورواه أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن أبيه ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء وطلحة بن عبيد الله بن كريز هذا خزاعي من أنفسهم تابعي مدني ثقة سمع من بن عمر وغيره وقال البخاري طلحة بن عبيد الله بن كريز الكعبي الخزاعي المدني سمع أم الدرداء.
قال أبو عمر : هذا حديث حسن في فضل شهود ذلك الموقف المبارك وفيه دليل على الترغيب في الحج ومعنى هذا الحديث محفوظ من وجوه كثيرة وفيه دليل على أن كل من شهد تلك المشاهد يغفر الله له إن شاء الله وفيه أن شهود بدر أفضل من كل عمل يعمله الإنسان بعده إلى يوم القيامة نفلا كان أو فرضا لأن هذا القول كان منه ﷺ في حجة الوداع وفيه الخبر عن حسد إبليس وعداوته لعنه الله وفيه دليل على أن الحسود يجد في ذلة لعدمه ما أوتيه المحسود وأما قوله : "أصغر وأحقر وأغيظ" فمستغن عن التفسير لوضوح معاني ذلك عند العامة والخاصة وأما قوله : "أدحر" فمعناه أبعد من الخير وأهون، والأدحر المطرود المبعد من الخير المهان يقال ادحره عنك أي أطرده وأبعده.
وأما قوله : "يزع الملائكة" فقال أهل اللغة : معنى يزع يكف ويمنع إلا أنها ها هنا بمعنى يعيبهم ويرتبهم للقتال ويصفهم وفيه معنى الكف لأنه يمنعهم عن الكلام من أن يشف بعضهم على بعض ويخرج بعضهم عن بعض في الترتيب قالوا ومنه قول الله عز وجل {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل : 17] وقد تكنى العرب بهذه اللفظة عن الموعظة لما فيها من معنى الكف والمنع والردع والزجر قال النابغة الذبياني :
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع
وقال لبيد العامري :
إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه ... قضى عملا والمرء ما عاش عامل
فقولا له ان كان يعقل أمره ... ألما يزعك الدهر أمك هابل
وقال المعلوط السعدي
ولما تلاقينا جرت من جفوننا ... دموع وزعنا غربها بالأصابع
وقال آخر :
وقد لاح في عارضيك المشيب ... ومثلك بالشيب قد يوزع
وقال آخر :
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا وافر العقل كامله
وقال آخر :
امنع فؤادك أن يميل بك الهوى ... واشدد يديك بحبل دينك واتزع
وروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن أسماء بنت أبي بكر قالت : "لما وقف رسول الله ﷺ بذى طوى يعنى يوم الفتح قال أبو قحافة وقد كف يومئذ بصره لابنته اظهرى بي على أبي قبيس قالت فأشرفت به عليه فقال ما ترين قالت : أرى سوادا مجتمعا قال تلك الخيل قالت وأرى رجلا بين السواد مقبلا ومدبرا قال ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر" وذكر تمام الحديث وأخبرنا إبراهيم بن شاكر قال حدثنا محمد بن إسحاق القاضي قال حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الأصبغ الإمام بمصر قال حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج قال حدثنا أبو زيد بن أبي الغمر قال حدثنا بن القاسم قال حدثنا مالك ان عثمان بن عفان كان يقول : "ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرءان" أي من الناس قال قلت لمالك ما يزع قال يكف وذكر الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة له قال حدثنا عفان قال أخبر نا إسماعيل يعنى بن علية عن ابن عون قال سمعت الحسن وهو في مجلس قضائه فلما رأى ما يصنع الناس قال والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة قال إسماعيل يزعونهم أي يمنعونهم ومنه الحديث الذي حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي أن أباه حدثه قال حدثنا عبد الله بن يونس قال حدثنا بقى بن مخلد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال أخبرنا حسين بن محمد قال حدثنا جرير بن حازم عن نافع عن ابن عمر أنه رأى رؤيا كأن ملكا انطلق به إلى النار فلقيه ملك آخر وهو يزعه فقال لم تزع هذا نعم الرجل لو كان يصلى من الليل قال فكان بعد ذلك يطيل الصلاة بالليل ومنه الحديث الذي يروى عن أبي بكر الصديق إن صح عنه انه قال لا اقيد من وزعة الله قال ذاك في بعض عماله.
وقد رويت آثار في معنى حديث إبراهيم بن أبي عبلة هذا في يوم عرفة أنا ذاكر منها ما حضرني ذكره بحسن عون ربي لا إله إلا هو.
حدثنا أبو القاسم أحمد بن فتح قال حدثنا حمزة بن محمد الحافظ بمصر قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال حدثنا أحمد بن عيسى قال حدثنا بن وهب قال حدثنا مخرمة بن بكير عن أبيه عن يونس وهو بن يوسف عن سعيد بن المسيب قال قالت عائشة أن رسول الله ﷺ قال : "ما من يوم يعتق الله فيه أكثر من يوم عرفة" وأخبرنا أحمد بن فتح بن عبد الله قال حدثنا حمزة الكناني قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا عيسى بن إبراهيم قال حدثنا عبد الله بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن يونس وهو بن يوسف عن سعيد بن المسيب عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ : "ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهى بهم الملائكة".
وهذا يدل على أنهم مغفور لهم لأنه لا يباهى بأهل الخطايا والذنوب إلا من بعد التوبة والغفران والله أعلم وروى ابن المبارك عن أبي بكر بن عثمان قال حدثني أبو عقيل عن عائشة قالت : "يوم عرفة يوم المباهاة قيل لها وما يوم المباهاة قالت ينزل الله يوم عرفة إلى السماء الدنيا ثم يدعو ملائكته ويقول انظروا إلى عبادي شعثا غبرا بعثت إليهم رسولا فآمنوا به وبعثت إليهم كتابا فآمنوا به يأتونني من كل فج عميق يسألوني أن أعتقهم من النار فقد أعتقتهم فلم ير يوم أكثر أن يعتق فيه من النار من يوم عرفة".
حدثنا يعيش بن سعيد الوراق وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا مرزوق مولى طلحة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي ﷺ قال : "إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا يباهي بهم الملائكة فيقول انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة يا رب فلان وفلان هو قال فيقول قد غفرت لهم فقال رسول الله ﷺ فما يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة". وروى بن جريج عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله ﷺ : "المغفرة تنزل على أهل عرفة مع الحركة الأولى
فإذا كانت الدفعة العظمى فعند ذلك يضع إبليس التراب على رأسه يدعو بالويل والثبور قال فيجتمع إليه شياطينه فيقولون ما لك فيقول قوم فتنتهم منذ ستين سنة وسبعين سنة غفر لهم في طرفة عين".
وقال مجاهد أن الرحمة تنزل عند دفعة الإمام عشية عرفة أخبرنا أبو محمد قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعد قال حدثنا أحمد بن عمرو بن منصور وحدثنا أبو عبد الله عبيد بن محمد قال أخبرنا عبد الله بن مسرور قال أخبرنا عيسى بن مسكين قالا حدثنا محمد بن سنجر قال حدثنا الفضل بن دكين قال حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء يقول لهم انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثا غبرا أشهدكم أني قد غفرت لهم".
أخبرنا عبيد بن محمد قال حدثنا عبد الله بن مسرور قال حدثنا عيسى بن مسكين قال حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر الجرجاني "ح" وأخبرنا سلمة بن سعيد ومحمد بن خليفة قالا حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا الحسن بن الحباب أبو علي المقري قال حدثنا الحسين بن عرفة قالا حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي قال حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال حدثني بن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله ﷺ : "دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء فأجابه الله أني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فأما ذنوبهم بيني وبينهم فقد غفرتها لهم فقال أي رب انك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم قال فلم يجبه تلك العشية فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء فأجابه أني قد غفرت لهم قال ثم تبسم رسول الله ﷺ فقال له أصحابه يا رسول الله تبسمت في ساعة لن تكن تتبسم فيها قال تبسمت من عدو الله إبليس لما عرف انه قد استجاب الله لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثى التراب على رأسه". حدثنا أبو عثمان سعيد بن سيد قال حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبيد الله بن أبي عيسى قال حدثنا أبو عثمان سعيد بن فحلون قال حدثنا عبد الرحمن بن عبيد البصري قال حدثنا بن أبي الشوارب القرشي الأموي قال أخبرنا عبد القاهر بن السري السلمي قال حدثنا بن لكنانة بن عباس بن مرداس السلمي عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ : "دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجابه الله أني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء فقال يا رب انك قادر أن تثيب المظلوم خيرا من مظلمته وتعفو عن الظالم فأجابه الله أنى قد فعلت ثم التفت إلينا رسول الله ﷺ متبسما فقلنا يا نبي الله ما الذي أضحكك قال أن إبليس عدو الله لما علم أن الله عز وجل قد شفعني في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه".
وروى مسلم بن إبراهيم قال أخبرنا كعب بن فروخ الرقاشي قال حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : "ليس يوم أكثر عتيقا من يوم عرفه" هكذا ذكره موقوفا وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن عبد السلام الخشنى قال حدثنا أبو جعفر بن وهب المسعري قال حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي قال حدثنا سلمه بن ظ بخت عن عكرمة عن ابن عباس قال : "إن يوم عرفه يوم يباهي الله ملائكته في السماء بأهل الأرض يقول تبارك وتعالى : "عبادي جاؤوني شعثا غبراء آمنوا بي ولم يروني وعزتي لأغفرن لهم"، وهو يوم الحج الأكبر
قال أبو عمر : اختلف في تأويل قول الله عز وجل يوم الحج الأكبر فقيل يوم عرفه وقيل يوم النحر قال بهذا جماعه وبهذا جماعه روى من الحديث عمرو بن مره عن مره بن شراحيل عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال خطبنا رسول الله ﷺ بالمزدلفة غداة يوم النحر على ناقة حمراء فقال : "هل تدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر". رواه شعبه وغيره عن عمروبن مره ومن حديث أبى إسحاق عن الحرث عن علي قال سئل رسول الله ﷺ عن يوم الحج الأكبر فقال : "يوم النحر" وروى جعفر بن أبى وحشيه عن سعيد بن جبير : "الحج الأكبر يوم النحر" وروى عاصم بن حكيم عن مجاهد في يوم الحج الأكبر قال حين الحج أيامه كلها وابن جريج عن مجاهد مثله وقال معمر عن الحسن إنما سمى الحج الأكبر لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود وقال ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه قيل له ما الحج الأكبر قال : "يوم عرفه وهو اليوم الأكبر عرفه".
قال أبو عمر : روى عن النبي ﷺ أنه قال : "يوم الحج الأكبر يوم عرفة" وهو قول بن عباس وطاوس وروى عنه ﷺ أنه قال : "يوم الحج الأكبر يوم النحر" من حديث علي وأبي هريرة وابن عمر ورجل من أصحاب النبي عليه السلام.
ولا خلاف عن مالك وأصحابه أن يوم الحج الأكبر يوم النحر واختلف أصحاب الشافعي في ذلك فقالت طائفة منهم يوم الحج الأكبر يوم عرفة وقال بعضهم يوم النحر وكذلك اختلف أصحاب أبي حنيفة وليس عنه شيء منصوص وذكر الثوري في جامعه في يوم الحج الأكبر قال حدثنا ليث عن مجاهد قال : "الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة". أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا يحيى بن مالك قال حدثنا محمد بن عبد الله بن زبر قال حدثنا محمد بن خريم قال حدثنا أبو عبد الغني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج المخلص وإذا كانت ليلة مزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان عند جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له".
وحدثنا محمد بن خلف بن قاسم حدثنا علي بن الحسين بن بندار حدثنا سعيد بن عبد العزيز بن مروان قال سمعت الحسن بن علي بن معان الصنعاني حدثنا عبد الرزاق حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال : "إذا كان يوم عرفة" وذكر الحديث مثله سواء.
وحدثنا خلف بن قاسم حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد القاضي وعلى بن محمد بن إسماعيل الطوسي بمكة قالا حدثنا محمد بن خريم حدثنا أبو عبد الغنى الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار إذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان عند جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له"
قال أبو عمر : هذا حديث غريب من حديث مالك وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه وأبو عبد الغني لا أعرفه وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في رواية الرغائب والفضائل عن كل أحد وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الأحكام.
أخبرنا علي بن إبراهيم قال حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال حدثنا محمد بن عمرو العربي قال حدثنا عطاف بن خالد المخزومي عن إسماعيل بن رافع عن أنس بن مالك قال : "كنت مع رسول الله ﷺ في مسجد الخيف قاعدا فاتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فذكر حديثا فيه طول وفيه وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا ثم يباهي بكم الملائكة فيقول هؤلاء عبادي جاءوني شعثا سفعا يرجون رحمتي ومغفرتي فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل وكعدد القطر وكزبد البحر لغفرتها افيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم له" وذكر تمام الحديث.
وأخبرنا علي بن إبراهيم بن أحمد بن حمويه قال حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا أبو جعفر محمد بن خالد البرذعي بمكة سنة ثلاثمائة قال حدنا علي بن موفق البغدادي قال حدثنا أحمد بن شبويه المروزي قال حدثنا ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال : "وقف النبي ﷺ بعرفات وكادت الشمس أن تؤوب فقال يا بلال أنصت لي الناس فقام بلال فقال أنصتوا لرسول الله ﷺ فنصت الناس فقال معاشر الناس أتاني جبريل آنفا فأقراني من ربي السلام وقال إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله هذا لنا خاص فقال هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة فقال عمر رضي الله عنه كثر خير الله وطاب" . وروى عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه رأى سائلا يسأل يوم عرفة فقال يا عاجز في هذا اليوم تسأل غير الله وذكر المداني فقال خطب عمر بن عبد العزيز بعرفة فقال إنكم قد جئتم من القريب والبعيد وأنضيتم الظهر وأخلقتم الثياب وليس السابق اليوم من سبقت دابته وراحلته وإنما السابق اليوم من غفر له وروى سفيان عن داود بن أبي هند عن ابن سيرين قال كانوا يرجون في ذلك الموقف للحمل في بطن أمه.
إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص
وله حديث واحد يجري مجرى المتصل
أحد الجلة الأشراف قرشي زهري ثقة حجة فيما نقل وروى من أثر في الدين وقد ذكرنا نسبه عند ذكر جده في كتاب الصحابة وأبوه محمد بن سعد بن أبي قاص قتله الحجاج صبرا لخروجه مع ابن الأشعث أخبر ني عبد الله بن محمد بن يوسف قال أخبر ني أحمد بن محمد بن إسماعيل قال أخبرنا محمد بن الحسن الأنصاري قال أخبرنا الزبير بن أبي بكر الزبيري قال حدثني محمد بن حسن عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن الحكم بن القاسم الأويسي عن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب قال وفدت على عبد الملك بن مروان أيام قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فدخلت فسلمت فقال يا بن حويطب ما يقول أهل المدينة في قتل عبد الرحمن بن الأشعث قال قلت سرهم ما كان من ظفر أمير المؤمنين وما أعطاه الله وأيده قال فقال أما والله يا بن حويطب لقد علمت قريش أني أقتلها لها قصعا وأعفاها بعد عن مسيئها قال ثم وافينا العشاء فأتي ب إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص وبعثمان بن عمر بن موسى بن عبيد الله التيمي قال فقال ليحيى بن الحكم يا يحيى قم فانظر إلى حال هذين الغلامين هل أنبتا قال فقام ثم رجع فقال يا أمير المؤمنين ما ذلك منهما إلا مثل خدودهما فاقبل عليهما عبد الملك فقال لا رحم الله أبويكما ولا جبر يتمكما اخرجا عني قال محمد بن حسن فحدثني عيسى بن موسى الخطمي عن محمد بن أبي بكر الأنصاري قال كان الحجاج قتل أبويهما صبرا وكان ممن أسر من أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث.
قال أبو عمر : روى ابن شهاب عن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعد بن أبي وقاص حديث المغيرة في المسح على الخفين وحسبك.
قال البخاري سمع إسماعيل أباه وعامر بن سعد ومصعب بن سعد سمع منه الزهري ومالك وابن عيينة.
وذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه قال : "رأيت رسول الله ﷺ يسلم عن يمينه وعن يساره كأني أنظر إلى صفحة خده صلى الله عليه" فقال الزهري ما سمعنا هذا من حديث رسول الله ﷺ فقال له إسماعيل بن محمد أكل حديث رسول الله قد سمعته قال لا قال فنصفه قال لا قال فاجعل هذا في النصف الذي لم تسمع.
قال أبو عمر : إسماعيل بن محمد هذا يكنى أبا محمد سكن المدينة ومات بها سنة اربع وثلاثين ومائة في خلافة بن العباس فيما ذكر الواقدي والطبري.
لمالك عنه في الموطأ من حديث النبي ﷺ حديث واحد يجري مجرى المتصل اختلف عن إسماعيل في إسناده والمتن صحيح من طرق.
والحديث مالك عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن مولى لعمرو بن العاصي أو لعبد الله بن عمرو بن العاصي عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن رسول الله ﷺ قال : "صلاة أحد كم وهو قاعد مثل نصف صلاته وهو قائم" هكذا رواه جماعة الرواة عن مالك لا خلاف بينهم فيه عنه ورواه ابن عيينة عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن أنس والقول عندمم قول مالك والحديث محفوظ لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد ذكرنا طرقه في باب مرسل ابن شهاب من كتابنا هذا مستقصاة وبالله التوفيق.
ومعنى هذا الحديث المقصود بالخطاب إليه الفضل يريد أن صلاة أحد كم وهو قائم أفضل من صلاته وهو قاعد مرتين وضعفين في الفضل وفضل صلاته وهو قاعد مثل نصف صلاته في الفضل إذا قام فيها وذلك والله أعلم لما في القيام من المشقة أو لما شاء الله أن يتفضل به وقد سئل رسول الله ﷺ عن أفضل الصلوات فقال : "طول القنوت".
والمراد بهذا الحديث ومثله صلاة النافلة والله أعلم لأن المصلى فرضا جالسا لا يخلو من أن يكون مطيقا على القيام أو عاجزا عنه فإن كان مطيقا وصلى جالسا فهذا لا تجزيه صلاته عند الجميع وعليه إعادتها فكيف يكون لهذا نصف فضل مصل بل هو عاص بفعله وأما إذا كان عن القيام عاجزا فقد سقط فرض القيام عنه إذا لم يقدر عليه لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وإذا لم يقدر على ذلك صار فرضه عند الجميع أن يصلى جالسا فإذا صلى كما أمر فليس المصلى قائما بأفضل منه لأن كلا قد أدى فرضه على وجهه والأصل في هذا الباب أن القيام في الصلاة لما وجب فرضا بقوله : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة : من الآية238] وقوله : {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل : 2] وقعت الرخصة في النافلة ان يصليها الإنسان جالسا من غير عذر لكثرتها واتصال بعضها ببعض.
وأما الفريضة فلا رخصة في ترك القيام فيها وإنما يسقط ذلك بعدم الاستطاعة عليه وقد أجمعوا على أن القيام في الصلاة فرض على الإيجاب لا على التخير وان النافلة فاعلها مخير في القيام فيها فكفى بهذا بيانا شافيا وبالله التوفيق.
وهذا الحديث أصل في إباحة الصلاة جالسا في النافلة حدثني أبو عثمان سعيد بن نصر قال حدثنا أبو عمر أحمد بن دحيم قال حدثنا محمد بن الحسين بن زيد أبو جعفر قال حدثنا أبو الحسن علان بن المغيرة قال حدثنا عبد الغفار بن داود قال حدثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الله بن بابيه عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال مر بي رسول الله ﷺ وأنا أصلي قاعدا فقال : "أما إن للقاعد نصف صلاة القائم". وهذا إسناد صحيح أيضا عند أهل العلم وقد روى هذا المعنى عن النبي ﷺ عمران بن حصين والسائب بن أبي السائب وأم سلمة وأنس وفي حديث عمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره وهي "وصلاة الراقد مثل صلاة القاعد".
وجمهور أهل العلم لا يجيزون النافلة مضطجعا وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلم وهو حسين بن ذكوان عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين وقد اختلف أيضا على حسين المعلم في إسناده ولفظه اختلافا يوجب التوقف عنه وان صح حديث حسين عن ابن بريدة عن عمران بن حصين هذا فلا أدري ما وجهه فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعا لمن قدر على القعود أو القيام فوجه ذلك الحديث النافلة وهو حجة لمن ذهب إلى ذلك وإن اجمعوا على كراهية النافلة راقدا لمن قدر على القعود أو القيام فيها فحديث حسين هذا إما غلط وإما منسوخ وقد روى بألفاظ تدل على أنه لم يقصد به النافلة وإنما قصد به الفريضة وهو الذي تدل عليه ألفاظ من يحتج بنقله له.
قال أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن سليمان الأنباري قال حدثنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن أبي بريدة عن عمران بن حصين قال كان بي الناسور فسألت النبي ﷺ فقال : "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب".
قال أبو عمر : هذا يبين لك أن القيام لا يسقط فرضه إلا بعدم الاستطاعة ثم كذلك القعود إذا لم يستطع ثم كذلك شيء شيء يسقط عند عدم القدرة عليه حتى يصير إلى الإغماء فيسقط جميع ذلك وهذا كله في الفرض لا في النافلة وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي في هذا الباب فانما هو في النافلة والدليل على ذلك أن في نقل ابن شهاب له أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يصلون في سبحتهم قعودا فخرج عليهم رسول الله ﷺ فقال ذلك القول والسبحة عند أهل العلم النافلة ودليل ذلك أيضا "قوله ﷺ في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة
عن ميقاتها : صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة". يعني نافلة.
وفرض القيام في الصلاة المكتوبة ثابت من وجهين أحد هما إجماع الأمة كافة عن كافة في المصلى فريضة وحده أو كان إماما أنه لا تجزيه صلاته إذا قدر على القيام فيها وصلى قاعدا وفي إجماعهم على ذلك دليل واضح على أن حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي المذكور في هذا الباب معناه النافلة على ما وصفنا والوجه الثاني قوله عز وجل : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة : من الآية238] أي قائمين ففي هذه الآية فرض القيام أيضا عند أهل العلم لقوله عز وجل : {وَقُومُوا} ولقوله : {قَانِتِينَ} يريد قوموا قائمين لله يعني في الصلاة فخرج على غير لفظه لأنه أعم في الفائدة لاحتمال القنوت وجوها كلها تجب في الصلاة.
والدليل على أن القيام يسمى قنوتا قول النبي ﷺ إذ سئل أي الصلاة أفضل قال : "طول القنوت" يعني طول القيام.
وزعم أبو عبيد أن القنوت في الوتر وهو عندنا في صلاة الصبح إنما سمى قنوتا لأن الإنسان فيه قائم للدعاء من غير أن يقرأ القرآن فكأنه سكوت وقيام إذ لا يقرأ فيه وقد يكون القنوت السكوت روى عن زيد بن أرقم انه قال كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت وليس في هذا الحديث رد لما ذكرنا لأن الآية يقوم منها هذان المعنيان وغيرهما لاحتمالهما في اللغة لذلك لأن القنوت في اللغة له وجوه منها أن القنوت الطاعة دليل ذلك قول الله عز وجل : {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم : من الآية26] أي مطيعون وقوله : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل : 120]
أي مطيعا لله وهذا كثير مشهور ومنها أن القنوت الصلاة فيما زعم بن الأنباري واحتج بقول الله : {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران : من الآية43] ثم بقول الشاعر :
قانتا لله يتلو كتبه..........وعلى عمد من الناس اعتزل
وقال تحتمل هذه الآية وهذا البيت جميعا عندي معنى الطاعة أيضا والله أعلم ومنها أن القنوت الدعاء دليل ذلك القنوت في الصلاة وقولهم : قنت رسول الله ﷺ شهرا يدعو ومثل هذا كثير وبالله التوفيق.
واختلف الفقهاء في كيفية صلاة القاعد في النافلة وصلاة المريض فذكر بن عبد الحكم عن مالك في المريض انه يتربع في قيامه وركوعه فإذا أراد السجود تهيأ للسجود فسجد على قدر ما يطيق وكذلك المتنفل قاعدا وقال الثوري يتربع في حال القراءة والركوع ويثنى رجليه في حال السجود فيسجد وهذا نحو مذهب مالك وكذلك قال الليث وأحمد وإسحاق وقال الشافعي يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد في رواية المزني وقال البويطي عنه يصلى متربعا في موضع القيام وقال أبو حنيفة وزفر يجلس كجلوس الصلاة في التشهد ويسجد وقال أبو يوسف ومحمد يكون متربعا في حال القيام وحال الركوع وقد روى عن أبي يوسف انه يتربع في حال القيام ويكون في حال ركوعه وسجوده كجلوس التشهد
قال أبو عمر : روى عن ابن مسعود أنه كره أن يتربع أحد في الصلاة قال عبد الرزاق يقول إذا صلى قائما فلا يجلس للتشهد متربعا فأما إذا صلى قاعدا فليتربع وروى عن ابن عباس أنه كان يكره التربع في صلاة التطوع قال شعبة فسألت عنه حمادا فقال لا بأس به في التطوع وروى عن إبراهيم ومجاهد ومحمد بن سيرين وانس بن مالك أنهم كانوا يصلون في النافلة جلوسا متربعين ومالك أنه بلغه عن عروة وسعيد بن المسيب أنهما كانا يصليان النافلة وهما محتبيان ومعمر عن أيوب أن بن سيرين كان يصلى في التطوع محتبيا قال معمر ورأيت عطاء الخراساني يحتبى في صلاة التطوع وقال ما أراني أخذته إلا من ابن المسيب ومعمر عن الزهري عن ابن المسيب أنه كان يحتبي في آخر صلاته في التطوع وذكر الثوري عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن ابن المسيب مثله قال فإذا أراد أن يسجد ثنى رجليه وسجد وكان عمر بن عبد العزيز يصلى جالسا محتبيا فقيل له في ذلك فقال بلغني أن رسول الله ﷺ لم يمت حتى كان أكثر صلاته وهو جالس صلوات الله عليه وسيأتي القول فيمن صلى بعض صلاته مريضا ثم صح فيها في باب هشام بن عروة إن شاء الله عز وجل وصلى الله على محمد.
إسماعيل بن أبى حكيم
وهو مولى لبنى عدي بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ووثقه النسائي وغيره ولم يرو عنه البخاري وقيل ولاء إسماعيل بن أبي حكيم لآل الزبير بن العوام فالله أعلم سكن المدينة وكان فاضلا ثقة توفى بها سنة ثلاثين ومائة وقيل سنة اثنين أو ثلاث وثلاثين ومائة وهو حجة فيما روى عند جماعة أهل العلم.
لمالك عنه في الموطأ من حديث النبي ﷺ أربعة أحاديث أحد ها متصل مسند والثلاثة منقطعة مرسلة.
حديث أول لإسماعيل بن أبي حكيم مسند
مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : "أكل كل ذي ناب من السباع حرام".
عبيدة بن سفيان هذا من تابعي أهل المدينة ثقة حجة فيما نقل سمع من أبي هريرة وأبي الجعد الضمري روى عنه محمد بن عمرو، وبكير بن الأشج إسماعيل بن أبي حكيم وهذا حديث ثابت صحيح مجتمع على صحته.
وفيه من الفقه أن النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع نهي تحريم لا نهي أدب وإرشاد ولو لم يأت هذا اللفظ عن النبي ﷺ لكان الواجب في النظر أن يكون نهيه ﷺ عن أكل كل ذي ناب من السباع نهي تحريم فكيف وقد جاء مفسرا في هذا الخبر لأن النهي حقيقته الابعاد والزجر والانتهاء وهذا غاية التحريم لأن التحريم في كلام العرب الحرمان والمنع قال الله عز وجل : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص : من الآية12] أي حرمناه رضاعهن ومعناه منهن لم يكن ممن تجرى عليه عبادة في ذلك الوقت لطفولته والنهي يقتضي معنى المنع كله.
وتقول العرب حرمت عليك دخول داري أي منعتك من ذلك وهذا القول عندهم في معنى لا تدخل الدار كل ذلك منع وتحريم ونهي وحرمان.
وكل خبر جاء عن رسول الله ﷺ فيه نهي فالواجب استعماله على التحريم إلا أن يأتي معه أو في غيره دليل يبين المراد منه أنه ندب وأدب فيقضى للدليل فيه ألا ترى إلى نهى رسول الله ﷺ عن نكاح الشغار وعن نكاح المحرم وعن نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وعن قليل ما اسكر كثيره من الأشربة وعن سائر ما نهى عنه من أبواب الربا في البيوع وهذا كله نهى تحريم فكذلك النهى عن أكل كل ذي ناب من السباع والله أعلم.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك على ما سنبينه في آخر هذا الباب إن شاء الله ومما يدل على أن ما رواه إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان عن أبي هريرة في هذا الحديث كما رواه ما حدثني به أبو عثمان سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ حرم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع والمجثمة والحمار الأهلي".
قال أبو عمر : وأما ما جاء من النهي على جهة الأدب وحسن المعاملة والإرشاد إلى المرء نهيه ﷺ عن أن يمشي المرء في نعل واحدة وان يقرن بين تمرتين في الأكل وان يأكل من أس الصحفة وان يشرب من في السقاء وغير ذلك مثله كثير قد علم بمخرجه المراد منه وقد قال جماعة من أهل العلم أن كل نهي ثبت عن النبي ﷺ في شيء من الأشياء ففعله الإنسان منتهكا لحرمته وهو عالم بالنهي غير مضطر إليه أنه عاص آثم واستدلوا بقول رسول الله ﷺ : "إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا عنه ما استطعتم". فأطلق النهي ولم يقيده بصفة وكذلك الأمر لم يقيده إلا بعدم الاستطاعة فقالوا إن من شرب من في السقاء أو مشى في نعل واحدة أو قرن بين تمرتين في الأكل أو أكل من رأس الصحفة ونحو هذا وهو عالم بالنهي كان عاصيا وقال آخرون إنما نهى عن الأكل من رأس الصحفة لأن البركة تنزل منها ونهى عن القران بين تمرتين لما فيه من سوء الأدب أن يأكل المرء مع جليسه وأكيله تمرتين في واحد ويأخذ جليسه تمرة فمن فعل فلا حرج وكذلك النهي عن الشرب من في السقاء خوف الهوام لأن أفواه الأسقية تقصدها الهوام وربما كان في السقاء ما يؤذيه فإذا جعل منه في إناء رآه وسلم منه وقالوا في سائر ما ذكرنا نحو هذا مما يطول ذكره وما أعلم أحداً من العلماء جعل النهي عن أكل كل ذي ناب من هذا الباب وإنما هو من الباب الأول إلا أن بعض أصحابنا زعم أن النهي عن ذلك نهي تنزه وتقذر ولا أدري ما معنى قوله نهي تنزه وتقذر فإن أراد به نهي أدب فهذا ما لا يوافق عليه وإن أراد أن كل ذي ناب من السباع يجب التنزه عنه كما يجب التنزه عن النجاسة والأقذار فهذا غاية في التحريم لأن المسلمين لا يختلفون في أن النجاسات محرمات العين أشد التحريم لا يحل استباحة أكل شيء منها ولم يرده القائلون من أصحابنا ما حكينا هذا عنهم ولكنهم أرادوا الوجه الذي هو عند أهل العلم ندب وأدب لأن بعضهم احتج بظاهر قول الله عز وجل : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام : من الآية145] الآية.
وذكر أن من الصحابة من استعمل هذه الآية ولم يحرم ما عداها فكأنه لا حرام عنده على طاعم إلا ما ذكر في هذه الآية ويلزمه على أصله هذا أن يحل أكل الحمر الأهلية وهو لا يقول هذا في الحمر الأهلية لأنه لا تعمل الذكاة عنده في لحومها ولا في جلودها ولو لم يكن عنده محرما إلا ما في هذه الآية لكانت الحمر الأهلية عنده حلالا وهو لا يقول هذا ولا أحد من أصحابه وهذه مناقضة وكذلك يلزمه أن لا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا ويستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين.
وقد أجمعوا أن مستحل خمر العنب المسكر كافر راد على الله عز وجل خبره في كتابه مرتد يستتاب فإن تاب ورجع عن قوله وإلا استبيح دمه كسائر الكفار وفي إجماع العلماء على تحريم خمر العنب المسكر دليل واضح على أن رسول الله ﷺ قد وجد فيما أوحى إليه محرما غير ما في سورة الأنعام مما قد نزل بعدها من القرآن وكذلك ما ثبت عنه ﷺ من تحريم الحمر الأهلية ومن فرق بين الحمر وبين كل ذي ناب السباع فقد تناقض والنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع أصح مخرجا وأبعد من العلل من النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية لأنه قد روى في الحمر إنه إنما نهاهم عنها يوم خيبر لقلة الظهر وقيل إنه إنما نهى منها عن الجلالة التي تأكل الجلة وهي العذرة وسائر القذر قد قال بهذا وبهذا قوم ولا حجة عنده ولا عندنا فيه لثبوت نهي رسول الله ﷺ عن ذلك مطلقا وصحته وأن ما روى مما ذكرنا لا يثبت وسيأتي القول في الحمر مستوعبا في باب ابن شهاب من كتابنا هذا.
وأظن قائل هذا القول من أصحابنا في أكل كل ذي ناب من السباع راعى اختلاف العلماء في ذلك ولا يجوز أن يراعى الاختلاف ثم طلب الحجة لأن الاختلاف ليس منه شيء لازم دون دليل وإنما الحجة اللازمة الإجماع لا الاختلاف لأن الإجماع يجب الانقياد إليه لقول الله : {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء : من الآية115] الآية والاختلاف يجب طلب الدليل عنده من الكتاب والسنة قال الله عز وجل : {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء : من الآية59] الآية يريد الكتاب والسنة هكذا فسره العلماء.
فأما قول الله عز وجل : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية فقد اختلف العلماء في معناه فقال قوم من فقهاء العراقيين ممن يجيز نسخ القرءان بالسنة أن هذه الآية منسوخة بالسنة لنهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن أكل لحوم الحمر الأهلية وقال آخرون معنى قوله هنا أي لا أجد قد أوحى إلى في هذا الحال يعني في تلك الحال حال الوحي ووقت نزوله لأنه قد أوحى إليه بعد ذلك في سورة المائدة من تحريم المنخنقة والموقوذة إلى سائر ما ذكر في أوحى الله إليه في القرءان تحريما بعد تحريم جاز أن يوحي إليه على لسانه تحريما بعد تحريم وليس في هذا شيء من النسخ ولكنه تحريم شيء بعد شيء قالوا مع انه ليس للحمار والسباع وذي المخلب والناب ذكر في قوله : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام : من الآية145] وذلك أن الله عز وجل إنما ذكر ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ثم قال : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ} يعني والله أعلم من هذه الأزواج الثمانية {مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فزاد ذكر لحم الخنزير تأكيدا في تحريمه حيا وميتا لأنه ما حرم لحمه لم تعمل الذكاة فيه فكان أشد من الميتة ولم يذكر السباع والحمير والطير ذات المخلب بتحليل ولا تحريم وقال آخرون ليس السباع والحمر من بهيمة الأنعام التي أحلت لنا فلا يحتاج فيها إلى هذا وقال الآخرون هذه الآية جواب لما سأل عنه قوم من الصحابة فاجيبوا عن مسألتهم كأنهم يقولون إن معنى الآية قل لا أجد فيما أوحى إلى مما ذكرتم أو مما كنتم تأكلون ونحو هذا قاله طاوس ومجاهد وقتادة وتابعهم قوم واستدلوا على صحة ذلك بأن الله قد حرم في كتابه وعلى لسان رسوله أشياء لم تذكر في الآية لأنه لا يختلف المسلمون في ذلك.
ذكر سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال أخبر ني إبراهيم بن أبي بكر أن مجاهدا أخبره في قول الله عز وجل : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام : من الآية145] قال ما كان أهل الجاهلية يأكلون لا أجد من ذلك محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية قال حجاج وأخبرنا بن جريج عن ابن طاوس عن أبيه مثله وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة نحوه وقالت فرقة الآية محكمة ولا يحرم إلا ما فيها وهو قول يروى عن ابن عباس وقد روى عنه خلافه في أشياء حرمها يطول ذكرها وكذلك اختلف فيه عن عائشة وروى عن ابن عمر من وجه ضعيف وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير في الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع أنه ليس شيء منها محرما وأما سائر فقهاء المسلمين في جميع الأمصار فمخالفون لهذا القول متبعون للسنة في ذلك وقال أكثر أهل العلم والنظر من أهل الأثر وغيرهم أن الآية محكمة غير منسوخة وكل ما حرمه رسول الله مضموم إليها وهو زيادة من حكم الله على لسان رسوله ﷺ ولا فرق بين ما حرم الله في كتابه أو حرمه على لسان رسوله بدليل قول الله عز وجل : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء : من الآية59] وقوله : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء : من الآية80] وقوله : {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب : من الآية34] قال أهل العلم القرءان والسنة وقوله : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر : من الآية7]
وقوله {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى : من الآية53] وقوله : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور : من الآية63] فقرن الله عز وجل طاعته بطاعته وأوعد على مخالفته وأخبر أنه يهدى إلى صراطه وبسط القول في هذا موجود في كتب الأصول وليس في هذه الآية دليل على أن لا حرام على أكل إلا ما ذكر فيها وإنما فيها أن الله أخبر نبيه ﷺ وأمره أن يخبر عباده أنه لم يجد في القرءان منصوصا شيئا محرما على الآكل والشارب إلا ما في هذه الآية وليس ذلك بمانع أن يحرم الله في كتابه بعد ذلك وعلى لسان رسوله أشياء سوى ما في هذه الآية.
وقد أجمعوا أن سورة الأنعام مكية وقد نزل بعدها قرءان كثير وسنن عظيمة وقد نزل تحريم الخمر في المائدة بعد ذلك وقد حرم الله على لسان نبيه أكل كل ذي ناب من السباع وأكل الحمر الأهلية وغير ذلك فكان ذلك زيادة حكم من الله على لسان نبيه ﷺ كنكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله : {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء : من الآية24] كحكمه بالشاهد واليمين مع قول الله {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة : من الآية282] وما أشبه هذا كثير تركناه خشية الاطالة ألا ترى أن الله قال في كتابه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء : من الآية29] وقد حرم رسول الله ﷺ أشياء من البيوع وان تراضا بها المتبايعان كالمزابنة وبيع ما ليس عندك وكالتجارة في الخمر وغير ذلك مما يطول ذكره وقد أجمع العلماء أن سورة الأنعام مكية إلا قوله : {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام : من الآية151] الآيات الثلاث وأجمعوا أن نهي رسول الله ﷺ عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة ولم يرو ذلك عنه غير أبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني وإسلامهما متأخر بعد الهجرة إلى المدينة بأعوام وقد روى عن ابن عباس عن النبي ﷺ مثل رواية أبي هريرة وأبي ثعلبة في النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من وجه صالح قال إسماعيل بن إسحاق القاضي وهذا كله يدل على أنه أمر كان بالمدينة بعد نزول قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما الآية لأن ذلك مكي.
قال أبو عمر : قول الله عز وجل : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام : من الآية145] الآية قد أوضحنا بما أو ردنا في هذا الباب بأنه قول ليس على ظاهره وأنه ليس نصا محكما لأن النص المحكم ما لا يختلف في تأويله وإذا لم يكن نصا كان مفتقرا إلى بيان الرسول لمراد الله منه كافتقار سائر مجملات الكتاب إلى بيانه قال الله عز وجل : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل : من الآية44] وقد بين رسول الله ﷺ في أكل كل ذي ناب وأكل الحمر الأهلية مراد الله فوجب الوقوف عنده وبالله التوفيق.
فإن قال قائل إن الحمر الأهلية وذا الناب من السباع لو كان أكلها حراما لكفر مستحلها كما يكفر مستحل الميتة ولحم الخنزير فالجواب عن ذلك أن المحرم بآية مجتمع على تأويلها أو سنة مجتمع على القول بها يكفر مستحله لأنه جاء مجيئا يقطع العذر ولا يسوغ فيه التأويل وما جاء مجيئا يوجب العمل ولا يقطع العذر وساغ فيه التأويل لم يكفر مستحله وإن كان مخطئا ألا ترى أن المسكر من غير شراب العنب لا يكفر المتأول فيه وإن كان قد صح عندنا النهي بتحريمه ولا يكفر من يقول بأن الصلاة يخرج منها المرء ويتحلل بغير سلام وأن السلام ليس من فرائضها مع قيام الدليل على وجوب السلام عندنا فيها وكذلك لا يكفر من قال إن قراءة القرآن وغيرها سواء وان تعيين قراءتها في الصلاة ليس بواجب ومن قرأ غيرها أجزاه مع ثبوت الآثار عن النبي عليه السلام أنه لا صلاة إلا بها وكذلك لا يكفر من أوجب الزكاة على خمسة رجال ملكوا خمس ذود من الإبل ولا من قال الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ولا حج إلا على من ملك زادا أو راحلة مع إطلاق الله الاستطاعة ونفيه على لسان رسوله أن يكون فيما دون خمس ذود صدقة وأنه صام في السفر ﷺ وهذا كثير لا يجهله من له أقل عناية بالعلم إن شاء الله.
قرأت على عبد الرحمن بن يحيى أن علي بن محمد أخبرهم قال حدثنا أحمد بن أبي سليمان قال حدثنا سحنون قال حدثنا عبد الله بن وهب قال حدثنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وابن لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال : "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم".
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال أخبرنا محمد بن بكر التمار قال حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا أشعث بن شعبة قال حدثنا أرطأة بن المنذر قال سمعت حكيم بن عمير أبا الأحوص يحدث عن العرباض بن سارية قال نزلنا مع رسول الله ﷺ خيبر فذكر الحديث وفيه أنه أمر مناديا فنادى أن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة فاجتمعوا ثم صلى بهم النبي ﷺ ثم قام فقال : أيحسب أحدكم متكيا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرءان ألا وإني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء أنها لمثل القرآن أو أكثر وأن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم".
وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة قال حدثنا أبو عمر وعثمان بن كثير ابن دينار عن جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله ﷺ أنه قال : "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرءان فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغنى عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه".
وروى بقية عن الزبيدي عن مروان بن رؤبة عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي عن المقدام بن معد يكرب أن النبي ﷺ قال : "ألا إني قد أوتيت الكتاب وما يعدله يوشك شبعان على أريكته" فذكره إلى آخره مثله.
وقرأت على أبي عمر أحمد بن عبد الله بن محمد الباجي فأقر به أن الميمون بن حمزة الحسيني حدثهم قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا المزني وقرأت على إبراهيم بن شاكر أن محمد بن يحيى بن عبد العزيز حدثهم قال حدثنا أسلم بن عبد العزيز قال حدثنا الربيع بن سليمان، قالا جميعا أخبرنا الشافعي قال أخبرنا سفيان عن سالم أبي النضر أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قال قال النبي ﷺ : "لا ألفين أحد كم متكئا على أريكته يأتيه ال أمر من أو ي مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".
قال ابن عيينة وأخبرني به محمد بن المنكدر عن النبي ﷺ مرسلا.
أخبرنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا أحمد بن خالد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة أو غيره قال كنا عند عمران بن حصين فكنا نتذاكر العلم قال فقال رجل لا تتحدثوا إلا بما في القرءان فقال له عمران بن الحصين انك لأحمق أوجدت في القرءان صلاة الظهر أربع ركعات والعصر أربع ركعات لا يجهر في شيء منهما والمغرب بثلاث يجهر بالقراءة في ركعتين ولا يجهر بالقراءة في ركعة والعشاء أربع ركعات يجهر بالقراءة في ركعتين ولا يجهر بالقراءة في ركعتين والفجر ركعتين يجهر فيهما بالقراءة.
قال : وقال عمران : لما نحن فيه يعدل القرءان أو نحوه من الكلام قال علي ولم يكن الرجل الذي قال هذا صاحب بدعة ولكنه كانت زلة منه أخبرنا أبو القاسم خلف بن القاسم قال حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن ناصح المعروف بابن المفسر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي قال حدثنا داود بن رشيد قال حدثنا بقية بن الوليد عن محفوظ بن مسور الفهري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ : "يوشك أحدكم يقول هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه وما كان فيه من حرام حرمناه إلا من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه"
قال أبو عمر : اختلف الفقهاء في معنى قول رسول الله ﷺ أكل كل ذي ناب من السباع حرام فقال منهم قائلون إنما أراد رسول الله ﷺ بقوله هذا ما كان يعدو على الناس مثل الأسد والذيب والنمر والكلب العادي وما أشبه ذلك مما الأغلب في طبعه أن يعدو وما كان الأغلب من طبعه انه لا يعدو فليس مما عناه رسول الله ﷺ بقوله هذا وإذا لم يكن يعدو فلا بأس بأكله.
واحتجوا بحديث الضبع في إباحة أكله وهي سبع وهو حديث انفرد به عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار وقد وثقه جماعة من أئمة أهل الحديث ورووا عنه حديثه هذا واحتجوا به قال علي بن المديني عبد الرحمن بن أبي عمار ثقة مكي حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا بن أبي مريم قال حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا إسماعيل بن أمية وابن جريج وجرير بن حازم أن عبد الله بن عبيد بن عمير حدثهم قال أخبر ني عبد الرحمن بن أبي عمار أنه سأل جابر بن عبد الله عن الضبع فقال أآكلها فقال نعم قال أصيد هي قال نعم قال سمعت ذلك من رسول الله ﷺ قال نعم وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر قال : "جعل رسول الله ﷺ الضبع من الصيد وجعل فيه إذا أصابه المحرم كبشا" واحتجوا أيضا بما ذكره بن وهب وعبد الرزاق جميعا قالا أخبرنا بن جريج أن نافعا أخبره أن رجلا أخبر عبد الله بن عمر أن سعد بن أبي وقاص كان يأكل الضباع فلم ينكره عبد الله بن عمر وقال ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه سمع عروة بن الزبير يقول ما زالت العرب تأكل الضبع ولا ترى بأكلها بأسا قالوا والضبع سبع لا يختلف في ذلك فلما أجاز رسول الله ﷺ وأصحابه أكلها علمنا أن نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع ليس من جنس ما أباحه وإنما هو نوع آخر والله أعلم وهو ما الأغلب فيه العداء على الناس هذا قول الشافعي ومن تابعه قال الشافعي ذو الناب المحرم أكله هو الذي يعد وعلى الناس كالأسد والنمر والذيب قال ويؤكل الضبع والثعلب وهو قول الليث بن سعد وقال مالك وأصحابه لا يؤكل شيء من سباع الوحوش كلها ولا الهر الوحشي ولا الأهلي لأنه سبع قال ولا يؤكل الضبع ولا الثعلب والضب ولا شيء من سباع الوحش ولا بأس بأكل سباع الطير زاد بن عبد الحكم في حكايته قول مالك قال وكل ما يفترس ويأكل اللحم ولا يرعى الكلأ فهو سبع لا يؤكل وهذا ما التي نهى رسول الله ﷺ عن أكلها.
وروى عن أشهب عن عبد العزيز أنه قال لا بأس بأكل الفيل إذا ذكى وقال ابن وهب قال لي مالك لم أسمع أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا بأرضنا ينهى عن أكل كل ذي مخلب من الطير قال وسمعت مالكا يقول لا يؤكل كل ذي ناب من السباع قال ابن وهب وكان الليث بن سعد يقول يؤكل الهر والثعلب.
قال أبو عمر : أما اختلاف العلماء في أكل كل ذي مخلب من الطير وما يأكل منه الجيف فسنذكره في باب نافع عن ابن عمر من كتابنا هذا إن شاء الله عند قول رسول الله ﷺ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم فذكر منها الغراب والحداة وذلك أولى المواضع بذكره وبالله العون لا شريك له.
وأما الآثار المرفوعة في النهي عن أكل كل ذي ناب مخلب أ من الطير فأكثرها معلومة وسنذكرها في باب نافع إن شاء الله والحجة لمالك وأصحابه في تحريم أكل كل ذي ناب من السباع عموم النهي عن ذلك ولم يخص رسول الله ﷺ سبعا من سبع فكل ما وقع عليه اسم سبع فهو داخل تحت النهي على ما يوجبه الخطاب وتعرفه العرب من لسانها في مخاطباتها وليس حديث الضبع مما يعارض به حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع لأنه حديث انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار وليس بمشهور بنقل العلم ولا من يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه وقد روى النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة عن أبي هريرة وأبي ثعلبة وغيرهما عن النبي ﷺ روى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الذين تسكن النفس إلى ما نقلوه ومحال أن يعارضوا بحديث ابن أبي عمار.
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال الثعلب سبع لا يؤكل قال معمر وقال قتادة ليس بسبع ورخص في أكله طاوس وعطاء من أجل أنه يؤذى وأما العراقيون أبو حنيفة وأصحابه فقالوا ذو الناب من السباع المنهي عن أكله الأسد والذيب والنمر والفهد والثعلب والضبع. والكلب والسنور البري والأهلي والوبر قالوا وابن عرس سبع من سباع الهوام وكذلك الفيل والدب والضبع واليربوع.
قال أبو يوسف فأما الوبر فلا أحفظ فيه شيئا عن أبي حنيفة وهو عندي مثل الأرنب لا بأس بأكله لأنه يعتلف البقول والنبات وقال أبو يوسف في السنجاب والفنك والسنور كل ذلك سبع مثل الثعلب وابن عرس.
قال أبو عمر : أما الضب فقد ثبت عن النبي ﷺ إجازة أكله وفي ذلك ما يدل على أنه ليس بسبع يفترس والله أعلم ذكر عبد الرزاق قال أخبر ني رجل من ولد سعيد بن المسيب قال أخبر ني يحيى بن سعيد قال كنت عند سعيد بن المسيب فجاءه رجل من غطفان فسأله عن الورل فقال لا بأس به وان كان معكم منه شيء فأطعمونا منه قال عبد الرزاق والورل شبه الضب وأجاز الشعبي أكل الأسد والفيل وتلا : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام : من الآية145] الآية وقد كره أكل الكلب والتداوي به وهذا خلاف منه واضطراب وكره الحسن وغيره أكل الفيل لأنه ذو ناب وهم للأسد أشد كراهية وكره عطاء ومجاهد وعكرمة أكل الكلب وروى عن النبي ﷺ في الكلب قال : "طعمة جاهلية وقد أغنى الله عنها" وذكر ابن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن يزيد بن عبد الله السعدي قال سألت بن المسيب عن آكل الضبع فقال إن أكلها لا يصلح ومعمر عن هشام بن عروة عن أبيه أنه سئل عن أكل اليربوع فلم ير به بأسا قال معمر
وسألت عطاء الخراساني عن اليربوع فلم يربه بأسا قال وأخبرنا بن طاوس عن أبيه أنه سئل عن أكل الوبر فلم يربه بأسا وقال ابن وهب أخبرنا عبد العزيز بن محمد المدني قال بلغني عن عامر الشعبي قال : "نهى رسول الله ﷺ عن أكل لحم القرد"
قال أبو عمر : وكرهه بن عمر وعطاء ومكحول والحسن ولم يجيزوا بيعه وقال عبد الرزاق عن معمر عن أيوب سئل مجاهد عن أكل القرد فقال ليس من بهيمة الأنعام.
قال أبو عمر : لا أعلم بين علماء المسلمين خلافا أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه لأنه مما لا منفعة فيه وما علمنا أحداً أرخص في أكله والكلب والفيل وذو الناب كله عندي مثله والحجة في قول رسول الله ﷺ لا في قول غيره وما يحتاج القرد ومثله أن ينهى عنه لأنه ينهى عن نفسه بزجر الطباع والنفوس لنا عنه ولم يبلغنا عن العرب ولا عن غيرهم أكله وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل الكلب إلا قوم منهم نفر من فقعس وفي أحد هم قال الشاعر الأسدي :
يا فقعسي لم أكلته لحمه...لو خافك الله عليه حرمه
فما أكلت لحمه ولادمه
قال أبو عمر : يعني قوله لو خافك الله عليه حرمه أي إن الكلب عنده كان مما لا يأكله أحد ولا يخاف أحدا على أكله إلا المضطر والله عز وجل لا يخاف أحدا على شيء ولا على غير شيء ولا يلحقه الخوف جل وتعالى عن ذلك وأظن الشعر لأعرابي لا يقف على مثل هذا من المعنى والله أعلم حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن يونس قال حدثنا بقى بن مخلد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود قال سئل الشعبي عن رجل يتداوى بلحم كلب قال إن تداوى به فلا شفاه الله قال وحدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا إسرائيل عن مغيرة عن أبي معشر عن إبراهيم أنه أصابه حمى ربع فنعت له جنب ثعلب فأبي أن يأكله قال وحدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا هشام عن الحسن قال الثعلب من السباع.
قال أبو عمر : من رخص في الثعلب والهر ونحوهما فإنما رخص في ذلك لأنها ليست عنده من السباع المحرمة على لسان رسول الله ﷺ ،
وقد ذكرنا وجه التأويل في ذلك وذكرنا ما جاء عن النبي ﷺ من الرخصة في أكل الضبع وقد جاء عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وسعد في الضبع أنها صيد يفديها المحرم بكبش ومعلوم أنها ذات ناب وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن سهيل بن أبي صالح قال جاء رجل من أهل الشام فسأل سعيد بن المسيب عن أكل الضبع فنهاه فقال له إن قومك يأكلونها فقال إن قومي لا يعلمون قال سفيان هذا القول أحب إلى فقلت لسفيان فأين ما جاء عن عمر وعلى وغيرهما فقال أليس قد نهى رسول الله ﷺ عن أكل كل ذي ناب فتركها أحب إلى وبه نأخذ.
قال أبو عمر : ليس أحد من خلق الله إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ﷺ فانه لا يترك من قوله إلا ما تركه هو ونسخه قولا أو عملا والحجة فيما قال ﷺ وليس في قول غيره حجة ومن ترك قول عائشة في رضاع الكبير وفي لبن الفحل وترك قول ابن عباس في العول والمتعة وغير ذلك من أقاويله وترك قول عمر في تضعيف القيمة على المزني وفي تبديئه المدعى عليهم باليمين في القسامة وفي أن الجنب لا يتيمم وغير ذلك من قوله كثير وترك قول بن عمر في أن الزوج لا يهدم التطليقة والتطليقتين وكراهية الوضوء من ماء البحر وسؤر الجنب والحائض وغير ذلك كثير وترك قول علي في أن المحدث في الصلاة يبني على ما مضى منها وفي أن بني تغلب لا تؤكل ذبائحهم وغير ذلك مما روى عنه كيف يتوحش من مفارقة واحد منهم ومعه السنة الثابتة عن
النبي ﷺ وهي الملجأ عند الاختلاف وغير نكير أن يخفى على الصاحب والصاحبين والثلاثة السنة المأثورة عن رسول الله ﷺ ألا ترى أن عمر في سعة علمه وكثرة لزومه لرسول الله ﷺ قد خفي عليه من توريث المرأة من دية زوجها وحديث دية الجنين فغيرهما أحرى أن تخفى عليه السنة في خواص الأحكام وليس شيء من هذا أيضا بضائرهم رضي الله عنهم وقد كان ابن شهاب يقول وهو حبر عظيم من أحبار هذا الدين ما سمعت بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع حتى دخلت الشام والعلم الخاص لا ينكر أن يخفى على العالم حينا.
حدثنا يونس بن عبد الله قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني أن النبي ﷺ نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع قال سفيان قال الزهري ولم أسمع هذا حتى أتيت الشام.
قال أبو عمر : روى عن خزيمة بن جزي رجل من الصحابة أنه قال : "قدمت المدينة فأتيت رسول الله ﷺ فقلت جئت أسألك عن أحفاش الأرض قال سل عما شئت فسألته عن الضب فقال لا آكله ولا أحرمه فقلت إني آكل ما لم تحرم قال إنها فقدت أمة وإني رأيت خلقا رابني قال وسألته عن الأرنب فقال لا آكله ولا أحرمه قال إني آكل ما لم تحرم قال إنها تدمى قال وسألت عن الثعلب فقال ومن يأكل الثعلب وسألت عن الضبع فقال ومن يأكل الضبع قال وسألته عن الذئب فقال أو يأكل الذئب أحد".
وهذا حديث قد جاء إلا أنه لا يحتج بمثله لضعف إسناده ولا يعرج عليه لأنه يدور على عبد الكريم بن أبي المخارق وليس يرويه غيره وهو ضعيف متروك الحديث وقد روى من حديث عبد الرحمن بن معقل صاحب الدثنيه وهو رجل يعد في الصحابة نحو هذا الحديث قال قلت : يا رسول الله ما تقول في الضبع؟ قال : "لا آكله ولا أنهي عنه" قال قلت : ما لم تنه عنه فإني آكله قال قلت : يا رسول الله فما تقول في الضب؟ قال : "لا آكله ولا أنهي عنه" قال قلت : ما لم تنه عنه فإني آكله، قال قلت : ما تقول في الأرنب؟ قال : "لا آكلها ولا أحرمها" قال قلت : ما لم تحرمه فإني آكله، قال قلت : يا رسول الله ما تقول في الذئب؟ قال : "أو يأكل ذلك أحد؟" قال قلت : يا رسول الله ما تقول في الثعلب؟ قال : "أو يأكل ذلك أحد؟"
وهو أيضا حديث ضعيف وإسناده ليس بالقائم عند أهل العلم وهو يدور على أبى محمد رجل مجهول وهو حديث لا يصح عندهم وعبد الرحمن بن معقل لا يعرف إلا بهذا الحديث ولا تصح صحبته وإنما ذكرت هذا الحديث والذي قبله ليقف عليهما ولرواية الناس لهما ولتبيين العلة فيهما وأما جلود السباع المذكاة لجلودها فقد اختلف أصحابنا في ذلك فروى بن القاسم عن مالك أن السباع إذا ذكيت لجلودها حل بيعها ولباسها والصلاة عليها.
قال أبو عمر : الذكاة عنده في السباع لجلودها أكمل طهاره في هذه الرواية من الدباغ في جلود الميتة وهو قول بن القاسم وقال ابن القاسم في المدونة لا يصلي على جلد الحمار وان ذكى وقوله أن الحمار الأهلي لا تعمل فيه الذكاة وقال ابن حبيب في كتابه إنما ذلك في السباع المختلف فيها فأما المتفق عليها فلا يجوز بيعها ولا لبسها ولا الصلاة بها ولا بأس بالانتفاع بها إذا ذكيت كجلد الميتة المدبوغ قال ابن حبيب ولو أن الدواب الحمير والبغال ذكيت لجلودها لما حل بيعها ولا الانتفاع بها ولا الصلاة فيها إلا الفرس فانه لو ذكى لحل بيع جلده والانتفاع به للصلاة وغيرها لاختلاف الناس في تحريمه وقال أشهب أكره بيع جلود السباع وإن ذكيت مالم تدبغ قال وأرى أن يفسخ البيع فيها ويفسخ ارتهانها وأرى أن يؤدب فاعل ذلك إلا أن يعذر بالجهالة لأن النبي ﷺ حرم أكل كل ذي ناب من السباع فالذكاة فيها ليست بذكاة وروى أشهب عن مالك في كتاب الضحايا من المستخرجة أن مالا يؤكل لحمه فلا يطهر جلده بالدباغ وهذه المسألة في سماع أشهب وابن نافع وسئل مالك أترى ما دبغ من جلود الدواب طاهرا فقال إنما يقال هذا في جلود الأنعام فأما جلود مالا يؤكل لحمه فكيف يكون جلده طاهرا إذا دبغ وهو مما لا ذكاة فيه ولا يؤكل لحمه.
قال أبوعمر : لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بما رواه أشهب عن مالك في جلد مالا يؤكل لحمه أنه لا يطهر بالدباغ إلا أبا ثور إبراهيم بن خالد الكلبي فانه قال في كتابه في جلود الميتة كل ما كان مما لو ذكى حل أكله فمات لم يتوضأ في جلده ولم ينتفع بشيء منه حتى يدبغ فإذا دبغ فقد طهر قال وما لا يؤكل لو ذكى لم يتوضأ في جلده وان دبغ قال وذلك أن النبي ﷺ قال في جلد شاة ماتت : "ألا دبغتم جلدها فانتفعتم به" ونهى عن جلود السباع قال فلما روى الخبران أخذنا بهما جميعا لأن الكلامين جميعا لو كانا في مجلس واحد كان كلاما صحيحا ولم يكن فيه تناقض قال ولا أعلم خلافا أنه لا يتوضأ في جلد خنزير وان دبغ فلما كان الخنزير حراما لا يحل أكله وان ذكى وكانت السباع لا يحل أكلها وان ذكيت كان حراما أن ينتفع بجلودها وان دبغت وان يتوضأ فيها قياسا على ما أجمعوا عليه من الخنزير إذ كانت العلة واحدة.
وذكر عن هشيم عن منصور عن الحسن أن عليا كره الصلاة في جلود البغال.
قال أبو عمر : ما قاله أبو ثور صحيح في الذكاة أنها لا تعمل فيما لا يحل أكله إلا أن قوله ﷺ : "كل إهاب دبغ فقد طهر" قد دخل فيه كل جلد إلا أن جمهور السلف أجمعوا على أن جلد الخنزير لا يدخل في ذلك فخرج بإجماعهم هذا إن صح أن للخنزير جلدا يوصل إليه ويستعمل وان كان أصحابنا قد اختلفوا في ذلك على ما سنذكره ونوضحه في باب حديث زيد بن أسلم عن ابن وعلة عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال : "كل إهاب دبغ فقد طهر" إن شاء الله.
والحديث الذي ذكر أبو ثور في النهي عن جلود السباع حدثناه جماعة منهم عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثا مسدد قال حدثنا يحيى القطان عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه أن رسول الله ﷺ نهى عن جلود السباع وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وحكاه أيضا عن أشهب لا يجوز تذكية السباع وان ذكيت لجلودها لم يحل الانتفاع بشيء من جلودها إلا أن يدبغ.
قال أبو عمر : قول ابن عبد الحكم وما حكاه أيضا عن أشهب في تذكية السباع عليه جمهور الفقهاء من أهل النظر والأثر بالحجاز والعراق والشام وهو الصحيح وهو الذي يشبه أصل مالك في ذلك ولا يصح أن يتقلد غيره لوضوح الدليل عليه ولو لم يختبر ذلك إلا بما ذبحه المحرم أو ذبح في الحرام أن ذلك لا يكون ذكاة للمذبوح للنهى الوارد فيه وبالخنزير أيضا وقد أجمع المسلمون أن الخلاف ليس بحجة وان عنده يلزم طلب الدليل والحجة ليتبين الحق منه وقد بان الدليل الواضح من السنة الثابتة في تحريم السباع ومحال أن تعمل فيها الذكاة وإذا لم تعمل فيها الذكاة فأكثر أحوالها أن تكون ميتة فتطهر بالدباغ هذا أولى الأقاويل في هذا الباب ولما رواه أشهب عن مالك وجه أيضا وأما ما رواه بن القاسم عن مالك فلا وجه له يصح إلا ما ذكروا من تأويلهم في النهي أنه على التنزه لا على التحريم وهذا تأويل ضعيف لا يعضده دليل.
حديث ثاني لإسماعيل بن أبي حكيم مرسل
مالك عن إسماعيل بن أبي حيكم انه سمع عمر بن عبد العزيز يقول كان من آخر ما تكلم به رسول الله ﷺ أن قال : "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان بأرض العرب".
هكذا جاء هذا الحديث عن مالك في الموطآت كلها مقطوعا وهو يتصل من وجوه حسان عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة وعائشة ومن حديث علي بن أبي طالب وأسامة وأما عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي فأشهر وأجل من أن يحتاج إلى ذكره
حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثنا معاوية قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد الحميد بن حبيب قال حدثنا الأوزاعي قال أخبر ني ابن شهاب عن ابن المسيب سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله ﷺ : "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ورواه مالك عن الزهري بهذا الإسناد مثله.
حدثناه أحمد بن عبد الله بن محمد الباجي قال حدثني أبي قال حدثنا محمد بن قاسم قال حدثنا مالك بن عيسى قال حدثنا أبو داود سليمان بن سيف الحراني قال حدثنا عثمان بن عمر قال أخبرنا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : "لعن رسول الله ﷺ الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"
وقد روى هذا الحديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة ذكر البزار قال حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا خالد بن الحرث قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة وقول ابن شهاب فيه عن سعيد بن المسيب عن عائشة وقول ابن شهاب فيه عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أولى بالصواب في الإسناد إن شاء الله وهو محفوظ من حديث عروة عن عائشة أخبرنا عبيد بن محمد قال حدثنا عبد الله بن مسرور قال أخبرنا عيسى بن مسكين قال أخبرنا محمد بن سنجر قال حدثنا عبيد الله بن موسى قال حدثنا شيبان عن هلال بن حميد عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ في مرضه الذي لم يقم منه : "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" . قالت : ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي عليه أن يتخذ مسجدا.
قال أبو عمر : لهذا الحديث والله أعلم ورواية عمر بن عبد العزيز له أمر في خلافته أن يجعل بنيان قبر رسول الله ﷺ محددا بركن واحد ليلا يستقبل القبر فيصلى إليه وأخبرنا عبيد بن محمد قال حدثنا عبد الله قال حدثني عيسى قال حدثنا بن سنجر قال حدثنا بن نمير قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن نساء النبي عليه السلام تذاكرن في مرضه كنيسة رأينها بأرض الحبشة وذكرن من حسنها وتصاويرها وكانت أم سلمة وأم
حبيبة قد أتتا أرض الحبشة فقال رسول الله ﷺ : "أولئك قوم إذا مات الرجل الصالح عندهم بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله".
قال أبو عمر : هذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء والصالحين مساجد وقد احتج من لم ير الصلاة في المقبرة ولم يجزها بهذا الحديث وبقوله : "إن شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد". وبقوله ﷺ : "صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا" وهذه الآثار قد عارضها قوله ﷺ "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وتلك فضيلة خص بها رسول الله ﷺ ولا يجوز على فضائله النسخ ولا الخصوص ولا الاستثناء وذلك جائز في غير فضائله إذا كانت أمرا أو نهيا أو في معنى الأمر والنهي وبهذا يستبين عند تعارض الآثار في ذلك أن الناسح منها قوله ﷺ : "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". وقوله لأبي ذر : "حيثما أدركتك الصلاة فصل فقد جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" . وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبان عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة أن النبي ﷺ قال : "لعن الله أقواما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وسيأتي من هذا ذكر في باب مرسل زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار إن شاء الله.
وأما قوله في حديث مالك : "لا يبقين دينان بأرض العرب" فأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن يحيى بن عمر بن علي قال حدثنا علي بن حرب قال حدثنا سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول عن ابن أبي نجيح عن سعيد بن جبير قال سمعت بن عباس يقول يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى قلت يا أبا عباس وما يوم الخميس قال اشتد برسول الله ﷺ الوجع فقال : "ايتوني أكتب لكم كتاب لا تضلوا بعده" فتنازعوا عنده فقال : "لا ينبغي عندي التنازع ذروني" وأمرهم بثلاث فقال : "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجزيهم" والثالثة إما سكت عنها يعني ابن عباس وإما قالها فنسيتها يقوله سعيد بن جبير وذكر الحميدي وعبد الرزاق عن سفيان بن عيينة بإسناد مثله
أخبرنا عبيد بن محمد قال حدثنا عبد الله بن محمد بن مسرور قال حدثنا عيسى بن مسكين قال حدثنا بن سنجر قال حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج قال أخبر ني أبو الزبير انه سمع جابر بن عبد الله يقول أنه سمع عمر بن الخطاب يقول انه سمع النبي ﷺ يقول : " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب"
وذكره عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول أخبر ني عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع بها إلا مسلما" قال عبد الرزاق وأخبرنا معمر عن ابن شهاب عن ابن المسيب قال قال رسول الله ﷺ : "لا يجتمع بأرض العرب أو قال بأرض الحجاز دينان" قال ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى وجد عليه الثبت قال الزهري فلذلك أجلاهم عمر قال وأخبرني بن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر بمعنى حديث بن المسيب وحديث موسى بن عقبة أكمل وفيه حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحا أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إبراهيم بن ميمون مولى آل سمرة عن إسحاق بن سمرة عن أبيه قال آخر ما تكلم به رسول الله ﷺ أن قال : "أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب" هكذا قال وكيع فيما صح عندنا من مسند بن أبي شيبة وخالفه سفيان بن عيينة ويحيى القطان إسماعيل بن زكريا وأبو أحمد الزبيري كلهم قال مكان إسحاق بن سمرة سعد بن سمرة قرأت على سعيد بن نصر أن قاسما حدثهم قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي قال حدثنا سفيان بن عيينة قال أخبر ني إبراهيم بن ميمون مولى آل سمرة عن سعد بن سمرة عن أبيه سمرة عن أبي عبيدة بن الجراح أن رسول الله ﷺ قال : "أخرجوا يهود الحجاز"
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد يعنى القطان عن إبراهيم بن ميمون قال حدثني سعد بن سمرة بن جندب عن أبيه عن أبي عبيدة قال إن من آخر ما تكلم به رسول الله ﷺ أن قال : "أخرجوا يهود الحجاز ونجران من جزيرة العرب واعلموا أن شرار عباد الله الذين اتخذوا قبورهم مساجد"
أخبرنا قاسم بن محمد قال أخبرنا خالد بن سعد قال أخبرنا أحمد بن عمرو بن منصور أخبرنا محمد بن سنجر حدثنا سعيد بن سلميان حدثنا إسماعيل بن زكرياء عن إبراهيم بن ميمون عن سعد بن سمرة بن جندب عن أبيه عن أبي عبيدة بن الجراح قال آخر ما تكلم به رسول الله ﷺ أن قال : "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب وإن شرار الناس يتخذون القبور مساجد" وذكره أحمد بن إبراهيم الدروقي عن أبي أحمد الزبيري بإسناده مثله سواء.
قال أبو عمر : قول من قال قبور أنبيائهم يقضى على قول من قال القبور في هذا الحديث لأنه بيان مبهم وتفسير مجمل وأما قوله أرض العرب وجزيرة العرب في هذا الحديث فذكر بن وهب عن مالك قال أرض العرب مكة والمدينة واليمن وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام عن الأصمعي قال جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول وأما في العرض فمن جدة وما والاها من سائر البحر إلى أطرار الشام قال أبو عبيد وقال أبو عبيدة جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول وأما في العرض فمن بير يبرين إلى منقطع السماوة.
قال أبو عمر : أخبرنا بذلك كله أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان وأبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد قالا حدثنا محمد بن عيسى وأخبرنا أبو القاسم بن عمر بن عبد الله قال حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن خالد قالا جميعا حدثنا علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد القاسم بن سلام في كتابه في شرح غريب الحديث وبجميع الشرح المذكور وقال يعقوب بن شيبة حفر أبي موسى على منازل من البصرة في طريق مكة خمسة منازل أو ستة وقال أحمد بن المعذل حدثني يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري قال قال مالك بن أنس جزيرة العرب المدينة ومكة واليمامة واليمن قال وقال المغيرة بن عبد الرحمن جزيرة العرب المدينة ومكة واليمن وقرياتها وذكر الواقدي عن معاذ بن محمد الأنصاري أنه حدثه عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السعدي أنه سمعه يقول القرى العربية الفرع وينبع والمروة ووادي القرى والجار وخيبر قال الواقدي وكان أبو وجزة السعدي عالما بذلك قال أبو وجزة وإنما سميت قرى عربية لأنها من بلاد العرب وقال أحمد بن المعذل حدثني بشر بن عمر قال قلت لمالك إننا لنرجو أن تكون من جزيرة العرب يريد البصرة لأنه لا يحول بيننا وبينكم نهر فقال ذلك إن كان قومك تبؤوا الدار والإيمان.
قال أبو عمر رضي الله عنه : قال بعض أهل العلم : إنما سمى الحجاز حجازا لأنه يحجز بين تهامة ونجد وإنما قيل لبلاد العرب جزيرة لإحاطة البحر والأنهار بها من أقطارها وأطرارها فصاروا فيها في مثل جزيرة من جزائر البحر.
حديث ثالث لإسماعيل بن أبي حكيم مرسل
مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عطاء بن يسار أنه أخبره أن رسول الله ﷺ كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى جلده أثر الماء عطاء بن يسار هو أخو سليمان بن يسار قال مصعب الزبيري كانوا أربعة إخوة عطاء وسليمان وعبد الله وعبد الملك وهم موالى ميمونة زوج النبي ﷺ كاتبتهم وكلهم أخذ عنها العلم.
قال أبو عمر : سليمان أفقههم وعطاء أكثرهم حديثا وعبد الله وعبد الملك قليلا الحديث وكلهم ثقة رضي وكان عطاء بن يسار من الفضلاء العباد العلماء وكان صاحب قصص ذكر علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام بن عروة قال ما رأيت قاصا أفضل من عطاء بن يسار سمع عطاء بن يسار من أبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وقيل سمع ابن مسعود وفي ذلك عندي نظر وتوفي عطاء بن يسار سنة سبع وتسعين فيما ذكر الهيثم بن عدي وأما الواقدي فقال توفي عطاء بن يسار سنة ثلاث ومائة وهو ابن أربع وثمانين سنة وهذا عندنا أصح من قول الهيثم وكان يكنى أبا يسار وقيل أبو عبد الله وقيل أبو محمد فالله أعلم.
وهذا حديث منقطع وقد روى متصلا مسندا من حديث أبي هريرة وحديث أبي بكرة أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الحميد بن أحمد حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر يعني الأثرم قال سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل رحمه الله عن حديث أبي بكرة أن النبي ﷺ أشار أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى جلده أثر الغسل فصلى بهم ما وجهه قال وجهه أنه ذهب فاغتسل قيل له كان جنبا قال نعم ثم قال يرويه بعض الناس أنه كبر وبعضهم يقول لم يكبر قيل له فلو فعل هذا إنسان اليوم هكذا أكنت تذهب إليه قال نعم.
قال أبو عمر : من طرق حديث أبي هريرة في هذا الحديث ما ذكره الشافعي قال أخبرنا الثقة عن أسامة بن زيد يعني الليثي عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة عن النبي ﷺ مثل معناه يعني مثل معنى حديث مالك هذا عن إسماعيل بن أبي حكيم قال الشافعي وأخبرنا الثقة عن حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة عن النبي عليه السلام مثله قال وأخبرنا الثقة عن ابن عون عن محمد بن سيرين عن النبي ﷺ مثله
قال أبو عمر : ذكر وكيع في مصنفه حديث أسامة بن زيد هذا بإسناده مثله ورواه أيوب وهشام وابن عون عن ابن سيرين مثله وهذا الحديث محفوظ من حديث الزهري مسندا من رواية الثقات منه حدثناه محمد بن عبد الله بن حكم قال أخبرنا محمد بن معاوية قال أخبرنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي قال أخبرنا هشام بن عمار قال أخبرنا عبد الحميد ابن حبيب قال حدثنا الأوزاعي قال حدثنا الزهري قال أخبر ني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن آبا هريرة اخبره قال : أقيمت الصلاة فصف الناس صفوفهم ثم خرج علينا رسول الله ﷺ فأقبل يمشي حتى إذا قام في مصلاه ذكر أنه لم يغتسل فقال للناس : "مكانكم" ثم رجع إلى بيته فاغتسل ثم خرج حتى قام في مصلاه فكبر ورأسه ينطف. وذكره أبو داود من رواية معمر ويونس بن يزيد والزبيدي والأوزاعي كلهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مثله وذكره البخاري من رواية يونس عن الزهري مثله ولم يذكر في هذا الحديث انه كبر قبل أن يذكر وإنما فيه أنه لما قام في مصلاه ذكر أنه لم يغتسل فاحتمل أن يكون ذكر ذلك قبل أن يكبر فأمرهم أن ينتظروه فلو صح هذا لم يكن في هذا الحديث معنى يشكل حينئذ لأن انتظارهم لو كان وهم في غير صلاة لم يكن في ذلك شيء يحتاج إليه في هذا الباب واحتمل أن يكون قوله فلما قام في مصلاه أي قام في صلاته فلما احتمل الوجهين كانت رواية من روى أنه كان كبر يفسر ما أبهم من لم يذكر ذلك لأن الثقاة من رواة مالك والشافعي قالوا فيه إنه كبر ثم أشار إليهم أن امكثوا وقد ظن بعض شيوخنا أن في إشارته إليهم أن امكثوا دليلا على أنه بنى بهم إذا انصرف إليهم لأنه لم يتكلم وهذا جهل وغلط فاحش ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يبنى على ما صنع وهو غير طاهر وسنبين هذا المعنى بعد في هذا الباب إن شاء الله.
وقد جاء في رواية الزهري فقال لهم وجاء في حديث أبي بكرة فأومأ إليهم وكلامه وإشارته في ذلك سواء لأنه كان في غير صلاة حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر الصائغ حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرنا زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة قال كان رسول الله ﷺ يصلي بأصحابه فأومأ إليهم "أن امكثوا مكانكم" ثم دخل ثم خرج ورأسه ينطف فصلى.
وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم قال وحدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا حماد بن سلمة بإسناده ومعناه قال فكبر وقال في آخره فلما قضى الصلاة قال إنما أنا بشر واني كنت جنبا.
"ففي هذا الحديث وحديث مالك أنه ذكر بعد دخوله في الصلاة وفي حديث ابن شهاب أنه ذكر قبل أن يدخل في الصلاة.
قال أبو عمر : قوله في هذا الحديث يصلي بأصحابه يصحح رواية من روى أنه كان كبر ثم أشار إليهم أن امكثوا وفي رواية الزهري في هذا الحديث أن رسول الله ﷺ كبر حين انصرف بعد غسله فواجب أن تقبل هذه الزيادة أيضا لأنها شهادة منفردة أداها ثقة فوجب العمل بها هذا ما يوجبه الحكم في ترتيب الآثار وتهذيبها إلا أن ها هنا اعتراضات تعترض على مذهبنا في هذا الباب قد نزع غيرنا بها ونحن ذاكر ما يجب به العلم في هذا الحديث على مذهب مالك وغيره من العلماء بعون الله إن شاء الله.
أما مالك رحمه الله فانه أدخل هذا الحديث في موطئه في باب إعادة الجنب غسله إذا صلى ولم يذكر يعنى حاله أنه كان جنبا حين صلى والذي يجيء عندي على مذهب مالك من القول في هذا الحديث أنه لم يرد رحمه الله إلا الإعلام أن الجنب إذا صلى ناسيا قبل أن يغتسل ثم ذكر كان عليه أن يغتسل ويعيد ما صلى وهو جنب وأن نسيانه لجنابته لا يسقط عنه الإعادة وإن خرج الوقت لأنه غير متطهر والله لا يقبل صلاة بغير طهور لا من ناس ولا من متعمد وهذا أصل مجتمع عليه في الصلاة أن النسيان لا يسقط فرضها الواجب فيها ثم أردف مالك حديثه المذكور في هذا الباب بفعل عمر بن الخطاب أنه صلى بالناس وهو جنب ناسيا ثم ذكر بعد أن صلى فاغتسل وأعاد صلاته ولم يعد أحد ممن خلفه فمن فعل عمر رضي الله عنه أخذ مالك مذهبه في القوم يصلون خلف الإمام الجنب لا من الحديث المذكور والله أعلم.
وسنذكر وجه ذلك فيما بعد من هذا الباب إن شاء الله.
وأما الشافعي فانه احتج بهذا الحديث في جواز صلاة القوم خلف الإمام الجنب وجعله دليلا على صحة ذلك وأردفه بفعل عمر في جماعة الصحابة من غير نكير ومما جاء عن علي رضي الله عنه في الإمام يصلى بالقوم وهو على غير وضوء أنه يعيد ولا يعيدون ثم قال الشافعي وهذا هو المفهوم من مذاهب الإسلام والسنن لأن الناس إنما كلفوا في غيرهم الأغلب مما يظهر لهم أن مسلما لا يصلى على غير طهارة ولم يكلفو علم ما يغيب عنهم.
قال أبو عمر : أما قول الشافعي إن الناس إنما كلفوا في غيرهم الأغلب مما يظهر لهم ولم يكلفو علم ما غاب عنهم من حال إمامهم فقول صحيح إلا أن استدلاله بحديث هذا الباب على جواز صلاة القوم خلف الإمام الجنب هو خارج على مذهبه في أحد قوليه الذي يجيز فيه إحرام المأموم قبل إمامه وليس ذلك على مذهب مالك لأن النبي ﷺ إذ كبر وهو جنب ثم ذكر حاله فأشار إلى أصحابه أن امكثوا وانصرف فاغتسل لا يخلو أمره إذ رجع من أحد ثلاثة وجوه :
إما أن يكون بنى على التكبيرة التي كبرها وهو جنب وبنى القوم معه على تكبيرهم فإن كان هذا فهو منسوخ بالسنة والإجماع فأما السنة فقوله ﷺ : "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" فكيف يبنى على ما صلى وهو غير طاهر هذا لا يظنه ذو لب ولا يقوله أحد لأن علماء المسلمين مجمعون على أن الإمام لا يبنى على شيء عمله في صلاته وهو على غير طهارة وإنما اختلفوا في بناء المحدث على ما صلى وهو طاهر قبل حدثه في صلاته وسنذكر أقوالهم في ذلك وفي بناء الراعف في آخر الباب إن شاء الله.
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا حمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" وقد ذكرنا أسانيد قوله : "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" في باب عبد الرحمن بن القاسم والحمد لله.
والوجه الثاني : أن يكون رسول الله ﷺ حين انصرف بعد غسله استأنف صلاته واستأنفها أصحابه معه بإحرام جديد وأبطلوا إحرامهم معه وقد كان لهم أن يعتدوا به أو استخلف لهم من يتم بهم فهذا الوجه وان صح في مذهب مالك من وجه فانه يبطل الاستدلال به من هذا الحديث على جواز صلاة القوم خلف الإمام الجنب لأنهم إذا استأنفوا إحرامهم فلم يصلوا وراء جنب بل قد يستدل بمثل هذا لو صح من أبطل صلاتهم خلفه وهو خلاف قول مالك.
والوجه الثالث : أن يكون النبي ﷺ كبر محرما مستأنفا لصلاته وبنى القوم خلفه على ما مضى من إحرامهم فهذا أيضا وان كان فيه النكتة المجيزة لصلاة المأموم خلف الإمام الجنب لاستجزائهم واعتدادهم بإحرامهم خلفه لو صح فإن ذلك أيضا لا يخرج على مذهب مالك من هذا الحديث لأنه حينئذ يكون إحرام القوم في تلك الصلاة قبل إحرام إمامهم فيها وهذا غير جائز عند مالك وأصحابه لا يحتمل الحديث غير هذه الأوجه ولا يخلو من أحد ها فلذلك قلنا إن الاستدلال بحديث هذا الباب على جواز صلاة القوم خلف الإمام الجنب ليس بصحيح على مذهب مالك فتدبر ذلك تجده كذلك إن شاء الله.
وأما الشافعي فيصح الاستدلال بهذا الحديث على أصله لأن صلاة القوم عنده غير مرتبطة بصلاة إمامهم لأن الإمام قد تبطل صلاته إذا كان على غي رطهارة وتصح صلاة من خلفه وقد تبطل صلاة المأموم وتصح صلاة الإمام بوجوه أيضا كثيرة فلهذا لم يكن عنده صلاتهما مرتبطة ولا يضر عنده اختلاف نياتهما لأن كلا يحرم لنفسه ويصلى لنفسه ولا يحمل فرضا عن صاحبه فجائز عنده أن يحرم الماموم قبل إمامه وإن كان لا يستحب له ذلك وله على هذا دلائل قد ذكرها هو وأصحابه في كتبهم.
وأما اختلاف الفقهاء في القوم يصلون خلف إمام ناس لجنابته فقال مالك والشافعي وأصحابهما والثوري والأوزاعي لا إعادة عليهم وإنما الإعادة عليه وحده إذا علم اغتسل وصلى كل صلاة صلاها وهو على غير طهارة وروى ذلك عن عمر وعثمان وعلى على اختلاف عنه وعليه أكثر العلماء وحسبك بحديث عمر في ذلك فانه صلى بجماعة من الصحابة صلاة الصبح ثم غدا إلى أرضه بالجرف فوجد في ثوبه احتلاما فغسله واغتسل وأعاد صلاته وحده ولم يأمرهم بإعادة وهذا في جماعتهم من غير نكير وقد روى عن عمر أنه أفتى بذلك رواه شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن عمر في جنب صلى بقوم قال يعيد ولا يعيدون قال شعبة وقال حماد أعجب إلى أن يعيدوا وقال أبو بكر الأثرم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن على في الجنب يصلى بالقوم قال يعيد ولا يعيدون قال وسمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول حدثنا هشيم عن خالد بن مسلمة قال أخبرني محمد بن عمرو بن المصطلق أن عثمان بن عفان صلى بالناس صلاة الفجر فلما أصبح وارتفع النهار فإذا هو بأثر الجنابة فقال كبرت والله كبرت والله فأعاد الصلاة ولم يأمرهم أن يعيدوا.
"وسمعت أبا عبد الله يقول يعيد ولا يعيدون وسألت سليمان بن حرب فقال إذا صح لنا عن عمر شيء اتبعناه يعيد ولا يعيدون وذكر عن الحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير مثله وهو قول إسحاق وداود وأبي ثور.
وقال أبو حنيفة وأصحابه عليهم الإعادة لأن صلاتهم مرتبطة بصلاة إمامهم فإذا لم تكن له صلاة لم تكن لهم وروى إيجاب الإعادة على من صلى خلف جنب أو غير متوضئ عن علي بن أبي طالب من حديث عبد الرزاق، عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر عن علي وهو منقطع وفيه عن عمر خبر ضعيف لا يصح وهو قول الشعبي وحماد بن أبي سليمان وذكر الأثرم عن أحمد بن حنبل إذا صلى إمام بقوم وهو على غير وضوء ثم ذكر قبل أن يتم فإنه يعيد ويعيدون ويبتدؤون الصلاة فإن لم يذكر حتى يخلو من صلاته أعاد وحده ولم يعيدوا.
"واختلف مالك والشافعي والمسألة بحالها في الإمام يتمادى في صلاته ذاكرا لجنابته أوذاكرا أنه على غير وضوء أو مبتدئا صلاته كذلك وهو مع ذلك معروف بالإسلام.
فقال مالك وأصحابه : إذا علم الإمام بأنه على غير طهارة وتمادى في صلاته عامدا بطلت صلاة من خلفه لأنه أفسد عليهم.
وقال الشافعي : صلاة القوم جائزة تامة ولا إعادة عليهم لأنهم لم يكلفوا علم ما غاب عنهم وقد صلوا خلف رجل مسلم في علمهم وبهذا قال جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث وإليه ذهب بن نافع صاحب مالك ومن حجة من قال بهذا القول أنه لا فرق بين عمد الإمام ونسيانه في ذلك لأنهم لم يكلفوا علم الغيب في حاله فحالهم في ذلك واحدة وإنما تفسد صلاتهم إذا علموا بأن إمامهم على غير طهارة فتمادوا خلفه فيكونون حينئذ المفسدين على أنفسهم وأما هو فغير مفسد عليهم بما لا يظهر من حاله إليهم لكن حاله في نفسه تختلف فيأثم في عمده إن تمادى بهم ولا إثم عليه إن لم يعلم ذلك وسها عنه.
قال أبو عمر : قد أوضحنا والحمد لله القول بأن حديث هذا الباب لا يصح الاحتجاج به في جواز صلاة من صلى خلف إمام على غير طهارة على مذهب مالك وأن أصل مذهبه في هذه المسألة فعل عمر رضى الله عنه في جماعة الصحابة لم ينكره عليه ولا خالفه فيه واحد منهم وقد كانوا يخالفونه في أقل من هذا مما يحتمل التأويل فكيف بمثل هذا الأصل الجسيم والحكم العظيم وفي تسليمهم ذلك لعمر وإجماعهم عليه ما تسكن القلوب في ذلك إليه لأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيستحيل عليهم إضافة إقرار ما لا يرضونه إليهم.
وأما الشافعي فإنه جعل حديث هذا الباب أصلا في جواز صلاة القوم خلف الإمام الجنب وأردفه بفعل عمر وفتوى علي وقد تقدم ذكرنا لذلك في هذا الباب والذي تحصل عليه مذهب مالك عند أصحابه في هذا الباب في إمام أحرم بقوم فذكر أنه جنب أو على غير وضوء أنه يخرج ويقدم رجلا فإن خرج ولم يقدم أحد ا قدموا لأنفسهم من يتم بهم صلاتهم فإن لم يفعلوا وصلوا أفذاذا أجزأتهم صلاتهم فإن انتظروه ولم يقدموا أحداً لم تفسد صلاتهم.
وقال يحيى بن يحيى عن ابن نافع إذا انصرف ولم يقدم وأشار إليهم أن امكثوا كان حقا عليهم أن لا يقدموا أحداً حتى يرجع فيتم بهم.
قال أبو عمر : أما قول من قال من أصحاب مالك أن القوم في هذه المسألة ينتظرون إمامهم حتى يرجع فيتم بهم فليس بشيء وإنما وجهه حتى يرجع فيبتدئ بهم لا يتم بهم على أصل مالك لأن إحرام الإمام لا يجتزأ به بإجماع من العلماء لأنه فعله على غير طهور وذلك باطل وإذا لم يجتزئ به استأنف إحرامه إذا انصرف وإذا استأنفه لزمهم مثل ذلك عند مالك ليكون إحرامهم بعد إحرام إمامهم وإلا فصلاتهم فاسدة لقوله ﷺ في الإمام : "إذا كبر فكبروا " هذا هو عندي في تحصيل مذهبه وبالله التوفيق.
وأما الشافعي فإنه جعل هذا الحديث أصلا في ترك الاستخلاف فقال الاختيار عندي إذا أحدث الإمام حدثا لا تجوز له معه الصلاة من رعاف أو انتقاض وضوء أو غيره أن يصلي القوم فرادى وألا يقدموا أحداً فإن قدموا أو قدم الإمام رجلا منهم فأتم بهم ما بقى من صلاتهم أجزأتهم صلاتهم وكذلك لو أحدث الإمام الثاني والثالث والرابع.
قال الشافعي : ولو أن إماماً كبر وقرأ وركع أو لم يركع حتى ذكر أنه على غير طهارة فكان مخرجه ووضوؤه أو غسله قريبا فلا بأس أن يقف الناس في صلاتهم حتى يتوضأ ويرجع فيستأنف ويتمون هم لأنفسهم كما فعل رسول الله ﷺ حين ذكر أنه جنب فانتظره القوم فاستأنف لنفسه لأنه لا يعتد بتكبيرة كبرها وهو جنب فيتم القوم لأنفسهم لأنهم لو أتموا لأنفسهم حين خرج عنهم إمامهم أجزأتهم صلاتهم وجائز عنده أن يقطعوا صلاتهم إذا رابهم شيء من إمامهم فيتمون لأنفسهم على حديث جابر بن عبد الله في قصة معاذ.
قال وإن كان خروج الإمام يتباعد أو طهارته تثقل صلوا لأنفسهم قال ولو أشار إليهم أن ينتظروا أو كلمهم بذلك كلاما جاز ذلك لأنه في غير صلاة فإن انتظروه وكان قريبا فحسن وإن خالفوه فصلوا لأنفسهم، فرادى أو قدموا غيره أجزأتهم صلاتهم قال : والاختيار عندي للمأمومين إذا فسدت على الإمام صلاته أن يبنوا فرادى قال وأحب إلى ألا ينتظروه وليس أحد في هذا كرسول الله ﷺ فإن فعلوا فصلاتهم جائزة على ما وصفنا قال فلو أن إماماً صلى ركعة ثم ذكر أنه جنب فخرج فاغتسل وانتظره القوم فرجع فبنى على الركعة فسدت عليه وعليهم صلاتهم لأنهم يأتمون به عالمين أن صلاته فاسدة فليس له أن يبنى على ركعة صلاها جنبا قال ولو علم بعضهم ولم يعلم بعض فسدت صلاة من علم ذلك منهم.
قال أبو عمر : من أجاز انتظار القوم للإمام إذا أحدث احتج بحديث هذا الباب وفيه ما قد ذكرنا واحتج أيضا بما حدثناه محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة "أن عمر بن الخطاب صلى بالناس فأهوى بيده فأصاب فرجه فأشار إليهم أن كما أنتم فخرج فتوضأ ثم رجع إليهم فأعاد" فاحتج بهذين الخبرين وما كان مثلهما من كره الاستخلاف من العلماء.
وقال أبو بكر الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن رجل أحدث وهو يصلى أيستخلف أم يقول لهم يبتدءون وهو كيف يصنع فقال أما أنا فيعجبني أن يتوضأ ويستقبل قيل له فهم كيف يصنعون فقال أما هم ففيه اختلاف قال أبو بكر ومذهب أبي عبد الله يعنى أحمد بن حنبل رحمه الله أن لا يبنى في الحدث سمعته يقول الحدث أشد والرعاف أسهل.
وقد تابع الشافعي على ترك الاستخلاف داود بن علي وأصحابه فقالوا إذا أحدث الإمام في صلاته صلى القوم أفرادا وأما أهل الكوفة وأكثر أهل المدينة فكلهم يقول بالاستخلاف لمن نابه شيء في صلاته فإن جهل الإمام ولم يستخلف تقدمهم واحد منهم بإذنهم أو بغير إذنهم وأتم بهم وذلك عندهم عمل مستفيض والله أعلم.
إلا أن أبا حنيفة إنما يرى الاستخلاف لمن أحرم وهو طاهر ثم أحدث ولا يرى لإمام جنب أو على غير وضوء إذا ذكر ذلك في صلاته أن يستخلف وليس عنده في هذه المسألة موضع للاستخلاف لأن القوم عنده في غير صلاة كإمامهم سواء على ما ذكرناه من أصله في ذلك.
قال أبو عمر : لا تبين عندي حجة من كره الاستخلاف استدلالا بحديث هذا الباب لأن رسول الله ﷺ ليس في الاستخلاف كغيره ولا يجوز أن يتقدم أحد بين يديه إلا بإذنه وقد قال لهم رسول الله ﷺ : "مكانكم" فلزمهم أن ينتظروه هذا لو صح أنه تركهم في صلاة فكيف وقد قيل إنهم استأنفوا معه فلو صح هذا لبطلت النكتة التي منها نزع من كره الاستخلاف وقد أجمع المسلمون على الاستخلاف فيمن يقيم لهم أمردينهم والصلاة أعظم الدين وفي حديث سهل بن سعد دلالة على جواز الاستخلاف لتأخر أبي بكر وتقدم النبي ﷺ في تلك الصلاة والله أعلم وحسبك ما مضى عليه من ذلك عمل الناس وسنذكر حديث سهل بن سعد في باب أبي حازم إن شاء الله.
قال أبو عمر : قد نزع قوم في جواز بناء المحدث على ما صلى قبل أن يحدث إذا توضأ بهذا الحديث ولا وجه لما نزعوا به في ذلك لأن رسول الله ﷺ لم يبن على تكبيره لما بنى قبل في هذا الباب ولو بنى ما كان فيه حجة أيضا لإجماعهم على أن ذلك غير جائز اليوم لأحد وأنه منسوخ بأن ما عمله المرء من صلاته وهو على غير طهارة لا يعتد به إذ لا صلاة إلا بطهور.
واتفق مالك والشافعي على أن من أحدث في صلاته لم يبن على ما مضى له منها ويستأنفها إذا توضأ وكذلك اتفقا على أنه لا يبنى أحد في القىء كما لا يبنى في شيء من الأحداث.
واختلفا في بناء الراعف فقال الشافعي في القديم يبني الراعف وانصرف عن ذلك في الجديد وقال مالك إذا رعف في أول صلاته ولم يدرك ركعة بسجدتها فلا يبنى ولكنه ينصرف فيغسل عنه الدم ويرجع فيعيد الإقامة والتكبير والقراءة ولا يبنى عنده إلا من أدرك ركعة كاملة من صلاته فإذا كان ذلك ثم رعف خرج فغسل الدم عنه وبنى على ما مضى وصلى حيث شاء إلا في الجمعة فإنه لا يبنى فيها إذا أدرك ركعة منها ثم رعف إلا في المسجد الجامع وإذا كان الراعف إماماً فلا يعود إمام في تلك الصلاة أبداً ولا يتم صلاته إلا مأموما أو فذا هذا تحصيل مذهبه عند جميع أصحابه،
وقد روى عنه أنه قال لولا أني أكره خلاف من مضى ما رأيت أن يبنى الراعف ورأيت أن يتكلم ويستأنف قال وهو أحب إلى وقد روى عنه انه قال ان الفذ لا يبنى في الرعاف.
وأما الشافعي فقال : لا يبنى الراعف إذا استدبر القبلة لغسل الدم عنه وكل من استدبر القبلة عنده وهو عالم بأنه في صلاة لم يجز له البناء وكان عليه الاستيناف أبدا والذي يسهو فيسلم من ركعتين ويخرج وهو يظن أنه قد أكمل صلاته وأنه ليس في صلاة فإن هذا يبنى عنده ما لم يتكلم أو يحدث أو يطول أمره على حديث ذي اليدين وسنذكر أقاويل العلماء في معنى حديث ذي اليدين في باب أيوب إن شاء الله.
وقول ابن شبرمة في هذا كقول مالك والشافعي لا يبنى أحد في الحدث ولكنه ينصرف فيتوضأ ويستقبل وان كان إمام استخلف وقال الأوزاعي ان كان حدثه من قيء أو ريح توضأ واستقبل وان كان من رعاف توضأ وبنى وكذلك الدم غير الرعاف والرعاف عنده حدث ينقض الوضوء وقال الثوري إذا كان حدثه من رعاف أو قيء توضأ وبنى وان كان حدثه من بول أو ريح أوضحك أعاد الوضوء والصلاة وقال ابن شهاب القيء والرعاف سواء يتوضأ ثم يتم على ما بقى من صلاته ما لم يتكلم وقد روى عن ابن شهاب في الإمام يرى بثوبه دما أو رعف أو يجد حدثا أنه ينصرف ويقول للقوم أتموا صلاتكم ويصلى كل إنسان لنفسه رواه الزبيدي عنه وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى يبنى في الأحداث كلها إذا سبقته في الصلاة والقيء والرعاف عند أبي حنيفة وأصحابه حدث كسائر الأحداث وهو قول جمهور سلف أهل العراق ينقض الرعاف والقيء وكل ما خرج من الجسد من دم أو نجاسة عندهم الطهارة كسائر الأحداث قياسا عند أبي حنيفة وأصحابه على المستحاضة لأنهم أثبتوا "أن رسول الله ﷺ أمرها بالوضوء لكل صلاة" فالراعف عندهم ينصرف فيتوضأ ويبنى على ما صلى على حسب ما ذكرنا من أصلهم في بناء المحدث وهم يقولون أن الراعف لو أحدث بعد انصرافه توضأ واستأنف ولم يبن وإنما يبنى عندهم من أحدث في الصلاة وحسبك بمثل هذا ضعفا في النظر ولا يصح به خبر والحجج للفرق في هذا الباب تطول جدا وتكثر وفي بعضها تشعيب وإنما ذكرنا ها هنا ما للعلماء في تأويل حديث هذا الباب من المذاهب وأصول الأحكام والحمد لله.
والحجة عندنا ألا وضوء على الرعاف والقيء أن المتوضئ بإجماع لا ينتقض وضوؤه باختلاف إلا أن يكون هناك سنة يجب المصير إليها وهي معدومة ها هنا وبالله توفقنا وسنذكر أحكام المستحاضة في باب نافع من هذا الكتاب إن شاء الله.
حديث رابع لإسماعيل بن أبي حكيم مرسل
مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه بلغه أن رسول الله ﷺ سمع امرأة تصلي من الليل فقال : "من هذه؟ فقيل : الحولاء بنت تويت لا تنام الليل فكره ذلك رسول الله ﷺ حتى عرفنا الكراهة في وجهه ثم قال إن الله لا يمل حتى تملوا اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة".
قال أبو عمر : هذا حديث منقطع من رواية إسماعيل بن أبي حكيم وقد يتصل معنى ولفظا عن النبي ﷺ من حديث مالك وغيره من طرق صحاح ثابتة والحولاء هذه امرأة من قريش من بني أسد بن عبد العزى وهي الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي حدثني أبو القاسم خلف بن القاسم الحافظ رحمه الله قال أخبر ني بن أبي العقب وأبو الميمون البجلي جميعا بدمشق قالا حدثنا أبو زرعة قال حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان قال أخبرنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال قال عروة أخبرتني عائشة أن الحولاء بنت تويت بن أسد بن عبد العزى مرت بها وعندها رسول الله ﷺ قالت فقلت يا رسول الله هذه الحولاء بنت تويت قالوا إنها لا تنام الليل، فقال رسول الله ﷺ : "لا تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا" ، وذكره البزار قال حدثنا زيد بن أخزم الطائي قال حدثنا عثمان بن عمر قال حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة مثله بمعناه وأما حديث مالك في ذلك فرواه القعنبي عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت كانت عندي امرأة من بني أسد بن عبد العزى فدخل النبي ﷺ فقال : "من هذه؟ فقلت له هذه فلانة لا تنام الليل تذكر من صلاتها فقال رسول الله ﷺ : "مه عليكم بما تطيقون من الأعمال فوالله لا يمل الله حتى تملوا".
حدثناه عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا الحسن بن الخضر قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد قال حدثنا القعنبي عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فذكره وبه عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان أحب الأعمال إلى رسول الله ﷺ الذي يدوم عليه صاحبه وروى الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال : "خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" هكذا حدث به عبد الحميد بن حبيب عن الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة وهو عندي حديث آخر ليس حديث الزهري عن عروة عن عائشة إلا أنه اختلف فيه على الأوزاعي
حدثنيه محمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد الحميد بن حبيب قال حدثنا الأوزاعي قال حدثنا الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة فذكر الحديث عن النبي ﷺ وفيه قالت عائشة كان أحب الصلاة إلى رسول الله ﷺ ما ديم عليها وان قلت قالت وكان إذا صلى صلاة داوم عليها قال أبو سلمة إن الله يقول : {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج : 23] .
أخبرنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن الفضل حدثنا أبو الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي قال أخبرنا أبو علي محمود بن خالد الدمشقي السلمي قال حدثنا محمد بن يوسف الفريابي عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ : "خذوا من العمل قدر ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" قالت : "وكان أحب الصلاة إلى رسول الله ﷺ ما داوم عليه العبد وإن قلت، قالت : وكان رسول الله ﷺ إذا صلى صلاة داوم عليها" ثم قرأ أبو سلمة {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج : 23] .
وقد روى حديث الحولاء هذا متصلا مسندا من حديث إسماعيل بن أبي حكيم ذكره العقيلي أبو جعفر رحمه الله قال حدثنا أحمد بن إبراهيم البغدادي قال حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمى قال أخبرنا حميد بن الأسود عن الضحاك بن عثمان عن إسماعيل بن أبي حكيم عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال : " ما تصورت في هذه الليلة إلا سمعت صوتا قلت يا رسول الله تلك الحولاء بنت تويت لا تنام إذا نام الناس قال : "عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" أخبرناه عبد الله بن محمد بن يوسف إجازة قال أخبرنا يوسف بن أحمد إجازة عن العقيلي أبي جعفر محمد بن عمرو بن موسى المكي.
قال أبو عمر : قوله إن الله لا يمل حتى تملوا معناه عند أهل العلم إن الله لا يمل من الثواب والعطاء على العمل حتى تملوا أنتم ولا يسأم من إفضاله عليكم إلا بسآمتكم عن العمل له وانتم متى تكلفتم من العبادة ما لا تطيقون لحقكم الملل وأدرككم الضعف والسآمة وانقطع عملكم فانقطع عنكم الثواب لانقطاع العمل يحضهم ﷺ على القليل الدائم ويخبرهم أن النفوس لا تحتمل الإسراف عليها وان الملل سبب إلى قطع العمل.
ومن هذا حديث بن مسعود قال كان النبي ﷺ يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا ومنه قوله عليه السلام : "لا تشادوا الدين فإنه من يغالب الدين يغلبه الدين" ومنه الحديث : "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا يقطع أرضا ولا يبقى ظهرا " وقال ﷺ لعبدالله بن عمرو وكان يصوم النهار ويقوم الليل : "لا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك نفهت نفسك" يعنى أعيت وكلت يقال للمعى منفه ونافه وجمع نافه نفه كذلك فسره أبو عبيد عن أبي عبيدة وأبي عمرو قال وقال الأصمعي الإيغال السير الشديد وأما الوغول فهو الدخول وقد جعل مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله الغلو في أعمال البر سيئة والتقصير سيئة فقال الحسنة بين سيئتين وأما لفظه في قوله ان الله لا يمل حتى تملوا فلفظ مخرج على مثال لفظ ومعلوم أن الله عز وجل لا يمل سواء مل الناس أو لم يملوا ولا يدخله ملال في شيء من الأشياء جل وتعالى علوا كبيرا وإنما جاء لفظ هذا الحديث على المعروف من لغة العرب بانهم كانوا إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ وقبالته جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وان كان مخالفا له في معناه ألا ترى إلى قوله عز وجل : {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى : من الآية40] وقوله : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة : من الآية194] والجزاء لا يكون سيئة والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق وجب ومثل ذلك قول الله تبارك وتعالى { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران : 54] وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة : 14-15] وقوله : {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق : 15-16] وليس من الله عز وجل هزؤ ولا مكر ولا كيد إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم فذكر الجزاء بمثل لفظ الابتداء لما وضع بحذائه وكذلك قوله ﷺ : "إن الله لا يمل حتى تملوا" أي أن من مل من عمل يعمله قطع عنه جزاؤه فاخرج لفظ قطع الجزاء بلفظ الملال إذ كان بحذائه وجوابا له روى عن ابن عباس أنه قال : "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" حدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال أخبرنا شعبة عن حصين عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال : "لكل عامل فترة ولكل فترة شرة فمن كانت فترته إلى سنتى فقد أفلح" وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن حصين عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ : "إن لكل عمل شرها ولكل شره فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" هكذا قال جعل من موضع الفترة الشره فقلب والأول أولى على ما في حديث شعبة والله أعلم وكلا الوجهين خارج معناه والشره الحرص والشره والشرهان الحريص حدثنا أحمد بن عمر قال حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا محمد بن إسحاق السجسجي قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه قال : "أفضل العبادة أخفها".
قال أبو عمر : يريد أخفها على القلوب وأحبها إلى النفوس فإن ذلك أحرى أن يدوم عليه صاحبه حتى يصير له عادة وخلقا.
وقد كان بعض العلماء يروى هذا الحديث " أفضل العيادة أخفها" يريد عيادة المرضى فمن رواه على هذا الوجه فلا مدخل له في هذا الباب ولا خلاف بين العلماء والحكماء أن السنة في العيادة التخفيف إلا أن يكون المريض يدعو الصديق إلى الأنس به وسيأتي ذكر العيادة والقول فيها في باب بلاغات مالك إن شاء الله عز وجل.
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري
يكنى أبا نجيح وقيل يكنى أبا محمد وقيل أبا يحيى من تابعي أهل المدينة من صغارهم لقي أنس بن مالك وهو ثقة حجة فيما نقل وأبوه عبد الله بن أبي طلحة ولد بالمدينة في حياة النبي ﷺ قال أنس فغدوت به إلى النبي ﷺ ليحنكه فوافيته وبيده الميسم يسم إبل الصدقة.
قال أبو عمر : اسم جده أبي طلحة زيد بن سهل من كبار الصحابة قد ذكرناه وذكرنا طرفا من أخباره في كتابنا كتاب الصحابة ورفعنا هناك في نسبه.
وأم إسحاق بثينة ابنة رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان الزرفى الأنصاري روى عن عبد الله بن أبي طلحة ابنه إسحاق وروى عنه ابن شهاب أيضا وروى عن إسحاق جماعة من الأيمة منهم يحيى بن أبي كثير ومالك بن أنس والأوزاعي وحماد بن سلمة وهمام بن يحيى.
ولإسحاق إخوة جماعة وهم عمرو وعمر وعبد الله ويعقوب و إسماعيل بنو عبد الله بن أبي طلحة كلهم قد روى عنهم العلم وإسحاق هذا أرفعهم وأعلمهم وأثبتهم رواية.
قال الواقدي كان مالك بن أنس لا يقدم على إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة في الحديث أحداً وتوفى إسحاق بالمدينة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقيل كانت وفاته سنة أربع وثلاثين ومائة.
لمالك عنه في الموطأ من حديث النبي ﷺ خمسة عشر حديثا منها عن أنس عشرة وعن رافع بن إسحاق حديثان وعن زفر بن صعصعة حديث واحد وعن أبي مرة حديث واحد وعن حميدة امرأته حديث واحد.
حديث أول لإسحاق عن أنس مسند
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله ﷺ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس فلما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران : من الآية92] قام أبو طلحة فقال يا رسول الله إن الله يقول : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت قال فقال رسول الله ﷺ : "بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعله في الأقربين" فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة بين أقاربه وبني عمه.
هكذا قال يحيى وأكثر الرواة عن مالك في هذا الحديث فقسمها أبو طلحة وممن قال ذلك منهم بن القاسم والقعنبي في رواية علي بن عبد العزيز وذكر إسماعيل بن إسحاق هذا الحديث في كتابه المبسوط عن القعنبي بإسناده سواء وقال في آخره فقسمها رسول الله ﷺ في أقاربه وبني عمه.
قال أبو عمر : فأضاف القسمة إلى رسول الله ﷺ وأما قوله : "في أقاربه وبني عمه" فمعلوم أنه أراد أقارب أبي طلحة وبني عمه وذلك محفوظ عند العلماء لا يختلفون في ذلك وأما إضافة القسمة إلى رسول الله ﷺ فهذا وإن كان جائزا في لسان العرب أن يضاف الفعل إلى الآمر به فإن ذلك ليس في رواية أكثر الرواة للموطأ ولا يجيز مثل هذه العبارة أهل الحديث ولكنها رواية من روى ذلك والله أعلم والمعنى فيه بين والحمد لله.
وروى هذا الحديث عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال "لما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جاء أبو طلحة ورسول الله ﷺ على المنبر قال وكانت دار ابن جعفر والدار التي تليها إلى قصر ابن جديلة حوائط لأبي طلحة قال وكان قصر ابن جديلة حائطا لأبي طلحة يقال لها بيرحاء وكان النبي ﷺ يدخلها ويشرب من مائها ويأكل من ثمرها فجاء أبو طلحة ورسول الله ﷺ على المنبر فقال : "إن الله عز وجل يقول في كتابه : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالى إلى بيرحاء فهي لله ولرسوله أرجو بره وذخره اجعله يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله ﷺ : "بخ ذلك يا أبا طلحة مال رابح قد قبلناه منك ورددناه عليك فاجعله في الأقربين" قال فتصدق به أبو طلحه على ذوى رحمه فكان منهم أبي بن كعب وحسان بن ثابت قال فباع حسان نصيبه من معاوية فقيل له يا حسان تبيع صدقه أبى طلحه فقال ألا أبيع صاعا من تمر بصاع من دراهم.
وذكر الطحاوي حدثنا إبراهيم بن مرزوق حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثنا حميد عن أنس وأبى عن ثمامة عن أنس وهذا لفظ حديثه قال "قال أنس كانت لأبى طلحه أرض فجعلها لله عز وجل فأتى النبي ﷺ فقال اجعلها في فقراء أقاربك فجعلها لحسان وأبي بن كعب قال أنس وكان أقرب إليه مني.
وفي هذا الحديث من الفقه والعلم وجوه فمنها أن الرجل الفاضل العالم قد يضاف إليه حب المال وقد يضيفه هو إلى نفسه وليس في ذلك نقيصة عليه ولا على من أضاف ذلك إليه إذا كان ذلك من وجه حله وما أباح الله منه وكان أبو طلحة من خيار أصحاب النبي ﷺ وقد أخبر الله عز وجل عن الإنسان {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} قال المفسرون الخير هاهنا المال وفيه إباحة اتخاذ الجنات والحوائط وهي التي تعرف عندنا بالمنى في الحواضر وغيرها وفيه إباحة دخول العلماء والفضلاء البساتين وما جانسها من الجنات والكروم وغيرها طلبا للراحة والتفرج والنظر إلى ما يسلي النفس وما يوجب شكر الله عز وجل على نعمه وفيه ما يدل على إباحة كسب العقار وفي ذلك رد لما روى عن ابن مسعود أنه قال لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا وفي كسب رسول الله ﷺ العقار مما أفاء الله عليه من بني النظير وفدك وغيرها وكسب الصحابة رضي الله عنهم من الأنصار والمهاجرين للأرضين والحوائط وكسب التابعين بعدهم بإحسان لذلك أكثر من أن يحصى.
ولا خلاف علمته في أن كسب العقار مباح إذا كان من حله ولم يكن سبب ذل وصغار فإن ابن عمر رضي الله عنه كره كسب أرض الخراج ولم ير شراءها وقال لا تجعل في عنقك صغارا.
وفيه إباحة الشرب من ماء الصديق بغير إذنه وماء الحوائط والجنات والدور عندنا مملوك لأهله لهم المنع منه والتصرف فيه بالبيع وغيره وسنذكر معنى نهيه ﷺ عن بيع الماء وعن بيع فضل الماء في باب أبى الرجال محمد بن عبد الرحمن عند قوله ﷺ : "لا تمنع نفع بئر" إن شاء الله.
وإذا جاز الشرب من ماء الصديق بغير إذنه جاز الأكل من ثماره وطعامه إذا علم أن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسر مؤنته ولما بينهما من المودة وقد قال الله عز وجل : { أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} [النور : من الآية61] ذكر محمد بن ثور عن معمر قال دخلت بيت قتادة فأبصرت رطبا فجعلت آكله فقال ما هذا قلت أبصرت رطبا في بيتك فأكلت قال أحسنت قال الله عز وجل : {أَوْ صَدِيقِكُمْ} وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله : {أَوْ صَدِيقِكُمْ}. قال إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته لم يكن بذلك بأس قال معمر ودخلت بيت قتادة فقلت أأشرب من هذا الجب لجب فيه ماء فقال أنت لنا صديق قال معمر وقال قتادة عن عكرمة قال إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير قال وأخبرنا معمر عن منصور عن أبي وائل قال كنا نغزو فنمر بالثمار فنأكل منها.
قال أبو عمر : هذا على ما قلنا والله أعلم مما يعلم أن صاحبه تطيب به نفسه وكان يسيرا لا يتشاح في مثله وقد كان لهم في سفرهم ضيافة مندوب إليها وقد يكون هذا منها وقد قال رسول الله ﷺ "لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه" وقال : "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه" وسيأتي هذا المعنى ممهدا في باب نافع عن ابن عمر إن شاء الله.
وفيه إباحة استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض بما فضله الله عز وجل في خلقته قال الله عز وجل : {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر : من الآية12] .
وقد روى عن النبي ﷺ أنه كان يستعذب له الماء من بير السقيا وفي هذا المعنى والله أعلم قول أنس في هذا الحديث أن رسول الله ﷺ كان يأتي بيرحاء ويشرب من ماء فيها طيب فوصفه بالطيب.
وفيه استعمال ظاهر الخطاب وعمومه وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من فحوى الخطاب غير ذلك ألا ترى أن أبا طلحة حين سمع { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران : من الآية92] لم يحتج أن يقف حتى يرد عليه البيان عن الشيء الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلك فإنهم يحبون أشياء كثيرة وفي بدار أبي طلحة إلى استعمال ما وقع عليه معنى حبه في الإنفاق منه دليل على استعماله معنى العموم وما احتمل الاسم الظاهر منه في أقل ذلك أو أكثره.
وفي هذا رد على من أبى من استعمال العموم لاحتماله التخصيص وهذا أصل من أصول الفقه كبير خالف فيه أهل الكوفة أهل الحجاز وهو مذكور في كتب الأصول بحججه ووجوهه والحمد لله.
والاستدلال على ذلك بأن أبا طلحة بدر مما يحب إلى حائطه فأنفقه وجعله صدقة لله استدلال صحيح وكذلك فعل زيد بن حارثة بدر مما يحب إلى فرس له فجعلها صدقة لأن ذلك كله داخل تحت عموم الآية.
ذكر أسد بن موسى قال حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا محمد بن المنكدر قال لما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قال زيد بن حارثة اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلى من فرسي هذا وكان له فرس يقال له سبل فجاء به إلى النبي ﷺ فقال هذا في سبيل الله فقال لأسامة بن زيد أقبضه فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه فقال رسول الله ﷺ : "إن الله قد قبلها منك".
ورواه حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن المنكدر مثله وذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا إسحاق بن منصور بن حيان قال حدثنا عاصم بن محمد عن أبيه قال دخل عبد الله بن عمر على صفية بنت أبي عبيد فقال لها أشعرت أني أعطيت بنافع ألف دينار أعطاني به عبد الله بن جعفر قالت فما تنتظر أن تبيع قال فهلا خير من ذلك قالت وما هو قال هو حر لوجه الله قال أظنه تأول قول الله عز وجل : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}.
وروينا عن الثوري أنه بلغه أن أم ولد الربيع بن خشم قالت كان إذا جاء السائل يقول لي يا فلانة أعطى السائل سكرا فإن الربيع يحب السكر قال سفيان يتأول {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} حدثناه خلف بن أحمد قال حدثنا أحمد بن سعيد وأحمد بن مطرف قالا حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل قال حدثنا المؤمل قال حدثنا سفيان فذكره.
وقال الحسن رحمه الله إنكم لا تنالون مما تحبون إلا بترك ما تشتهون ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون.
وفيه أن لفظ الصدقة يخرج الشيء المتصدق به عن ملك الذي يملكه قبل أن يتصدق به فإن أخرجها إلى مالك وملكه إياها استغنى بهذه اللفظة عن غيرها ولم يكن له الرجوع في شيء منها لأن لفظ الصدقة يدل على أنه أراد الله بها معطيها لما وعد الله ورسوله على الصدقة من جزيل الثواب وما أريد به الله فلا رجوع فيه وهذا مما أجمع المسلمون عليه.
وفي هذا حجة لمالك في إجازته للموهوب له والمتصدق عليه المطالبة بالصدقة وإن لم يحزها حتى يحوزها وتصح له ما دام المتصدق حيا وإن لم تقبض وغيره لا يجعل اللفظ بالصدقة ولا بالهبة شيئا سواء كان لمعين ولا لغير معين حتى تقبض وليس للموهوب له عندهم ولا للمتصدق عليه أن يطالب واهبها بإخراجها إليه ولا يوجب عندهم لفظ الصدقة أو الهبة من غير قبض حكما.
وممن ذهب إلى هذا الشافعي وأبو حنيفة والثوري وسنذكر اختلافهم في هذا المعنى وما شاكله من معاني الهبات في باب ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان بن بشير إن شاء الله ونبين وجوه أقاويلهم واعتلالهم لمذاهبهم هناك بحول الله وعونه لا شريك له.
وفي هذا الحديث دليل على أن الكلام قد أوجب حكما أقله المطالبة على ما قال مالك للمعين الموهوب له ومن طريق القياس لولا الكلام المتقدم ما كان القبض يدري ما هو وبالله التوفيق.
فإذا قال المتصدق مالي هذا صدقة لله عز وجل ولم يملكه أحداً جاز للإمام أن يصرفه في أي سبيل من سبل الله شاء غير أن الأفضل من ذلك أولى هذا إذا لم يبن مراد المتصدق فإن بان مراده لم يتعد ذلك الوجه.
وفيه أن الصدقة على الأقارب من أفضل أعمال البر لأن رسول الله ﷺ لم يشر بذلك على أبي طلحة إلا وهو قد اختار ذلك له ولا يختار له إلا الأفضل لا محالة ومعلوم أن العتق من أفضل أعمال البر وقد فضل رسول الله ﷺ الصدقة على الأقارب على العتق.
حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا هناد بن السرى عن عبدة عن ابن إسحاق عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن ميمونة قالت كانت لي جارية فأعتقتها فدخل على رسول الله ﷺ فأخبرته فقال : "أجرك الله أما إنك لوأعطيتها إخوانك كان أعظم لأجرك" وروى مالك هذا الحديث عن ابن أبي صعصعة لقريب من هذا المعنى وقد ذكرناه في موضعه من كتابنا هذا.
وقد قال رسول الله ﷺ لزينب الثقفية زوجة بن مسعود وزينب الأنصارية حين أتتاه تسألانه عن النفقة على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما هل يجزى ذلك عنهما من الصدقة فقال رسول الله ﷺ : "لكما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة" ، وروى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه قالت قال رسول الله ﷺ : "إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" قيل في تأويل الكاشح ها هنا القريب وقيل المبغض المعادي فإنه طوى كشحه على بغضه وعداوته وهو الصحيح والله أعلم.
وفيه إجازة تولى المتصدق قسم صدقته وذلك عند أصحاب مالك إذا كان منه إخراجا لها عن ملكه ويده وتمليكا لغيره.
وفيه رد على من كره أكل الصدقة التطوع للغني من غير مسئلة لأن أقارب أبي طلحة الذين قسم عليهم صدقته تلك لم يبن لنا أنهم فقراء،
ممن يحل لهم أخذ الصدقة المفروضة وقد ذكر بعض أهل العلم أن أبي بن كعب كان من أيسر أهل المدينة وهو أحد الذين قسم عليهم أبو طلحة صدقته هذه وقد عارضه بعض مخالفيه فزعم أن أبيا كان فقيرا واحتج برواية من روى في هذا الحديث فقسمها أبو طلحة بين فقراء أقاربه وهي لفظة مختلف فيه لا تثبت وعلى أي وجه كان فإن الصدقة التطوع جائز قبولها من غير مسئلة لكل أحد غنيا كان أوفقيرا وإن كان التنزه عنها أفضل عند بعض العلماء وسنبين وجوه هذا المعنى في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا إن شاء الله.
وفيه دليل على صحة ما ذهب إليه فقهاء الحجازيين حيث قالوا فيمن تصدق على رجل أو على قوم بصدقة حبس ذكر فيها أعقابهم أو لم يذكر ولم يجعل لها بعدهم مرجعا مثل أن يقول على المساكين أو على ما لا يعدم وجوده من صفات البر فماتوا وانقرضوا أنها ترجع حبسا على أقرب الناس بالمحبس يوم ترجع لا يوم حبس ألا ترى أن أبا طلحة إذ جعل حائطه ذاك صدقة لله ولم يذكر وجها من الوجوه التي يتقرب بها إلى الله عز وجل أمره رسول الله ﷺ أن يجعلها في أقاربه فكذلك كل صدقة لا يجعل لها وجه ولا يذكر لها مرجع تصرف على أقارب المتصدق بدليل هذا الحديث وهذا عند مالك فيما لم يرد به صاحبه حياة المتصدق عليه فإنه إذا أراد ذلك فهي عنده العمرى ومذهبه في العمرى أنها على ملك صاحبها ترجع إليه عند انقضاء عمر المعمر أو إلى ورثته ميراثا وسنذكر قوله وقول غيره في العمرى عند ذكر الحديث فيها في باب ابن شهاب من كتابنا هذا ونبين وجوه ذلك إن شاء الله عز وجل.
وقد اختلف قول مالك فيمن قال هذا الدار أو هذا الشيء حبس على فلان أو على قوم ولم يعقبهم ولا جعل لها مرجعا إلى المساكين ونحوهم فمرة قال ترجع ملكا إلى ربها إذا هلك المحبس عليه كالعمرى ومرة قال لا ترجع إليه أبدا وهو تحصيل مذهبه عند أهل المغرب من أصحابه وحكوا عنه نصوصا فيمن حبس حبسا على نفر ما عاشوا فانقرضوا فالحبس راجع إلى عصبة المحبس حبسا ولا يرجع إلى من حبسه وإن كان حيا ويدخل النساء في الغلة معهم والسكنى.
ولو تصدق بصدقة حبس على ولده وولد ولده ولم يجعل له مرجعا غير ذلك فانقرض ولده وولد ولده إلا رجل واحد فأراد بيعه فلا سبيل له إلى ذلك فإذا انقرض فهو حبس صدقة على عصبة المحبس لا يباع ولا يوهب.
وإذا انقرض أقرب الناس إليه من عصبته فإلى الذين يلونهم فإذا انقرض كل من تمسه به رحم من عصبته رجعت على ما عليه أحباس المسلمين يجتهد الحاكم في وضع غلتها وكرائها بعد صدقتها ولا يباع ولا يورث شيء من العقار إذا أجرى عليه اسم الصدقة الحبس ولفظ الولد في التحبيس يدخل فيه ولد الولد أبدا وكذلك لفظ البنات يدخل فيه بنات البنين أبدا إذا اجتمعوا ولا يفضل الاعيان إلا على قدر الحاجة وليس ولد البنات من العقب ولا من الولد إذ ليسوا من العصبات هذا كله تحصيل مذهب مالك وأصحابه إلا أن عن بعض البغداديين المالكيين خلافا في بعض هذا والحمد لله.
قال أحمد بن المعدل قيل لمالك فلو قال في صدقته هذا حبس على فلان هل تكون بذلك محبسة قال لا لأنها لمن ليس بمجهول وقد حبسها على فلان فهي عمرى لأنه أخبر أن تحبيسها غير ثابت ولا دائم وأنه إلى غاية قيل فلو قال هي صدقة محبسة وفلان يأخذها ما عاش قال إذا تكون محبسة قال وكذلك لو قال لهم هي صدقة على فلان وهي محبسة.
والألفاظ التي بها ينقطع ملك الشيء عن ربه ولا يعود إليه أبدا عند مالك وأصحابه أن يقول حبس صدقة أو حبس لا يباع أو حبس على أعقاب ومجهولين مثل الفقراء والمساكين أوفي سبيل الله فإن هذا كله عندهم مؤبد لا يرجع ملكا أبدا.
وأما إذا قال سكنى أو عمرى أو حياة المحبس عليه أو إلى أجل من الآجال فإنها ترجع ملكا إلى صاحبها أو إلى ورثته ولا يكون حبسا مؤبدا ومعنى قول مالك في أقرب الناس بالمحبس يريد عصبته.
واختلف قوله وكذلك اختلف أصحابه فيمن يدخل في ذلك من النساء فقال بن القاسم كل من كان من النساء لو كان رجلا كان عصبة وارثا دخل في مرجع الحبس ومن لم يكن منهن كذلك فلا مدخل له فيه وروى كذلك عن مالك وقال ابن القاسم تدخل الأم في مرجع الحبس ولا تدخل الأخوات للأم وقال ابن الماجشون لا يدخل من النساء إلا من يرث فأما عمة أو ابنة عم أو ابنة أخ فلا وروى أشهب عن مالك أن الأم لا تدخل في مرجع الحبس ولهم في هذا الباب اضطراب يطول ذكره.
وأما الشافعي فمذهبه نحو مذهب مالك في مرجع الحبس خاصة قال الشافعي وإذا قال تصدقت بداري على قوم أو على رجل حي معروف يوم تصدق أوقال صدقة محرمة أوقال صدقة موقوفة أوقال صدقة مسبلة فقد خرجت من ملكه فلا تعود ميراثا أبدا.
قال : ولا يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعتها يوم يخرجها إليه وإن لم يسبلها على من بعدهم كانت محرمة أبدا فإذا انقرض المتصدق بها عليه كانت بحالها أبدا ورددناها إلى أقرب الناس بالذي تصدق بها يوم ترجع وهي على شرطه من الأثرة والتقدمة والتسوية بين أهل الغنى والحاجة ومن إخراج من أخرج منها بصفة أو رده إليها بصفة.
قال أبو عمر : قول الشافعي ولا يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعتها معناه عندي أن يكون المحبس عليه موجود العين ليس بحمل فإذا كان كذلك فجائز أن يتولاها له غيره إذا أخرجها المحبس من يده على أن الشافعي يجوز عنده في الأوقاف من ترك القبض ما لا يجوز في الهبات والصدقات المملوكات لأن الوقف عنده يجرى مجرى العتق يتم بالكلام دون القبض.
قال ويحرم على الموقف ملكه كما يحرم عليه ملك رقبة العبد إذا أعتقه إلا أنه جائز له أن يتولى صدقته وتكون بيده ليفرقها ويسبلها فيما أخرجها فيه لأن عمر بن الخطاب لم يزل يلي صدقته فيما بلغنا حتى قبضه الله قال وكذلك علي وفاطمة كانا يليان صدقاتهما.
قال أبو عمر : ليس هكذا مذهب مالك بل مذهبه فيمن حبس أرضا أو دارا أو نخلا على المساكين وكانت في يديه يقوم بها ويكريها ويقسمها في المساكين حتى مات والحبس في يديه إنه ليس بحبس ما لم يحزه غيره وهو ميراث والربع عنده والحوائط والأرض لا ينفذ حبسها ولا يتم حوزها حتى يتولاه غير من حبسه بخلاف الخيل والسلاح هذا تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه.
وأما أحمد بن حنبل فإن عمر بن الحسين الخرقي ذكر عنه قال إذا وقف وقفا ومات الموقف عليه ولم يجعل أخره للمساكين ولم يبق ممن وقف عليه أحد رجع إلى ورثة الواقف في إحد ى الروايتين عنه والرواية الأخرى تكون وقفا على أقرب عصبة الواقف.
وزعم بعض الناس أن في هذا الحديث ردا على أبي حنيفة وزفر في ابطالهما الاحباس وردهما الاوقاف وليس كذلك لأن هذا الحديث ليس فيه بيان الوقف ويحتمل أن تكون صدقة أبي طلحة صدقة تمليك للرقبة بل الأغلب الظاهر من قوله فقسمها أبو طلحة بين أقاربه وبنى عمه أنه قسم رقبتها وملكهم إياها ابتغاء مرضات الله وإذا كان ذلك كذلك فلا خلاف بين أبي حنيفة وزفر وسائر العلماء في جواز هذه الصدقة إذا حل المتصدق عليه فيها محل المتصدق كان له أن يبيع وينتفع ويهب ويتصدق ويصنع ما أحب.
وإنما أنكر أبو حنيفة وزفر تحبيس الأصل على التمليك وتسبيل الغلة والثمرة وهي الأحباس المعروفة بالمدينة وفيها تنازع العلماء وأجازها الأكثر منهم وقد قال بجوازها أبو يوسف ومحمد بن الحسن رجع أبو يوسف عن قول أبي حنيفة في ذلك لما حدثه بن علية عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه استأذن رسول الله ﷺ في أن يتصدق بسهمه من خيبر فقال له رسول الله ﷺ : "أحبس الأصل وسبل الثمرة" ، وهو حديث صحيح وبه يحتج كل من أجاز الأحباس.
ذكر عيسى بن أبان قال أخبرت أنه لما بلغ أبا يوسف هذا الحديث عن ابن عون لقي بن علية فسأله عنه فحدثه به عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر أن عمر أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي ﷺ فذكر الحديث.
ومن حجتهم أيضا على جوازها حديث عمرو بن الحارث بن أخي جويرية بنت الحارث زوج النبي عليه السلام أن رسول الله ﷺ مات وتخلف أرضا موقوفة وحديث أبي هريرة وقد ذكرناه في كتاب بيان العلم عن النبي ﷺ أنه قال : "ينقطع عمل المرء بعده إلا من ثلاث صدقة جارية بعده وعلم ينتفع به غيره وولد يدعو له".
فأما حديث بن عون فحدثناه عبد الوارث بن سفيان وأحمد بن قاسم قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحرث بن أبي أسامة قال حدثنا أشهل بن حاتم قال حدثنا بن عون عن نافع عن ابن عمر قال : أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي ﷺ فاستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني به فقال : " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" قال فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث قال فتصدق بها في الفقراء والقرباء وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متأثل أو متمول مالا".
وهذا الحديث يقولون أنه لم يروه عن نافع إلا بن عون وهو ثقة لم يروه مالك ولا غيره إلا أن مالكا قد روى عن زياد بن سعد عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب قال لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله ﷺ واستأمرته أو نحو هذا لرجعت عنها.
قال مالك مخافة أن يعمل الناس بذلك فرارا من الحق ولا يضعونها مواضعها وليس هذا الحديث في أكثر الموطآت عن مالك وممن رواه عنه عبد الله بن يوسف وهذه الصدقة هي صدقة عمر المذكورة في حديث بن عون عن نافع عن ابن عمر والله أعلم.
وفي ابن عون هذا قال الشاعر :
خدوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا أحاديث ابن داب
وأما حديث عمرو بن الحارث فحدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا يوسف بن عدي قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عمرو بن الحارث قال ما ترك رسول الله ﷺ دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا جعلها صدقة في أبناء السبيل.
وحديث أبي هريرة قد ذكرناه من طرق في كتاب العلم فهذه الآثار وما أشبهها مما لا مدخل للتأويل فيها بها احتج من أجاز الأوقاف وأما حديث أنس هذا فمحتمل للتأويل الذي ذكرنا والأغلب فيه عندنا ما وصفنا والاحتجاج به في مرجع الحبس على أقارب المحبس حبسا حسن قوي وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو عمر : كان مني هذا القول قبل أن أرى حديث بن أبي سلمة عن إسحاق عن أنس هذا وفيه فباع حسان نصيبه من معاوية على ما ذكرناه فيما تقدم ملحقا فعاد ما ظننا يقينا والحمد لله
وأما قوله بخ ذلك مال رابح فإنه أراد مال رابح صاحبه ومعطيه فحذف وذلك معروف من كلام العرب يقولون مال رابح ومتجر رابح كما قالوا ليل نائم أي ينام فيه وهكذا رواه يحيى مال رابح من الربح وتابعه على ذلك جماعة ورواه بن وهب وغيره بالياء المنقوطة باثنين من تحتها وقال في تفسيره أنه يروح على صاحبه بالأجر العظيم وحقيقته عند أهل المعرفة باللسان على أنه على النصب أي مال ذو ربح كما يقولون هم ناصب وعيشة راضية أي هم ذو نصب وعيشة ذات رضى وقال الأخفش أصله من الروحة أي هو مال يروح عليك ثمره وخيره متى شئت والأول أولى عندي والله أعلم.
قال أبو عمر : الأقارب الذين قسم أبو طلحة صدقته عليهم حسان بن ثابت وأبي بن كعب أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال حدثنا سليمان بن الأشعث قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال لما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحة يا رسول الله أرى ربنا يسألنا أموالنا وإني أشهدك أني قد جعلت أرضي بيرحا له فقال رسول الله ﷺ : "أجعلها في قرابتك" فقسمها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب.
قال أبو داود وبلغني عن محمد بن عبد الله الأنصاري أنه قال أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل بن أسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار.
وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان في حرام وهو الأب الثالث.
وأبي بن كعب بن قيس بن عتيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار قال الأنصاري بين أبي طلحة وأبي ستة آباء
قال وعمرو بن مالك يجمع حسان وأبي بن كعب وأبا طلحة.
قال أبو عمر : أما حسان فيلقاه أبو طلحة عند أبيه الثالث وأما أبي فيلقاه أبو طلحة عند أبيه السابع.
قال أبو عمر : وفي هذا أيضا ما يقضي على القرابة أنها ما كان في هذا العدد ونحوه وما كان دونه فهو أحرى أن يلحق اسم قرابة.
حديث ثان لإسحاق عن أنس مسند
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال : "رأيت رسول الله ﷺ وحانت صلاة العصر فالتمس الناس وضوءا فلم يجدوه فأتي رسول الله ﷺ بوضوء في إناء فوضع رسول الله ﷺ في ذلك الإناء يده ثم أمر الناس يتوضؤون منه قال أنس فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم".
في هذا الحديث تسمية الشيء باسم ما قرب منه وذلك أنه سمى الماء وضوءا لأنه يقوم به الوضوء ألا ترى إلى قوله فأتى رسول الله ﷺ بوضوء في إناء والوضوء بفتح الواو فعل المتوضئ ومصدر فعله وبضمها الماء.
وفيه إباحة الوضوء من إناء واحد للجماعة يغترفون منه في حين واحد وفيه أنه لا بأس بفضل وضوء الرجل المسلم يتوضأ به وهذا كله في فضل طهور الرجال إجماع من العلماء والحمد لله.
وفيه العلم العظيم من أعلام نبوته صلى الله عليه وهو نبع الماء من بين أصابعه وكم له من هذه صلوات الله وسلامه ورضوانه عليه.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة قال حدثنا ثابت عن أنس قال : "حضرت الصلاة فقام جيران المسجد يتوضؤون وبقي ما بين السبعين إلى الثمانين وكانت منازلهم بعيدة فدعا النبي عليه السلام بمخضب فيه ماء ما هو بملآن فوضع أصابعه فيه وجعل يصب عليهم ويقول توضؤوا حتى توضؤوا كلهم وبقي في المخضب مما كان فيه وهم نحو من السبعين إلى الثمانين" ورواه معمر فزاد فيه ذكر التسمية حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا
الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن زبان قال حدثنا سلمة بن شبيب قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ثابت وقتادة عن أنس قال : "نظر بعض أصحاب رسول الله ﷺ وضوءا فلم يجدوا فقال النبي ﷺ : "ها هنا ماء" قال فرأيت النبي ﷺ وضع يده في الإناء الذي فيه الماء ثم قال : "توضؤوا بسم الله" قال : فرأيت الماء يفور من بين أصابعه والقوم يتوضؤون حتى توضؤوا من آخرهم".
قال ثابت قلت لأنس : كم تراهم كانوا قال نحوا من سبعين وقد روى بن مسعود هذا المعنى بأتم من هذا وأحسن حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : "كنا أصحاب محمد نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا أنا بينا نحن مع رسول الله ﷺ وليس معنا ماء فقال لنا رسول الله ﷺ : "اطلبوا من معه فضل ماء" فأتى بماء فصبه في إناء ثم وضع كفه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه ثم قال حي على الطهور المبارك والبركة من الله قال فشربنا وقال عبد الله وكنا نسمع تسبيح الطعام ونحن نأكل".
وروى جابر في ذلك مثل رواية أنس في أكثر من هذا العدد وفي غير المسجد وذلك مرة أخرى عام الحديبية.
أخبرنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال أخبرنا محمد بن أحمد بن يحيى قال أخبرنا محمد بن أيوب الرقى قال حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا محمد بن جعفر وأبو داود قالا حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال قلت لجابر بن عبد الله كم كنتم يوم الشجرة قال فذكر عطشا " فأتى رسول الله ﷺ بتور فيه ماء فوضع أصابعه فيه وجعل الماء ينبع من بين أصابعه كأنها العيون فشربنا وسقينا وكفانا قال قلت لجابر كم كنتم يومئذ قال ألف وخمسمائة ولو كنا مائة ألف لكفانا".
وقال جرير عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال قلت كم كنتم يومئذ قال ألف وأربعمائة.
قال أبو عمر : الذي أوتى النبي ﷺ من هذه الآية المعجزة أوضح في آيات الأنبياء وأعلامهم مما أعطى موسى عليه السلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا وذلك أن من الحجارة ما يشاهد انفجار الماء منها ولم يشاهد قط أحد من الأدميين يخرج من بين أصابعه الماء غير نبينا ﷺ .
وقد نزع بنحو ما قلت المزني وغيره ومن ذلك حديث أنس وغيره في الطعام الذي أكل من القصعة الواحدة ثمانون رجلا وبقيت بهيأتها.
وحدثنا النعمان بن مقرن إذ زودوا من التمر وهم أربعمائة راكب قال ثم نظرت فإذا به كأنه لم يفقد منه شيء والأحاديث في أعلام نبوته أكثر من أن تحصى وقد جمع قوم كثير كثيرا منها والحمد لله.
ومن أحسنها وكلها حسن ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا بن وضاح قال حدثنا موسى بن معاوية قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن يعلى بن مرة الثقفي عن أبيه قال خرجت مع النبي ﷺ في سفر حتى أتينا منزلا فقال النبي عليه السلام يأمره : " ايت تلك الأشاتين فقل لهما إن رسول الله يأمركما أن تجتمعا ففعلت فأتت كل واحدة منهما إلى صاحبتها قال فخرج فاستتر بهما فقضى حاجته ثم قال : ارجع إليهما فقل لهما يرجعا إلى مكانهما ففعلت ففعلتا".
وروى عن يعلى من وجوه وحدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال حدثنا يوسف بن يزيد قال حدثنا أسد بن موسى قال حدثنا حاتم بن إسماعيل قال حدثنا أبو حزرة يعقوب بن مجاهد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن جابر بن عبد الله قال : "سرنا مع رسول الله ﷺ في مسير له حتى نزلنا واديا أفيح فانطلق رسول الله ﷺ يقضى حاجته واتبعته فلم ير شيئا يستتر به فنظر فإذا في شاطئ الوادي شجرتان فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كالبعير المحسوس الذي يصانع قائده ثم أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كذلك حتى إذا كان في المنصف مما بينهما لأم بينهما فقال التئما علي بإذن الله قال فالتأمتا قال جابر فخرجت أسرع مخافة أن يحس رسول الله ﷺ بقربي فتبعدت قال فجلست أحدث نفسي ثم حانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله ﷺ مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق فرأيت رسول الله ﷺ وقف وقفة فقال برأسه هكذا عن يمينه ثم قال برأسه هكذا عن يساره ثم أقبل".
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسماعيل بن عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر قال : "خرجت مع رسول الله ﷺ في سفر وكان رسول الله ﷺ لا يأتي البراز حتى يبعد فلا يرى فنزلنا بفلاة من الأرض ليس فيها شجر ولا علم فقال يا جابر اجعل في أداوتك ماء ثم انطلق بنا قال فانطلقنا حتى لا نرى فإذا هو بشجرتين بينهما أربع أدرع فقال يا جابر انطلق إلى هذه الشجرة فقل لها يقول لك رسول الله ﷺ الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما قال ففعلت فرجعت إليها فجلس رسول الله ﷺ خلفهما ثم رجعتا إلى مكانهما فركبنا مع رسول الله ﷺ ورسول الله بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلنا فعرضت لنا امرأة معها صبي لها فقالت يا رسول الله إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم مرارا فوقف لها ثم تناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال اخسأ عدو الله أنا رسول الله اخسأ عدو الله أنا رسول الله ثلاثا ثم دفعه إليها فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا امرأة معها صبيها ومعها كبشان تسوقهما فقالت يا رسول الله أقبل مني هذين فوالذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعد فقال رسول الله ﷺ خذوا منها أحدهما وردوا عليها الآخر ثم سرنا ورسول الله ﷺ كأنما على رؤوسنا الطير تظلنا فإذا جمل ناد حتى إذا كان بين السماطين خر ساجدا فحبس رسول الله ﷺ على الناس وقال من صاحب هذا الجمل فإذا فتية من الأنصار قالوا هو لنا يا رسول الله قال فما شأنه فقالوا استنينا عليه منذ عشرين سنة وكانت به شجيمة فأردنا أن ننحره فنقسمه بين غلماننا فانفلت منا فقال أتبيعوننيه قالوا لا بل هو لك يا رسول الله قال أما لا فأحسنوا إليه حتى يأتيه أجله قال المسلمون عند ذلك نحن أحق يا رسول الله بالسجود لك من البهائم قال لا ينبغي لشيء أن يسجد لشيء ولو كان ذلك كان النساء يسجدن لأزواجهن".
وروى ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عتبة بن أبي عتبة عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العمرة فقال عمر : "خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل ليذهب فيلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن ان رقبته ستنقطع حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا قال نعم
فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فاظلت ثم اسكبت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جازت العسكر".
وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة ذكرنا منها في باب شريك بن أبي نمر في الاستسقاء ما فيه شفاء والحمد لله.
حديث ثالث لإسحاق عن أنس مسند
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : "كان رسول الله ﷺ إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله ﷺ يوما فأطعمته وجلست تفلى رأسه فنام رسول الله ثم أستيقظ وهو يضحك قالت فقلت ما يضحكك يا رسول الله قال ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة يشك إسحاق قالت فقلت يا رسول الله ادع الله يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك قال فقلت يا رسول الله ما يضحكك قال ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة كما قال في الأول قالت فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني الله منهم قال أنت من الأولين قال فركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت".
هكذا روى هذا الحديث جماعة رواة الموطأ فيما علمت جعلوه من مسند أنس بن مالك ورواه بشر بن عمر الزهراني عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام بنت ملحان قالت استيقظ رسول الله ﷺ الحديث جعله من مسند أم حرام هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار.
وأم حرام هذه خالة أنس بن مالك أخت أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك وقد ذكرناهما ونسبناهما وذكرنا أشياء من أخبارهما في كتابنا كتاب الصحابة فأغنى عن ذكره ها هنا وأظنها أرضعت رسول الله ﷺ أو أم سليم أرضعت رسول الله ﷺ فحصلت أم حرام خالة له من الرضاعة فلذلك كانت تفلي رأسه وينام عندها وكذلك كان ينام عند أم سليم وتنال منه ما يجوز لذي المحرم أن يناله من محارمه ولا يشك مسلم أن أم حرام كانت من رسول الله لمحرم فلذلك كان منها ما ذكر في هذا الحديث والله أعلم.
وقد أخبرنا غير واحد من شيوخنا عن أبي محمد الباجي عبد الله بن محمد بن علي أن محمد بن فطيس أخبره عن يحيى بن إبراهيم بن مزين قال إنما استجاز رسول الله ﷺ أن تفلي أم حرام رأسه لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالاته لأن أم عبد المطلب بن هاشم كانت من بني النجار وقال يونس بن عبد الأعلى قال لنا ابن وهب أم حرام إحدى خالات النبي ﷺ من الرضاعة فلهذا كان يقيل عندها وينام في حجرها وتفلي رأسه.
قال أبو عمر : أي ذلك كان فأم حرام محرم من رسول الله ﷺ والدليل على ذلك ما حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا على بن حجر قال أخبرنا هشيم عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله ﷺ : "ألا لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم" ، وروى عمر بن الخطاب عن النبي عليه السلام قال : "لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما" وروى بن عباس أن رسول الله ﷺ قال : "لا يخلون رجل بامرأة إلا أن تكون منه ذات محرم" ، وروى عبد الله بن عمرو بن العاصي أن رسول الله ﷺ قال : "لا يخلون رجل على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان" ، وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال : "إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار أرأيت الحمو قال الحمو الموت".
وهذه آثار ثابتة بالنهي عن ذلك ومحال أن يأتي رسول الله ﷺ ما ينهى عنه.
وفي هذا الحديث أيضا إباحة أكل ما قدمته المرأة إلى ضيفها في بيتها من مالها ومال زوجها لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل وأن يد زوجته فيه عارية وقد اختلف العلماء في هذا المعنى لاختلاف الآثار فيه وأحسن حديث في ذلك وأصحه من جهة النقل ما رواه بن جريج عن ابن أبي مليكة عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت رسول الله ﷺ فقالت يا نبي الله ليس لي شيء إلا ما ادخل على الزبير فهل على جناح أن أرضخ مما يدخل علي فقال : "ارضخي ما استطعت ولا توكي فيوكي الله عليك".
وروى الأعمش ومنصور جميعا عن شفيق أبي وائل عن مسروق عن عائشة قالت : قال رسول الله ﷺ : "إذا أنفقت امرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر بما أنفقت ولزوجها أجر ما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا".
وهذان حديثان صحيحان مشهوران لا يختلف في صحتهما وثبوتهما تركت الإتيان بطرقهما خشية التطويل أخبرنا عبد الرحمن بن مروان قال أخبرنا أبو محمد الحسن بن يحيى بن الحسن القلزمي القاضي في داره بمصر سنة ثمان وستين قال حدثنا أبو غسان عبد الله بن محمد بن يوسف القاضي القلزمي قال حدثنا أحمد بن سعيد الهمذاني قال حدثنا إسحاق بن الفرات عن نافع بن زيد عن ابن الهادي عن مسلم بن الوليد بن رباح عن أبيه عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : "لا يحل لامرأة تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن لرجل في بيتها وهو له كاره وما تصدقت مما كسبه فله أجر نصف صدقة وإنما خلقت المرأة من ضلع فلن يصاحبها إلا وفيها عوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرك إياها فراقها".
وأما الآثار الواردة في الكراهة لذلك فروى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سعيد بن أبي سعيد قال حدثني من سمع النبي ﷺ يقول : "لا تنفقن امرأة من بيتها شيئا إلا بإذن زوجها" فقال رجل من الطعام يا رسول الله؟ قال : "وهل أموالنا إلا الطعام؟".
وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال سمعت أبا أمامة الباهلي يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول في خطبته عام حجة الوداع : "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" ، وذكر الحديث وفيه : "لا تنفق امرأة من بيت زوجها إلا بإذن زوجها" قيل يا رسول الله : ولا الطعام؟ قال : "ذلك أفضل أموالنا". وساق تمام الحديث.
وحدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن ليث عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر قال أتت امرأة النبي ﷺ فقالت : يا نبي الله ما حق الزوج على زوجته قال : "لا تمنعه نفسها ولو كانت على ظهر قتب" فقالت : يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال : "لا تصوم إلا بإذنه إلا الفريضة فإن فعلت أثمت ولم يقبل منها" قالت : يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال : "لا تصدق بشيء من بيته إلا بإذنه قال فإن فعلت كان له الأجر وعليها الوزر" قالت : يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال : "لا تخرج من بيتها إلا بإذنه فإن فعلت لعنتها ملائكة الله وملائكة الرحمة وملائكة الغضب حتى تتوب أو تراجع" قلت : يا رسول الله وإن كان لها ظالما؟ قال : "وإن كان لها ظالما" قالت : والذي بعثك بالحق لا يملك على أمري أحد بعدها أبدا.
فإن كان ما أطعمته أم حرام رسول الله ﷺ من مال زوجها عبادة بن الصامت ولم يكن من مالها ففي هذا الحديث أيضا إباحة أكل مال الصديق بغير إذنه وقد أختلف فيه العلماء إذا كان يسيرا ليس مثله يدخر ولا يتمول ولم يختلفوا في الكثير الذي له بال ويحضر النفس عليه الشح به إنه لا يحل إلا عن طيب نفس من صاحبه.
واختلفوا في تأويل قول الله عز وجل {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} [النور : من الآية61] وقد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم من كتابنا هذا والحمد لله.
ومن أجاز أكل مال الصديق بغير إذنه فإنما أباحه ما لم يتخذ الآكل خبنه ولم يقصد بذلك وقاية ماله وكان تافها يسيرا ونحو هذا.
وأما قوله : "ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله" فإنه أراد والله أعلم أنه رأى الغزاة في البحر من أمته ملوكا على الأسرة في الجنة ورؤياه وحي ﷺ ويشهد لقوله : "ملوكا على الأسرة" ما ذكر الله عز وجل في الجنة بقوله : {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس : من الآية56] قال أهل التفسير الأرائك السرر في الحجال ومثله قوله عز وجل {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وهذا الخبر إنما ورد تنبيها على فضل الجهاد في البحر وترغيبا فيه وفي هذا الحديث أيضا إباحة ركوب البحر في الجهاد وفيه إباحة الجهاد للنساء وقد روى عن أم عطية قالت : "كنا نغزو مع رسول الله ﷺ فنمرض المرضى ونداوي الجرحى وكان يرضخ لنا من الغنيمة".
واختلف الفقهاء في الإسهام للنساء من الغنيمة إذا غزون فقال بن وهب سألت مالكا عن النساء هل يجزين من المغانم في الغزو قال ما علمت ذلك وقد أجاز قوم من أصحابنا أن يرضخ للنساء ما أمكن على ما يراه الإمام وقال الثوري وأبو حنيفة والليث والشافعي وأصحابهم لا يسهم لامرأة ويرضخ لها وقال الأوزاعي يسهم للنساء، وزعم أن رسول الله ﷺ أسهم للنساء بخيبر قال الأوزاعي وأخذ بذلك المسلمون عندنا.
قال أبو عمر : أحسن شيء في هذا الباب ما كتب به بن عباس إلى نجدة الخارجي "إن النساء كن يحضرن فيداوين المرضى ويجزين من الغنيمة ولم يضرب لهن بسهم".
وفيه إباحة ركوب البحر للنساء وقد كان مالك رحمه الله يكره للمرأة الحج في البحر فهو في الجهاد لذلك أكره والله أعلم وقال بعض أصحابنا من أهل البصرة إنماكره ذلك مالك لأن السفن بالحجاز صغار وإن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا فلذلك كره ذلك مالك قال وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس قال والأصل أن الحج فرض على كل من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين نساء كانوا أو رجالا إذا كان الأغلب من الطريق الأمن ولم يخص برا من بحر فإذا كان طريقهم على البحر أو تعذر عليهم طريق البر فذلك لازم لهم مع الاستطاعة.
وفي هذا الحديث ما يدل على ركوب البحر للحج لأنه إذا ركب البحر للجهاد فهو للحج المفروض أولى وأوجب وذكر مالك رحمه الله أن عمر بن الخطاب كان يمنع الناس من ركوب البحر فلم يركبه أحد طول حياته فلما مات استأذن معاوية عثمان في ركوبه فأذن له فلم يزل يركب حتى كان أيام عمر بن عبد العزيز فمنع الناس عمر بن عبد العزيز من ركوبه، ثم ركب بعده إلى الآن وهذا إنما كان من عمر وعمر رضي الله عنهما في التجارة وطلب الدنيا والله أعلم.
وأما في أداء فريضة الحج فلا والسنة قد أباحت ركوبه للجهاد في حديث إسحاق عن أنس وحديث غيره وهي الحجة وفيها الأسوة فركوبه للحج أولى قياسا ونظرا والحمد لله.
ولا خلاف بين أهل العلم أن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن ليث عن نافع عن ابن عمر قال قال عمر : "لا يسئلني الله عن جيش ركبوا البحر أبدا". يعني التغرير.
وفيه التحري في الإتيان بألفاظ النبي ﷺ فقد ذهب إلى هذا جماعة ورخص آخرون في الإتيان بالمعاني وقد أوضحنا هذا المعنى في باب أفردناه له في كتاب جامع العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله وسيأتي من هذا الباب ذكر في مواضع من هذا الكتاب إن شاء الله.
وفيه أن الجهاد تحت راية كل إمام جائز ماض إلى يوم القيامة لأنه ﷺ قد رأى الآخرين ملوكا على الأسرة كما رأى الأولين ولا نهاية للآخرين إلى يوم قيام الساعة قال الله عز وجل : {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة : 49-50] وقال : {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة : 39-40] . وهذا على الأبد.
وفيه فضل لمعاوية رحمه الله إذ جعل من غزا تحت رايته من الأولين ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحي الدليل على ذلك قول إبراهيم عليه السلام : { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات : من الآية102] فأجابه ابنه {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات : من الآية102] وهذا بين واضح وقالت عائشة : "أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح".
وفي فرح رسول الله ﷺ واستبشاره وضحكه بدخول الأجر على أمته بعده سرورا بذلك بيان ما كان عليه رسول الله ﷺ من المناصحة لأمته والمحبة فيهم وفي ذلك دليل على أن من علامة المؤمن سروره لأخيه بما يسر به لنفسه.
وإنما قلنا إن في هذا الحديث دليلا على ركوب البحر للجهاد وغيره للنساء والرجال إلى سائر ما استنبطنا منه لاستيقاظ رسول الله ﷺ وهو يضحك فرحا بذلك فدل على جواز ذلك كله وإباحته وفضله وجعلنا المباح مما يركب فيه البحر قياسا على الغزو فيه.
ويحتمل بدليل هذا الحديث أن يكون الموت في سبيل الله والقتل سواء أو قريبا من السواء في الفضل لأن أم حرام لم تقتل وإنما ماتت من صرعة دابتها وقال لها رسول الله ﷺ أنت من الأولين وإنما قلت أو قريب من السواء لاختلاف الناس في ذلك فمن أهل العلم من جعل الميت في سبيل الله والمقتول سواء واحتج بقول الله عز وجل {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} [الحج : من الآية58] الاثنين جميعا وبقوله تبارك اسمه : {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء : من الآية100] وبقول النبي عليه السلام في حديث عبد الله بن عتيك : "من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله فخر عن دابته فمات أو لدغته حية فمات أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ومن مات قعصا فقد استوجب المئاب".
ويقول فضالة بن عبيد ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ذكر ذلك ابن المبارك عن ابن لهيعة عن سلامان بن عامر عن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني عن فضالة بن عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحد هما أصيب في غزاة بمنجنيق والآخر مات هناك فجلس فضالة عند الميت فقيل له تركت الشهيد ولم تجلس عنده فقال ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ثم تلا قوله عز وجل : {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} [الحج : من الآية58] الآية كلها.
قال أبو عمر رحمه الله : قد ثبت عن رسول الله ﷺ أنه سئل أي الجهاد أفضل فقال : "من أهريق دمه وعقر جواده ولم يخص برا من بحر" رواه أبو ذر وغيره.
وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن محمد بن مسلم ابن عائذ عن عامر بن سعد عن سعد أن رجلا جاء ورسول الله ﷺ يصلى فقال حين انتهى إلى الصف اللهم آتني أفضل ما توتي عبادك الصالحين فلما قضى رسول الله ﷺ صلاته قال : "من المتكلم آنفا؟" قال : أنا يا رسول الله قال : "إذاً يعقر جوادك وتستشهد في سبيل الله".
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عمرو قال قال رجل يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ قال : "من عقر جواده وأهرق دمه" وبهذا الإسناد عن وكيع عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي ﷺ مثله.
وإذا كان من هرق دمه وعقر جواده أفضل الشهداء علم أنه من لم يكن بتلك الصفة فهو مفضول وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب من يسمعه يقول : من قتل في سبيل الله فهو شهيد ويقول لهم : "قولوا من قتل في سبيل الله فهو في الجنة".
قال أبو عمر : لأن شرط الشهادة شديد فمن ذلك ألا يغل ولا يجبن وأن يقتل مقبلاً غير مدبر وأن يباشر الشريك وينفق الكريمة ونحو هذا كما قال معاذ والله أعلم.
وروينا في هذا المعنى عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال : "لا تغل ولا تخف غلولا ولا تؤذ جارا ولا رفيقا ولا ذميا ولا تسب إماما ولا تفر من الزحف" يعني ولك الشهادة إن قتلت.
واختلفوا أيضا في شهيد البحر أهو أفضل أم شهيد البر فقال قوم شهيد البر أفضل واحتجوا بقوله ﷺ : "أفضل الشهداء من عقر جواده وأهرق دمه" وقال آخرون شهيد البحر أفضل والغزو في البحر أفضل واحتجوا بحديث منقطع الإسناد عن النبي ﷺ أنه قال : "من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر فإن غزاة في البحر أفضل من غزوتين في البر وإن شهيد البحر له أجر شهيدي البر وإن أفضل الشهداء عند الله يوم القيامة أصحاب الوكوف" قالوا : يا رسول الله وما أصحاب الوكوف؟ قال : "قوم تكفا بهم مراكبهم في سبيل الله".
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال غزوة في البحر أفضل من عشر غزوات في البر ذكره بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحرث عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال غزوة في البحر أفضل من عشر في البر والمائد فيه كالمتشحط في دمه.
وعن عبد الله بن عمرو أيضا أنه قال : "لأن أغزو في البحر غزوة أحب إلي من أن انفق قنطارا متقبلا في سبيل الله" وإسناده ليس به بأس ذكره بن وهب عن عمرو بن الحرث عن يحيى بن ميمون عن أبي سالم الجيشاني عن عبد الله بن عمرو بن العاصي وذكر بن وهب أيضا، عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن كعب الأحبار أنه قال : "أفضل الشهداء الغريق له أجر شهيدين وإنه يكتب له من الأجر من حين يركبه حتى يرسى كأجر رجل ضربت في الله عنقه فهو يتشحط في دمه".
حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن بكار العيشى حدثنا مروان أخبرنا هلال بن ميمون الزملي عن يعلى بن شداد عن أم حرام عن النبي ﷺ قال : "المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغرق له أجر شهيدين".
قال أبو عمر : قد ذكرنا ما بلغنا في ذلك وروى من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي عليه السلام أنه قال : " لا يركب البحر رجل إلا غازيا أو حاجا أو معتمرا فإن تحت البحر نارا" ، وهو حديث ضعيف مظلم الإسناد لا يصححه أهل العلم بالحديث لأن رواته مجهولون لا يعرفون وحديث أم حرام هذا يرده.
وفيما رواه يعلى بن شداد عن أم حرام كفاية في رده وقد ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن غياث عن ليث عن مجاهد قال لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز وأكثر أهل العلم يجيزون ركوب البحر في طلب الحلال إذا تعذر البر وركب البحر في حين يغلب عليه فيه السكون وفي كل ما أباحه الله ولم يحظره على حديث أم حرام وغيره إلا أنهم يكرهون ركوبه في الاستغزار من طلب الدنيا والاستكثار من جمع المال وبالله التوفيق.
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الأعلى عن يونس عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال : "عجبت لراكب البحر" وقوله في حديث إسحاق في هذا الباب : "يركبون ثبج هذا البحر" يعني ظهر هذا البحر أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا عفان بن مسلم وأخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عفان "ح" وأخبرنا عبيد بن محمد واللفظ لحديثه قال أخبرنا عبد الله بن مسرور قال حدثنا عيسى بن مسكين قال حدثنا محمد بن سنجر قال حدثنا حجاج بن منهال قالا حدثنا سلمة عن يحيى بن سعيد وقالا في حديث عفان قال أخبرنا يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أنس بن مالك عن أم حرام قالت : "بينما رسول الله ﷺ قائلا في بيتي فاستيقظ وهو يضحك فقلت بأبي أنت يا رسول الله مم تضحك قال عرض على ناس من أمتي يركبون ظهر البحر كالملوك على الأسرة فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال اللهم اجعلها منهم ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقلت بأبي أنت يا رسول الله مم تضحك قال عرض على ناس من أمتي يركبون ظهر البحر كالملوك على الأسرة فقلت ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين فغزت مع زوجها عبادة بن الصامت في البحر فلما قفلوا وقصتها بغلة لها فماتت" هكذا في هذا الحديث فغزت مع زوجها عبادة بن الصامت. وروى هذا الحديث عبد الله بن عبد الرحمن عن أنس قال اتكأ رسول الله ﷺ عند بنت ملحان فساق هذا الحديث بنحو ما ذكرنا إلا أنه قال في آخره فنكحت عبادة بن الصامت فركبت مع ابنة قرظة فلما قفلت وقصت بها دابتها فقتلتها فدفنت ثم ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن عبد الله بن عبد الرحمن عن أنس وذكر بن وهب عن حفص بن مسيرة، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار هذا الحديث بمعناه وقال قال عطاء بن يسار فشهدت أنا تلك الغزوة مع المنذر بن الزبير فكانت معه في غزوتنا فماتت بأرض الروم وذكر خليفة بن خياط عن ابن الكلبي قال وفي سنة ثمان وعشرين غزا معاوية بن أبي سفيان في البحر ومعه امرأته فأختة بنت قرظة من بنى عبد مناف ومعه عبادة بن الصامت ومعه امرأته أم حرام بنت ملحان الأنصارية فأتى قبرض فتوفيت أم حرام فقبرها هناك.
قال أبو عمر : لم يختلف أهل السير فيما علمت أن غزاة معاوية هذه المذكورة في حديث هذا الباب إذ غزت معه أم حرام كانت في خلافة عثمان لا في خلافة معاوية قال الزبير بن أبي بكر ركب معاوية البحر غازيا بالمسلمين في خلافة عثمان بن عفان إلى قبرص ومعه أم حرام بنت ملحان زوجة عبادة بن الصامت فركبت بغتلها حين خرجت من السفينة فصرعت عن دابتها فماتت.
حديث رابع لإسحاق عن أنس مسند
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : "كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة الأنصاري وأبي بن كعب شرابا من فضيخ وتمر قال فجاءهم آت فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها فقال فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت".
هذا الحديث وما كان مثله يدخل في المسند عند الجميع فأما قوله فيه شرابا من فضيخ فقد اختلف في الفضيخ فقال أكثر أهل العلم الفضيخ نبيذ البسر وقال أبو عبيد الفضيخ ما افتضخ من البسر، من غير أن تمسه النار قال وفيه روى عن ابن عمر ليس بالفضيخ ولاكنه الفضوخ قال أبو عبيد فإن كان مع البسر تمر فهو الخليطان وكذلك إن كان زبيبا فهو مثله.
قال أبو عمر : في هذا الحديث دليل واضح على أن نبيد التمر إذا أسكر خمر وهو نص لا يجوز الاعتراض عليه لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر بل لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره أخبر ني أحمد بن عبد الله الباجي أن أباه أخبره قال أخبرنا محمد بن فطيس قال أخبرنا يحيى بن إبراهيم قال أخبرنا عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك قال نزل تحريم الخمر وما بالمدينة خمر من عنب وروى شعبة عن محارب بن دينار عن جابر قال حرمت الخمر يوم حرمت وما كان شراب الناس إلا البسر والتمر وقال الحكمي :
لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة
وقد اختلف أهل اللغة في اشتقاق اسم الخمر على ألفاظ قريبة المعاني متداخلة كلها موجودة المعنى في الخمر.
فقال بعضهم إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخمر العقل أي تغطيه وتستره وكل شيء غطى شيئا فقد خمره ومنه حديث أبي حميد الساعدي أنه جاء بقدح من لبن فقال له رسول الله ﷺ : "ألا خمرته ولو أن تعرض عليه عودا" ومن ذلك خمار المرأة سمى خمارا لأنه يغطي رأسها ومن ذلك الشجر الملتف يقال له الخمر لأنه يغطى ما تحته ويخمره.
وقال آخرون منهم إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت كما يقال خمر الرأي واختمر أي ترك حتى تبين فيه الوجه ويقال قد اختمر العجين أي بلغ إدراكه.
وقال بعضهم إنما سميت الخمر خمرا لأنها اشتقت من المخامرة التي هي المخالطة لأنها تخالط العقل وهذا مأخوذ من قولهم دخلت في خمار الناس أي اختلطت بهم وهذا الوجه يقرب من المعنى الأول.
والثلاثة الأوجه كلها موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت الغليان وحد الآسكار وهي مخالطة للعقل وربما غلبت عليه وغطته وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه قال الخمر ما خمرته.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا يوسف بن عدي قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن عمر قال الخمر من خمسة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خمرته.
وقد أجمع علماء المسلمين في كل عصر وبكل مصر فيما بلغنا وصح عندنا أن عصير العنب إذا رمى بالزبد وهدأ وأسكر الكثير منه أو القليل أنه خمر وأنه ما دام على حاله تلك حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير رجس نجس كالبول إلا ما روى عن ربيعة في نقط من الخمر شيء لم أر لذكره وجها لأنه خلاف إجماعهم وقد جاء عنه في مثل رؤوس الإبر من نقط البول نحو ذلك.
والذي عليه عامة العلماء في خمر العنب ما ذكرت لك عنهم من تحريم قليلها وكثيرها وأنها عندهم رجس كسائر النجاسات إلا أن تحريمها عندهم لعلة الشدة والإسكار وليس كذلك تحريم الميتة وما جرى مجراها مما حرم لذاته وعينه ولهذا ما اختلف العلماء في تحليل الخمر وفي طيبها عند زوال العلة المذكورة عنها وسنذكر اختلافهم في تحليل الخمر في آخر هذا الباب إن شاء الله.
وكخمر العنب عندهم نقيع الزبيب إذا غلا وأسكر قليله وكثيره في التحريم سواء لأنه عندهم ميت أحيى.
واختلف العلماء في سائر الأنبذة المسكرة فقال العراقيون إنما الحرام منها السكر وهو فعل الشارب وأما النبيذ في نفسه فليس بحرام ولا نجس لأن الخمر العنب لا غيره بدليل قول الله عز وجل {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف : من الآية36] يعني عنبا.
قال أبو عمر : ليس في هذا دليل على أن الخمر ما عصر من العنب لاغير لما قدمنا ذكره من أن الخمر المعروفة عند العرب ما خمر العقل وخامره وذلك اسم جامع للمسكر من عصير العنب وغيره وقال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز وعامة أهل الحديث وأئمتهم إن كل مسكر خمر حكمه حكم خمر العنب في التحريم والحد على من شرب شيئا من ذلك كله كما هو عند الجميع منهم على شارب خمر العنب.
ومن الحجة لهم أن القرآن قد ورد بتحريم الخمر مطلقا ولم يخص خمر العنب من غيرها فكل ما وقع عليه اسم خمر من الأشربة فهو داخل في التحريم بظاهر الخطاب والدليل على ذلك أن الخمر نزل تحريمها بالمدينة وليس بها شيء من خمر العنب.
قال أبو عمر : لا خلاف بين علماء المسلمين إن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر وهي مدنية من آخر ما نزل بالمدينة وذلك قول الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة : من الآية90] ثم قال : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة : من الآية91] فنهى عنها أمر باجتنابها كما قال {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج : من الآية30]
ثم زجر وأوعد من لم ينته أشد الوعيد في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ وسماها رجسا وقرنها بالميتة والدم ولحم الخنزير بقوله : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً} [الأنعام : من الآية145] والرجس النجاسة وقال في الخمر : {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فقرنها بلحم الخنزير.
وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير خبرا وفي الخمر نهيا وزجرا وهو أقوى التحريم وأوكده عند العلماء وفي إجماع أهل الصلاة على هذا التأويل ما يغني عن الإكثار فيه وقد مضى في باب إسماعيل بن أبي حكيم ذكر معنى التحريم في اللغة وأنه المنع وكل ما منعت منه فقد حرم عليك دليل ذلك قول الله عز وجل : {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص : من الآية12] أي منعناه من رضاع غير أمه وقال الله عز وجل : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة : من الآية219] وقال تبارك اسمه {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ} [لأعراف : من الآية33] الآية.
فحصل بهاتين الآيتين أيضا تحريم الخمر نصا قرأت على سعيد بن نصر فأقر به أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثنا أبو شهاب عن الحسن بن عمرو عن طلحة بن مصرف عن ابن عباس قال لما نزل تحريم الخمر مشى أصحاب النبي ﷺ بعضهم إلى بعض وقالوا حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك.
قال أبو عمر : يعني والله أعلم أنه قرنها وعدلها بالذبح للأنصاب وذلك شرك وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ،
قال حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي قال حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله ﷺ : "من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وإن الله ورسوله حرما الخمر والميسر والكوبة والغبيرا.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة قال حدثني سلمة بن كهيل قال سمعت أبا الحكم قال : سألت ابن عباس عن نبيذ الجر فقال : "نهى رسول الله ﷺ عن نبيذ الجر والدباء" وقال ابن عباس : "من سره أن يحرم ما حرم الله فليحرم النبيذ" وذكر يحيى بن سلام عن شريك عن سماك بن حرب عن عكرمة قال : "ما أحلت الغنيمة لأحد قبلكم ولا حرمت الخمر على قوم قبلكم".
ولما اختلف العلماء فيما تقدم ذكرنا له من مسكر الأنبذة وجب الرجوع عند تنازعهم في ذلك إلى ما ورد به الكتاب أو قام دليله منه أو ثبتت به سنة عن النبي ﷺ وقد ذكرنا ما يوجبه إطلاق اسم الخمر وما يعرفه أهل اللسان من اشتقاقها.
وأما السنة فالآثار الثابتة كلها في هذا الباب تقضى على صحة قول أهل الحجاز وقد روى أهل العراق فيما ذهبوا إليه آثارا لا يصح شيء منها عند أهل العلم بالحديث وقد أكثر الناس في تعليل تلك الأحاديث وفي الاستظهار بتكرير الآثار في تحريم المسكر ونحن نذكر منها في هذا الباب ما يغني ويكفي عن التطويل.
وقد مضى في هذا الباب عن عمر رضي الله عنه أن الخمر من خمسة أشياء وحسبك به عالما باللسان والشرع وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي كثير الغبرى السحيمي واسمه يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة". وفي هذا ما يبين لك أن الخمر من غير العنب رواه عن يحيى جماعة من أصحابه وقد جاء عن النبي ﷺ وعن عمر بن الخطاب أيضا في تأويل الخمر حديثان مبينان موضع الصواب فيما اختلف فيه هما جميعا عند الشعبي أحدهما عن النعمان بن بشير عن النبي ﷺ والآخر عن ابن عمر عن عمر قوله أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال أخبرنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله ﷺ : "إن من العنب خمرا وإن من العسل خمرا وإن من البر خمرا وإن من الشعير خمرا وإن من التمر خمرا" قال أبو داود وحدثنا مالك عن عبد الواحد المسمعى قال حدثنا معتمر قال قرأت على الفضيل عن أبي جرير أن عامرا أخبره أن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : "إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة وإني أنهاكم عن كل مسكر".
حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا أحمد بن عمرو بن سليمان البغدادي قال حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا أبو حيان التيمي قال حدثنا الشعبي عن ابن عمر قال سمعت عمر يخطب على منبر المدينة قال : "يا أيها الناس ألا أنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل".
وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة الصحابة وهم أهل اللسان ولم يفهموا من الخمر إلا المعنى الذي ذكرنا وبالله توفيقنا.
وحدثنا عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا أحمد بن عمرو قال حدثنا البغوي قال حدثنا أحمد بن حنبل وجدي أحمد بن منيع قالا حدثنا عبد الله بن إدريس قال سمعت المختار بن فلفل قال قال أنس : "الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة فما خمرت من ذلك فهو الخمر".
أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن يحيى بن عبد العزيز قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا حجاج قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن صفوان بن محرز قال سمعت أبا موسى الأشعري يخطب فقال خمر المدينة من البسر والتمر وخمر أهل فارس من العنب وخمر أهل اليمن من البتع وهو من العسل وخمر الحبش السكركة، من الذرة وثبت عن النبي عليه السلام أنه قال : "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" وقوله : "كل شراب أسكر فهو حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام".
وأصح شيء في ذلك وأثبته وأشده استقامة في الإسناد حديث مالك وغيره عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله ﷺ سئل عن البتع فقال : "كل شراب أسكر فهو حرام" والبتع شراب العسل لا خلاف في ذلك فدل على أن الخمر المحرمة قد تكون من غير العنب وحديث ابن عمر عن النبي ﷺ في ذلك صحيح ثابت.
حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال حدثنا محمد بن معاوية الأموي قال حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال حدثنا سويد بن نصر قال حدثنا عبد الله بن المبارك عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال : "كل مسكر خمر وكل خمر حرام".
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر التمار قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين قالوا حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ : "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن مات وهو يشرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة".
حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا أحمد بن عمرو بن سليمان البغدادي قال حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا بن جريج قال أخبرني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ : "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا الحسن بن منصور قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ : "كل مسكر حرام وكل مسكر خمر" قال الحسين بن منصور قال أحمد بن حنبل هذا حديث صحيح.
قال أبو عمر : هكذا روى هذا الحديث أبو حازم بن دينار وليث وأبو معشر وإبراهيم الصائغ والأحلج وعبد الواحد بن قيس وأبو الزناد ومحمد بن عجلان وعبيد الله بن عمر العمري كلهم عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ مرفوعا كما رواه أيوب السختياني وموسى بن عقبة وكان عبيد الله بن عمر ربما وقفه وكان يقول أحيانا لا أعلمه إلا عن النبي ﷺ .
ورواه مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفا والحديث ثابت مرفوع لا يضره تقصير من قصر في رفعه لرفع الحفاظ الأثبات له ولاجتماع الجماعة من رواة نافع على رفعه منهم أيوب وموسى وسائر من ذكرنا ومما يدل على صحة رفعه رواية محمد بن عمرو له عن أبي سلمة عن ابن عمر عن النبي عليه السلام مرفوعا وكذلك رواه زيد بن أسلم وعبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا وكذلك رواه جماعة عن سالم عن ابن عمر مرفوعا فكيف يحل لأحد أن يتأول في الأنبذة المسكرة أنها حلال والنبي عليه السلام قد بين أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام نعوذ بالله من الخذلان ومن سلوك سبيل الضلال.
وأخبرنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن بكر قال حدثنا سليمان بن الأشعث قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا إسماعيل يعني ابن جعفر عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله ﷺ : "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن رافع النيسابوري قال حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني قال سمعت النعمان يعني بن المنذر الصنعاني يقول عن طاوس عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال : "كل مخمر خمر وكل مسكر حرام" وذكر تمام الحديث.
وهذه كلها نصوص في موضع الخلاف لمن أراد الله في المسكر أن يهديه ويشرح صدره.
والآثار في تحريم ما أسكر كثيره كثيرة جدا يطول الكتاب بذكرها وقد ذكرها جماعة من العلماء منهم ابن المبارك وغيره وقال أحمد بن شعيب في كتابه إن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي وهذه زلة من عالم وقد حذرنا من زلة العالم ولا حجة في قول أحد مع السنة.
وقد زعمت طائفة أن أبا جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه ذهب إلى إباحة الشرب من المسكر ما لم يسكر وهذا لو صح عنه لم يحتج به على من ذكرنا قولهم من الأئمة المتبعين في تحريم المسكر ما ثبت من السنة وأنا اذكر ما حكاه الطحاوي ليتبين لك أن الأمر ليس كما ظنوا قال أبو جعفر في كتابه الكبير في الاختلاف اتفقت الأمة أن عصير العنب إذ اشتد وغلا وقذف بالزبد فهو خمر ومستحله كافر واختلفوا في نقيع التمر إذا غلا وأسكر قال فهذا يدل على أن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي كثير عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال : "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" غير معمول به عندهم لأنهم لو قبلوا الحديث لكفروا مستحل نقيع التمر فثبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة غير عصير العنب الذي قد اشتد وبلغ أن يسكر قال ثم لا تخلو الخمر من أن يكون التحريم معلقا بها فقط غير مقيس عليها غيرها أو يجب القياس عليها فوجدناهم جميعا قد قاسوا عليها نقيع التمر إذا غلا وأسكر كثيره وكذلك نقيع الزبيب قال فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الأشربة قال وقد روى عن النبي ﷺ أنه قال كل مسكر حرام واستغنى عن ذكر سنده لقبول الجميع له وإنما الخلاف بينهم في تأويله فقال بعضهم أراد به ما يقع السكر عنده كما لا يسمى قاتلا إلا مع وجود القتل وقال آخرون أراد به جنس ما يسكر قال وقد روى أبو عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال : "حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب"، قال في هذا الحديث أن غير الخمر لم يحرم عينه كما حرمت الخمر بعينها هذا آخر قوله وفيما مضى كفاية والحمد لله.
أخبرنا عبد الرحمن بن مروان قال أخبرنا أحمد بن عمرو بن سليمان قال حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن أبي عدي جميعا عن حميد عن أنس قال : "كنت في بيت أبي طلحة وعنده أبي بن كعب وأبو عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء وأنا أسقيهم شرابا حتى إذا أخذ فيهم إذا رجل من المسلمين ينادي إلا أن الخمر قد حرمت فوالله ما انتظروا حتى يعلموا أو يسألوا عن ذلك قال فقالوا يا أنس اكفأ ما في إنائك قال فكفأته قال فما عادوا فيها حتى لقوا الله وشرابهم يومئذ خليط البسر والتمر".
قال أبو عمر : هذا يبين لك أن الفضيخ المذكور في حديث إسحاق عن أنس أنه خليط البسر والتمر وهذا على نحو ما فسره أهل اللغة والله أعلم.
وقد روى هذا الحديث عن أنس جماعة يطول ذكرهم منهم سليمان التيمي وقتادة وعبد العزيز بن صهيب والمختار بن فلفل وثابت البناني وأبو التياح وأبو بكر بن أنس وخالد بن الفزر لم يذكر واحد منهم كسر الجرار إلا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وحده وإنما في حديثهم أنه كفأها ولا بأس بالاستمتاع بظروف الخمر بعد تطهيرها وغسلها بالماء وتنظيفها إلا أن الزقاق التي قد بالغتها الخمر وداخلتها إن عرف أن الغسل لا يبلغ منها مبلغ التطهير لها لم ينتفع بشيء منها.
وفي هذا الحديث أيضا قبول خبر الواحد لأنهم قبلوا خبر المخبر لهم وهو رجل من المسلمين ولا شك أنهم قد عرفوه ولذلك قبلوا خبره وعملوا به وأراقوا شرابهم وقد كان ملكا لهم قبل التحريم.
وفيه أن المحرم لا يحل ملكه وأن الخمر لا يستقر عليها ملك مسلم بحال وفيه أنها كانت مباحة معفوا عنها حتى نزل تحريمها قال سعيد بن جبير رحمه الله كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا، وقد كانت الشدة والإسكار موجودين في الخمر قبل تحريمها ولم يكن ذلك بموجب لتحريمها لأن العلة في التحريم ما من الكتاب والسنة وإنما كانت الشدة وصفا من أوصاف الخمر فلما ورد الشرع بتحريم المسكر صار الإسكار والشدة فيها علما للتحريم بدليل الاعتبار في ذلك وهذا موضع تنازع فيه من نفى القياس ومن أثبته والكلام فيه يطول.
وفي هذا الحديث أيضا ما كان القوم عليه من البدار إلى الطاعة والانتهاء عما نهوا عنه.
وفيه حجة لمن قال إن الخمر لا تخلل لأنه لو جاز تخليلها والانتفاع بها لكان في إراقتها إضاعة المال وقد نهى عن إضاعة المال ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا لمسلم أنه أتلف له مالا وقد أراق عثمان بن أبي العاصي خمر اليتيم وأريقت بين يدي رسول الله ﷺ .
ومن حديث أنس أن أبا طلحة "سأل النبي ﷺ عن أيتام ورثوا خمرا يجعله خلا فكرهه" وروى مجالد بن سعيد عن أبي الوداك جبر بن نوف عن أبي سعيد الخدري قال : كان عندي خمر لأيتام فلما نزل تحريم الخمر أمرنا رسول الله ﷺ أن نهرقها وروى سفيان الثوري عن السدى عن أبي هبيرة واسمه يحيى بن عباد عن أنس بن مالك قال : "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه في حجره يتيم وكان عنده خمر له حين حرمت الخمر فقال يا رسول الله نصنعها خلا قال : لا" وسنذكر آثار هذا الباب بأسانيدها في باب زيد بن أسلم عن أبي وعلة من هذا الكتاب فبهذا احتج من كره تخليل الخمر ولم يبح أكلها إذا تخللت وقالوا لو جاز تخليلها لم يأمر رسول الله بإراقتها وقد استؤذن في تخليلها فقال لا ونهى عن ذلك.
ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي وإليه مال سحنون بن سعيد. وقال آخرون لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي وبغير معالجته على كل حال وهو قول الثوري والأوزاعي والليث بن سعد والكوفيين.
ومن حجة هؤلاء إجماع العلماء على أن العصير من العنب قبل أن يسكر حلال فإذا صار مسكرا حرم لعلة ما حدث فيه من الشدة والإسكار فإذا زال ذلك عادت الإباحة وزال التحريم وسواء تخللت من ذاتها أو تخللت بمعالجة آدمي لا فرق بين شيء من ذلك إذا ذهب منها حال الإسكار.
وأجاز أبو حنيفة وأصحابه مع تخليلها أن يصنع من الخمر المربى وغيره وبأي وجه أفسدت وزالت علة السكر منها طابت عندهم وطهرت وأما غيرهم ممن ذكرنا عنهم إجازة تخليل الخمر فإنهم لا يجيزون منها غير الخل على أصلها.
ولم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخل حلال. واختلف قوله في تخليلها فكرهه مرة وأجازه أخرى والأشهر عنه كراهية ذلك وتحصيل مذهبه أنه لا ينبغي لمسلم أن يمسك خمرا ولا مسكرا ليتخلل ولا ينبغي لأحد أن يخللها فإن فعل أكلها وكره له فعل ذلك وقد روى عن عمر بن الخطاب وقبيصة وابن شهاب وربيعة كراهية تخليل الخمر وإجازة أكلها إذا تخللت بذاتها وهو أحد قولي الشافعي وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه وعلى هذا أكثر العلماء لأنه يجتمع على هذا القول مذهب من أجاز تخليلها بكل وجه فيه ومذهب من أباحها إذا تخللت من ذاتها وقد روى عن ابن عمر جواز تخليل الخمر من وجه فيه لين والصحيح عنه إجازة أكلها إذا صارت خلا ذكر بن أبي شيبة عن وكيع عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسا أن يأكل مما كان خمرا فصار خلا قال وأخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن أبيه عن مسربل العبدي عن أمه قالت سألت عائشة عن خل الخمر قالت لا بأس به هو إدام.
وروى عن علي رضي الله عنه أنه كان يصطبغ في خل خمر وهذا يحتمل أن يكون أراد خل عنب وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا أزهر عن ابن عون عن محمد بن سيرين أنه كان يكره أن يقول خل خمر وكان يقول خل عنب وكان يصطبغ فيه.
وقال رسول الله ﷺ : "نعم الإدام الخل" وهذا على عمومه،
قال أبو عمر : وأعدل شيء في هذا الباب ما روى عن عمر رضي عنه فيه أخبرنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا بن وضاح حدثنا سحنون أخبرنا بن وهب قال أخبر ني بن أبي ذئب عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد عن أسلم مولى عمر بن الخطاب عن عمر بن الخطاب أنه قال : "لا يؤكل خل من خمر أفسدت حتى يبدأ الله إفسادها فعند ذلك يطيب الخل قال : ولا بأس على امرئ أن يبتاع خلا وجده مع أهل الكتاب ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها بعد ما عادت خمرا.
قال ابن وهب وأخبرني يونس عن ابن شهاب أنه كان يقول لا خير في خل من خمر أفسدت حتى يكون الله يفسدها عند ذلك يطيب الخل قال ابن وضاح ورأيت سحنون يذهب إلى أن الخمر إذا خللت لم يؤكل خلها تعمد ذلك أو لم يتعمد.
قال أبو عمر : ليس في النهي عن تخليلها والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا تخللت من ذاتها لأنه يحتمل أن يكون ذلك كان عند نزول تحريمها ليلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها إرادة قطع العادة ولم يسئل عن خمر تخللت فنهى عنها.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم كان مالك بن أنس يقول بقول عمر بن الخطاب لا يؤكل خل من خمر أفسدت حتى يكون الله هو الذي بدأ إفسادها قال محمد وبه أقول قال ثم رجع مالك فقال إن فعل ذلك جاز أكلها على تكره منه قال وقول عمر أحب إلي.
قال أبو عمر : قد ذكرنا قول من زعم أن العلة في تحريمها الشدة فإذا زالت حلت ولكل قول وجه يطول شرحه والاحتجاج له وقد زدنا هذه المسئلة بسطا وبيانا في باب زيد بن أسلم عن أبي وعلة والحمد لله.
حديث خامس لإسحاق عن أنس مسند
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن جدته مليكة "دعت رسول الله ﷺ لطعام صنعته فأكل منه ثم قال رسول الله ﷺ : "قوموا فلأصل لكم" ، قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس فنضحته بالماء فقام عليه رسول الله ﷺ وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين ثم انصرف"
هكذا رواه جماعة رواة الموطأ وزاد فيه إبراهيم بن طهمان وعبد الله بن عون الخراز وموسى بن أعين فأكل منه وأكلت معه ثم دعا بوضوء فتوضأ ثم قال : قم فتوضا ومر العجوز فلتتوضأ ومر اليتيم فليتوضأ ولأصل لكم.
قال أبو عمر : قوله في الحديث إن جدته مليكة مالك يقوله والضمير الذي في جدته هو عائد على إسحاق وهي جدة إسحاق أم أبيه عبد الله بن أبي طلحة وهي أم سليم بنت ملحان زوج أبي طلحة الأنصاري وهي أم أنس بن مالك كانت تحت أبيه مالك بن النضر فولدت له أنس بن مالك والبراء بن مالك ثم خلف عليها أبو طلحة وقد ذكرنا قصتها في كتاب النساء من كتابنا في الصحابة ذكر عبد الرزاق هذا الحديث عن مالك عن إسحاق عن أنس أن جدته مليكة يعني جدة إسحاق دعت النبي عليه السلام لطعام صنعته وساق الحديث بمعنى ما في الموطأ.
وفي هذا الحديث إجابة الدعوة إلى الطعام في غير الوليمة وسيأتي القول والآثار في ذلك في الحديث الذي بعد هذا إن شاء الله.
وفيه أن المرأة المتجالة والمرأة الصالحة إذا دعت إلى طعام أجيبت هذا إن صح أنها لم تكن بذات محرم من رسول الله ﷺ .
وفي قول الله عز وجل : {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور : من الآية60] كفاية.
وفيه من الفقه أيضا أن من حلف ألا يلبس ثوبا ولم تكن له نية ولا كان لكلامه بساط يعلم به مرادة ولم يقصد إلى اللباس المعهود فإنه يحنث بما يتوطأ ويبسط من الثياب لأن ذلك يسمى لباسا ألا ترى إلى قوله : "فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس". حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال أخبرنا الفضيل بن عياض عن هشام عن ابن سيرين قال قلت لعبيدة افتراش الحرير كلبسه قال نعم.
وأما نضح الحصير فإن إسماعيل بن إسحاق وغيره من أصحابنا يقولون إن ذلك إنما كان لتليين الحصير لا لنجاسة فيه والله اعلم وقال بعض أصحابنا إن النضح طهر لما شك فيه لتطييب النفس عليه.
قال أبو عمر : الأصل في ثوب المسلم وفي أرضه وفي جسمه الطهارة حتى يستيقن بالنجاسة فإذا تيقنت وجب غسلها وكذلك الماء أصله أنه محمول على الطهارة حتى يستيقن حلول النجاسة فيه ومعلوم أن النجاسة لا يطهرها النضح وإنما يطهرها الغسل وهذا يدلك على أن الحصير لم ينضح لنجاسة وقد يسمى الغسل في بعض كلام العرب نضحا، ومنه الحديث : "إني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينضح البحر بناحيتها" الحديث فإن كان الحصير نجسا فإنما أريد بذكر النضح الغسل والله أعلم.
ومن قال من أصحابنا أن النضح طهارة لما شك فيه فإنما أخذه من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين احتلم في ثوبه فقال أغسل منه ما رأيت وأنضح ما لم أره ومن قال من أصحابنا إن النضح لا معنى له فهو قول يشهد له النظر والأصول بالصحة وروى عن جماعة من السلف في الثوب النجس إنهم قالوا لايزيده النضح إلا شرا وهو قول صحيح ومن ذهب بحديث عمر إلى قطع الوسوسة وحزازات النفس في نضحه من ثوبه ما لم ير فيه شيئا من النجاسة كان وجها حسنا صحيحا إن شاء الله.
قال الأخفش كل ما وقع عليك من الماء مفرقا فهو نضح ويكون النضح باليد وبالفم أيضا قال وأما النضح بالخاء المنقوطة فكل ماء أتى كثيرا منهمرا ومنه قول الله عز وجل : {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن : 66] أي منهمرتان بالماء الكثير.
وفي هذا الحديث أيضا حجة على أبي حنيفة لأنه يقول إذا كانوا ثلاثة وأرادوا أن يصلوا جماعة قام إمامهم وسطهم ولم يتقدمهم واحتج بحديث بن مسعود وفي هذا الحديث وصففت أنا واليتيم من ورائه والعجوز من ورائنا وقد روى عن جابر بن عبد الله قال صلى رسول الله ﷺ بي وبجبار بن صخر فأقامنا خلفه وإن كان في إسناد حديث جابر هذا من لا تقوم به حجة فحديث أنس من أثبت شيء وعليه عول البخاري وأبو داوود في هذا الباب.
حدثني محمد بن إبراهيم بن سعيد قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عمه أنس بن مالك قال : "صليت أنا ويتيم كان عندنا خلف رسول الله ﷺ وأم سليم أم أنس بن مالك من ورائنا". وفيما أجاز لنا عبيد الله بن محمد بن أحمد بن جعفر السقطي وأخبرناه بعض أصحابنا عنه قال حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار قال حدثنا الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي قال حدثنا عباد بن العوام عن هارون بن عنترة الشيباني عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد عن أبيه وعلقمة "أنهما صليا مع ابن مسعود في بيته أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فلما انصرف قال هكذا صليت مع رسول الله ﷺ " وهذا الحديث لا يصح رفعه والصحيح عندهم فيه التوقيف على بن مسعود أنه كذلك صلى بعلقمة والأسود وحديث أنس أثبت عند أهل العلم بالنقل والله أعلم.
وأما إذا كان الإمام وآخر فإنما يقوم عن يمينه وهذا مجتمع عليه أخبرنا عبيد الله فيما كتب بإجازته إلى قال حدثنا إسماعيل الصفار قال حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا هشيم بن بشير عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : "بت عند خالتي ميمونة بنت الحارث قال فقام النبي ﷺ يصلي من الليل قال فقمت عن يساره أصلي بصلاته فأخذ بذؤابة كانت لي أو براسي فأقامني عن يمينه" وسنذكر هذا الحديث من رواية مالك في باب مخرمة بن سليمان إن شاء الله.
وفيه أيضا حجة على من أبطل صلاة المصلى خلف الصف وحده وكان أحمد بن حنبل والحميدي وأبو ثور يذهبون إلى الفرق بين المرأة والرجل في المصلى خلف الصف الإعادة على من صلى خلف الصف وحده من الرجال بحديث وابصة بن معبد عن النبي عليه السلام بذلك ولا يرون على المرأة إذا صلت خلف الصف شيئا لهذا الحديث قالوا وسنة المرأة أن تقوم خلف الرجال لا تقوم معهم قالوا فليس في حديث أنس هذا حجة لمن أجاز الصلاة للرجل خلف الصف وحده.
قال أبو عمر : في هذا الباب حديث موضوع وضعه إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التيمي عن المسعودي عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ : "المرأة وحدها صف" ، وهذا لا يعرف إلا بإسماعيل هذا وقد استدل الشافعي على جواز صلاة الرجل خلف الصف وحده بحديث أنس هذا وأردفه بحديث أبي بكرة حين ركع خلف الصف وحده فقال له رسول الله ﷺ : "زادك الله حرصا ولا تعد"، ولم يأمر بإعادة الصلاة قال وقوله لأبي بكرة : "ولا تعد" يعني لا تعد أن تتأخر عن الصلاة حتى تفوتك قال وإذا جاز الركوع للرجل خلف الصفوف وحده وأجزأ ذلك عنه فكذلك سائر صلاته لأن الركوع ركن من أركانها فإذا جاز للمصلى أن يركع خلف الصفوف وحده كان له أن يسجد وأن يتم صلاته والله أعلم.
وقد احتج جماعة من أصحابنا بما احتج به الشافعي في هذه المسألة والذي عليه جمهور من الفقهاء كمالك والشافعي والثوري وأبي حنيفة فيمن اتبعهم وسلك سبيلهم إجازة صلاة المنفرد خلف الصف وحده وحديث وابصة مضطرب الإسناد لا يثبته جماعة من أهل الحديث.
وفي هذا الحديث أيضا ما يدل على أن الصبي إذا عقل الصلاة حضرها مع الجماعة ودخل معهم في الصف إذا كان يؤمن منه اللعب والأذى وكان ممن يفهم حدود الصلاة ويعقلها وقد روى عن عمر بن الخطاب إنه كان إذا أبصر صبيا في الصف أخرجه وعن زر بن حبيش وأبي وائل بمثل ذلك وهذا يحتمل أن يكون أنه لم يكن يؤمن لعبه ولهوه أو يكون كره له التقدم في الصف ومنع الشيوخ من موضعه ذلك والأصل ما ذكرناه لحديث هذا الباب والله أعلم.
وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى كراهة ذلك قال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكره أن يقوم الناس في المسجد خلف الإمام إلا من قد احتلم أو أنبت أو بلغ خمس عشرة سنة فقلت له ابن اثنتي عشرة سنة أو نحوها قال ما أدري قلت له فكأنك تكره ما دون هذا السن قال ما أدري فذكرت له حديث أنس واليتيم فقال ذاك في التطوع.
وإذا كان رجلان وامرأة قام الرجل عن يمين الإمام وقامت المراة خلفهما وهذا لا خلاف فيه وبهذا احتج أحمد بن حنبل في أن المراة سنتها أن تقوم خلف الرجال لا تكون معهم في الصف ودفع ما احتج به الشافعي من حديث أنس المذكور في هذا الباب.
حدثني أحمد بن محمد بن أحمد قراءة مني عليه أن أبا على الحسن بن سلمة بن معلى حدثهم قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى القطان عن شعبة عن عبد الله بن المختار عن موسى بن أنس عن أنس قال : "صلى بي النبي ﷺ وبامرأة من أهلي فأقامني عن يمينه والمرأة خلفنا".
وفي هذا الحديث صلاة الضحى ولذلك ساقه مالك رحمه الله وسيأتي القول في صلاة الضحى في باب ابن شهاب إن شاء الله حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال : " كان رجل ضخم لا يستطيع أن يصلي مع النبي ﷺ فقال إني لا أستطيع أن أصلي معك،
فلو أتيت منزلي فصليت فاقتدي بك فصنع الرجل طعاما ثم دعا بالنبي ﷺ ونضح حصيرا لهم فصلى النبي ﷺ ركعتين فقال رجل من آل الجارود لأنس أكان رسول الله ﷺ يصلي الضحى فقال ما رأيته قط صلاها إلا يومئذ".
روى ابن عيينة عن الثوري عن ليث عن شهر بن حوشب عن أبي مالك الأشعري أن النبي عليه السلام كان يصف الرجال ثم الصبيان خلف الرجال ثم النساء خلف الصبيان في الصلاة.
حديث سادس لإسحاق عن أنس مسند
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول : "إن خياطا دعا رسول الله ﷺ لطعام صنعه قال أنس فذهبت مع رسول الله ﷺ إلى ذلك الطعام فقرب إليه خبزا من شعير ومرقاً فيه دباء قال أنس فرأيت رسول الله ﷺ يتتبع الدباء من حول القصعة فلم أزل أحب الدباء بعد ذلك اليوم".
هكذا هذا الحديث في الموطأ عند جميع رواته فيما علمت بهذا الإسناد وزاد بعضهم فيه ذكر القديد وسنذكره في هذا الباب إن شاء الله.
أدخل مالك رحمه الله هذا الحديث في باب الوليمة للعرس ويشبه أن يكون وصل إليه من ذلك علم وقد روى عنه نحو هذا وليس في ظاهر الحديث ما يدل على أنها وليمة عرس وإجابة الدعوة عندي واجبة إذا كان طعام الداعي مباحا أكله ولم يكن هناك شيء من المعاصي وجوب سنة لا ينبغي لأحد تركها في وليمة العرس وغيرها وإتيان طعام وليمة العرس عندي أوكد لقول أبي هريرة ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله على أنه يحتمل والله أعلم من لم ير إتيان الدعوة فقد عصى الله ورسوله وهذا أحسن وجه حمل عليه هذا الحديث إن شاء الله.
وقد اختلف فيما يجب الإجابة إليه من الدعوات فذهب مالك والثوري إلى أن إجابة الوليمة واجب دون غيرها وخالفهم في ذلك غيرهم وسنذكر اختلافهم في ذلك في باب ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة عند قوله : "شر الطعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك المساكين ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله"، إن شاء الله.
والصحيح عندنا ما ذكرنا أن إجابة الدعوة سنة مؤكدة مندوب إليها لقول رسول الله ﷺ : "لو أهدى إلي كراع لقبلت ولو دعيت إلى ذراع لأجبت" رواه شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي ﷺ وقال رسول الله ﷺ : "أجيبوا الدعوة إذا دعيتم" رواه أيوب السختياني وموسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ .
وروى عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ : "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها" زاد عبيد الله في حديثه : "فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليدع"، قال : وكان ابن عمر إذا دعي أجاب فإن كان صائما ترك وإن كان مفطرا أكل فإن قيل ليس في حديث أيوب وموسى بن عقبة حجة لأن لفظ حديثهما مجمل وقد فسر بحديث مالك وعبيد الله فكأنه قال أجيبوا الدعوة إلى الوليمة إذا دعيتم قيل له قد رواه معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر فقال فيه عرسا كان أو غيره ذكره عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال : "إذا دعا أحدكم أخاه فليجبه عرسا كان أو غيره " وذكر أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا عبد الرزاق بإسناده مثله وقال : "عرسا كان أو دعوة" قال أبو داود وكذلك رواه الزبيدي عن نافع مثل حديث معمر عن أيوب ومعناه سواء وهذا قاطع لموضع الخلاف وروى الأعمش عن شقيق عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ : "أجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية ولا تضروا المسلمين"، وقد ذهب أهل الظاهر إلى إيجاب إتيان كل دعوة وجوب فرض بظاهر هذه الأحاديث وحملها سائر أهل العلم على الندب للتآلف والتحاب. وقد احتج بعض من لا يرى إتيان الدعوة إذا لم يكن عرسا بقول عثمان بن أبي العاص "ما كنا ندعى إلى الختان ولا نأتيه" وهذا لا حجة فيه وقال بعضهم إنما يجب إتيان طعام القادم من سفر وطعام الختان وطعام الوليمة والحجة قائمة بما قدمنا من آثار الصحاح التي نقلها الأيمة متصلة إلى النبي عليه السلام وهي على عمومها لا تخص دعوة من دعوة.
أخبرني خلف بن القاسم قال حدثنا جعفر بن محمد بن الفضل البغدادي قال حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا محمد بن أحمد بن أبي المثنى قال حدثنا جعفر بن عون قال حدثنا سليمان الشيباني أبو إسحاق عن أشعث بن أبي الشعثاء عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال : "أمرنا رسول الله ﷺ بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز وإفشاء السلام وإجابة الداعي وتشميت العاطس ونصر المظلوم وإبرار القسم ونهانا عن الشراب في الفضة فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة وعن التختم بالذهب وعن ركوب المياثر وعن لباس القسي والحرير والديباج والإستبرق".
قال البراء : أمرنا رسول الله ﷺ بسبع فذكر منها إجابة الداعي وذكر منها أشياء منها ما هو فرض على الكفاية ومنها ما هو واجب وجوب سنة فكذلك إجابة الدعوة والله نسأله العصمة.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن محمد البرتي قال حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل" نقول فليدع.
قال أبو عمر : قد جاء في هذا الحديث مع صحة إسناده إلى طعام لم يخص طعاما من طعام وحدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا وهب بن مسرة قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ "إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء أكل وإن شاء ترك" ، وهذا أيضا على عمومه.
وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ : "أجيبوا الدعوة إذا دعيتم" وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال : "أجيبوا الدعوة إذا دعيتم لها" وهذا أيضا على عمومه سنة مسنونة وبالله التوفيق.
قال أبو عمر : زاد القعبني وابن بكير في حديث مالك هذا عن إسحاق عن أنس ذكر القديد فقال بطعام فيه دباء وقديد وتابعهما على ذلك قوم منهم أبو نعيم إلا أنه اختصر الفاظا من هذا الحديث أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : "رأيت النبي ﷺ أتى بمرق فيه دباء وقديد فرأيته يتبع الدباء يأكله".
وفي هذا الحديث أيضا إباحة إجالة اليد في الصحفة وهذا عند أهل العلم على وجهين أحدهما أن ذلك لا يحسن ولا يجمل إلا بالرئيس ورب البيت والآخر أن المرق والإدام وسائر الطعام إذا كان فيه نوعان أو أنواع فلا بأس أن تجول اليد فيه للتخير مما وضع في المائدة والصحفة من صنوف الطعام لأنه لذلك قدم ليأكل كل ما أراد وهذا كله مأخوذ من هذا الحديث ألا ترى أن رسول الله ﷺ جالت يده في الصحفة يتبع الدباء فكذلك سائر الرؤساء ولما كان في الصحفة نوعان وهما اللحم والدباء حسن بالآكل أن تجول يده فيما اشتهى من ذلك بدليل هذا الحديث ولا يجوز ذلك على غير هذين الوجهين لقول رسول الله ﷺ لعمر بن أبي سلمة : "سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك".
وإنما أمره أن ياكل مما يليه لأن الطعام كله كان نوعا واحدا والله أعلم كذلك فسره أهل العلم.
وفيه أيضا ما كان القوم عليه من شظف العيش في أكل الشعير وما أشبهه وما كانوا عليه من المواساة وإطعام الطعام مع ما كانوا فيه من هذه الحال وقد روى أنهم كانوا يكثرون طعامهم بالدباء.
ذكر الحميدي عن سفيان قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر الأحمسي عن أبيه قال : دخلت على النبي ﷺ فرأيت عنده الدباء فقلت : ما هذا؟ فقال : "نكثر به طعامنا".
ومن صريح الإيمان حب ما كان رسول الله ﷺ يحبه وإتباع ما كان رسول الله ﷺ يفعله ﷺ ألا ترى إلى قول أنس فلم أزل أحب الدباء بعد ذلك اليوم.
حدثنا خلف بن قاسم بن سهل قال حدثنا أبو الظاهر محمد بن عبد الله القاضي بمصر قال حدثنا موسى بن هارون بن عبد الله الحمال قال حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا سفيان يعني ابن عيينة عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال : "رأيت رسول الله ﷺ يتبع الدباء في القصعة فلا أزال أحبه" ورواه جماعة من أصحاب ابن عيينة عنه عن مالك بإسناده هذا.
حديث سابع لإسحاق عن أنس مسند
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال : "اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم" يعني أهل المدينة هذا من فصيح كلام رسول الله ﷺ وبلاغته وفيه استعارة بينة لأن الدعاء إنما هو للبركة في الطعام المكيل بالصاع والمد لا في الظروف والله أعلم وقد يحتمل على ظاهر العموم أن يكون في الطعام والظروف.
وفي هذا الحديث دليل على أن الكيل إذا اختلف في البلدان في الكيل والوزن وجب الرجوع فيه إلى أهل المدينة وترجيح القائل بذلك قوله بدعاء رسول الله ﷺ لهم في مكيالهم وصاعهم ومدهم وفيه دلالة على صحة رواية من روى عن النبي ﷺ أنه قال : "المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن مكة" وفي هذا أيضا ما يدل على أن ما كان مكيلا بالمدينة مما ورد فيه الخبر بتحريم التفاضل لا يجوز فيه إلا الكيل وقياس ذلك أن ما كان موزونا عندهم فالتفاضل في بعضه ببعض محرم لا يجوز فيه إلا الوزن والله أعلم.
وفي هذا الحديث فضل بين للمدينة وقد عارضه بعض من يفضل مكة لما ذكره البخاري قال حدثنا علي ابن المديني قال حدثنا أزهر بن سعد السمان عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال : "اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا قالوا : وفي نجدنا يا رسول الله قال : اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا قالوا : يا رسول الله وفي نجدنا فأظنه قال في الثالثة هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان".
قال أبو عمر : دعاؤه ﷺ للشام يعني لأهلها كتوقيته لأهل الشام الجحفة ولأهل اليمن يلملم علما منه بأن الشام سينتقل إليها الإسلام وكذلك وقت لأهل نجد قرنا يعني علما منه بأن العراق ستكون كذلك وهذا من أعلام نبوته ﷺ .
حديث ثامن لإسحاق عن أنس مسند
ب" مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال : "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
قال أبو عمر : هذا حديث لا يختلف في صحته وروى أيضا من وجوه كثيرة عن جماعة من الصحابة عن النبي ﷺ بألفاظ مختلفة فمن ذلك حديث أنس عن النبي عليه السلام كما رواه شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه كما رواه مالك وقد روى عن أنس عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ رواه شعبة عن قتادة عن أنس عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال : "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" ، وكذلك رواه أبو هريرة عن النبي عليه السلام من حديث سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي صالح السمان وعبد الرحمن الأعرج ومحمد بن سيرين عن أبي هريرة وكذلك رواه عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي عليه السلام من حديث بن وهب عن عمرو بن الحرث عن دراج أبي السمح عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاصي وأخطأ فيه رشدين بن سعد فرواه عن عمرو بن الحرث عن دراج بإسناده فقال فيه جزء من تسعة وأربعين جزءا من النبوة ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي عليه السلام فقال فيه جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة من حديث الليث بن سعد عن يزيد بن الهادي عن عبد الله بن خباب
عن أبي سعيد الخدري وكذلك رواه بن جريج عن ابن أبي حسين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي عليه السلام قال : "الرؤيا الصالحة جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة. وقد روى من حديث عبادة عن النبي عليه السلام قال : "الرؤيا الصالحة جزء من أربعة وأربعين جزءا من النبوة". بإسناد فيه لين.
وقد حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا بن أبي العقب قال حدثنا أبو زرعة الدمشقي قال حدثنا أحمد بن خالد الذهبي قال حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن سلمان بن عريب قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله ﷺ : "رؤيا الرجل الصالح بشرى من الله جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" . قال سلمان فحدثت به بن عباس فقال من خمسين جزءا من النبوة فقلت إني سمعت أبا هريرة يقول إنه سمع رسول الله ﷺ يقول جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة فقال بن عباس سمعت العباس بن عبد المطلب قال قال رسول الله ﷺ الرؤيا الصالحة من المؤمن جزء من خمسين جزءا من النبوة وقد حدث هذا الحديث أبو سلمة عمر بن عبد العزيز فقال عمر لو كانت جزءا من عدد الحصا لرأيتها صدقا وقد روى عن النبي ﷺ أنه قال : "الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة" ، من حديث عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ رواه عبيد الله بن عمرو بن جريج وعبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ : "الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة" ، وهذا حديث صحيح الإسناد لا يختلف في صحته وقد روى عن ابن عباس عن النبي ﷺ مثله حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا أسود بن عامر قال حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : "رؤيا المسلم جزء من سبعين جزءا من النبوة" وروى عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ مثله.
قال أبو عمر : حديث أنس بن مالك أخبرناه عبد الله بن محمد بن أسد حدثنا بكر بن محمد بن العلاء حدثنا الحسن بن المثنى بن دجانة حدثنا عفان بن مسلم قال حدثنا عبد العزيز بن المختار قال حدثنا ثابت عن أنس قال قال رسول الله ﷺ : "من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ورؤيا المؤمن جزء من ستة وعشرين جزءا من النبوة" ، هكذا في حديث أنس هذا وهو حسن الإسناد، جزء من ستة وعشرين جزءا ورواه أبو رزين العقيلي فقال فيه جزء من أربعين جزءا حدثناه عبد الله حدثنا بكر حدثنا الحسن بن المثنى حدثنا عفان حدثنا حماد قال أخبرنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين العقيلي أن النبي ﷺ قال : "الرؤيا جزء من أربعين جزءا من النبوة والرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا" .
قال أبو عمر : اختلاف آثار هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا من النبوة ليس ذلك عندي باختلاف تضاد وتدافع والله أعلم لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على ستة وأربعين جزءا أو خمسة وأربعين جزءا أو أربعة وأربعين جزءا أو خمسين جزءا أو سبعين جزءا على حسب ما يكون الذي يراها من صدق الحديث وأداء الأمانة والدين المتين وحسن اليقين فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد والله أعلم فمن خلصت له نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أصدق وإلى النبوة أقرب، كما أن الأنبياء يتفاضلون والنبوة كذلك والله اعلم قال الله عز وجل : {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء : من الآية55] .
حدثنا محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا خالد بن عبد الرحمن قال حدثنا إبراهيم بن عثمان عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال : "كان من الأنبياء من يسمع الصوت فيكون به نبيا وكان منهم من يرى في المنام فيكون بذلك نبيا وكان منهم من ينفث في أذنه وقلبه فيكون بذلك نبيا وإن جبرئيل يأتيني فيكلمني كما يكلم أحدكم صاحبه".
قال أبو عمر : هذا على أنه يكلمه جبريل كثيرا بالوحي في الأغلب من أمره وقد قال ﷺ : "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم" وفي حديث عائشة إن رسول الله ﷺ قيل له : كيف يأتيك الوحي؟ قال : "يأتيني الوحي أحيانا في مثل صلصلة الجرس وهو أشده على فيفصم عني وقد وعيت ما قال" ، وقد كان يتراءى له جبريل من السحاب وكان أول ما ابتدئ من النبوة أنه كان يرى الرؤيا فتأتي كأنها فلق الصبح وربما جاء جبريل في صفة إنسان حسن الصورة فيكلمه وربما اشتد عليه حتى يغط غطيط البكر ويئن ويحمر وجهه إلى ضروب كثيرة يطول ذكرها.
وقد يحتمل أن تكون الرؤيا جزءا من النبوة لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران وقلب الأعيان ولها التأويل الحسن وربما أغنى بعضها عن التأويل.
وجملة القول في هذا الباب أن الرؤيا الصادقة من الله وأنها من النبوة وأن التصديق بها حق وفيها من بديع حكمة الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه.
ولا أعلم بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر خلافا فيما وصفت لك ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشرذمة من المعتزلة.
وأما قوله ﷺ في الحديث : "الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح" وربما جاء في الحديث "الرؤيا الصالحة" فقط وربما جاء في الحديث أيضا "رؤيا المؤمن " فقط وربما جاء "يراها الرجل الصالح أو ترى له" يعني من صالح وغير صالح وهي ألفاظ المحدثين والله أعلم بها.
والمعنى عندي في ذلك على نحو ما ظهر إلى في الأجزاء المختلفة من النبوة والرؤيا إذا لم تكن من الأضغاث والأهاويل فهي الرؤيا الصادقة وقد تكون الرؤيا الصادقة من الكافر ومن الفاسق كرؤيا الملك التي فسرها يوسف صلى الله عليه ورؤيا الفتيين في السجن ورؤيا بختنصر التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه ورؤيا كسرى في ظهور النبي ﷺ ورؤيا عاتكة عمة رسول الله ﷺ في أمر النبي ﷺ ومثل هذا كثير وقد قسم رسول الله ﷺ الرؤيا أقساما تغنى عن قول كل قائل.
حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد الحلي القاضي قال حدثنا محمد بن جعفر بن يحيى بن رزين بحمص قال : حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا يحيى بن حمزة قال حدثنا يزيد بن عبيدة قال حدثنا مسلم بن مشكم عن عوف بن مالك عن رسول الله ﷺ قال : "الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن بن آدم ومنها ما يهم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" قال قلت : سمعت من رسول الله ﷺ ؟ قال : نعم سمعته من رسول الله ﷺ وذكره بن أبي شيبة عن المعلى بن منصور عن يحيى بن حمزة عن يزيد بن عبيدة عن أبي عبد الله عن عوف بن مالك عن النبي ﷺ مثله وهذا يفسر قوله في حديث إسحاق الرؤيا الحسنة أنها ما لم تكن من أهاويل الشيطان ولا مما يهم به الإنسان في يقظته ويشغل بها نفسه ذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : "في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا والرؤيا ثلاثة الرؤيا الحسنة بشرى من الله والرؤيا يحدث بها الرجل نفسه والرؤيا تحزين من الشيطان فإذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فلا يحدث بها أحداً وليقم فليصل" قال أبو هريرة يعجبني القيد وأكرهه الغل القيد ثبات في الدين.
وقرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا مضر بن محمد الكوفي قال حدثنا إبراهيم بن عثمان بن زياد المصيصي قال حدثنا مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة والرؤيا ثلاثة فالرؤيا الحسنة من الله والرؤيا من تحزين الشيطان والرؤيا يحدث بها الإنسان نفسه فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يحدث به وليقم فليصل". قال أبو هريرة أحب القيد في النوم واكره الغل والقيد ثبات في الدين.
وروى قتادة عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بعض هذا الحديث وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن علقمة قال قال عبد الله الرؤيا ثلاثة حضور الشيطان والرجل يحدث نفسه بالنهار فيراه بالليل والرؤيا التي هي الرؤيا وأولى ما اعتمد عليه في عبارة الرؤيا والأدب فيها لمن رآها أو قصت عليه ما حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا ابن المفسر قال حدثنا أحمد بن علي قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا يحيى بن صالح عن سليمان بن بلال عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "إذا رأى أحدكم الرؤيا تعجبه فليذكرها وليفسرها وإذا رأى أحدكم الرؤيا تسوؤه فلا يذكرها ولا يفسرها" وقيل لمالك رحمه الله أيعبر الرؤيا كل أحد فقال أبالنبوة يلعب وقال مالك لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها فإن رأى خيرا أخبر به وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت قيل فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال أنها على ما أولت عليه فقال لا ثم قال الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.
حديث تاسع لإسحاق عن أنس مسند أيضا
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول قال أبو طلحة لأم سليم : "لقد سمعت صوت رسول الله ﷺ ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء فقالت نعم قال فأخرجت أقراصا من شعير ثم أخذت خمارا لها ثم لفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي وردتني ببعضه ثم أرسلتني إلى رسول الله ﷺ قال فذهبت به فوجدت رسول الله ﷺ جالسا في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم فقال رسول الله ﷺ أرسلك أبو طلحة فقلت نعم فقال بطعام قال قلت نعم فقال رسول الله ﷺ لمن معه قوموا فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله والناس وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم فقالت الله ورسوله أعلم قال فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله ﷺ فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه حتى دخلا فقال رسول الله ﷺ هلمي يا أم سليم ما عندك فأتت بذلك الخبز فأمر به ففت وعصرت عليه أم سليم عكة لها فأدمته ثم قال رسول الله ما شاء الله أن يقول ثم قال ايذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ايذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ايذن لعشرة فأكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً"
قال أبو عمر : هذا من أثبت ما يروى من الحديث وأحسنه اتصالا وكذلك سائر حديث إسحاق عن أنس.
قال أبو عمر : احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في جواز شهادة الأعمى على الصوت وقال لم يمنع أبا طلحة ضعف صوت رسول الله صلى الله عليه عن تمييزه لعلمه به فكذلك الأعمى إذا عرف الصوت.
وعارضه بعض من لا يرى شهادة الأعمى جائزة على الكلام بأن أبا طلحة قد تغير عنده صوت رسول الله ﷺ مع علمه بصوته ولولا رؤيته له لاشتبه عليه في حين سماعه منه وما عرفه والتشغيب في هذه المسألة طويل.
وفي هذا الحديث ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه من ضيق الحال وشظف العيش وأنه كان ﷺ يجوع حتى يبلغ به الجوع والجهد إلى ضعف الصوت وهو غير صائم.
وفيه أن الطعام الذي لمثله يدعى الضيف ولا يدعى إلا لأرفع ما يقدر عليه كان عندهم الشعير وقد كان أكثر طعامهم التمر في أول الإسلام وكان يمر بهم الشهر والشهران ما توقد في بيت أحد هم نار وذلك محفوظ معناه من حديث عائشة وغيرها.
وفيه قبول مواساة الصديق وأكل طعامه وإن ذلك ليس بصدقة وإنما كان صلة وهدية ولو كان صدقة ما أكله رسول الله ﷺ .
وفيه أن الرجل إذا دعي إلى طعام جاز لجلسائه أن يأتوا معه إذا دعاهم الرجل وإن لم يدعهم صاحب الطعام وذلك عندي محمول على أنهم علموا أن صاحب الطعام تطيب لهم نفسه بذلك ووجه آخر أن يكون الطعام يكفيهم وقد قال مالك لا ينبغي لمن دعي إلى طعام أن يحمل مع نفسه غيره إذ لا يدري هل يسر بذلك صاحب الطعام أم لا قال مالك إلا أن يقال له ادع من لقيت.
وفيه اكتراث المؤمن عند ضيق الحال إذا نزل به ضيف وليس معه ما يكفيه من الطعام.
وفيه فضل فطنة أم سليم لحسن جوابها زوجها حين شكى إليها كثرة من حل به مع قلة طعامه فقالت له الله ورسوله أعلم أي لم يأت بهم إلا وسيطعمهم.
وفيه الخروج إلى الطريق لمن قصد له إذا كان أهلا لذلك لأنه من البر.
وفيه أن صاحب الدار لا يستأذن في داره وأن من دخل معه يستغنى عن الإذن.
وفيه أن الصديق الملاطف يأمر في دار صديقه بما يحب ويظهر دالته في الأمر والنهي والتحكم لأنه اشترط عليهم أن يفت الخبز وهو فعل يرضاه أهل الكرم من الضيف ولقد أحسن القائل :
يستأنس الضيف في أبياتنا أبدا ... فليس يعرف خلق أينا الضيف
وفيه أن الإنسان لا يدخل عليه بيته إلا معه أو بإذنه ألا ترى إلى قوله ﷺ ايذن لعشرة وقد استحب أهل العلم أن لا يكون على الخوان الذي عليه الطعام أكثر من عشرة وفيه أن الثريد أعظم بركة من غيره من الطعام ولذلك اشترط به رسول الله والله أعلم.
وفيه أن لصاحب الطعام أن يقدم إلى طعامه ممن حضره من شاء من غير قرعة وإن كان قد دعاهم جميعا إذا علم أن كل واحد منهم يصل من الطعام إلى ما يكفيه في ذلك الوقت.
وفيه إباحة الشبع للصالحين وقد روى أن رسول الله ﷺ كان آخرهم أكلا وذلك من مكارم الأخلاق وقد روى عن النبي ﷺ أنه قال : "ساقي القوم آخرهم شربا".
وفيه العلم الساطع النير والبرهان الواضح من أعلام نبوته ﷺ وقد روى هذا المعنى وشبهه من وجوه كثيرة منها ما حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال قلت لجابر بن عبد الله حدثنا بحديث سمعته من رسول الله ﷺ أرويه عنك قال فقال جابر : "كنا مع رسول الله ﷺ يوم الخندق نحفره فلبثنا ثلاثة أيام لا نطعم طعاما ولا نقدر عليه فعرضت في الخندق كدية فجئت إلى رسول الله ﷺ فقلت يا رسول الله هذه كدية قد عرضت في الخندق فرششنا عليها الماء فقام رسول الله وبطنه معصوب بحجر فأخذ المعول أو المسحاة ثم سمى ثلاثا ثم ضرب فعادت كثيبا أهيل. فلما رأيت ذلك من رسول الله ﷺ قلت يا رسول الله ايذن لي فأذن لي فجئت أمرأتي فقلت ثكلتك أمك إني قد رأيت من رسول الله ﷺ شيئا لا صبر لي عليه فما عندك قالت عندي صاع من شعير قال فطحنا الشعير وذبحنا العناق وأصلحناها وجعلناها في البرمة وعجنت الشعير فرجعت إلى رسول الله ﷺ فلبثت ساعة ثم استأذنت الثانية فأذن لي فجئت فإذا العجين قد أمكن فأمرتها بالخبز وجعلت القدر على الأثافي ثم جئت رسول الله ﷺ فساررته فقلت يا رسول الله إن عندنا طعاما لنا فإن رأيت أن تقوم معي أنت ورجل أو رجلان معك فعلت.
فقال كم هو؟ وما هو؟ فقلت صاع من شعير وعناق قال أرجع إلى أهلك فقل لها لا تنزع القدر من الأثافي ولا تخرج الخبز من التنور حتى آتي ثم قال للناس قوموا إلى بيت جابر فاستحييت حياء لا يعلمه إلا الله.
فقلت لامرأتي ثكلتك أمك قد جاء رسول الله بأصحابه أجمعين فقالت أكان رسول الله ﷺ سألك كم الطعام قلت نعم فقالت الله ورسوله أعلم قد أخبرته بما كان عندنا.
قال فذهب عني بعض ما أجد وقلت لقد صدقت قال فجاء رسول الله ﷺ فدخل وقال لأصحابه لا تضاغطوا.
قال ثم برك على التنور وعلى البرمة فجعلنا نأخذ من التنور الخبز ونأخذ اللحم من البرمة فنثرد ونغرف ونقرب إليهم وقال رسول الله ليجلس على الصحفة سبعة أو ثمانية فلما أكلوا كشفنا التنور والبرمة فإذا هما قد عادا إلى أملأ مما كانا فنثرد ونغرف ونقرب إليهم فلم يزل ذلك كلما فتحنا عن التنور وكشفنا عن البرمة وجدناهما أملأ مما كانا حتى شبع المسلمون كلهم وبقي طائفة من الطعام فقال لنا رسول الله ﷺ إن الناس قد أصابتهم مخمصة فكلوا وأطعموا قال فلم نزل يومنا نأكل ونطعم".
قال وأخبرني جابر أنهم كانوا ثمانمائة أو ثلاثمائة شك أيمن
حدثنا خلف بن قاسم الحافظ قال حدثنا عبد الله بن محمد بن ناصح المفسر قال حدثنا أحمد بن علي بن سعيد قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي الورد عن أبي محمد الحضرمي عن أبي أيوب الأنصاري قال صنعت لرسول الله ولأبي بكر طعاما قدر ما يكفيهما وأتيتهما به فقال رسول الله ﷺ : "اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار" قال : فشق ذلك علي وقلت ما عندي شيء أزيده قال فكأني تغافلت ثم قال اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار قال فدعوتهم فجاءوا فقال أطعموا فأكلوا ثم صدوا ثم شهدوا أنه رسول الله ثم بايعوه قبل أن يخرجوا ثم قال اذهب فادع لي بستين من الأنصار قال أبو أيوب فوالله لأنا بالستين أجود مني بالثلاثين قال فدعوتهم فقال رسول الله ﷺ كلوا فأكلوا حتى صدوا وشهدوا أنه رسول الله وبايعوه قبل أن يخرجوا ثم قال اذهب فادع لي بتسعين من الأنصار قال فلأنا أجود بالتسعين والستين مني بالثلاثين قال فدعوتهم فأكلوا حتى صدوا وشهدوا أنه رسول الله ﷺ وبايعوه قبل أن يخرجوا قال فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا".
حديث عاشر لإسحاق عن أنس
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال : "كنا نصلي العصر ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون العصر".
هذا يدخل في المسند وهو الأغلب من أمره وكذلك رواه جماعة الرواة للموطأ عن مالك وقد رواه عبد الله بن المبارك عن مالك عن إسحاق عن أنس قال كنا نصلي العصر مع رسول الله ﷺ فذكره مسندا.
وكذلك رواه عتيق بن يعقوب الزبيري عن مالك كرواية ابن المبارك
ومعنى هذا الحديث السعة في وقت العصر وأن الناس في ذلك الوقت وهم أصحاب رسول الله ﷺ لم تكن صلاتهم في فور واحد لعلمهم بما أبيح لهم من سعة الوقت.
والآثار كلها أو أكثرها على أن وقت العصر ممدود منذ يزيد الظل على قامة من الحد الذي زالت عليه الشمس ما كانت الشمس بيضاء نقية ويروى ما دامت الشمس حية وحياتها حرارتها وما لم تدخلها صفرة فإذا اصفرت الشمس ودنت للغروب خرج الوقت المحمود المستحب المختار ولحق مؤخرها من غير عذر إلى ذلك الوقت الذم لحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أنس عن النبي عليه السلام : "تلك صلاة المنافقين يمهل أحد هم حتى إذا اصفرت الشمس قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" يعيبهم بذلك ﷺ .
ومع هذا فإنا لا نبعد أن يكون من أدرك منها ركعة قبل غروب الشمس أن يكون مدركا لوقتها لحديث أبي هريرة عن النبي ﷺ بذلك وحديث أبي هريرة أصح إسنادا وأقوى عندأهل العلم بالحديث من حديث العلاء وحديث العلاء لا بأس به.
وقد ذكرنا أقاويل الفقهاء في آخر وقت العصر في باب زيد بن أسلم عند قول رسول الله ﷺ : "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وذكرنا مذاهب العلماء في تأويل هذا الحديث هناك والحمد لله وذكرنا كثيرا من آثار هذا الباب في باب ابن شهاب عن أنس وكلها تدل على السعة في الوقت ما دامت الشمس لم تصفر.
وأخبرنا أبو محمد قاسم بن محمد قال أخبرنا خالد بن سعد قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا أبو عاصم عن عبد الرحمن بن وردان قال : "دخلنا على أنس بن مالك في رهط من أهل المدينة فقال صليتم العصر قلنا نعم قالوا يا أبا حمزة متى كان رسول الله ﷺ يصلي هذه الصلاة قال والشمس بيضاء نقية. أخبرنا أبو عثمان سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن ربعي بن حراش عن أبي الأبيض عن أنس قال كان رسول الله ﷺ يصلي العصر والشمس بيضاء نقية محلقة ثم آتى عشيرتي في جانب المدينة لم يصلوا فأقول لهم ما يجلسكم صلوا فقد صلى رسول الله ﷺ .
وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن يزيد المعلم قال حدثنا يزيد بن محمد قال حدثنا فضيل بن عياض عن منصور عن ربعي بن حراش عن أبي الأبيض عن أنس بن مالك قال : "كان النبي ﷺ يصلي العصر والشمس مرتفعة بيضاء محلقة فآتى عشيرتي فأجدهم جلوسا فأقول قوموا فصلوا فقد صلى رسول الله ﷺ ".
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن يزيد بن مردانبه عن ثابت بن عبيد قال سالت أنسا عن وقت العصر فقال : "وقتها أن تسير ستة أميال إلى أن تغرب الشمس" قال حدثنا بن علية عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه كان يصلي العصر والشمس بيضاء نقية يعجلها مرة ويؤخرها أخرى حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن العنبري قال حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال حدثنا محمد بن يزيد اليماني قال حدثني يزيد بن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه عن جده علي بن شيبان قال : "قدمنا على رسول الله ﷺ المدينة فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية"
قال أبو عمر : أهل العراق أشد تأخيرا للعصر من أهل الحجاز والآثار الواردة عنهم بذلك تبين ما قلنا وعلى ذلك فقهاؤهم حتى قال أبو قلابة إنما سميت العصر لتعتصر.
أخبرنا يوسف بن محمد بن يوسف ومحمد بن إبراهيم بن سعيد قالا حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا محمد بن يحيى بن سليمان المروزي قال حدثنا خلف بن هشام البزار قال حدثنا أبو شهاب عن الأعمش عن إبراهيم أنه كان يؤخر العصر.
قال أبو عمر : هذا فقيه أهل الكوفة ويزعمون أنه أعلم تابعيهم بالصلاة قد ثبت عنه ما ترى والله أعلم وما أعلم أحداً من سلفهم جاء عنه في تعجيل العصر أكثر مما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن خيثمة قال تصلي العصر والشمس بيضاء حية وحياتها أن تجد حرها.
قال أبو عمر : هذا كمذهب أهل المدينة والأصل في هذا الباب ما قدمنا من سعة الوقت على حسب ما ذكرنا وسنذكر المواقيت ونستوعب القول فيها بالآثار واختلاف العلماء عند ذكر حديث ابن شهاب عن عروة إن شاء الله.
حديث حادي عشر لإسحاق
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن رافع بن إسحاق مولى الشفاء أخبره قال دخلت أنا وعبد الله بن أبي طلحة على أبي سعيد الخدري نعوده فقال لنا أبو سعيد : "أخبرنا رسول الله ﷺ أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل أو تصاوير" يشك إسحاق لا يدري أيتهما قال أبو سعيد الخدري
قال أبو عمر : هذا أصح حديث في هذا الباب وأحسنه إسنادا وقال فيه زيد بن الحباب عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق بن طلحة ذكره أبو بكر بن أبي شيبة عن زيد،
وقد روى من حديث علي وابن عباس وأسامة بن زيد أن النبي ﷺ قال : "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة". وقيل في الملائكة ها هنا ملائكة الوحي وقيل بل كل ملك على ظاهر اللفظ كما أن لفظ بيت على لفظ النكرة يقتضي كل بيت والله أعلم وظاهر هذا الحديث يقتضى الحظر عن استعمال الصور على كل حال كانت أو في غيره ومثله حديث نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة في النمرقة التي فيها تصاوير.
وقد استثنى في حديث سهل بن حنيف إلا ما كان رقما في ثوب واختلف الناس في الصور المكروهة فقال قوم إنما كره من ذلك ما له ظل وما لا ظل له فليس به بأس وقال آخرون ما قطع رأسه فليس بصورة وقال آخرون تكره الصورة في الحائط وعلى كل حال كان لها ظل أو لم يكن إلا ما كان في ثوب يوطأ ويمتهن وقال آخرون هي مكروهة في الثياب وعلى كل حال ولم يستثنوا شيئا وروت كل طائفة منهم بما قالته أثرا اعتمدت عليه وعملت به وأما اختلاف فقهاء الأمصار أهل الفتوى في هذا الباب فذكر بن القاسم قال قال مالك يكره التماثيل في الأسرة والقباب وأما البسط والوسائد والثياب فلا بأس به وكره أن يصلي إلى قبلة فيها تماثيل وقال الثوري لا بأس بالصور في الوسائد لأنها توطأ ويجلس عليها وكره الحسن ابن حي أن يدخل بيتا فيه تمثال في كنيسة أو غير ذلك وكان لا يرى بأسا بالصلاة في الكنيسة والبيعة وكان أبو حنيفة وأصحابه يكرهون التصاوير في البيوت بتمثال ولا يكرهون ذلك فيما يبسط ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء.
وكره الليث التماثيل التي تكون في البيوت والأسرة والقباب والطساس والمنارات إلا ما كان رقما في ثوب وقال المزني عن الشافعي وإن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح لم يدخل إن كانت منصوبة وإن كان يوطأ فلا بأس وإن كانت صور الشجر فلا بأس وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل إذا دعيت لأدخل فرأيت سترا معلقا فيه تصاوير أأرجع قال نعم قد رجع أبو أيوب قلت رجع أبو أيوب من ستر الجدر قال هذا أشد وقد رجع عنه غير واحد من أصحاب رسول الله قلت له فالستر يجوز أن يكون فيه صورة قال لا قيل فصورة الطائر وما أشبهه فقال ما لم يكن له رأس فهو أهون فهذا ما للفقهاء في هذا الباب وسيأتي ما للسلف فيه مما بلغنا عنهم في باب سالم أبي النضر من هذا الكتاب إن شاء الله.
حديث ثاني عشر لإسحاق عن رافع بن إسحاق
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق مولى لآل الشفاء وكان يقال له مولى أبي طلحة أنه سمع أبا أيوب الأنصاري صاحب رسول الله ﷺ وهو بمصر يقول والله ما أدرى كيف أصنع بهذه الكرابيس وقد قال رسول الله ﷺ : "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط أو البول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه".
هكذا قال مالك في هذا الحديث مولى لآل الشفاء وقال في الحديث الذي قبله مولى الشفاء فيما رواه يحيى بن يحيى عنه وقد قال عن مالك في الموضعين جميعا طائفة من الرواة مولى الشفاء وقال آخرون عنه في الموضعين جميعا مولى آل الشفاء وقال قوم كما قال يحيى وهذا إنما جاء من مالك والشفاء اسم امرأة من الصحابة من قريش وهي الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس بن خالد من بني عدي بن كعب وهي أم سليمان بن أبي خيثمة وقد ذكرناها في كتابنا في الصحابة وكان حماد بن سلمة يقول عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق مولى أبي أيوب وكان مالك يقول وكان يقال له مولى أبي طلحة وهو من تابعي أهل المدينة ثقة فيما نقل وحمل وحديثه هذا حديث متصل صحيح.
وفيه من الفقه أن على من سمع الخطاب أن يستعمله على عمومه إذا لم يبلغه شيء يخصه لأن أبا أيوب سمع النهى من رسول الله ﷺ عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط مطلقاً غير مقيد بشرط ففهم منه العموم فكان ينحرف في مقاعد البيوت ويستغفر الله أيضا ولم يبلغه الرخصة التي رواها بن عمر وغيره عن النبي ﷺ في البيوت.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال أخبرنا محمد بن يحيى بن عمر الطائي قال حدثنا علي بن حرب الطائي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب يبلغ النبي ﷺ قال : "لا تستقبلوا القبلة بغائط وبول ولا تستدبروها"، قال أبو أيوب فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله وهكذا يجب على كل من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يخصه أو ينسخه.
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا عفان وأخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال أخبرنا محمد بن بكر بن داسة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قالا جميعا أخبرنا وهيب بن خالد قال حدثنا عمرو بن يحيى عن أبي زيد عن معقل بن أبي معقل الأسدي قال : "نهى رسول الله ﷺ أن تستقبل القبلتان ببول أو بغائط" . ورواه سليمان بن بلال عن عمرو بن يحيى بإسناده مثله ذكره أبو بكر بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد عن سليمان وكان مجاهد وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين يكرهون أن نستدبر إحدى القبلتين أو نستقبل بغائط أو بول الكعبة وبيت المقدس وفي حديث يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول إن ناسا يقولون إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس وقد اختلف في متن هذا الحديث على يحيى بن سعيد أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قالا جميعا حدثنا حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن ابن عمر قال : "رأيت النبي عليه السلام قاعدا على لبنتين يقضي حاجته متوجها نحو القبلة".
وزاد عبد الوارث في حديثه "أو بيت المقدس" ورواه مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه عن ابن عمر قال : " لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله ﷺ على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته".
وهكذا رواه عبد الوهاب الثقفي وسليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد بلفظ حديث مالك ومعناه وأخبرنا عبد الوارث قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال حدثني محمد بن العجلان عن محمد بن يحيى بن حبان عن واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر أنه قال : "يتحدث الناس عن رسول الله ﷺ في الغائط بحديث وقد اطلعت يوما على ظهر بيت ورسول الله ﷺ يقضي حاجته محجر عليه بلبن فرأيته مستقبل القبلة" .
وقرأت على أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن فأقر به أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد يعني الأنصاري قال أبو عبيد وحدثني يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر كلاهما عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه عن ابن عمر قال ظهرت على أجار لحفصة وقال بعضهم سطح فرأيت رسول الله ﷺ جالسا على حاجته مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة.
قال أبو عمر : هذه الرواية فيها موافقة لما قاله مالك من استقبال بيت المقدس وهذا إن شاء الله أثبت الروايات في حديث ابن عمر،
وقد تابع مالكا على ما قاله من ذلك الثقفي وسليمان بن بلال وقد ذكرنا ذلك في باب يحيى بن سعيد والحمد لله.
وقد قال المروزي رواية يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر في هذا الحديث تشهد لما قاله مالك والثقفي وسليمان بن بلال في ذكر بيت المقدس خاصة.
قال أبو عمر : لما روى ابن عمر "أنه رأى رسول الله ﷺ قاعدا لحاجته مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة أو مسقبل القبلة" على حسب ما مضى من الرواية في ذلك واستحال أن يأتي ما نهى عنه ﷺ علمنا أن الحال التي استقبل فيه القبلة بالبول واستدبرها غير الحال التي نهى عنها فأنزلنا النهى عن ذلك في الصحارى والرخصة في البيوت لأن حديث بن عمر في البيوت ولم يصح لنا أن يجعل أحد الخبرين ناسخا للآخر لأن الناسخ يحتاج إلى تاريخ أو دليل لا معارض له ولا سبيل إلى نسخ قرآن بقرآن أو سنة بسنة ما وجد إلى استعمال الآيتين أو السنتين سبيل.
وروى مروان الأصفر قال رأيت بن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس ثم يبول إليها فقلت يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهى عن هذا قال إنما نهى عن ذلك في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس ذكره أبو داود عن محمد بن يحيى بن فارس عن صفوان بن عيسى عن الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر عن ابن عمر.
وقد فسره الشعبي كما ذكرنا نحوا من تفسير بن عمر ذكر وكيع وعبيد الله بن موسى عن عيسى بن أبي عيسى الخياط وهو عيسى بن مسيرة عن الشعبي أنه قال له قال أبو هريرة "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها" وقال ابن عمر : "حانت مني التفاتة فرأيت النبي عليه السلام في كنيفة مستقبل القبلة"، فقال الشعبي صدق أبو هريرة وصدق بن عمر قول أبي هريرة في البرية وقول بن عمر في الكنف.
قال الشعبي أما كنفكم هذه فلا قبلة فيها هذا لفظ حديث وكيع.
وحدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن مطرف حدثنا أيوب بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة قالا حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم قال حدثني عبيد الله بن موسى عن عيسى الخياط عن نافع عن ابن عمر قال : "رأيت رسول الله ﷺ في كنيفه مستقبل القبلة" قال يحيى وأخبرنا عيسى الخياط عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها"، قال عيسى : فذكرت ذلك للشعبي فقال صدق أبو هريرة وصدق بن عمر أما قول أبي هريرة فذلك في الصحراء لا يستقبلها ولا يستدبرها وأما قول بن عمر فالكنيف بيت صنع للتبرز ليس فيه قبلة استقبل حيث شئت.
قال أبو عمر : هذا قول مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وهو قول ابن المبارك وإسحاق بن راهويه.
وكان الثوري والكوفيون يذهبون إلى أن لا يجوز استقبال القبلة بالبول والغائط لا في الصحارى ولا في البيوت وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور واحتجوا بحديث أبي أيوب وسائر الأحاديث الواردة في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول وهي كثيرة رواها جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وعبد الله بن مسعود وسهل بن حنيف وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وسليمان.
ورد أحمد بن حنبل حديث جابر وحديث عائشة الواردين عن النبي ﷺ بالرخصة في هذا الباب وضعف حديث جابر وتكلم في حديث عائشة بأنه انفرد به خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة وقال في حديث ابن عمر إنما فيه نسخ استقبال بيت المقدس واستدباره بالغائط والبول قال هذا الذي لا أشك فيه وأشك في الكعبة.
وذكر الأثرم عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال من ذهب إلى حديث عائشة يعني حديث خالد بن أبي الصلت فإن مخرجه حسن ولكنه
يعجبني أن يتوقى القبلة وأما بيت المقدس فليس في نفسي منه شيء أنه لا بأس به.
وقال آخرون جائز استقبال القبلة وبيت المقدس على كل حال واستدبارهما بالبول والغائط في الصحارى وفي البيوت وذكروا حديث جابر أن رسول الله ﷺ "نهى عن استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط قال ثم رأيته بعد ذلك يستقبل القبلة ببوله قبل موته بعام ". رواه محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر. قالوا وهذا يبين أن النهي عن ذلك منسوخ وذكروا ما رواه خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم ابن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة قالت "ذكر عند النبي ﷺ قوم يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة قالت فقال رسول الله ﷺ : "فعلوها استقبلوا بمقعدي القبلة" ، قالوا فلما تعارضت الآثار في هذا الباب لم يجب العمل بشيء منها لتهاترها كالبينتين المتعارضتين.
قالوا والأصل أن لا حظر إلا ما يرد به الخبر عن الله أو عن رسوله مما لا معارض له روى هذا المعنى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حكاه أبو صالح عن الليث عن ربيعة وقال به قوم منهم داود وأصحابه وهو قول عروة بن الزبير.
واحتج بعض من ذهب هذا المذهب بما ذكرنا من حديث جابر وحديث عائشة وزعموا ان النسخ فيها واضح لما كان عليه الأمر من كراهية ذلك وقالوا ليس خالد بن أبي الصلت بمجهول لأنه روى عنه خالد الحذاء والمبارك بن فضالة وواصل مولى ابن عيينة وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز فكيف يقال فيه مجهول وذكروا حديث شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن نافع عن ابن عمر أنه كان يستقبل القبلة بالغائط والبول وحديث بكر بن مضر عن جعفر عن ربيعة عن عراك بن مالك عن عائشة أنها كانت تنكر قولهم إذا خرج أحد كم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة.
قال أبو عمر : ليس الإنكار بحجة وقد ثبت عن النبي ﷺ ما وصفناه وأما ما روى عن ابن عمر فمحمله عندنا على أن ذلك في البيوت وقد بان ذلك برواية مروان الأصفر وغيره عن ابن عمر.
والصحيح عندنا الذي يذهب إليه ما قاله مالك وأصحابه والشافعي لأن في ذلك استعمال السنن على وجوهها الممكنة فيها دون رد شيء ثابت منها وليس حديث جابر بصحيح عنه فيعرج عليه لأن أبان بن صالح الذي يرويه ضعيف وقد رواه ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر عن قتادة عن النبي عليه السلام على خلاف رواية أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر وهو حديث لا يحتج بمثله.
وحديث عائشة قد دفعه قوم ولو صح لم يكن فيه خلاف لما ذهبنا إليه لأن المقعد لا يكون إلا في البيوت وليس بذلك بأس عندنا في كنف البيوت وإنما وقع نهيه والله أعلم على الصحارى والفيافي والفضاء دون كنف البيوت وخرج عليه حديثه ﷺ لأنه كان متبرز القوم ألا ترى إلى ما في حديث الإفك من قول عائشة رحمها الله وكانت بيوتنا لا مراحيض لها وإنما أمرنا أمر العرب الأول يعني البعد في البراز.
وقال بعض أصحابنا أن النهي إنما وقع على الصحارى لأن الملائكة تصلى في الصحارى وليس المراحيض كذلك.
وأما قوله في الحديث "كيف أصنع بهذه الكرابيس" فهي المراحيض واحدها كرباس مثل سربال وسرابيل وقد قيل أن الكرابيس مراحيض الغرف وأما مراحيض البيوت فإنها يقال لها الكنف وفي قوله ﷺ في هذا الحديث : "فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه"، دليل على أن القبل يسمى فرجا وأن الدبر أيضا يسمى فرجا.
وقد اختلف الفقهاء في وضوء من مس ذكره أو دبره على ما سنذكره في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله.
حديث ثالث عشر لإسحاق عن زفر بن صعصعة بن مالك
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زفر بن صعصعة بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول : "هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ويقول إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة".
لا نعلم لزفر بن صعصعة ولا هذا الحديث وهما مدنيان وهكذا قال يحيى عن أبيه وتابعه أكثر الرواة وهو الصواب ومنهم من يقول فيه عن زفر بن صعصعة عن أبي هريرة لا يقول عن أبيه.
وهذا الحديث يدل على شرف علم الرؤيا وفضلها لأنه ﷺ إنما كان يسئل عنها لتقص عليه ويعبرها ليعلم أصحابه كيف الكلام في تأويلها وقد أثنى الله عز وجل على يوسف بن يعقوب صلى الله عليهما وعدد عليه فيما عدد من النعم التي آتاه التمكين في الأرض وتعليم تأويل الأحاديث.
وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها وكان نبينا ﷺ نحو ذلك وكان أبو بكر الصديق من أعبر الناس لها وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم والطبع والإحسان ونحوه أو قرب منه كان سعيد بن المسيب في ذلك فيما ذكروا.
وقد تقدم القول في أمر الرؤيا فأغنى عن إعادته في هذا الموضع وفي هذا الحديث أنه لا نبي بعد رسول الله ﷺ .
وفيه تفسير لما روى عنه عليه السلام أنه قال : "لا نبوة بعدي إلا ما شاء الله" يعني والله أعلم الرؤيا التي هي جزء منها.
وقيل في تأويل هذا الحديث أشياء غير هذا قد ذكرها أبو جعفر الطبري لا حاجة بنا إلى ذكرها ها هنا.
وفيه إباحة الكلام بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس بغير الذكر وفيه جواز قول العالم سلوني ومن عنده مسألة ونحو هذا والله الموفق للصواب.
حديث رابع عشر لإسحاق
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب عن أبي واقد الليثي "أن رسول الله ﷺ بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله ﷺ وذهب واحد فلما وقفا على رسول الله سلما فأما أحد هما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله ﷺ قال ألا أخبركم على النفر الثلاثة أما أحد هم فآوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه".
هذا حديث متصل صحيح وأبو مرة قيل اسمه يزيد وقيل عبد الرحمن بن مرة فالله أعلم وهو من تابعي أهل المدينة ثقة وأبو واقد الليثي من جلة الصحابة شهد حنينا والطائف اسمه الحارث بن عوف وقيل الحارث بن مالك وقد ذكرناه ونسبناه في كتابنا في الصحابة.
وفي هذا الحديث الجلوس إلى العالم في المسجد.
وفيه أن الآتي يسلم على المقصود إليه كما يسلم الماشي على القاعد والراكب على الماشي.
وفيه التخطي إلى الفرج في حلقة العالم وترك التخطي إلى غير الفرج وليس ما جاء من حمد التزاحم في مجلس العالم والحض على ذلك بمبيح تخطي الرقاب إليه لما في ذلك من الأذى كما لا يجوز التخطي إلى سماع الخطبة في الجمعة والعيدين ونحو ذلك فكذلك لا يجوز التخطي إلى العالم إلا أن يكون رجلا يفيد قربه من العالم فائدة ويثير علما فيجب حينئذ أن يفتح له لئلا يؤذي أحدا حتى يصل إلى الشيخ ومن شرط العالم أن يليه من يفهم عنه لقول رسول الله ﷺ : "ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى" يعني في الصلاة وغيرها ليفهموا عنه ويؤدوا ما سمعوا كما سمعوا من غير تبديل معنى ولا تصحيف وفي قول رسول الله ﷺ للمتخطي يوم الجمعة : "أذيت وأنبت" ، بيان أن التخطي أذى ولا يحل أذى مسلم بحال في الجمعة وغير الجمعة ومعنى التزاحم بالركب في مجلس العالم الانضمام والالتصاق ينضم القوم بعضهم إلى بعض على مراتبهم ومن تقدم إلى موضع فهو أحق به إلا أن يكون ما ذكرنا من قرب أولى الفهم من الشيخ فيفسح له ولا ينبغي له أن يتبطأ ثم يتخطى إلى الشيخ ليرى الناس موضعه منه فهذا مذموم ويجب لكل من علم موضعه أن يتقدم إليه بالتبكير والبكور إلى مجلس العالم كالبكور إلى الجمعة في الفضل إن شاء الله.
وقد أتينا من القول في أدب العالم والمتعلم بما فيه كفاية وشفاء في كتابنا كتاب بيان العلم.
وأما قوله ﷺ في هذا الحديث : "أوى إلى الله" يعني فعل ما يرضاه الله فحصل له الثواب من الله ومثل ذلك قوله عليه السلام : "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أو ى إلى الله" يعني ما كان لله ورضيه والله أعلم.
وأما قوله في الثاني : "فاستحيى فاستحيى الله منه" فهو من اتساع كلام العرب في ألفاظهم وفصيح كلامهم والمعنى فيه والله أعلم أن الله قد غفر له لأنه من استحيى الله منه لم يعذبه بذنبه وغفر له بل لم يعاتبه عليه فكان المعنى في الأول أن فعله أوجب له حسنة والآخر أو جب له فعله محو سيئة عنه والله أعلم.
وأما قوله في الثالث : "فأعرض فأعرض الله عنه" ، فإنه والله أعلم أراد أعرض عن عمل البر فأعرض الله عنه بالثواب وقد يحتمل أن يكون المعرض عن ذلك المجلس من في قلبه نفاق ومرض لأنه لا يعرض في الأغلب عن مجلس رسول الله إلا من هذه حاله بل قد بان لنا بقول رسول الله فأعرض فأعرض الله عنه أنه منهم لأنه لو أعرض لحاجة عرضت له ما كان من رسول الله ﷺ ذلك القول فيه ومن كانت هذه حاله كان إعراض الله عنه سخطا عليه وأسأل الله المعافاة والنجاة من سخطه بمنه ورحمته.
حديث خامس عشر لإسحاق عن حميدة
مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة أنها أخبرتها أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة فرآني انظر إليه فقال أتعجبين يا ابنة أخي قالت فقلت نعم فقال إن رسول الله ﷺ قال : "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات".
هكذا قال يحيى حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة ولم يتابعه أحد على قوله ذلك وهو غلط منه وإنا يقول الرواة للموطأ كلهم ابنة عبيد بن رفاعة إلا أن زيد بن الحباب قال فيه عن مالك حميدة بنت عبيد بن رافع والصواب رفاعة وهو رفاعة بن رافع الأنصاري وقد ذكرناه في كتابنا في الصحابة.
واختلف الرواة عن مالك في رفع الحاء ونصبها من حميد فبعضهم قال حميدة بفتح الحاء وكسر الميم وبعضهم قال حميدة بضم الحاء وفتح الميم وحميدة هذه هي امرأة إسحاق ذكر ذلك يحيى القطان ومحمد بن الحسن الشيباني في هذا الحديث عن مالك.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن مالك قال حدثني إسحاق بن عبد الله قال حدثتني امرأتي حميدة قالت حدثتني كبشة ابنة كعب بن مالك قالت رأيت أبا قتادة توضا ثم أصغي إناءه للهرة قالت فنظر إلى فقال أتعجبين سمعت رسول الله ﷺ يقول : "إنها ليست بنجس إنها من الطوافات عليكم والطوافين".
ورواه ابن المبارك عن مالك عن إسحاق بإسناده مثله إلا أنه قال كبشة امرأة أبي قتادة وهذا وهم منه وإنما هي امرأة ابن أبي قتادة وأما حميدة فامرأة إسحاق وكنيتها أم يحيى.
وفي هذا الحديث أن خبر الواحد النساء فيه والرجال سواء وإنما المراعاة في ذلك الحفظ والإتقان والصلاح وهذا لا خلاف فيه بين أهل الأثر.
وفيه إباحة اتخاذ الهر وما أبيح اتخاذه للانتفاع به جاز بيعه وأكل ثمنه إلا أن يخص شيئا من ذلك دليل فيخرجه عن أصله.
وفيه أن الهر ليس ينجس ما شرب منه وأن سؤره طاهر وهذا قول مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه والأوزاعي وأبي يوسف القاضي والحسن بن صالح بن حي.
وفيه دليل على أن ما أبيح لنا اتخاذه فسؤره طاهر لأنه من الطوافين علينا ومعنى الطوافين علينا الذين يداخلوننا ويخالطوننا ومنه قول الله عز وجل في الأطفال : {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور : من الآية58] .
وكذلك قال ابن عباس وغيره في الهر إنها من متاع البيت حدثنا أحمد بن عمر قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا محمد بن إسحاق بن شبوية السجسي قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن قتادة عن جابر بن زيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : "الهر من متاع البيت والطواف والخادم.
ومن ذلك قوله : {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} [الواقعة : من الآية17] أي يخدمهم ولدان ويترددون عليهم بما يشتهون وطهارة الهر تدل على طهارة الكلب وأن ليس في حي نجاسة سوى الخنزير والله أعلم لأن الكلب من الطوافين علينا ومما أبيح لنا اتخاذه في مواضيع الأمور وإذا كان حكمه كذلك في تلك المواضيع فمعلوم أن سؤره في غير تلك المواضيع كسؤره فيها لأن عينه لا تنتقل.
ودل ما ذكرناه على أن ما جاء في الكلب من غسل الإناء من ولوغه سبعا أنه تعبد واستحباب لأن قوله ﷺ في الهر : "إنها ليست بنجس أنها من الطوافين عليكم" بيان أن الطوافين علينا ليسوا بنجس في طباعهم وخلقتهم وقد أبيح لنا اتخاذ الكلب للصيد والغنم والزرع أيضا فصار من الطوافين علينا والاعتبار أيضا يقضي بالجمع بينهما لعلة أن كل واحد منهما سبع يفترس ويأكل الميتة فإذا جاء نص في أحدهما كان حكم نظيره حكمه ولما فارق غسل الإناء من ولوغ الكلب سائر غسل النجاسات كلها علمنا أن ذلك ليس لنجاسة ولو كان لنجاسة سلك به سبيل النجاسات في الإنقاء من غير تحديد وأما قول من قال إنه ليس في حديث أبي قتادة ما يدل من قول رسول الله ﷺ على طهارة الهر وزعم أن أبا قتادة هو القائل أنها ليست بنجس ثم قال قال رسول الله ﷺ : "إنها من الطوافين عليكم" فإنه شبهه عليه برواية من روى هذا الحديث عن إسحاق وغيره فقال فيه عن أبي قتادة أنها ليست بنجس وقال قال أبو قتادة قال رسول الله ﷺ : "هي من الطوافين عليكم" قال ويكون الطوافون علينا ينجسون الماء قال فقول أبي قتادة إنها ليست بنجس لم يضفه إلى رسول الله وإنما أضاف إلى رسول الله قوله : "إنها من الطوافين".
قال أبو عمر : هذا اعتلال لا معنى له لأن حديث مالك وهو أصح الناس له نقلا عن إسحاق فيه أن رسول الله ﷺ قال : "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم" وفي هذا بيان جهله بحديث مالك ثم يقول إن ذلك لو كان كما ذكر من قول أبي قتادة ولم يكن مرفوعا لكنا أسعد بالتأويل منه لأن أبا قتادة إنما خاطبها بما فهمه عن رسول الله ﷺ في الهر ومن شهد القول وعرف مخرجه سلم له في التأويل والنجاسة في الحيوان أصلها مأخوذ من التوقيف لا من جهة الرأي فاستحال أن يكون ذلك رأي أبي قتادة مع أن رواية مالك في طهارة الهر مرفوعة ومن خالف مالكا فوقفها ليس بحجة فيما قصر عنه على مالك ومالك عليه حجة عند جميع أهل النقل إن شاء الله.
وما أعلم أحدا قط اسقط من حديث أبي قتادة هذا قوله عن النبي عليه السلام : "إنها ليست بنجس" إلا ما ذكره أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبي قتادة أنه كان يصغى الإناء للسنور فيلغ فيه ثم يتوضأ منه ويقول قال رسول الله ﷺ : "هي من الطوافين والطوافات عليكم" وما رواه أيضا أسد عن قيس بن الربيع عن كعب بن عبد الرحمن عن جده أبي قتادة نحوه وهذان لا يحتج بهما لانقطاعهما وفسادهما وتقصير رواتهما عن الإتقان في الإسناد والمتن.
وقد روى هذا الحديث جماعة عن إسحاق كما رواه مالك منهم همام بن يحيى وحسين المعلم وهشام بن عروة وابن عيينة وإن كان هشام وابن عيينة لم يقيما إسناده وهؤلاء كلهم يقولون في هذا الحديث عن النبي ﷺ أنه قال إنها ليست بنجس وإن كان بعضهم يخالف في إسناده فمالك ومن تابعه قد أقام إسناده وجوده وقد روى إسحاق بن راهوية عن الدراوردي عن أسيد بن أبي أسيد عن أمه عن أبي قتادة عن النبي ﷺ مثله قال : " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم".
ومن أسقط من حديث أبي قتادة عن النبي عليه السلام قوله : "إنها ليست بنجس" فلم يحفظ وقد ثبت ذلك بنقل الحفاظ الثقات وبالله التوفيق وقد روى عن عائشة عن النبي ﷺ "أنه كان يمر به الهر فيصغى لها الإناء فتشرب ثم يتوضأ بفضلها".
وممن روينا عنه أن الهر ليس بنجس وأنه لا بأس بفضل سؤره للوضوء والشرب العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وعائشة وأبو قتادة والحسن والحسين وعلقمة وإبراهيم وعكرمة وعطاء بن يسار.
واختلف في ذلك عن أبي هريرة والحسن البصري فروى عطاء عن أبي هريرة أن الهر كالكلب يغسل منه الإناء سبعا وروى أبو صالح ذكوان عن أبي هريرة قال السنور من أهل البيت.
وروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بسؤر السنور وروى يونس عن الحسن أنه قال يغسل الإناء من ولوغه مرة وهذا يحتمل أن يكون رأى في فمه أذى ليصح مخرج الروايتين عنه ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ روى عنه في الهر أنه لا يتوضأ بسؤره إلا أبا هريرة على اختلاف عنه.
وأما التابعون فروينا عن عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماء ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه وسائر التابعين بالحجاز والعراق يقولون في الهر أنه طاهر لا بأس بالوضوء بسؤره.
وروى الوليد بن مسلم قال أخبرني سعيد عن قتادة عن ابن المسيب والحسن أنهما كرها الوضوء بفضل الهر قال الوليد فذكرت ذلك لأبي عمرو الأوزاعي ومالك بن أنس فقالا توضأ به فلا بأس به وإن وجدت غيره.
قال أبو عمر : الحجة عند التنازع والاختلاف سنة رسول الله ﷺ وقد صح عنه من حديث أبي قتادة في هذا الباب ما ذكرنا وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقوله قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي الذي صار إليه جل أهل الفتوى من علماء الأمصار من أهل الأثر والرأي جميعا أنه لا بأس بسؤر السنور اتباعا للحديث الذي رويناه يعني عن أبي قتادة عن النبي ﷺ . قال : وممن ذهب إلى ذلك مالك بن أنس وأهل المدينة والليث بن سعد فيمن وافقه من أهل مصر والمغرب والأوزاعي في أهل الشام وسفيان الثوري فيمن وافقه من أهل العراق قال : وكذلك قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيدة وجماعة أصحاب الحديث قال وكان النعمان يكره سؤره وقال إن كان توضأ به أجزأه وخالفه أصحابه فقالوا لا بأس به.
قال أبو عمر : ما حكاه المروزي عن أصحاب أبي حنيفة فليس كما حكاه عندنا وإنما خالفه من أصحابه أبو يوسف وحده وأما محمد وزفر والحسن بن زياد فيقولون بقوله وأكثرهم يروون عنه أنه لا يجزئ الوضوء بفضل الهر ويحتجون لذلك ويروون عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كرها الوضوء بسؤر الهر وهو قول بن أبي ليلى.
وأما الثوري فقد اختلف عنه في سؤر الهر فذكر في جامعه أنه كان يكره سؤر ما لا يؤكل لحمه وما يؤكل لحمه فلا بأس بسؤره وهو ممن يكره أكل الهر وذكر المروزي قال حدثنا عمرو بن زرارة قال حدثنا أبو النضر قال حدثني الأشجعي عن سفيان قال لا بأس بفضل السنور.
قال أبو عمر : لا أعلم لمن كره سؤر الهر حجة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر على الكلب وقد فرقت السنة بين الهر والكلب في باب التعبد وجمعت بينهما على حسب ما قدمنا ذكره من باب الاعتبار والنظر ومن حجته السنة خصمته وما خالفها مطروح وبالله التوفيق.
ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال : "طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين" شك قرة.
وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد وقرة بن خالد ثقة ثبت وأما غيره فيرويه عن ابن سيرين عن أبي هريرة قوله وفي هذا الحديث من رأى أبي قتادة دليل على أن الماء اليسير تلحقه النجاسة ألا ترى إلى قوله أتعجبين يا ابنة أخي سمعت رسول الله ﷺ يقول : " ليست بنجس" فدل هذا أن الهر لو كان عنده من باب النجاسات لأفسد الماء وإنما حمله على أن يصغى لها الإناء وطهارتها ولو كان مما تنجس لم يفعل فدل هذا على أن الماء عنده تفسده النجاسة وإن لم تظهر فيه لأن شرب الهر وغيره من الحيوان في الإناء إذا لم يكن في فمه أذى من غيره ليس ترى معه نجاسة في الإناء.
وهذا المعنى اختلف فيه أصحابنا وسائر العلماء فذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات وما غلب عليه من الأشياء الطاهرة أخرجه من باب التطهير وأبقاه على طهارته ولم يحدوا بين القليل من الماء الذي يفسده قليل النجاسة وبين الكثير الذي لا يفسده إلا ما غلب عليه حدا يوقف عنده إلا أن بن القاسم روى عن مالك في الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء وروى عن مالك في الجنب يغتسل في الماء الدائم الكثير مثل الحياض التي تكون بين مكة والمدينة ولم يكن غسل ما به من الأذى أن ذلك لا يفسد الماء وهذا مذهب بن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم ومن اتبعهم من أصحابهم المصريين إلا بن وهب فإنه قال في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك وقولهم ما حكاه أبو المصعب عنهم وعن أهل المدينة أن الماء لا تفسده النجاسة الحالة فيه قليلا كان أو كثيرا إلا أن تظهر فيه النجاسة وتغير منه طعما أو ريحا أو لونا وكذلك ذكر أحمد بن المعذل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء.
وذكر بن وهب عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران أنه سأل القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله عن الماء الراكد الذي لا يجري تموت فيه الدابة أيشرب منه ويغسل منه الثياب فقالا انظر بعينك فإن رأيت ماء لا يدنسه ما وقع فيه فنرجو أن لا يكون بأس.
قال : وأخبرني يونس عن ابن شهاب قال كل ماء فيه فضل عما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه ولا لونه ولا ريحه فهو طاهر يتوضأ به.
قال : وأخبرني عبد الجبار بن عمر عن ربيعة قال إذا وقعت الميتة في البئر فلم يتغير طعمها ولا لونها ولا ريحها فلا بأس أن يتوضأ منها وإن رأى فيه الميتة.
قال فإن تغيرت نزع منها قدر ما يذهب الرائحة عنها وهو قول بن وهب وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج والأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك من البغداديين.
وروى هذا المعنى عن عبد الله بن عباس وابن مسعود وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه وسعيد بن جبير وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن علي وهو مذهب أهل البصرة أيضا وهو الصحيح في النظر وجيد الأثر.
وأما الكوفيون فالنجاسة عندهم تفسد قليل الماء وكثيره إذا حلت فيه إلا الماء المستجد الكثير الذي لا يقدر آدمي على تحريك جميعه قياسا على البحر الذي قال فيه رسول الله ﷺ : "هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
وأما الشافعي فمذهبه في الماء نحو مذهب المصريين من أصحاب مالك وروايتهم في ذلك عن مالك أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة ولا يفسد كثيره إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو رائحته أو لونه إلا أن مالكا في هذه الرواية عنه لا يحد حدا بين قليل الماء الذي تلحقه النجاسة وبين كثيره الذي لا تلحقه النجاسة إلا بالغلبة عليه إلا ما غلب على النفوس أنه قليل وما الأغلب عند الناس أنه كثير وهذا لا يضبط لاختلاف آراء الناس وما يقع في نفوسهم.
وأما الشافعي فحد في ذلك حدا بين القليل والكثير لحديث بن عمر عن النبي ﷺ : " إذا كان الماء قلتين لم تلحقه نجاسة" أو "لم يحمل خبثا".
وهو حديث يرويه محمد بن إسحاق و الوليد بن كثير جميعا عن محمد بن جعفر بن الزبير وبعض رواة الوليد بن كثير يقول فيه عنه عن محمد بن عباد بن جعفر ولم يختلف عن الوليد بن كثير أنه قال فيه عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه يرفعه ومحمد بن إسحاق يقول فيه عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه وعاصم أيضا فالوليد يجعله عن عبد الله بن عبد الله ومحمد بن إسحاق يجعله عن عبيد الله بن عبد الله ورواه عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه فاختلف فيه عليه أيضا فقال حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه وقال فيه حماد بن زيد عن عاصم بن المنذر عن أبي بكر بن عبيد الله عن عبد الله بن عمر وقال حماد ابن سلمة فيه إذا كان الماء قلتين أو ثلاثا لم ينجسه شيء.
وبعضهم يقول فيه إذا كان الماء قلتين لم يحصل الخبث وهذا اللفظ محتمل للتأويل ومثل هذا الاضطراب في الإسناد يوجب التوقف عن القول بهذا الحديث إلى أن القلتين غير معروفتين ومحال أن يتعبد الله عباده بما لا يعرفونه.
وأما حديث ولوغ الكلب في الإناء وحديث النهي عن إدخال اليد في الإناء قبل غسلها لمن انتبه من نومه وحديث النهي عن البول في الماء الدائم الراكد فقد عارضها ما هو أقوى منها والأصل في الماء الطهارة،
فالواجب أن لا يقضي بنجاسته إلا بدليل لا تنازع فيه ولا مدفع له ونحن نذكر ما نختاره من المذاهب في الماء ها هنا ونذكر معنى حديث ولوغ الكلب وغسل اليد في باب أبي الزناد إن شاء الله عز وجل.
قال أبو عمر : الدليل على أن الماء لا يفسد إلا بما ظهر فيه من النجاسة أن الله عز وجل سماه طهورا فقال : {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان : من الآية48] وفي طهور معنيان أحدهما أن يكون طهور بمعنى طاهر مثل صبور وصابر وشكور وشاكر وما كان مثله والآخر أن يكون بمعنى فعول مثل قتول وضروب فيكون فيه معنى التعدى والتكثير يدل على ذلك قوله عز وجل {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ} [الأنفال : من الآية11] .
وقد أجمعت الأمة أن الماء مطهر للنجاسات وأنه ليس في ذلك كسائر المائعات الطاهرات فثبت بذلك هذا التأويل وما كان طاهرا مطهرا استحال أن تلحقه النجاسة لأنه لو لحقته النجاسة لم يكن مطهرا أبدا لأنه لا يطهرها إلا بممازجته إياها واختلاطه بها فلو أفسدته النجاسة من غير أن تغلب عليه وكان حكمه حكم سائر المائعات التي تنجس بمماسة النجاسة لها لم تحصل لأحد طهارة ولا استنجى أبدا.
والسنن شاهدة لما قلنا بمثل ما شهد به النظر من كتاب الله عز وجل فمن ذلك أمر رسول الله ﷺ أن يصب على بول الأعرابي دلو من ماء أو ذنوب من ماء وهو أصح حديث يروى في الماء عن النبي ﷺ .
ومعلوم أن البول إذا صب عليه الماء مازجه ولكنه إذا غلب الماء عليه طهره ولم يضره ممازجة البول له وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال أخبرنا قاسم بن أصبغ قال أخبرنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا نعيم بن حماد قال حدثنا ابن المبارك قال أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري قال حدثني عبيد الله بن عبد الله أن أبا هريرة أخبره "أن أعرابيا بال في المسجد فثار الناس إليه ليمنعوه فقال رسول الله ﷺ : "دعوه وأهرقوا على بوله ذنوبا من ماء أو قال سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
وهكذا رواه شعيب بن أبي حمزة ومحمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري كما رواه يونس بن يزيد بإسناده وكذلك رواه النعمان بن راشد بهذا الإسناد ورواه ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وتابعه سفيان على هذا الإسناد.
ورواه محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام وكل ذلك صحيح لأنه ممكن أن يكون الحديث عند ابن شهاب عن عبيد الله وسعيد وأبي سلمة فحدث به مرة عن هذا ومرة عن هذا وربما جمعهم وهذا موجود لابن شهاب معروف له كثير جدا وقد روى أنس بن مالك قصة الأعرابي هذا وسنذكر طرق حديثه في ذلك في باب مرسل يحيى بن سعيد من كتابنا هذا إن شاء الله.
ومن ذلك أيضا قوله ﷺ : "إذ سئل عن بير بضاعة فقيل له أنه يطرح فيها لحوم الكلاب والعذرة وأوساخ الناس فقال : الماء لا ينجسه شيء" يعني ما لم يغيره أو يظهر فيه والله أعلم لأنه قد روى عنه ﷺ : طالماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو لونه أو ريحه".
وهذا إجماع في الماء المتغير بالنجاسة وإذا كان هذا هكذا فقد زال عنه اسم الماء مطلقا.
وحديث بير بضاعة ذكره أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام.
وذكر أحمد بن حنبل قال حدثنا حسين بن محمد قال حدثنا الفضيل يعني بن سليمان قال حدثنا محمد بن أبي يحيى عن أمه قالت سمعت سهل بن سعد الساعدي يقول : "سقيت رسول الله ﷺ بيدي من بير بضاعة" وذكره إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله قال حدثني حاتم بن إسماعيل عن محمد بن أبي يحيى عن أمه قالت : "دخلنا على سهل بن سعد في نسوة فقال لو أني سقيتكم من بير بضاعة لكرهتم ذلك وقد والله سقيت رسول الله ﷺ بيدي منها" ومن ذلك أيضا قوله ﷺ إذ سئل عن ماء اغتسلت منه امرأة من نسائه وهي جنب فقال : "الماء لا ينجسه شيء" رواه جماعة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس منهم شعبة والثوري إلا أن جل أصحاب شعبة يروونه عنه عن سماك عن عكرمة مرسلا ووصله عنه محمد بن بكر وقد وصله جماعة عن سماك منهم الثوري وحسبك بالثوري حفظا وإتقانا.
حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس "أن امرأة من أزواج النبي ﷺ اغتسلت من جنابة فاغتسل النبي ﷺ وتوضأ من فضلها وقال : الماء طهور لا ينجسه شيء".
وهكذا رواه أبو الأحوص وشريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا وكل من أرسل هذا الحديث فالثوري أحفظ منه والقول فيه قول الثوري ومن تابعه على إسناده وذكر إسماعيل بن إسحاق القاضي عن الحماني عن شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ : "الماء لا ينجسه شيء" ، قال حدثنا علي بن المديني حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن ثوبة العنبري أنه سمع سلم بن غياث يحدث عن جده قال سألت أبا هريرة قلت إنا نرد الحوض يكون فيه السؤر من الماء فيلغ فيه الكلب ويشرب منه الحمار فقال الماء لا يحرمه شيء.
قال أبو عمر : حسبك بجواب أبي هريرة في هذا الباب وهو الذي روى حديث ولوغ الكلب في الإناء وحديث غسل اليد قبل إدخالها فيه وروى عن ابن عباس من وجوه أن الماء لا ينجسه شيء وقال ابن عباس : الماء يطهر ولا يطهر وقال سعيد بن المسيب الماء طهور لكل ما أصاب وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى وجماعة من التابعين الماء لا ينجسه شيء وروى شعبة عن يزيد الرشك عن معاذ عن عائشة الماء لا ينجسه شيء وعن عبد الله بن مسعود مثله وروى حماد بن سلمة عن حماد عن سعيد بن جبير في ماء الحمام يغتسل فيه الجنب وغير الطاهر قال الماء لا ينجسه شيء وحماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن الغدر التي في الطرق تلغ فيها الكلاب وتبول فيها الدواب أيتوضأ منها فقال الماء طهور لا ينجسه شيء.
قال أبو عمر : هذا يدل على أن ما روى عن سعيد بن المسيب في سؤر الهر أنه كرهه لم يكن إلا لشيء ظهر في الماء والله اعلم ومعنى قوله فيما بالت فيه الدواب من الماء أنه طهور محمول على أن البول لم يظهر في الماء منه طعم ولا لون ولا ريح.
أخبرنا يوسف بن محمد ومحمد بن إبراهيم قالا حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال : حدثنا دحيم قال حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري في الغدير تقع فيه الدابة فتموت قال الماء طهور ما لم تنجس الميتة طعمه أو ريحه
وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين فمذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت في الأثر لأنه حديث قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع ولو كان ذلك حدا لازما لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حد ما حرمه رسول الله ﷺ وما أحله من الماء لأنه من أصل دينهم وفرضهم ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه فلقد بحثوا عما هو أدق من ذلك وألطف ومحال في العقول أن يكوم ماءان أحدهما يزيد على الآخر بقدح أو رطل والنجاسة غير قائمة ولا موجودة في واحد منهما أحد هما نجس والآخر طاهر وكذلك كل من قال بأن قليل الماء يفسده قليل النجاسة دون كثيره وإن لم تظهر فيه ولم تغير شيئا منه وجد في ذلك الماء المستجد بغير أثر يشهد له فقوله مدفوع بما ذكرنا من الآثار المرفوعة في هذا الباب وأقاويل علماء أهل الحجاز فيه.
وأما ما ذهب إليه المصريون من أصحاب مالك في أن قليل الماء يفسد بقليل النجاسة من غير حد حددوه في ذلك وما قالوه من أجوبة مسائلهم في البير تقع فيها الميتة من استحباب نزح بعضها وتطهير ما مسه ماؤها وفي إناء الوضوء يسقط فيه مثل رؤوس الإبر من البول وفي سؤر النصراني والمخمور وسؤر الدجاجة المخلاة وغير ذلك من مسائلهم في هذا الباب فذلك كله على التنزه والاستحباب هكذا ذكره إسماعيل بن إسحاق وهو الصواب عندنا وبالله توفيقنا.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا الجوطي قال حدثنا بقية قال قلت لأوزاعي جب كان يعصر فيه العصير فلما فرغوا بقيت في أسفله بقية فصارت خمرا ثم جاءت الأمطار فملأت الجب ما تقول في الوضوء منه قال تجد له طعما أو ريحا قلت لا قال لا بأس بالوضوء منه.
ولما ثبتت السنة في الهر وهو سبع يفترس ويأكل الميتة أنه ليس بنجس دل ذلك على أن كل حي لا نجاسة فيه فكان الكلب والحمار والبغل وسائر الحيوان كله لا نجاسة فيه ما دام حيا ولا بأس بسؤره للوضوء والشرب حاشى الخنزير المحرم العين فإنه قد اختلف فيه فقيل إنه إذا ماس الماء وهو حي أفسده وقد قيل إن ذلك لا يفسده على ظاهر حديث عمرفي السباع وظاهر قوله ﷺ : " الماء لا ينجسه شيء" وهذا هو المذهب الذي إليه يذهب أكثر أصحابنا وبه نقول.
وكذلك الطير كله لا بأس بسؤره إلا أن يكون في فمه أذى يغير الماء اعتبارا بسنة رسول الله ﷺ في الهر وفي الماء أنه لا ينجسه إلا ما ظهر فيه من النجاسة.
وقد روى بن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله ﷺ فلا يغسل شيء من أثرها ولا يرش وهذا يدل على أنه ليس في حي نجاسة والله أعلم.
وإنما النجاسة في الميتة وفيما ثبتت معرفته عند الناس من النجاسات المجتمع عليها والتي قامت الدلائل بنجاستها كالبول والغائط والمذي والخمر.
وقد يكون من الميتة ما ليس بنجس وهو كل شيء ليس له دم سائل مثل بنات وردان والزنبور والعقرب والجعلان والصرار والخنفساء وما أشبه ذلك والأصل في ذلك حديث رسول الله ﷺ في الذباب.
حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا بن أبي ذئب قال حدثنا سعيد بن خالد عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال : "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله" وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا بن الموطأ قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا البخاري قال حدثنا قتيبة قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عقبة بن مسلم عن عبيد بن حنين مولى بني زريق عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء".
وروى هذا الحديث من وجوه كثيرة عن أبي سعيد وأبي هريرة كلها ثابتة ومعلوم أن الذباب إذا غمس في الطعام الحار أو البارد أن الأغلب عليه مع ضعف خلقه الموت فلو كان موته في الماء والطعام يفسده لم يأمر رسول الله ﷺ بغمسه فيه وإذا لم ينجس الطعام بموته فليس بنجس على حال البتة.
وحكم ما لا دم له حكمه من أنه لا يفسد ما مات فيه من الطعام وقد رخص قوم في أكل دود التين وما في الفول وسائر الطعام من السوس واستجازوا ذلك لعدم النجاسة.
وكره أكل ذلك جماعة من أهل العلم وقالوا لا يؤكل شيء من ذلك لأنه ليس له حلق ولبة فيذكى ولا هو من صيد الماء فيحل بغير الذكاة واحتجوا بقول رسول الله ﷺ في الذباب "فليغمسه ثم ليطرحه" قالوا ولو كان أكله مباحا لم يأمر بطرحه. وأما القملة والبرغوث فأكثر أصحابنا يقولون لا يؤكل طعام ماتت فيه قملة أو برغوث لأنهما نجسان وهما من الحيوان الذي عيشه من دم الحيوان لا عيش الدم فهما نجسان وهما دم.
وكان سليمان بن سالم القاضي الكندي من أهل أفريقية يقول إن ماتت القملة في الماء طرح ولم يشرب وإن وقعت في الدقيق ولم تخرج في الغربال لم يؤكل الخبز وإن ماتت في شيء جامد طرحت وما حولها كالفارة.
وقال غيره من أصحابنا وغيرهم إن القملة كالذباب سواء فأما الماء فالأصل فيه عندنا ما ذكرنا وأوضحنا في هذا الباب وقد علم أن الذباب يعيش من الدم ويتناول من الأقذار ما تتناول القملة وفيه من الدم مثل ما في القملة أو أكثر وقد حكم فيه رسول الله ﷺ بما تقدم ذكرنا له.
وهذا ما لم يكن فيه دم لأن الحديث إنما يدل على أن النجس من الحيوان ما له دم سائل وكذلك قال إبراهيم ما ليس له نفس سائلة فليس بنجس يعني بالنفس الدم.
أيوب السختيانى البصرى
وهو أيوب بن أبي تميمة واسم أبي تميمة كيسان وهو من سبي كابل مولى لعزة وقيل هو مولى لعمار بن شداد مولى المغيرة ثم انتموا إلى بني طهية وأيوب يكنى أبا بكر وكان يبيع الجلود بالبصرة ولذلك قيل له السختياني وهو أحد أيمة الجماعة في الحديث والإمامة والاستقامة وكان من عباد العلماء وحفاظهم وخيارهم.
ذكر البخاري عن أبي داود عن شعبة قال ما رأيت مثل هؤلاء قط أيوب ويونس وابن عون أخبرنا خلف بن القاسم حدثنا بن المفسر حدثنا أحمد بن علي بن سعيد حدثنا أبو السائب حدثنا حفص بن غياث قال سمعت هشام بن عروة يقول ما قدم علينا أحد من أهل العراق أفضل من أيوب السختياني ومن ذلك الرؤاسي يعني مسعرا لأنه كان كبير الرأس.
وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا عبد المالك بن بحر قال حدثنا موسى بن مروان قال حدثنا العباس بن الوليد النرسي قال حدثنا وهيب عن الجعد أبي عثمان عن الحسن قال أيوب سيد شباب أهل البصرة قال موسى بن هارون وسمعت العباس بن الوليد يقول ما كان في زمن هؤلاء الأربعة مثلهم أيوب وابن عون ويونس والتيمي وما كان في الزمن الذي قبلهم مثل هؤلاء الأربعة الحسن وابن سيرين وبكر ومطرف.
وكان ابن سيرين إذا حدثه أيوب بالحديث قال حدثني الصدوق وذكر أبو أسامة عن مالك وشعبة أنهما قالا ما حدثناكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه.
وقال ابن عون : لم يكن بعد الحسن ومحمد بالبصرة مثل أيوب كان أعلمنا بالحديث وقال شعبة في حديث ذكره حدثنا به سيد الفقهاء أيوب وقال نافع خير مشرقي رأيته أيوب وقال ابن أبي مليكة أيوب خير أهل المشرق.
وقال ابن أبي أويس سئل مالك متى سمعت من أيوب السختياني فقال حج حجتين فكنت أرمقه ولا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي ﷺ بكى حتى أرحمه فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي ﷺ كتبت عنه قال وسمعت مالكا يقول ما رأيت في العامة خيرا من أيوب السختياني. أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد المؤمن قال حدثنا إسماعيل بن محمد قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال سمعت علي بن المديني يقول أربعة من أهل الأمصار يسكن القلب إليهم في الحديث يحيى بن سعيد بالمدينة وعمرو بن دينار بمكة وأيوب بالبصرة ومنصور بالكوفة.
قال أبو عمر : توفي أيوب رحمه الله سنة اثنتين وثلاثين ومائة بطريق مكة راجعا إلى البصرة في طاعون الجارف لا أعلم في ذلك خلافا وهو بن ثلاث وستين.
لمالك عنه في الموطأ من حديث النبي ﷺ حديثان مسندان هذا ماله عنه في رواية يحيى وأما سائر رواة الموطأ غير يحيى فعندهم في الموطأ عن مالك عن أيوب حديثان آخران في الحج نذكرهما أيضا إن شاء الله.
حديث أول لأيوب السختياني
مالك عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت فقال رسول الله ﷺ أصدق ذو اليدين فقال الناس نعم فقام رسول الله ﷺ فصلى ركعتين أخريين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع".
محمد بن سيرين يكنى أبا بكر وهو مولى لأنس بن مالك الأنصاري وهو أحد أيمة التابعين من أهل البصرة ولد قبل قتل عثمان بسنتين وتوفي سنة عشر ومائة وقد ذكرنا الاختلاف في أسم أبي هريرة في كتابنا من الصحابة.
وفي هذا الحديث وجوه من الفقة والعلم منها أن النسيان لا يعصم منه أحد نبيا كان أو غير نبي قال ﷺ : "نسي آدم فنسيت ذريته"
وفيه أن اليقين لا يجب تركه للشك حتى يأتي يقين يزيله ألا ترى أن ذا اليدين كان على يقين من أن فرض صلاتهم تلك أربع ركعات وكانت إحدى صلاتي العشي كما روى فلما أتى بها رسول الله ﷺ على غير تمامها وأمكن في ذلك القصر من جهة الوحي وأمكن الوهم لزمه الاستفهام ليصير إلى يقين يقطع به الشك.
وفيه أن الواحد إذا ادعى شيئا كان في مجلس جماعة لا يمكن في مثل ما ادعاه أن ينفرد بعلمه دون أهل المجلس لم يقطع بقوله حتى تستخبر الجماعة فإن خالفوه سقط قوله أو نظر فيه بما يجب وإن تابعوه ثبت وقد جعل بعض أصحابنا وغيرهم من الفقهاء هذا أصلا في رؤية الهلال في غير غيم وهو أصل يطول فيه الكلام وليس هذا موضعه.
وفيه دليل على أن المحدث إذا خالفته جماعة في نقله أن القول قول الجماعة وإن القلب إلى روايتهم أشد سكونا من رواية الواحد.
وفيه أن الشك قد يعود يقينا بخبر أهل الصدق وأن خبر الصادق يوجب اليقين والواجب إذا اختلف أهل مجلس في شهادة وتكافؤوا في العدالة أن تؤخذ شهادة من أثبت علما دون من نفاه.
وفيه أن من سلم ساهيا في صلاته لم يضره ذلك وأتمها بعد سلامه ذلك وسجد لسهوه ولم يؤمر باستئناف صلاته بل يبنى على ما عمل فيها ويتمها.
وفيه السجود بعد السلام لمن عرض له مثل هذا في صلاته أو لمن زاد فيها ساهيا قياسا عليه وسنذكر اختلاف الفقهاء في سجود السهو في باب زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وفي باب ابن شهاب عن عبد الرحمن الأعرج إن شاء الله.
وفيه أن سجدتي السهو يكبر فيهما وأنهما على هيئة سجود الصلاة وليس في حديث مالك هذا السلام من سجدتي السهو وذلك محفوظ في غيره وسنذكر ذلك في هذا الباب إن شاء الله وقد كان ابن شهاب ينكر أن يكون رسول الله ﷺ سجد يوم ذي اليدين ولا وجه لقوله ذلك لأنه قد ثبت عن النبي ﷺ في هذا الحديث وغيره أنه سجد يومئذ بعد السلام.
قرأت على خلف بن القاسم رحمه الله أن عبد الله بن جعفر بن الورد حدثهم قال حدثنا يوسف بن يزيد قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث بن سعد عن ابن أبي ذئب عن جعفر بن ربيعة عن عراء بن مالك عن أبي هريرة أن النبي ﷺ سجد يوم ذي اليدين سجدتين بعد السلام. وقد زعم بعض أهل الحديث أن في هذا الحديث دليلا على قبول خبر الواحد وقد ادعى المخالف أن فيه حجة على من قال بخبر الواحد والصحيح أنه ليس بحجة في قبول خبر الواحد ولا في رده.
وفيه أيضا دليل على أن الكلام في الصلاة إذا كان فيما يصلحها وفيما هو منها لا يفسدها عمدا كان أو سهوا إذا كان فيما يصلحها.
وقد اختلف في هذا المعنى جماعة الفقهاء من أصحابنا وغيرهم على ما نبنيه إن شاء الله.
وفيه أن من تكلم في الصلاة وهو يظن أنه قد أتمها وهو عند نفسه في غير صلاة أنه يبني ولا تفسد صلاته فأما قول مالك وأصحابه في هذا الباب فإنهم اختلفوا فيه واضطربت أقاويلهم ورواياتهم فيه عن مالك فروى سحنون عن ابن القاسم عن مالك قال لو أن قوما صلى بهم رجل ركعتين وسلم ساهيا فسبحوا به فلم يفقه فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة إنك لم تتم فأتم صلاتك فالتفت إلى القوم فقال أحق ما يقول هذا فقالوا نعم قال يصلى بهم الإمام ما بقي من صلاتهم ويصلون معه بقية صلاتهم من تكلم منهم ومن لم يتكلم ولا شيء عليهم ويفعلون في ذلك ما فعل النبي ﷺ يوم ذي اليدين هذا قول بن القاسم في كتب المدونة وروايته عن مالك وهو المشهور من مذهب مالك وإياه يقلد إسماعيل بن إسحاق واحتج له في كتاب رده على محمد بن الحسن وكذلك روى عيسى عن ابن القاسم قال عيسى سألت بن القاسم عن إمام فعل اليوم كفعل النبي ﷺ يوم ذي اليدين وتكلم أصحابه على نحو ما تكلم أصحاب النبي ﷺ يوم ذي اليدين فقال بن القاسم يفعل كما فعل النبي عليه السلام يوم ذي اليدين ولا يخالفه في شيء من ذلك لأنها سنة سنها زاد العتبي في هذه عن عيسى عن ابن القاسم وليرجع الإمام فيما شك فيه إليهم ويتم معهم ويجزيهم. قال عيسى : ثم قال ابن القاسم ولو أن إمام قام من رابعة أو جلس في ثالثة فسبح به فلم يفقه فكلمه رجل ممن خلفه كان محسنا وأجزته صلاته.
قال عيسى : وقال ابن كنانة : لا يجوز لأحد من الناس اليوم ما جاز لمن كان يؤمئذ مع النبي ﷺ لأن ذا اليدين ظن أن الصلاة قد قصرت فاستفهم عن ذلك وقد علم الناس اليوم أن قصرها لا ينزل فعلى من تكلم الإعادة قال عيسى فقرأته على بن القاسم فقال ما أرى في هذا حجة وقد قال لهم رسول الله ﷺ كل ذلك لم يكن فقالوا له بلى فقد كلموه عمدا بعد علمهم أنها لم تقصر وبنوا معه.
وقال يحيى عن ابن نافع لا أحب لأحد أن يفعل مثل ذلك الفعل اليوم فإن فعل لم أمره أن يستأنف وروى أبو قرة موسى بن طارق عن مالك مثل قول بن نافع خلاف رواية بن القاسم عنه حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد المؤمن قال حدثنا المفضل بن محمد الجندي قال حدثنا على بن زياد قال حدثنا أبو قرة قال سمعت مالكا يستحب إذا تكلم الرجل في الصلاة أن يعود لها ولا يبنى قال وقال لنا مالك إنما تكلم رسول الله ﷺ وتكلم أصحابه معه يومئذ لأنهم ظنوا أن الصلاة قد قصرت ولا يجوز ذلك لأحد اليوم.
وروى أشهب عن مالك في سماعه أنه قيل له أبلغك أن ربيعة صلى خلف إمام فأطال التشهد فخاف ربيعة أن يسلم وكان على الإمام السجود قبل السلام فكلمه ربيعة وقال له إنهما قبل السلام فقال ما بلغني ولو بلغني ما تكلمت به أيتكلم في الصلاة؟
قال أبو عمر : تحتمل رواية أشهب هذه أن يكون مالك رجع فيها عن قوله الذي حكاه عنه بن القاسم إلى ما حكاه عنه أبو قرة ويحتمل أن يكون أنكر هذا من فعل ربيعة من أجل أنه لم يكن يلزمه عنده الكلام فيما تكلم فيه لأن أمر سجود السهو خفيف في أن ينقل ما كان منه قبل السلام فيجعل بعد السلام فكان ربيعة عند مالك تكلم فيما لم يكن ينبغي له أن يتكلم فيه ورأى كلامه كأنه شأن الصلاة وذهب ربيعة إلى أنه تكلم في شأن الصلاة وصلاحها والله أعلم.
أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي الباجي قال أخبر ني أبي وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي قال أخبرنا عبد العزيز بن مدرك قال أخبرنا بن وضاح قال حدثنا الحارث بن مسكين قال أصحاب مالك كلهم على خلاف قول مالك ثم في مسئلة ذي اليدين إلا بن القاسم وحده فإنه يقول فيها بقول مالك وغيرهم يأبونه ويقولون إنما كان هذا أول الإسلام فأما الآن فقد عرف الناس صلاتهم فمن تكلم فيها أعادها قال ابن وضاح وقد قيل أن ذا اليدين استشهد يوم بدر وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر.
قال أبو عمر : قد قال جماعة من المتقدمين ما قاله ابن وضاح في موت ذي اليدين وليس عندنا كذلك وإنما المقتول ببدر ذو الشمالين وسنبين القول في ذلك بعد هذا في هذا الباب إن شاء الله.
وذكر سحنون عن ابن القاسم في رجل صلى وحده ففرغ عند نفسه من الأربع فقال له رجل إلى جنبه إنك لم تصل إلا ثلاثا فالتفت إلى آخر فقال أحق ما يقول هذا قال نعم قال تفسد صلاته ولم يكن ينبغي له أن يكلمه ولا يلتفت إليه وهذه المسئلة عند أكثر المالكين البغداديين وغيرهم محمولة من قول بن القاسم على أن المصلى إنما يجوز له الكلام في إصلاح الصلاة للضرورة الدافعة إليه إذا كان في صلاة جماعة ولا يجوز ذلك للمنفرد لأنه لا يوجد بد لمن سبح به ولم يفقه بالتسبيح أن يكلم ويفصح له بالمراد للضرورة الداعية إلى ذلك في إصلاح الصلاة تأسيا بفعل النبي ﷺ مع أصحابه يوم ذي اليدين.
قال أبو عمر : فكانوا يفرقون في هذه المسئلة بين الجماعة وبين المنفرد فيجيزون من الكلام في شأن الصلاة للإمام ومن معه ما لا يجيزونه للمنفرد.
وكان غير هؤلاء منهم يحملون جواب بن القاسم في المنفرد في هذه المسئلة على خلاف من قوله في استعمال حديث ذي اليدين كما اختلف قول مالك في ذلك ويذهبون إلى جواز الكلام في إصلاح الصلاة للمنفرد والجماعة ويقولون لا فرق بين أن يكلم الرجل في إصلاح الصلاة من معه فيها وبين أن يكلم من ليس معه فيها إذا كان ذلك في شأن إصلاحها وعملها كما أنه لا فرق بين أن يكلم رجل من معه فيها ومن ليس فيها معه بكلام في غير إصلاحها في أن ذلك يفسدها.
قالوا وإذا كانت العلة شأن إصلاح الصلاة فالمنفرد قد شملته تلك العلة فلا يخرج عنها قالوا وقد تكلم النبي ﷺ وأصحابه يوم ذي اليدين في شأن الصلاة وبنوا على ما صلوا ولو كان بين المنفرد والجماعة فرق لبينه رسول الله ﷺ ولقال إنما هذا لمن كان مع إمامه خاصة دون المنفرد ولما سكت عن ذلك لو اختلف حكمه والله أعلم.
قال أبو عمر : من حجة من ذهب إلى الوجه الأول ممن يقول بقول بن القاسم في هذا الباب أن النهي عن الكلام في الصلاة على ما ورد في حديث بن مسعود وغيره إنما خرج على رد السلام في الصلاة وعلى مجاوبة من جاء فسأل بكم سبق من الصلاة وعلى من عرضت له حاجة فأمر بها وهو في صلاة وقد كان في مندوحة عن ذلك حتى يخلو من صلاته فعلى هذا خرج النهي عن الكلام في الصلاة وجاء خبر ذي اليدين بجواز الكلام في إصلاحا الصلاة إذا لم يوجد بد من الكلام فوجب استعمال الأخبار كلها وإلا يسقط بعضها ببعض ولا سبيل إلى ذلك إلا بهذا التخريج والتوجيه والله أعلم.
وهذا ليس للمنفرد لأن المنفرد قد أمر بالبناء على يقينه فكان له في ذلك مندوحة عن الكلام لأن الكلام إنما جاز فيما لا يوجد منه مندوحة والله أعلم فهذا ما لمالك وأصحابه في رواية بن القاسم وغيره في مسئلة ذي اليدين وأما سائر العلماء فنحن نذكر ما صح في ذلك عندنا عنهم أيضا بعون الله.
أما أحمد بن حنبل فذكر الأثرم عنه أنه قال ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لم تفسد عليه صلاته فإن تكلم بغير ذلك فسدت عليه وقال في موضع آخر سمعت أحمد بن حنبل يقول في قصة ذي اليدين : إنما تكلم ذو اليدين وهو يرى أن الصلاة قد قصرت وتكلم النبي عليه السلام وهو دافع لقول ذي اليدين فكلم القوم فأجابوه لأنه كان عليهم أن يجيبوه.
وذكر الخرقي أن مذهب أحمد بن حنبل فيمن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته إلا الإمام خاصة فإنه إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل صلاته.
وأما الأوزاعي فمذهبه جواز الكلام في الصلاة في كل ما يحتاج إليه المصلى مما يعذر فيه قال الأوزاعي لو أن رجلا قال لإمام جهر بالقراءة في العصر إنها العصر لم يكن عليه شيء قال ولو نظر إلى غلام يريد أن يسقط في بئر فصاح به أو انصرف إليه أو جبذه لم يكن بذلك بأس.
وأما الشافعي فقال لا يشك مسلم أن النبي ﷺ لم ينصرف إلا وهو يرى أن قد أكمل الصلاة وظن ذو اليدين أن الصلاة قد قصرت بحادث من الله ولم يقبل رسول الله صلى الله عليه من ذي اليدين إذ سأل غيره ولما سأل غيره احتمل أن يكون سأل من لم يسمع كلامه فيكونون مثله يعني مثل ذي اليدين واحتمل أن يكون سأل من سمع كلامه ولم يسمع النبي ﷺ من رد عليه فلما لم يسمع النبي عليه السلام من رد عليه كان في معنى ذي اليدين من أنه لم يدر أقصرت الصلاة أم نسي رسول الله فأجابه ومعناه معنى ذي اليدين مع أن الفرض عليهم جوابه ألا ترى أن النبي ﷺ لما أخبروه فقبل قولهم لم يتكلم ولم يتكلموا حتى بنوا على صلاتهم قال فلما قبض رسول الله ﷺ تناهت الفرائض فلا يزاد فيها ولا ينقص منها أبدا قال فهذا فرق ما بيننا وبينه إذا كان أحدنا إماماً اليوم.
قال أبو عمر : فالذي حصل عليه قول مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه في هذه المسئلة مما لا يختلفون فيه أن الكلام والسلام ساهيا في الصلاة لا يفسدها ولا يقدح في شيء منها وتجزئ منه سجدتا السهو وليستا ها هنا بواجبة فرضا عند واحد منهم ومن نسيهما ولم يسجدهما لم تضره ويسجدهما عند مالك وأصحابه متى ما ذكر وإنما الخلاف بين مالك والشافعي أن مالكا يقول لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في إصلاحها وشأنها وهو قول ربيعة وابن القاسم إلا ما روى عنه في المنفرد.
وقال الشافعي وأصحابه ومن تابعهم من أصحاب مالك وغيرهم أنه إن تعمد الكلام وهو يعلم أنه لم يتم الصلاة وأنه فيها أفسد صلاته وإن تكلم ساهيا أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة لأنه قد أكملها عند نفسه فهذا يبنى ولا يفسد عليه كلامه هذا صلاته.
وأجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة إذا كان المصلى يعلم أنه في صلاة ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته يفسد الصلاة إلا ما روى عن الأوزاعي أنه من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد بذلك صلاته وهو قول ضعيف في النظر لقول الله عز وجل : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة : من الآية238] .
قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة : من الآية238] . فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال ابن مسعود سمعنا رسول الله ﷺ يقول : "إن الله قد أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة".
وقال معاوية بن الحكم سمعت رسول الله ﷺ يقول : "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" وليس الحادث الجسيم الذي يجب له قطع الصلاة ومن أجله يمنع من الاستيناف فمن قطع صلاته لما يراه من الفضل في إحياء نفس أو ما كان يشمل ذلك استأنف صلاته ولم يبن هذا هو الصحيح إن شاء الله وأجمعوا أن السلام فيها عامدا قبل تمامها يفسدها.
قال أبو عمر : وأما العراقيون أبو حنيفة وأصحابه والثوري فذهبوا إلى أن الكلام في الصلاة يفسدها على أي حال كان سهوا أو عمدا لصلاح الصلاة كان أو لغير ذلك. واختلف أصحاب أبي حنيفة في السلام فيها ساهيا قبل تمامها فبعضهم أفسد صلاة المسلم ساهيا وجعله كالمتكلم ساهيا وبعضهم لم يفسدها بالسلام فيها سهيا وكلهم يفسدها بالكلام ساهيا وعامدا وهو قول إبراهيم النخعي وعطاء والحسن وحماد بن أبي سليمان وقتادة.
وزعم أصحاب أبي حنيفة أن حديث أبي هريرة هذا في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم اللذين ذكرنا قالوا وفي حديث ابن مسعود بيان أن الكلام كان مباحا في الصلاة ثم نسخ قالوا فحديث ابن مسعود ناسخ لحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين قالوا وإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام فإنه أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل حديث : "من أدركه الفجر جنبا فلا صوم له" ثم أضافه إلى من حدثه به إذ سئل عنه قالوا وكان كثير الإرسال وجائز للصاحب إذا أخبره الصحابة بشيء أن يحدث به عن رسول الله ﷺ إذا لم يقل سمعت ألا ترى ابن عباس حدث عن رسول الله ﷺ بما لا يكاد يحصى كثرة من الحديث ومعلوم أنه لم يسمع منه إلا أحاديث يسيرة وقالوا ألا ترى إلى أنس بن مالك يقول ما كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله ﷺ ولكن منه ما سمعنا ومنه ما أخبرنا أصحابنا وكل حديث الصحابة مقبول عند جماعة العلماء على كل حال قالوا فغير نكير أن يحدث أبو هريرة بقصة ذي اليدين وإن لم يشهدها قالوا ومما يدل على أن حديث أبي هريرة منسوخ أن ذا اليدين قتل يوم بدر لا خلاف بين أهل السير في ذلك قالوا فيوم ذي اليدين كان قبل يوم بدر واحتجوا بما رواه ابن وهب عن العمري عن نافع عن ابن عمر أن إسلام أبي هريرة كان بعد موت ذي اليدين قالوا وهذا الزهري مع علمه بالأثر والسير وهو الذي لا نظير له في ذلك يقول إن قصة ذي اليدين كانت قبل بدر حكاه معمر وغيره عن الزهري قال الزهري ثم استحكمت الأمور بعد ذلك وهو قول ابن عمر وجماعة أهل السير قالوا وحديث ابن مسعود كان بمكة في حين منصرفه من أرض الحبشة وذلك قبل الهجرة وحديث أبي هريرة كان بالمدينة في قصة ذي اليدين هذا ما لا يدفعه حامل أثر ولا ناقل خبر وابن مسعود شهد بعد قدومه من أرض الحبشة بدرا وأبو هريرة إنما كان إسلامه عام خيبر.
قال أبو عمر : هو كما قالوا إلا أن من ذكر في حديث ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال في حين رجوعه من أرض الحبشة : " إن الله أحدث أن لا تكلموا في الصلاة"، فقد وهم ولم يحفظ ولم يقل ذلك غير عاصم بن أبي النجود وهو عندهم سيء الحفظ كثير الخطأ في الأحاديث والصحيح في حديث ابن مسعود أنه لم يكن إلا بالمدينة وبالمدينة نهى عن الكلام في الصلاة بدليل حديث زيد بن أرقم الأنصاري أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة : من الآية238] . فأمروا بالسكوت في الصلاة ونهوا عن الكلام فيها وقد روى حديث ابن مسعود بما يوافق هذا ولا يدفعه وهو الصحيح لأن السورة مدنية وتحريم الكلام في الصلاة كان بالمدينة.
وأما رواية عاصم في حديث ابن مسعود فأخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال : "كنا نسلم على النبي ﷺ في الصلاة قبل أن نأتي أرض الحبشة فيرد علينا فلما رجعنا سلمت عليه وهو يصلي فلم يرد علي فأخذني ما قرب وما بعد فجلست حتى قضى النبي عليه السلام الصلاة فقلت يا رسول الله سلمت عليك وأنت تصلي فلم ترد علي فقال إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة".
قال سفيان هذا أجود ما وجدنا عند عاصم في هذا الوجه وحدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان الأعناقي قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال : "كنا نسلم على النبي ﷺ في الصلاة قبل أن نأتي أرض الحبشة" فذكر مثله سواء.
وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال أخبرنا شعبة عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال أتيت النبي ﷺ وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي فلما قضى صلاته قال : "إن الله يحدث لنبيه ما شاء وإن مما أحدث له ألا تكلموا في الصلاة" ، فلم يقل شعبة في هذا الحديث عن عاصم أن ذلك كان في حين انصراف بن مسعود من أرض الحبشة وقد روى حديث بن مسعود من غير طريق عاصم وليس فيه المعنى الذي ذكره ابن عيينة وغيره عن عاصم بل فيه ما يدل على أن معناه ومعنى حديث زيد بن أرقم سواء.
أخبرنا عبد الله بن محمد الجهني قال حدثنا حمزة بن محمد الكناني قال حدثنا أحمد بن شعيب النسائي قال أخبرنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي قال حدثنا بن أبي عيينة والقاسم يعني بن يزيد الجرمي عن سفيان عن الزبير بن عدي عن كلثوم عن عبد الله بن مسعود وهذا حديث القاسم قال كنت آتي النبي ﷺ وهو يصلي فأسلم عليه فيرد علي فأتيته فسلمت عليه وهو يصلي فلم يرد علي شيئا فلما سلم أشار إلى القوم فقال : "إن الله أحدث في الصلاة ألا تكلموا إلا بذكر الله وما ينبغي لكم وأن تقوموا لله قانتين".
وأما حديث زيد بن أرقم فليس فيه بيان أنه قبل حديث أبي هريرة ولا بعده والنظر يشهد أنه قبله إن شاء الله على ما نبينه في هذا الباب.
والحديث حدثناه محمد بن إبراهيم بن سعيد قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا بن مسعود قال حدثنا يحيى بن سعيد "ح" وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا هشيم قالا جميعا أخبر نا إسماعيل بن أبي خالد قال أحمد بن شعيب في حديثه قال حدثني الحارث بن شبيل وقال أبو داود في حديثه عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال : "كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة فنزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" اللفظ لحديث أبي داود ففي هذا الحديث وحديث بن مسعود دليل على أن المنع من الكلام كان بعد إباحته في الصلاة وأن الكلام فيها منسوخ بالنهي عنه والمنع منه.
وأما قولهم أن أبا هريرة لم يشهد ذلك لأنه كان قبل بدر وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر فليس كما ذكروا بلى إن أبا هريرة أسلم عام خيبر وقدم المدينة في ذلك العام وصحب النبي ﷺ نحو أربعة أعوام ولكنه قد شهد هذه القصة وحضرها لأنها لم تكن قبل بدر وحضور أبي هريرة يوم ذي اليدين محفوظ من رواية الحفاظ الثقات وليس تقصير من قصر عن ذلك بحجة على من علم ذلك وحفظه وذكره فهذا مالك بن أنس قد ذكر في موطأه عن داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد قال سمعت أبا هريرة يقول : "صلى لنا رسول الله ﷺ في ركعتين" ، وذكر الحديث.
هكذا حدث به بن القاسم وابن وهب وابن بكير والقعنبي والشافعي وقتيبة بن سعيد عن مالك عن داود بالإسناد المذكور ولم يقل يحيى صلى لنا في حديث مالك عن داود هذا وإنما قال صلى رسول الله ﷺ وسقط أيضا عن بعضهم قوله : "لنا" وشهود أبي هريرة لذلك وقوله : "صلى لنا رسول الله ﷺ " "وصلى بنا رسول الله" "وبينما نحن مع رسول الله ﷺ " كل ذلك في قصة ذي اليدين محفوظ عند أهل الإتقان.
أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال حدثنا محمد بن سابق قال حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : "بينما أنا مع رسول الله ﷺ في صلاة الظهر فسلم رسول الله من الركعتين فقام رجل من بني سليم فقال يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيبت فقال رسول الله لم تقصر ولم أنسه قال يا رسول الله إنما صليت ركعتين فقال رسول الله أكما يقول ذو اليدين قالوا نعم فصلى بهم ركعتين أخريين" قال يحيى وحدثني ضمضم بن جوس أنه سمع أبا هريرة يقول ثم سجد رسول الله سجدتين.
وذكره أحمد بن شعيب عن إبراهيم بن يعقوب عن الحسن بن موسى عن شيبان بإسناده مثله سواء وحدثني محمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا الفضل بن الحباب القاضي بالبصرة قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال حدثني عكرمة بن عمار قال حدثني ضمضم بن جوس الهفاني قال قال أبو هريرة : "صلى بنا رسول الله ﷺ إحدى صلاتي العشى" وذكر الحديث
حدثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل قال حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى قال قال من سمع أبا هريرة يقول : "صلى بنا رسول الله ﷺ إحدى صلاتي العشي" وذكر الحديث.
وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا حميد بن مسعدة قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا بن عون عن محمد بن سيرين قال قال أبو هريرة : "صلى بنا رسول الله ﷺ إحدى صلاتي العشى قال قال أبو هريرة ولكني نسيت قال فصلى بنا ركعتين ثم سلم فانطلق إلى خشبة معروضة في المسجد فقال بيده عليها كأنه غضبان وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا قصرت الصلاة وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه وفي القوم رجل في يده طول وكان يسمى ذا اليدين فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة قال لم أنس ولم تقصر الصلاة قال أكما يقول ذو اليدين قالوا نعم فجاء فصلى الذي كان ترك ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر".
وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : "صلى بنا رسول الله ﷺ إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر قال فصلى بنا ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يديه عليها إحداهما على الأخرى وخرج سرعان الناس وقالوا أقصرت الصلاة أقصرت الصلاة وفي الناس أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه فقام رجل وكان رسول الله ﷺ يسميه ذا اليدين فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة فقال لم أنس ولم تقصر الصلاة قال بل نسيت يا رسول الله فأقبل رسول الله ﷺ على القوم فقال أصدق ذو اليدين فأومأوا أن نعم فرجع رسول الله إلى مقامه فصلى الركعتين الباقيتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع وكبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع وكبر".
قال فقيل لمحمد : سلم في السهو؟ قال لم أحفظ من أبي هريرة ولكن نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم قال أبو داود كل من روى هذا الحديث لم يقل فأومأوا إلا حماد بن زيد.
قال أبو عمر : وهكذا رواه هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله ﷺ إحدى صلاتي العشى ثم ذكر مثل حديث حماد بن زيد عن أيوب سواء ولم يقل فأومأوا أخبرنيه عبد الله بن محمد قال أخبرنا عبد الحميد بن أحمد قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر الأثرم قال حدثنا عبد الله بن بكر السهمي قال أخبرنا هشام بن حسان فذكره.
قال أبو عمر : فحصل محمد بن سيرين وأبو سفيان مولى ابن أبي أحمد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وضمضم بن جوس كلهم يروى عن أبي هريرة في هذا الحديث صلى بنا رسول الله وكذلك رواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وابن أبي ذيب عن المقبري عن أبي هريرة وقد روى هذا الحديث أيضا عن محمد بن سيرين عن رجل من الصحابة يقال له أبو العريان بمثل حديث أبي هريرة ومعناه ذكره أبو جعفر العقيلي قال حدثنا محمد بن عبيد بن أسباط قال أخبرنا أبو نعيم قال أخبرنا أبو خلدة قال سألت محمد بن سيرين فقلت أصلي وما أدري أركعتين صليت أم أربعا فقال حدثني أبو العريان "أن رسول الله صلى الله عليه صلى يوما ودخل البيت وكان في البيت رجل طويل اليدين وكان رسول الله ﷺ يسميه ذا اليدين فقال ذو اليدين يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت قال لم تقصر ولم أنس قال بل نسيت الصلاة قال فتقدم فصلى بهم ركعتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أوأطول ثم كبر ورفع رأسه ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم كبر ورفع راسه".
ولم يحفظ لي أحد سلم بعد أم لا وقد قيل إن أبا العريان المذكور في هذا الحديث هو أبو هريرة.
وقد روى قصة ذي اليدين عبد الله بن عمر ومعاوية بن حديج وعمران بن حصين وابن مسعدة رجل من الصحابة وكلهم لم يحفظ عن النبي عليه السلام ولا صحبه إلا بالمدينة متأخرا.
فأما حديث ابن عمر فذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ صلى بالناس ركعتين فسها فسلم فقال له رجل يقال له ذو اليدين وذكر الحديث.
وأما حديث معاوية بن خديج فرواه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب أن سويد بن قيس أخبره عن معاوية بن حديج "أن النبي عليه السلام صلى وانصرف وقد بقي عليه من الصلاة ركعة فأدركه رجل فقال نسيت من الصلاة ركعة فرجع فدخل المسجد أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة" فأخبرت بذلك الناس فقالوا أتعرف الرجل قلت لا إلا أن أراه فمر بي فقلت ها هو هذا فقالوا طلحة بن عبيد الله.
وأما حديث عمران بن حصين فرواه شعبة وعبد الوهاب الثقفي وابن علية ويزيد بن زريع وحماد بن زيد كلهم عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين.
أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن خالد الحذاء قال حدثنا أبو قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا خالد الحذاء قال حدثنا أبو قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين واللفظ لحديث مسدد قال : "سلم رسول الله ﷺ في ثلاث ركعات من العصر ثم دخل فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان طويل اليدين فقال الصلاة يا رسول الله" وفي حديث بن علية فذكر له الذي صنع "فخرج مغضبا يجر إزاره فقال أصدق هذا قالوا نعم فصلى تلك الركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم".
وأما حديث بن مسعدة فرواه عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن ابن مسعدة صاحب الجيوش : "إن النبي ﷺ صلى الظهر أو العصر فسلم في ركعتين فقال له ذو اليدين أخففت الصلاة يا رسول الله أم نسيت فقال النبي عليه السلام ما يقول ذو اليدين قالوا صدق يا رسول الله فأتم بهم الركعتين ثم سجد سجدتي السهو وهو جالس بعد ما سلم" وابن مسعدة هذا اسمه عبد الله معروف في الصحابة قد روى عن النبي عليه السلام أنه سمعه يقول : " إني قد بدنت فمن فاته ركوعي أدركه في بطء قيامي" وروى عنه حديث ذي اليدين وهو معدود في المكيين وحسبك في هذا الحديث بحديث أبي هريرة ثم حديث بن عمر وحديث عمران بن حصين وغيرهم وهو من الأحاديث التي لا مطعن فيها لأحد وإنما اختلفوا في تأويل شيء منه.
وأما قولهم إن ذا اليدين قتل يوم بدر فغير صحيح وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين ولسنا ندافعهم أن ذا الشمالين مقتول ببدر لأن ابن إسحاق وغيره من أهل السير ذكروه فيمن قتل يوم بدر وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال قتل يوم بدر خمسة رجال من قريش من المهاجرين عبيدة بن الحارث وعامر بن أبي وقاص وذو الشمالين وابن بيضاء ومهجع مولى عمر بن الخطاب.
قال أبو عمر : إنما قال سعيد بن المسيب أنهم من قريش لأن الحليف والمولى يعد من القوم فمهجع مولى عمر وذو الشمالين حليف بني زهرة قال ابن إسحق ذو الشمالين هو عمير بن عمرو بن غبشان بن سليم بن مالك بن أفضى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة حليف لبني زهرة.
قال أبو عمر : فذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر بدليل ما في حديث أبي هريرة ومن ذكرنا معه من حضورهم تلك الصلاة وإن المتكلم بذلك الكلام إلى النبي ﷺ رجل من بني سليم كذلك قال يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقد تقدم ذكرنا لذلك.
وقال عمران بن حصين رجل طويل اليدين يقال له الخرباق وممكن أن يكون رجلان أو ثلاثة يقال لكل واحد منهم ذو اليدين وذو الشمالين ولكن المقتول يوم بدر غير الذي تكلم في حديث أبي هريرة إلى النبي ﷺ حين سها فسلم من اثنتين وهذا قول أهل الحذق والفهم من أهل الحديث والفقه.
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر الأثرم قال سمعت مسددا يقول الذي قتل يوم بدر إنما هو ذو الشمالين بن عبد عمرو حليف لبنى زهرة وهذا ذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي ﷺ .
وقال أبو بكر الأثرم حدثني سليمان بن حرب قال حدثني حماد بن زيد قال ذكر لأيوب البناء بعد الكلام فقال اليس قد تكلم النبي عليه السلام يوم ذي اليدين؟.
قال أبو عمر : فإن قال قائل إن حديث ذي اليدين مضطرب لأن بن عمر وأبا هريرة يقولان سلم من اثنتين وعمران بن حصين يقول من ثلاث ركعات ومعاوية بن حديج يقول إن المتكلم طلحة بن عبيد الله قيل له ليس اختلافهم في موضع السلام من الصلاة عند أحد من أهل العلم بخلاف يقدح في حديثهم لأن المعنى المراد من الحديث هو البناء بعد الكلام ولا فرق عند أهل العلم بين المسلم من ثلاث أو من اثنتين لأن كل واحد منهما لم يكمل صلاته.
وأما ما ذكر في حديث معاوية بن حديج من ذكر طلحة بن عبيد الله فممكن أن يكون أيضا طلحة كلمه وغيره وليس في أن يكلمه طلحة وغيره ما يدفع أن ذا اليدين كلمه أيضا فأدى كل ما سمع على حسب ما سمع وكلهم اتفقوا في أن المعنى المراد من الحديث هو البناء بعد الكلام لمن ظن أنه قد أتم.
وأما قول الزهري في هذا الحديث أنه ذو الشمالين فلم يتابع عليه وحمله الزهري على أنه المقتول يوم بدر وقد اضطرب على الزهري في حديث ذي اليدين اضطرابا أوجب عند أهل العلم بالنقل تركه من روايته خاصة لأنه مرة يرويه عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة قال : "بلغني أن رسول الله ﷺ ركع ركعتين" ، هكذا حدث به عنه مالك وحدث به مالك أيضا عنه عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بمثل حديثه عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة.
ورواه صالح بن كيسان عنه أن أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة أخبره أنه بلغه "أن رسول الله ﷺ صلى ركعتين ثم سلم" وذكر الحديث وقال فيه فأتم ما بقي من صلاته ولم يسجد السجدتين اللتين تسجدان إذا شك الرجل في صلاته حين لقنه الرجل قال صالح قال ابن شهاب فأخبرني هذا الخبر سعيد بن المسيبب عن أبي هريرة قال وأخبرني به أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله ورواه بن إسحاق عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة قال كل قد حدثني بذلك قالوا : "صلى رسول الله بالناس الظهر فسلم من ركعتين" ، وذكر الحديث.
وقال فيه الزهري ولم يخبرني رجل منهم أن رسول الله ﷺ سجد سجدتي السهو فكان ابن شهاب يقول إذا عرف الرجل ما يبنى من صلاته فأتمها فليس عليه سجدتا السهو لهذا الحديث.
وقال ابن جريح حدثني ابن شهاب عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة وأبي سلمة بن عبد الرحمن عمن يقنعان بحديثه "أن النبي عليه السلام صلى ركعتين في صلاة الظهر أو العصر فقال له ذو الشمالين ابن عبد عمرو يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟" وذكر الحديث ورواه معمر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبي هريرة وهذا اضطراب عظيم من ابن شهاب في حديث ذي اليدين وقال مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز له قول ابن شهاب أن رسول الله لم يسجد يوم ذي اليدين سجدتي السهو خطأ وغلط.
وقد ثبت عن النبي عليه السلام أنه سجد سجدتي السهو ذلك اليوم من أحاديث الثقات ابن سيرين وغيره.
قال أبو عمر : لا أعلم أحداً من أهل العلم والحديث المنصفين فيه عول على حديث ابن شهاب في قصة ذي اليدين لاضطرابه فيه وأنه لم يتم له إسنادا ولا متنا وإن كان إماماً عظيما في هذا الشأن فالغلط لا يسلم منه أحد والكمال ليس لمخلوق وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ﷺ فليس قول ابن شهاب أنه المقتول يوم بدر حجة لأنه قد تبين غلطه في ذلك وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة أنه سمع عبيد بن عمير فذكر خبر ذي اليدين قال فأدركه ذو اليدين أخو بنى سليم.
قال أبو عمر : ذو الشمالين المقتول يوم بدر خزاعي وذو اليدين الذي شهد سهو النبي عليه السلام سلمي ومما يدل على أن ذا اليدين ليس هو ذا الشمالين المقتول ببدر ما أخبرناه عبد الله بن محمد قال أخبرنا عبد الحميد بن أحمد قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أحمد بن محمد بن هانئ الأثرم وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قالا حدثنا علي بن بحر قال حدثنا معدى بن سليمان السعدي البصرى قال حدثني شعيب بن مطير ومطير حاضر يصدقه بمقالته قال يا أبتاه أخبرتني أن ذا اليدين لقيك بذي خشب فأخبرك "أن رسول الله ﷺ صلى بهم إحدى صلاتي العشي وهي العصر فصلى ركعتين ثم سلم فقام رسول الله ﷺ وتبعه أبو بكر وعمر وخرج سرعان الناس فلحقه ذو اليدين وأبو بكر وعمر مبتديه فقال يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت فقال ما قصرت الصلاة وما نسيت ثم أقبل رسول الله وثاب الناس فصلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو".
وأخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي قال أخبرنا أحمد بن خالد قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله قال حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا معدي بن سليمان قال حدثنا شعيب بن مطير ومطير حاضر يصدقه بمقالته فذكر مثل ما تقدم سواء إلى آخره.
وأخبرنا أحمد بن عبد الله أن أباه أخبره قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو سليمان معدي بن سليمان صاحب الطعام قال كنا بوادي القرى فقيل إن هاهنا شيخا قديما قد بلغ بضعا ومائة سنة فأتيناه فإذا رجل يقال له مطير وإذا ابن له يقال له شعيب ابن ثمانين سنة فقلنا لابنه قل له يحدث بحديث ذي اليدين فثقل على الشيخ فقال ابنه أليس حدثتنا أن ذا اليدين تلقاك بذي خشب فقال صلى رسول الله ﷺ إحدى صلاتي العشي وهي العصر ثم ذكر معنى حديث علي بن بحر.
أخبرنا أحمد بن عبد الله قال أخبرنا أبي قال أخبرنا أحمد بن خالد قال حدثنا أحمد بن عبد الله قال سمعت العباس بن يزيد يقول حدثني معدي بن سليمان الحناط وكانوا يرون أنه من الأبدال فهذا يبين لك أن ذا اليدين عمر عمرا طويلا وأنه غير المقتول ببدر.
وفيما قدمنا من الآثار الصحاح كفاية لمن عصم من العصبية.
وقد قيل أن ذا اليدين عمر إلى خلافة معاوية وأنه توفي بذي خشب فالله أعلم
ولو صح للمخالفين ما ادعوه من نسخ حديث أبي هريرة بتحريم الكلام في الصلاة لم يكن لهم في ذلك حجة لأن النهي عن الكلام في الصلاة إنما توجه إلى العامد القاصد لا إلى الناسي لأن النسيان متجاوز عنه، والناسي والساهي ليسا ممن دخل تحت النهي لاستحالة ذلك في النظر فإن قيل فإنكم تجيزون الكلام في الصلاة عامدا إذا كان في شأن إصلاحها قيل لقائل ذلك أجزناه من باب آخر قياسا على ما نهى عنه من التسبيح في غير موضعه من الصلاة وإباحته للتنبيه على ما أغفله المصلى من صلاته لمستدركه واستدلالا بقصة ذي اليدين أيضا في ذلك والله أعلم.
وهذا المعنى قد نزع به أبو الفرج وغيره من أصحابنا وفيما قدمنا كفاية إن شاء الله.
وقد تدخل على أبي حنيفة وأصحابه مناقضة في هذا الباب لقولهم أن المشي في الصلاة لإصلاحها عامدا جائز كالراعف ومن يجرى مجراه عندهم للضرورة إلى خروجه وغسل الدم عنه ووضوئه عندهم وغير جائز فعل مثل ذلك في غير إصلاح الصلاة وشأنها فكذلك الكلام يجوز منه لإصلاح الصلاة وشأنها ما لا يجوز لغير ذلك إذا الفعلان منهي عنهما والله أعلم.
وممن قال من السلف بمعنى حديث ذي اليدين ورأى البناء جائزا لمن تكلم في صلاته ساهيا عبد الله بن الزبير وابن عباس وعروة وعطاء والحسن وقتادة والشعبي وروى أيضا عن الزبير بن العوام وأبي الدرداء مثل ذلك وقال بقول أبي حنيفة في هذا الباب إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وروى عن قتادة أيضا مثله والحجة عندنا في سنة رسول الله ﷺ فهي القاضية فيما اختلف فيه وبالله التوفيق.
وفي هذا الحديث أيضا إثبات حجة مالك وأصحابه في قولهم إذا نسي الحاكم حكمه فشهد عليه شاهدان نفذه وأمضاه وإن لم يذكره لأن النبي عليه السلام رجع إلى قول ذي اليدين ومن شهد معه إلى شيء لم يذكره.
وقال الشافعي وأبو حنيفة لا ينفذه حتى يذكر حكمه به على وجهه.
وفيه إثبات سجود السهو على من سها في صلاته.
وفيه أن السجود يكون بعد السلام إذا زاد الإنسان في صلاته شيئا سهوا وبه استدل أصحابنا على أن السجود بعد السلام فيما كان زيادة من السهو في الصلاة.
وفيه أن سجدتي السهو يسلم منهما ويكبر في كل خفص ورفع فيهما وهذا موجود في حديث أبي هريرة وعمران بن حصين في قصة ذي اليدين من وجوه ثابتة وسنذكر اختلاف الفقهاء في سجود السهو وموضعه من الصلاة في باب زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ويأتي منه ذكر في باب ابن شهاب عن الأعرج عن ابن بحينة إن شاء الله.
واختلف المتأخرون من الفقهاء في رجوع المسلم ساهيا في صلاته إلى تمام ما بقي عليه منها هل يحتاج في ذلك إلى إحرام أم لا فقال بعضهم لا بد أن يحدث إحراما يجدده لرجوعه إلى تمام صلاته وان لم يفعل وقال بعضهم ليس ذلك عليه وإنما عليه أن ينوى الرجوع إلى تمام صلاته فإن كبر لرجوعه فحسن لأن التكبير شعار حركات المصلى وإن لم يكبر فلاشيء عليه لأن أصل التكبير في غير الإحرام إنما كان لإمام الجماعة ثم صار سنة بمواظبة رسول الله ﷺ حتى لقي الله وسنذكر هذا المعنى ممهدا في باب ابن شهاب عن أبي سلمة وعن علي بن حسين إن شاء الله.
وإنما قلنا أنه إذا نوى الرجوع إلى صلاته ليتمها فلا شيء عليه وإن لم يكبر لأن سلامه ساهيا لا يخرجه عن صلاته ولا يفسدها عليه عند الجميع وإذا كان في صلاة يبنى عليها فلا معنى للإحرام ها هنا لأنه غير مستأنف لصلاته بل هو متم لها بان فيها وإنما يؤمر بتكبيرة الإحرام المبتدئ وحده وبالله التوفيق.
حديث ثان لأيوب السختياني مسند صحيح
مالك عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية الأنصارية أنها قالت : "دخل علينا رسول الله ﷺ حين توفيت ابنته فقال اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني قالت فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه فقال أشعرنها إياه" . قال مالك يعني بحقوه إزاره.
قال أبو عمر : قالت طائفة من أهل السير والعلم بالخبر أن ابنة رسول الله ﷺ التي شهدت أم عطية غسلها هي أم كلثوم، فالله أعلم، وكل من روى هذا الحديث فيما علمت عن مالك في الموطأ يقولون فيه بعد قوله أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك وسقط ليحيى إن رأيتن ذلك ليس في روايته ولا في نسخته في الموطأ ولا أعلم أحداً من أصحاب أيوب أيضا إلا وقد ذكر هذه الكلمة في حديثه هذا قوله إن رأيتن ذلك وقد روى هذا الحديث عن أيوب جماعة أثتبهم فيه حماد بن زيد وابن علية وروايتهما لهذا الحديث كرواية مالك سواء إلى آخره إلا أنهما زادا فيه فقالا قال أيوب وقالت حفصة بنت سيرين عن أم عطية في هذا الحديث : "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" قال وقالت حفصة : قالت أم عطية : "مشطناها ثلاثة قرون"
قال أبو عمر : كانت حفصة بنت سيرين قد روت هذا الخبر عن أم عطية بأكمل ألفاظ فكان محمد بن سيرين يروى عن أخته حفصة عن أم عطية من ذلك ما لم يحفظه عن أم عطية فمما كان يرويه عن حفصة عن أم عطية قولها ومشطناها ثلاثة قرون لم يسمع بن سيرين هذه اللفظة من أم عطية فكان يرويها عن أخته حفصة عن أم عطية حدث بذلك عن أيوب عن ابن سيرين عن حفصة عن أم عطية قوم منهم بن عيينة ويزيد بن زريع.
وقد روى أيوب هذا الحديث عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية وعن محمد بن سيرين عن أم عطية فكان يروى عن كل واحد منهما حديثه على وجهه وكان من أحفظ الناس.
قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا أحمد بن محمد القاضي البرتي ببغداد قال حدثنا أبو معمر قال : حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت : "دخل علينا رسول الله ﷺ ونحن نغسل ابنة له فقال اغسلنها بماء وسدر واغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك واجعلن في آخرهن كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا ألقى إلينا حقوه فقال أشعرنها إياه قالت فمشطناها أو قالت ضممنا رأسها ثلاثة قرون".
قال أبو عمر : هذا الحديث هو أصل السنة في غسل الموتى ليس يروى عن النبي عليه السلام في غسل الميت حديث أعم منه ولا أصح وعليه عول العلماء في ذلك وهو أصلهم في هذا الباب.
وأما رواية حفصة عن أم عطية في هذا الحديث أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك فإن ذكر السبع وما فوقها لا يوجد من حديث أم عطية إلا من رواية حفصة بنت سيرين ولا أعلم أحداً من العلماء قال بمجاوزة سبع غسلات في غسل الميت وقد روى أنس عن أم عطية هذا الحديث بما يدل على أن الغسلات لا يتجاوز بها سبع وذلك موافق لرواية محمد بن سيرين.
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا محمد بن سنان العوقي أبو بكر قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة عن أنس انه كان يأخذ ذلك عن أم عطية قالت : "غسلنا ابنة النبي عليه السلام فأمرنا أن نغسلها بالسدر ثلاثا فإن أنجت وإلا فخمسا وإلا فأكثر من ذلك"، قال فرأينا أن أكثر من ذلك سبع.
واختلف العلماء في البلوغ بغسل الميت إلى سبع غسلات فقال منهم قائلون أقصى ما يغسل الميت ثلاث غسلات فإن خرج منه شيء بعد الغسلة الثالثة غسل ذلك الموضع وحده ولا يعاد غسله وممن قال هذا أبو حنيفة وأصحابه والثوري وإليه ذهب المزني وأكثر أصحاب مالك ومنهم من قال يوضأ إذا خرج منه شيء بعد الغسلة الثالثة ولا يعاد غسله لأن حكمه حكم الجنب إذا اغتسل وأحدث بعد الغسل استنجى بالأحجار أو بالماء ثم توضأ فكذلك الميت وقال ابن القاسم إن وضئ فحسن وإنما هو الغسل.
قال أبو عمر : لأنها عبادة على الحي قد أداها وليس على الميت عبادة وقال الشافعي إن خرج منه شيء بعد الغسلة الثالثة أعيد غسله وتحصيل مذهب مالك أنه إذا جاء منه الحدث بعد كمال غسله أعيد وضوءه للصلاة ولم يعد غسله وقال أحمد بن حنبل يعاد غسله أبدا إذا خرج منه شيء إلى سبع غسلات ولا يزاد على سبع وإن خرج منه شيء بعد السابعة غسل الموضع وحده وإن خرج منه شيء بعد ما كفن رفع ولم يلتفت إلى ذلك وهو قول بن إسحاق وكل قول من هذه الأقوال قد روى عن جماعة من التابعين ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال يغسل الميت ثلاثا فإن خرج منه شيء بعد الثلاثة غسلوه خمسا فإن خرج منه شيء غسل سبعا قال وأخبرنا هشام عن ابن سيرين مثله قال هشام وقال الحسن يغسل ثلاثا فإن خرج منه شيء غسل ما خرج منه ولم يزد على الثلاث قال وأخبرنا ابن جريج قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول : "غسل رسول الله ﷺ ثلاث غسلات كلهن بماء وسدر" قال وأخبرنا الثوري عن الزبير بن عدي عن إبراهيم قال في غسل الميت الأولى بماء قراح يوضيه وضوء الصلاة والثانية بماء وسدر والثالثة بماء قراح ويتبع مساجده بالطيب.
قال أبو عمر : كان إبراهيم النخعي لا يرى الكافور في الغسلة الثالثة ولا يغسل الميت عنده أكثر من ثلاث ليس في شيء منها كافور وإنما الكافور عنده في الحنوط لا في شيء من الماء وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه ولا معنى لذلك لأنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال للنساء اللاتي غسلن ابنته اجعلن في الآخرة كافورا وعلى هذا جمهور العلماء أن يغسل الميت الغسلة الأولى بالماء القراح والثانية بالماء والسدر والثالثة بماء فيه كافور.
حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا هدبة بن خالد قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة عن محمد بن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية يغسل بالماء والسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور ومن أهل العلم من يذهب إلى أن الغسلات الثلاث كلها بالسدر على ما جاء في الحديث أن رسول الله ﷺ غسل ثلاث غسلات كلهن بماء وسدر .
وقال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل تذهب إلى السدر في الغسلات كلها قال نعم السدر فيها كلها على حديث أم عطية : "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر" وحديث ابن عباس : "بماء وسدر" ثم قال ليس في غسل الميت أرفع من حديث أم عطية ولا أحسن منه فيه ثلاثا أو خمسا أو سبعا وابدأن بميامنها ثم قال ما أحسنه. حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن خالد الحذاء عن حفصة عن أم عطية أن رسول الله ﷺ قال لهن في غسل ابنته : "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها".
قال أبو عمر : تطهير الميت تطهير عبادة لا إزالة نجاسة وإنما هو كالجنب وغسله كغسل الجنب سواء فأول ما يبدأ الغاسل به من أمره بعد ستره جهده أن يعصر بطنه عصرا خفيفا رفيقا فإن الاستنجاء يقدم في الوضوء على كل شيء فإن خرج منه شيء تناول غسل أسفله وعلى يده خرقة ولا يحل له أن يباشر قبله ولا دبره إلا وعلى يده خرقة ملفوفة يدخل به يده من تحت الثوب الذي يسجى به الميت ويستر به للغسل فيغسل فرجيه غسلا ناعما ويوالي بصب الماء على يد الغاسل حتى يصح إنقاؤه ثم يبتدئ فيوضئه وضوء الصلاة قال أبو الفرج حاكيا عن مالك يجعل الغاسل خرقة على يده يباشر بها فرج الميت إن احتاج إلى ذلك وكذلك قال الوقار.
قال أبو عمر : اختلف العلماء في مضمضة الميت عند وضوئه وفي غسل أنفه ودلك أسنانه فرأى ذلك منهم قوم وأباه آخرون ولا وجه لقول من أبى من ذلك فإذا فرغ بوضوئه بدأ بغسل شقه الأيمن من رأسه إلى طرف قدمه اليمنى ثم يصرفه برفق على شقه فيغسل شقه الأيسر من قرن رأسه إلى طرف قدمه حتى يأتي الغسل على جميعه بالماء القراح وإن كان فيه سدر فحسن ثم يغسله غسلة ثانية بماء فيه ورق سدر مدقوق، أو بسدر يجعله في رأسه ولحيته ويغسله به ويبدأ برأسه قبل لحيته فإن لم يكن سدر فبالأشنان أو بالخطمي أو بالحرض أو الماء القراح حتى يأتي أيضا على تمام غسله كغسل الجنابة وهو في ذلك كله يستره طاقته ويغض بصره عن عورته كما يفعل بالحي وإن كان به قروح أو جراح أخذ عفوه ومن أهل العلم من يستحب أن يؤضيه في كل غسلة ومنهم من يقول الوضوء في أو ل مرة يكفي ثم يغسل الثالثة بماء الكافور كما غسله في الأولى فإذا أكمل غسله جففه وحشى داخل إزاره قطنا وهو على مغتسله ثم شد عليه شدادته من خلفه إلى مقدمه ثم حمله رفقا في ثوبه إلى نعشه وأدرجه في أكفانه ووجه العمل أن يبدأ الغاسل بتهذيب أكفانه ونشرها وتجميرها قبل أخذه في غسله والوتر عندهم في الغسلات مستحب غير واجب عند الجميع وليس الوتر في غسل الميت كالوتر في الاستنجاء بالأحجار عند من أوجب ذلك.
ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال يغسل الميت وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا كلهن بماء وسدر وفي كل غسلة يغسل رأسه مع سائر جسده قلت ويجزئ واحدة قال نعم إذا أنقوا قال وأخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة وابن سيرين قالا إذا طال مرضه ولم يجدوا سدرا غسلوه بالأشنان إن شاؤوا ويقال أن أعلم التابعين بغسل الميت ابن سيرين ثم أيوب وكلاهما كان غاسلا متوليا لذلك بنفسه محسنا مجيدا.
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين في الميت يغسل قال توضع خرقة على فرجه وأخرى على وجهه فإذا أراد أن يوضيه كشف الخرقة عن وجهه فيوضيه بالماء وضوء الصلاة ثم يغسله بالماء والسدر مرتين من رأسه إلى قدمه يبدأ بميامنه ولا يكشف الخرقة التي على فرجه ولكن يلف على يده خرقة إذا أراد أن يغسل فرجه ويغسل ما تحت الخرقة التي على فرجه بماء فإذا غسله مرتين بالماء والسدر غسله المرة الثالثة بماء فيه ثم كافور قال والمرأة أيضا كذلك قال فإذا فرغ الغاسل اغتسل إن شاء أو توضأ.
قال أبو عمر : لا غسل ولا وضوء على الغاسل واجبا عند جماعة الفقهاء وجمهور العلماء وهو المشهور من مذهب مالك والمعول به عند أصحابه على حديث أسماء بنت عميس حين غسلت أبا بكر وستأتي هذه المسألة في بابها من هذا الكتاب إن شاء الله
قال أبو عمر : إنما قال ابن سيرين يضع خرقة على وجهه سترا له لأن الميت ربما يتغير وجهه بالسواد ونحوه عند الموت وذلك لداء أو لغلبة دم فينكره الجهال وقد روى عن النبي عليه السلام من مراسل الثقات الشعبي وغيره أنه قال : "من غسل ميتا ولم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
وقال أبو بكر الأثرم قيل لأحمد بن حنبل يغطي وجه الميت قال لا إنما يغطي ما بين سرته إلى ركبته وأما قوله في هذا الحديث
أعطانا حقوه فقال أشعرنها إياه فالحقو الإزار وقيل المئزر قال منقذ بن خالد الهذلي :
مكبلة قد خرق الردف حقوها ... وأخرى عليها حقوها لم يخرق
والحقو مكسور الحاء بلغة هذيل وقد قيل حقوها بالفتح وجمعه حقى وأحقاء وأحق.
وأما قوله : "وأشعرنها إياه" فإنه أراد اجعلنه يلي جسدها قبل سائر أكفانها ومنه قول عائشة كان رسول الله ﷺ لا يصلي في شعرنا ولا لحفنا يعني ما يلي أجسادنا من الثياب ونحن حيض ومنه الحديث الأنصار شعار والناس دثار فالشعار ها هنا أراد به ما قرب من القلب والدثار ما فوق الشعار.
وقال ابن وهب في قوله أشعرنها إياه إنه يجعل الإزار شبه المئزر ويفضي به إلى جلدها وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لأيوب ما قوله أشعرنها إياه أتوزر قال لا أراه إلا قال ألففنها فيه قال وكذلك كان بن سرين ي أمر بالمرأة أن تشعر لفافة ولا توزر وقال إبراهيم النخعي الحقو فوق الدرع وخالفه الحسن وابن سيرين والناس فجعلوا الحقو يلي أسفلها مباشرا لها وقال ابن علية الحقو هو النطاق الذي تنطق به الميتة وهو سبنية طويلة يجمع بها فخذها تحصينا لها أن يخرج منها شيء كنطاق الحيض وهو أحدا الخمسة الأثواب التي تكفن بها المرأة أحدها درع وهو القميص ولفافتان وخصار وهذا النطاق لأنه يؤخذ بعد غسلها قطعة كرسف فيحشى به أسفلها ويؤخذ النطاق فيلف على عجزها ويجمع به فخذاها كما يلف النطاق عليها ويخرج طرفا السبنية مما يلي عجزها يشد به عليها إلى قريب من ركبتها وقد قال عيسى بن دينار يلف على عجزها وفخذيها حتى يسوى ذلك منها بسائر جسدها ثم تدرج في اللفافتين كما يدرج الرجل قال ولو لم يكن إلا ثوب واحد كان الخمار أولى من المئزر لأنها تصلى في الدرع والخمار ولا تصلى في الدرع والمئزر.
قال أبو عمر : كيف ما صنع بها مما يكون تحصينا لأسفلها فحسن وليس في ذلك شيء لازم لا يتعدى وقد ذكرنا أقاويل العلماء في أكفان الرجال والنساء في باب هشام بن عروة والحمد لله.
وفي هذا الحديث ما يدل على أن النساء أولى بغسل المرأة من الزوج لأن بنات رسول الله اللواتي توفين في حياته زينب ورقية وأم كلثوم ولم يبلغنا أن إحداهن غسلها زوجها. وأجمع العلماء على جواز غسل المرأة زوجها وغسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر بمحضر جلة من الصحابة وكذلك غسلت أبا موسى امرأته.
واختلفوا في غسل الرجل امرأته فأجاز ذلك جمهور من العلماء من التابعين والفقهاء وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وحجتهم أن علي بن أبي طالب غسل زوجته فاطمة وقياسا على غسلها إياه ولأنه كان يحل له من النظر إليها ما لا يحل للنساء وقال أبو حنيفة والثوري وروى ذلك عن الشعبي لا يغسلها لأنه ليس في عدة منها وهذا ما لا معنى له لأنها في حكم الزوجة لا في حكم المبتوتة بدليل الموارثة والأصل في هذه المسئلة غسل علي فاطمة رضي الله عنهما رواه الدراوردي عن عمارة بن المهاجر عن أم عون بنت عبد الله بن جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس قالت : "أوصت فاطمة رضي الله عنها أن نغسلها أنا وعلي فغسلتها أنا وعلي".
وذكر عبد الرزاق هذا الخبر فلم يقم إسناده وهو خبر مشهور عند أهل السير قال عبد الرزاق وأخبرنا الثوري قال سمعت حمادا يقول إذا ماتت المرأة مع القوم فالمرأة يغسلها زوجها والرجل امرأته قال سفيان ونحن نقول لا يغسل الرجل امرأته لأنه لو شاء تزوج أختها حين ماتت ويقول تغسل المرأة زوجها لأنها في عدة منه قال عبد الرزاق وأخبرنا هشام عن الحسن قال إذا لم يجدوا امرأة مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية غسلها زوجها وابنها.
قال أبو عمر : قد روى عن ابن عباس أنه قال أحق الناس بغسل المرأة والصلاة عليها زوجها ويحتمل هذا من الرجال فذلك جائز والنساء أيضا جائز كل ذلك والله الموفق للصواب.
وأما غسل المرأة زوجها فلم يختلفوا فيه وهو أولى ما عمل به وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة "أن أبا بكر أوصى أسماء أن تغسله وكانت صائمة فعزم عليها لتفطرن وقال أبو بكر بن حفص أوصى أبو بكر أسماء بنت عميس قال إذا أنا مت فاغسليني وأقسم عليك لتفطرن ليكون أقوى لك ولتغسلي عبد الرحمن ابني".
حديث ثالث لأيوب السختياني من غير رواية يحيى
مالك عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن رجل أخبره عن عبيد الله بن عباس أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال إن أمي عجوز كبيرة لا تستطيع أن نركبها على البعير ولا تمتسك وان ربطتها خفت عليها أن تموت أفأحج عنها؟ قال : "نعم". هكذا رواه القعنبي ومطرف وابن وهب عن مالك واختلف فيه علي بن القاسم فمرة قال فيه عن عبد الله بن عباس وهو الأثبت عنه ومرة قال عن عبيد الله بن عباس والصحيح فيه من رواية مالك عبيد الله بن عباس وقد اختلف فيه أيضا على بن سيرين من غير رواية مالك ومن غير رواية أيوب أيضا فقيل عنه فيه عن عبيد الله بن عباس وقيل عنه عن الفضل بن عباس وقيل عنه عن عبد الله بن عباس وهم إخوة عدد الفضل وعبد الله وعبيد الله بنو العباس بن عبد المطلب ولهم إخوة قد ذكرناهم في كتاب الصحابة والحمد لله.
ولم يسمع ابن سيرين هذا الحديث لا من الفضل ولا من غيره من بني العباس وإنما رواه عن يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار عن ابن عباس وهو حديث يحيى بن أبي إسحاق مشهور عند البصريين معروف رواه عنه جماعة من أئمة أهل الحديث ويحيى بن أبي إسحاق أصغر من ابن سيرين بكثير ومثله يروى عن ابن سيرين وقال بعض أصحاب مالك في هذا الحديث عن مالك عن أيوب عن محمد بن سيرين عن ابن عباس ولم يسمه ثم طرحه مالك بآخره فلم يروه يحيى بن يحيى صاحبنا ولا طائفة من رواة الموطأ وإنما طرحه مالك لأن الاضطراب فيه كثير فمن الاضطراب فيه ما ذكره أحمد بن زهير في تاريخه حدثنا به أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن محمد بن سيرين عن عبيد الله بن العباس قال : "كنت رديف النبي ﷺ وأتاه رجل فقال يا رسول الله إن أمه عجوز إن حزمها خشي أن يقتلها وإن حملها لم تستمسك قال فأمره أن يحج عنها" قال أحمد بن زهير ولم يسمعه بن سيرين من ابن عباس هذا وبينهما رجلان حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثني فضيل بن عياض عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار عن الفضل بن عباس قال : "أتاه رجل فقال يا رسول الله إن أمي عجوز" فذكر الحديث.
وقال أحمد بن زهير أسقط يزيد بن إبراهيم من إسناد هذا الحديث رجلين يحيى بن أبي إسحاق وسليمان بن يسار قال أحمد بن زهير وحدثنا عقبة بن مكرم البصري قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا هشام يعني بن حسان عن محمد بن سيرين عن يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار عن الفضل بن عباس " أنه كان رديف النبي ﷺ " فذكر الحديث.
قال وحدثني أبي قال حدثنا ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق قال حدثني سليمان بن يسار قال حدثني أحد ابني العباس إما عبيد الله وإما الفضل أنه كان رديف النبي عليه السلام فأتاه رجل فقال يا رسول الله إن أمي أو إن أبي ثم ذكر الحديث قال وحدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني قال حدثنا حماد بن سلمة عن يحيى بن أبي إسحاق قال قال سليمان بن يسار حدثني عبيد الله بن العباس إن رجلا أتى النبي عليه السلام فذكر الحديث كذا قال حماد بن سلمة عن عبيد الله بن العباس وحده وابن علية يشك في عبيد الله أو الفضل قال وخالفه شعبة فجعله عن الفضل بن عباس ولم يشك قال حدثنا علي بن الجعد قال أخبرنا شعبة عن يحيى بن أبي إسحاق قال سمعت سليمان بن يسار يحدث عن الفضل بن عباس أن رجلا قال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير ثم ذكر الحديث.
قال أبو عمر : حديث علي بن الجعد هذا عن شعبة حدثناه أحمد بن قاسم بن عيسى المقرئ قال حدثنا عبيد الله بن حبابة ببغداد قال حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال حدثنا علي بن الجعد قال أخبرنا شعبة فذكره.
قال أبو عمر : ورواه هشيم عن يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس هكذا قال عبد الله ولم يشك حدثناه محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب "ح" وأخبرناه عبد الله بن محمد قال أخبرنا حمزة بن محمد قال
أخبرنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا مجاهد بن موسى عن هشيم عن يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أن رجلا سأل النبي ﷺ إن أبي أدركه الحج وهو شيخ كبير فذكر الحديث.
قال أبو عمر : لم يجود أحد من رواة بن سيرين هذا الحديث إلا هشام بن حسان فإنه أقام إسناده وجوده والقول فيه قوله عن ابن سيرين خاصة في إسناده حدثناه محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية وأخبرنا عبد الله بن محمد الجهني قال حدثنا حمزة الكناني قالا حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا أحمد بن سليمان قال حدثنا يزيد قال أخبرنا هشام عن محمد عن يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار عن الفضل بن عباس أنه كان رديف رسول الله ﷺ فجاءه رجل فقال يا رسول الله أن أمي عجوز كبيرة إن حملتها لم تمتسك وذكر الحديث.
قال أبو عمر : حدث به يزيد بن زريع عن هشام فقال فيه عن ابن عباس لم يسمه أخبرنا أبو عبد الله يعيش بن سعيد قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن غالب التمتام قال حدثنا محمد بن المنهال الضرير قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار عن ابن عباس قال : "كنت رديف النبي عليه السلام فاتاه رجل فقال إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لم يحج وإن حملته على البعير لم يثبت وإن شددته عليه لم آمن عليه قال هل كنت قاضي دين لو كان عليه قال نعم؟ قال فحج عنه".
قال أبو عمر : روى بن سيرين هذا الخبر عن يحيى بن أبي إسحاق وهو أصغر منه فهو يخرج في رواية الكبار عن الصغار وقد روى بن سرين عن أيوب السختياني حديث حكيم بن حزام في بيع ما ليس عندك وهو من ذلك أيضا.
قال أبو عمر : روى عن عبد الوارث حديث بن عباس كما رواه بن علية على الشك في الفضل أوعبيد عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد بن محمد قالا أخبرنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي قال حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا يحيى يعني بن أبي إسحاق حدثنا سليمان بن يسار قال حدثنا الفضل بن عباس أو عبيد الله بن عباس قال كنت رديف رسول الله ﷺ فجاءه رجل فذكر الحديث.
قال أبو عمر : الصحيح الذي لا يشك فيه عالم أن الفضل هو الذي كان رديف رسول الله عام حجة الوداع وقد روى حماد بن زيد هذا الخبر كما رواه عبد الوارث وابن علية على الشك أيضا حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد يعني بن زيد عن يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار قال حدثني الفضل بن عباس أو عبيد الله بن العباس، أن رجلا قال يا رسول الله أن أبي أو أمي عجوز كبيرة إن أنا حملتها لم تمتسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها فقال : "أرأيت إن كان على أبيك دين أو على أمك دين أكنت تقضيه؟ قال : نعم قال : فحج عن أبيك".
قال أبو عمر : روى هذا الحديث ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس من غير شك ورواية ابن شهاب لهذا الحديث هي التي عليها المدار عند أهل العلم لحفظ ابن شهاب وإتقانه إلا أن أكثر أصحاب ابن شهاب قالوا عنه عن سليمان بن يسار عن ابن عباس ولم يسموا.
ورواه عنه مالك عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس فسماه وزيادة مثل مالك مقبولة وتفسيره لمجمل غيره أولى ما أخذ به وهو أثبت الناس في ابن شهاب عند أكثر أهل العلم بالحديث.
وممن رواه عن ابن شهاب كما ذكرنا ولم يسم بن عباس عبد العزيز بن أبي سلمة وابن عيينة والليث بن سعد أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال أخبرنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة قال حدثنا ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن ابن عباس قال جاءت امرأة من خثعم إلى النبي ﷺ فذكر الحديث كذا قال عن ابن عباس لم يسم الفضل ولا عبيد الله ولا عبد الله.
وحدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا سعدويه وأحمد بن يونس قالا حدثنا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار أو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أو عن كليهما عن ابن عباس أن امراة من خثعم قالت ثم ذكر الحديث.
وأخبرنا عبد الوارث قال أخبرنا قاسم قال أخبرنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي وهارون بن معروف قالا حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس " أن امرأة من خثعم سألت رسول الله ﷺ غداة النحر زاد هارون في حديثه والفضل رديفه وقالا جميعاً أن فريضة الله أدركت أبي وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يتمسك على الرحل فهل ترى أن نحج عنه؟ قال : نعم".
قال أبو عمر : الكلام في معنى هذا الحديث وما فيه من الفقه واختلاف الفقهاء فيه يأتي مستوعبا في باب حديث مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار إن شاء الله.
حديث رابع لأيوب السختياني
عن محمد بن سيرين
مالك عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين أن رجلا جعل على نفسه أن لا يبلغ أحد من ولده الحلب فيحلب فيشرب ويسقيه إلا حج وحج به معه فبلغ رجل من ولده الذي قال الشيخ وقد كبر الشيخ فجاء ابنه إلى النبي عليه السلام فأخبره الخبر وقال إن أبي قد كبر ولا يستطيع أن يحج افأحج عنه فقال رسول الله ﷺ : "نعم".
هذا حديث مقطوع من رواية مالك بهذا الإسناد وليس عند يحيى ولا عند من ليس عنده الحديث الذي قبل هذا وهما جميعا مما رماه مالك بآخره من كتابه وهما عند مطرف والقعنبي وابن وهب وابن القاسم في الموطأ ومعنى هذا الحديث والحديث الذي قبله سواء وما ذكرنا من الأسانيد في الحديث الذي قبله يغني عن ذكرها وتكرارها ها هنا إذ المعنى فيهما واحد وهو حج المرء عن غيره وهل يلزم الحج من عجز عنه بدنه والقول في هذا يأتي في باب حديث ابن شهاب عن سليمان بن يسار في قصة الخثعمية وأبيها إن شاء الله.
أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة "ح" وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قالا أخبرنا وكيع قال أخبرنا شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي أنه قال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة والظعن فقال : "حج عن أبيك واعتمر".
أخبرنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حفص بن عمر ومسلم قالا حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أو س عن أبي رزين قال حفص في حديثه رجل من بني عامر أنه قال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال : "احجج عن أبيك واعتمر".
وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا جرير عن منصور عن مجاهد عن يوسف بن الزبير عن عبد الله بن الزبير قال جاء رجل من خثعم إلى رسول الله فقال إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب وأدركته فريضة الله في الحج فهل يجزى أن أحج عنه؟ قال : "أنت أكبر ولده؟ قال : نعم، قال : أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه؟ قال : نعم، قال : فحج عنه" وهذا المعنى وما فيه من تنازع العلماء سيأتي في باب ابن شهاب إن شاء الله.
مالك عن أيوب بن حبيب حديث واحد
وهو مولى سعد بن أبي وقاص كذلك نسبه مالك وغيره يقول أنه أيوب بن حبيب الجمحي القرشي من بني جمح قال مصعب الزبيري هو أيوب بن حبيب بن أيوب بن علقمة بن ربيعة بن الأعور واسم الأعور خلف بن عمرو بن وهيب بن حذافة بن جمح قتل بقديد هكذا قال مصعب.
قال أبو عمر : كان أيوب بن حبيب من ثقات أهل المدينة مات سنة إحد ى وثلاثين ومائة قال البخاري روى عنه مالك وفليح وعباد بن إسحاق.
لمالك عنه في الموطأ من حديث رسول الله ﷺ حديث واحد مسند وهو مالك عن أيوب بن حبيب مولى سعد بن أبي وقاص عن أبي المثنى الجهني أنه قال : " كنت عند مروان بن الحكم فدخل عليه أبو سعيد الخدري فقال له مروان بن الحكم أسمعت من رسول الله ﷺ أنه نهى عن النفخ في الشراب فقال له أبو سعيد نعم فقال له رجل يا رسول الله إني لا أروى من نفس واحد فقال له رسول الله فابن القدح عن فيك ثم تنفس قال فإني أرى القذاة فيه قال فأهرقها".
أبو المثنى الجهني لا أقف على أسمه واسم أبي سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان قد أتينا على ذكر نسبه ووفاته في كتابنا في الصحابة والقذاة ما وقع في إناء الشارب من عود أو ورقة أو ريشة أو نحو ذلك مما يؤذي الشارب.
وفي هذا الحديث من الفقه دخول العالم على السلطان.
وفيه ما كان عليه الأمراء والسلاطين في سالف الأيام في الإسلام من السؤال عن العلم والبحث عنه ومجالسة أهله.
وفيه القراءة على العالم وإن قوله نعم يقوم مقام إخباره وكذلك الإقرار يجرى عندنا هذا المجرى وإن كان غيرنا قد خالفنا فيه وهو أن يقال للرجل ألفلان عندك كذا فيقول نعم فيلزمه كما لو قال لفلان عندي كذا.
وفيه الرخصة في الزيادة على الجواب إذا كان من معنى السؤال.
وفيه إباحة الشرب في نفس واحد وكذلك قال مالك رحمه الله أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد أن أباه أخبره قال أخبرنا محمد بن فطيس قال حدثنا يحيى بن إبراهيم قال حدثنا عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك أنه رأى في قول النبي عليه السلام للرجل الذي قال له إني لا أروى من نفس واحد فقال له النبي عليه السلام فأبن القدح عن فيك قال مالك فكأني أرى في ذلك الرخصة أن يشرب من نفس واحد ما شاء ولا أرى بأسا بالشرب من نفس واحد وأرى فيه رخصة لموضع الحديث إني لا أروي من نفس واحد.
قال أبو عمر : يريد مالك رحمه الله أن النبي عليه السلام لم ينه الرجل حين قال له إني لا أروى من نفس واحد أن يشرب في نفس واحد بل قال له كلاما معناه فإن كنت لا تروى في نفس واحد فأبن القدح عن فيك وهذا إباحة منه للشرب من نفس واحد إن شاء الله.
وقد رويت آثار عن بعض السلف فيها كراهة الشرب في نفس واحد وليس منها شيء تجب به حجة فمن ذلك ما حدثني خلف بن القاسم رحمه الله قال حدثنا مؤمل بن يحيى بن مهدي الفقيه قال حدثنا محمد بن جعفر بن راشد الإمام قال حدثنا علي بن المديني قال حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا إبراهيم بن أبي حبيبة قال أخبر ني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال الشراب بنفس واحد شرب الشيطان وإبراهيم بن أبي حبيبة ضعيف لا يحتج به ولو صح كان المصير إلى المسند أولى من قول الصاحب وأخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن يحيى بن عمر بن علي الطائي قال حدثنا علي بن حرب الطائي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن طاوس قال كان أبي إذا رآني أشرب بنفس واحد نهاني.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا الثقفي عن خالد عن عكرمة أنه كره الشرب بنفس واحد وقال هو شرب الشيطان.
وأخبرنا أحمد بن سعيد بن بشر قال حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم قال حدثنا بن وضاح قال كنت أرى سحنون إذا أتى بالماء يشربه يسمى الله ثم يتناول منه شيئا ثم يرفع رأسه فيحمد الله رأيته يفعل ذلك مرارا.
قال أبو عمر : فعل سحنون هذا حسن في الأدب وليس بسنة ولكنه أهنأ وأمرأ كما قال ﷺ في ذلك ولعل سحنون بلغه في ذلك ما كان ابن عيينة يرويه عن إسرائيل عن كهمس عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال : "الشرب في ثلاثة أنفاس أمرأ وأشفأ وأشهى وأبرأ" وقد لقي سحنون ابن عيينة وأخذ عنه.
وجدت في أصل سماع أبي رحمه الله بخطه أن أبا عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا نصر بن مرزوق قال حدثنا أسد بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة ووكيع وإسرائيل عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي عن أبي عصام عن أنس بن مالك قال : " كان رسول الله ﷺ إذا شرب تنفس ثلاثا ويقول هو أهنأ وأمرأ وأبرأ".
وذكر أبو جعفر العقيلي في كتاب الصحابة له قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال أخبرنا يحيى بن عثمان الحمصي قال أخبرنا اليمان بن عدي الحمصي قال حدثني ثابت بن كثير الضبي البصري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن بهز قال : "كان النبي ﷺ يستاك عرضا ويشرب مصا ويتنفس ثلاثا ويقول هذا أهنأ وأمرأ وأبرأ" قال وأخبرنا جعفر بن محمد الزعفراني قال أخبرنا عمر بن علي بن أبي بكر الكندي قال أخبرنا علي بن ربيعة القرشي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن ربيعة بن أكثم قال : "كان رسول الله ﷺ يستاك عرضا ويشرب مصا ويقول هو هنأ وأمرأ.
قال أبو عمر : هذان الحديثان حديث بهز وحديث ربيعة بن أكثم ليس لإسناديهما عن سعيد أصل وليسا بصحيحين من جهة الإسناد عندهم وقد جاء عن جماعة من السلف إجازة الشرب في نفس واحد كما قال مالك رحمه الله أخبرنا أحمد بن عبد الله أن أباه أخبره قال حدثنا عبد الله بن يونس قال حدثنا بقي بن مخلد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا ابن المبارك عن سالم عن عطاء أنه كان لا يرى بالشرب بالنفس الواحد بأسا قال أبو بكر وحدثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الله بن يزيد قال لم أر أحدا كان أعجل إفطارا من سعيد بن المسيب كان لا ينتظر مؤذنا ويؤتى بالقدح من ماء فيشربه بنفس واحد لا يقطعه حتى يفرغ منه هذا أصح عن سعيد قال وحدثنا الثقفي عن أيوب قال نبئت عن ميمون بن مهران قال رآني عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب فجعلت أقطع شرابي وأتنفس قال إنما نهى أن يتنفس في الإناء فإذا لم تتنفس فأشربه إن شئت بنفس واحد.
قال أبو عمر : قول عمر بن عبد العزيز في هذا هو الفقه الصحيح في هذه المسئلة والنهي عن النفخ في الشراب المذكور في حديث مالك في هذا الباب هو عندي كالنهي عن التنفس في الإناء سواء والله أعلم.
ألا ترى إلى قوله في الحديث فأبن القدح عن فيك ثم تنفس وإذا لم يجز التنفس في الإناء لم يجز النفخ فيه لأنه مثله وقطعة منه وحدثني خلف بن القاسم الحافظ قال حدثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الأسواني قال وكان فاضلا رحمه الله قال حدثنا أحمد بن محمد بن سلام قال حدثنا مجاهد بن موسى قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال : "نهى رسول الله ﷺ أن ينفخ في الإناء أو يتنفس فيه".
وحدثنا أحمد بن عبد الله حدثنا أبي حدثنا محمد بن فطيس حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا أنس بن عياض عن الحرث بن عبد الرحمن الدوسي عن عمه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال : "لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه ولكن إذا أراد أن يتنفس فليؤخر عنه ثم يتنفس".
قال أبو عمر : في حديث النبي ﷺ نحوه وأكثر الآثار إنما جاءت بالنهي عن التنفس في الإناء وقد قلنا أن المعنى واحد والنهي عن هذا نهي أدب لا نهى تحريم لأن العلماء قد أجمعوا أن من تنفس في الإناء أو نفخ فيه لم يحرم عليه بذلك طعامه ولا شرابه ولكنه مسيء إذا كان بالنهي عالما وكان داود بن علي القياسي يقول إن النهي عن هذا كله وما كان مثله نهى تحريم وهو قول أهل الظاهر لا يجوز عند واحد منهم أن يشرب من ثلمة القدح ولا أن يتنفس في الإناء ومن فعل شيئا من ذلك كان عاصيا لله عندهم إذا كان بالنهي عالما ولم يحرم عليه طعامه.
واختلف العلماء في المعنى الذي من أجله ورد النهي عن التنفس في الإناء فقال قوم إنما ذلك لأن الشرب في نفس واحد غير محمود عند أهل الطب وربما آذى الكبد وقالوا الكبد من العب فكره ذلك لذلك كما كره الاغتسال بالماء المسخن بالشمس لأنه قال يورث البرص.
قال أبو عمر : ما أظن هذا صحيحا من قولهم أنه يورث البرص وفي قوله ﷺ هو أهنأ وأمرأ وأبرأ حجة لهذا القول.
وقال آخرون : إنما نهى عن التنفس في الإناء ليزيل الشارب القدح عن فيه لأنه إذا أزاله عن فيه صار مستأنفا للشرب ومن سنة الشراب أن يبتديه المرء بذكر الله فمتى أزال القدح عن فيه حمد الله ثم استأنف فسمى الله فحصلت له بالذكر حسنات فإنما جاء هذا رغبة في الإكثار من ذكر الله على الطعام والشراب.
قال أبو عمر : وهذا تأويل ضعيف لأنه لم يبلغنا أن النبي عليه السلام كان يسمى على طعامه إلا في أوله ويحمد الله في آخره ولو كان كما قال من ذكرنا قوله لسمى عند كل لقمة وحمد عند كل لقمة وهذا لم يرو عنه ولا نعلم أحدا فعله عند كل لقمة من طعامه وإن فعله أحد لم أستحسنه له ولم أذمه عليه وقد روى حديث بمثل هذا المعنى رواه وكيع عن يزيد بن سنان أبي فروة الجزري عن ابن لعطاء بن أبي رباح عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ : "لا تشربوا واحدة كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا شربتم واحمدوا إذا رفعتم".
وقال آخرون إنما نهى عن التنفس في الإناء لأدب المجالسة لأن المتنفس في الإناء قل ما يخلو أن يكون مع نفسه ريق ولعاب ومن سوء الأدب أن يشرب ثم يناول جليسه لعابه ألا ترى أنه لو عمد إلى الإناء فشرب منه ثم تفل فيه وناوله جليسه إن ذلك مما تقذره النفوس وتكرهه وليس من أفعال ذوي العقول فكذلك من تنفس في الإناء لأنه ربما كان مع تنفسه أكثر من التفل من لعابه والله أعلم.
وروى عقيل عن ابن شهاب قال : "بلغني أن رسول الله ﷺ نهى عن النفخ في الطعام والشراب" . قال ولم أر أحداً كان أشد في ذلك من عمر بن عبد العزيز وبالله التوفيق.
فرغ الألف وليس في شيوخ مالك أحد ممن له عنه شيء من حديث النبي عليه السلام في موطأه أول اسمه باء أو تاء.
الحمد لله أولا وآخرا
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وحسبنا الله ونعم الوكيل
ولا حول وولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تم الجزء الأول من كتاب التمهيد ، ويليه الجزء الثاني وأوله باب "ث" ثور بن زيد الديلي والحمد لله حق حمده.