التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد/المجلد الثالث/صفحة واحدة



التمهيد المجلد الثالث

باب الراء ربيعة الرأي

ربيعة بن أبي عبد الرحمن المدني صاحب الرأي مدني تابعي ثقة واسم أبي عبد الرحمن فروخ مولى ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي هذا هو الصحيح

وقيل مولى التيميين ومولى آل المنكدر والصواب ما ذكرنا ويكنى ربيعة أبا عثمان وقيل أبو عبد الرحمن والأول أصح.

وكان أحد فقهاء المدينة الثقات الذين عليهم مدار الفتوى كان أكثر أخذه عن القاسم بن محمد وقد أخذ عن سعيد بن المسيب وسائر فقهاء وقته وأدرك أنس بن مالك وروى عنه

وكان يذكر مع جلة التابعين في الفتوى بالمدينة وكان مالك يفضله ويرفع به ويثني عليه في الفقه والفضل على أنه ممن اعتزل حلقته لإغراقه في الرأي.

وكان القاسم بن محمد يثني عليه أيضا : ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود قال سمعت القاسم بن محمد يقول ما يسرني أن أمي ولدت لي أخا ممن ترون من أهل المدينة إلا ربيعة الرأي.

وذكر ابن سعد قال أخبرني مطرف بن عبد الله قال سمعت مالك بن أنس يقول ذهبت حلاوة الفقه مذ مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الوليد بن شجاع قال حدثنا ضمرة عن رجاء بن أبي سلمة عن ابن عون قال كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يجلس إلى القاسم بن محمد فكان من لا يعرفه يظنه صاحب المجلس يغلب على صاحب المجلس بالكلام.

قال وحدثنا مصعب قال كان عبد العزيز بن أبي سلمة يجلس إلى ربيعة فلما حضرت ربيعة الوفاة قال له عبد العزيز يا أبا عثمان إنا قد تعلمنا منك وربما جاءنا من يستفتينا في الشيء لم نسمع فيه شيئا فنرى أن رأينا له خير من رأيه لنفسه فنفتيه فقال ربيعة أجلسوني فجلس ثم قال ويحك يا عبد العزيز لأن تموت جاهلا خير لك من أن تقول في شيء بغير علم لا لا لا ثلاث مرات.

قال وحدثنا مصعب قال حدثنا الدراوردي قال إذا قال مالك وعليه أدركت أهل بلدنا وأهل العلم ببلدنا والأمر المجتمع عليه عندنا فإنه يريد ربيعة بن أبي عبد الرحمن وابن هرمز قال مصعب ومات ربيعة في سلطان بني هاشم قدم على أبي العباس السفاح.

وذكر أحمد بن مروان المالكي عن إبراهيم بن سهلوية عن بن أبي أويس قال سمعت خالي مالك بن أنس يقول كانت أمي تلبسني الثياب وتعممني وأنا صبي وتوجهني إلى ربيعة بن أبي عبد الرحمن وتقول يا بني ائت مجلس ربيعة فتعلم من سمته وأدبه قبل أن تتعلم من حديثه وفقهه

وذكر ابن القاسم عن مالك أن ابن هرمز قال في ربيعة أنه لفقيه في حكاية ذكرها.

وقال مالك وجدت ربيعة يوما يبكي فقيل له ما الذي أبكاك أمصيبة نزلت بك فقال لا ولكن أبكاني أنه استفتي من لا علم له وقال لبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السارق

قال أبو عمر  : هذه أخباره الحسان وقد ذمه جماعة من أهل الحديث لإغراقه في الرأي فرووا في ذلك أخبارا قد ذكرتها في غير هذا الموضع.

وكان سفيان بن عيينة والشافعي وأحمد بن حنبل لا يرضون عن رأيه لأن كثيرا منه يوجد له بخلاف السند الصحيح لأنه لم يتسع فيه فضحه فيه ابن شهاب وكان أبو الزناد معاديا له وكان أعلم منه وكان ربيعة أورع والله أعلم

قال أبو عمر  : توفي ربيعة بن أبي عبد الرحمن بالمدينة في سنة ست وثلاثين ومائة في آخر خلافة أبي العباس السفاح وكان ثقة فقيها جليلا

لمالك عنه من مرفوعات الموطأ اثنا عشر حديثا منها خمسة متصلة

ومنها عن سليمان بن يسار واحد مرسل

ومنها من بلاغاته ستة أحاديث

حديث أول لربيعة متصل مسند

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أنس بن مالك أنه سمعه يقول "كان رسول الله ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ولا بالأبيض الأمهق ولا بالآدم ولا بالجعد القطط ولا بالسبط بعثه الله على رأس أربعين سنة فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين وتوفاه الله على رأس ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء " أما قوله في هذا الحديث ليس بالطويل البائن فالبائن هو البعيد الطول المشرف المتفاوت والبون والبين البعد ومنه قول الشاعر :

وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... مطوقة قد بان عنها قرينها

أي بعد قرينها عنها

وقال زهير :

بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا.

وقال جرير :

بان الخليط ولو طووعت ما بانا

وقال الأخفش البائن هو الطويل الذي يضطرب من طوله وهو عيب في الرجال والنساء يقول فلم يكن رسول الله كذلك.

وأما قوله الأمهق فإن ابن وهب وغيره قالوا المهق البياض الشديد الذي ليس بمشرق ولا يخالطه شيء من الحمرة يخاله الناظر إليه برصا يقول فلم يكن كذلك

وكذلك وصفه علي رضي الله عنه وهو أحسن الناس له صفة فقال كان أبيض مشربا بحمرة.

وقال بعض الأعراب :

أما تبينت بها مهقة ... تنبو بقلب الشيق العازم

وأما قوله ليس بالآدم فإنه يقول ليس بأسمر والأدمة السمرة.

والقطط هو الشديد الجعودة مثل شعر الحبش.

والسبط : المرسل الشعر الذي ليس في شعره شيء من التكسير يقول فهو جعد رجل كأنه دهره قد رجل شعره يعني مشط

وأما قوله بعثه الله على رأس أربعين سنة فأقام بمكة عشر سنين فمختلف في ذلك على ما نحن ذاكروه إن شاء الله.

وأما قوله بالمدينة عشر سنين فمجتمع عليه لا خلاف بين العلماء فيه وأما قوله وتوفاه الله على رأس ستين فمختلف فيه على حسب اختلافهم في مقامه بمكة فحديث ربيعة عن أنس على ما ترى أن رسول الله توفي وهو ابن ستين.

ورواه عن ربيعة جماعة من الأئمة منهم مالك وأنس بن عياض وعمارة بن غزية ويحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي وسعيد بن أبي هلال وسليمان بن بلال كلهم عن ربيعة عن أنس بمعنى حديث مالك سواء.

وقد ذكر البخاري حديث ربيعة هذا عن أنس ثم أتبعه فقال حدثني أحمد صاحب لنا قال حدثني أبو غسان محمد بن عمرو الرازي زنيج قال حدثنا حكام بن سلم قال حدثنا عثمان بن زائدة عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال "توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة وعمر وهو ابن ثلاث وستين سنة".

قال البخاري وهذا عندي أصح من حديث ربيعة

قال أبو عمر  : إنما قال ذلك البخاري والله أعلم لأن عائشة ومعاوية وابن عباس على اختلاف عنه كلهم يقول "أن رسول الله توفي وهو ابن ثلاث وستين" ولم يختلف عن عائشة ومعاوية في ذلك رواه جرير عن معاوية.

وجاء عن أنس ما ذكر ربيعة عنه وذلك مخالف لما ذكره هؤلاء كلهم.

وروى الزبير بن عدى وهو ثقة عن أنس ما يوافق ما قالوا فقطع البخاري بذلك لأن المنفرد أولى بإضافة الوهم إليه من الجماعة.

وأما من طريق الإسناد فحديث ربيعة أحسن إسنادا في ظاهره إلا أنه قد بان من باطنه ما يضعفه وذلك مخالفة أكثر الحفاظ له فإن لم يكن هذا وجه قول البخاري وإلا فلا أعلم له وجها وقد تابع ربيعة على روايته عن أنس نافع أبو غالب.

وروي عن أنس بن مالك قال "بعث رسول الله وله أربعون سنة"

قال البخاري وأخبرنا محمد بن عمر القصبي قال أخبرنا عبد الرزاق قال حدثنا نافع أبو غالب أنه سمع أنس بن مالك يقول "أقام رسول الله بمكة عشرا بعد أن بعث".

وذكره بن أبي خيثمة قال حدثنا محمد بن عمر القصبي قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا نافع أبو غالب قال قلت لأنس "يا أبا حمزة كم كان لرسول الله يوم قبض قال ستون سنة".

وقد روى ابن وهب عن قرة بن عبد الرحمن عن ابن شهاب عن أنس قال "نبىء رسول الله وهو ابن أربعين سنة" ومكث بمكة عشرا وبالمدينة عشرا وتوفي وهو ابن ستين سنة.

وقد روي من حديث ابن عمر "أن رسول الله توفي وهو ابن اثنتين وستين سنة وأشهر".

وذكر إبراهيم بن المنذر عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد عن أخيه عن أبيه عن أبي هريرة قال "نبئ رسول الله وهو ابن أربعين فأقام بمكة عشرا وبالمدينة عشرا وتوفي وهو ابن ستين سنة"

قال أبو عمر  : وممن قال أن رسول الله بعث على رأس أربعين سنة قباث بن أشيم قال "نبئ النبي على رأس أربعين من عام الفيل"

قال أبو عمر  : لا خلاف أنه ولد بمكة عام الفيل إذ ساقه الحبشة إلى مكة يغزون البيت.

وروى هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس قال "بعث رسول الله وهو ابن أربعين " ورواه جماعة عن هشام بن حسان وهو قول عروة بن الزبير رواه عن عروة هشام بن عروة وعمرو بن دينار.

وكان عروة يقول أنه أقام بمكة عشرا وأنكر قول من قال أقام بها ثلاث عشرة سنة وقوله كرواية ربيعة سواء.

وكان الشعبي يقول بعث رسول الله ونبئ لأربعين ثم وكل به إسرافيل ثلاث سنين قرن بنبوته فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة هذا كله قول الشعبي.

وكذلك قال محمد بن جبير بن مطعم أن رسول الله نبئ على رأس أربعين وهو قول عطاء الخراساني.

وممن قال أنه بعث على رأس ثلاث وأربعين ابن عباس من رواية هشام الدستوائي عن عكرمة عنه خلاف ما رواه هشام بن حسان وقاله أيضا سعيد بن المسيب.

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال أخبرنا هشام قال حدثنا عكرمة عن ابن عباس قال "أنزل على النبي وهو ابن ثلاث وأربعين".

قال أحمد بن زهير وأخبرني أبي قال حدثنا جرير بن عبد الحميد قال أحمد بن زهير وحدثنا عبيد الله بن عمر قال حدثنا حماد بن زيد جميعا عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال "أنزل على النبي الوحي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة".

خالف القواريري عارم في هذا الخبر عن حماد بن زيد فقال فيه أنزل عليه وهو ابن أربعين سنة وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة

ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد مثل رواية القواريري وهو عبيد الله بن عمر عن حماد بن زيد.

وأخبرنا خلف بن قاسم قال حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن راشد قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا ابن وهب قال حدثني قرة بن عبد الرحمن المعافري عن ابن شهاب وربيعة عن أنس قال "نبئ النبي وهو ابن أربعين فأقام بمكة عشرا وبالمدينة عشرا"

قال أبو عمر  : لا أعلم أحدا رواه عن ابن شهاب عن أنس غير قرة والله أعلم.

وأما مكثه بمكة ففي قول أنس من رواية ربيعة وأبي غالب أنه مكث بمكة عشر سنين وكذلك روى أبو سلمة عن عائشة وابن عباس وهو قول عروة بن الزبير والشعبي وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه وابن شهاب والحسن وعطاء الخراساني وكذلك روى هشام الدستوائي عن عكرمة عن ابن عباس.

حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أبو الميمون قال حدثنا أبو زرعة الدمشقي قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن ابن عباس وعائشة "أن رسول الله مكث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشرا".

وحدثنا خلف قال حدثنا أبو الميمون قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أحمد بن شبويه ومحمد بن أبي عمر قالا حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال قلت لعروة بن الزبير كم لبث النبي بمكة؟

قال عشرا قلت فإن ابن عباس يقول بضع عشرة قال إنما أخذه من قول الشاعر.

وروى هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس "أنه مكث بمكة بعد ما بعث النبي ثلاث عشرة سنة" وكذلك روى أبو حمزة وعمرو بن دينار عن ابن عباس وهو قول أبي جعفر محمد بن علي وقال أبو قيس صرمة بن أبي أنس الأنصاري في أبيات يفخر بما من الله به عليه من صحبة النبي ونصرته له :

ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا

في أبيات قد ذكرتها بتمامها في باب صرمة من كتاب الصحابة

وأما سنه في حين وفاته ففي حديث ربيعة وأبي غالب عن أنس أنه توفي رسول الله وهو ابن ستين وهو قول عروة بن الزبير.

وروى حميد عن أنس قال "توفي رسول الله وهو ابن خمس وستين" ذكره أحمد بن زهير عن المثنى بن معاذ عن بشر بن المفضل عن حميد وروى الحسن عن دغفل النسابة وهو دغفل بن حنظلة أن النبي "قبض وهو ابن خمس وستين" ولم يدرك دغفل النبي .

وقال البخاري ولا نعرف للحسن سماعا من دغفل

قال البخاري : وروى عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال "توفي رسول الله وهو ابن خمس وستين سنة".

قال البخاري : ولا يتابع عليه إلا شيء رواه العلاء بن صالح عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال "صلى النبي بمكة عشر سنين وخمس سنين وأشهرا" ولم يوافق عليه العلاء وهو شيء لا أصل له.

قال وروى عكرمة وأبو ظبيان وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعمرو بن دينار كلهم عن ابن عباس "أن رسول الله قبض وهو ابن ثلاث وستين"

قال أبو عمر  : قد روى علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس "أن رسول الله توفي وهو ابن خمس وستين" ذكره أحمد بن زهير عن أحمد بن حنبل عن هشيم عن علي بن زيد وإنما ذكرنا هذا وإن كان الصحيح عندنا غيره لقول البخاري أنه لم يتابع عليه عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم عن ابن عباس.

والذي ذكره البخاري أنهم رووا عن ابن عباس "أن رسول الله توفي وهو ابن ثلاث وستين" فكما ذكر وقد روى أبو حمزة ومحمد بن سيرين أيضا عن ابن عباس "أن رسول الله توفي وهو ابن ثلاث وستين" ولم يختلف عن عائشة ومعاوية "أن رسول الله توفي وهو ابن ثلاث وستين" وأما حديث عمار بن أبي عمار فرواه سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن عمار مولى بني هاشم عن ابن عباس قال "بعث النبي وهو ابن أربعين سنة فأقام بمكة خمس عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين وقبض وهو ابن خمس وستين سنة" ورواه شعبة عن يونس عن عمار مولى بني هاشم قال سألت ابن عباس ابن كم توفي رسول الله فقال "إن هذا لشديد على مثلك ألا تعلم مثل هذا في قومك توفي وهو ابن خمس وستين" ورواه حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس مثله.

فالاختلاف على ابن عباس في هذا قوي لأن عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم وسعيد بن جبير من رواية العلاء بن صالح عن المنهال عن سعيد ويوسف بن مهران كلهم اتفقوا عن ابن عباس "أن رسول الله توفي وهو ابن خمس وستين سنة".

وروى أبو سلمة وعكرمة ومحمد بن سيرين وأبو حمزة وأبو حصين ومقسم وأبو ظبيان وعمرو بن دينار كلهم عن ابن عباس "أن رسول الله توفي وهو ابن ثلاث وستين" وقد روى معاذ بن معاذ عن بشر بن المفضل عن حميد عن أنس قال "توفي رسول الله وهو ابن خمس وستين" ذكره بن أبي خيثمة عن المثنى بن معاذ هكذا وذكره المستملي عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أنس مثله "أن رسول الله توفي وهو ابن خمس وستين".

والصحيح عندي حديث معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن دغفل بن حنظلة قال "توفي النبي وهو ابن خمس وستين"

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا إبراهيم بن حمزة وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب قال إسحاق أخبرني أبي وقال إبراهيم بن حمزة حدثني محمد بن فليح كلاهما عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال حدثني عروة عن عائشة قالت "توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين".

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الترجماني قال حدثنا حسان بن إبراهيم قال حدثنا يونس بن يزيد عن الزهري قال أخبرني عروة عن عائشة قالت "توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين" قال الزهري وأخبرني سعيد بن المسيب عن عائشة عن النبي مثل ذلك

قال أبو عمر  : هذا أصح شيء جاء في هذا الباب إلا أني أعجب من رواية هشام بن عروة وعمرو بن دينار عن عروة وقوله بخلاف هذا الحديث على ما قدمنا عنه وما أدري كيف هذا؟

وروى شعبة وإسرائيل عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن جرير بن عبد الله أنه سمع معاوية يقول "قبض رسول الله وهو ابن ثلاث وستين".

قاله أبو إسحاق وعامر بن سعد وعبد الله بن عتبة وسعيد ابن المسيب والشعبي وعليه أكثر الناس لأنه يجتمع على هذا القول كل من قال تنبئ على رأس أربعين فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة وكل من قال بعث على رأس ثلاث وأربعين فأقام بمكة عشرا وهو الذي يسكن إليه القلب في وفاته والله أعلم.

ولا خلاف أنه ولد يوم الاثنين بمكة في ربيع الأول عام الفيل وأن يوم الاثنين أول يوم أوحى الله إليه فيه وأنه قدم المدينة في ربيع الأول قال ابن إسحاق وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وأنه توفي يوم الاثنين في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة .

وروى كريب عن ابن عباس قال "أوحى الله إلى النبي وهو ابن أربعين سنة فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشرا وتوفي وهو ابن ثلاث وستين" وذكر يعقوب بن شيبة قال حدثنا عارم بن الفضل قال حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال "توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين سنة وأنزل عليه وهو ابن أربعين سنة وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشرا"

قال أبو عمر  : هذا ما في ذلك عندي والله أعلم.

وحدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا عبد الرحمن بن عمر أبو الميمون بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عنبسة بن خالد قال حدثنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين" وصدق ذلك حديث علي بن الحسين "أن رسول الله توفي وهو ابن ثلاث وستين".

وأما شيبه فأكثر الآثار على نحو حديث ربيعة عن أنس في تقليل شيبه عليه السلام وأن ذلك كان منه في عنفقته.

وقد روي أنه كان يخضب وليس بقوي والصحيح أنه لم يخضب ولم يبلغ من الشيب ما يخضب له.

وسنذكر ذلك في باب حديث سعيد المقبري عن عبيد بن جريج عن ابن عمر من كتابنا هذا إن شاء الله.

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح إملاء قال حدثنا يوسف بن عدي قال حدثنا الوليد بن كثير عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سألت أو سئل أنس هل خضب رسول الله قال "لم يدرك الخضاب ولكن خضب أبو بكر وعمر".

وقد أكثر الناس في صفته فمنهم المطول ومنهم المقتصد ومن أراد الوقوف على ذلك تأمله في كتاب أحمد بن زهير وغيره.

وأحسن الناس له صفة في اختصار علي بن أبي طالب حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا يوسف بن عدي وزهير بن عباد وبن أبي شيبة قالوا حدثنا عيسى بن يونس عن عمر بن عبد الله مولى غفرة عن إبراهيم بن محمد من ولد علي قال "كان علي إذا نعت النبي قال لم يكن بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد وكان ربعة من القوم ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط كان جعدا رجلا ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم وكان في الوجه تدوير أبيض مشرب حمرة أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاش والكتد أجرد ذو مسربة شثن الكفين والقدمين إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب وإذا التفت التفت معا بين كتفيه خاتم النبوة وهو خاتم النبيين أجود الناس كفا وأجرؤ الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وأوفى الناس بذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله ".

قوله الممغط هو الطويل المديد وقال الخليل بن أحمد الفرس المطهم التام الخلق وقال أبو عبيد المشاش رؤوس العظام وقال الخليل الكتد ما بين الثبج إلى منتصف الكاهل من الظهر والمسربة شعرات تتصل من الصدر إلى السرة

حديث ثان لربيعة متصل مسند

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس الزرقي عن رافع بن خديج "أن رسول الله نهى عن كراء المزارع" قال حنظلة فسألت رافع بن خديج بالذهب والورق قال أما الذهب والورق فلا بأس"

قال أبو عمر  : اختلف الناس في كراء المزارع فذهبت فرقة إلى أن ذلك لا يجوز بوجه من الوجوه ومالوا إلى ظاهر هذا الحديث وما كان مثله قالوا أنه قد روي عن رافع بن خديج من هذا الوجه وغيره خلاف ما حكاه ربيعة عن حنظلة عنه من تأويله

هذا وذكروا أن أحاديث رافع في ذلك مضطربة الألفاظ مختلفة المعاني واحتجوا بما حدثناه إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال حدثنا محمد بن العباس الحلبي قال حدثنا أبو عوانة الحسين بن محمد الحراني بحران قال حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي قال حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب عن مطر عن عطاء عن جابر قال : "خطبنا رسول الله فقال من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يواجرها" وحدثنا إسماعيل أيضا قال حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله مكحول البيروتي ببيروت قال حدثنا أبو عمير عيسى بن محمد بن النحاس قال حدثنا ضمرة عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن عطاء عن جابر مثله سواء مرفوعا

قالوا فهذا جابر يروي عن النبي النهي عن كراء الأرض مطلقا ولم يختلف عن جابر في ذلك كما اختلف عن رافع.

وقد روى من حديث رفاعة عن رافع قال قال رسول الله "من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه أو ليدعها".

وذكر من ذهب إلى هذا المذهب من حديث رافع ما رواه ابن شهاب عن سالم أن ابن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج كان ينهى عن كراء الأرض فترك ابن عمر كراء الأرض.

ورواه جماعة عن ابن شهاب هكذا وكذلك رواه جويرية وحده عن مالك عن ابن شهاب عن سالم أنه سأله عن كراء المزارع فقال سالم أخبر رافع بن خديج عبد الله بن عمر أن عميه وكانا شهدا بدرا أخبراه "أن رسول الله نهى عن كراء المزارع" فترك عبد الله كراءها وكان يكريها قبل ذلك والذي في الموطأ مالك عن ابن شهاب أنه قال سألت سالم بن عبد الله عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال لا بأس بذلك قال فقلت أرأيت الحديث الذي يذكر عن رافع بن خديج فقال أكثر رافع بن خديج ولو كانت لي أرض أكريتها هكذا هو في الموطأ لمالك عن أبي شهاب عن سالم قوله ورواه جويرية مرفوعا وقد روى نافع عن ابن عمر مثله

ولما كان سالم يذهب إلى إجازة كراء الأرض بالذهب والورق ولم يحمل نهى رسول الله عن كراء المزراع على العموم اعترضه ابن شهاب بحديث رافع والقول بظاهره فقال سالم أكثر رافع في حمله الحديث على ظاهره ومنعه من كرائها بالذهب والورق لأن المعنى عند سالم وطائفة من العلماء كان في النهى عن كرائها لوجوه سنذكرها مفسرة بعد هذا إن شاء الله.

منها أنه إنما نهى رسول الله عن كراء الأرض لأنهم كانوا يكرونها ببعض ما يخرج منها.

ومنها قول زيد بن ثابت أنه أعلم بذلك من رافع لأن رسول الله أتاه قوم قد تشاجروا وتقاتلوا في كراء المزارع وهذا كله يدل على أن ليس الحديث على ظاهره ولا عمومه وأنه لمعنى ما قدمنا قد اعتقده كل فريق فيه فلهذا قال سالم أكثر رافع يعني في حمل الحديث على ظاهره والله أعلم أي حجر ما قد وسعه الله تعالى وتأول ما يضيق على الناس على أنه قد روي عن رافع إجازة كرائها بالذهب والورق وغير ذلك مما يأتي بعد إن شاء الله.

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر "أنه كان يكري أرضه في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية حتى إذا كان في آخرها بلغه أن رافعا يحدث في ذلك بنهى رسول الله فأتاه وأنا معه فسأله فقال نعم نهى رسول الله عن كراء المزارع فتركها بن عمر بعد".

قالوا وهذا أيضا على الإطلاق والعموم وما رواه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي عفير أن رافع بن خديج كان يقول "منعنا رسول الله أن نكري المحاقل".

والمحاقل فضول يكون من الأرض.

وما رواه عبد الكريم عن مجاهد عن ابن رافع بن خديج عن أبيه سمعه يقول "نهى رسول الله عن إجارة الأرض".

وإلى هذا ذهب طاووس اليماني فقال لا يجوز كراء الأرض بالذهب ولا بالورق ولا بالعروض وبه قال أبو بكر الأصم عبد الرحمن بن كيسان فقال لا يجوز كراء الأرض بشيء من الأشياء قال لأنها إذا استؤجرت وحرثها المستأجر وأصلحها لعله أن يحرق زرعه فيردها وقد زادت فانتفع رب الأرض ولم ينتفع المستأجر فمن هناك لم يجز لأحد أن يستأجرها والله أعلم.

وقال آخرون : جائز كراء الأرض لمن شاء ولكنه لا يجوز كراؤها بشيء من الأشياء إلا بالذهب والورق وذكروا في إباحة كراء الأرض ما رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي عبيدة ابن محمد بن عمار بن ياسر عن الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير قال قال زيد بن ثابت "يغفر الله لرافع ابن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه أنما أتاه رجلان من الأنصار قد اقتتلا فقال النبي هذا شأنكم فلا تكروا المزارع فسمع قوله لا تكروا المزارع" ذكره أبو داود عن مسدد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق.

واحتجوا بحديث طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن النبي أنه قال "إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض فهو يزرعها ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح ورجل اكترى بذهب أو فضة".

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير وبكر بن حماد قال أحمد حدثنا الفضل ابن دكين وقال بكر حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن فذكره وذكر أبو داود عن مسدد مثله.

قالوا : فلا يجوز أن يتعدى ما في هذا الحديث لما فيه من البيان والتوقيف ولأن رافعا بذلك كان يفتي ألا ترى ما ذكره ربيعة عن حنظلة عنه.

وكان أحمد بن حنبل يقول أحاديث رافع في كراء الأرض مضطربة وأحسنها حديث يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع ابن خديج

وقال آخرون جائز أن تكرى الأرض بكل شيء من الأشياء حاشا الطعام.

واحتجوا بما رواه يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال "قال رسول الله من كانت له أرض فيلزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها بثلث ولا ربع ولا طعام مسمى" ذكره أبو داود قال حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة قال حدثنا خالد بن الحارث قال حدثنا شعبة عن يعلى بن حكيم وذكره أيضا عن محمد بن عبيد عن حماد بن زيد عن أيوب قال كتب إلى يعلى بن حكيم أني سمعت سليمان بن يسار فذكره.

وذكر مالك عن ابن شهاب أنه سأل سالم بن عبد الله عن كراء المزارع فقال "لا بأس بها بالذهب والورق".

وإلى هذا ذهب مالك وأكثر أصحابه على ما بينا عنهم وعن غيرهم من العلماء في باب داود بن الحصين والحمد لله

قالوا فقد حجر في هذا الحديث على كراء الأرض بالطعام المعلوم وذكروا نهي رسول الله عن المحاقلة وقد تأولوا في ذلك أنها استكراء الأرض بالحنطة وما كان في معناها

وقد ذكرنا اختلاف العلماء في معنى المحاقلة والمخابرة وكراء الأرض في باب داود من كتابنا هذا بما يغني عن إعادته ها هنا.

وإنما ذكرنا ها هنا اختلاف الآثار في ذلك وجملة الأقاويل وبالله التوفيق.

وقال آخرون جائز أن تكرى الأرض بالذهب والورق والطعام كله وسائر العروض إذا كان ذلك معلوما.

وكل ما جاز أن يكون ثمنا لشيء فجائز أن يكون أجرة في كراء الأرض ما لم يكن مجهولا ولا غررا.

واحتجوا بما روى الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس الأنصاري قال "سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس بذلك إنما كان الناس على عهد رسول الله يواجرون بها على الماذيانات وإقبال الجداول فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما بشيء مضمون معلوم فلا بأس به"

قالوا ففي هذا الحديث إجازة كراء الأرض بكل شيء معلوم وإنما النهي عن ذلك بأن يجهل البدل ذكره أبو داود عن إبراهيم بن موسى عن عيسى بن يونس عن الأوزاعي قال أبو داود روى الليث عن ربيعة مثله قال ورواية يحيى بن سعيد عن حنظلة نحوه مثله

قال أبو عمر  : روى الثوري وابن عيينة ويزيد بن هارون وغيرهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني حنظلة بن قيس أنه سمع رافع بن خديج يقول "كنا أكثر الأنصار وأكثر أهل المدينة حقلا وكنا نقول للذي نخابره ونكري منه الأرض لك هذه القطعة ولنا هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه شيئا فنهانا رسول الله عن ذلك فأما بذهب أو ورق فلم ينهنا" دخل حديث بعضهم في بعض قيل لابن عيينة أن مالكا يروي هذا الحديث عن ربيعة فقال وما يريد بذلك وما يرجو منه يحيى بن سعيد أحفظ منه وقد حفظناه عنه ورواية الأوزاعي عن ربيعة موافقة لرواية يحيى بن سعيد ورواية مالك مختصرة.

ففي هذا الحديث أن النهي إنما كان مخرجه من أجل المخابرة وجهل الإجارة وذلك أيضا بين فيما ذكر الحميدي عن ابن عيينة قال حدثنا عمرو بن دينار قال سمعت عبد الله بن عمر يقول "كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله نهى عنه فتركنا ذلك من أجل قوله" فقد بان بهذا الحديث معنى حديث ابن شهاب عن سالم عن أبيه الذي قدمنا ذكره وبان به أن ذلك من أجل المخابرة وهي كراء الأرض ببعض ما يخرج منها لا خلاف في ذلك وقد ذكرناه ومضى القول فيه من جهة اللغة والآثار بما فيه كفاية

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال سمعت ابن عمر يقول "كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول فزعم رافع أن رسول الله نهى عنه".

قالوا والخبر المخابرة وهي كراء الأرض ببعض ما تخرجه على سنة خيبر وذلك منسوخ وقد بان نسخه بهذا الحديث وما كان مثله.

واحتجوا أيضا أن حديث رافع بن خديج إنما معناه النهي عن المزارعة وهي كراء الأرض بالثلث والربع بما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا الحكم بن أبي عبد الرحمن بن أبي نعيم قال سمعت أبي يقول عن رافع بن خديج عن النبي "أنه نهى عن المزارعة".

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن أسيد بن ظهير قال أتانا رافع بن خديج فقال "إن رسول الله ينهاكم عن الحقل"

والحقل المزارعة بالثلث والربع وهو معنى حديث ثابت بن الضحاك عن النبي أنه نهى عن المزارعة.

وعللوا حديث جابر بأنه يحتمل أن يكون على الندب وأن مطرا الوراق قد خالفه غيره فيه فرواه عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال "كان لرجال هنا فضول أرضين على عهد رسول الله وكانوا يواجرونها على النصف والثلث فقال رسول الله من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك" فقالوا فقد تبين بهذا أن النهي إنما خرج عن المزارعة والمخابرة وذلك كراء الأرض ببعض ما تخرجه.

وكذلك روى أبو الزبير عن جابر قال "كنا في زمن النبي ينفذ الأرضين بالثلث والربع وبالماذيان فنهى رسول الله عن ذلك"

قالوا وأما بالطعام المعلوم فلا بأس بذلك كسائر العروض ولم يفرقوا بين كراء الأرض وكراء الدار وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله.

وقال آخرون أحاديث رافع في هذا الباب لا يثبت منها شيء يوجب أن يكون حكما لاختلاف ألفاظها واضطرابها وكذلك حديث جابر.

قالوا وممكن أن يكون النهي عن ذلك على نحو ما رواه سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال "كان الناس يكرون المزارع بما يكون على السواقي وبما ينبته الماء حول البئر فنهانا رسول الله عن ذلك".

حدثناه أبو محمد عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد ابن هرون قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن سعيد بن المسيب عن سعد قال "كنا نكري الأرض بما على السواقي فنهانا رسول الله عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو ورق" وهذا على نحو ما قاله يحيى بن سعيد عن حنظلة عن رافع في ذلك قوله لك هذه القطعة ولي هذه فربما أخرجت هذه وربما لم تخرج هذه ومثله ما رواه الأوزاعي عن ربيعة عن حنظلة عن رافع وذلك كله مجهول وغرر ولا يجوز أخذ العوض على مثله في الشريعة للجهل به.

قالوا فأما بالثلث والربع والجزء المعلوم فجائر لأن ذلك معلوم سنة ماضية في قصة خيبر إذ أعطاها اليهود على نصف ما تخرج أرضها وثمرتها

وروى ابن المبارك قال أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر "أن رسول الله أعطى خيبر إليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها"

وروى أنس بن عياض ويحيى القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال "عامل رسول الله خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو تمر" ذكر ذلك كله البخاري وهو صحيح الأثر وقد تقدم القول بذكر القائلين بهذه الأقاويل وبمعنى اختلافهم في ذلك في باب حديث داود بن الحصين من كتابنا هذا وبالله التوفيق.

حديث ثالث لربيعة بن أبي عبد الرحمن مسند صحيح

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين قالت "كانت في بريرة ثلاث سنن وكانت إحدى السنن الثلاث أنها عتقت فخيرت في زوجها وقال النبي عليه السلام الولاء لمن أعتق ودخل رسول الله والبرمة تفور بلحم فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت فقال رسول الله ألم أر البرمة فيها لحم فقيل بلى يا رسول الله لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة فقال رسول الله هو عليها صدقة وهو لنا هدية"

قال أبو عمر  : قد أكثر الناس في تشقيق معاني الأحاديث المروية في قصة بريرة وتفتيقها وتخريج وجوهها.

فلمحمد بن جرير في ذلك كتاب ولمحمد بن خزيمة في ذلك كتاب ولجماعة في ذلك أبواب أكثر ذلك تكلف واستنباط واستخراج محتمل وتأويل ممكن لا يقطع بصحته ولا يستغنى عن الاستدلال عليه.

والذي قصدته عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث هو عظم الأمر في قصة بريرة لأن ذلك أصول وأحكام وأركان من الحلال والحرام وأنا أورد في تلك المعاني من البيان ما يوقف الناظر على بلوغ المراد منها وبالله التوفيق.

وقد تقصينا القول فيما توجبه ألفاظ حديث بريرة من الأحكام والمعاني في باب حديث هشام بن عروة من هذا الكتاب والحمد لله.

وقد روي عن ابن عباس "أن رسول الله قضى في بريرة بأربع قضايا" وهو على نحو ما قلنا في حديث عائشة هذا.

وحديث ابن عباس حدثناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأخبرنا عبيد الله بن محمد ومحمد بن عبد الملك قالا حدثنا عبد الله بن مسرور العسال قال حدثنا عيسى بن مسكين قال حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر قالا حدثنا قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس "أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا فقضى رسول الله فيها بأربع قضيات وذلك أن مواليها شروها واشترطوا الولاء فقضى أن الولاء لمن أعطى الثمن وخيرها وأمرها أن تعتد وتصدق عليها بصدقة فأهدت منها إلى عائشة فذكرت ذلك للنبي فقال هو لها صدقة ولنا هدية".

فأما قول عائشة أن بريرة أعتقت فخيرت في زوجها فكانت سنة ولكن من ذلك سنة مجتمع عليها ومنها ما اختلف فيه

فأما المجتمع عليه الذي لا خلاف بين العلماء فيه فهو أن الأمة إذا أعتقت تحت عبد قد كانت زوجت منه فإن لها الخيار في البقاء معه أو مفارقته فإن اختارت المقام في عصمته لزمها ذلك ولم يكن لها فراقه بعد وإن اختارت مفارقته فذلك لها هذا ما لا خلاف علمته فيه.

واختلف الفقهاء في وقت خيار الأمة إذا أعتقت.

فقال أبو حنيفة وأصحابه وسائر العراقيين إذا علمت بالعتق وبان لها الخيار فخيارها على المجلس.

وقال الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي إذا جامعها "وهي لا تعلم بالعتق فلها الخيار لأنها جومعت ولا تعلم فإن علمت فجامعها" بعد العلم فلا خيار لها

قال الثوري فإن ادعت الجهالة حلفت ثم يكون لها الخيار

"وقال مالك وأصحابه والشافعي ومن سلك سبيله والأوزاعي لها الخيار" ما لم يمسها زوجها.

قال الشافعي : لا أعلم في ذلك وقتا إلا ما قالته حفصة رضي الله عنها

قال أبو عمر  : روي عن حفصة و عبد الله ابني عمر رضي الله عنهما أن للأمة الخيار إذا أعتقت ما لم يمسسها زوجها.

"قال مالك فإن مسها زوجها فادعت أنها جهلت أن لها الخيار فإنها تتهم ولا تصدق بما ادعت من الجهالة ولا خيار لها بعد أن يمسها" هذا قوله في الموطأ.

وجملة قوله وقول أصحابه لا ينقطع خيارها إذا أعتقت حتى يطأها زوجها بعد علمها بعتقها أو توقف فتختار ولا توقف بعد المسيس ولا يمين عليها وإذا صحت جهالتها بعتقها فلا يضرها مسه لها.

وقال الشافعي إن أصابها زوجها فادعت الجهالة ففيها قولان

أحدهما لا خيار لها.

والآخر أن لها الخيار وتحلف وهو أحب إلينا.

وقال الأوزاعي إذا لم تعلم أن لها الخيار حتى غشيها زوجها ثم علمت فلها الخيار وهذا كقول مالك.

وروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير "أن مولاة لبني عدي يقال لها زبراء أخبرته أنها كانت تحت عبد وهي أمة يومئذ فعتقت قالت فأرسلت إلى حفصة زوج النبي فدعتني فقالت أني مخبرتك خبرا ولا أحب أن تصنعي شيئا أن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك فإن مسك فليس لك من الأمر شيء قالت فقلت هو الطلاق ثم الطلاق ثم الطلاق ففارقته ثلاثا" وحدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول في الأمة تكون تحت العبد فتعتق أن لها الخيار ما لم يمسها

قال أبو عمر  : لا أعلم لابن عمر وحفصة في ذلك مخالفا من الصحابة وقد روي عن النبي في قصة بريرة من حديث ابن عباس ما فيه دليل واضح على ما ذهبنا إليه وروى سعيد بن منصور عن هشيم عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال "لما خيرت بريرة رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته فكلم الناس له رسول الله أن يطلب إليها فقال لها رسول الله زوجك وأبو ولدك فقالت أتأمرني يا رسول الله فقال إنما أنا شافع فقالت إن كنت شافعا فلا حاجة لي فيه واختارت نفسها وكان يقال له مغيث وكان عبدا لآل المغيرة من بني مخزوم".

ففي هذا الحديث مرورها في السكك ومراجعتها النبي عليه السلام ولم يبطل ذلك خيارها فبطل قول من قال إن خيارها إنما هو ما داما في مجلسهما.

واختلف الفقهاء أيضا في فرقة المعتقة إذا اختارت فراق زوجها.

فقال مالك والأوزاعي والليث بن سعد هو طلاق بائن.

قال مالك هي تطليقة بائنة إلا أن تطلق نفسها ثلاثا فإن طلقت نفسها ثلاثا فذلك لها ولها أن تطلق نفسها ما شاءت من الطلاق فإن طلقت نفسها واحدة فهي بائنة

قال أبو عمر  : حديث ابن شهاب عن عروة في قصة بريرة دليل على صحة ما قلنا وما ذهب إليه مالك في أن لها أن توقع من الطلاق ما شاءت وقد قال قوم من العلماء أنها لا تطلق نفسها إلا واحدة بائنة وقد روي ذلك عن مالك وقال به بعض أصحابه.

والمشهور عنه وعن جملة أصحابه ما قدمنا من مذهبه على حديث زبراء وهو أصل لا يدفع لأنه لم يبلغنا أن أحدا من الصحابة أنكر عليها ذلك وقد كان كثير من الصحابة في حياة حفصة متوافرين وفي القياس من كان له أن يوقع طلقة كان له أن يوقع ثلاثا

قال أبو عمر  : قد احتج بهذا الحديث من أصحابنا من أجاز لها أن توقع الثلاث تطليقات في اختيارها نفسها وليس ذلك على أصل مذهب مالك من وجهين.

أحدهما : أنه لا يجب لأحد إيقاع الثلاث مجتمعات.

والثاني : أنه طلاق معلق بعبد لا مدخل فيه للثلاث لأن الطلاق منوط بأحوال الرجال لا بالنساء وطلاق العبد إنما هو تطليقتان.

وقد حكى أبو الفرج أن مالكا لا يجيز لها أن توقع إلا واحدة فتكون بائنة أو تطليقتين فلا تحل له إلا بعد زوج وهو أصل مالك.

وروي عن بعض العلماء أنها طلقة رجعية.

قال الأوزاعي لو أعتق زوجها في عدتها فإن بعض شيوخنا يقول هو أملك بها وبعضهم يقول هي بائنة.

وقد روى ابن نافع عن مالك أن للعبد الرجعة إن أعتق قال ابن نافع ولا أرى ذلك ولا رجعة له وإن أعتق.

وروى عيسى عن ابن القاسم في الأمة تعتق وهي حائض قال لا تختار نفسها حتى تطهر قال وإن أعتق زوجها قبل أن تطهر فلا أرى ذلك يقطع خيارها لأنه قد وجب لها الخيار وإنما منعها منه الحيض.

وقال ابن عبدوس لا خيار لها إذا أعتق قبل أن تطهر وتختار نفسها.

قال أبو عمر  : لا معنى لقول من قال : إنها طلقة رجعية لأن زوجها لو ملك رجعتها لم يكن لاختيارها معنى وأي شيء كان يفيدها فرارها عن زوجها ومفارقتها إياه بتطليقها نفسها وهو يملك رجعتها هذا ما لا معنى له لأنها إنما اختارت نفسها لتخلصها من عصمته فلو ملك رجعتها لم تتخلص منه وإذا استحال ذلك فمعلوم أن الطلاق إذا وقع بائنا لم يكن رجعيا بعد وكيف يكون بائنا عند وقوعه وتكون لزوجها رجعتها أن أعتق هذا محال ومثله في الضعف قول ابن القاسم أن لها الخيار وزوجها قد أعتق وكيف يكون ذلك والعلة الموجبة لها الاختيار قد ارتفعت ألا ترى أنها لو أعتقت تحت حر لم يكن لها عنده وعند جمهور أهل المدينة خيار فكذلك إذا لم تختر نفسها حتى عتق فلا خيار لها لأن الرق قد زال.

وقال الثوري والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه إن اختارت الأمة المعتقة نفسها فهو فسخ بغير طلاق وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق.

وقال بن أبي أويس : سئل مالك عن الجارية نصفها حر ونصفها مملوك يخطبها العبد فتأبى أن تتزوجه فيسألها سيدها ذلك فتطاوعه ثم تعتق بعد ذلك أترى لها الخيار قال نعم إني لأرى ذلك لها فقيل أنه لم يكن لها أن تأبى التزويج ولا يكرهها سيدها على ذلك قال بلى قيل له فكيف يكون لها الخيار قال هي في حالها حال أمة وإنما ذلك بمنزلة ما لو أن أمة ليس فيها عتق طلبت إلى سيدها أن يزوجها عبدا ففعل فزوجها فلها الخيار فقيل له إن هذه لو شاءت لم تفعل والأخرى لم يكن لها أن تأبى وهذه قد طاوعت ولم يكن ليجبرها على النكاح قال لكنها في حالها كلها في حدودها وكشف شعرها كالأمة فما أرى إلا أن يكون لها الخيار.

واختلفوا أيضا في الأمة تعتق تحت الحر فقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح لها الخيار حرا كان زوجها أو عبدا ومن حجتهم أن الأمة لم يكن لها في إنكاحها رأي من أجل أنها كانت أمة فلما عتقت كان لها الخيار ألا ترى إلى إجماعهم على أن الأمة يزوجها سيدها بغير إذنها من أجل أموتها فإذا كانت حرة كان لها الخيار قالوا وقد ورد عن النبي في تخيير بريرة عند عتقها ما فيه كفاية ولم يقل لها أن خيارك إنما وجب لك من أجل أن زوجك عبد فواجب لها الخيار أبدا متى ما عتقت تحت حر وتحت عبد على عموم الحديث

ورووا عن الأسود بن يزيد عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا وعن سعيد بن المسيب مثله.

واحتجوا أيضا بما روي في بعض الآثار في قصة بريرة "أن رسول الله قال لها قد ملكت نفسك فاختاري" قالوا فكل من ملكت نفسها اختارت وسواء كانت تحت حر أو عبد وادعوا أن قول من قال أن زوج بريرة كان حرا أولى لأن الرق ظاهر بزعمهم والحرية طارئة.

ومن أنبأ عن الباطن كان أولى.

وقال مالك وأهل المدينة والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وابن أبي ليلى إذا أعتقت الأمة تحت حر فلا خيار لها وهو قول أحمد وإسحاق ومن حجتهم أنها لم يحدث لها حال ترتفع بها عن الحر فكأنهما لم يزالا حرين ولما لم ينقص حال الزوج عن حالها ولم يحدث به عيب لم يكن لها خيار.

وقد أجمع الفقهاء أن لا خيار لزوجة العنين إذا ذهبت العنة وكذلك زوال سائر العيوب تنفي الخيار.

وأما حجتهم بقول رسول الله لبريرة "قد ملكت نفسك فاختاري" فإنه خطاب ورد فيمن كانت تحت عبد فأما من أعتقت تحت حر فلا تملك بذلك نفسها لأنه ليس هناك شيء يوجب ملكها لنفسها.

وأما رواية الأسود بن يزيد عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا فقد عارضه عن عائشة من هو مثله وفوقه وذلك القاسم بن محمد وعروة بن الزبير رويا عن عائشة "أن زوج بريرة كان عبدا" والقلب إلى رواية اثنين أشد سكونا منه إلى رواية واحد فكيف وقد روي عن ابن عباس وابن عمر أن زوج بريرة كان عبدا.

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا يوسف بن عدي قال حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس "أن زوج بريرة كان عبدا حين أعتقت" وذكر بن أبي شيبة عن عفان عن همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس "أن زوج بريرة كان عبدا يسمى مغيثا".

وقال أبو بكر أيضا عن الحسين بن علي عن زائدة عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة "أن زوج بريرة كان عبدا".

حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا إبراهيم بن طيفور قال حدثنا عبد الله بن موسى عن أسامة بن زيد عن القاسم بن محمد عن عائشة أن زوج بريرة كان عبدا.

وذكر حديث عبد الرزاق عن الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال إذا أعتقت تحت حر فلا خيار لها.

وفي تخيير رسول الله بريرة بعد أن بيعت من عائشة دليل على أن بيع الأمة ليس بطلاق لها وفي ذلك بطلان قول من قال بيع الأمة طلاقها لأن بيعها لو كان طلاقا لم يخيرها رسول في أن تبقى مع من طلقت عليه أو تطلق نفسها لأنه محال أن تخير وهي مطلقة وهذا واضح يغني عن الإكثار فيه وهذا القول يروى عن بعض الصحابة وأكثر الفقهاء على خلافه بحديث بريرة هذا والله أعلم وقد وضحنا هذا المعنى في باب هشام بن عروة.

وأما قوله "الولاء لمن أعتق" فإنه يدخل في قوله من أعتق كل مالك نافذ أمره مستقر ملكه من الرجال والنساء البالغين إلا أن النساء ليس لهن من الولاء إلا ما أعتقن أو ولاء عتق من أعتق لأن الولاء للعصبات وليس لذوي الفروض مدخل في ميراث الولاء إلا أن يكونوا عصبة وليس النساء بعصبة.

روى ابن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري أنه أخبره عن سالم أن ابن عمر كان يورث موالي عمر دون بنات عمر وروي عن زيد بن ثابت معناه وعليه جماعة أهل العلم ولا يستحق الولاء من العصبات إلا الأقرب فالأقرب ولا يدخل بعيد على قريب وإن قربت قراباتهم فأقرب العصبات الأبناء ثم بنوهم وإن سفلوا ثم الأب لأنه ألصق الناس به بعد ولده وولد ولده ثم الأخوة لأنهم بنو الأب ثم بنو الأخوة وإن سفلوا ثم الجد أب الأب ثم العم لأنه ابن الجد ثم بنو العم فعلى هذا التنزيل ميراث الولاء وعلى هذا المجرى يجري ميراث الولاء وما أحرز الأبناء والآباء من الولاء فهو لعصبتهم.

حدثني سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال تزوج زياد بن حذيفة بن سعيد بن سهم أم وائل بنت معمر الجمحية فولدت ثلاثة أولاد فتوفيت أمهم فورثها بنوها رباعها وولاء موإليها فخرج بهم عمرو بن العاص معه إلى الشام فماتوا في طاعون عمواس فورثهم عمرو وكان عصبتهم فلما رجع عمرو جاءه بنو معمر يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر بن الخطاب فقال عمر أقضي بينكم بما سمعته من رسول الله يقول "ما أحرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان" فقضى لنا وكتب بذلك كتابا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وآخر حتى إذا استخلف عبد الملك بن مروان توفي مولى لها وترك ألف دينار وبلغني أن ذلك القضاء قد غير فخاصموه إلى هشام ابن إسماعيل فرفعه إلى عبد الملك بن مروان فأتيناه بكتاب عمر فقال إن كنت لأرى أن هذا من القضاء الذي لا يشك فيه وما كنت أرى أمرا بالمدينة بلغ هذا أن يشكوا في القضاء به فقضى لنا به فلم ننازع فيه بعد.

وهذا صحيح حسن غريب فقال يعقوب بن شيبة : ما رأيت أحدا من أصحابنا ممن ينظر في الحديث وينتقي الرجال يقول في عمرو بن شعيب شيئا وحديثه عندهم صحيح وهو ثقة ثبت والأحاديث التي أنكروا من حديثه إنما هي لقوم ضعفاء زوروها عنه وما روى عنه الثقات فصحيح قال وسمعت علي بن المديني يقول قد سمع أبوه شعيب من جده عبد الله بن عمرو قال علي وعمرو بن شعيب عندنا ثقة وكتابه صحيح وحسين المعلم ثقة عند جميعهم.

وأما اختلافهم في الولاء للكبير فذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا حجاج قال حدثنا هشام قال حدثنا المغيرة عن إبراهيم أن عليا وابن مسعود وزيدا كانوا يقولون الولاء للكبير.

قال وحدثنا حجاج قال حدثنا هشام عن الأشعث عن الشعبي عن علي وابن مسعود وزيد مثل ذلك.

قال إسماعيل فأوجب هؤلاء الولاء للأقرب فالأقرب خاصة ولم يجعلوه مشتركا على طريق الفرائض

قال وحدثنا حجاج قال حدثنا أبو عوانة عن المغيرة عن إبراهيم في أخوين ورثا مولى كان أعتقه أبوهما فمات أحد الأخوين وترك ولدا قال كان شريح يقول من ملك شيئا حياته فهو لورثته من بعده قال وكان علي وعبد الله وزيد يقولون الولاء للكبير

قال أبو عمر  : على قول علي وعبد الله وزيد جمهور فقهاء الأمصار وأكثر أهل العلم يقولون أن الولاء لا يجوز في الميراث إلا لأقرب الناس للمعتق يوم يموت الموروث المعتق وأنه ينتقل أبدا لهذه الحال.

قال إسماعيل حدثنا حجاج قال حدثنا حماد عن قتادة إن شريحا قال في رجل ترك جده وابنه ومولى قال للجد السدس من الولاء وما بقي فللابن.

قال قتادة وقال زيد الولاء للابن كله

قال أبو عمر  : وعليه الناس اليوم.

وقال إسماعيل : وحدثنا حجاج قال حدثنا حماد قال سألت إياس بن معاوية عن رجل ترك جده وابنه ومولاه فقال الولاء للابن وقال كل إنسان له فريضة مسماة فليس له من الولاء شيء قال إسماعيل يعني إياس لا يكون له شيء من الولاء في هذه الحال التي له فيها فريضة مسماة لأنه لم يرث في هذا الموضع من طريق العصبة وإن كان قد يكون عصبة في موضع آخر فيكون له الولاء

قال أبو عمر  : أجمع المسلمون على أن المسلم إذا أعتق عبده المسلم عن نفسه فإن الولاء له هذا ما لا خلاف فيه.

واختلفوا فيمن أعتق عن غيره رقبة بغير إذن المعتق عنه ودون أمره وكذلك اختلفوا في النصراني يعتق عبده المسلم قبل أن يباع عليه وفي ولاء المعتق سائبة وفي ولاء الذي يسلم على يد رجل فقالوا في ذلك كله أقاويل شتى.

منهم من قال أصله فيها اعتمادا على قوله "إنما الولاء لمن أعتق" ومنهم من نزع به رأيه وأداه اجتهاده إلى غير ذلك.

وأنا أبين أقوال الفقهاء فقهاء الأمصار في هذه المسائل واقتصر على ذكرهم في ذلك دون ذكر من قال بقولهم من التابعين قبلهم والخالفين بعدهم على ما اعتمدنا عليه من أول تأليفنا هذا وقصدناه لئلا نخرج عن شرطنا ذلك إذ كان مرادنا فيه الفرار من التخليط والإكثار وبالله التوفيق.

فأما عتق الرجل عن غيره فإن مالكا وأصحابه إلا أشهب قالوا الولاء للمعتق عنه وسواء أمر بذلك أو لم يأمر إذا كان مسلما وإن كان نصرانيا فالولاء لجماعة المسلمين وكذلك قال الليث بن سعد في ذلك كله.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام من أعتق عن غيره فالولاء للمعتق عنه كقول مالك.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري إن قال أعتق عبدك عني على مال ذكره فالولاء للمعتق عنه لأنه بيع صحيح فإذا قال أعتق عبدك عني بغير مال فأعتقه فالولاء للمعتق لأن الآمر لم يملك منه شيئا وهي هبة باطل لأنها لا يصح فيها القبض.

وقال الشافعي إذا أعتقت عبدك عن رجل حي أو ميت بغير أمره فولاؤه لك وإن أعتقته عنه بأمره بعوض أو بغير عوض فولاؤه له دونك ويجزئه بمال وبغير مال وسواء قبله المعتق عنه بعد ذلك أو لم يقبله.

قال الشافعي ولا يكون ولاء لغير معتق أبدا وكذلك قال أحمد وداود.

وقال الأوزاعي فيمن أعتق عن غيره الولاء لمن أعتق.

وأجمعوا أن الوكالة في العتق وغيره جائزة.

وأما أشهب فيجيز كفارة الإنسان عن غيره بأمره ولا يجيزها بغير أمره في العتق وغير العتق وسنذكر ذلك في باب سهيل إن شاء الله.

فأما حجة مالك ومن ذهب مذهبه فمنها ما حدثناه أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن وأحمد بن محمد بن أحمد قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا نعيم بن حماد قال حدثنا ابن المبارك قال حدثنا يونس بن يزيد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب أن رسول الله قال في حديث ذكره فيه طول "أن نبي الله أيوب عليه السلام قال في بلائه إن الله ليعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان ويذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهة أن يذكرا الله إلا في حق"

قال أبو عمر  : هكذا روى هذا الحديث يونس عن عقيل عن ابن شهاب مرسلا ورواه نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس عن النبي فوصله وفيه أن أيوب كان يكفر عن غيره بغير أمره ولو لم يجز عند أيوب لم يكفر عنه والكفارة قد تكون بالعتق وغيره لأنه لم يبلغنا أن شريعة أيوب كانت في كفارة الأيمان على غير شريعتنا وإذا جاز العتق للإنسان عن غيره في شريعة أيوب عليه السلام لم ينسخ ذلك في شريعتنا إلا بأمر بين فالواجب الاقتداء به لقول الله عز وجل {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وقال ابن القاسم من اعتق عن رجل بغير أمره في كفارة أنه يجزئه

قال أبو عمر  : "حجتهم في ذلك ما تقدم" والقياس على أداء الدين عن غيره بغير إذنه أنه براءة صحيحة

قال أبو عمر  : إذا صح هذا الأصل صح الولاء للمعتق عنه لأنه يستحيل أن تجزئ عنه الكفارة فيما قد وجب عليه والولاء لغيره فإذا أجزأت عنه كفارة فالولاء له.

وذكر القاسم بن خلف عن أبي بكر الأبهري أنه قال في مسألة ابن القاسم هذه القياس أن لا يجوز لأنه غير جائز أن يفعل الإنسان عن غيره شيئا واجبا عليه لا يصح إلا بنية منه بغير أمره كالحج والزكاة وكذلك الكفارات لأنها أفعال تعبد بها الإنسان وليس كذلك الدين لأنه قد يزول عن الإنسان بغير أداء وهو أن يبرأ منه

قال أبو عمر  : ومن حجة من لم يجز العتق عن غيره بغير أمره قوله "الولاء لمن اعتق" هذا معناه عندهم أن الولاء لا يكون إلا لمعتق والمعتق عنه غير المعتق فبطل ذلك عندهم لأن الولاء لا ينتقل وهو لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب وغير جائز في الحقيقة أن يضاف إلى الإنسان فعل لم يقصده ولم يعلم به فلهذا يستحيل أن يقال أنه وهبه له ثم أعتقه عنه من غير توكيل منه وأما إذا أمره أن يعتق عبده عنه فأجابه المأمور

إلى ذلك ثم اعتق عنه من غير توكيل وإنما هي هبة مقبوضة ينفذ فيها التوكيل والتسليط والمال في ذلك وغير المال سواء لأن الهبة والبيع في ذلك سواء.

وأما النصراني يعتق عبده المسلم قبل أن يباع عليه فإن مالكا وأصحابه يقولون ليس له من ولائه شيء وولاؤه لجماعة المسلمين ولا يرجع إليه الولاء أبدا وإن أسلم ولا إلى ورثته وان كانوا مسلمين وحجة من قال بهذا القول أن إسلام عبد النصراني يرفع ملكه عنه ويوجب إخراجه عن يده فلما كان ملكه يرتفع بإسلامه لم يثبت الولاء له بعد عتقه وإذا لم يثبت له ثبت لجماعة المسلمين وإذا ثبت لهم الولاء لم ينتقل عنهم لأنه لحمة كلحمة النسب وسواء أسلم سيده بعد ذلك أو لم يسلم لأن الولاء قد ثبت لجماعة المسلمين قالوا والدليل على ارتفاع ملك النصراني عن عبده المسلم عموم قول الله تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وقوله تعالى { وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} والحديث "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"

وقال الشافعي والعراقيون وأصحابهم : إذا أسلم عبد النصراني فاعتقه قبل أن يباع عليه فولاؤه له ولورثته من بعده فإن أسلم مولاه ثم مات المعتق ولم يكن له وارث بالنسب ورثه معتقه وان لم يسلم لم يرثه لقول رسول الله "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وحجتهم في أن الولاء له عموم قول رسول الله "الولاء لمن أعتق" لم يخص مسلما من كافر ولو لم يكن له عليه ملك ما بيع عليه ودفع ثمنه إليه وقد قال "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب"

قال أبو عمر  : روي في هذا الباب حديث ليس بالقوي من جهة الإسناد ولكنه قد احتج به من ذهب هذا المذهب وهو ما حدثناه إبراهيم بن شاكر قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن أيوب الرقى قال حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال

حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عروة بن غيلان الثقفي أخبره عن أبيه "أن نافع بن السائب كان عبدا لغيلان بن سلمة ففر إلى رسول الله يوم حاصر الطائف فأعتقه رسول الله فلما أسلم غيلان رد رسول الله ولاء نافع إليه"

قال أبو عمر  : كان أهل الطائف حربيين يومئذ وما خرج عنهم من أموالهم إلى المسلمين كان للمسلمين وجائز أن يكون هذا قبل "نهي رسول الله عن بيع الولاء وهبته" "ونهيه عن بيع الولاء وهبته أقوى من هذاوبالله التوفيق"

وقال الشافعي في قوله "إنما الولاء لمن أعتق" بيان أن الولاء لا يكون إلا لمعتق وهو يوجب أن يكون الولاء لكل معتق كفارا كان أو مسلما لأنه قد جعله كالنسب فكما منع اختلاف الأديان من التوارث مع صحة النسب فكذلك منع اختلاف الأديان من التوارث مع صحة الولاء وثبوته فإذا اتفقا على الإسلام توارثا وليس اختلاف الأديان مما يمنع من الولاء ولا يدفعه كما أن اختلاف الأديان لا يمنع النسب ولكنه يمنع التوارث كما تمنعه العبودية والقتال عمدا قالوا فولاء المسلم على الكافر ثابت وولاء الكافر على المسلم ثابت إذا أعتقه لقول رسول الله "الولاء لمن أعتق" قالوا ولا يزيل إسلام عبد النصراني ملكه عنه وإنما يمنع استقراره واستدامته ألا ترى انه إذا بيع عليه ملك ثمنه ولو ارتفع ملكه عنه لم يبع عليه ولا ملك المبدل منه ونظير ذلك ملك الرجل لمن يعتق عليه يمنع من استدامة الرق ويعتق عليه بالملك فيكون له ولاؤه وهذا ما لا خلاف فيه.

ومالك وأصحابه يقولون في العبد إذا اشترى اشتراء فاسدا فأعتقه المشترى أن العتق واقع والولاء ثابت له وإن كان ملكه غير تام ولا مستقر

قال أبو عمر  : أما المسلم إذا اعتق عبده النصراني فلا خلاف بين العلماء أن له ولاءه وانه يرثه إن أسلم إذا لم يكن له وارث من نسبه يحجبه فإن مات العبد وهو نصراني فلا خلاف علمته أيضا بين الفقهاء أن ماله يوضع في بيت مال المسلمين ويجرى مجرى الفيء إلا ما ذكره أشهب عن المخزومي فإنه قال عنه إن ميراثه لأهل دينه قال فإن أسلم النصراني ميراثه ولم يطلبوه ولا طلبه منهم طالب أدخلناه بيت مال المسلمين معزولا ولا يكون فيئا حتى يرثه الله أو يأتي له طالب وهذا عندي لا وجه له إلا كون الكفار بعضهم أولياء بعض كما أن المسلمون بعضهم أولياء بعض والصحيح في ذلك ما قاله جمهور العلماء انه يوضع في بيت المال لأن ولاءه قد ثبت للمسلمين ولاية نسب وهي أقعد من ولاية الدين في وجه المواريث إلا أن الشريعة منعت من التوارث بين المسلمين والكفار فكان هذا النصراني المعتق قد ترك مالا لا وارث له وله أصل في المسلمين عدم مستحقه بعينه فوجب أن يصرف في مصالح المسلمين ويوقف في بيت مالهم والله أعلم.

وأما الحربي يعتق مملوكه ثم يخرجان مسلمين فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا للعبد أن يوالي من شاء ولا يكون ولاؤه للمعتق وكذلك عندهم كل كافر اعتق كافرا وقال الشافعي : مولاه يرثه إذا أسلم واستحسنه أبو يوسف وهو قياس قول مالك في الذمي يعتق ذميا ثم يسلمان وقولهم جميعا وبالله التوفيق.

وأما المعتق سائبة فإن ابن وهب روى عن مالك قال لا يعتق أحد سائبة لأن رسول الله نهى عن بيع الولاء وعن هبته وهذا عند كل من ذهب مذهب مالك إنما هو على كراهية السائبة لا غير لأن كل من أعتق عندهم سائبة نفذ عتقه وكان ولاؤه لجماعة المسلمين هكذا روى ابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب وغيرهم عن مالك وكذلك ذكر ابن وهب عن مالك في موطئه وهو المشهور من مذهبه عند أصحابه وقد يحتمل أن يكون قول مالك لا يعتق أحد سائبة رجوعا عن قوله المعروف والله أعلم ولكن أصحابه على المشهور من قوله.

قال مالك في موطئه "وأحسن ما سمعت في السائبة أنه لا يوالي أحدا وإن ولاءه لجماعة المسلمين وعقله عليهم" وهذا يدلك على تجويزه لعتق السائبة.

وقال ابن القاسم وابن وهب عن مالك أنا أكره عتق السائبة وأنهى عنه فإن وقع نفذ وكان ميراثه لجماعة المسلمين وعقله عليهم

وقال ابن نافع لا سائبة اليوم في الإسلام ومن أعتق سائبة فإن ولاءه له.

وقال أصبغ لا بأس بعتق السائبة ابتداء

قال أبو عمر  : أصبغ ذهب في هذا إلى المشهور من مذهب مالك وله احتج إسماعيل بن إسحاق القاضي وإياه تقلد ومن حجته في ذلك أن عتق السائبة مستفيض بالمدينة لا ينكره عالم وإن عبد الله بن عمر وغيره من السلف أعتقوا السائبة وإن عمر بن الخطاب قال السائبة والصدقة ليومهما أي لا يتصرف في شيء منهما وروى سليمان التيمي عن بكر المزني أن ابن عمر أتى بمال مولى أعتقه سائبة فمات فقال إنا كنا أعتقناه سائبة فأمر أن يشتري به رقاب فتعتق وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال قال عمر بن الخطاب "السائبة والصدقة ليومهما"

وروى ابن عيينة عن الأعمش ولم يسمعه منه قال سمعت إبراهيم يقول أتى عبد الله رجل بمال فقال خذ هذا فقال ما هو قال مال رجل أعتقته سائبة فمات وترك هذا قال فهو لك قال ليس لي فيه حاجة قال وطرحه عبد الله في بيت المال

قال أبو عمر  : وهذا إن صح لم يكن فيه حجة لأن ابن مسعود قال هو لك ولم يقل لجماعة المسلمين وإنما جعله في بيت المال لأن ذلك حكم كل مال يدفعه ربه عن نفسه إلى غير مالك معين وكذلك فعل عمر ابن الخطاب في طارق بن المرقع ذكره وكيع عن بسطام بن مسلم عن عطاء بن أبي رباح أن طارق بن المرقع اعتق عبدا له فمات وترك مالا فأعرض على طارق فأبى فقال إنما جعلته لله ولست آخذ ميراثه فكتب فيه إلى عمر فكتب عمر أن أعرضوا على طارق الميراث فإن قبله وإلا فاشتروا به رقيقا فأعتقوهم فبلغ خمس عشرة أو ست عشرة رأسا وأما أهل المدينة فأكثرهم على أن السائبة ميراثه لجماعة المسلمين وممن روى هذا عنه منهم ابن شهاب وربيعة وأبو الزناد وهو قول عمر بن عبد العزيز وأبي العالية وعطاء وعمرو بن دينار.

وقال سفيان الثوري في قول عمر السائبة ليومها قال يعني يوم القيامة لا يرجع في شيء منها إلى يوم القيامة.

وذكر ابن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع أن ابن عمر كان إذا أعتق سائبة لم يرثه ولا يختلف في أن سالما مولى أبي حذيفة أعتقته مولاته ليلى أو لبنى بنت يعار وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة فأعتقته سائبة ولم يقل أحد أن رسول الله نهى عن ذلك ثم مات وترك ابنته فأعطاها عمر بن الخطاب نصف ماله وجعل النصف في بيت المال والذي لم يختلف فيه من أمر سالم مولى أبي حذيفة أنه أعتق سائبة ولا خلاف أنه قتل يوم اليمامة وإنما نسب القضاء فيه إلى عمر لأنه كان بأمر أبي بكر وكان عمر القاضي لأبي بكر.

وقد روي أن عمر جعل ميراثه لابنته لما امتنع موإليه من قبول ميراثه إذ كان سائبة وروي أنها أعتقته سائبة فوالى أبا حذيفة

وقال الشعبي ترك سالم مولى أبي حذيفة ابنته ومولاته ليلى بنت يعار امرأة أبي حذيفة بن عتبة فورث أبو بكر البنت النصف وعرض الباقي على مولاته فقالت لا أرجع في شيء من أمر سالم إني جعلته لله فجعل أبو بكر رضي الله عنه النصف الباقي في سبيل الله وهذا أولى من رواية من روى أن عمر حكم بذلك إلا بما وجهنا من أمر أبي بكر له بذلك والله أعلم.

وروي عن عمر وابن مسعود أنهما قالا "يعرض مال المعتق سائبة على الذي أعتقه" فإن تحرج عنه اشترى به رقاب وأعتقوا وعن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال يضع السائبة ماله حيث شاء.

وقال أبو العالية والزهري ومكحول ومالك بن أنس لا ولاء عليه ويرثه المسلمون وقال مالك رحمه الله السائبة لا يوالي أحدا وولاؤه لجماعة المسلمين وحجته في أنه لا يوالي أحدا قوله "الولاء لمن أعتق" ومعلوم أن من تولاه السائبة لم يعتقه فكيف يكون له ولاؤه.

وقال ابن شهاب والأوزاعي والليث بن سعد له أن يوالي من شاء فإن مات ولم يوال أحدا كان ولاؤه لجماعة المسلمين ومن حجتهم في ذلك قول عمر رحمه الله لك ولاؤه في المنبوذ قالوا فقام الصغير مقامه لنفسه لو ميز موضع الاختيار لها والدفع عنها فجاز بذلك للكبير أن يوالي من شاء إذا لم يكن له عليه ولاء وهؤلاء كلهم يجيزون عتق السائبة ويجعلون الولاء للمسلمين وحجتهم ما ذكرناه من عمل أهل المدينة قرنا بعد قرن في زعم المحتج بذلك ولأنه في معنى من أعتق عن غيره فيكون الولاء له ومن أعتق عبده سائبة فقد أعتقه عن جماعة المسلمين فلذلك صار الولاء لهم قالوا وإنما يكون الولاء لمن أعتق إذا أعتق عن نفسه فهذا ما احتج به إسماعيل وغيره في عتق السائبة.

وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما من أعتق سائبة فولاؤه له وهو يرثه دون الناس وهو قول الشافعي وعطاء والحسن وابن سيرين وضمرة بن حبيب وراشد بن سعد وبه يقول محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.

وحجتهم في ذلك قول رسول الله "إنما الولاء لمن أعتق" فنفى بذلك أن يكون الولاء لغير معتق ونهى عليه السلام عن بيع الولاء وهبته

واحتجوا أيضا بقول الله عز وجل {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} والحديث "لا سائبة في الإسلام" وبما رواه أبو قيس عن هذيل بن شرحبيل قال قال رجل لعبد الله بن مسعود إني أعتقت غلاما لي سائبة فمات وترك مالا فقال عبد الله "أن أهل الإسلام لا يسيبون إنما كانت تسيب الجاهلية أنت وارثه وولي نعمته".

وقد روى ابن جريح عن عطاء أن طارق بن المرقع كان أميرا على مكة فأعتق سوائب فماتوا فجاءوا بالميراث إلى عمر فقال أعطوه ورثته فأبى الورثة أن يقبلوه فاشتروا به رقابا فأعتقوهم

قال أبو عمر  : روى شعبة عن سلمة بن كهيل قال سمعت أبا عمرو الشيباني قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول السائبة يضع ماله حيث شاء وهذا معناه أن المعتق له سائبة لم يكن حيا ولا عصبته ومن كانت هذه حاله فمذهب ابن مسعود فيه وفي كل من لا وارث له أنه يضع ماله حيث شاء وأجاز له أن يوصي بماله لمن شاء وهو قول مسروق وعبيدة والشعبي وأكثر أهل العراق.

وأما الذي يسلم على يد رجل أو يواليه فإن مالكا وأصحابه وعبد الله بن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحابه قالوا لا ميراث للذي أسلم على يديه ولا ولاء له بحال وميراث ذلك المسلم إذا لم يدع وارثا لجماعة المسلمين وهو قول أحمد وداود ولا ولاء إلا للمعتق.

وحجتهم في ذلك قول رسول الله "الولاء لمن أعتق" قالوا وهذا غير معتق فكيف يكون له ولاء من أسلم على يديه.

ومن حجتهم أيضا أن الميراث بالمعاقدة منسوخ فبطل بذلك أن يوالي أحد أحدا لأن الولاء نسب.

قال أشهب عن مالك جاء رجل من أهل مصر ذكر أن في يده ألف دينار من مال رجل هلك وقد أسلم على يديه فقيل له ليس لك هذا فلا أراه إلا ردها قال أشهب الرجل الذي جاء هو موسى بن علي بن رباح.

وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن إذا أسلم كافر على يد رجل مسلم بأرض العدو أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري إذا كان من أرض العدو فجاء فأسلم على يدي رجل فإن ولاءه لمن والاه ومن أسلم من أهل الذمة على يدي رجل مسلم فولاؤه للمسلمين عامة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث غيره فميراثه له.

وقال الليث بن سعد من أسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يديه إذا لم يدع وارثا غيره.

وحجة من قال بهذا القول ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الله بن داود عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن موهب عن تميم الداري قال "سألت رسول الله عن المشرك يسلم على يدي الرجل المسلم فقال هو أحق الناس وأولى الناس بمحياه ومماته" قال عبد العزيز فحدث به ابن موهب عمر بن عبد العزيز فشهدته قضى بذلك في رجل أسلم على يدي رجل مسلم فمات وترك مالا وابنة فقسم ماله بينه وبين ابنته فأعطى الابنة النصف وأعطى الذي أسلم على يديه النصف.

وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال قضى عمر بن الخطاب في رجل والى قوما فجعل ميراثه لهم وعقله عليهم قال معمر وقال الزهري إذا لم يوال أحدا ورثه المسلمون

قال أبو عمر  : في هذه المسألة أقوال :

أحدهما ما قدمنا عن مالك والشافعي ومن تابعهما أنه لا يكون ولاؤه ولاء ميراث لمن أسلم على يديه وسواء والاه أو لم يواله وقول آخر إذا أسلم على يديه ورثه وإن لم يواله روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وبه قال الليث بن سعد جعل إسلامه على يديه موالاة.

ومن حجة من ذهب إلى هذا حديث تميم الداري المذكور وما رواه حماد بن سلمة عن جعفر بن الزبير عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي قال "من أسلم على يدي رجل فله ولاؤه"

وذكر سعيد بن منصور عن عيسى بن يونس عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد قال قال رسول الله من أسلم على يديه رجل فهو مولاه وهي آثار ليست بالقوية ومراسيل.

وقالت طائفة إذا والى رجل رجلا وعاقده فهو يعقل عنه ويرثه إذا لم يخلف ذا رحم.

وروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود أنهم أجازوا الموالاة وورثوا بها وعن عطاء والزهري ومكحول نحوه

وقالت طائفة إن عقل عنه ورثه وان لم يعقل عنه لم يرثه

روي عن سعيد بن المسيب أيما رجل أسلم على يدي رجل فعقل عنه ورثه وإن لم يعقل عنه لم يرثه.

وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا والاه على أن يعقل عنه ويرثه عقل عنه وورثه إذا لم يخلف وارثا معروفا قالوا وله أن ينقل ولاءه عنه ما لم يعقل عنه أو عن أحد من صغار ولده وللموالي أن يبرأ من ولائه بحضرته ما لم يعقل عنه قالوا وإن أسلم على يدي رجل ولم يواله لم يرثه ولم يعقل عنه وهو قول الحكم وحماد وإبراهيم وهذا كله فيمن لا تعرف له عصبة ولا ذو رحم يرث بها.

وأما قوله في الحديث "ألم أر برمة فيها لحم فقيل بلى يا رسول الله ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة فقال هو عليها صدقة وهو لنا هدية" ففيه إباحة أكل اللحم وهو يرد قول من كرهه من الصوفية والعباد ويبين معنى قول عمر "إياكم واللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر" وقد روي عن رسول الله أنه قال "سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم" وسيأتي من هذا المعنى ذكر عند قوله نكب عن ذات الدر في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله ذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا مسلم بن إبراهيم

قال حدثنا بكار بن عبد العزيز بن بريد الكندي قال حدثنا غالب القطان قال كان للحسن كل يوم لحم بنصف درهم وما وجدت مرقة قط أطيب ريحا من مرقة الحسن "قال وحدثنا عائذ قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب قال ما وجدت مرقة أطيب ريحا من مرقة الحسن".

قال وحدثنا عبد الصمد قال حدثنا أبو هلال قال ما دخلنا على الحسن قط إلا وقدره تفور بلحم طيبة الريح قال ودخلت يوما على محمد وهوي يأكل متكئا من سمك صغار وفي هذا الحديث أيضا أن الصدقة كان رسول الله لا يأكلها وكان يأكل الهدية.

وأجمع العلماء أن الصدقة كانت لا تحل له على لسانه ثبت عنه أنه قال الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد وأنه كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.

حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا أبو طالب محمد بن زكريا المقدسي قال حدثنا عبيد بن الغازي أبو ذهل قال حدثنا أبو عاصم النبيل قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس عن عائشة قالت "كان رسول الله يقبل الهدية وكان لا يقبل الصدقة".

وقال طائفة من أهل العلم إن صدقة التطوع كان رسول الله يتنزه عنها ولم تكن عليه محرمة.

وقال آخرون وهم أكثر أهل العلم كل صدقة فداخلة تحت قوله "أن الصدقة لا تحل لنا" واستدلوا بأنه كان عليه السلام لا يأكل صدقة التطوع وقالوا في اللحم الذي تصدق به على بريرة أنه كان من صدقات التطوع لأن المعروف في الصدقات المفروضات أنها لا تفرق لحما وإنما تفرق لحما لحوم الأضحية والعقيقة وغير ذلك من التطوع

قال أبو عمر  : أما تحريم الصدقة المفترضة عليه وعلى أهله فأشهر عند أهل العلم من أن يحتاج فيها إلى إكثار ونحن نذكر ها هنا من ذلك ما فيه كفاية إن شاء الله.

وذكر عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله "إني لأدخل بيتي فأجد التمرة ملقاة على فراشي فلولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها".

وروى حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس "أن النبي كان يمر بالتمرة فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون صدقة".

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو بكر بن أبي العوام قال حدثنا أبو عاصم النبيل قال حدثنا ثابت بن عمارة عن ربيعة بن شيبان قال "قلت للحسن بن علي هل حفظت من رسول الله شيئا قال نعم دخلت غرفة الصدقة فأخذت تمرة من تمر الصدقة فألقيتها في فمي فقال النبي انزعها فإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهله"

روى شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة "أن النبي أتى بتمر من تمر الصدقة فتناول الحسن بن علي منها تمرة فلاكها فقال له النبي كخ إنه لا تحل لنا الصدقة"

قال أبو عمر  : أما الصدقة المفروضة فلا تحل للنبي عليه السلام ولا لبني هاشم ولا لمواليهم لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك إلا أن بعض أهل العلم قال إن موالي بني هاشم لا يحرم عليهم شيء من الصدقات وهذا خلاف الثابت عن النبي .

حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا شعبة قال حدثنا الحكم عن ابن أبي رافع عن أبيه أن رسول الله استعمل رجلا من بني مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال النبي "إن الصدقة لا تحل لنا وإن مولى القوم منهم".

وأبو رافع مولى النبي واسمه أسلم وقيل إبراهيم وقيل غير ذلك على ما قد ذكرنا في كتاب الصحابة.

واختلف العلماء أيضا في جواز صدقة التطوع لبني هاشم والذي عليه جمهور أهل العلم وهو الصحيح عندنا أن صدقة التطوع لا بأس بها لبني هاشم ومواليهم ومما يدلك على صحة ذلك أن عليا والعباس وفاطمة رضي الله عنهم وغيرهم تصدقوا وأوقفوا أوقافا على جماعة من بني هاشم وصدقاتهم الموقوفة معروفة مشهورة.

ولا خلاف علمته بين العلماء في بني هاشم وغيرهم في قبول الهدايا والمعروف سواء وقد قال "كل معروف صدقة" وسنزيد هذا الباب بيانا في أولى المواضع به من كتابنا هذا إن شاء الله.

وأما امتناعه من أكل صدقة التطوع فمشهور ومنقول من وجوه صحاح.

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا زياد بن أيوب وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال حدثنا أحمد بن الحسن بن هارون الصباحي قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدروقي قالا حدثنا أبو عبيدة عبد الواحد بن واصل قال حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال "كان النبي إذا أتى بشيء سأل عنه أصدقة أم هدية" فإن قيل صدقة لم يأكل منه وإن قيل هدية بسط يده".

وحدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا مؤمل بن يحيى بن مهدي قال حدثنا محمد بن جعفر بن حفص بن راشد الإمام قال حدثنا على بن المديني قال حدثنا مكي بن إبراهيم ويوسف بن يعقوب السدوسي قالا حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده "أن رسول الله

كان إذا أتى بهدية قبلها وإذا أتى بصدقة أمر أصحابه فأكلوها".

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا القاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن موسى قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي قرة الكندي عن سلمان الفارسي قال "كنت من أبناء أساورة فارس وكنت في كتاب وكان معي غلامان فإذا أتيا من عند معلمهما أتيا قسا فدخلا عليه فدخلت معهما عليه فقال ألم أنهكما أن تأتياني بأحد فجعلت اختلف إليه حتى كنت أحب إليه منهما فقال لي إذا سألك أهلك ما حبسك فقل معلمي وإذا سألك معلمك ما حبسك فقل أهلي ثم أنه أراد أن يتحول فقلت له أنا أتحول معك فتحولت معه فنزلت قرية فكانت امرأة تأتيه فلما حضر قال لي يا سلمان أحفر عند رأسي فحفرت عند رأسه فاستخرجت جرة من دراهم فقال لي صبها على صدري فصببتها على صدره فجعل يقول ويل لاقتنائي ثم إنه مات فهممت بالدراهم أن أحولها ثم أني ذكرت قوله فتركتها ثم إني أذنت القسيسين والرهبان به فحضروه فقلت لهم إنه قد ترك مالا فقام شباب من القرية فقالوا هذا مال أبينا فأخذوه قال فقلت للرهبان أخبروني برجل عالم أتبعه فقالوا ما نعلم في الأرض رجلا أعلم من رجل بحمص فانطلقلت إليه فلقيته فقصصت عليه القصة قال وما جاء بك إلا طلب العلم قلت ما كان إلا طلب العلم فقال إني لا أعلم اليوم في الأرض أحدا أعلم من رجل يأتي بيت المقدس كل سنة إن انطلقت الآن وافقت حماره فانطلقت فإذا أنا بحماره على باب بيت المقدس فجلست عنده وانطلق فلم أره حتى الحول فجاء فقلت يا عبد الله ما صنعت بي قال وإنك لهاهنا قلت نعم فإني والله ما أعلم اليوم رجلا أعلم من رجل خرج من أرض تيماء وأن تنطلق الآن توافقه وفيه ثلاث آيات يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وعند غرضوف كتفه اليمنى خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة لونها لون جلده قال فانطلقت ترفعني أرض وتخفضني أخرى حتى مررت بقوم من الأعراب فاستعبدوني فباعوني حتى اشترتني امرأة بالمدينة فسمعتهم يذكرون النبي عليه السلام وكان العيش عزيزا فقلت لها هبي لي يوما فقالت نعم.

فانطلقت فاحتطبت حطبا فبعته فأتيت به النبي وكان يسيرا فوضعته بين يديه فقال ما هذا فقلت صدقة فقال لأصحابه كلوا ولم يأكل فقلت هذه من علاماته ثم مكثت ما شاء الله أن أمكث ثم قلت لمولاتي : هبي لي يوما فقالت : نعم، فانطلقت فاحتطبت حطبا فبعته بأكثر من ذلك وصنعت طعاما فأتيت به النبي وهو بين أصحابه فوضعته بين يديه فقال ما هذا فقلت هدية فوضع يده وقال لأصحابه خذوا باسم الله فقمت خلفه فوضع رداءه فإذا خاتم النبوءة فقلت أشهد أنك رسول الله صلى الله عليك فقال وما ذاك فحدثته عن الرجل ثم قلت أيدخل الجنة يا رسول الله فإنه حدثني أنك نبي فقال لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة".

وحدثنا ابن القاسم قال حدثنا محمد بن أحمد بن المسور قال حدثنا مقدام بن داود قال حدثنا عبد الأحد بن الليث بن عاصم أبو زرعة قال حدثني الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن سلمان الخير كان خالط الناس من أصحاب دانيال بأرض فارس قبل الإسلام فسمع ذكر النبي عليه السلام وصفته فإذا في حديثهم أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة في أشياء من صفته فأراد الخروج في التماسه فمنعه أبوه ثم هلك أبوه فخرج إلى الشام يلتمس رسول الله فكان هناك في كنيسة ثم سمع بخروج رسول الله وذكره فخرج يريده فأخذه أهل تيماء فاسترقوه فقدموا به المدينة فباعوه ورسول الله بمكة فلما قدم المدينة أتاه سلمان بشيء فقال : ما هذا؟ فقال : صدقة فأمر بها فصرفت ثم جاء بشيء فقال ما هذا فقال هدية فأكل منها رسول الله فأسلم سلمان عند ذلك فأخبر رسول الله أنه مملوك فقال كاتبهم بغرس مائة ودية فرماه الأنصار من ودية ووديتين فغرسها فأقبل يوما آخر وأنه لفي سقي ذلك الودي .

وحدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا مؤمل بن يحيى بن مهدي قال حدثنا محمد بن جعفر بن حفص الإمام قال حدثنا علي بن المديني قال حدثنا زيد بن الحباب قال حدثنا الحسين بن واقد قال حدثنا عبد الله بن يزيد عن أبيه "أن سلمان أتى رسول الله بصدقة فقال صدقة عليك وعلى أصحابك فقال رسول الله إنا لا تحل لنا الصدقة فدفعها ثم جاء من الغد بمثلها فقال هذه هدية لك فقال لأصحابه كلوا قال ثم اشترى رسول الله سلمان بكذا وكذا درهما من يهود وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يقوم عليه حتى يدرك.

قال فغرس رسول الله النخل كله إلا نخلة غرسها عمر قال فأطعم النخل كله إلا النخلة التي غرسها عمر فقال رسول الله من غرس هذه النخلة فقالوا عمر قال فقطعها وغرسها رسول الله فأطعمت من عامها.

حدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا ابن الأصبهاني قال أخبرنا شريك عن عبيد المكتب عن أبي الطفيل عن سلمان قال "أتيت النبي بصدقة فردها وأتيته بهدية فقبلها ".

وإنما لم تجز صدقة التطوع للنبي عليه السلام والله أعلم لأن الصدقة لا يثاب عليها صاحبها لأنه لا يبتغي بها إلا الآخرة وأبيحت له الهدية لأنه يثيب عليها ولا تلحقه بذلك منة.

وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله قال "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني" وهذا في معنى حديث بريرة سواء في قوله عليه السلام "هو لها صدقة ولنا هدية" وسيأتي هذا الحديث ويأتي القول فيه وفي إسناده ومعانيه في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا إن شاء الله.

وقوله لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة يريد الصدقة المفروضة وأما التطوع فغير محرمة على أحد غير من ذكرنا على حسب ما وصفنا في هذا الباب إلا أن التنزه عنها حسن وقبولها من غير مسألة لا بأس به ومسألتها غير جائرة إلا لمن لم يجد بدا وسنبين هذه الوجوه كلها في مواضعها من كتابنا هذا إن شاء الله.

وقد استدل جماعة من أهل العلم على جواز شراء المتصدق صدقته من الساعي إذا قبضها الساعي وبان بها إلى نفسه بحديث بريرة هذا وقالوا شراء الصدقة من الساعي ومن المتصدق عليه جائز لأنها ترجع إلى مشتريها من غير ملك الجهة لأنه ليس بمانع للصدقة ولا عائد فيها من وجهها وقالوا كما رجعت الصدقة على بريرة هدية إلى رسول الله ولم يكن بذاك بأس وكذلك إذا اشتراها المتصدق بها وقالوا كما أنه لو ورثها لم يكن بذلك عند أهل العلم بأس وقيل إن استقاء عمر بن الخطاب اللبن الذي سقيه من نعم الصدقة إنما استقاءه لأن الذي سقاه إياه كان من الأغنياء الذين لا تحل لهم الصدقة ولا يصح ملكها ولو كان ممن تحل له الصدقة ويستقر عليها ملكه ما استقاءه عمر لأنه كان يحل له حينئذ لأنه غني أهدى إليه رجل مسكين مما تصدق عليه على حديث بريرة وغيره مما قد ذكرناه في هذا الباب والحمد لله

قال أبو عمر  : أما إهداء المسكين إلى الغني فقد ثبت عن النبي جوازه من حديث عائشة هذا وغيرها في قصة بريرة من حديث أبي سعيد الخدري أيضا وغيره وكذلك ما رجع بالميراث إلى المتصدق فقد روي عن النبي جوازه أيضا فوجب الوقوف عند ذلك كله على حسب ما نقل عنه من ذلك .

وأما شراء الصدقة من المتصدق عليه ومن الساعي فقد ثبت عن النبي النهي عن ذلك بقوله عليه السلام لعمر في الفرس التي حمل عليها عمر في سبيل الله : "لا تشترها ولا تعد في صدقتك" الحديث فكيف يجمع بين أمرين فرق رسول الله بينهما إلا أن أهل العلم حملوا نهيه على شراء الصدقة والعودة فيها على سبيل التنزه عنها لا على سبيل التحريم ولما في ذلك من قطع الذريعة لئلا يطلق للناس اشتراء صدقاتهم فيشترونها من الساعي والمتصدق عليه قبل القبض فيدخل في ذلك بيع ما لم يقبض وإعطاء القيمة عن العين الواجبة وسنذكر ما للعلماء في هذا المعنى في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ثم ذكر حديث عمر في الفرس إن شاء الله.

وأما رجوعها بالميراث إلى المتصدق بها فلا تهمة فيها ولا كراهية تدخله إلى ما روى عن النبي من جوازه.

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن امرأة أتت رسول الله فقالت "كنت تصدقت على أمي بوليدة وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة فقال وجب أجرك ورجعت إليك بالميراث".

أخبرنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا عبد الله بن نمير عن عبد الله بن عطاء عن ابن بريدة عن أبيه قال كنت جالسا عند النبي إذ جاءت امرأة فقالت يا رسول الله "إني كنت تصدقت على أمي بجارية فماتت وبقيت الجارية فقال لها النبي  : "وجب أجرك ورجعت إليك بالميراث" .

حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال حدثنا سليمان بن الأشعث قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك "أن النبي أتى بلحم فقال ما هذا فقالوا شيء تصدق به على بريرة قال هو لها صدقة ولنا هدية"

قال أبو عمر  : ففي هذه الآثار ما يدل على أن الصدقة إذا تحولت إلى غير معناها حلت لمن لم تكن تحل له قبل ذلك.

وفي قوله هو عليها صدقة وهو لنا هدية دليل على أن ما لم يحرم لعينه كالميتة والخنزير والدم والعذرات وسائر النجاسات وما أشبهها وحرم لعلة عرضت من فعل فاعل إلى غيره من العلل فإن تحريمه يزول بزوال العلة ألا ترى أن الدرهم المغصوب والمسروق حرام على الغاصب والسارق من أجل غصبه له وسرقته إياه فإن وهبه له المغصوب منه والمسروق منه طيبة به نفسه حل له وهو الدرهم بعينه

وقد اعتل قوم ممن نفى القياس في الأحكام وزعم أن التعبد بالأسماء دون المعاني بحديث بريرة هذا في قصة اللحم والصدقة به والهدية وزعم أن ذلك اللحم لما سمي صدقة حرم فلما سمي هدية حل فجاء بتخليط من القول وخطل منه واحتج على مذهبه في ذلك بقوله تعالى "لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا" وللكلام في هذا الباب موضع غير هذا ولو ذكرناه ها هنا خرجنا عما شرطنا وعما له قصدنا وبالله توفيقنا وعليه توكلنا

حديث رابع لربيعة مسند صحيح

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أنه قال "جاء رجل إلى رسول الله فسأله عن اللقطة فقال أعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قال فضالة الغنم يا رسول الله قال لك أو لأخيك أو للذئب قال فضالة الإبل قال مالك معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها".

والعفاص هنا الخرقة المربوط فيها الشيء الملتقط وأصل العفاص ما سد به فم القارورة وكل ما سد به فم الآنية فهو عفاص يقال منه عفصت القارورة وأعفصتها وقال أبو عبيدة هو جلد تلبسه رأس القارورة.

والوكاء الخيط الذي يشد به يقال منه أوكيتها إيكاء.

وأما الصمام فهو ما يدخل في فم القارورة فيكون سدادا لها

قال أبو عمر  : في هذا الحديث معان اجتمع العلماء على القول بها ومعان اختلفوا فيها.

فمما اجتمعوا عليه إن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها وأجمعوا أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء له فإنها تعرف حولا كاملا وأجمعوا على أن صاحبها إذا جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة ولا تصرف قبل الحول.

وأجمعوا أن أخذ ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها

واختلفوا في سائر ذلك على ما نذكره إن شاء الله فمن ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا لأنه عليه السلام أجاب السائل عن اللقطة بأن قال أعرف عفاصها ووكاءها كأنه قال أحفظها على صاحبها واعرف من العلامات ما تستحق به إذا طلبت وقال في الشاة هي لك أو لأخيك أو للذئب يقول خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب إن لم تأخذها كأنه يحضه على أخذها ولم يقل في شيء من ذلك دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله فيها كما قال في ضالة الإبل والله أعلم.

ومعلوم أن أهل الأمانات لو اتفقوا على ترك اللقطة لم ترجع لقطة ولا ضالة إلى صاحبها أبدا أهل الأمانات لا يعرفونها بل يستحلونها ويأكلونها.

واختلف الفقهاء في الأفضل من أخذ اللقطة أو تركها فروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن اللقطة يجدها الرجل أيأخذها فقال أما الشيء الذي له بال فإني أرى ذلك فقال له الرجل إني رأيت شفنا أو قرطا مطروحا في المسجد فتركته فقال مالك لو أخذته فأعطيته بعض نساء المسجد كان أحب إلي قال وكذلك الذي يجد الشيء فإن كان لا يقوى على تعريفه فإنه يجد من هو أقوى على ذلك منه ممن يثق به يعطيه فيعرفه فإن كان الشيء له بال فأرى أن يأخذه.

وروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم عن مالك أنه كره أخذ اللقطة والآبق جميعا قال فإن أخذ أحد شيئا من ذلك فأبق الآبق أو ضاعت اللقطة من غير فعله ولم يضيع لم يضمن.

قال مالك فيمن وجد آبقا إن كان لجار أو لأخ رأيت له أن يأخذه وإن كان لمن لم يعرف فلا يقربه وهو في سعة من ترك مال لجاره أو لأخيه.

وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة إن شاء أخذها وإن شاء تركها هذا قول إسماعيل بن إسحاق رحمه الله وهو ظاهر حديث زيد بن خالد هذا إن شاء الله

قال أبو عمر  : إنما جعله مالك والله أعلم في سعة من ذلك لما في أخذ الآبق والحيوان الضوال من المؤن ولم يكلف الله عباده ذلك فإن فعله فاعل فقد أحسن وليست اللقطة كذلك لأن المؤونة فيها خفيفة لأنها "لا تحتاج إلى غذاء ولا اهتبال حرز" ولا يخشى غائلتها فيحتفظ منها كما يصنع بالآبق.

وقال الليث في اللقطة إن كان شيء له بال فأحب إلي أن يأخذه ويعرفه وإن كان شيئا يسيرا فإن شاء تركه وأما ضالة الغنم فلا أحب أن يقربها إلا أن يحوزها لصاحبها

قال ابن وهب وسمعت الليث ومالكا يقولان في ضالة الإبل في القرى من وجدها يعرفها وإن وجدها في الصحاري فلا يقربها.

وأصحاب مالك يقولون في الذي يأخذ اللقطة ثم يردها إلى مكانها في فوره أو قريبا من ذلك أنه لا ضمان عليه.

قال ابن القاسم إن تباعد ثم ردها ضمن.

وقال أشهب لا يضمن وإن تباعد ولا وجه عندي لقول أشهب لأنه رجل قد حصل بيده مال غيره ثم عرضه للضياع والتلف.

وقال المزني عن الشافعي لا أحب لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان أمينا عليها قال وسواء قليل اللقطة وكثيرها واحتج بقول رسول الله في ضالة الغنم هي لك أو لأخيك أو للذئب يقول إن لم تحفظها بنفسك على أخيك أكلها الذئب فاحفظ على أخيك ضالته الضائعة.

وذكر بعض أصحابه ما حدثناه عبد الله بن محمد بن أسد وخلف بن قاسم بن سهل قالا حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال حدثنا مقدام بن داود قال حدثنا ذؤيب بن عمامة السهمي قال حدثنا هشام بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي سئل عن ضالة الغنم فقال هي لك أو لأخيك أو للذئب فرد على أخيك ضالته وسئل عن ضالة الإبل فقال ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها وسئل عن حريسة الجبل فقال فيها جلدات نكال وغزامة مثلها فإذا أواه المراح فالقطع فيما بلغ ثمن المجن".

فقوله في هذا الحديث فرد على أخيك ضالته يعني ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها دليل على الحض على أخذها لأنها لا ترد إلا بعد أخذها وحكم اللقطة في خوف التلف عليها والبدار إلى أخذها وتعريفها كذلك والله أعلم.

واختلف العلماء في اللقطة والضالة وكان أبو عبيد القاسم بن سلام وجماعة من العلماء يفرقون بين اللقطة والضالة قالوا الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان.

قال أبو عبيد : إنما الضوال ما ضل بنفسه وكان يقول لا ينبغي لأحد أن يدع اللقطة ولا يجوز لأحد أخذ الضالة ويحتج بحديث الجارود وحديث عبد الله بن الشخير عن النبي أنه قال "ضالة المؤمن حرق النار" وبحديث جرير عن النبي "لا يؤوي الضالة إلا ضال".

وقالت طائفة من أهل العلم اللقطة والضوال سواء في المعنى والحكم فيها سواء.

وكان أبو جعفر الطحاوي يذهب إلى هذا وأنكر قول أبي عبيد الضال ما ضل بنفسه وقال هذا غلط لأنه قد روي عن النبي في حديث الإفك قوله للمسلمين "إن أمكم ضلت قلادتها" فأطلق ذلك على القلادة وقال في قوله "ضالة المؤمن حرق النار" قال وذلك لأنهم أرادوها للركوب والانتفاع بها لا للحفظ على صاحبها لذلك قال لهم "ضالة المؤمن حرق النار" قال وذلك بين في رواية الحسن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال قدمنا على رسول الله فقال "ألا أحملكم قلنا نحن نجد في الطريق ضوال من الإبل نركبها فقال رسول الله ضالة المؤمن حرق النار".

وقال في قوله "لا يؤوي الضالة إلا ضال" قال هذا محمول على أنه يؤويها لنفسه لا لصاحبها ولا يعرفها.

وذكر الحطاوي أيضا عن يونس عن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي سالم الجيشاني عن زيد بن خالد الجهني قال قال رسول الله "من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها"

قال أبو عمر  : في قول رسول الله في ضالة الغنم "هي لك أو لأخيك أو للذئب" وفي ضالة الإبل مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها" دليل واضح على أن العلة في ذلك خوف التلف والذهاب لا جنس الذهاب فلا فرق بين ما ضل بنفسه وبين ما لم يضل بنفسه إذا خشي عليه التلف عندي والله أعلم بظاهر الحديث الصحيح في الفرق بين ضالة الغنم وضالة الإبل ألا ترى أن رسول الله حين سئل عن ضالة الإبل غضب واشتد غضبه ثم قال فيها ما ذكرنا.

وقد قيل إن الإبل تصبر على الماء ثلاثة أيام وأكثر وليس ذلك بحكم الشاة لأنه يقول إن لم تأخذها ولا وجدها أخوك صاحبها أو غيره أكلها الذئب يقول فخذها وهذا محفوظ من رواية الثقات.

حدثني محمد بن إبراهيم قراءة مني عليه قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا يعقوب الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني قال سفيان فلقيت ربيعة فسألته فقال حدثني يزيد عن زيد بن خالد الجهني "عن النبي أنه سئل عن ضالة الإبل فغضب واحمرت وجنتاه وقال ما لك ولها معها الحذاء والسقاء ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها وسئل عن ضالة الغنم فقال خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب وسئل عن اللقطة فقال أعرف عفاصها ووكاءها وعرفها سنة فإن اعترفت وإلا فاخلطها بمالك" كذا قال ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن ربيعة وخالفه سليمان بن بلال وحماد بن سلمة فروياه عن يحيى بن سعيد وربيعة جميعا عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد عن النبي أخبرنا خلف بن القاسم الحافظ قراءة مني عليه أن عبد الله بن جعفر بن الورد حدثهم قال حدثنا الحسن بن غالب قال حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق أبو محمد البيطاري قال أخبرنا سليمان بن بلال قال حدثني يحيى بن سعيد وربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني قال "سئل رسول الله عن اللقطة الذهب أو الورق قال أعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستعن بها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه وسئل عن ضالة الإبل فقال مالك ولها دعها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى الشجر حتى يجدها ربها وسأله عن الشاة فقال خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب وكذلك رواه القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد وربيعة جميعا عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني عن النبي فذكر مثل حديث مالك سواء في ضالة الغنم وفي ضالة الإبل وفي اللقطة إلا أنه قال "عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفع بها ولتكن وديعة عندك".

وحدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد وربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني "أن رجلا سأل النبي عن ضالة الإبل فقال مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها دعها تأكل الشجر وترد الماء حتى يأتيها باغيها ثم سأله عن ضالة الغنم فقال هي لك أو لأخيك أو للذئب ثم سأله عن اللقطة فقال أعرف عفاصها وعدتها فإن جاء صاحبها فعرفها فادفعها إليه وإلا فهي لك".

واختلف الفقهاء في التافه اليسير الملتقط هل يعرف حولا أم لا فقال مالك إذا كان تافها يسيرا تصدق به قبل الحول قال ابن حبيب كالدرهم ونحوه.

وذكر ابن وهب عن مالك أنه قال في اللقطة مثل المخلاة والحبل والدلو وأشباه ذلك أنه إن كان ذلك في طريق وضعه في أقرب الأماكن إليه ليعرف وإن كان في مدينة انتفع به وعرفه ولو تصدق به كان أحب إلي فإن جاء صاحبه كان علي حقه.

وقال أبو حنيفة وأصحابه ما كان عشرة دراهم فصاعدا عرفها حولا وإن كان دون ذلك عرفها على قدر ما يرى وقال الحسن بن حي كقولهم سواء إلا أنه قال ما كان دون عشرة دراهم عرفه ثلاث أيام.

وقال الثوري الذي يجد الدرهم يعرفه أربعة أيام رواه عنه أبو نعيم.

وقال الشافعي يعرف القليل والكثير حولا كاملا ولا تنطلق يده على شيء منه إلا بعد الحول فإذا عرفه حولا أكله بعد ذلك أو تصدق به فإذا جاء صاحبه كان غريما في الموت والحياة قال وإن كان طعاما لا يبقى فله أن يأكله ويغرمه لربه.

قال المزني "ومما وجد بخطه أحب إلي أن يبيعه ويقيم على تعريفه حولا ثم يأكله" هذا أولى به لأن النبي عليه السلام لم يقل للملتقط فشأنك بها إلا بعد السنة ولم يفرق بين القليل والكثير

قال أبو عمر  : التعريف عند جماعة الفقهاء فيما علمت لا يكون إلا في الأسواق وأبواب المساجد ومواضع العامة واجتماع الناس.

وروي عن عمر وابن عباس وابن عمر وجماعة من السلف يطول ذكرهم أن اللقطة يعرفها واجدها سنة فإن لم يأت لها مستحق أكلها واجدها إن شاء أو تصدق بها فإن جاء صاحبها وقد تصدق بها فهو مخير بين الأجر والضمان وبهذا كله أيضا قال جماعة فقهاء الأمصار منهم مالك والثوري

والأوزاعي وأبو حنيفة والليث والشافعي ومن تبعهم إلا ما بينا عنهم في كتبانا هذا من تفسير بعض هذه الجملة مما اختلفوا فيه.

وأجمعوا أن الفقير له أن يأكلها بعد الحول وعليه الضمان.

واختلفوا في الغني فقال مالك أما الغني فأحب إلي أن يتصدق بها بعد الحول ويضمنها إن جاء صاحبها.

وقال ابن وهب قلت لمالك في حديث عمر بن الخطاب حين قال للذي وجد الصرة عرفها ثلاثا ثم احبسها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قال ما شأنه بها قال يصنع بها ما شاء إن شاء أمسكها وإن شاء تصدق بها وإن شاء استنفقها فإن جاء صاحبها أداها إليه.

وقال الأوزاعي إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال بعد السنة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يأكلها الغني البتة بعد الحول وإنما يأكلها الفقير ويتصدق بها الغني فإن جاء صاحبها كان مخيرا على الفقير الآكل وعلى الغني المتصدق في الأجر أو الضمان.

وقال الشافعي يأكل اللقطة الغني والفقير بعد الحول وهو تحصيل مذهب مالك وقوله لأن رسول الله في حديث زيد بن خالد الجهني قد قال لواجدها شأنك بها بعد السنة ولم يفرق بين الغني والفقير وعلى من أكلها أو تصدق بها الضمان إن جاء صاحبها

قال أبو عمر  : احتج بعض من يرى أن الغني لا يأكل اللقطة بعد الحول بما ذكره ابن عيينة في حديث زيد بن خالد المذكور عنه في هذا الباب بقوله وعرفها سنة فإن عرفت وإلا فاخلطها بمالك قالوا فهذا دليل على أن السائل عن حكم اللقطة والضالة في ذلك الحديث كان غنيا فخرج الجواب عليه من قوله فشأنك بها وقوله فاخلطها بمالك وقوله ولتكن وديعة عندك نحو هذا فما روي من اختلاف ألفاظ الناقلين لهذا الحديث من الألفاظ الموجبة لا تكون عنده مرفوعة لصاحبها وهي تفسير معنى قوله شأنك بها.

وحجة من أجاز للغني أكلها ظاهر الحديث بقوله شأنك بها واخلطها بمالك ولم يسأله أفقير هو أم غني ولا فرق له بين الفقير والغني ولو كان بين الفقير والغني فرق في حكم الشرع لبينه رسول الله والفقير قد يكون له مال لا يخرجه إلى حد الغنى فيجوز أن يقال له اخلطها بمالك وفي ذلك دليل على انطلاق يده عليها بما أحب كانطلاق يده في ماله ألا ترى إلى قوله في حديث عياض بن حمار فإن جاء صاحبها فهو أحق بها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء وهذا معناه انطلاق يد الملتقط وتصرفه فيها بعد الحول ولكنه يضمنها إن جاء صاحبها واجب ذلك بإجماع المسلمين لأنه مستهلك مال غيره وقد أجمعوا أن من استهلك مال غيره وأنفقه بغير إذنه غرمه وضمنه ومن استهلك لغيره شيئا من المال ضمنه بأي وجه استهلكه وهذا مالا خلاف فيه فأغنى ذلك عن الإكثار

واختلفوا في دفع اللقطة إلى من جاء بالعلامة دون بينة فقال مالك تستحق بالعلامة قال ابن القاسم ويجبر على دفعها إليه فإن جاء مستحق فاستحقها ببينة لم يضمن الملتقط شيئا.

قال مالك وكذلك اللصوص إذا وجد معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها وليست لهم بينة أن السلطان يتلوم في ذلك فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم وكذلك الآبق وهو قول الليث بن سعد والحسن بن حي أنها تدفع لمن جاء بالعلامة والحجة لمن قال بهذا القول قوله اعرف عفاصها ووكاءها وعدتها فإن جاء صاحبها فعرفها فادفعها إليه وهذا نص في موضع الخلاف يوجب طرح ما خالفه.

وقال أبو حنيفة والشافعي لا تستحق إلا بينة ولا يجبر على دفعها إلا من جاء بالعلامة ويسعه أن يدفعها إليه فيما بينه وبينه دون قضاء.

وذكر المزني عن الشافعي قال فإذا عرف طالب اللقطة العفاص والوكاء والعدد والوزن وحلاها بحليتها ووقع في نفس الملتقط أنه صادق كان له أن يعطيه إياها وإلا أجبره لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها قال ومعنى قول النبي اعرف عفاصها ووكاءها والله أعلم لأن يؤدي عفاصها ووكاءها معها وليعلم إذا وضعها في ماله أنها لقطة وقد يكون ليستدل على صدق المعترف أرأيت لو وصفها عشرة أيعطونها نحن نعلم أن كلهم كاذب إلا واحدا بغير عينه يمكن أن يكون صادقا

قال أبو عمر  : القول بظاهر الحديث أولى ولم يؤمر بأن يعرف عفاصها ووكاءها وعلاماتها إلا لذلك وقال "إن عرفها فادفعها إليه" هكذا قال حماد بن سلمة في حديثه ومن كان أسعد بالظاهر أفلح وبالله التوفيق.

واختلفوا فيمن أخذ لقطة ولم يشهد على نفسه أنه التقطها وإنها عنده يعرفها ثم هلكت عنده وهو لم يشهد.

فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد لا ضمان عليه إذا هلكت عنده تضييع منه وإن كان لم يشهد وهو قول عبد الله بن شبرمة.

وقال أبو حنيفة وزفر أن أشهد حين أخذها أنه يأخذها ليعرفها لم يضمنها إن هلكت وإن لم يشهد ضمنها وحجتهما في ذلك ما حدثني أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل الدينوري قال حدثنا أبو العباس محمد بن عبد الحكم القطري قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا شعبة عن خالد الحذاء قال سمعت يزيد بن عبد الله بن الشخير أبا العلاء يحدث عن أخيه مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار قال قال رسول الله "من التقط لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل وليعرف ولا يكتم ولا يغيب فإن جاء صاحبها فهو أحق بها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء".

قال الطحاوي وهذا الحديث يحتمل أن يكون مراده في الإشهاد الإشادة والإعلان وظهور الأمانة قال ولما لم يكن الإشهاد في الغصوب يخرجها عن حكم الضمان وكان الإشهاد في ذلك وترك الإشهاد سواء وهي مضمونة أبدا أشهد أم لم يشهد وجب أن تكون اللقطة أمانة أبدا لقوله "ولتكن وديعة عندك" ولإجماعهم على أنه إذا أشهد لم يضمن وكذلك إذا لم يشهد

قال أبو عمر  : معنى هذا الحديث عندي والله أعلم أن ملتقط اللقطة إذا عرفها وسلك فيها سنتها ولم يكن مغيبا ولا كاتما وكان معلنا معرفا وحصل بفعله ذلك أمينا لا يضمن إلا بما يضمن به الأمانات وإذا لم يعرفها ولم يسلك بها سنتها وغيب وكتم ولم يعلم الناس أن عنده لقطة ثم قامت عليه البينة بأنه وجد لقطة ذكروها وضمها إلى بيته ثم ادعى تلفها ضمن لأنه بذلك الفعل خارج عن حدود الأمانة وبالله التوفيق.

وقال بعض أهل العلم في قول رسول الله للسائل عن اللقطة اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها وعرفها يعني بعلاماتها دليل بين على إبطال قول كل من ادعى علم الغيب في الأشياء كلها من الكهنة وأهل التنجيم وغيرهم لأنه لو علم أنه يوصل إلى علم ذلك من هذه الوجوه لم يكن لقوله في معرفة علاماتها وجه والله أعلم.

فهذا ما في الحديث من أحكام اللقطة ووجوه القول فيها.

وأما حكم الضوال من الحيوان فإن الفقهاء اختلفوا في بعض وجوه ذلك فقال مالك في ضالة الغنم ما قرب من القرى فلا يأكلها ويضمها إلى أقرب القرى تعرف فيها قال ولا يأكلها واجدها ولا من تركت عنده حتى تمر بها سنة كاملة هذا فيما يوجد بقرب القرى وأما ما كان في الفلوات والمهامه فإنه يأخذها ويأكلها ولا يعرفها فإن جاء صاحبها فليس له شيء لأن النبي قال هي لك أو لأخيك أو للذئب والبقر بمنزلة الغنم إذا خيف عليها السباع فإن لم يخف عليها السباع فبمنزلة الإبل وقال في الإبل إذا وجدها في فلاة فلا يتعرض لها فإن أخذها فعرفها فلم يجيء صاحبها خلاها في الموضع الذي وجدها فيه قال والخيل والبغال والحمير يعرفها ثم يتصدق بثمنها لأنها لا تؤكل

قال مالك لا تباع ضوال الإبل ولكن يردها إلى موضعها التي أصيبت فيه وكذلك فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

واتفق قول مالك وأصحابه أن الإمام إذا كان غير عدل ولا مأمون لم تؤخذ ضوال الإبل وتركت مكانها فإن كان الإمام عدلا كان له أخذها وتعريفها فإن جاء صاحبها وإلا ردها إلى المكان هذه رواية ابن القاسم وابن وهب عن مالك.

وقال أشهب لا يردها ويبيعها ويمسك ثمنها على ما روي عن عثمان.

وقال ابن وهب عن مالك فيمن وجد شاة أو غنما بجانب قرية أنه لا يأكلها حتى تمر بها سنة أو أكثر فإن كان لها صوف أو لبن وكان قربه من يشتري ذلك الصوف واللبن فليبعه وليدفع ثمنه لصاحب الشاة إن جاء.

قال مالك ولا أرى بأسا أن يصيب من نسلها ولبنها بنحو قيامه عليها.

قال ابن وهب عن مالك فيمن وجد تيسا قرب قرية أنه لا بأس أن يتركه ينزو على غنمه ما لم يفسده ذلك.

وقال الأوزاعي في الشاة إن أكلها واجدها ضمنها لصاحبها.

وقال الشافعي تؤخذ الشاة ويعرفها آخذها فإن لم يجيء صاحبها أكلها ثم ضمنها لصاحبها إن جاء قال ولا يعرض للإبل والبقر فإن أخذ الإبل ثم أرسلها ضمن

وذكر أن عثمان خالف عمر فأمر ببيعها وحبس أثمانها لأربابها واحتج بقوله رد على أخيك ضالته وبقوله في اللقطة ولتكن وديعة عندك ومن أرسل الوديعة وعرضها للضياع ضمنها بإجماع.

وقال مالك وأبو حنيفة من وجد بعيرا في بادية أو غيرها فأخذه ثم أرسله لم يضمنه بخلاف اللقطة وشبهه بعض أصحابهما بالصيد يصيده المحرم ثم يرسله أنه لا شيء عليه فأما الشافعي فالضالة عنده ها هنا كاللقطة لاجتماعهما في أنه مال هالك معين قد لزمه حفظه بعد أخذه فوجب أن يصير بإزالة يده عنه ضامنا كالوديعة.

قال أبو جعفر الأزدي هو الطحاوي جواب رسول الله في ضوال الإبل بغير ما أجاب في ضالة الغنم إخبار منه عن حال دون حال وذلك على المواضع المأمون عليها فيها التلف فإذا تخوف عليها التلف فهي والغنم سواء قال ولم يوافق مالكا أحد من العلماء على قوله في الشاة إن أكلها لم يضمنها إذا وجدها في الموضع المخوف قال واحتجاجه بقوله عليه السلام هي لك أو لأخيك أو للذئب لا معنى له لأن قوله هي لك ليس هو على معنى التمليك كما أنه إذا قال أو للذئب لم يرد به التمليك لأن الذئب يأكلها على ملك صاحبها فكذلك الواجد إن أكلها أكلها على ملك صاحبها فيضمنها واحتج بحديث سليمان بن بلال في اللقطة "ولتكن وديعة عندك" قال وذلك يوجب ضمانها إذا أكلها

قال أبو عمر  : في قوله "رد على أخيك ضالته" من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص دليل على أن الشاة على ملك صاحبها وذلك يوجب الضمان على آكلها وقد قال مالك وهو الذي لا يرى على آكلها في الموضع المخوف شيئا إن ربها لو أدركها لحما في يد واجدها وفي يد الذي تصدق بها عليه وأراد أخذ لحمها كان ذلك له ولو باعها واجدها كان لربها ثمنها الذي بيعت به وهذا يدل على أنها على ملك مالكها عنده فالوجه تضمين آكلها إن شاء الله "لأنه لا فرق بين أكل الشاة في الوقت الذي أبيح له أخذها وبين أكل اللقطة واستهلاكها بعد الحول لأنهما قد أبيح لكل واحد منهما أن يفعل بها ما شاء ويتصرف فيها بما أحب ثم أجمعوا على ضمان اللقطة لصاحبها إن جاء طالبها فكذلك الشاة وبالله التوفيق".

ومن حجة مالك قوله "هي لك أو لأخيك" لأنه يحتمل أن يريد بذكر الأخ صاحبها ويحتمل أن يريد لك أو لغيرك من الناس الواجدين لها وأي الوجهين كان فالظاهر من قوله أو للذئب يوجب تلفها أي إن لم تأخذها أنت ولا مثلك أكلها الذئب وأنت ومثلك أولى من الذئب فكان النبي جعلها طعمة لمن وجدها فإذا كان ذلك كذلك فلا وجه للضمان في طعمة أطعمها رسول الله "وقد شبهها بعض المتأخرين من أصحابه بالركاز وهذا بعيد لأن الركاز لم يصح عليه ملك لأحد قبل"

ويجوز أن يحتج أيضا لمالك في ترك تضمين آكلها بإجماعهم على إباحة أكلها واختلافهم في ضمانها والاختلاف لا يوجب فرضا لم يكن واجبا وهذا الاحتجاج مخالف لأصول مالك ومذهبه وقد قال هي لك أو لأخيك أو للذئب ولم يقل ذلك في الإبل ولا في اللقطة وذلك فرق بين إن شاء الله.

هذا مما يمكن أن يحتج به لمالك في ذلك وفي المسألة نظر والصحيح ما قدمت لك وبالله التوفيق.

وقد قال سحنون في المستخرجة إن أكل الشاة واجدها في الفلاة أو تصدق بها ثم جاء صاحبها ضمنها وهو الظاهر من قول مالك أن من أكل طعاما قد اضطر إليه لغيره لزمه قيمته والشاة أولى بذلك والله أعلم.

وروى أشهب عن مالك في الضوال من المواشي يتصدق بها الملتقط بعد التعريف ثم يأتي ربها أنه ليس له شيء قال وليست المواشي مثل الدنانير.

واختلف الفقهاء أيضا في النفقة على الضوال واللقيط

فقال مالك فيما ذكر ابن القاسم عنه إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره قال وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن قال ويرجع على صاحب اللقطة بكراء حملها.

وقال مالك في اللقيط إذا أنفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا وكان موسرا وإن لم يكن طرحه ولكن ضل منه فلا شيء على الأب والملتقط متطوع بالنفقة.

وقال الشافعي فيما رواه عنه الربيع في البويطي إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع فإن أراد أن يرجع على صاحبها فليذهب إلى الحاكم حتى يفرض له النفقة ويوكل غيره بأن يقبض تلك النفقة منه وينفق عليها ولا يكون للسلطان أن يأذن له أن ينفق عليها إلا اليوم واليومين فإن جاوز ذلك أمر ببيعها.

وقال المزني عنه إذا أمر الحاكم بالنفقة كانت دينا وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا وقال المزني لا يقبل قوله وليس بالأمين.

وقال ابن شبرمة إذا أنفق على العبد رجع على صاحبه على كل حال إلا أن يكون قد انتفع به وخدمه فتكون النفقة بمنفعة وقال في الملتقط إن أنفق عليه الملتقط احتسابا لم يرجع وإن كان على غير ذلك احتسب بمنفعته وأعطى نفقته بعد ذلك

وقال الحسن بن حي لا يرجع على صاحبه من نفقته بشيء في الحكم ويعجبني في الورع والأخلاق أن يرد عليه نفقته.

وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا أنفق على اللقطة والآبق بغير أمر القاضي فهو متطوع وإن أنفق بأمر القاضي فهو دين على صاحبها إذا جاء وله أن يحبسها بالنفقة إذا حضر صاحبها والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة وأما الغلام والدابة فيكري وينفق عليها من الأجرة.

قالوا : وما أنفق على اللقيط فهو متطوع إلا أن يأمره الحاكم

وقال ابن المبارك عن الثوري أن من أنفق بأمر الحاكم في الضالة واللقيط كان دينا.

وقال الليث في اللقيط أنه يرجع الملتقط بالنفقة على أبيه إذا ادعاه ولم يفرق وهو معنى قول الأوزاعي لأنه قال كل من أنفق على من لا تجب له عليه نفقة رجع بما أنفق

حديث خامس لربيعة بن أبي عبد الرحمن مسند صحيح

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أنه قال "دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل فقال أبو سعيد الخدري خرجنا مع رسول الله في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء فأردنا أن نعزل فقلنا نعزل ورسول الله بين أظهرنا قبل أن نسأله فسألناه عن ذلك فقال ما عليكم ألا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" هكذا جاء هذا الحديث في الموطأ

قال أبو عمر  : ورواية ربيعة لهذا الحديث عن محمد بن يحيى بن حبان تدخل في باب رواية النظير عن النظير والكبير عن الصغير وفي هذا ما يدلك على ما كان القوم عليه من البحث عن العلم واستدامة طلبه العمر كله عند كل من طمع به عنده.

وقد روى هذا الحديث جويرية عن مالك عن الزهري عن ابن محيريز عن أبي سعيد الخدري وما أظن أحدا رواه عن مالك بهذا الإسناد غير جويرية ذكره السدي عن العباس العنبري عن عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية عن مالك وكذلك رواه عقيل وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن ابن محيريز عن أبي سعيد الخدري وخالفهما إبراهيم بن سعد ورواه يحيى بن أيوب عن ربيعة عن محمد ابن يحيى بن حبان عن ابن محيريز قال "دخلت أنا وأبو صرمة وكان أكبر مني وأفضل على أبي سعيد الخدري فسألناه عن العزل فقال أسرنا بني المصطلق فأردنا أن نعزل ورغبنا في الفداء فقلنا نعزل وفينا رسول الله " فذكره سواء بمعناه.

ورواه ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز الشامي أنه سمع أبا سعيد الخدري وأبا صرمة المازني يقولان "أصبنا سبايا في غزوة بني المصطلق وهي الغزوة التي أصاب فيها رسول الله جويرية فكان منا من يريد أن يتخذ أهلا ومنا من يريد أن يستمتع ويبيع فتذاكرنا العزل فذكرنا ذلك لرسول الله فقال لا عليكم ألا تفعلوا فإن الله عز وجل قد قدر ما هو خالق إلى يوم القيامة" ولهذا الاضطراب في ذكر أبي صرمة في هذا الحديث لم يذكره مالك في حديثه والله أعلم وخالفهما إبراهيم بن سعد فرواه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري.

وحديث مالك وشعيب وعقيل هو الصواب عندهم والله أعلم

وأما حديث جويرية فحدثناه خلف بن قاسم قال حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله قال حدثنا يوسف بن يعقوب القاضي قال حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري عن ابن محيريز عن أبي سعيد الخدري أخبره أنه قال "أصبنا سبايا فكنا نعزل فسألنا رسول الله عن ذلك فقال لنا وإنكم لتفعلون ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة".

وأما حديث عقيل فأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف الاعناقي قال حدثنا محمد بن عزيز قال حدثنا سلامة عن عقيل قال سألت ابن شهاب عن الرجل يعزل عن امرأته فقال أخبرني عبد الله بن محيريز القرشي أن أبا سعيد الخدري أخبره قال "بينما نحن عند رسول الله إذ قال له رجل يا رسول الله إنا نصيب سبايا ونحب الأثمان فكيف ترى في العزل فقال له رسول الله وإنكم لتفعلون ذلك لا عليكم ألا تفعلوا فإنها ليست نسمة كتب الله لها أن تخرج إلا وهي خارجة فلا نرى أن هذا كان نهيا من رسول الله وعزيمة".

وأما ابن محيريز هذا فاسمه عبد الله نزل المدينة وهو معدود في الشاميين من جلة التابعين وخيارهم روى عنه مكحول.

وفي هذا الحديث من الفقه أن العرب تسبى وتسترق وهو أصح حديث يروى في هذا المعنى.

وفيه رد على من قال أن العرب لا تسترق.

وفيه إباحة الوطء بملك اليمين وإن ما وقع في سهم الإنسان من الغنيمة ملك يمينه وذلك والحمد لله من أطيب الكسب وهو مما أحله الله لهذه الأمة وحرمه على من قبلها.

وجواز الوطء بملك اليمين مقيد بمعان في الشريعة.

منها أنه لا يدخل في ذلك ذوات المحارم من النسب والرضاع.

ومنها ألا توطأ من ليست كتابية حتى تسلم.

ومنها ألا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة وأما وطء نساء بني المصطلق فلا يخلو أمرهن من أن يكن من نساء العرب الذين دانوا بالنصرانية أو اليهودية فيحل وطؤهن أو يكن من الوثنيات فتكون إباحة وطئهن منسوخة بقول الله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} يعني الوثنيات ومن ليس من أهل الكتاب {حَتَّى يُؤْمِنَّ}.

وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار وجمهور العلماء وما خالفه فشذوذ لا يعرج عليه ولا يعد خلافا.

وفيه أن الرجل يجوز له أن يخبر عن نفسه بما فيه مما لا نقيصة عليه في دينه منه من شهوة النساء للعفاف وحب المال للتستر والكفاف والاستغناء عن الناس ألا ترى إلى قوله اشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء.

وأما قوله فما عليكم فما بمعنى ليس ولا زائدة كقوله تعالى {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} بمعنى أن تسجد فيكون تقدير الكلام قوله عليه السلام ما عليكم أن تفعلوا أي لا حرج عليكم في العزل.

وقوله "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة" أراد ما من نسمة قدر الله أن تكون إلا ولا بد من كونها فلا يوجب العزل منع الولد كما لا يوجب الاسترسال أن يأتي الولد بل ذلك بيده تعالى لا إله إلا هو.

وفيه أن أم الولد لا يجوز بيعها لقوله وأحببنا الفداء فأردنا أن نعزل والفداء ها هنا الثمن في البيع أو أخذ الفداء من أقاربهن من المشركين فيهن لأن كل واحد قد ملك ما وقع في سهمه من السبي فأرادوا الوطء وخافوا الحمل المانع من الفداء والبيع فهموا بالعزل رجاء السلامة من الحمل في الأغلب ولم يقدموا على العزل حتى سألوا رسول الله لأن اليهود كانت تقول بين أظهرهم أن العزل هو المودة الصغرى وكانوا أهل كتاب فلم يقدموا على العزل لما كان في نفوسهم من قول اليهود حتى وقفوا على ما في ذلك عند نبيهم وفي شريعتهم فسألوا رسول الله عن ذلك فأباح لهم العزل ولو كانت أم الولد يجوز بيعها ولم يمنع من ذلك حملها لبلغوا من الوطء ما أحبوا مع حاجتهم إلى ذلك ولكنهم لما أرادوا الفداء أحبو العزل ليسلم ذلك لهم ثم لم يقدموا على ذلك حتى سألوا رسول الله فأخبرهم أن الله قد فرغ من العباد وقد علم كل نسمة كائنة وقدرها وجف القلم بها وما قدر لم يصرف.

وهذا الحديث من أصح شيء في المنع من بيع أمهات الأولاد وقد أجمع المسلمون على منع بيع أم الولد ما دامت حاملا من سيدها ثم اختلفوا في بيعها بعد وضع حملها.

وأصل المخالف أنه لا ينتقض إجماع إلا بمثله وهذا قطع لقوله ها هنا إلا أنه يعترض بزوال العلة المانعة من بيعها لأنه إذا زال الحمل المانع من ذلك وجب أن يزول بزواله المنع من البيع ولهم في ذلك ضروب من التشغيب وأما طريق الإتباع للجمهور الذي يشبه الإجماع فهو المنع من بيعهن وعلى المنع من بيعهن جماعة فقهاء الأمصار منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وجمهور أهل الحديث.

وقد قال الشافعي في بعض كتبه بإجازة بيعهن ولكنه قطع في مواضع كثيرة من كتبه بأنهن لا يجوز بيعهن وعلى ذلك عامة أصحابه والقول ببيع أمهات الأولاد شذوذ تعلقت به طائفة منهم داود اتباعا لعلي رضي الله عنه ولا حجة لها في ذلك ولا سلف لها لأن علي بن أبي طالب مختلف عنه في ذلك وأصح شيء عنه في ذلك ما ذكره الحلواني قال حدثنا أحمد بن إسحاق قال حدثنا وهيب قال حدثنا عطاء بن السائب قال سمعت عبيدة يقول كان علي يبيع أمهات الأولاد في الدين وقد صح عن عمر في جماعة من الصحابة المنع من بيعهن

ومن حجة من أجاز بيعهن ما روي عن جابر "كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله " وقد روي عن أبي سعيد الخدري مثل ذلك أيضا وهي آثار ليست بالقوية وفيها إن رسول الله قال في مارية إذ ولدت إبراهيم "أعتقها ولدها".

والحجج متساوية في بيعهن للقولين جميعا من جهة النظر.

وأما العمل والإتباع فعلى مذهب عمر رضي الله عنه.

وفي هذا الحديث برهان واضح على إثبات قدم العلم وأن الخلق يجرون في علم الله وقدره فلا يخرج شيء من خلقه عن ذلك عز الله وجل تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا

وروى حماد بن زيد عن داود بن أبي هند عن الشعبي في قوله {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} قال كتب عليهم قبل أن يعملوه.

وروى شعبة عن أبي هشام عن مجاهد في قوله تعالى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} قال كان في علمه أنهم كانوا يأخذون الغنائم.

وروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في قوله {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} قال ما كتب لهم من الشقاء والسعادة.

وعن ابن عباس في قوله {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} قال ما قدر لهم من خير وشر.

وجملة القول في القدر أنه سر الله لا يدرك بجدال ولا نظر ولا تشفى منه خصومة ولا احتجاج وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يقوم شيء دون إرادته ولا يكون شيء إلا بمشيئته له الخلق والأمر كله لا شريك له نظام ذلك قوله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة ولا يكلف نفسا إلا وسعها وهو الرحمن الرحيم فمن رد على الله تعالى خبره في الوجهين أو في أحدهما كان عنادا وكفرا وقد ظاهرت الآثار في التسليم للقدر والنهي عن الجدل فيه والاستسلام له والإقرار بخيره وشره والعلم بعدل مقدره وحكمته وفي نقض عزائم الإنسان برهان فيما قلنا وتبيان والله المستعان.

حدثنا محمد بن زكرياء قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا مروان بن عبد الملك قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال "ما ينكر هؤلاء أن يكون الله عز وجل علم علما فجعله كتابا".

حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا خالد بن القاسم قال حدثنا الليث بن سعد وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا عبد الله بن صالح قالا جميعا حدثنا معاوية بن صالح أن علي بن أبي طلحة حدثه أن أبا الوداك أخبره عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله سئل عن العزل فقال "ما من كل ماء يكون الولد وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء"

وروى يحيى القطان عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري عن النبي مثله.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا عيينة بن المنهال قال قال بلال بن أبي بردة لمحمد بن واسع "ما تقول في القضاء والقدر فقال أيها الأمير إن الله تبارك وتعالى لا يسأل عباده يوم القيامة عن قضائه وقدره وإنما يسألهم عن أعمالهم".

وفي هذا الحديث دليل على أن السباء يقطع العصمة بين الزوجين ألا ترى أن أصحاب رسول الله انطلقوا على وطء السبايا يومئذ كل واحد منهم انطلقت يده في ذلك على من وقع في سهمه منهن وأرادوا العزل عنهن وذلك محمول عند أهل العلم على أن ذلك إنما كان منهم بعد الاستبراء لأنه مذكور في غير ما خبر أن النبي قال يومئذ "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة" رواه شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك عن أبي سعيد وروي من حديث جابر وأنس رويفع بن ثابت عن النبي نحوه

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مقدام بن عيسى قال حدثنا إسحاق بن بكر بن مضر قال حدثني أبي عن جعفر بن ربيعة عن أبي مرزوق عن حنش الصنعاني عن رويفع ابن ثابت عن النبي أنه قال "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه ولد غيره" ورواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق مولى تجيب عن حنش سمع رويفع بن ثابت عن النبي .

والأحاديث عن النبي أنه قال "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة" أحاديث حسان وعليها جماعة أهل العلم في الوطء الطارئ بملك اليمين.

وليس عند مالك في هذا حديث مسند وعنده فيه عن يحيى بن سعيد بن المسيب أنه كان يقول "ينهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها وأن يطأ الرجل وليدة وفي بطنها جنين لغيره".

واختلف الفقهاء في الزوجين إذا سبيا معا فقال أبو حنيفة وأصحابه إذا سبي الحربيان وهما زوجان معا فهما على النكاح وإن سبي أحدهما قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام فقد وقعت الفرقة وهو قول الثوري.

وقال الأوزاعي إذا سبيا معا فما كانا في المقاسم فهما على النكاح فإن اشتراهما رجل فإن شاء جمع بينهما وإن شاء

فرق بينهما فاتخذها لنفسه أو زوجها لغيره بعد أن يستبرئها بحيضة وهو قول الليث بن سعد.

وقال الحسن بن حي إذا سبيت ذات زوج استبرئت بحيضتين وغير ذات زوج بحيضة وقال الشافعي : إذا سبيت بانت من زوجها سواء كان معها أو لم يكن قال والسباء يقطع العصمة على كل حال لأن الله قد أحل فروجهن في الكتاب والسنة للذين سبوهن وصرن بأيديهم وملك أيمانهم وهو قول مالك فيما روى ابن وهب وابن عبد الحكم وهو قولهما وقول أشهب وقال ابن القاسم في ذلك مثل قول أبي حنيفة إذا سبيا معا أو مفترقين ورواه عن مالك وكل هؤلاء يقول في قول الله عز وجل {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أنهن السبايا ذوات الأزواج يحلهن السباء.

وفي حديث أبي سعيد الخدري هذا دليل واضح على ذلك وفيه تفسير الآية وهو أولى ما قيل في تفسيرها.

وقال ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب أن معنى الآية في الإماء ذوات الأزواج وأنهن إذا ملكن جاز وطؤهن بملك اليمين وكان بيعهن طلاقهن والتفسير الأول عليه جمهور الفقهاء.

وقد روى أبو علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية قوله عز وجل {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} نزلت في سبايا أوطاس وقاله الشعبي وأكثر أهل التفسير

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الأعلى عن شعبة عن قتادة عن أبي الخليل أن أبا علقمة الهاشمي حدثه أن أبا سعيد الخدري حدثهم "أن رسول الله بعث يوم حنين سرية فأصابوا أحياء من أحياء العرب يوم أوطاس فقتلوهم وهزموهم وأصابوا نساء لهن أزواج فكأن أناسا من أصحاب النبي تأثموا من غشيانهن من أجل أزواجهن فأنزل الله {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} منهن فحلال لكم.

وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن عمر بن ميسرة قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله بعث بعثا يوم حنين إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا فكأن أناسا من أصحاب رسول الله تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله في ذلك {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن

قال أبو عمر  : وهذه اللفظة حجة للحسن بن حي في اعتباره العدة في ذلك وفي حديث بريرة ما يبين أن بيع الأمة ليس بطلاقها وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم من كتابنا هذا.

وفي هذا الحديث أيضا إباحة العزل وقد اختلف السلف في ذلك والحجة قائمة لمن أجازه بهذا الحديث وما كان مثله حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا محمد بن قاسم بن شعبان قال حدثنا محمد بن الحسن بن الضحاك قال حدثنا أبو مروان العثماني قال حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن ابن شهاب الزهري أن زيد بن ثابت وابن مسعود كانا يعزلان وكان عمر وابن عمر يكرهان العزل.

وفي الحديث أيضا أن للرجل أن يعزل عن الأمة بغير أمرها وأنها لا حق لها في ذلك لأنهم لم يحتاجوا في أمر العزل إلى أكثر من معرفة جوازه في الشريعة لم يضيفوا إلى ذلك استيمار الإماء ولا مشاورتهن فدل ذلك على جواز العزل عنهن دون رأيهن اه. والأصول تشهد لصحة هذا التأويل والإجماع والقياس لأنه لما جاز له أن يمنع أمته الوطء أصلا كان له العزل عنها أحرى بالجواز وهذا أمر وإن كان جاء عن بعض السلف كراهية العزل فإن أكثرهم على إباحته وجوازه وهو أمر لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار فيه والحمد لله

وكذلك لا خلاف بين العلماء أيضا في أن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها لأن الجماع من حقها ولها المطالبة به وليس الجماع المعروف التام إلا أن لا يلحقه العزل.

وفي الموطأ عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري وزيد بن ثابت وابن عباس جواز العزل وإباحته حدثنا عبد الله بن سعد قال حدثنا أحمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا سعيد بن عبد الرحمن قال حدثنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال "اختلف أصحاب رسول الله في العزل وإنما هو حرثك إن شئت سقيته وإن شئت عطشته" فإن قيل قد روى حماد بن زيد عن عاصم عن زيد عن علي أنه كان يكره العزل ويقول "هو الوأد الخفي" قيل لو صح هذا عن علي كانت الحجة فيما ثبت عن رسول الله دون قوله لأنه قد ثبت في هذا الحديث قول الصحابة "فأردنا أن نعزل فقلنا نعزل ورسول الله بين أظهرنا قبل أن نسأله فسألناه فقال ما عليكم ألا تفعلوا" فأي شيء أبين من إباحة العزل وإجازته وهذا في السنة الثابتة وهي الحجة عند التنازع وقد صح عن علي خلاف هذا وروى يزيد بن أبي حبيب عن معمر بن أبي حبيبة عن معاذ بن أبي رفاعة قال شهدت نفرا من أصحاب رسول الله يذكرون الموءودة فيهم علي وعمر وعثمان والزبير وطلحة وسعد فاختلفوا فقال عمر إنكم أصحاب رسول الله تختلفون في هذا فكيف بمن بعدكم فقال علي إنها لا تكون موءودة حتى يأتي عليها الحالات السبع فقال له عمر صدقت أطال الله بقاءك قال ابن لهيعة إنها لا تكون موءودة حتى تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما ثم تظهر ثم تستهل فحينئذ إذا دفنت فقد وئدت لأن من الناس من قال إن المرأة إذا أحست بحمل فتداوت حتى تسقطه فقد وأدته ومنهم من قال العزل الموءودة الصغرى فأخبر علي رضي الله عنه أن ذلك لا يكون موءودة إلا بعد ما وصف وقد قيل في قول الله عز وجل {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} إن شئت فاعزل وإن شئت فلا تعزل قاله جماعة من العلماء وإن كان في ذكر الآية قولان غير هذا.

ذكر إسماعيل بن أبي أويس عن مالك قال لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها وإن كانت تحته أمة لقوم تزوجها فلا يعزل عنها إلا بإذن أهلها وإن كانت أمته فليعزل إن شاء.

واختلف الفقهاء في العزل عن الزوجة الأمة فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما الإذن في العزل عن الزوجة الأمة إلى مولاها وعن الثوري روايتان إحداهما لا يعزل عنها إلا بأمرها والأخرى بأمر مولاها

وقال الشافعي له أن يعزل عن الزوجة الأمة دون إذنها ودون إذن مولاها وليس له العزل عن الحرة إلا بإذنها وقد روي في هذا الباب حديث مرفوع في إسناده ضعف ولكن إجماع الحجة على القول بمعناه يقضي بصحته.

حدثناه خلف بن قاسم قال حدثنا ابن المفسر قال حدثنا أحمد بن علي القاضي قال حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب قال حدثنا إسحاق بن عيسى قال حدثنا ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري عن محرر بن أبي هريرة عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال "نهى رسول الله أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها" ومن حديث جابر عن النبي أنه قال لرسول الله "إن لي جارية أفأعزل عنها فقال النبي سيأتيها ما قدر لها"

حديث سادس لربيعة مرسل

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار "أن رسول الله بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة ابنة الحارث ورسول الله بالمدينة قبل أن يخرج"

هذا الحديث قد رواه مطر الوراق عن ربيعة عن سليمان بن يسار عن أبي رافع وذلك عندي غلط من مطر لأن سليمان بن يسار ولد سنة أربع وثلاثين وقيل سنة سبع وعشرين ومات أبو رافع بالمدينة بعد قتل عثمان بيسير وكان قتل عثمان رضي الله عنه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وغير جائز ولا ممكن أن يسمع سليمان بن يسار من أبي رافع وممكن صحيح أن يسمع سليمان بن يسار من ميمونة لما ذكرنا من مولده ولأن ميمونة مولاته ومولاة أخوته أعتقتهم وولاؤهم لها وتوفيت ميمونة سنة ست وستين وصلى عليها ابن عباس فغير نكير أن يسمع منها ويستحيل أن يخفى عليه أمرها وهو مولاها وموضعه من الفقه موضعه.

وقصة ميمونة هذه أصل هذا الباب عند أهل العلم وغير ممكن سماعه من أبي رافع فلا معنى لرواية مطر وما رواه مالك أولى وبالله التوفيق

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أحمد بن محمد بن هانئ أبو بكر الأثرم قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة عن سليمان بن يسار عن أبي رافع "أن رسول الله تزوج ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما".

وحدثناه عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن زيد عن مطر قال حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع "أن رسول الله تزوج ميمونة حلالا وبنى بها حلالا وكنت الرسول بينهما"

قال أبو عمر  : في رواية مالك لهذا الحديث دليل على جواز الوكالة في النكاح وهو أمر لا أعلم فيه خلافا والرواية أن رسول الله تزوج ميمونة وهو حلال متواترة عن ميمونة بعينها وعن أبي رافع مولى النبي وعن سليمان بن يسار مولاها وعن يزيد بن الأصم وهو ابن أختها وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن وابن شهاب وجمهور علماء المدينة أن رسول الله لم ينكح ميمونة إلا وهو حلال قبل أن يحرم.

وما أعلم أحدا من الصحابة روى أن رسول الله نكح ميمونة وهو محرم إلا عبد الله بن عباس ورواية من ذكرنا معارضة لروايته والقلب إلى رواية الجماعة أميل لأن الواحد أقرب إلى الغلط وأكثر أحوال حديث ابن عباس أن يجعل متعارضا مع رواية من ذكرنا فإذا كان كذلك سقط الاحتجاج بجميعها ووجب طلب الدليل على هذه المسألة من غيرها فوجدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قد روى عن النبي "أنه نهى عن نكاح المحرم وقال لا ينكح المحرم ولا ينكح" فوجب المصير إلى هذه الرواية التي لا معارض لها لأنه يستحيل أن ينهي عن شيء ويفعله مع عمل الخلفاء الراشدين لها وهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهو قول ابن عمر وأكثر أهل المدينة وسنذكر حديث عثمان في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله

وذكر مالك عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف المري قال "تزوج أبي وهو محرم ففرق بينهما عمر بن الخطاب".

وروى قتادة عن الحسن سمعه يحدث عن علي بن أبي طالب قال "أيما رجل نكح وهو محرم فرقنا بينه وبين امرأته" وروى الثوري عن قدامة بن موسى قال "سألت سعيد بن المسيب عن محرم نكح قال يفرق بينهما" فهؤلاء يفسخون نكاح المحرم وهم جلة العلماء من الصحابة والتابعين والتفريق لا يكون إلا عن بصيرة مستحكمة وأن ذلك لا يكون عندهم والله أعلم كذلك إلا لصحته عندهم عن رسول الله .

وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال "لا يتزوج المحرم ولا يخطب على غيره

وروى مالك وأيوب وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب".

قال عبد الرزاق وأخبرني معمر عن عبد الكريم الجزري عن ميمون بن مهران قال "سألت صفية ابنة شيبة أتزوج رسول الله ميمونة وهو محرم فقالت بل تزوجها وهو حلال".

قال وأخبرنا معمر عن أيوب وجعفر بن برقان قالا كتب عمر بن عبد العزيز إلى ميمون بن مهران أن يسأل يزيد بن الأصم "كيف تزوج رسول الله ميمونة أحلالا أم حراما فسأله فقال بل تزوجها حلالا وكتب بذلك إليه" فهذا عمر بن عبد العزيز يقنع في ذلك بيزيد ابن الأصم لعلمه باتصاله بها وهي خالته ولثقته به.

قال عبد الرزاق وأخبرنا معمر عن الزهري قال أخبرني يزيد بن الأصم "أن النبي تزوج ميمونة حلالا".

وروى حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم عن ميمونة قالت "تزوجني رسول الله بسرف وهما حلالان بعد ما رجع من مكة وقرأت على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال أخبرنا ابن وضاح قال أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة قال أخبرنا يحيى بن آدم قال أخبرنا جرير بن حازم قال حدثنا أبو فزارة عن يزيد بن الأصم قال حدثتني ميمونة بنت الحارث عن رسول الله أنه تزوجها وهو حلال قال وكانت خالتي وخالة ابن عباس".

واختلف فقهاء الأمصار في نكاح المحرم فقال مالك وأصحابه والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل لا ينكح المحرم ولا ينكح.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري "لا بأس أن ينكح المحرم وأن ينكح"

وذكر عبد الرزاق عن محمد بن مسلم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه لم ير بنكاح المحرم بأسا.

قال وأخبرنا الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال يتزوج المحرم إن شاء لا بأس به قال وقال لي الثوري لا تلتفت فيه إلى قول أهل المدينة.

وحجة مالك ومن قال بقوله حديث عثمان عن النبي في النهي عن ذلك مع ما ذكرناه عن الصحابة في هذا الباب وتفرقة عمر بينهما تدلك على قوة بصيرته في ذلك.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال أخبرنا قاسم بن أصبغ قال أخبرنا أحمد بن زهير قال أخبرنا عبد الله بن جعفر قال أخبرنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن ميمون بن مهران قال "أتيت صفية بنت شيبة امرأة كبيرة فقلت لها أتزوج رسول الله ميمونة وهو محرم قالت لا والله لقد تزوجها وهما حلالان".

وحجة العراقيين في ذلك حديث ابن عباس "أن رسول الله نكح ميمونة بسرف وهو محرم" رواه عن ابن عباس عكرمة وسعيد بن جبير وجابر بن يزيد أبو الشعثاء ومجاهد وعطاء بن أبي رباح كلهم عن ابن عباس بهذا الحديث.

وذكر ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال حدثت ابن شهاب عن جابر بن يزيد عن ابن عباس "أن رسول الله نكح ميمونة وهو محرم" فقال ابن شهاب حدثني يزيد بن الأصم "أن رسول الله تزوج ميمونة وهو حلال" قال قلت لابن شهاب أتجعل حفظ ابن عباس كحفظ أعرابي يبول على فخذيه.

حدثناه قاسم بن محمد قال أخبرنا خلف بن سعيد قال أخبرنا أحمد بن عمرو قال أخبرنا محمد بن سنجر قال أخبرنا أبو المغيرة قال حدثنا الأوزاعي قال حدثنا عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس "أن النبي تزوج ميمونة وهو محرم".

قال سعيد بن المسيب وهم ابن عباس وان كانت خالته ما تزوجها إلا بعد ما أحل

قال أبو عمر  : هكذا في الحديث قال سعيد بن المسيب فلا أدري أكان الأوزاعي يقوله أو عطاء

قال أبو عمر  : واختلف أهل السير في الإخبار في تزويج رسول الله ميمونة فقالت طائفة تزوجها رسول الله وهو محرم وقال آخرون تزوجها وهو حلال على حسب اختلاف الفقهاء سواء.

وذكر الأثرم عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال "لما فرغ رسول الله من خيبر توجه إلى مكة معتمرا سنة سبع وقدم عليه جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة فخطب عليه ميمونة ابنة الحارث الهلالية وكانت أختها لأمها أسماء بنت عميس عند جعفر بن أبي طالب وسلمى بنت عميس عند حمزة بن عبد المطلب وأختها لأبيها وأمها أم الفضل تحت العباس فأجابت جعفر بن أبي طالب إلى رسول الله وجعلت أمرها إلى العباس فأنكحها النبي وهو محرم فلما رجع بنى بها بسرف حلالا".

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال "خرج رسول الله من العام المقبل عام الحديبية معتمرا في ذي القعدة سنة سبع وهو الشهر الذي صده فيه المشركون عن المسجد الحرام فلما بلغ موضعا ذكره بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث بن حزن العامرية فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب فزوجها رسول الله وهو حلال

قال أبو عمر  : قال أبو عبيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية وقال ابن شهاب العامرية وهي من ولد هلال بن عامر بن صعصعة وقد ذكرت نسبها مرفوعا في كتاب الصحابة وبالله التوفيق وعليه التوكل.

حديث سابع لربيعة مرسل منقطع

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن "أن عائشة زوج النبي كانت مضطجعة مع رسول الله في ثوب واحد وأنها وثبت وثبة شديدة فقال لها رسول الله مالك لعلك نفست يعني الحيضة قالت نعم قال شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك"

هكذا هذا الحديث في الموطأ كما روي منقطع ويتصل معناه من حديث أم سلمة عن النبي ولا أعلم أنه روي من حديث عائشة بهذا اللفظ البتة وسنذكر في هذا الباب ما روي فيه عن عائشة وسائر أزواج النبي إن شاء الله.

ولم يختلف ورواه الموطأ في إرسال هذا الحديث كما روي.

وروى حبيب عن مالك عن الزهري عن عروة وسعيد بن المسيب عن عائشة "أن النبي كان يضاجع أم سلمة وهي حائض عليها بعض الإزار" وما انفرد به حبيب لا يحتج به.

وفيه من الفقه نوم الرجل الشريف مع أهله في ثوب واحد وسرير واحد.

وفيه أن الحيض قد يأتي فجأة دون مقدمة من العلامات لبعض النساء وبعضهن ترى قبله صفرة أو كدرة كما ترى بعده.

وفيه أن رسول الله لم يكن يعلم من الغيب إلا ما علمه الله لقوله مالك لعلك نفست.

وقوله نفست يقول لعلك أصبت بالدم يعني الحيضة والنفس الدم ألا ترى إلى قول إبراهيم النخعي وهو عربي فصيح كل ما ليس له نفس سائلة يموت في الماء لا يفسده يعني دما سائلا.

وفيه أن الحائض يجوز أن يباشر منها ما فوق الإزار لقوله ثم عودي إلى مضجعك ومعلوم أنها إذا عادت إليه في ثوب واحد معه أن يباشرها فإذا كان ذلك كذلك كان هذا الحديث يفسر قول الله عز وجل {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} لأنه يحتمل قوله اعتزلوا النساء أي لا تكونوا معهن في البيوت ويحتمل اعتزلوا وطأهن فأتت السنة مبينة مراد الله عز وجل من قوله ذلك.

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد قال حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك "إن اليهود كانت إذا حاضت منهن امرأة أخرجوها من البيت ولم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسئل رسول الله فأنزل الله {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} إلى آخر الآية.

فقال رسول الله "جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء غير النكاح" فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر إلى النبي فقالا له يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا ننكحهن في المحيض فتغير وجه رسول الله حتى ظننا أنه قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله فبعث في أثرهما فسقاهما فظننا أنه لم يجد عليهما".

أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا وهب بن مسرة قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن عمرو قال حدثنا أبو سلمة عن أم سلمة قالت "كنت مع رسول الله في لحافه فوجدت ما يجد النساء من الحيضة فانسللت من اللحاف فقال رسول الله أنفست قلت وجدت ما يجد النساء من الحيضة قال ذلك ما كتب الله على بنات آدم قالت فانسللت فأصلحت من شأني ثم رجعت فقال لي رسول الله تعالي فادخلي في اللحاف قالت فدخلت معه".

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال حدثنا محمد بن سابق قال حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن زينب بنت أبي سلمة حدثته أن أم سلمة زوج النبي قالت "حضت وأنا مع رسول الله في الخميلة قالت فانسللت فخرجت منها فأخذت ثياب حيضتي فلبستها فقال لي رسول الله أنفست قالت قلت نعم فدعاني فأدخلني معه في الخميلة".

هذا حديث حسن صحيح ثابت في معنى حديث ربيعة عن عائشة رواه عن يحيى بن أبي كثير جماعة هكذا ورواه محمد ابن عمرو عن أبي سلمة عن أم سلمة كما ذكرنا والقول عندهم قول يحيى بن أبي كثير وهو أثبت من محمد بن عمرو في أم سلمة وقد ادخل بين أبي سلمة وأم سلمة زينب بنت أم سلمة وهو الصواب.

وحدثني محمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب القاضي قال حدثنا مسدد بن مسرهد قال حدثنا أبو عوانة عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن عائشة "أنها كانت تنام مع رسول الله وهي حائض وبينهما ثوب" وعمرو بن أبي سلمة كان شعبة يضعفه وليس بالحافظ وإسناد يحيى عن أبي سلمة عن زينب عن أم سلمة صحيح عندهم وإسناد حديث عائشة أيضا وميمونة في هذا الباب صحيح والحمد لله.

حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت "كان رسول الله يأمر إحدانا إذا كانت حائضا أن تتزر ثم يضاجعها وقال مرة يباشرها".

وحدثني محمد بن إبراهيم بن سعيد قال حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن وهب عن يونس والليث عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة عن ندية وكان الليث يقول ندبة مولاة ميمونة قالت "كان رسول الله يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به" وفي حديث الليث محتجزته.

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو داود قال حدثنا يزيد بن خالد قال حدثنا الليث عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة عن ندية مولاة ميمونة عن ميمونة "أن رسول الله كان يباشر امرأته وهي حائض إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به".

قال أبو داود يونس يقول ندية ومعمر يقول ندبة.

وحدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن الشيباني عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت "كان رسول الله يأمرنا في فوح حيضتنا أن نتزر ثم يباشرنا وأيكم يملك أربه كما كان رسول الله يملك أربه".

وذكر دحيم قال حدثنا الوليد بن سلم قال حدثنا ابن لهيعة عن يزيد عن سويد بن قيس التجيبي أن قرط بن عوف حدثه أنه سأل عائشة فقال "يا أم المؤمنين أكان النبي يضاجعك وأنت حائض فقالت نعم إذا شددت علي إزاري وذلك إذ لم يكن إلا فراش واحد فلما رزقنا الله فراشين اعتزل رسول الله " وهذا لا نعلم يروى إلا من حديث ابن لهيعة وليس بحجة وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا سليمان الشيباني قال حدثنا عبد الله بن شداد عن ميمونة قالت "كان النبي إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض أمرها فائتزرت"

وحدثنا عبد الله بن محمد الجهني قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا محمد بن شعيب قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن عائشة قالت "كان رسول الله يأمر إحدانا إذا كانت حائضا أن تشد إزارها ثم يباشرها" وروي عن عائشة رضي الله عنها من وجوه حسان كلها

قال أبو عمر  : هذه الآثار كلها في معنى حديث ربيعة عن عائشة وظاهرها أن الحائض لا يباشر منها إلا ما فوق الإزار

واختلف الفقهاء في مباشرة الحائض وما يستباح منها فقال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف له منها ما فوق المئزر.

وممن روى عنه هذا المعنى القاسم وسالم وحجتهم ما ذكرنا في هذا الباب من الآثار عن عائشة وميمونة وأم سلمة عن النبي .

وقال الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي يجتنب مواضع الدم وممن روى عنه هذا المعنى ابن عباس ومسروق والنخعي وعكرمة وهو قول داود بن علي ومن حجتهم حديث ثابت عن أنس قوله "جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء ما خلا النكاح" أو قال ما خلا الجماع وقد ذكرناه في هذا الباب ومن حجتهم أيضا حديث عائشة قوله "إن حيضتك ليست في يدك".

أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت قال رسول الله "إن حيضتك ليست في يدك".

وحدثنا عمر بن الحسين بن محمد قال حدثني أبي قال حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال حدثنا أسد بن موسى

ووجدت في أصل سماع أبي رحمه الله بخطه أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا نصر بن مرزوق قال حدثنا أسد بن موسى قال حدثنا يحيى بن عيسى عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت "قال رسول الله ناوليني الخمرة من المسجد قلت إني حائض قال إن حيضتك ليست في يدك".

قال أسد بن موسى وحدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أنس عن ابن عمر عن عائشة عن رسول الله مثله.

قال أسد وحدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن أنس عن عائشة مثله ولم يذكر ابن عمر.

وذكر دحيم قال حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البهي عن ابن عمر عن عائشة مثله.

قال دحيم وحدثنا محمد بن عبيد عن حريث عن عامر عن مسروق عن عائشة قالت قال لي رسول الله ناوليني الثوب قلت إني حائض قال إن الحيض ليس في يدك فناولته قال دحيم وحدثنا يعلى عن عثمان بن حكيم عن جدته الرباب أن عثمان بن حنيف قال يا جارية ناوليني الخمرة فقالت لست أصلي فقال إن حيضتك ليست في يدك فناولته فقام فصلى

قال أبو عمر  : فدل ما في هذا الحديث أن كل عضو منها ليس فيه الحيضة في الطهارة يعني ما كان قبل الحيض ودل على أن الحيض ليس يغير شيئا من المرأة مما كان عليه قبل الحيض غير موضع الحيض وحده.

قال أبو جعفر الطحاوي ما في هذا الحديث إن كل عضو منها ليس فيه الحيضة في الطهارة يعني ما كان عليه قبل الحيض غير موضع الحيض وحده.

وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال سألت عائشة "ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقالت كل شيء إلا الفرج" رواه أيوب عن أبي معشر وروى أيوب أيضا عن أبي قلابة عن عائشة مثله.

وأخبرنا عمر بن حسين عن أبيه قال حدثني علي بن أحمد بن أبي جعفر الطحاوي عن أبيه قال حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال حدثنا شعيب بن الليث قال حدثنا الليث عن بكر بن وعثمان عن أبي مرة عن عقيل عن حكيم بن عفان قال "سألت عائشة ما يحرم علي من أمرأتي إذا حاضت فقالت فرجها" وذكره دحيم قال حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن سعيد بن أيوب عن يزيد بن حبيب عن بكر بن عبد الله وعثمان عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب عن حكيم بن عقال قال "سألت عائشة ما يحرم علي من امرأتي وهي حائض قالت فرجها".

ومن حجة من قال بالقول الأول ما رواه زيد بن أسلم "أن رجلا سأل رسول الله ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقال لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها" وحديث ميمونة وأم سلمة وعائشة على ما ذكرنا في هذا الباب عن رسول الله أنه لم يكن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض إلا وهي متزرة وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا

قال أبو عمر  : يحتمل أن يكون قوله بمباشرة الحائض وهي متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة ولو أنه أباح فخذها كل ذلك ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع فنهى عن ذلك احتياطا والمحرم بعينه موضع الأذى ويشهد لهذا ظاهر القرآن وإجماع معاني الآثار لئلا يتضاد وبالله التوفيق.

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبد الله يعني ابن عمر بن غانم عن عبد الرحمن يعني بن زياد عن عمارة ابن غراب "إن عمة له حدثته أنها سالت عائشة قالت إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها إلا فراش واحد قالت أخبرك بما صنع رسول الله دخل فمضى إلى المسجد قال أبو داود تعني مسجد بيته فلم ينصرف حتى غلبتني عيناي وأوجعه البرد فقال ادن مني فقلت إني حائض فقال وان اكشفي عن فخذك فكشفت فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه حتى دفئ ونام"

واختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته وهي حائض فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد يستغفر الله ولا شيء عليه ولا يعود وبه قال داود.

وروى عن محمد بن الحسن أنه قال يتصدق بنصف دينار.

وقال أحمد بن حنبل يتصدق بدينار أو نصف دينار.

وقال أحمد ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس عن النبي "يتصدق بدينار أو نصف دينار" وقال الطبري يستحب له أن يتصدق بدينار أو نصف دينار فإن لم يفعل فلا شيء عليه وهو قول الشافعي ببغداد.

وقالت فرقة من أهل الحديث إن وطيء في الدم فعليه دينار وإن وطيء في انقطاع الدم فنصف دينار

قال أبو عمر  : حجة من قال بهذا القول ما رواه علي بن الحكم البناني عن أبي الحسن الجزري عن مقسم عن ابن عباس مرفوعا قال "إذا أصابها في الدم فدينار وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار" سواء وحجة من قال بقول محمد بن الحسن ما رواه خصيف عن مقسم.

وكذلك رواه ابن جريج عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعا قال "إذا أصابها في الدم فدينار وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار" عن النبي قال "إذا وقع بأهله وهي حائض فليتصدق بنصف دينار".

وقال أبو داود كذلك قال علي بن بذيمة عن مقسم عن النبي مرسل وحجة من قال بقول أحمد بن حنبل ما رواه الحكم بن عتيبة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عن ابن عباس عن النبي في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال "يتصدق بدينار أو نصف دينار".

قال أبو داود هكذا الرواية الصحيحة دينار أو نصف دينار قال وربما لم يرفعه شعبة عن الحكم.

وقال الأوزاعي "من وطئ امرأته وهي حائض تصدق بخمسي دينار" رواه عن زيد بن أبي مالك عن عبد الحميد ابن عبد الرحمن عن النبي "أنه أمره أن يتصدق بخمسي دينار"

قال أبو عمر  : وحجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس وأن مثله لا تقوم به حجة وأن الذمة على البراءة ولا يجب أن يثبت فيها شي لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه وذلك معدوم في هذه المسألة.

واختلف الفقهاء أيضا في وطء الحائض بعد الطهر وقبل الغسل فقال مالك وأكثر أهل المدينة إذا انقطع عنها الدم لم يجز وطؤها حتى تغتسل وبه قال الشافعي والطبري ومحمد بن سلمة.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت صلاة.

قال أبو عمر  : هذا تحكم لا وجه له وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحيض في العدة وقالوا لزوجها عليه الرجعة ما لم تغتسل فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل وهو الصواب مع موافقة أهل المدينة وبالله التوفيق.

فإن قيل إن في قول الله عز وجل {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} بعد قوله {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} دليلا على أن المحيض إذا زال وطهرن جاز إتيانهن من حيث أمرنا باجتنابهن فالجواب أن في قول الله عز وجل {فإذا تطهرن فأتوهن} دليلا على بقاء تحريم الوطء بعد الطهر حتى يتطهرن بالماء لأن تطهرن تفعلن مأخوذ من قول الله {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} يريد الاغتسال بالماء وقد يقع التحريم بالشيء ولا يزول بزواله لعله أخرى دليل ذلك قول الله عز وجل في المبتوتة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وليس تحل له بنكاح الزوج حتى يمسها ويطلقها وكذلك لا تحل الحائض للوطء بالطهر حتى تغتسل ومثل ذلك قول رسول الله "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض" ومعناه حتى تضع وتطهر من دم نفاسها أو حيضتها وتغتسل منه.

ومن هذا المعنى أيضا أن الإحرام يمنع من الطيب واللباس والصيد والنساء وقد يقع الحل من ذلك كله قبل أن يقع من وطء النساء حتى يكمل الخروج من الحج فيحل حينئذ الوطء فكذلك الحيض يوجب تحريم الصلاة والصوم وإتيان الزوج فإذا انقطع الدم انحل عنها بعض ذلك بإباحة الصوم لها وبقي تحريم الصلاة إلى أن تأتي بالطهارة فكذلك حكم الجماع أن يبقى تحريمه حتى لا يبقى للحيض حكم والله أعلم وفي المسألة اعتراضات وفيما ذكرنا كفاية والحمد لله.

حديث ثامن لربيعة منقطع يتصل من وجوه

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أم سلمة زوج النبي "أن رسول الله قال من أصابته مصيبة فقال كما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها إلا فعل الله ذلك به قالت أم سلمة فلما توفي أبو سلمة قلت ذلك ثم قلت ومن خير من أبي سلمة فأعقبها الله رسوله فتزوجها" اه.

هكذا روى يحيى هذا الحديث وتابعه جماعة من رواة الموطأ ورواه ابن وهب فقال حدثني مالك بن أنس عن ربيعة أن أبا سلمة قال لأم سلمة لقد سمعت من رسول الله كلاما ما أحب أن لي به حمر النعم سمعته يقول "ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها إلا فعل الله ذلك به قالت فلما توفي أبو سلمة قلت ذلك ثم قلت ومن خير من أبي سلمة ثم قلته فأعقبني الله رسوله ".

قال أبو عمر  : هذا الحديث يتصل من وجوه شتى إلا أن بعضهم يجعله لأم سلمة عن النبي وبعضهم يجعله لأم سلمة عن أبي سلمة عن النبي وكذلك اختلف فيه أيضا عن مالك على حسب ما ذكرناه وهذا مما ليس يقدح في الحديث لأن رواية الصحابة بعضهم عن بعض ورفعهم ذلك إلى النبي سواء عند العلماء لأن جميعهم مقبول الحديث مأمون على ما جاء به بثناء الله عليهم وقد أوضحنا هذا المعنى في غير هذا الموضع وأبو سلمة مات قبل النبي وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصحابة فأغنى ذلك عن ذكره ها هنا اه.

أخبرني أحمد بن محمد قال أخبرنا وهب بن مسرة قال أخبرنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أم سلمة قالت "قال رسول الله إذا حضرتم الميت أو المريض فقولوا خيرا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون قالت فلما مات أبو سلمة أتيت النبي فقلت يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات قال قولي اللهم اغفر له وأعقبني منه عقبى حسنة قالت ففعلت فأعقبني الله من هو خير منه رسول الله ".

أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن سعد بن سعيد قال : أخبرني عمر بن كثير بن أفلح قال سمعت ابن سفينة يحدث أنه سمع أم سلمة تقول سمعت رسول الله يقول "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره في مصيبته وأخلف له خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله فأخلفني الله خيرا منه محمدا رسول الله ".

قال أبو بكر وحدثنا ابن نمير قال حدثنا سعد بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح قال أخبرني علي بن سفينة مولى أم سلمة عن أم سلمة قال سمعت رسول الله يقول "ما من عبد تصيبه مصيبة" فذكر مثله إلا أنه قال فقلت من هو خير من أبي سلمة صاحب رسول الله ثم عزم لي فقلتها

قال أبو عمر  : هكذا يقول في هذا الحديث سعد بن سعيد بإسناده عن أم سلمة سمعت رسول الله وخالفه سعيد بن أبي هلال في الإسناد وجعله عن أم سلمة عن أبي سلمة عن النبي ذكره ابن وهب قال حدثنا ابن لهيعة عن سعيد بن أبي هلال عن عمر بن كثير بن أفلح عن أم أيمن مولاة رسول الله قالت أخبرتني أم سلمة زوج النبي عليه السلام "أن أبا سلمة أتاها يوما فقال لقد سمعت اليوم من رسول الله كلاما لهو أحب إلى من حمر النعم قالت وما هو يا أبا سلمة قال سمعت رسول الله يقول من رجع عند مصيبة ثم قال اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها كان له ذلك قالت فلما أصيب أبو سلمة رجعت ثم قلت اللهم أجرني في مصيبتي قالت وهممت أن أقول واخلف لي خيرا منها ثم قلت ومن خير من أبي سلمة قالت ورسول أمامي متوكئ على أبي بكر ممسك بيده قالت ثم قلتها قالت فشد على يدي أبي بكر"

قال أبو عمر  : هكذا قال سعيد بن أبي هلال عن عمر بن كثير بن أفلح عن أم أيمن وقال سعد بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن علي بن سفينة والله أعلم.

وأما إسناده عن أبي سلمة فهو الصحيح وبالله التوفيق.

حدثني سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم ابن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا عبد الملك بن قدامة الجمحي عن أبيه عن عمرو بن أبي سلمة عن أم سلمة إن أبا سلمة حدثها أنه سمع رسول الله يقول "ما من مسلم أصيب بمصيبة فيفزع لما أمره الله به من قول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسب مصيبتي فأجرني فيها وعضني خيرا منها إلا أجره الله عليها وعاضه خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة ذكرت الذي حدثني عن رسول الله فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم إني احتسبت عندك مصيبتي فأجرني عليها فلما أردت أن أقول عضني خيرا منها قلت في نفسي أعاض خيرا من أبي سلمة ثم قلتها فعاضني الله محمدا وأجرني في مصيبتي"

قال أبو عمر  : عبد الملك بن قدامة هذا هو عبد الملك بن قدامة بن محمد بن حاطب الجمحي مدني ثقة شريف.

وأخبرني أبو عبد الله عبيد بن محمد ومحمد ابن عبد الملك قالا اخبرنا عبد الله بن مسور العسال قال حدثنا عيسى بن مسكين قال حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر قال حدثنا عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي قال حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرنا ثابت قال

أخبرني عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد عن أمه أم سلمة أن أبا سلمة قال قال رسول الله "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وأبدلني بها خيرا منها" قالت فلما احتضر أبو سلمة بن عبد الأسد قال "اللهم اخلفني في أهلي بخير مني فلما قبض أبو سلمة قلت إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها فكنت إذا أردت أن أقول وأبدلني خيرا منها قلت ومن خير من أبي سلمة فلم أزل حتى قلتها" قال فلما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردته ثم خطبها عمر فردته ثم بعث إليها رسول الله فخطبها فقالت "مرحبا برسول الله ومرحبا بالله ورسوله اقرأ رسول الله السلام وأخبره أني امرأة غيرى وأنا مصبية وليس أحد من أوليائي شاهدا قال فقال لها رسول الله أما قولك إني غيرى فإني سأدعو الله أن يذهب غيرتك وأما قولك إني مصبية فإن الله سيكفيك وأما أولياؤك فليس أحد منهم شاهدا ولا غائبا إلا سيرضاني فقالت لابنها قم يا عمر فزوج رسول الله فزوجها فقال لها رسول الله أما إني لا أنقصك مما أعطيت أختك فلانة جرتين ورحى ووسادة من أدم حشوها ليف قال وكان رسول الله يأتيها وهي ترضع زينب فكان إذا جاء رسول الله أخذتها فوضعتها في حجرها ترضعها وكان رسول الله حبيبا كريما فرجع فنظر إليها عمار بن ياسر وكان أخاها من الرضاعة فأراد رسول الله أن يأتيها ذات يوم فجاء عمار فدخل عليها فأهبط زينب من حجرها وقال دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي قد آذيت بها رسول الله فجاء رسول الله فدخل فجعل يلتفت ينظر في البيت ويقول أين زناب وما فعلت زناب وما لي لا أرى زناب فقالت جاء عمار فذهب بها فبنى رسول الله بأهله وقال لها إن سبعت لك سبعت للنساء"

قال أبو عمر  : ليس في حديث أم سلمة من رواية مالك معنى يشكل ولا موضع تنازعه العلماء في التأويل وإنما هو دعاء واسترجاع وتعز ومعنى قوله "إنا لله" أي نحن لله وعبيد وخلق خلقنا للفناء

"وإنا إليه راجعون" أي إليه نصير وإليه نرجع لأنه تبارك اسمه إليه يرجع الأمر كله والخلق كله فلا بد من الموت والرجوع إلى الله أي فما لنا نجزع مما لا بد لنا منه ولا محيد عنه وهذا أحسن شيء وأبلغه في حسن العزاء وفيه إيمان وإخلاص وإقرار بالبعث والحمد لله.

حديث تاسع لربيعة منقطع يتصل من وجوه حسان

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم "أن أبا موسى الأشعري جاء يستأذن على عمر بن الخطاب فاستأذن ثلاثا ثم رجع فأرسل عمر بن الخطاب في أثره فقال مالك لم تدخل فقال أبو موسى سمعت رسول الله يقول الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع فقال عمر بن الخطاب ومن يعلم هذا لئن لم تأت بمن يعلم ذلك لأفعلن بك كذا وكذا فخرج أبو موسى حتى جاء مجلسا في المسجد يقال له مجلس الأنصار فقال إني أخبرت عمر بن الخطاب أني سمعت رسول الله يقول الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع فقال لئن لم تأت بمن يعلم هذا لأفعلن بك كذا وكذا فإن كان سمع ذلك أحد منكم فليقم معي فقالوا لأبي سعيد الخدري قم معه وكان أبو سعيد أصغرهم فقام معه فأخبر ذلك عمر بن الخطاب فقال عمر لأبي موسى أما إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله "

قال أبو عمر  : روي هذا الحديث متصلا مسندا عن النبي من وجوه. من حديث أبي موسى وحديث أبي بن كعب وحديث أبي سعيد الخدري.

وقال بعضهم في هذا الحديث كلنا سمعه.

وقد روى قوم هذا الحديث عن أبي سعيد عن أبي موسى وإنما هذا من النقلة باختلاط الحديث عليهم ودخول قصة أبي سعيد مع أبي موسى في ذلك والله أعلم كأنهم يقولون عن أبي سعيد عن قصة أبي موسى على نحو رواية عمر بن سلمة عن البهزي يريد عن قصة البهزي وقد أوضحنا هذا المعنى عند ذكر حديث البهزي في باب حديث يحيى بن سعيد من كتابنا هذا والحمد لله.

ومن أحسن طرق أبي سعيد الخدري في هذه القصة ما حدثناه أبو زيد عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا علي بن محمد بن مسرور قال حدثنا أحمد بن أبي سليمان قال حدثنا سحنون قال حدثنا ابن وهب قال أخبرنا عمر بن الحارث عن بكير بن الأشج أن بسر بن سعيد حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول "كنا في مجلس أبي بن كعب فأتى أبو موسى مغضبا حتى وقف وقال أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله يقول الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع قال أبي وما ذاك قال استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت ثم جئت اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثا ثم انصرفت قال قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل فلو استأذنت حتى يؤذن لك قال استأذنت كما سمعت رسول الله فقال والله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا فقال أبي والله لا يقوم معك ألا أحدثنا سنا الذي يجيبك قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت قد سمعت رسول الله يقول هذا".

قال ابن وهب وقال مالك الاستئذان ثلاث لا أحب أن يزيد أحد عليها إلا من علم أنه لم يسمع فلا أرى باسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع قال وقال مالك الاستيناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان.

حدثني أحمد بن قاسم بن عيسى قال حدثنا عبيد الله و بن محمد ببغداد قال حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا شعيب عن سعيد الجريري أنه سمع أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدري قال جاء أبو موسى فاستأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له فرجع فقال عمر لئن لم تأتني ببينة أو لأفعلن بك فأتى الأنصار فقال "ألستم تعلمون أن رسول الله قال إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع قال فقالوا لا يشهد لك إلا أصغرنا قال أبو سعيد فأتيت فشهدت له".

قال علي وأخبرنا شعبة عن أبي سلمة سعيد بن يزيد سمع أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد مثل ذلك.

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك قال حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال إن أبا موسى استأذن على عمر قال واحدة ثنتين ثلاثا ثم رجع أبو موسى فقال له عمر لتأتين على هذا ببينة أو لأفعلن بك كأنه يقول أجعله نكالا في الآفاق قال فانطلق أبو موسى إلى مجلس فيه الأنصار فذكر ذلك لهم فقال "ألم تعلموا أن رسول الله قال إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع قالوا بلى لا يقوم معك إلا أصغرنا قال فقام أبو سعيد الخدري إلى عمر فقال هذا أبو سعيد فخلى عنه"

قال أبو عمر  : رواه معمر عن الجريري بإسناده فلم يأت بالقصة بتمامها ورواه عن أبي نضرة أيضا داود بن أبي هند ورواية أبي سلمة أحسن سياقه وأتم معنى.

حدثنا سعيد بن نصر و عبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن مروان قال أخبرنا داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال "استأذن أبو موسى على عمر ثلاثا فلم يؤذن له فرجع فلقيه عمر فقال ما شأنك رجعت فقال سمعت رسول الله يقول من أستأذن ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال لتأتين ببينة أو لأفعلن وافعلن فأتي مجلس قومي فناشدهم الله فقلت أنا أشهد معك فشهدت بذلك فخلى سبيله"

وأما رواية من روى هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري فحدثني عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن غياث عن داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن أبي موسى قال "قال رسول الله المستأذن ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع".

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو داود عن طلحة عن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى "أنه أتى عمر فاستأذن ثلاثا فقال استأذن أبو موسى استأذن الأشعري استأذن عبد الله بن قيس فلم يؤذن له فرجع فبعث إليه عمر فقال ما ردك فقال قال رسول الله ليستأذن أحدكم ثلاثا فإن أذن له وإلا فليرجع قال إيتني ببينة على هذا فقال هذا أبي فانطلقنا إلى عمر فقال نعم يا عمر لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله فقال عمر لا أكون عذابا على أصحاب رسول الله " وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد اه.

وحدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي قالا حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن عطاء بن عبيد ابن عمير "أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع فقال ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس قالوا بلى قال فاطلبوه قال فدعي قال ما حملك على ما صنعت فقال استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت كما كنا نؤمر بهذا فقال لتأتين عليه بالبينة أو لأفعلن فأتي مجلس أو مسجد الأنصار فقالوا لا يشهد لك إلا أصغرنا فقام أبو سعيد فشهد له فقال عمر خفي على هذا من أمر رسول الله ألهاني عنه الصفق بالأسواق" واللفظ لحديث عبد الله والمعنى سواء.

قال أبو عمر  : في هذا الحديث من الفقه إيجاب الاستئذان وهو يخرج في تفسير قول الله عز وجل {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} والاستيناس في هذا الموضع هو الاستئذان كذلك قال أهل التفسير وكذلك في قراءة أبي وابن عباس تستأذنوا وتسلموا على أهلها

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل أبو جعفر الصائغ قال حدثنا عفان قال حدثني ثابت بن يزيد قال حدثنا عاصم الأحول عن عكرمة قال في قراءة أبي بن كعب "حتى تسلموا أو تستأذنوا" قال وتعلم منه ابن عباس وفيه أن السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الإباحة والتخفيف على المستأذن فمن استأذن أكثر من ثلاث مرات لم يحرج والله أعلم.

وقال بعض أهل العلم أن الاستئذان ثلاث مرات مأخوذ من قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} قال يريد ثلاث دفعات فورد القرآن في الممالك والصبيان وسنة رسول الله في الجميع

قال أبو عمر  : ما قاله من هذا فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها والذي عليه جمهورهم في قوله فيها ثلاث مرات أي في ثلاثة أوقات يدل على صحة هذا القول ذكره فيها {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} وللكلام في هذه لآية موضع غير هذا وجاء في هذا الحديث عن أبي موسى أنه قال استئذانه يومئذ بأن قال يستأذن عبد الله بن قيس يستأذن أبو موسى ونحو هذا

قال أبو عمر  : وفيه أن الرجل العالم الحبر قد يوجد عند من هو دونه في العلم ما ليس عنده من العلم إذا كان طريق ذلك العلم السمع وإذا جاز مثل هذا على عمر على موضعه في العلم فما ظنك بغيره بعده

وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال لو أن علم عمر وضع في كفة ووضع علم أحياء الأرض في كفة أخرى لرجح علم عمر بعلمهم قال الأعمش فذكرت ذلك لإبراهيم فقال لا تعجب من هذا فقد قال عبد الله إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر وجاء عن حذيفة مثل قول عبد الله

قال أبو عمر  : زعم قوم أن في هذا الحديث دليلا على أن مذهب عمر أن لا يقبل خبر الواحد وليس كما زعموا لأن عمر رضي الله عنه قد ثبت عنه استعمال خبر الواحد وقبوله وإيجاب الحكم به أليس هو الذي ناشد الناس بمنى من كان عنده علم رسول الله في الدية فليخبرنا وكان رأيه أن المرأة لا ترث من دية زوجها لأنها ليست من عصبته الذين يعقلون عنه فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال "كتب إلى رسول الله أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها" وكذلك ناشد الناس في دية الجنين : من عنده فيه عن رسول الله ؟ فأخبره حمل بن مالك بن النابغة "أن رسول الله قضى فيه بغرة عبد أو أمة فقضى به عمر" ولا يشك ذو لب ومن له أقل منزلة في العلم أن موضع أبي موسى من الإسلام ومكانه من الفقه والدين أجل من أن يرد خبره ويقبل خبر الضحاك ابن سفيان ألكلابي وحمل بن مالك الأعرابي وكلاهما لا يقاس به في حال وقد قال له عمر في حديث ربيعة هذا أما إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله فدل على اجتهاد كان من عمر رحمه الله في ذلك الوقت لمعنى الله أعلم به وقد يحتمل أن يكون عمر رحمه الله كان عنده في ذلك الحين من لم يصحب رسول الله من أهل العراق وأهل الشام لأن الله فتح عليه أرض فارس والروم ودخل في الإسلام كثير ممن يجوز عليهم الكذب لأن الإيمان لم يستحكم في قلوب جماعة منهم وليس هذه صفة أصحاب رسول الله لأن الله قد اخبر أنهم خير أمة أخرجت للناس وأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه.

وإذا جاز الكذب وأمكن في الداخلين إلى الإسلام فيمكن أن يكون عمر مع احتياطه في الدين يخشى أن يختلقوا الكذب على رسول الله عند الرهبة والرغبة أو طلبا للحجة وفرارا إلى الملجأ والمخرج مما دخلوا فيه لقلة علمهم بما في ذلك عليهم فأراد عمر أن يريهم أن من فعل شيئا ينكر عليه ففزع إلى الخبر عن رسول الله فيه ليثبت له بذلك فعله وجب التثبت فيما جاء به إذا لم تعرف حاله حتى يصح قوله فأراهم ذلك ووافق أبا موسى وإن كان عنده معروفا بالعدالة غير متهم ليكون ذلك أصلا عندهم وللحاكم أن يجتهد بما أمكنه إذا أراد به الخير ولم يخرج عما أبيح له والله أعلم بما أراد عمر بقوله ذلك لأبي موسى وعلى هذا قول طاووس قال كان الرجل إذا حدث عن رسول الله أخذ حتى يجيء ببينة وإلا عوقب يعني ممن ليس بمعروف بالعدالة ولا مشهور بالعلم والثقة ألا ترى إلى إجماع المسلمين أن العالم إذا حدث عن رسول الله وكان مشهورا بالعلم أخذ ذلك عنه ولم ينكر عليه ولم يحتج إلى بينة ومن نحو قول طاووس هذا قول سعد بن إبراهيم رحمه الله لا يحدث عن رسول الله إلا الثقات أي كل من إذا وقف أحال على مخرج صحيح وعلم ثابت وكان مستورا لم تظهر منه كبيرة.

وأما قول من قال إن عمر لم يعرف أبا موسى فقول خرج عن غير روية ولا تدبر ومنزلة أبي موسى عند عمر مشهورة وقد عمل له وبعثه رسول الله عاملا وساعيا على بعض الصدقات وهذه منزلة رفيعة في الثقة والأمانة.

وفي قول عمر رحمه الله في حديث عبيد بن عمير الذي ذكرناه في هذا الباب خفي على هذا من أمر رسول الله ألهاني عنه الصفق في الأسواق اعتراف منه بجهل ما لم يعلم وإنصاف صحيح وهكذا يجب على كل مؤمن

وفي قوله ألهاني عنه الصفق بالأسواق دليل على أن طلب الدنيا يمنع من استفادة العلم وأن كل ما ازداد المرء طلبا لها ازداد جهلا وقل عمله والله أعلم ومن هذا قول أبي هريرة أما إخواننا المهاجرون فكان يشغلهم الصفق بالأسواق وأما إخواننا من الأنصار فشغلتهم حوائطهم ولزمت رسول الله على شبع بطني.

هذا وكان القوم عربا في طبعهم الحفظ وقلة النسيان فكيف اليوم وإذا كان القرآن الميسر للذكر كالإبل المعقلة من تعاهدها أمسكها فكيف بسائر العلوم.

والله أسأله علما نافعا وعملا متقبلا ورزقا واسعا لا شريك له.

ومن أحسن حديث يروى في كيفية الاستئذان ما حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال استأذن عمر على النبي فقال السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر

وروى منصور عن ربعي بن حراش عن رجل من بني عامر "أن رسول الله قال له قل السلام آدخل"

وقد ذكر ابن وهب قال أخبرني عمر بن الحارث عن أبي الزبير عن عمر مولى آل عمر "أنه حدثه أنه دخل على عبد الله ابن عمر بمكة قال وقفت على الباب فقلت السلام عليكم ثم دخلت فنظر في وجهي ثم قال اخرج ثم قلت السلام عليكم آدخل قال ادخل الآن من أنت قلت رجل من مصر" قال وقال ابن جريج قلت لعطاء كان يقال إذا استأذن الرجل ولم يسلم فلا يؤذن له حتى يأتي بمفتاح قلت السلام قال نعم

قال أبو عمر  : تهذيب هذه الآثار كلها على ما جاء في حديث ابن عباس السلام عليكم أيدخل عمر فمن سلم ولم يقل آدخل أو يدخل فلان أو قال ادخل أو يدخل فلان ولم يسلم فليس بإذن يستحق به أن يؤذن له والله أعلم.

وقد أخبرنا ابن عباس أن الاستئذان ترك العمل به الناس وأظن ذلك لقرع الأبواب اليوم والله أعلم.

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي قال حدثنا الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال "كان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال فأمرهم الله بالاستئذان ثم جاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد".

وقد أوضحنا هذا المعنى في باب صفوان بن سليم والحمد لله

وأنكر رسول الله على جابر حين دق على رسول الله الباب فقال له رسول الله من فقال جابر أنا فأنكر ذلك عليه رسول الله وقال أنا أنا مرتين أو ثلاثا إنكارا لذلك ورواه شعبة وغيره عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله "أنه ذهب إلى النبي في دين أبيه قال فدققت الباب فقال من هذا قلت أنا قال أنا أنا فكرهه"

حديث عاشر لربيعة منقطع يتصل من وجوه صحاح

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال قدم على أبي بكر الصديق مال من البحرين فقال "من كان له عند رسول الله وَأْيٌ أو عدة فليأت فجاء جابر بن عبد الله فحفن له ثلاث حفنات".

هذا الحديث يتصل من وجوه ثابتة عن جابر رواه عنه جماعة منهم :

أبو جعفر محمد بن علي ومحمد بن المنكدر و عبد الله بن محمد بن عقيل وأبو الزبير والشعبي.

وسنذكر وجوه هذا الحديث وطرقه بعد الفراغ من القول في معانيه إن شاء الله.

وفيه من الفقه أن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة وكرامة وذلك من أخلاق أهل الإيمان وقد جاء في الأثر "وَأْيُ المؤمن واجب" أي واجب في أخلاق المؤمنين

وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع الجميع على أن من وعد بمال ما كان لم يضرب به مع الغرماء كذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن في المروءة ولا يقضى به ولا أعلم خلافا أن ذلك مستحسن يستحق صاحبه الحمد والشكر على الوفاء به ويستحق على الخلف في ذلك الذم وقد أثنى الله عز وجل على من صدق وعده ووفى بنذره وكفى بهذا مدحا وبما خالفه ذما ولم تزل العرب تمدح بالوفاء وتذم بالغدر والخلف وكذلك سائر الأمم والله أعلم.

قال سابق بن خديم :

متى ما يقل حر لطالب حاجة ... نعم يقضها والحر للوأي ضامن

والوأي : العدة

ولما كان هذا من مكارم الأخلاق وكان رسول الله أولى الناس بها وأنذرهم إليها وكان أبو بكر خليفته أدى ذلك وقام فيه مقامة في الموضع الذي كان رسول الله يقيمه.

وقد اختلف الفقهاء فيما يلزم من العدة وما لا يلزم منها وكذلك اختلفوا في تأخير الدين الحال هل يلزم أم لا يلزم وهو من هذا الباب فقال مالك وأصحابه من أقرض رجلا مالا دناينر أو دراهم أو شيئا مما يكال أو يوزن وغير ذلك إلى أجل أو منح منحة أو أعار عارية أو أسلف سلفا كل ذلك إلى أجل ثم أراد الانصراف في ذلك وأخذه قبل الأجل لم يكن ذلك له لأن هذا مما يتقرب به إلى الله عز وجل وهو من باب الحسبة

قال أبو عمر  : ومن الحجة لمالك رحمه الله في ذلك عموم قوله تعالى {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} وقوله عليه السلام "كل معروف صدقة" وأجمعوا أنه لا يتصرف في الصدقات وكذلك سائر الهبات.

قال مالك وأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم ثم يبدو له أن لا يفعل فما أرى ذلك يلزمه قال مالك ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.

وقال ابن القاسم إذا وعد الغرماء فقال أشهدكم أني قد وهبت لهذا من أين يؤدى إليكم فإن هذا يلزمه وأما أن يقول نعم أنا أفعل ثم يبدو له فلا أرى ذلك عليه.

وقال سحنون : الذي يلزمه من العدة في السلف والعارية أن يقول للرجل اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنيها به أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك ما يبلغك أو اشتر سلعة كذا أو تزوج وأنا أسلفك ثمن السلعة وصداق المرأة وما أشبهه مما يدخله فيه وينشبه به فهذا كله يلزمه قال وأما أن يقول أنا أسلفك وأنا أعطيك بغير شيء يلزم المأمور نفسه فإن هذا لا يلزمه منه شيء.

قال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وعبيد الله بن الحسين وسائر الفقهاء أما العدة فلا يلزمه منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة وفي غير العارية أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض ولصاحبها الرجوع فيها.

وأما القرض فقال أبو حنيفة وأصحابه سواء كان القرض إلى أجل أو إلى غير أجل له أن يأخذه متى أحب وكذلك العارية وما كان مثل ذلك كله ولا يجوز تأخير القرض البتة بحال ويجوز عندهم تأخير المغصوب وقيم المستهلكات إلا زفر فإنه قال لا يجوز التأجيل في القرض ولا في الغصب واضطرب قول أبي يوسف في هذا الباب.

وقال الشافعي إذا أخره بدين حال فله أن يرجع متى شاء وسواء كان من قرض أو غير قرض أو من أي وجه كان وكذلك العارية وغيرها لأن ذلك من باب العدة والهبة غير المقبوضة وهبة ما لم يخلق

قال أبو عمر  : في هذا الحديث أيضا دليل على أن يقضي الإنسان عن غيره بغير إذنه فيبرأ وإن الميت يسقط عنه ما كان عليه بقضاء من قضى عنه والله أعلم

قال أبو عمر  : أما الآثار المتصلة في معنى حديث ربيعة فحدثنا خلف بن قاسم الحافظ قراءة مني عليه أن أبا أحمد الحسين بن جعفر الزيات حدثهم قال حدثنا يوسف بن يزيد القراطيسي قال حدثنا حجاج بن إبراهيم قال حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله قال سفيان وحدثني عمرو بن دينار عن محمد بن علي بن جابر بن عبد الله يزيد أحدهما على الآخر قال "قال لي رسول الله لو قدم مال من البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا وهكذا فما قدم مال من البحرين حتى قبض النبي فلما قدم مال من البحرين قال أبو بكر من كان له على رسول الله دين أو عدة فليأتنا قال جابر فأتيت أبا بكر فقلت إن رسول الله وعدني إذا قدم مال من البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا قال فحثى لي أبو بكر حثية ثم قال لي عدها فإذا هي خمسمائة قال خذ مثلها مرتين" وزاد فيه ابن المنكدر "ثم أتيت أبا بكر بعد ذلك فردني فسألته فردني فقلت في الثالثة سألتك مرتين فلم تعطني قال إنك لم تأتني مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك وأي داء أدوأ من البخل" اه.

وحدثني أبو عبد الله محمد بن رشيق رحمه الله قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم الخراساني قال حدثنا بكر بن محمد بن حمدان قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا مقاتل بن إبراهيم قال حدثنا نوح ابن أبي مريم عن أبي الزبير عن جابر قال "دخلت على النبي فقال لو جاءنا مال لحثيت لك ثم حثيت لك ثم حثيت لك قال فقبض رسول الله فأتيت أبا بكر فحدثته فقال ونحن لو جاءنا مال لحثيت لك ثم حثيت لك ثم حثيت لك قال فأتى مال فحثى لي ثم حثى لي ثم حثى لي ثم قال ليس لي عليك فيه صدقة حتى يحول الحول فوزنها فكانت ألفا وخمسمائة درهم".

وحدثنا محمد بن إبراهيم وإبراهيم بن شاكر قالا حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن أيوب الرقى قال حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار قال حدثنا محمد بن جابر قال حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال "لما قتل أبي دعاني رسول الله فقال أتحب الدراهم

فقلت نعم قال لو جاءني مال لأعطيتك هكذا وهكذا قال فمات رسول الله قبل أن يعطيني فلما استخلف أبو بكر أتاه مال من البحرين فقال خذ كما قال لك رسول الله فأخذت".

ورواه سعيد بن سليمان سعدويه عن فليح بن سليمان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر نحوه بمعناه

وذكر أهل السير "أن النبي وعد عمرو بن العاص حين بعثه إلى المنذر بن ساوى أن يستعمله على صدقات معد فلما قدم بعد وفاة رسول الله استعمله عليها أبو بكر إنفاذا لرأي رسول الله "

حديث حادي عاشر لربيعة منقطع متصل من وجوه شتى

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري "أنه قدم من سفر فقدم إليه أهله لحما فقال انظروا أن يكون هذا من لحوم الأضاحي فقالوا هو منها فقال أبو سعيد ألم يكن رسول الله نهى عنها فقالوا أنه قد كان من رسول الله بعدك فيها أمر فخرج أبو سعيد فسأل عن ذلك فأخبر أن رسول الله قال نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا وتصدقوا وادخروا ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا وكل مسكر حرام ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا" يعني لا تقولوا سوءا

قال أبو عمر  : لم يسمع ربيعة من أبي سعيد الخدري وهذا الحديث يتصل من غير حديث ربيعة ويستند إلى النبي من طرق حسان من حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد.

وبريدة الأسلمي وجابر وأنس وغيرهم وهو حديث صحيح.

وفيه من الفقه ترك الإقدام على ما في النفس منه شك حتى يستبرأ ذلك بالسؤال والبحث والوقوف على الحقيقة.

وفيه أن حديث رسول الله فيه الناسخ والمنسوخ كما في كتاب الله عز وجل وهذا إنما يكون في الأوامر والنواهي من الكتاب والسنة وأما في الخبر عن الله عز وجل أو عن رسوله فلا يجوز النسخ في الأخبار البتة بحال لأن المخبر عن الشيء أنه كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل من السهو أو الكذب وذلك لا يعزى إلى الله ولا إلى رسوله فيما يخبر به عن ربه في دينه وأما الأمر والنهي فجائز عليهما النسخ للتخفيف ولما شاء الله من مصالح عباده وذلك من حكمته لا إله إلا هو.

وقد أنكر قوم من الروافض والخوراج النسخ في القرآن والسنة وضاهوا في ذلك قول اليهود ولو أمعنوا النظر لعلموا أن ذلك ليس من باب البداء كما زعموا ولكنه من باب الموت بعد الحياة والكبر بعد الصغر والغنى بعد الفقر إلى أشباه ذلك من حكمة الله تعالى ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وليس هذا موضع الكلام في هذا المعنى لئلا نخرج عما قصدناه.

وفيه أن النهي حكمه إذا ورد أن يتلقى باستعمال ترك ما نهى عنه والامتناع منه وإن النهي محمول على الحظر والتحريم والمنع حتى يصحبه دليل من فحوى القصة والخطاب أو دليل من غير ذلك يخرجه من هذا الباب إلى باب الإرشاد والندب.

وفيه أن الآخر من أمر رسول الله ناسخ لما تقدم منه إذا لم يمكن استعماله وصح تعارضه ولذلك لا خلاف علمته من العلماء في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وقبل ثلاث وإن النهي عن ذلك منسوخ على ما جاء في هذا الحديث لا خلاف بين فقهاء المسلمين في ذلك.

وقد روت عمرة عن عائشة بيان العلة في النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وإن ذلك إنما كان محبة في الصدقة من أجل الدافة التي كانت قد دفت عليهم يعني الجماعة من الفقراء القادمة عليهم.

وروى ذلك مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة وسنذكره في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله.

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا سليمان بن الأشعث قال حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا خالد الحذاء عن أبي المليح عن نبيشة قال قال رسول الله "إنا كنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي تسعكم فقد جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا وائتجروا ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل

قال أبو عمر  : هكذا في حديث نبيشة الخير عن النبي "فكلوا وادخروا وائتجروا ومعناه اتخذوا الأجر فيما تتصدقون به منها يبين ذلك حديث عمرة عن عائشة المتقدم ذكره فيه فكلوا وتصدقوا وادخروا ومعناهما عندي واحد والله أعلم.

وأما قوله فكلوا وتصدقوا وادخروا على لفظ الأمر فإن معناه الإباحة لا الإيجاب وهكذا كل أمر يأتي في الكتاب والسنة بعد حظر ومنع تقدمه فمعناه الإباحة لا غير ألا ترى أن الصيد لما حظر على المحرم ومنع منه ثم قيل له بعد أن حل اصطد إذا حللت كان ذلك إباحة له في الاصطياد لا إيجابا لذلك عليه قال الله عز وجل {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ومثل ذلك {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} وهو كثير في القرآن والسنة والحمد لله وهذا أصل جسيم في العلم فقف عليه وإذا كان هذا كما ذكرنا فجائر للمضحي أن يأكل أضحيته كلها وجائز أن يتصدق بها كلها وجائز أن يدخر وأن لا يدخر وعلى هذا جماعة العلماء إلا أنهم يستحبون للمضحي أن يأكل ويتصدق ويكرهون له أن لا يتصدق منها بشيء.

وكان الشافعي رحمه الله يستحب أن يأكل من أضحيته ثلثها ويتصدق بثلث ويدخر ثلثا على ما جاء في الحديث.

وكان غيره يستحب أن يتصدق بنصف ويأكل نصفا لقول الله في البدن {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}.

أما مالك رحمه الله فلم يحد في ذلك حدا وكان يستحب أن يأكل منها ويتصدق من غير أن يحد في ذلك حدا.

حدثني أحمد بن عمر قال حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا معن بن عيسى عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن ثوبان قال "ذبح رسول الله ضحيته ثم قال يا ثوبان أصلح لحم هذه الأضحية فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة".

ففي هذا الحديث ادخار لحم الأضحية وفيه الضحية في السفر.

وأما قوله "ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا وكل مسكر حرام" فإن ذلك عند أهل العلم محمول على أن النهي عنها معناه لسرعة الشدة فيها ولهذا ثبت على كراهية الانتباذ فيها جماعة من العلماء لقوله في الحديث الناسخ وكل مسكر حرام وكرهوا الانتباذ فيها خوفا من موافقة المسكر والله أعلم.

فإن انتبذ أحد في شيء منها ولم يشرب مسكرا فلا حرج عليه والأوعية التي نهى عن الانتباذ هي "الدباء والنقير والحنتم والمزفت والمقير والجر" وما كان مثلها وبذكر هذه الأوعية وردت الآثار في كراهية النبيذ فيها.

وكان عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس لا يريان الانتباذ في شيء منها بحال لما روينا عن النبي من النهي عنها وعن نبيذ الجر وكان ابن عباس يقول "الجر كل ما يصنع من مدر وكانا لا يجيزان النبيذ إلا في الجلود بعضهم يقول "أسقية الأدم" وبعضهم يقول الجلد المؤكأ عليه ونحو هذا.

وابن عباس هو الذي روى حديث وفد عبد القيس وفيه النهي عن الشرب في الدباء والنقير والمقير وبعضهم يقول المزفت والحنتم.

وفي ذلك الحديث أنهم قالوا "يا رسول الله أرأيت إن اشتد في الأسقية قال فصبوا عليه الماء قالوا يا رسول الله فقال لهم في الثالثة أو الرابعة اهرقوه ثم قال إن الله حرم الخمر والميسر وكل مسكر حرام"

قال أبو عمر  : ففي هذا الحديث دليل على أن النهي عن ذلك خشية مواقعة الحرام والله أعلم وإذا كان ذلك كذلك فواجب أن تكون الكراهية باقية على كل حال لأن الخشية أبدا غير مرتفعة ويكون على هذا المعنى قوله فانتبذوا فيما بدا لكم كشفا عن المراد لا أنه نسخ أباح فيه ما حرم قبل هذا ما يحضرني من التأويل فيه وبالله التوفيق.

ومما يدل على أن الوجه ما ذكرنا ما خرجه أبو داود عن مسدد عن يحيى القطان عن الثوري عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال "لما نهى رسول الله عن الأوعية قالت الأنصار أنه لا بد لنا قال فلا إذا".

وهذا حديث صحيح ويدل على ذلك أيضا اختلاف الفقهاء في هذا الباب مع علمهم بهذا الحديث وروايتهم له.

وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كره الانتباذ في الدباء والمزفت ولا يكره غير ذلك

قال أبو عمر  : هذا لما خشي من سرعة الفساد إلى النبيذ في هذين الظرفين والله أعلم.

وكره الثوري الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت وقال الشافعي لا أكره من الأنبذة إذا لم يكن الشراب يسكر شيئا بعد ما سمي في الآثار من الحنتم والنقير والدباء والمزفت

قال أبو عمر  : قد أحاط علمنا بأن مالكا والثوري والشافعي رووا الآثار الناسخة المذكورة في هذا الباب وعنهم رويناها فلا وجه لكراهيتهم الانتباذ في هذه الأوعية مع سرعتهم إلى القول بما صح عندهم من الآثار المسندة إلا ما ذكرنا وبالله التوفيق.

وقال أبو حنيفة وأصحابه لا بأس بالانتباذ في جميع الأواني وحجتهم الآثار التي ذكر فيها النسخ لما قبلها ورووا عن إنس أنه كان ينبذ له في جرة خضراء وهو أحد من روى النهي عن نبيذ الجر فدل ذلك على أنه منسوخ.

فأما الآثار في هذا الباب فحدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا فليح بن سليمان عن محمد بن عمرو العتواري قال حدثني أبي أن عبد الله بن عمر مر به فقال له أين أصبحت غاديا يا أبا عبد الرحمن قال أردت أبا سعيد الخدري قال فانطلقت معه فقال له ابن عمر يا أبا سعيد ما حديث بلغني عنك انك تحدث به عن رسول الله في لحوم الأضاحي وادخارها بعد ثلاث وفي زيارة القبور وفي الأنبذة فقال أبو سعيد سمعت رسول الله يقول "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي وادخارها بعد ثلاث فقد جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا ما بدا لكم وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فإن زرتموها فلا تقولوا هجرا ونهيتكم عن الأنبذة فاشربوا كما بدا لكم وكل مسكر حرام".

وأما حديث علي بن أبي طالب فسنذكره بعد في هذا الباب وأما حديث ابن مسعود.

فروى واسع بن حبان عن أبي سعيد عن النبي عليه السلام نحوه وأخبرني أحمد بن محمد قال حدثنا وهب بن مسرة قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن زيد قال حدثنا فرقد السبخي قال حدثنا جابر بن يزيد عن مسروق عن عبد الله قال قال رسول الله "اني كنت نهيتكم عن زيارة القبور وإنه قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزروروها تذكركم الآخرة ونهيتكم عن هذه الأوعية وإن الأوعية لا تحل شيئا منها ولا تحرمه فاشربوا فيها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فاحبسوا ما بدا لكم"

وأخبرني عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال "قال رسول الله نهيتكم عن ثلاث وإني آمركم بهن عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ونهيتكم عن الأشربة أن تشربوا إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تأكلوها بعد ثلاث فكلوا واستمتعوا بها في أسفاركم".

وروى الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي مثله قال "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها ما بدا لكم فإنها تذكر الآخرة ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تأكلوها فوق ثلاث وإنما أردنا بذلك أن يوسع أهل السعة على من لا سعة له فكلوا مما بدا لكم ونهيتكم عن الظروف وإن الظروف لا تحل شيئا ولا تحرمه وكل مسكر حرام"

قال أبو عمر  : قدم تقدم القول في أن هذا القول إباحة فمن شاء انتبذ ومن شاء لم ينتبذ ومن شاء زار القبور ومن لم يشأ لم يزر.

وروى عبد الرحمن بن جابر عن أبيه أن رسول الله قال "كنت نهيتكم أن تنتبذوا في الدباء والحنتم والمقير والمزفت فانبتذوا ولا أحل مسكرا".

وروى أبو بردة بن نيار عن النبي مثله أو نحوه

وقال عبد الله بن المغفل "شهدت رسول الله حين نهى عن نبيذ الجر وشهدته حين أمر بشربه فقال اجتنبوا المسكر

أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال حدثنا أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا ابن الطائفي قال حدثنا زهير بن عباد قال حدثني ضمرة عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي "أحل نبيذ الجر بعد أن حرمه"

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا حجاج بن منهال وسليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن ربيعة بن النابغة عن أبيه عن علي بن أبي طالب عن النبي قال "كنت نهيتكم عن الأوعية فانتبذوا فيما بدا لكم وإياكم والمسكر فكل مسكر حرام ونهيتكم عن زيارة القبور فإن زرتموها فلا تقولوا هجرا".

وحدثنا أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل الخفاف قال حدثنا عبد الملك بن محمد الدقاق قال حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن عطاء الخراساني عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة ونهيتكم عن نبيذ الجر فانتبذوا في كل وعاء واجتنبوا كل مسكر ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث وكلوا وادخروا وتزودوا".

وحدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا شريك بن عبد الله عن سماك بن حرب عن ابن بريدة عن أبيه "أن رسول الله نهى عن زيارة القبور ولحوم الأضاحي أن تحبس فوق ثلاث وعن الدباء والحنتم والنقير والمزفت ثم أني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وأطعموا وادخروا ونهيتكم عن الظروف فانتبذوا فيما بدا لكم واجتنبوا كل مسكر".

وروى محمد بن إسحاق عن سلمة بن كهيل عن ابن بريدة عن أبيه "أن النبي رخص في الظروف بعد أن نهى عنها" وانفرد به محمد بن إسحاق عن سلمة بن كهيل وليس لسلمة عن ابن بريدة غير هذا الحديث

قال أبو عمر  : احتج بعض من أجاز شرب النبيذ الصلب بأحاديث هذا الباب وقالوا هذه الأحاديث تدل على أن الذي نهى عنه من شرب النبيذ هو ما أسكر شاربه منه وما لم يسكره فليس بحرام عليه قالوا والمسكر مثل المحنتم من الأطعمة والمبشم والموخم والمشبع وهو ما أشبع من الأطعمة واتخم ولا يقال لمن أكل لقمة واحدة أكل ما يتخمه ويشبعه وأكثروا من القول في هذا المعنى مما لا وجه لإيراده ها هنا

وقالوا قد قال رسول الله اشربوا في الظروف كلها ولا تسكروا بعد أن كان نهاهم عن الانتباذ في بعضها قالوا ومحال أن يقول رسول الله اشربوا ما لا يسكر قليلة ولا كثيره وإياكم أن تسكروا لأن هذا غير جائز أن يضاف مثله إليه لأن الحلو الذي لا يسكر كثيره ولا قليله ليس يقال في مثله اشرب منه ولا تسكر وأتوا بضروب من خطا القول والتعسف في الاحتجاج بما لا يلزم.

وفي قوله "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" "وما أسكر كثيره فقليله حرام" ما يرفع الإشكال فيما ذكروه ويوهم أن النهي عن شرب قليل الجنس من المسكر وكثيره لا عن الفعل من فعل الشارب وخرج القول في نبيذ الظروف على خوف الشدة فيه على ما وصفنا وقد بينا هذا المعنى في باب إسحاق

وأما قوله في الحديث "ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا" فإن العلماء اختلفوا في ذلك على وجهين :

أحدهما أن الإباحة في زيارة القبور إباحة عموم كما كان النهي عن زيارتها نهي عموم ثم ورد النسخ بالإباحة على العموم فجائز للنساء والرجال زيارة القبور على ظاهر هذا الحديث لأنه لم يستثن فيه رجلا ولا امرأة .

حدثني خلف بن القاسم الحافظ قال حدثنا أبو علي سعيد بن السكن قال حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال حدثنا حميد بن الربيع الخزاز قال حدثنا يحيى بن اليمان قال أخبرنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه "أن رسول الله زار قبر أمه في ألف مقنع قال فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من يومئذ"

قال أبو علي قال لي ابن صاعد كان حميد لا يحدث بهذا الحديث إلا في كل سنة مرة

قال أبو عمر  : زعم قوم أن يحيى بن اليمان انفرد بهذا الحديث لأن سائر أصحاب الثوري يروونه عن الثوري عن علقمة مرسلا والذي قال أن حميد بن الربيع انفرد بتوصيله لأن البزار ذكره قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال حدثنا يحيى بن اليمان عن سفيان عن علقمة مرسلا وذكره البزاز أيضا عن حميد بن الربيع متصلا كما ذكرنا.

وقال آخرون إنما اقتضت الإباحة زيارة القبور للرجال والنساء فجائز للرجال زيارة القبور وغير جائز ذلك للنساء لما خصص في ذلك واحتجوا لما ذهبوا إليه مما ذكرنا عنهم بحديث ابن عباس عن النبي عليه السلام وهو ما حدثناه أبو القاسم خلف بن القاسم قال حدثنا أحمد بن محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس قال حدثنا أبو معن ثابت بن نعيم قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا شعبة عن محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس قال "لعن رسول الله الزائرات للقبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".

وحدثنا أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن عبد السلام قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس قال "لعن رسول الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وحدثناه محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا عبد الوارث عن محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره سواء

قال أبو عمر  : ممكن أن يكون هذا قبل الإباحة وتوقى ذلك للنساء المتجالات أحب إلي فأما الشواب فلا تؤمن الفتنة عليهن وبهن حيث خرجن ولا شيء للمرأة أفضل من لزوم قعر بيتها ولقد كره أكثر العلماء خروجهن إلى الصلوات فكيف إلى المقابر وما أظن سقوط فرض الجمعة عنهن إلا دليلا على أمساكهن عن الخروج فيما عداها والله أعلم.

واحتج من أباح زيارة القبور للنساء بما حدثناه عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال حدثنا الحسن بن داود قال حدثنا أبو بكر الأثرم قال حدثنا محمد بن المنهال قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا بسطام ابن مسلم عن أبي التياح يزيد بن حميد عن عبد الله بن أبي مليكة "أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها يا أم المؤمنين من أين أقبلت قالت من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت لها أليس كان رسول الله نهى عن زيارة القبور قالت نعم كان نهى عن زيارتها ثم أمر بزيارتها".

قال أبو بكر وحدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان بن جريج عن بن أبي مليكة قال "زارت عائشة قبر أخيها في هودج"

قال أبو بكر وحدثنا مسدد قال حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال "كانت فاطمة بنت رسول الله تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلمته بصخرة".

قال أبو بكر وسمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يسأل عن المرأة تزور القبر فقال أرجو إن شاء الله أن لا يكون به بأس عائشة زارت قبر أخيها قال ولكن حديث ابن عباس أن النبي لعن زوارات القبور ثم قال هذا أبو صالح ماذا كأنه يضعفه ثم قال أرجو إن شاء الله عائشة زارت قبر أخيها قيل لأبي عبد الله فالرجال قال أما الرجال فلا بأس به

قال أبو عمر  : قد روي حديث لعن زوارات القبور من غير رواية أبي صالح ومن غير حديث ابن عباس حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا عبد الملك بن بحر قال حدثنا موسى بن هارون قال حدثنا العباس بن الوليد قال حدثنا أبو عوانة عن عمر

بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال "لعن رسول الله زوارات القبور" وبه عن موسى بن هارون قال حدثنا العباس بن الوليد قال حدثنا عبد الجبار بن الورد قال سمعت بن أبي مليكة يقول "ركبت عائشة فخرج إلينا غلامها فقلت أين ذهبت أم المؤمنين قال ذهبت إلى قبر أخيها عبد الرحمن تسلم عليه"

حديث ثاني عشر لربيعة مرسل

مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم "أن رسول الله قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية وهي من ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة" هكذا هو في الموطأ عند جميع الرواة مرسلا ولم يختلف فيه عن مالك.

وهذا الحديث رواه الدراوردي عن ربيعة بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه.

حدثنا إبراهيم بن شاكر ومحمد بن إبراهيم قالا حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن أيوب قال حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال حدثنا يوسف بن سليمان قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ربيعة فذكره.

ورواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن النبي عليه السلام وكثير مجتمع على ضعفه لا يحتج بمثله ذكره البزار ولفظه عن النبي أنه أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث يصلح الزرع من مدهن ولم يعطه حق مسلم

رواه أبو يونس عن كثير عن أبيه عن جده وعن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس وليس يرويه عن أبي أويس عن ثور وانفرد أبو سبرة المدني عن مطرف عن مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن بلال بن الحارث بمثله سواء ولم يتابع أبو سبرة على هذا الإسناد وإسناد ربيعة فيه صالح حسن وهو حجة لمالك ومن ذهب مذهبه في المعادن.

واختلف العلماء فيما يخرج من المعادن فقال مالك لا شيء فيما يخرج من المعادن غير الذهب والفضة ولا شيء فيما يخرج منها من الذهب والفضة حتى يكون الذهب عشرين مثقالا والفضة مائتي درهم فيجب فيها الزكاة مكانها وما زاد فبحساب ذلك ما دام في المعدن نيل فإن انقطع ثم جاء بعد ذلك نيل فإنه يتبدا فيه مقدار الزكاة مكانه قال والمعدن بمنزلة الزرع لا ينتظر به حول قال وما وجد في المعدن من الذهب والفضة من غير كبير عمل فهو بمنزلة الركاز فيه الخمس قال والمعدن في أرض العرب والعجم سواء قال والمعدن في أرض الصلح لأهلها لهم أن يصنعوا فيها ما شاءوا ويصالحون لمن أذنوا له فيه على ما شاءوا من خمس أو غيره قال وما افتتح عنوة فهو إلى السلطان يصنع بها ما شاء.

واختلف قول الشافعي فيما يخرج من المعادن فمرة يقول بقول مالك في ذلك ومرة يقول بما يخرج منها فائدة يستأنف بها حول وهو قول الليث بن سعد.

وقال الأوزاعي في ذهب المعدن وفضته الخمس ولا شيء فيما يخرج منه غيرهما.

وقال أبو حنيفة وأصحابه في الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص الخمس واختلف قوله أعني أبا حنيفة في الزئبق يخرج في المعادن فمرة قال فيه الخمس ومرة قال ليس فيه شيء كالقار والنفط.

وقد أوضحنا هذه المسألة في باب ابن شهاب عند قوله "والمعدن جبار وفي الركاز الخمس" وتقصينا القول فيها هنالك والحمد لله

باب الزاي زيد بن أسلم

مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قال أبو عمر  : زيد بن أسلم يكنى أبا أسامة وأبوه أسلم يكنى أبا خالد بابنه خالد بن أسلم وهو من سبي عين التمر وهو أول سبي دخل المدينة في خلافة أبي بكر بعث به خالد بن الوليد فأسلموا وأنجبوا كلهم منهم حمران بن أبان ويسار مولى قيس بن مخرمة وأفلح مولى أبي أيوب وأسلم مولى عمر.

وكان أسلم من جلة الموالي علما ودينا وثقة.

وزيد بن أسلم أحد ثقات أهل المدينة وكان من العلماء العباد الفضلاء وزعموا أنه كان أعلم أهل المدينة بتأويل القرآن بعد محمد بن كعب القرظي.

وقد كان زيد بن أسلم يشاور في زمن القاسم وسالم

روى ابن وهب قال أخبرني أسامة بن زيد بن أسلم أنه كان جالسا عند أبيه إذ أتاه رسول من النصارى وكان أميرا لهم فقال إن الأمير يقول لك كم عدة الأمة تحت الحر وكم طلاقه إياها وكم عدة الحرة تحت العبد وكم طلاقه إياها

قال أبي عدة الأمة المطلقة حيضتان وطلاق الحر الأمة ثلاث وطلاق العبد الحرة تطليقتان وعدتها ثلاث حيض ثم قام الرسول فقال أبي إلى أين تذهب فقال أمرني أن آتي القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله فأسألهما فقال أبي أقسمت عليك إلا ما رجعت إلي فأخبرتني بما يقولان لك قال فذهب ثم رجع فأخبره أنهما قالا كما قال وقال الرسول قالا قل له ليس في كتاب الله ولا سنة من رسول الله ولكن عمل به المسلمون.

وقال مالك كان زيد بن أسلم من العلماء الذين يخشون الله وكان ينبسط إلي وكان يقول "ابن آدم اتق الله يحبك الناس وإن كرهوا"

قال أبو عمر  : توفي زيد بن أسلم سنة ست وثلاثين ومائة في عشر ذي الحجة وفي هذه السنة استخلف أبو جعفر المنصور

وكان علي بن حسين بن علي يتخطى الخلق إلى زيد بن أسلم وكان نافع بن جبير يثقل ذلك عليه فرآه ذات يوم يتخطى إليه فقال أتتخطى مجالس قومك إلى عبد آل عمر بن الخطاب فقال علي بن حسين إنما يجالس الرجل من ينفعه في دينه.

وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يدني زيد بن أسلم ويقربه ويجالسه وحجب الأحوص الشاعر يوما فقال :

خليلي أبا حفص هل أنت مخبري…..أفي الحق أن أقصى ويدني ابن أسلما

فقال عمر ذلك الحق .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن عمرو القاضي المالكي قال حدثنا محمد بن علي قال حدثنا بن أبي شيبة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الخزاعي قال أخبرني زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال "لما وضع مالك الموطأ جعل أحاديث زيد بن أسلم في آخر الأبواب فأتيته فقلت أخرت أحاديث زيد بن أسلم جعلتها في آخر الأبواب فقال إنها كالسراج تضيء لما قبلها"

لمالك عن زيد بن اسلم من مرفوعات الموطأ أحد وخمسون حديثا :

منها مسندة ثلاثة وعشرون حديثا ومنها حديث منقطع : قصة معاوية مع أبي الدرداء تتمة أربعة وعشرين.

ومنها مرسلة سبعة وعشرون حديثا : من مراسيل سعيد بن المسيب واحد ومن مراسيل عطاء بن يسار خمسة عشر ومن مراسليه عن نفسه أحد عشر حديثا

حديث أول لزيد بن أسلم مسند صحيح عن ابن عمر

مالك عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم كلهم يخبره عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال "لا ينظر الله عز وجل يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء"

قال أبو عمر  : الخيلاء : التكبر وهي الخيلاء والمخيلة يقال منه رجل خال ومختال شديد الخيلاء وكل ذلك من البطر والكبر والله لا يحب المتكبرين ولا يحب كل مختال فخور.

وهذا الحديث يدل على أن من جر إزاره من غير خيلاء ولا بطر أنه لا يلحقه الوعيد المذكور غير أن جر الإزار والقميص وسائر الثياب مذموم على كل حال.

وأما المستكبر الذي يجر ثوبه فهو الذي ورد فيه ذلك الوعيد الشديد

يروى عن النبي عليه السلام فيما يحكي عن ربه عز وجل أنه قال "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري من نازعني واحدة منهما أدخلته النار".

روى كريب بن إبراهيم عن أبي ريحانة سمعه يقول "سمعت رسول الله يقول لا يدخل شيء من الكبر الجنة".

وترك التكبر واجب فرضا وهيئة اللباس سنة.

قال "أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بين ذلك إلى الكعبين ما أسفل من ذلك ففي النار".

يعني أن هذا مستحق من فعل ذلك وهو عالم بالنهي مستخف بما جاءه عن نبيه وإن عفا الله عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة

ومما يدل على أن جر الإزار مذموم على كل حال ما ذكره أبو زرعة قال حدثنا محمد بن أبي عمر عن سفيان بن عيينة أنه أخبرهم عن زيد بن أسلم قال سمعت عبد الله بن عمر يقول لابن ابنه عبد الله بن واقد "يا بني ارفع إزارك فإني سمعت رسول الله يقول لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء".

ألا ترى أن ابن عمر لم يقل لابن ابنه هل تجره خيلاء بل أرسل ذلك إرسالا خوفا منه أن يكون ذلك خيلاء ولو صح أنه ليس خيلاء لدينه إن شاء الله.

وذكر الحسن الحلواني قال حدثنا خالد بن خداش قال حدثنا حماد بن زيد قال كان قميص أيوب يسم الأرض هروي جيد.

وقد زعم أبو جعفر الطحاوي أن زيد بن أسلم لم يسمع من ابن عمر وهذا غلط وقد بان لك في حديث ابن عيينة هذا سماعه ومما يدل على ذلك أيضا ما ذكره ابن وهب في كتاب المجالس قال أخبرنا ابن زيد عن أبيه أن أباه أسلم أرسله إلى عبد الله بن عمر يكتب له إلى قيمه بخيبر أن يصنع له خصفتين للأقط قال فجئته فقلت أألج فقال أدخل فلما دخلت قال مرحبا بابن أخي لا تقل أألج ولكن قل السلام عليكم فإذا قالوا وعليك فقل آدخل فإذا قالوا أدخل فادخل فقال له زيد إن أبي يقرأ عليك السلام ويقول أكتب إلى قيمك بخيبر أن يصنع له خصفتين للأقط فقال نعم وكرامة اكتب يا غلام فكتب إلى قيمه يأمره أن يصنع لي خصفتين جيدتين حسنتين فلم يأل قال زيد فبينما هو يكتب إذ دخل عليه عبد الله ابن واقد بن ابنه وهو ملتحف مرخ ثوبه فقال له ارفع ثوبك فرفع فقال ارفع فرفع فقال ارفع فرفع وقال إن في رجلي قروحا فقال وإن فإني سمعت رسول الله يقول "لا ينظر الله عز وجل إلى من يجر ثوبه الخيلاء يوم القيامة".

وهذا واضح في كراهية ابن عمر لجر الإنسان ثوبه على كل حال لأن عبد الله بن واقد أخبره أن في رجليه قروحا فقال وإن

وقد روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة لم يختلفوا فيه منهم نافع وسالم وعبد الله بن دينار وعبد الله بن واقد وزيد بن أسلم ومحارب بن دثار وجبير بن أبي سليمان وغيرهم.

ورواه عن النبي جماعة منهم ابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري.

حدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري قال حدثني جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم وزعم أنه كان جالسا مع ابن عمر إذ مر به فتى شاب عليه جبة صنعانية يجرها مسبلا فقال يا فتى هلم فقال له الفتى ما حاجتك يا أبا عبد الرحمن قال ويحك أتحب أن ينظر الله إليك يوم القيامة قال سبحان الله وما يمنعني من ذلك قال إني سمعت رسول الله يقول "لا ينظر الله إلى عبد يوم القيامة يجر إزاره خيلاء" قال فلم ير الفتى إلا مشمرا بعد ذلك اليوم حتى مات

وقد ظن قوم أن جر الثوب إذا لم يكن خيلاء فلا بأس به واحتجوا لذلك بما حدثناه عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا البخاري قال أخبرنا ابن مقاتل قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله عن عبد الله ابن عمر قال قال رسول الله "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر إن أحد شقي ليسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال رسول الله "إنك لست تصنع ذلك خيلاء".

قال موسى قلت لسالم أذكر عبد الله من جر إزاره قال لم أسمعه إلا ذكر ثوبه وهذا إنما فيه أن أحد شقي ثوبه يسترخي لا أنه تعمد ذلك خيلاء.

فقال له رسول الله لست ممن يرضى ذلك ولا يتعمده ولا يظن بك ذلك وقد مضى ما فيه كفاية في هذا المعنى وسنزيده بيانا في باب العلاء إن شاء الله.

وذكر موسى بن هارون الحمال قال حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا أبو معشر عن أبي حازم قال إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى عبد يجر ثوبه من الخيلاء حتى يضع ذلك الثوب وإن كان الله يحب ذلك العبد

قال أبو عمر  : روى زيد بن أسلم عن ابن عمر أحاديث منها هذا.

ومنها حديث ابن عمر عن صهيب عن النبي في رد السلام في الصلاة بالإشارة.

ومنها : إن من البيان لسحرا.

ومنها : من نزع يدا من طاعة.

ومنها : في حل الأزرار.

ومنها : تشقيق الكلام من الشيطان.

كلها عن النبي عليه السلام وكلها سمعها زيد بن أسلم من عبد الله بن عمر.

ولم يذكر في هذا الموضع من هذا الكتاب حديث مالك عن زيد بن أسلم عن ابن عمر عن النبي عليه السلام خطب رجلان فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله "إن من البيان لسحرا" أو إن بعض البيان لسحر.

وذكرناه في مراسل زيد بن أسلم من هذا الكتاب لأن يحيى أرسله ولم يذكر فيه ابن عمر ولم يتابع يحيى على ذلك والله أعلم.

حديث ثان لزيد بن أسلم مسند حسن عن جابر

قال أبو عمر  : قال قوم : لم يسمع زيد بن أسلم من جابر بن عبد الله وقال آخرون سمع منه وسماعه من جابر غير مدفوع عندي وقد سمع من ابن عمر وتوفي ابن عمر قبل جابر بن عبد الله بنحو أربعة أعوام.

توفي جابر سنة ثمان وسبعين وتوفي ابن عمر سنة أربع وسبعين.

مالك عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال "خرجنا مع رسول الله في غزوة بني أنمار قال جابر فبينا أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله قال فقلت يا رسول الله هلم إلى الظل قال فنزل رسول الله فقمت إلى غرارة لنا فالتمست فيها فوجدت جرو قثاء فكسرته ثم قربته إلى رسول الله فقال من أين لكم هذا فقلت خرجنا به يا رسول الله من المدينة قال جابر وعندنا صاحب لنا نجهزه يذهب يرعى ظهرنا قال فجهزته ثم أدبر يذهب في الظهر وعليه بردان له قد خلقا قال فنظر رسول الله فقال أما له ثوبان غير هذين فقلت بلى يا رسول الله ثوبان في العيبة كسوته إياهما قال فادعه فمره فيلبسهما قال فدعوته فلبسهما ثم ولى يذهب قال فقال رسول الله ما له ضرب الله عنقه أليس هذا خيرا قال فسمعه الرجل فقال يا رسول الله في سبيل الله فقال رسول الله في سبيل الله فقتل الرجل في سبيل الله".

هكذا هذا الحديث في الموطأ لم يختلف فيه الرواة.

وقد حدث أبو نعيم الحلبي عبيد بن هشام عن ابن المبارك عن مالك بحديث هو عندهم خطأ إن أراد حديث زيد بن أسلم هذا.

حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أبو الحسين علي بن الحسين بن بندار قال حدثنا أبو عثمان سعيد بن عبد العزيز قال حدثنا أبو نعيم فلهذا قال حدثنا ابن المبارك عن مالك عن محمد بن المنكدر عن أنس "أن النبي قال لرجل يا فلان ضرب الله عنقك قال في سبيل الله يا رسول الله قال في سبيل الله قال وهي كانت نية رسول الله ".

رواه عن أبي نعيم الحلبي جماعة هكذا بهذا الإسناد منهم أبو عمران موسى بن محمد الأنطاكي وسعيد بن عبد العزيز بن مروان الحلبي.

في هذا الحديث إباحة طلب الظل والراحة وإن الوقوف للشمس مع وجود الظل ليس من البر في غزو كان ذلك أو غيره لأنهم كانوا غازين مجاهدين حينئذ.

وفيه الخروج بالزاد وفي ذلك رد على من قال من الصوفية لا يدخر لغد.

وفيه إكرام الرجل الجليل السيد بيسير الطعام وقبول الجلة ليسير ما يدعون إليه.

وفيه أن للرجل أن يسأل من أين هذا الطعام إذا خاف منه شيئا أو خاف من صاحب غفلة لمعنى معهود فينبهه على ذلك وكان جابر يومئذ حدثا والله أعلم بمعنى سؤال رسول الله إياه عن ذلك ولم يكن جابر ممن يتهم ولكن رسول الله بعث معلما .

وفيه أن من وسع الله عليه لم يجز له إدمان لبس الخلق من الثياب وقال "إذا أنعم الله على عبد بنعمة أحب أن يرى أثرها عليه".

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم جمع الرجل عليه ثيابه" .

حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن العباس الحلبي قال حدثنا علي بن عبد الحميد الغضائري قال حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثني أبي عن أشعث عن بكر المزني عن ابن عمر عن النبي قال "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"

وهذا الحديث يعارض ما روي عن النبي انه قال "البذاذة من الإيمان".

والبذاذة : رثاثة الهيئة.

وفيه إباحة الكلام بالمعاريض وبما فحواه يسمع إذا كان المتكلم به يريد به وجها محمودا ألا ترى إلى قوله ماله ضرب الله عنقه وهو يريد بذلك الشهادة له وكان قلما يقول مثل هذا إلا كان كما قال.

ألا ترى إلى ما روي عن أصحاب رسول الله أنهم قالوا حين بعث رسول الله بعثة إلى مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة فقال "إن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة قالوا فلما قال ذلك علمنا أنهم سيقتلون".

ومثل هذا ما حدثناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا هاشم بن القاسم قال حدثنا عكرمة بن عمار قال حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع قال أخبرني أبي في حديث ذكره "أن عامر بن الأكوع حين خرج إلى خيبر جعل يرتجز بأصحاب رسول الله وفيهم النبي فجعل يسوق بهم الركاب وهو يقول :

تالله لولا الله ما اهتدينا...ولا تصدقنا ولا صلينا

إن الذين قد بغوا علينا...إذا أرادوا فتنة أبينا

ونحن عن فضلك ما استغنينا...فثبت الأقدام أن لا قينا

وأنزلن سكينة علينا

فقال رسول الله من هذا قالوا عامر يا رسول الله قال غفر لك ربك قال وما استغفر لإنسان قط يخصه إلا استشهد".

قال فلما سمع ذلك عمر بن الخطاب قال "يا رسول الله لو متعتنا بعامر فقام عامر إلى الحرب فبارزه مرحب اليهودي فاستشهد" وذكر تمام الحديث ألا ترى إلى قوله وما استغفر لإنسان يخصه إلا استشهد وإلى قول عمر لو متعتنا بعامر وهذا كله في معنى قوله ماله ضرب الله عنقه.

وفيه إجابة دعوة رسول الله ودعاؤه كله عندنا مجاب إن شاء الله.

وسيأتي القول في معنى حديثه "فاختبأت دعوتي شفاعة لأمتي" في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى

حديث ثالث لزيد بن أسلم متصل صحيح مسند

مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول "حملت على فرس عتيق في سبيل الله وكان الرجل الذي هو عنده قد أضاعه فأردت أن أشتريه منه وظنت أنه بائعه برخص فسألت عن ذلك رسول الله فقال لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه".

روى هذا الحديث ابن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر مثله وقال فيه لا تشتره ولا شيئا من نتاجه ذكره الشافعي والحميدي عن ابن عيينة

قال أبو عمر  : الفرس العتيق هو الفاره عندنا وقال صاحب العين عتقت الفرس تعتق إذا سبقت وفرس عتيق رائع.

وفي هذا الحديث من الفقه إجازة تحبيس الخيل في سبيل الله

وفيه إن حمل على فرس في سبيل الله وغزا به فله أن يفعل به بعد ذلك ما يفعل في سائر ماله ألا ترى أن رسول الله لم ينكر على بائعه بيعه وأنكر على عمر شراءه ولذلك قال ابن عمر إذا بلغت به وادي القرى فشأنك به.

وقال سعيد بن المسيب إذا بلغ به رأس مغزاته فهو له.

ويحتمل أن يكون هذا الفرس ضاع حتى عجز عن اللحاق بالخيل وضعف عن ذلك ونزل عن مراتب الخيل التي يقاتل عليها فأجيز له بيعه لذلك.

ومن أهل العلم من يقول يضع ثمنه ذلك في فرس عتيق إن وجده وإلا أعان به في مثل ذلك.

ومنهم من يقول : أنه له كسائر ماله إذا غزا عليه.

وأما اختلاف الفقهاء في هذا المعنى فقال مالك إذا أعطى فرسا في سبيل الله فقيل له هو لك في سبيل الله فله أن يبيعه وإن قيل هو في سبيل الله ركبه ورده.

وقال الشافعي وأبو حنيفة : الفرس المحمول عليها في سبيل الله هي لمن يحمل عليها تمليك قالوا ولو قال له إذا بلغت به رأس مغزاك فهو لك كان تمليكا على مخاطرة ولم يجز.

وقال الليث بن سعد : من أعطى فرسا في سبيل الله لم يبعه حتى يبلغ مغزاه ثم يصنع به ما شاء إلا أن يكون حبسا فلا يباع.

وقال عبيد الله بن الحسن : إذا قال هو لك في سبيل الله فرجع به رده حتى يجعله في سبيل الله

وسيأتي هذا في باب نافع والحمد لله.

وفيه أن كل من يجوز تصرفه في ماله وبيعه وشراؤه فجائز له بيع ما شاء من ماله بما شاء من قليل الثمن وكثيره كان مما يتغابن الناس به أو لم يكن إذا كان ذلك ماله ولم يكن وكيلا ولا وصيا لقوله في مثل هذا الحديث ولو أعطاكه بدرهم.

واختلف الفقهاء في كراهية شراء الرجل لصدقته الفرض والتطوع إذا أخرجها عن يده لوجهها ثم أراد شراءها من الذي صارت إليه.

فقال مالك : إذا حمل على فرس فباعه الذي حمل عليه فوجده الحامل في يد المشتري فلا يشتره أبدا وكذلك الدراهم والثوب

قال أبو عمر  : ذكره ابن عبد الحكم عنه وقال في موضع آخر من كتابه ومن حمل على فرس فباعه ثم وجده الحامل في يد الذي اشتراه فترك شرائه أفضل

قال أبو عمر  : كره ذلك مالك والليث والحسن بن حي والشافعي

ولم يروا لأحد أن يشتري صدقته فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخوا العقد ولم يردوا البيع ورأوا التنزه عنها.

وكذلك قولهم في شراء الإنسان ما يخرجه من كفارة اليمين مثل الصدقة سواء

قال أبو عمر  : إنما كرهوا بيعها لهذا الحديث ولم يفسخوها لأنها راجعة إليه بغير ذلك المعنى وقد بينا هذا الحديث في قصة هدية بريرة بما تصدق به عليها.

ويحتمل هذا الحديث أن يكون على وجه التنزه وقطع الذريعة إلى بيع الصدقة قبل إخراجها أو يكون موقوفا على التطوع في التنزه.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي لا بأس لمن أخرج زكاته وكفارة يمينه أن يشتريه بثمن يدفعه إليه.

وقال أبو جعفر الطحاوي المصير إلى حديث عمر في الفرس أولى من قول من أباح شراء صدقته.

وقال قتادة البيع في ذلك فاسد مردود لأني لا أعلم الفيء إلا حراما.

وكل العلماء يقولون : إذا رجعت إليه بالميراث طابت له إلا ابن عمر فإنه كان لا يحبسها إذا رجعت إليه بالميراث

وتابعه الحسن بن حي فقال إذا رجعت إليه بالميراث وجهها فيما كان وجهها فيه إذا كانت صدقة.

وأما الهبة فلا يكره الرجوع فيها

قال أبو عمر  : يحتمل فعل ابن عمر في رد ما رجع إليه من صدقاته بالميراث أن يكون على سبيل الورع والتبرع لأنه كان يرى ذلك واجبا عليه وكثيرا ما كان يدع الحلال ورعا.

ولعله لم يصح عنده ما روي عن رسول الله في ذلك ولم يعلمه وقد وردت السنة الثابتة عن رسول الله بإباحة ما رده الميراث من الصدقات.

وقد ذكرناها في باب ربيعة في قصة لحم بريرة وأوضحنا المعنى في ذلك بما لا وجه لإعادته ها هنا.

وأكل رسول الله ما أهدى إليه من الصدقة وقوله أن الصدقة تحل لمن اشتراها بماله من الأغنياء يوضح ما ذكرنا لأن الصدقة لا تحل لغني إلا لخمسة أحدهم رجل اشتراها بماله فكما جاز له أن يشتريها بماله وهي صدقة غيره فكذلك شراء صدقته لأن الشراء لها ليس برجوع فيها في المعنى على ما بينا في قصة لحم بريرة وإنما الرجوع فيها أن يتصرف فيما فعله من صدقته أو هبته دون أن يبتاع ذلك ولكن حديث عمر هذا أولى أن يوقف عنده لأنه خص المتصدق بها فنهي عن شرائها وذلك نهي تنزه إن شاء الله.

وأما قوله عليه السلام "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة" فسيأتي ذكره فيما يأتي من حديث زيد بن أسلم من كتابنا هذا وبالله توفيقنا.

حديث رابع لزيد بن أسلم مسند يجري مجرى المتصل

مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه "أن رسول الله كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك قال عمر فحركت بعيري حتى إذا كنت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي قال فقلت لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن قال فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال أنزل علي هذه الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}.

هذا الحديث عندنا على الاتصال لأن أسلم رواه عن عمر

وسماع أسلم من مولاه عمر رضي الله عنه صحيح لا ريب فيه وقد رواه محمد بن حرب عن مالك كما ذكرنا .

أخبرنا خلف بن القاسم وعلي بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا محمد بن زريق بن جامع وحدثنا عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا الحسن بن علي بن داود قال حدثنا محمد بن زيان قالا حدثنا عبدة بن عبد الرحيم المروزي قال أخبرنا محمد بن حرب عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر "أن رسول الله كان يسير في بعض أسفاره وعمر يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثلاثا فقال عمر ثكلتك أمك عمر نزرت رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك قال عمر فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي قال فقلت له لقد خشيت أن يكون ينزل في قرآن فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال لي لقد أنزل الله علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}".

وهكذا رواه مسندا روح بن عبادة ومحمد بن خالد بن عثمة جميعا أيضا عن مالك كرواية محمد بن حرب سواء ذكره النسائي عن محمد بن عبد الله بن المبارك.

في هذا الحديث السفر بالليل والمشي على الدواب بالليل وذلك عند الحاجة مع استعمال الرفق لأنها بهائم عجم وقد أمر رسول الله بالرفق بها والإحسان إليها وفيه أن العالم إذا سئل عن شيء لا يجب الجواب فيه أن يسكت ولا يجيب بنعم ولا بلا ورب كلام جوابه السكوت.

وفيه من الأدب أن سكوت العالم عن الجواب يوجب على المتعلم ترك الإلحاح عليه.

وفيه الندم على الإلحاح على العالم خوف غضبه وحرمان فائدته فيما يستأنف وقلما أغضب عالم إلا احترمت فائدته.

قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علما .

وفيه ما كان عمر عليه من التقوى والوجل لأنه خشي أن يكون عاصيا بسؤاله رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبه إذ المعهود إن سكوت المرء عن الجواب وهو قادر عليه عالم به دليل على كراهية السؤال.

وفيه ما يدل على أن السكوت عن السائل يعز عليه وهذا موجود في طباع الناس ولهذا أرسل رسول الله في عمر يؤنسه ويبشره والله أعلم.

وفيه أوضح الدليل على منزلة عمر من قلب رسول الله موضعه منه ومكانته عنده.

وفيه أن غفران الذنوب خير للإنسان مما طلعت عليه الشمس لو أعطي ذلك وذلك تحقير منه للدنيا وتعظيم للآخرة وهكذا ينبغي للعالم أن يحقر ما حقر الله من الدنيا ويزهد فيها ويعظم ما عظم الله من الآخرة ويرغب فيها.

وإذا كان غفران الذنوب للإنسان خيرا مما طلعت عليه الشمس ومعلوم أن رسول الله لم يكفر عنه إلا الصغائر من الذنوب لأنه لم يأت قط كبيرة لا هو ولا أحد من أنبياء الله لأنهم معصومون من الكبائر صلوات الله عليهم فعلى هذا الصلوات الخمس خير للإنسان من الدنيا وما فيها لأنها تكفر الصغائر وبالله التوفيق.

وفيه أن نزول القرآن كان حيث شاء الله من حضر وسفر وليل ونهار.

والسفر المذكور في هذا الحديث الذي نزلت فيه سورة الفتح منصرفه من الحديبية لا أعلم بين أهل العلم في ذلك خلافا

قال أبو عمر  : قال معمر عن قتادة نزلت عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية فقال النبي قد نزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض ثم قرأ عليهم فقالوا هنيئا مريئا يا رسول الله قد بين الله لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إلى قوله {فَوْزاً عَظِيماً}.

وقال ابن جريج نحو ذلك وزاد فنزل ما في الأحزاب {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} وأنزل {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} الآيتين إلى قوله {غَفُوراً رَحِيماً}.

وقال غير ابن جريج فقال المنافقون وماذا يفعل بنا فنزلت {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ونزلت وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} إلى قوله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.

فقال عبد الله بن أبي وأصحابه يزعم محمد أنه غفر له ذنبه وإن يفتح الله عليه وينصره نصرا عزيزا هيهات هيهات الذي بقي له أكثر فارس والروم أيظن محمد أنهم مثل من نزل بين ظهريه فنزلت {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} بأنه لا ينصر فبئس ما ظنوا ونزلت {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية

قال أبو عمر  : اختلف أهل العلم في قوله {فَتْحاً مُبِيناً}.

فقال قوم : خيبر.

وقال قوم : الحديبية منحره وحلقه.

وقال ابن جريج {فَتَحْنَا لَكَ} حكمنا لك حكما بينا حين ارتحل من الحديبية راجعا قال وقد كان شق عليهم أن صدوا عن البيت.

وقال {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقال أوله وآخره.

{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} قال يريد بذلك فتح مكة والطائف وحنين العرب ولم يكن بقي في العرب غيرهم.

وقال قتادة ومجاهد {فَتَحْنَا لَكَ} قضينا لك قضاء مبينا منحره وحلقه بالحديبية ذكره معمر عن قتادة وذكره ورقاء عن بن أبي نجيح عن مجاهد.

وروى شعبة عن قتادة عن أنس {فَتْحاً مُبِيناً} قال : الحديبية.

وذكر وكيع عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس قال خيبر وكذلك اختلف في ذلك قول مجاهد أيضا

وأما قوله في الحديث نزرت رسول الله فقال ابن وهب معناه أكرهت رسول الله بالمسألة أي أتيته بما يكره.

وقال ابن حبيب معناه ألححت وكررت السؤال وأبرمت رسول الله .

وذكر حبيب عن مالك قال نزرت : راجعته.

وقال الأخفش : نزرت : وأنزرت البئر أكثرت الاستقاء منها حتى يقل ماؤها قاله أبو عمر ودفع نزور أي يأتي منها الشيء منقطعا قال ومعنى هذا الحديث أنه سأله حتى قطع عنه كلامه لأنه تبرم به

حديث خامس لزيد بن أسلم متصل صحيح مسند

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج كلهم يحدثه عن أبي هريرة أن رسول الله قال "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"

قال أبو عمر  : عطاء بن يسار قد تقدم ذكره والخبر عنه في باب إسماعيل بن أبي حكيم وذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا أحمد ابن صالح قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا أبو صخرعن هلال بن أسامة قال "كان عطاء بن يسار إذا جلس يكون زيد بن أسلم عن يمينه وكنت عن يساره".

وأما بسر بن سعيد فإنه كان مولى لحضر موت من أهل المدينة وكان ثقة فاضلا مسنا سمع سعد بن أبي وقاص وجالسه كثيرا ولم ينكر يحيى القطان أن يكون سمع زيد بن ثابت.

قال علي بن المديني قلت ليحيى بن سعيد يعني القطان بسر بن سعيد لقي زيد بن ثابت قال وما تنكر أن يكون لقيه قلت قد روى عن أبي صالح عبيد مولى السفاح عن زيد بن ثابت فقال قد روى سفيان عن رجل عن عبد الله

قال أبو عمر  : الحديث الذي رواه بسر بن سعيد عن أبي صالح عبيد مولى السفاح عن زيد بن ثابت وهو حديث عجل لي وأضع عنك ذكره مالك وغيره.

وكان مالك رحمه الله يثني على بسر بن سعيد ويفضله ويرفع به في ورعه وفضله

وذكر علي بن المديني قال سمعت يحيى بن سعيد يقول بسر بن سعيد أحب إلي من عطاء بن يسار.

قال يحيى كان بسر بن سعيد يذكر بخير بسر بن سعيد مولى الحضرميين كان من أهل الفضل روى عن أصحاب النبي عليه السلام. مات في خلافة عمر بن عبد العزيز.

وأما الأعرج فهو عبد الرحمن بن هرمز كان صاحب قرآن وحديث قرأ عليه نافع القارئ وكان ثقة مأمونا قال مصعب بن عبد الله : عبد الرحمن بن هرمز الأعرج مولى محمد بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يكنى أبا داود.

روى عنه ابن شهاب وأبو الزناد ويحيى بن سعيد وغيرهم توفي بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومائة.

وقال المدائني مات أبو داود عبد الرحمن الأعرج مولى محمد بن ربيعة بالإسكندرية سنة تسع عشرة ومائة.

وأما أبو هريرة رضي الله عنه فمذكور في كتابنا في الصحابة بما يجب أن يذكر به وبالله التوفيق وقد قيل إن زيد بن أسلم روى هذا الحديث أيضا عن أبي صالح مع هؤلاء كلهم عن أبي هريرة.

وحدثني خلف بن القاسم قال حدثنا إبراهيم بن محمد الديلي قال حدثنا محمد بن علي ابن زيد الجوهري قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا حفص بن ميسرة الصنعاني عن زيد بن أسلم عن الأعرج وبسر بن سعيد وأبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله "من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فلم تفته ومن أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فلم تفته"

قال أبو عمر  : الإدراك في هذا الحديث إدراك الوقت لا أن ركعة من الصلاة من أدركها من ذلك الوقت أجزأته من تمام صلاته.

وهذا إجماع من المسلمين لا يختلفون في أن هذا المصلي فرض عليه واجب أن يأتي بتمام صلاة الصبح وتمام صلاة العصر فأغنى ذلك عن الإكثار وبان بذلك أن قوله فقد أدرك الصلاة يريد فقد أدرك وقت الصلاة إلا أن ثم أدلة تدل على أن الوقت المختار في هاتين الصلاتين غير ذلك الوقت منها قوله في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وآخر وقت العصر ما لم تصفر الشمس يعني آخر الوقت المختار لئلا تتعارض الأحاديث

ومثل ذلك حديث العلاء عن أنس مرفوعا "تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" وهذا التغليظ على من ترك اختيار رسول الله لأمته في الوقت ورغب عن ذلك ولم يكن له عذر مقبول.

والآثار في تعجيل العصر كثيرة جدا ومعناها كلها ما ذكرناه وبهذا كتب عمر بن الخطاب إلى عماله "أن صلوا العصر والشمس بيضاء نقية قبل أن تدخلها صفرة" هذا كله على الاختيار بدليل حديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب.

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد قال حدثنا الخضر قال حدثنا الأثرم قال قيل لأحمد بن حنبل قوله من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقال هذا على الفوات ليس على أن يترك العصر إلى هذا الوقت.

وذكر حديث قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله "ووقت العصر ما لم تصفر الشمس".

فالأوقات في ترتيب السنن والله أعلم وقتان.

في الحضر وقت رفاهية وسعة ووقت عذر ضرورة يبين لك ذلك ما ذكرنا من الآثار ويزيد لك في ذلك بيانا أقاويل فقهاء أئمة الأمصار فنذكر هنا أقاويلهم في وقت الصبح والعصر إذ لم يتضمن حديث هذا الباب ذكر غيرهما من الصلوات.

ونذكر في باب ابن شهاب عن عروة جملة مواقيت الصلاة ونبسط ذلك ونمهده هنالك إن شاء الله.

أجمع العلماء على أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر الثاني إذا تبين طلوعه وهو البياض المنتشر من أفق المشرق والذي لا ظلمة بعده.

وقد ذكرنا أسماء الفجر في اللغة وشواهد الشعر على ذلك والمعنى فيه عند الفقهاء في أول حديث من مراسيل عطاء ومن باب يزيد أيضا والحمد لله.

واختلفوا في آخر وقتها فذكر ابن وهب عن مالك قال وقت الصبح من حين يطلع الفجر إلى طلوع الشمس.

وقال ابن القاسم عن مالك وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة وآخر وقتها إذا أسفر

قال أبو عمر  : هذا عندنا على الوقت المختار لأن مالكا لم يختلف قوله فيمن أدرك ركعة منها قبل طلوع الشمس ممن له عذر في سقوط الصلاة عند خروج الوقت مثل الحائض تطهر ومن جرى مجراها أن تلك الصلاة واجبة عليها بإدراك مقدار ركعة من وقتها وإن صلت الركعة الثانية مع الطلوع أو بعده.

وقال الثوري آخر وقتها ما لم تطلع الشمس وكانوا يستحبون أن يسفروا بها ومثل قول الثوري قال أبو حنيفة وأصحابه.

وكذلك قال الشافعي آخر وقتها طلوع الشمس إلا أنه يستحب التغليس بها ولا تفوت عنده حتى تطلع الشمس قبل أن يصلي منها ركعة بسجدتيها فمن لم يكمل منها ركعة بسجدتيها قبل طلوع الشمس فقد فاتته.

وقال أحمد بن حنبل مثل قول الشافعي سواء قال وقت الصبح من طلوع الفجر إلى أن تطلع الشمس ومن أدرك منها ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدركها مع الضرورة وهذا كقول الشافعي سواء.

ولا خلاف بين العلماء في ذلك إلا أن منهم من جعل آخر وقتها إدراك ركعة منها قبل طلوع الشمس لضرورة وغير ضرورة وهو قول داود وإسحاق.

وأما سائر العلماء فجعلوا هذا وقتا لأصحاب العذر والضرورات وممن ذهب إلى هذا مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل

واختلفوا في أول وقت العصر وآخره فقال مالك أول وقت العصر إذا كان الظل قامة بعد القدر الذي زالت عنه الشمس ويستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروا ذلك قليلا قال وآخر وقتها أن يكون ظل كل شيء مثليه.

هذه حكاية ابن عبد الحكم وابن القاسم عنه وهذا عندنا على وقت الاختيار لأنه قد روي عنه أن لا خلاف عندنا في مدرك ركعة منها قبل الغروب ممن كانت الصلاة لا تجب عليه لو خرج وقتها لحالة كالمغمى عليه عنده والحائض ومن كان مثلهما تجب عليه صلاة العصر فرضا بإدراك مقدار ركعة منها قبل غروب الشمس فدل ذلك على أن وقتها عنده إلى غروب الشمس وكذلك ذكر ابن وهب أيضا عن مالك وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس.

وهذا عندنا أيضا على أصحاب الضرورات لأن رسول الله جمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما لضرورة السفر فكل ضرورة وعذر فكذلك وسنذكر وجه الجمع بين الصلاتين في السفر والمطر في باب أبي الزبير إن شاء الله.

وقد قال الأوزاعي إن ركع ركعة من العصر قبل غروب الشمس وركعة بعد غروبها فقد أدركها والصبح عنده كذلك قال الثوري أول وقت العصر إذا كان ظلك مثلك وإن أخرتها ما لم تغير الشمس أجزأك

وقال الشافعي أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله بشيء ما كان ومن أخر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته وقت الاختيار ولا يجوز أن يقال قد فاته وقت العصر مطلقا كما جاز على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله قال وإنما قلت ذلك لحديث أبي هريرة عن النبي من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها

قال أبو عمر  : قول الشافعي ها هنا في وقت الظهر ينفي الاشتراك بينها وبين العصر في ظاهر كلامه وهو شيء ينقضه ما بنى عليه مذهبه في الحائض تطهر والمغمى عليه يفيق والكافر يسلم والصبي يحتلم لأنه يوجب على كل واحد منهم إذا أدرك ركعة واحدة قبل الغروب أن يصلي الظهر والعصر جميعا وفي بعض أقاويله إذا أدرك أحد هؤلاء مقدار تكبيرة واحدة قبل الغروب لزمه الظهر والعصر جميعا.

فكيف يسوغ لمن هذا مذهبه أن يقول أن الظهر يفوت فواتا صحيحا بمجاوزة ظل كل شيء مثله أكثر من فوات العصر بمجاوزة ظل كل شيء مثليه.

وأما قوله في وقت العصر إذا جاوز ظل كل شيء مثليه فقد جاوز وقت الاختيار فهذا أيضا فيه شيء لأنه هو وغيره من العلماء يقولون من صلى العصر والشمس بيضاء نقية فقد صلاها في وقتها المختار لا أعلمهم يختلفون في ذلك

فقف على ما وصفت لك يتبين لك بذلك سعة الوقت المختار أيضا وبالله التوفيق.

قال أبو ثور أول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله بعد الزوال وزاد على الظل زيادة تتبين إلى أن تصفر الشمس وهو قول داود

قال أبو عمر  : أما قول الشافعي وأبي ثور في أن وقت العصر لا يدخل حتى يزيد الظل على القامة زيادة تظهر فمخالف لحديث إمامة جبريل عليه السلام لأن حديث إمامة جبريل يقتضي أن يكون آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر بلا فصل ولكنه مأخوذ من حديث أبي قتادة عن النبي أنه قال إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى.

وقد بينا اختلاف العلماء في هذا المعنى وذكرنا علل أقاويلهم فيه في باب ابن شهاب عن عروة من هذا الكتاب.

وقال أحمد بن حنبل في هذه المسألة مثل قول الشافعي أيضا قال وإذا زاد ظل كل شيء مثليه خرج وقت الاختيار ومن أدرك منها ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها قال وهذا مع الضرورة هذه حكاية الخزفي عنه.

وأما الأثر فقال سمعت أبا عبد الله يقول آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر قال لي ذلك غير مرة وسمعته يقول آخر وقت العصر تغير الشمس قيل له ولا تقل بالمثل والمثلين قال لا هذا أكثر عندي.

وقال أبو حنيفة لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه فخالف الآثار وجماعة العلماء في ذلك وجعل وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله وجعل بينهما واسطة ليست منهما وهذا لم يقله أحد هذه رواية أبي يوسف عنه.

وللحسين بن زياد اللؤلؤي أن الظل إذا صار مثله خرج وقت الظهر وإذا خرج تلاه وقت العصر إلى غروب الشمس

وقال أبو يوسف ومحمد وزفر آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شيء مثله وهو أول وقت العصر إلى أن تتغير الشمس.

وقال إسحاق بن راهويه آخر وقت العصر أن يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب وهو قول داود لكل الناس معذور وغير معذور والأفضل عندهما أول الوقت

قال أبو عمر  : فقد بان بما ذكرنا من أقاويل أئمة فقهاء الأمصار وما روينا من الآثار في هذا الباب أن أول الوقت منه مختار في الحضر للسعة والرفاهية ومنه وقت ضرورة وعذر ولا يلحق الإثم واللوم حتى يخرج الوقت كله والله أعلم.

وقد أفادنا قوله "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر", معاني ووجوها :

منها أن المدرك لركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس أو لركعة من العصر قبل غروبها كالمدرك لوقت الصبح ولوقت العصر الوقت الذي يأثم بالتأخير إليه كأنه قد أدرك الوقت من أوله وهذا لمن كان له عذر من نسيان أو ضرورة على ما قدمنا ذكره.

ومنها جواز صلاة من صلى ذلك الوقت فرضه ممن نام عن صلاة أو نسيها لأنه المراد بالخطاب المذكور والمأمور بالبدار إلى إدراك بقية الوقت وإن كان غيره يدخل في ذلك الخطاب بالمعنى فإن هذا هو المشار إليه فيه بالنص إن شاء الله والله أعلم

ومنها أنه أفادنا في حكم من أسلم من الكفار أو بلغ من الصبيان أو طهر من الحيض في ذلك الوقت أنه كمن أدرك الوقت بكماله في وجوب صلاة ذلك الوقت وتلزمه تلك الصلاة بكمالها كما لو أدرك وقتها من أوله ففرط فيها وكذلك حكم المسافر يقدم الحضر وحكم الحضري يخرج مسافرا في بقية من الوقت أو بعد دخول الوقت وحكم المغمى عليه يفيق.

وهذا الحديث أصل هذا الباب كله فقف عليه إلا أن الفقهاء اختلفوا هاهنا.

فذهب مالك وأصحابه إلى ظاهر هذا الحديث فقالوا من خرج مسافرا وقد بقي عليه من النهار مقدار ركعة بعد أن جاوز بيوت مصره أو قريته صلى العصر ركعتين ولو خرج وقد بقي عليه مقدار ثلاث ركعات ولم يكن صلى الظهر والعصر صلاهما جميعا مقصورتين.

وهذا عنده حكم المغرب والعشاء يراعي منهما مقدار ركعة من كل واحدة منهما على أصله فيمن سافر وقد بقي عليه مقدار ركعة أنه يقصر تلك الصلاة ولو قدم في ذلك الوقت من سفره أتم.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي إذا خرج من مصره قبل خروج الوقت صلى ركعتين وإن قدم قبل خروج الوقت أتم وهذا قول مالك.

وقال زفر : إن جاوز بيوت القرية والمصر ولم يبق من الوقت إلا ركعة فإنه مفرط وعليه أن يصلي العصر أربعا وإن قدم من سفره ودخل مصره ولم يبق من الوقت إلا ركعة أتم الصلاة

وقال الحسن بن حي والليث والشافعي إذا خرج بعد دخول الوقت أتم وكذلك إن قدم المسافر قبل خروج الوقت أتم وستأتي زيادة في هذا المعنى عن الشافعي والليث ومن تابعهما في آخر هذا الباب.

وأما اختلاف الفقهاء في صلاة الحائض والمغمى عليه ومن جرى مجراهما :

فقال مالك : إذا طهرت المرأة قبل الغروب فإن كان بقي عليها من النهار ما تصلي خمس ركعات صلت الظهر والعصر وإن لم يكن بقي من النهار ما تصلي خمس ركعات صلت العصر.

وإذا طهرت قبل الفجر وكان ما بقي عليها من الليل قدر ما تصلي أربع ركعات ثلاثا للمغرب وركعة من العشاء صلت المغرب والعشاء وإن لم يبق عليها إلا ما تصلي فيه ثلاث ركعات صلت العشاء ذكره أشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم وابن وهب عن مالك.

قال أشهب : وسئل مالك عن النصراني يسلم والمغمى عليه يفيق أهما مثل الحائض تطهر قال نعم يقضي كل واحد منهما ما لم يفت وقته وما فات وقته لم يقضه.

قال ابن وهب : سألت مالكا عن المرأة تنسى وتغفل عن صلاة الظهر فلا تصليها حتى تغشاها الحيضة قبل غروب الشمس

قال مالك لا أرى عليها قضاء إلا أن تحيض بعد غروب الشمس ولم تكن صلت الظهر والعصر رأيت عليها القضاء.

وقال مالك إذا طهرت قبل غروب الشمس فاشتغلت بالغسل فلم تزل مجتهدة حتى غربت الشمس لا أرى أن تصلي شيئا من صلاة النهار.

قال مالك إذا طهرت قبل غروب الشمس لا أرى أن تصلي شيئا من صلاة النهار وقال المرأة الطاهر تنسى الظهر والعصر حتى تصفر الشمس ثم تحيض فليس عليها قضاؤهما فإن لم تحض حتى غابت الشمس فعليها القضاء ناسية كانت أو متعمدة.

قال مالك : إذا رأت الطهر عند الغروب فأرى أن تغتسل فإن فرغت من غسلها قبل غروب الشمس فإن كان فيما أدركت ما تصلي الظهر وركعة من العصر فلتصل الظهر والعصر وإن كان الذي بقي من النهار ليس فيه إلا قدر صلاة واحدة صلت العصر وإن لم يكن بقي من النهار إلا قدر ركعة واحدة فلتصل تلك الركعة ثم تقضي ما بقي من تلك الصلاة.

وقال مالك من أغمي عليه في وقت صلاة فلم يفق حتى ذهب وقتها ظهرا كانت أو عصرا قال والظهر والعصر وقتهما في هذا إلى مغيب الشمس فلا إعادة عليه قال وكذلك المغرب والعشاء وقتهما الليل كله

وقول الليث بن سعد في الحائض والمغمى عليه كقول مالك هذا سواء.

وقال الأوزاعي وقد سئل عن الحائض تصلي ركعتين ثم تحيض وكيف وإن كانت أخرت الصلاة قال إن أدركها المحيض في صلاة انصرفت عنها ولا شيء عليها وإن كانت أخرت الصلاة ولم يذهب الوقت فلا شيء عليها.

قال وإذا طهرت المرأة بعد العصر فأخذت في غسلها فلم تفرغ منه حتى غابت الشمس فلا شيء عليها ذكره الوليد بن يزيد عن الأوزاعي.

وقال الشافعي إذا طهرت المرأة قبل مغيب الشمس بركعة أعادت الظهر والعصر وكذلك إن طهرت قبل الفجر بركعة أعادت المغرب والعشاء.

واحتج بقول النبي "من أدرك ركعة من الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وبجمعه بين الصلاتين في أسفاره وبعرفة وبالمزدلفة في وقت إحداهما يعني صلاتي الليل وصلاتي النهار الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

وهذا القول للشافعي في هذه المسألة أشهر أقاويله عند أصحابه فيها وأصحها عندهم وهو الذي لم يذكر البويطي غيره وللشافعي في هذه المسألة قولان آخران.

أحدهما مثل قول مالك سواء في مراعاة قدر خمس ركعات للظهر والعصر وما دون إلى ركعة للعصر ومقدار أربع ركعات للمغرب والعشاء وما دون ذلك للعشاء وآخر الوقت عنده في هذا القول لآخر الصلاتين.

والقول الآخر قاله في الكتاب المصري قال في المغمى عليه أنه إذا أفاق وقد بقي عليه من النهار قدر ما يكبر فيه تكبيرة الإحرام أعاد الظهر والعصر ولم يعد ما قبلهما لا صبحا ولا مغربا ولا عشاء.

قال وإذا أفاق وقد بقي عليه من الليل قبل أن يطلع الفجر قدر تكبيرة واحدة قضى المغرب والعشاء وإذا أفاق قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة قضى الصبح وإذا طلعت الشمس قبل أن يفيق لم يقضها.

قال وكذلك الحائض والرجل يسلم.

وقال فيمن جن بأمر لا يكون به عاصيا فذهب عقله لا قضاء عليه ومن كان زوال عقله بما يكون به عاصيا قضى كل صلاة فاتته في حال زوال عقل وذلك مثل السكران وشارب السم والسكران عامدا لإذهاب عقله

قال أبو عمر  : قوله من أدرك ركعة من الصبح أو من العصر على ما في هذا الحديث يقتضي فساد قول من قال من أدرك تكبيرة لأن دليل الخطاب في ذلك أن من لم يدرك من الوقت مقدار ركعة فقد فاته ومن فاته الوقت بعذر يسقط عنه فيه الصلاة كالحائض وشبهها فلا شيء عليه والله أعلم

وما احتج به بعض أصحاب الشافعي بهذه القولة حيث قالوا إنما أراد رسول الله بذكر الركعة البعض من الصلاة لأنه قد روي عنه من أدرك ركعتين من العصر فأشار إلى بعض الصلاة مرة بركعة ومرة بركعتين والتكبير في حكم الركعة لأنه بعض الصلاة فمن أدركها فكأنه أدرك ركعة من الصلاة فليس بشيء لأنه ينتقض عليه أصله في الجمعة ولم يختلف قوله فيها أن من لم يدرك منها ركعة تامة فلم يدركها وهو ظاهر الخبر لأن قوله في جماعة أصحابه من لم يدرك من صلاة الجمعة ركعة بسجدتيها أتمها ظهرا وهذا يقضي عليه على سائر أقواله وهو أصحها والله أعلم.

وقال أبو حنيفة وأصحابه وهو قول ابن علية من طهر من الحيض أو بلغ أو أسلم من الكفار لم يكن عليه أن يصلي شيئا مما فات وقته وإنما يقضي ما أدرك وقته بمقدار ركعة فما زاد وهم لا يقولون بالاشتراك في الأوقات لا في صلاتي الليل ولا في صلاتي النهار ولا يرون لأحد الجمع بين الصلاتين لا لمسافر ولا لمريض ولا لعذر من الأعذار في وقت إحداهما لا يجوز ذلك عندهم في غير عرفة والمزدلفة.

وسيأتي ذكر مذاهب العلماء في الجمع بين الصلاتين في باب أبي الزبير إن شاء الله.

وقول حماد بن أبي سليمان في هذه المسألة كقول أبي حنيفة ذكره غندر عن شعبة قال سألت حمادا عن المرأة تطهر في وقت العصر قال تصلي العصر فقط.

وقال أبو حنيفة وأصحابه فيمن أغمي عليه خمس صلوات فأقل منها ثم أفاق أنه يقضيها ومن أغمي عليه أكثر من ذلك ثم أفاق لم يقضه وهذا قول الثوري إلا أنه قال أحب إلي أن يقضي.

وقال الحسن بن حي إذا أغمي عليه خمس صلوات فما دونها قضى ذلك كله إذا أفاق وإن أغمي عليه أياما قضى خمس صلوات فقط ينظر حتى يفيق فيقضي ما يليه.

وقال زفر في المغمى عليه يفيق والحائض تطهر والنصراني يسلم والصبي يحتلم أنه لا يجب على واحد منهم قضاء صلاة إلا بأن يدركوا من وقتها مقدار الصلاة كلها بكمالها كما لا يجب عليه من الصيام إلا ما أدرك وقته بكماله

قال أبو عمر  : قوله من أدرك ركعة على ما في حديث هذا الباب يرد قول زفر هذا والله المستعان.

وقال أبو ثور في المغمى عليه لا يقضي إلا صلاة وقته مثل أن يفيق نهارا قبل غروب الشمس فيقضي الظهر والعصر ولا يصلي الفجر وإن أفاق قبل الفجر صلى المغرب والعشاء لا غير وإن أفاق بعد طلوع الفجر لم يجب عليه من صلاة الليل شيء فإن أفاق بعد طلوع الشمس فليس عليه صلاة الصبح.

وقال أحمد بن حنبل إذا طهرت الحائض أو أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل أن تغرب الشمس صلوا الظهر والعصر.

وإن كان ذلك قبل أن يطلع الفجر صلى المغرب والعشاء.

وقال أحمد بن حنبل أيضا في المغمى عليه فإنه يجب عليه عنده أن يقضي الصلوات كلها التي كانت في إغمائه وهو قول عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة لا فرق عندهما بين النائم وبين المغمى عليه في أن كل واحد منهما يقضي جميع ما فاته وقته وإن كثر وهو قول عطاء بن أبي رباح وروى ذلك عن عمار بن ياسر وعمران بن حصين.

وروى ابن رستم عن محمد بن الحسن أن النائم إذا نام أكثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه

قال أبو عمر  : لا أعلم أحدا قال هذا القول في النائم غير محمد بن الحسن فإن صح هذا عنه فهو خلاف السنة لأنه قد ثبت عن النبي أنه قال "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"

وأجمعوا أن من نام عن خمس صلوات قضاها فكذلك في القياس ما زاد عليها.

وأما قول من قال يقضي المغمى عليه إذا أغمي عليه خمس صلوات فدون ولا يقضي أكثر فقول ضعيف لا وجه له في النظر لأنه تحكم لا يجب امتثاله إلا لو كان قول من يجب التسليم له.

وأصح ما في هذا الباب في المغمى عليه يفيق أنه لا قضاء عليه لما فاته وقته وبه قال ابن شهاب والحسن وابن سيرين وربيعة ومالك والشافعي وأبو ثور وهو مذهب عبد الله بن عمر أغمي عليه فلم يقض شيئا مما فات وقته وهذا هو القياس عندي والله أعلم لأن الصلاة تجب للوقت فإذا فات الوقت لم تجب إلا بدليل لا تنازع فيه ومن لم يدرك من الوقت مقدار ركعة وفاته ذلك بقدر من الله فلا قضاء عليه.

والأصول مختلفة في قضاء ما يجب من الأعمال في أوقات معينة إذا فاتت أوقاتها.

فمنها أن صوم رمضان في وقت بعينه فإذا منع المسلم من صيامه علة كان عليه أن يأتي بعدته من أيام أخر.

ومنها أن أعمال الحج أوقات معينة فإذا فات وقتها لم تعمل في غيرها كالوقوف بعرفة وبالمزدلفة وغير ذلك من أعمال الحج وكرمي الجمار في أيامها وكالضحايا في أيامها لا يعمل شيء من ذلك في غيرها قام دليل الإجماع على ذلك وقام الدليل من القرآن على ما ذكرنا في قضاء الصيام فلما احتملت الصلاة الوجهين جميعا طلبنا الدليل على ذلك فوجدنا رسول الله قد بين مراد الله منها فيمن نام أو نسي أنه يقضي ورأينا العاجز عن القيام في الصلاة أنه يسقط عنه وكذلك إن عجز عن الجلوس وغيره حتى يومئ إيماء فإذا لم يقدر على الإيماء فهو المغمى عليه ووجب سقوط ذلك عنه بخروج الوقت ودليل آخر من الإجماع وذلك أنهم أجمعوا على أن المجنون المطبق لا شيء عليه بخروج الوقت من صلاة ولا صيام إذا أفاق من جنونه وإطباقه وكان المغمى عليه أشبه به منه بالنائم إذ لا يجتذبه غير هذين الأصلين ووجدناه لا ينتبه إذا نبه وكان ذلك فرقا بينه وبين النائم.

وفرق آخر أن النوم لذة ونعمة والإغماء علة ومرض من الأمراض فحاله بحال من يجن أشبه منه بحال النائم.

ولقول أحمد بن حنبل وعبيد الله بن الحسن وجوه في القياس أيضا مع الاحتياط واتباع رجلين من الصحابة.

وأما قول من قال يقضي خمس صلوات ولا يقضي ما زاد فقول لا برهان له به ولا وجه يجب التسليم له.

وقالت طائفة من العلماء منهم ابن علية وهو أحد أقوال الشافعي وهو المشهور عنه في البويطي وغيره إذا طهرت الحائض في وقت صلاة وأخذت في غسلها فلم تفرغ حتى خرج وقت تلك الصلاة وجب عليها قضاء تلك الصلاة لأنها في وقتها غير حائض وليس فوت الوقت عن الرجل بمسقط عنه الصلاة إن اشتغل بوضوئه أو غسله حتى فاته الوقت وكذلك الحائض إذا طهرت لا تسقط عنها الصلاة من أجل غسلها لأن شغلها بالاغتسال لا يضيع عنها ما لزمها من فرض الصلاة وإنما تسقط الصلاة عن الحائض ما دامت حائضا فإذا طهرت فهي كالجنب ولزمها صلاة وقتها التي طهرت فيه.

قال الشافعي وكذلك المغمى عليه يفيق والنصراني يسلم قبل غروب الشمس أو قبل طلوع الفجر أو قبل طلوع الشمس بركعة ثم اشتغل بالوضوء حتى خرج الوقت قال ولا يقضي أحد من هؤلاء شيئا من الصلوات التي فات وقتها.

وقال الشافعي وابن علية لو أن امرأة حاضت في أول وقت الظهر بمقدار ما يمكنها فيه صلاة الظهر ولم تكن صلت لزمها قضاء صلاة الظهر لأن الصلاة تجب بأول الوقت وليس تسقط عنها لما كان لها من تأخير الصلاة إلى آخر وقتها ما وجب عليها من الصلاة بأوله.

قالوا والدليل على أن الصلاة تجب بأول الوقت أن مسافرا لو صلى في أول الوقت قبل أن يدخل المصر ثم دخل المصر في وقته أجزأه.

فإن حاضت وقد مضى من الوقت قدر ما لا يمكنها فيه الصلاة بتمامها لم يجب قضاؤها لأنه لم يأت عليها من الوقت ما يمكنها فيه الصلاة كما لو حاضت وهي في الصلاة في أول وقتها لم تكن عليها إعادتها لأن الله منعها أن تصلي وهي حائض.

وقال بعض أصحاب الشافعي لم يجز أن يجعل أول الوقت ها هنا كآخره فيلزمها بإدراك ركعة الصلاة كلها أو الصلاتان لأن البناء في آخر الوقت يتهيأ على الركعة ولا يتهيأ البناء في أول الوقت لأن تقديم ذلك قبل دخول الوقت لا يجوز.

وروى ابن وهب عن الليث في الرجل يزول عليه الشمس وهو يريد سفرا فلا يصلي حتى يخرج قال يصلي صلاة المقيم لأن الوقت دخل عليه قبل الخروج ولو شاء أن يصلي صلى

والكلام في تعليل هذه المسائل يطول وقد ذكرنا منها أصول معانيه وما مداره عليه والحمد لله.

وقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وأصحابهم لا شيء على المرأة إذا حاضت في بقية من الوقت على ما قدمنا عنهم أن الحائض لا صلاة عليها وقد كانت موسعا لها في الوقت.

ومسائل هذا الباب تكثر جدا وهذه أصولها التي تضبط بها وأصل هذا الباب كله الحديث المذكور في أوله وبالله العون والتوقيف لا شريك له.

وأما الوجه الثالث من معاني حديث هذا الباب وهو جواز من صلى صلاة الصبح عند طلوع الشمس أو العصر عند غروب الشمس ممن نام أو نسي فإن العلماء اختلفوا في ذلك

فقال الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه لا يقضي أحد صلاة عند طلوع الشمس ولا عند قيام قائم الظهيرة ولا عند غروب الشمس غير عصر يومه خاصة فإنه لا بأس أن يصليها عند غروب الشمس من يومه لأنه يخرج إلى وقت تجوز فيه الصلاة.

قالوا ولو دخل في صلاة الفجر فلم يكملها حتى طلعت عليه الشمس بطلت عليه واستقبلها بعد ارتفاع الشمس.

ولو دخل في صلاة العصر فاصفرت الشمس أتمها إذا كانت عصر يومه خاصة.

واحتجوا لما ذهبوا إليه في هذا الباب بحديث الصنابحي وحديث عمرو بن عبسة وحديث عقبة بن عامر عن النبي في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند استوائها.

وجعلوا نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات نهي عموم كنهيه عن صيام يوم الفطر ويوم النحر لأنه لا يجوز لأحد أن يقضي فيها فرضا من صيام ولا يتطوع بصيامها وهذا إجماع.

قالوا فكذلك نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها واستوائها يقتضي صلاة النافلة والفريضة.

ومنهم من زعم أن حديث هذا الباب منسوخ بأحاديث النهي عن الصلاة في تلك الأوقات.

واحتجوا أيضا بأن رسول الله إذا نام عن الصلاة واستيقظ في حين طلوع الشمس أخر الصلاة حتى ارتفعت

قالوا وبهذا تبين أن نهيه عن الصلاة في تلك الأوقات ناسخ لحديث الباب.

فذكروا حديث الثوري عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن رجل من ولد كعب بن عجرة أنه نام عن الفجر حتى طلعت الشمس قال فقمت أصلي فدعاني فأجلسني أعني كعب بن عجرة حتى ارتفعت الشمس وابيضت ثم قال قم فصل.

وحديث معمر والثوري عن أيوب عن ابن سيرين أن أبا بكرة أتاهم في بستان لهم فنام عن العصر قال فرأيناه أنه صلى ولم يكن صلى فقام فتوضأ ولم يصل حتى غابت الشمس

قال أبو عمر  : أما الخبر عن كعب بن عجرة فلا تقوم به حجة لأنه عن رجل مجهول من ولده.

وأما حديث أبي بكرة فهم يخالفونه في عصر يومه ويرون جواز ذلك.

وقد أجمعوا أن السنة لا ينسخها إلا سنة مثلها ولا تنسخ سنة رسول الله بقول غيره لأنه مأمور باتباعه ومحظور من مخالفته.

وقال مالك والشافعي وأصحابهما والثوري والأوزاعي وداود والطبري من نام عن صلاة أو نسيها أو فاتته بأي سبب كان فليصلها بعد الصبح وبعد العصر وعند الطلوع وعند الاستواء وعند الغروب وفي كل وقت ذكرها فيه.

وهو قول أكثر التابعين بالحجاز واليمن والعراق.

وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال صلها حين تذكرها وإن كان ذلك في وقت تكره فيه الصلاة.

وحجتهم قوله "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح"

فهذا الحديث يبيح الصلاة في حين الطلوع والغروب لمن ذكر صلاة بعد نسيان أو غفلة أو تفريط.

ويؤيد هذا الظاهر أيضا قوله من نام عن صلاة أو نسيها فيصلها إذا ذكرها" ولم يخص وقتا من وقت فذلك على كل حال وقت لمن نام أو نسي.

حدثنا أحمد بن عاصم بن عبد الرحمن وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي قال "من صلى من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس وطلعت فليصل إليها أخرى". وهذا نص في إبطال قول أبي حنيفة ومن تابعه.

وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا همام عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك.

ولا وجه لقول من ادعى النسخ في هذا الباب لأن النسخ إنما يكون فيما يتعارض ويتضاد ولو جاز لقائل أن يقول إن نهيه عن الصلاة في تلك الأوقات ناسخ لقوله من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر وناسخ لقوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ولا يأتي على ذلك بدليل لا معارض له لجاز لقائل أن يقول إن هذين الحديثين قد نسخا نهيه عن الصلاة في تلك الأوقات وهذا لا يجوز لأحد أن يدعي النسخ فيما ثبت بالإجماع وبدليل لا معارض له فلهذا صح قول من قال أن النهي إنما ورد في النوافل دون الفرائض ليصح استعمال الآثار كلها ولا يدفع بعضها ببعض وقد أمكن استعمالها ألا ترى أنه لو قال في مجلس واحد لا صلاة بعد العصر ولا بعد الصبح ولا عند طلوع الشمس وعند استوائها وغروبها إلا من نسي صلاة وجبت عليه أو نام عنها ثم فزع إليها لم يكن في هذا الكلام تناقض ولا تعارض وكذلك هو إذا ورد هذا اللفظ في حديثين لا فرق بينه وبين أن يرد في حديث واحد ولا فرق أن يكون ذلك في وقت أو وقتين.

فمن حمل قوله من أدرك ركعة من العصر أو الصبح قبل الطلوع والغروب فقد أدرك على الفرائض ورتبه على ذلك وجعل نهيه عن الصلوات في تلك الأوقات مرتبا على النوافل فقد استعمل جميع الآثار والسنن ولم ينسب إليه أنه رد سنة من سنن رسول الله .

وعلى هذا التأويل في هذه الآثار عامة علماء الحجاز وفقهاؤهم وجميع أهل الأثر.

وهذا أصل عظيم جسيم في ترتيب السنن والآثار فتدبره وقف عليه ورد كل ما يرد عليك من بابه إليه.

ومن قبيح غلطهم في ادعائهم النسخ في هذا الباب أنهم أجازوا لمن غفل أو نام عن عصر يومه أن يصليها في الوقت المنهي عنه فلم يقودوا أصلهم في النسخ ولا فرق بين عصر يومه وغير يومه في نظر ولا أثر.

ولو صح النسخ دخل فيه عصر يومه وغير يومه وفي قولهم هذا إقرار منهم بالخصوص في أحاديث النهي والخصوص أن يقتصر بها على التطوع دون ما عداه من الصلوات المنسيات المكتوبات.

هذا قول مالك وأصحابه وزاد الشافعي وأصحابه المسنونات.

وأما قولهم إن رسول الله أخر الفائتة حين انتبه عند طلوع الشمس فليس كما ظنوا لأنا قد روينا أنهم لم ينتبهوا يومئذ إلا لحر الشمس والشمس لا تكون لها حرارة إلا في وقت تحل فيه الصلاة إن شاء الله.

أخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه "أن رسول الله كان في سفر فقال من يكلؤنا الليلة لا نرقد عن صلاة الفجر فقال بلال أنا فاستقبل مطلع الشمس فضرب على آذانهم حتى أيقظهم حر الشمس ثم قاموا فقادوا ركابهم فتوضئوا ثم أذن بلال ثم صلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر".

وسنذكر أحاديث النوم عن الصلاة في باب مرسل زيد بن أسلم وباب ابن شهاب عن ابن المسيب إن شاء الله

ونذكر أحاديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها واستوائها في باب زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن الصنابحي ونبين معناها عند العلماء.

ونذكر حديث نهيه عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر في باب محمد بن يحيى بن حبان ونذكر أحاديث النوم عن الصلاة في باب مرسل زيد بن أسلم ونورد في كل باب من هذه الأبواب ما للعلماء في ذلك من المذاهب والتنازع إن شاء الله

حديث سادس لزيد بن أسلم مرسل صحيح

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال "خسفت الشمس فصلى رسول الله والناس معه فقام قياما طويلا قال نحوا من سورة البقرة قال ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع رأسه من الركوع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت فقال إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط ورأيت أكثرأهلها النساء قالوا ولم يا رسول الله قال لكفرهن قالوا أيكفرن بالله قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط".

هذا من أصح حديث يروى عن النبي في صلاة الكسوف وهي ركعتان في كل ركعة ركوعان فحصلت أربع ركعات وأربع سجدات وكذلك روى ابن شهاب عن كثير بن عباس عن عبد الله بن عباس عن النبي .

وكذلك روت عائشة عن النبي وحديثها أيضا في ذلك أثبت حديث وأصحه رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وعن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة بمعنى واحد عن النبي في صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان.

وكذلك رواه ابن شهاب عن عروة عن عائشة وبه يقول مالك والشافعي وأصحابهما وهو قول أهل الحجاز وقول الليث بن سعد وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور.

فأما قوله في هذا الحديث وهو دون القيام الأول فإنه أراد بقوله أن القيام الأول أطول من الثاني وكذلك الركوع الأول أطول من الثاني في الركعة الأولى وأراد والله أعلم في الركعة الثانية أن القيام الأول فيها دون القيام الأول في الركعة الأولى والركوع الأول فيها دون الركوع الأول في الركعة الأولى وأراد والله أعلم بقوله في القيام الأول فيها وكذلك ركوعه الثاني فيها دون ركوعه الأول فيها وقد قيل غير هذا وهذا أصح ما قيل في ذلك عندي والله أعلم لتكون الركعتان معتدلتين في أنفسهما وكما نقص القيام الثاني في الركعة الأولى عن القيام الأول فيها والركوع الثاني في الأولى عن الركوع الأول فيها نفسها فكذلك يجب أن تكون الركعة الثانية ينقص قيامها الثاني عن قيامها الأول وركوعها الثاني عن ركوعها الأول فيها نفسها ويكون قيامها الأول دون القيام الأول في الركعة الأولى وركوعها الأول دون الركوع الأول في الركعة الأولى وجائز على هذا القياس أن يكون القيام الأول في الركعة الثانية مثل القيام الثاني في الركعة الأولى وجائز أن يكون دونه وحسبه أن يكون دون القيام الأول في الركعة الأولى والقول في الركوع على هذا القياس فتدبره وبالله التوفيق.

وقال مالك لم أسمع أن السجود يطول في صلاة الكسوف وهو مذهب الشافعي

ورأت فرقة من أهل الحديث تطويل السجود في ذلك وروته عن ابن عمر.

وقال العراقيون منهم أبو حنيفة وأصحابه والثوري صلاة الكسوف كهيئة صلاتنا ركعتان نحو صلاة الصبح ثم الدعاء حتى تنجلي وهو قول إبراهيم النخعي

قال أبو عمر  : روي نحو قول العراقيين عن النبي في صلاة الكسوف من حديث أبي بكرة وسمرة بن جندب و عبد الله بن عمر وقبيصة الهلالي والنعمان بن بشير و عبد الرحمن بن سمرة.

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن أبي شعيب قال حدثنا الحارث بن عمير البصري عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير قال "كسفت الشمس على عهد رسول الله فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسلم حتى تجلت الشمس".

حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم بن أحمد بن زهير قال حدثنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا عبيد الله بن عمرو عن أيوب عن أبي قلابة عن قبيصة الهلالي أن رسول الله قال "إذا انكسفت الشمس أو القمر فصلوا كأحدث صلاة صليتموها مكتوبة"

قال أبو عمر  : الأحاديث في هذا الوجه في بعضها اضطراب تركت ذلك لشهرته عند أهل الحديث ولكراهة التطويل والمصير إلى حديث ابن عباس وعائشة من رواية مالك أولى لأنهما أصح ما روي في هذا الباب من جهة الإسناد ولأن فيها زيادة في كيفية الصلاة يجب قبولها واستعمال فائدتها ولأنهما قد وصفا صلاة الكسوف وصفا يرتفع معه الإشكال والوهم.

فإن قيل إن طاووسا روى عن ابن عباس أنه صلى في صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ثلاث ركعات ثم سجد وإن عبيد بن عمير روى عن عائشة مثل ذلك وإن عطاء روى عن جابر عن النبي في صلاة الكسوف ست ركعات في أربع سجدات وإن أبا العالية روى عن أبي بن كعب عن النبي عشر ركعات في ركعتي الكسوف وأربع سجدات فلم يكن المصير عندك إلى زيادة هؤلاء أولى قيل له إنما تقبل الزيادة من الحافظ إذا ثبتت عنه وكان أحفظ وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ لأنه كأنه حديث آخر مستأنف.

وأما إذا كانت الزيادة من غير حافظ ولا متقن فإنها لا يلتفت إليها وحديث طاووس هذا مضطرب ضعيف رواه وكيع عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن طاووس عن النبي مرسلا ورواه غير الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس لم يذكر طاووسا ووقفه ابن عيينة عن سليمان الأحول عن طاووس عن ابن عباس فعله ولم يرفعه وهذا الاضطراب يوجب طرحه واختلف أيضا في متنه فقوم يقولون أربع ركعات في ركعة وقوم يقولون ثلاث ركعات في ركعة ولا يقوم بهذا الاختلاف حجة

وأما حديث جابر فرواه أبو الزبير عن جابر عن النبي "أربع ركعات في أربع سجدات" مثل حديث ابن عباس هذا ذكره أبو داود قال حدثنا مؤمل بن هشام قال حدثنا إسماعيل بن علية قال حدثنا هشام قال حدثنا أبو الزبير.

وأما حديث أبي بن كعب فإنما يدور على أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس عن أبي العالية وليس هذا الإسناد عندهم بالقوي.

وأما حديث عبيد بن عمير عن عائشة "أن النبي صلى صلاة الكسوف ثلاث ركعات وسجدتين في كل ركعة" فإنما يرويه قتادة عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة وسماع قتادة عندهم من عطاء غير صحيح وقتادة إذا لم يقل سمعت وخولف في نقله فلا تقوم به حجة لأنه يدلس كثيرا عمن من لم يسمع منه وربما كان بينهما غير ثقة وليس مثل هذه الأسانيد يعارض بها حديث عروة وعمرة عن عائشة ولا حديث عطاء بن يسار عن ابن عباس لأنها من الآثار التي لا مطعن لأحد فيها وقد كان أبو داود الطيالسي يروي حديث قتادة هذا عن هشام عن قتادة عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة موقوفا لا يرفعه

حدثنا محمد بن إبراهيم ومحمد بن حكم قالا حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا الفضل بن الحباب القاضي قال حدثنا أحمد بن الفرات أبو مسعود قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هشام عن قتادة عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت "صلاة الآيات ست ركعات وأربع سجدات".

قال أبو مسعود ولم يرفعه أبو داود ورفعه معاذ بن هشام

قال أبو عمر  : قول ابن عباس في حديثنا المذكور في هذا الباب حيث قال نحوا من سورة البقرة دليل على سنة القراءة في صلاة الكسوف أن تكون سرا.

وكذلك روى ابن إسحاق عن هشام بن عروة وعبد الله بن أبي سلمة عن عروة عن عائشة قالت كسفت الشمس على عهد رسول الله فخرج فصلى بالناس فأقام فأطال القيام فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة وساق الحديث وسجد سجدتين ثم قام فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة آل عمران

وهذا يدل على أن قراءته كانت سرا ولذلك روى سمرة بن جندب عن النبي "أنه لم يسمع له صوت في صلاة الكسوف" وبذلك قال مالك والشافعي وأصحابهما وهو قول أبي حنيفة والليث بن سعد والحجة لهم ما ذكرنا.

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا الأسود بن قيس قال حدثني ثعلبة بن عباد العبدي من أهل البصرة أنه شهد خطبة يوما لسمرة فذكر حديث الكسوف بتمامه وفيه فصلى بنا فقام كأطول ما قام بنا قط لا نسمع له صوتا وذكر الحديث.

أخبرنا عبد الله بن إبراهيم بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن أحمد بن شعيب بن علي قال أخبرنا عمرو بن منصور قال أخبرنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن الأسود بن قيس عن ثعلبة بن عباد عن سمرة بن جندب "أن النبي صلى بهم كسوف الشمس لا يسمع له صوت".

وقد روي عن ابن عباس أنه قال في صلاة الخسوف كنت إلى جنب النبي فما سمعت منه حرفا.

ومن حجة من ذهب إلى هذا المذهب ما جاء في الخبر صلاة النهار عجماء.

وروي عن علي رضي الله عنه أنهم حزروا قراءته بالروم ويس أو العنكبوت.

وروي عن أبان بن عثمان أنه قرأ في صلاة الكسوف سأل سائل والذي استحسن مالك والشافعي أن يقرأ في الأولى بالبقرة وفي الثانية بآل عمران وفي الثالثة بقدر مائة آية وخمسين آية من البقرة وفي الرابعة بقدر خمسين آية من البقرة وفي كل واحدة أم القرآن لا بد وكل ذلك لا يسمع للقارئ وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف وروي عن علي بن أبي طالب أنه جهر وعن زيد بن أرقم والبراء بن عازب والعلاء بن يزيد مثله وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه

واحتجوا أيضا بحديث سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة "أن النبي جهر بالقراءة في كسوف الشمس" وفي حديث أبي بن كعب عن النبي "أنه قرأ بسورة من الطول ثم ركع خمس ركعات وسجد سجدتين ثم قام إلى الثانية فقرأ بسورة من الطول ثم ركع خمس ركعات وسجد سجدتين ثم جلس كما يدعو ثم انجلى كسوفها" وقد يحتمل أن يكون قوله سورة من الطول في تقديره والظاهر فيه الجهر والله أعلم ولكنه حديث يدور على أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي وقد تكلم في هذا الإسناد وسفيان بن حسين في الزهري ليس بالقوي وقد تابعة على ذلك عن الزهري عبد الرحمن بن نمير وسليمان بن كثير وكلهم لين الحديث عن الزهري

ومن حجة من قال بالجهر في صلاة الكسوف إجماع العلماء على أن كل صلاة سنتها أن تصلى في جماعة من صلوات السنن سنتها الجهر كالعيدين والاستسقاء وكذلك الخسوف.

وقال الطبري إن شاء جهر في صلاة الكسوف وإن شاء أسر وإن شاء قرأ في كل ركعة مرتين وركع فيها ركوعين وإن شاء أربع قراءات وركع أربع ركعات وإن شاء ثلاث ركعات في ركعة وإن شاء ركعتين كصلاة النافلة.

واختلف الفقهاء أيضا في صلاة الكسوف هل هي في كل النهار أم لا فروى ابن وهب عن مالك قال لا يصلى الكسوف إلا في حين صلاة قال فإن كسفت في غير حين الصلاة ثم جاء حين الصلاة والشمس لم تنجل صلوا فإن تجلت قبل ذلك لم يصلوا.

وروى ابن القاسم عنه قال لا أرى أن يصلى الكسوف بعد الزوال وإنما سنتها تصلى ضحى إلى الزوال وقال الليث بن سعد يصلى الكسوف نصف النهار لأن نصف النهار لا يثبت لسرعة الشمس وقال الليث حججت سنة ثلاث عشرة ومائة وعلى الموسم سليمان بن هشام وبمكة عطاء بن أبي رباح وابن شهاب وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد وعمرو بن شعيب وقتادة وأيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية فكسفت الشمس بعد العصر فقاموا قياما يدعون الله بعد العصر في المسجد فقلت لأيوب بن موسى ما لهم لا يصلون وقد صلى النبي في الكسوف فقال النهي قد جاء عن الصلاة بعد العصر فلذلك لا يصلون والنهي يقطع الأمر ذكره الحلواني عن ابن أبي مريم وأبي صالح كاتب الليث جميعا عن الليث وقال أبو حنيفة وأصحابه والطبري لا تصلى صلاة الكسوف في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وقال الشافعي تصلى نصف النهار وبعد العصر وفي كل وقت وهو قول أبي ثور وقال إسحاق تصلى في كل وقت إلا في حين الطلوع والغروب والنهي عند الشافعي عن الصلاة بعد العصر في كل وقت وهو قول أبي ثور إنما هو على التطوع المبتدأ

فأما الفرائض والسنن وما كان من عادة المرء أن يصليه فلا وسيأتي اختلافهم في هذا المعنى في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله بحجة كل واحد منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال إسحاق بن راهويه في صلاة الكسوف إن شاء أربع ركعات في ركعتين وإن شاء ست ركعات في ركعتين كل ذلك مؤتلف يصدق بعضه بعضا لأنه إنما كان يزيد في الركوع إذا لم ير الشمس قد تجلت فإذا تجلت سجد قال فمن ها هنا زيادة الركعات ولا يجاوز بذلك أربع ركعات في كل ركعة لأنه لم يأتنا عن النبي أكثر من ذلك

قال أبو عمر  : قد روي من حديث أبي هريرة عن النبي "خمس ركعات في كل ركعة" على ما قدمنا ذكره في كل ركعة وهو حديث لين ومثله روي عن علي رحمه الله أنه صلى في الكسوف خمس ركعات وسجد سجدتين ثم قام ففعل في الركعة الثانية مثل ذلك وروي عن الحسن مثل ذلك وأصح شيء في هذا الباب حديث ابن عباس وعائشة أربع ركعات في أربع سجدات والله أعلم وقد روي عن أحمد بن حنبل وقاله جماعة من أصحاب الشافعي أن الآثار المروية عن النبي في صلاة الكسوف كلها حسان وبأيها عمل الناس جاز عنهم إلا أن الاختيار عندهم ما في حديث ابن عباس هذا وما كان مثله واختلفوا أيضا في صلاة كسوف القمر فقال العراقيون ومالك وأصحابه لا يجمع في صلاة القمر ولكن يصلي الناس أفذاذا ركعتين كسائر الصلوات والحجة لهم قوله "صلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة" وخص صلاة كسوف الشمس بالجمع لها ولم يفعل ذلك في كسوف القمر فخرجت صلاة كسوف الشمس بدليلها وما ورد من التوفيق فيها وبقيت صلاة كسوف القمر على أصل ما عليه النوافل.

وقال الليث بن سعد لا يجمع في صلاة القمر ولكن الصلاة فيها كهيئة الصلاة في كسوف الشمس وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة ذكره ابن وهب عنه وقال ذلك لقول رسول الله "إذا رأيتم ذلك بهما فافزعوا إلى الصلاة" وقال الشافعي وأصحابه وأهل الحديث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري الصلاة في كسوف القمر كهي في كسوف الشمس سواء وهو قول الحسن وإبراهيم وعطاء وحجتهم في ذلك قوله في هذا الحديث "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله" قال الشافعي رحمه الله فكان الذكر الذي فزع إليه رسول الله عند كسوف الشمس هو الصلاة المذكورة فكذلك خسوف القمر يجمع الصلاة عنده على حسب الصلاة عند كسوف الشمس لأنه قد جمع بينهما في الذكر ولم يخص إحداهما من الأخرى بشيء وقال "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفا لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا" وروى عبد الله بن عباس عنه أنه قال فافزعوا إلى الصلاة إذا رأيتم ذلك وعرفنا كيف الصلاة عند إحداهما فكان دليلا على الصلاة عند الأخرى اه

قال أبو عمر  : روي عن ابن عباس وعثمان بن عفان أنهما صليا في القمر جماعة ركعتين في كل ركعة ركوعان مثل قول الشافعي على حديث ابن عباس المذكور في هذا الباب

وأخبرنا عبد الله بن محمد الجهني قال حدثنا حمزة بن محمد الكناني قال حدثنا أحمد بن شعيب النسوي قال حدثنا عمران بن موسى قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا يونس عن الحسن عن أبي بكرة قال "كنا عند رسول الله فانكسفت الشمس فخرج رسول الله يجر رداءه حتى انتهى إلى المسجد وثاب إليه الناس فصلى ركعتين فلما انكسفت الشمس قال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف بهما الله عباده وإنهما لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا حتى ينكشف ما بكم" وذلك أن ابنا له مات يقال له إبراهيم فقال ناس في ذلك.

وقد روي عن مالك أنه قال ليس في صلاة كسوف القمر سنة ولا صلاة فيها إلا لمن شاء وهذا شيء لم يقله أحد من العلماء غيره والله أعلم وسائر العلماء يرون صلاة كسوف القمر سنة كل على مذهبه.

واختلفوا أيضا بعد صلاة الكسوف فقال الشافعي ومن اتبعه وهو قول إسحاق والطبري يخطب بعد الصلاة في الكسوف كالعيدين والاستسقاء.

واحتج الشافعي بحديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في حديث الكسوف وفيه "ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله" الحديث وبه احتج كل من رأى الخطبة في الكسوف.

وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما لا خطبة في الكسوف واحتج بعضهم في ذلك بأن رسول الله إنما خطب الناس لأنهم قالوا إن الشمس كسفت لموت إبراهيم بن النبي فلذلك خطبهم يعرفهم أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته وكان مالك والشافعي لا يريان الصلاة عند الزلزلة ولا عند الظلمة والريح الشديدة ورآها جماعة من أهل العلم منهم أحمد وإسحاق وأبو ثور وروى عن ابن عباس إنه صلى في زلزلة

قال ابن مسعود : إذا سمعتم هذا من السماء فافزعوا إلى الصلاة.

وقال أبو حنيفة من فعل فحسن ومن لا فلا حرج

قال أبو عمر  : لم يأت عن النبي من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنة وقد كانت أول ما كانت في الإسلام على عهد عمر فأنكرها فقال أحدثتم والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم رواه ابن عيينة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن صفية قالت زلزلت المدينة على عهد عمر حتى اصطكت السرر فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما أسرع ما أحدثتم والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم.

روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال زلزلت الأرض بالبصرة فقال ابن عباس والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرض فقام بالناس فصلى يعني صلاة الكسوف .

أما قوله في الحديث رأيناك تكعكعت فمعناه عند أهل اللغة أخنست وتأخرت وقال الفقهاء معناه تقهقرت والأمر كله قريب

وقال متمم بن نويرة :

ولكنني أمضي على ذاك مقدما ... إذا بعض من لاقى الخطوب تكعكعا

وأما قوله عليه السلام "إني رأيت الجنة ورأيت النار" فإن الآثار في رؤيته لهما كثيرة وقد رآهما مرارا والله أعلم على ما جاءت به الأحاديث وعند الله علم كيفية رؤيته لهما فيمكن أن يمثلا له فينظر إليهما بعيني وجهه كما مثل له بيت المقدس حين كذبه الكفار بالإسراء فنظر إليه وجعل يخبرهم عنه وممكن أن يكون ذلك برؤية القلب قال الله عز وجل {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} واختلف أهل التفسير في ذلك فقال مجاهد فرجت له السموات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن اه.

ذكره حجاج عن ابن جريج قال أخبرني القاسم بن أبي بزة عن مجاهد وذكره معمر عن قتادة قال ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار والظاهر في هذا الحديث أنه رأى الجنة والنار رؤية عين والله أعلم وتناول من الجنة عنقودا على ما ذكر ويؤيد ذلك قوله فلم أر كاليوم منظرا قط فالظاهر الأغلب أنها رؤية عين لأن الرؤية والنظر إذا أطلقا فحقهما أن يضافا إلى رؤية العين إلا بدليل لا يحتمل تأويلا وإلا فظاهر الكلام وحقيقته أولى إذا لم يمنع منه مانع دليل يجب التسليم له وفي الحديث أيضا من ذكر الجنة والنار دليل على أنهما مخلوقتان وعلى ذلك جماعة أهل العلم وأنهما لا يبيدان من بين سائر المخلوقات وأهل البدع ينكرون ذلك.

وأما قوله في العنقود ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا فكما قال .

حدثني أحمد بن عمر قال حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا محمد بن إسحاق السجسي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن يزيد البكالي عن عتبة بن عبد السلمي قال "جاء أعرابي إلى النبي فسأله عن الجنة وذكر الحوض فقال قال فيها فاكهة قال نعم شجرة تدعى طوبى قال يا رسول الله أي شجر أرضنا تشبه قال لا تشبه شيئا من شجر أرضك ائت الشام هناك شجرة تدعى الجوزة تنبت على ساق يفترش أعلاها قال يا رسول الله فما عظم أصلها قال لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما قال هل فيها عنب قال نعم قال فما عظم العنقود منها قال مسيرة الغراب شهر إلا يقع ولا يفتر قال فما عظم حبها قال أما عمد أبوك وأهلك إلى جذعة فذبحها وسلخ إهابها فقال افروا لنا منها دلوا فقال رسول الله أن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي قال نعم وأهل عشيرتك"

قال أبو عمر  : روينا عن بعض الصحابة لا أقف على اسمه في وقتي هذا أنه قال كان يسرنا أن تأتي الأعراب يسألون رسول الله فإنهم كانوا يسألون عن أشياء لا نقدم نحن على السؤال عنها أو نحو هذا وقال بعض أهل العلم ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء وأما قوله فرأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط ورأيت أكثر أهلها النساء فإنه قد ثبت عنه من وجوه أنه قال "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء".

حدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قالا جميعا حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله "قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين وإذا أصحاب الجد محبوسون إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء وأما قوله في الحديث قالوا لم يا رسول الله قال لكفرهن قيل أيكفرن بالله قال ويكفرن العشير ويكفرن الإحسان" وهكذا رواه يحيى بن يحيى ويكفرن العشير بالواو قالوا وقد تابعه بعض من نقد عليه ذلك أيضا غلطا كما عد على يحيى والمحفوظ فيه عن مالك من رواية ابن القاسم وابن وهب والقعنبي وعامة رواة الموطأ قال يكفرن العشير بغير واو وهو الصحيح في المعنى وأما رواية يحيى فالوجه فيها والله أعلم أن يكون السائل لما قال أيكفرن بالله لم يجبه عن هذا جوابا مكشوفا لإحاطة العلم بأن من النساء من يكفرن بالله كما أن من الرجال من يكفر بالله فلم يحتج إلى ذلك لأن المقصود في الحديث إلى غير ذلك كأنه قال وإن كان من النساء من يكفرن بالله فإنهن كلهن في الغالب من أمرهن يكفرن الإحسان ألا ترى إلى قوله للنساء المؤمنات "تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار".

وقرأت على خلف بن القاسم أن الحسين بن جعفر الزيات حدثهم بمصر قال حدثنا يوسف بن يزيد قال حدثنا حجاج بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة "أن النبي انصرف من صلاة الصبح فأتى النساء في المسجد فوقف عليهن فقال يا معشر النساء تصدقن فما رأيت من نواقص عقل قط أو دين أذهب لقلوب ذوي الألباب منكن وإني رأيتكن أكثر أهل النار يوم القيامة فتقربن إلى الله بما استطعتن وكان في النساء امرأة ابن مسعود" فساق الحديث فقالت فما نقصان ديننا وعقولنا يا رسول الله قال "أما ما ذكرت من نقصان دينكن فالحيضة التي تصيبكن تمكث إحداكن ما شاء الله أن تمكث لا تصلي ولا تصوم فذلك نقصان دينكن وأما ما ذكرت من نقصان عقولكن فشهادة المرأة نصف شهادة الرجل".

وأما قوله يكفرن العشير ويكفرن الإحسان فالعشير في هذا الموضع عند أهل العلم الزوج والمعنى عندهم في ذلك كفر النساء لحسن معاشرة الزوج ثم عطف على ذلك كفرهن بالإحسان جملة في الزوج وغيره وقال أهل اللغة العشير المخالط من المعاشرة ومنه قول الله عز وجل {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}.

قال الشاعر :

وتلك التي لم يشكها في خليقة ... عشير وهل يشكو الكريم عشير

وقال آخر :

سلاهل قلاني من عشير صحبته ... وهل ذم رحلي في الرفاق دخيل

حدثني سعيد بن نصر قراءة عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا منصور قال حدثنا ذر الهمداني عن وائل بن مهانة عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله "تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن فإنكن من أكثر أهل النار فقامت امرأة ليست من علية النساء فقالت لم يا رسول الله فقال لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير" ثم قال عبد الله بن مسعود ما وجد من ناقص العقل والدين أغلب للرجال ذوي الرأي على أمورهم من النساء قال فقيل يا أبا عبد الرحمن فما نقصان عقلها ودينها فقال أما نقصان عقلها فجعل الله شهادة امرأتين كشهادة رجل وأما نقصان دينها فإنها تمكث كذا وكذا يوما لا تصلي لله فيه سجدة

قال أبو عمر  : رواه شعبة عن الحكم عن وائل بن مهانة عن عبد الله عن النبي عليه السلام نحوه قال وقال عبد الله "وما رأيت من ناقصات الدين والعقل أغلب للرجال ذوي الأمر منهن" ثم ذكره إلى آخره ورواه المسعودي عن الحكم عن ذر عن وائل بن مهانة عن عبد الله موقوفا والصواب فيه رواية منصور عن ذر والله أعلم.

وقد روي كلام ابن مسعود هذا مرفوعا وقد ذكرناه من حديث المغيرة عن أبي هريرة عن النبي ورواه الدراوردي عن سهيل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة "أن رسول الله خطب فوعظ ثم قال يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقالت له امرأة ولم ذلك يا رسول الله قال بكثرة لعنكن وكفركن العشير وما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لألباب ذوي الرأي منكن فقالت امرأة يا رسول الله وما نقصان عقولنا وديننا فقال شهادة امرأتين منكن شهادة رجل ونقصان دينهن الحيضة تمكث إحداكن الثلاث والأربع لا تصلي".

وروى الليث بن سعد وبكر بن مضر عن ابن الهادي عن عبد الله بن دينار وعن عبد الله بن عمر "أن رسول الله قال يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار قالت امرأة منهن وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن قالت يا رسول الله وما نقصان قال أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا من نقصان العقل وتمكث ليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين".

هذا الحديث يدل على أن نقصان الدين قد يقع ضرورة لا تدفع ألا ترى أن الله جبلهن على ما يكون نقصا فيهن قال الله عز وجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وقد فضل الله أيضا بعض الرجال على بعض وبعض النساء على بعض وبعض الأنبياء على بعض لا يسأل عما يفعل وهو الحكيم العليم اه.

حدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا عبد الله بن رجاء الغداني قال أخبرنا عمران القطان عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله "لا ينظر الله عز وجل يوم القيامة إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه" وكذلك رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله "لا ينظر الله إلى امرأة لا تعرف حق زوجها وهي لا تستغني عنه" رواه شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمر موقوفا حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال حدثنا شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمر قال "لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لاتستغني عنه

وحدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أبو طالب محمد بن زكرياء ببيت المقدس قال حدثنا محمد بن يعقوب بن الفرج قال حدثنا علي بن المديني قال حدثنا هشام بن يوسف قال حدثنا القاسم بن فياض عن خلاد ابن عبد الرحمن بن جعدة عن سعيد بن المسيب أنه سمع ابن عباس يقول "إن امرأة قالت يا رسول الله ما خير ما أعدت المرأة قال الطاعة للزوج والاعتراف بحقه"

حديث سابع لزيد بن أسلم مسند صحيح

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس "أن رسول الله أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ".

عند عطاء بن يسار في هذا الباب أيضا حديث عن أم سلمة عن النبي ذكره عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال حدثني محمد بن يوسف أن عطاء بن يسار أخبره "أن أم سلمة زوج النبي أخبرته أنها قربت لرسول الله جنبا مشويا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ" وليس هذا باختلاف على عطاء بن يسار في الإسناد وهما حديثان صحيحان

قال أبو عمر  : روي عن النبي أنه قال "توضؤا مما غيرت النار وتوضئوا مما مست النار" وذهب بعض من تكلم في تفسير حديث النبي عليه السلام إلى أن قوله عليه السلام توضئوا مما مست النار أنه عنى به غسل اليد لأن الوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة فكأنه قال فنظفوا أيديكم من غمر ما مست النار ومن دسم ما مست النار وهذا لا معنى له عند أهل العلم ولو كان كما ظن هذا القائل لكان دسم ما لم تسمه النار وودك ما لم تمسه النار لا يتنظف منه ولا تغسل منه اليد وهذا لا يصح عند ذي لب

وتأويله هذا يدل على ضعف نظره وقلة علمه بما جاء عن السلف في هذه المسألة اه.والله أعلم.

وقوله توضئوا مما مست النار أمر منه بالوضوء المعهود للصلاة لمن أكل طعاما مسته النار وذلك عند أكثر العلماء وعند جماعة أئمة الفقهاء منسوخ بأكله طعاما مسته النار وصلاته بعد ذلك دون أن يحدث وضوءا فاستدل العلماء بذلك على أن أمره بالوضوء مما مست النار منسوخ وأشكل ذلك على طائفة كثيرة من أهل العلم بالمدينة والبصرة ولم يقفوا على الناسخ في ذلك من المنسوخ أو لم يعرفوا غير الوجه الواحد فكانوا يوجبون الوضوء مما مست النار ويتوضئون من ذلك وممن روى عنه ذلك زيد بن ثابت وابن عمرو وأبو موسى وأبو هريرة وعائشة وأم حبيبة أما المؤمنين واختلف فيه عن أبي طلحة الأنصاري وعن ابن عمر وأنس بن مالك وبه قال خارجة بن زيد بن ثابت وأبو بكر بن عبد الرحمن وابنه عبد الملك ومحمد ابن المنكدر وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب الزهري فهؤلاء كلهم مدنيون.

وقال به من أهل العراق أبو قلابة وأبو مخلد والحسن البصري ويحيى بن يعمر وهؤلاء كلهم بصريون

وكان ابن شهاب رحمه الله قد عرف الوجهين جميعا في ذلك وروى الحديثين المتعارضين في هذا الباب وكان يذهب إلى أن قوله توضئوا مما غيرت النار ناسخ لفعله المذكور في حديث ابن عباس هذا ومثله وهذا مما غلط فيه الزهري مع سعة علمه وقد ناظره أصحابه في ذلك فقالوا كيف يذهب الناسخ على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء الراشدون فأجابهم بأن قال أعيى الفقهاء أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله من منسوخه.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا ضمرة عن رجاء بن أبي سلمة عن أبي رزين قال سمعت الزهري يقول أعيى الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله من منسوخه.

وروى أبو عاصم النبيل وهو الضحاك بن مخلد عن بن أبي ذئب عن ابن شهاب عن عبد الملك بن أبي بكر عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت قال قال رسول الله "توضؤا مما غيرت النار".

وجاء عن أبي هريرة في هذا الباب نحو مذهب ابن شهاب لأن أبا هريرة ممن روى عن النبي أنه قال "توضئوا مما مست النار" وروي عنه أيضا أنه أكل كتف شاة فمضمض وغسل يديه وصلى فكان أبو هريرة يتوضأ مما مست النار فدل ذلك على أن مذهبه ومذهب ابن شهاب في ذلك سواء وأنه أعتقد أن الناسخ قوله "توضئوا مما مست النار".

فأما حديثه في الرخصة في ذلك فرواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله "أكل كتف شاة فمضمض وغسل يديه وصلى" ذكره الأثرم قال حدثنا عفان قال حدثنا وهيب قال حدثنا سهيل وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن محمد بن يوسف عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه كان يتوضأ مما مست النار.

وأخبرنا أحمد بن عبد الله وأحمد بن سعيد قالا حدثنا مسلم بن القاسم قال حدثنا أبو الحسن العباس بن محمد الجوهري ببغداد قال حدثنا عمي القاسم بن محمد قال حدثنا سعيد بن سليمان قال حدثنا فليح بن سليمان قال سألنا الزهري عن الوضوء مما غيرت النار فذكر فيه عن أبي هريرة وخارجة بن زيد وعمر بن عبد العزيز وعبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن وغيرهم أنهم كانوا يتوضئون ما غيرت النار فقلت له إن ها هنا شيخا من قريش يقال له عبد الله بن محمد بن عقيل يحدث عن جابر بن عبد الله يقول "خرجنا مع رسول الله إلى أهل سعد بن الربيع فأتينا بخبز ولحم فأكل وأكلنا فصلى رسول الله ولم يتوضأ وأنه رجع مع أبي بكر في خلافته بعد المغرب فأتى أهله فابتغى عشاء فقيل ما عندنا عشاء إلا أن هذه الشاة ولدت فاحتلب لنا من لبنها ثم طبخ فأكل وأكلنا فقال لي ما قال لك يعني النبي قال قال لي إذا جاءنا مال أعطيناك هكذا وهكذا وهكذا فحفن لي ثلاث حفنات ثم قمنا إلى الصلاة فصلينا ولم يمس أحد منا ماء".

وكان عمر بن الخطاب ربما صنع لنا في ولايته الخبز واللحم فأكل وما يتوضأ أحد منا فقال الزهري أهذا تريدون حدثني علي بن عبد الله بن عباس أن أباه أخبره أنه رأى رسول الله "أكل عضوا وصلى ولم يتوضأ" قال وحدثني جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه "أنه رأى رسول الله أكل عضوا وصلى ولم يتوضأ" فقلت للزهري فما بعد هذا قال أنه يكون الأمر ثم يكون بعده الأمر

قال أبو عمر  : فهذا يدلك على أن ابن شهاب كان يذهب إلى أن الناسخ في هذا الباب أمره بالوضوء مما مست النار وأظنه كان يقول أن أمهات المؤمنين لا يخفى عليهن الآخر من فعله فبهذا استدل والله أعلم على أنه الناسخ وقد كان عنده في ذلك ما ذكره عبد الرزاق عن معمر وابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سفيان بن المغيرة بن الأخنس أنه دخل على أم حبيبة فسقته سويقا ثم قام يصلي فقالت توضأ يا ابن أخي فإني سمعت رسول الله يقول "توضئوا مما مست النار" قال معمر قال الزهري وبلغني أن زيد بن ثابت وعائشة "كانا يتوضئان مما مست النار"

قال أبو عمر  : وجاء عن عائشة رضي الله عنها مثل مذهب ابن شهاب في أن الناسخ أمره بالوضوء مما مست النار

قرأت على خلف بن القاسم أن عبد الله بن جعفر بن الورد حدثهم قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن عبد العزيز بن عمران عن ابن لعبد الرحمن بن عوف عن عائشة قالت "كان آخر الأمرين من رسول الله الوضوء مما مست النار" فهذا كله يعضد مذهب ابن شهاب في هذا الباب.

ذكر ابن وهب عن يونس بن يزيد وعبد الرزاق عن معمر جمعيا عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يتوضأ مما مست النار وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله وعن ابن جريج قال أخبرني نافع عن ابن عمر "كان لا يطعم طعاما مسته النار أو لم تمسه إلا توضأ وإن شرب سويقا توضأ"

قال أبو عمر  : كان ابن عمر يتوضأ لكل صلاة وقد روي عن ابن عمر ترك الوضوء مما مست النار ذكره أبو بكر بن أبي شيبة عن هشيم عن حصين عن مجاهد عن ابن عمر وعن وكيع عن مسعر عن ابن عمر ورواية أهل المدينة عنه أصح وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها كانت تتوضأ مما مست النار وعن معمر عن الزهري أن عمر بن عبد العزيز كان يتوضأ مما مست النار حتى كان يتوضأ من السكر قال عبد الرزاق وكان معمر والزهري يتوضآن مما مست النار وذكر ابن وهب عن يونس بن يزيد قال قال لي ابن شهاب أطعني وتوضأ مما غيرت النار فقلت لا أطيعك وادع سعيد بن المسيب فسكت

أخبرني أبو القاسم خلف بن القاسم الحافظ قال حدثنا عبد الرحمن بن عمر بن راشد بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثني أبو الوليد بن عتبة عن أبي صالح عن الليث بن سعد عن يونس قال قال لي ابن شهاب أطعني وتوضأ مما مست النار قال قلت لا أطيعك وادع سعيد بن المسيب.

وأخبرني خلف بن القاسم قال حدثنا عبد الرحمن بن عمر قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا علي بن عباس قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة قال مشيت بين الزهري ومحمد بن المنكدر في الوضوء مما مست النار وكان الزهري يراه وابن المنكدر لا يراه واحتج الزهري بأحاديث فلم أزل اختلف بينهما حتى رجع ابن المنكدر إلى قول الزهري.

وأخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن النجار الفقيه ببغداد قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال أخبرنا عبد الرزاق قال "كان معمر يتوضأ مما غيرت النار فقال له ابن جريج أنت شهابي يا أبا عروة وقد روى عفان عن همام عن قتادة قال قال لي سليمان بن هشام إن هذا يعني الزهري لا يدعنا إن كان شيء أمرنا أن نتوضأ يعني مما مست النار فقلت له سألت سعيد بن المسيب فقال إذا أكلته فهو طيب ليس عليك فيه وضوء فإذا خرج وجب عليك فيه الوضوء.

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن معبد قال حدثنا محمد بن زيان قال حدثنا زكرياء بن يحيى كاتب العمري قال حدثنا الفضل بن فضالة عن عياش بن عباس القتباني أنه كتب إلى يحيى بن سعيد يسأله هل يتوضأ مما مسته النار فكتب إليه هذا مما يختلف فيه وقد بلغنا عن أبي بكر وعمر أنهما أكلا مما مست النار ثم صليا ولم يتوضآ وأما عمر بن عبد العزيز فإنه كان عنده في هذا الباب ما رواه معمر وابن جريح عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن إبراهيم بن عبد الله بن قازظ قال مررت بأبي هريرة وهو يتوضأ فقال أتدري مم أتوضأ أتوضأ من أثوار أقط أكلتها لأني سمعت رسول الله يقول "توضؤا مما مست النار" ولعل عمر بن عبد العزيز لم يرو في هذا الباب غير هذا الحديث فذهب إليه ولعله كان وضوؤه من ذلك ابتغاء الفضل وهروبا من الخلاف مع شدة احتياطه في الدين

قال أبو عمر  : لقوة الاختلاف في هذه المسألة بالمدينة بين علمائها أشبع مالك رحمه الله في موطئه في هذا الباب وشده وقواه فذكر فيه عن النبي من حديث ابن عباس وسويد بن النعمان وهما إسنادان صحيحان وذكر فيه عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي و عبد الله بن عباس وعامر بن ربيعة وأبي طلحة الأنصاري وجابر بن عبد الله وأبي بن كعب "أنهم كانوا لا يتوضئون مما مست النار"

وما ذكره مالك في موطئه عن أبي طلحة يدل على أن المنسوخ أمر النبي بالوضوء مما مست النار لأن أبا طلحة روى الأمر بالوضوء من ذلك عن النبي وكان لا يتوضأ فدل على أنه منسوخ عنده لأنه يستحيل أن يأخذ بالمنسوخ ويدع الناسخ وقد علمه.

ورواية أبي طلحة في ذلك ما حدثنا أحمد بن فتح قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا محمد بن علي بن القاسم البصري بالبصرة قال حدثنا حاتم بن بكير بن بلال بن غيلان قال حدثنا بشر بن عمر الزهراني قال حدثنا همام عن مطر الوراق عن الحسن عن أنس بن مالك عن أبي طلحة الأنصاري قال قال رسول الله "توضئوا مما غيرت النار".

وحدثني خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا الحوضي أبو عمر حفص بن عمر قال حدثنا همام قال قيل لمطر وأنا عنده عمن أخذ الحسن الوضوء مما غيرت النار فقال أخذه الحسن عن أنس وأخذه أنس عن أبي طلحة وأخذه أبو طلحة عن رسول الله

وهذا يحتمل أن يكون معناه ممن أخذ الحسن الحديث الذي كان يحدث به عن النبي في الوضوء مما غيرت النار فقال له أخذه الحسن عن أنس وأخذه أنس عن أبي طلحة وأخذه أبو طلحة عن النبي وليس في هذا ما يدل على أن أبا طلحة عمل به بعد النبي هذا على أن مطرا الوراق ليس ممن يحتج به ويعضد هذا التأويل ما ذكره مالك في موطئه عن موسى بن عقبة عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري عن أنس أن أبا طلحة وأبى بن كعب أنكرا عليه الوضوء مما غيرت النار فلو أن هذا الحديث عند أبي طلحة غير منسوخ لم ينكر ذلك على أنس والله أعلم.

وقد روى هذه القصة عن عبد الرحمن بن زيد جماعة من أهل المدينة.

أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال أخبرني أبي قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا بحر بن نصر قال حدثنا بشر بن بكر قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني أسامة بن زيد الليثي قال حدثني عبد الرحمن بن زيد الأنصاري قال حدثني أنس بن مالك قال بينا أنا وأبو طلحة الأنصاري وأبي بن كعب أتينا بطعام سخن فأكلت ثم قمت فتوضأت فقال أحدهما لصاحبه أعراقية ثم انتهراني فقلت أنهما أفقه مني

وذكر الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا إسماعيل بن رافع عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري عن أنس بن مالك قال أكلت أنا وأبو طلحة وأبو أيوب الأنصاري طعاما قد مسته النار فقمت لأتوضأ فقالا لي أتوضأ من الطيبات لقد جئت بها عراقية هكذا ذكر الطحاوي هذا الخبر بهذا الإسناد فقال فيه وأبو أيوب والمحفوظ من رواية الثقات وأبي بن كعب كما قال مالك والأوزاعي وأظن الوهم فيه من يحيى بن أيوب أو من إسماعيل بن رافع والله أعلم وقد روي عن أنس أنه لم يكن يتوضأ من الطعام مثل وضوئه للصلاة وذكر العقيلي قال حدثنا أحمد بن محمد النوفلي قال حدثنا الحسين بن الحسن المروزي قال حدثنا الهيثم بن جبل قال حدثنا غالب بن فرقد قال صليت مع أنس بن مالك المغرب فلما انصرفنا دعا بمائدة فتعشى ثم دعا بوضوء فغسل يديه ومضمض فاه وغسل يديه وذراعيه ووجهه ثم جلسنا حتى حضرت العتمة فصلى بذلك الوضوء ولم يغسل رجليه فهذا يدل على أن ذلك لم يكن عنده حدثا ينقض الوضوء وروى عن النبي ترك الوضوء مما مسته النار أم سلمة وميمونة وأبو سعيد الخدري وابن مسعود وضباعة ابنة الزبير وأبو رافع وجابر وعمرو بن أمية وأم عامر بنت يزيد بن السكن وكانت من المبايعات وابن عباس وسويد بن النعمان وكثير من رجال الصحابة كل هؤلاء رووه عن النبي وروى أيضا من حديث أبي هريرة وقد ذكرناه.

ومما يستبين به أن الأمر بالوضوء مما غيرت النار منسوخ أن عبد الله بن عباس "شهد رسول الله أكل لحما وخبزا وصلى ولم يتوضأ".

ومعلوم أن حفظ ابن عباس من رسول الله متأخر

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن ابن عباس "أن النبي تعرق كتفا ثم قام فصلى ولم يتوضأ" وأخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي أن أباه أخبره قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا حجاج قال حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس قال "كنا مع رسول الله في بيت ميمونة فجاء بلال فأذنه بالصلاة فخرج وخرجنا معه فاستقبلتنا هدية من خبز ولحم فرجع ورجعنا معه وأكل وأكلنا ثم خرجنا إلى الصلاة ولم يمس ماء".

وذكر حماد بن سلمة أيضا عن هشام بن عروة عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس نحوه وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن خالد قال كان ابن عباس يوم الجمعة يبسط له في بيت خالته ميمونة فيحدث فقال له أخبرني عما مست النار فقال ابن عباس "لا أخبرك إلا بما رأيت من رسول الله كان هو وأصحابه في بيته فجاءه المؤذن فقام إلى الصلاة حتى إذا كان بالباب لقي بصحفة فيها خبز ولحم فرجع بأصحابه فأكل وأكلوا ثم رجع إلى الصلاة ولم يتوضأ" أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا بكر بن محمد بن العلاء قال حدثنا عثمان بن عمر قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن حسين قال حدثني أبو عون عن عبد الله بن شداد قال قال أبو هريرة الوضوء مما غيرت النار قال مروان إلى أم سلمة فقالت "جاءني رسول الله وقد توضأ وضوءه للصلاة فناولته لحما فأكل ثم خرج إلى الصلاة" حدثنا عبد الله قال قال حدثنا مسدد عن جعفر بن محمد عن علي بن حسين عن زينب بنت أم سلمة "أن رسول الله أكل كتفا فجاء بلال فخرج إلى الصلاة ولم يمس ماء".

يقولون أن خال محمد بن إسحاق محمد بن عمرو ابن حلحلة الديلي فإن كان كذلك فبين محمد بن إسحاق وبين محمد بن عمرو بن عطاء العامري في هذا الحديث محمد بن عمرو بن حلحلة ولمحمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء أحاديث.

وذكر عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج قال أخبرني محمد بن يوسف أن سليمان بن يسار أخبره أنه سمع أبا هريرة وابن عباس ورأى أبا هريرة يتوضأ ثم قال أبو هريرة بني عباس أتدري بني عباس مم أتوضأ توضأت من أثوار أقط أكلتها فقال ابن عباس ما أبالي مما توضأت "أشهد لرأيت رسول الله أكل كتف لحم ثم قام إلى الصلاة وما توضأ".

وقد روى هذا الحديث عن ابن عباس عطاء بن يسار وسليمان بن يسار ومحمد بن عمرو بن عطاء وعمر بن عطاء بن أبي الخوار وابنه على بن عبد الله بن عباس وعكرمة مولاه ومحمد بن سيرين وغيرهم إلا أن عكرمة ذكر في هذا الحديث لفظة زائدة.

حدثنا خلف بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد وحدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا ابن جامع قالا حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا ابن الأصبهاني قال حدثنا شريك بن سماك عن عكرمة عن ابن عباس "أن النبي أكل كتفا مهرية يعني نضجة ثم مسح يده ثم صلى" هكذا جاء في هذا الحديث تفسير مهرية وهو أولى ما قيل في ذلك إن شاء الله وذكر أبو عبيد مؤربة بالهمز وفسرها أنها موفرة ثم قال هو مأخوذ من الإرب يعني العضو.

فهذه طرق حديث ابن عباس أو بعضها وهو حديث قد رواه معه من تقدم ذكرنا له من وجوه صحاح كلها والحمد لله وقد قال جابر أن الناسخ في هذا الباب ترك الوضوء مما مست النار وخالفته في ذلك عائشة

أخبرنا خلف بن القاسم قال حدثنا بن أبي العقب بدمشق قال حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قال حدثنا على بن عياش قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال "كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما غيرت النار" وقد ذكرنا حديث محمد بن المنكدر بما يجب القول فيه في كتابنا هذا في باب محمد بن المنكدر لأن مالكا أرسله عنه ووصله غيره وقد ذكرناه على شرطنا وبالله التوفيق فهذا وجه القول في هذا الباب من جهة الآثار.

وأما طريق النظر فإن الأصل أن لا ينتقض وضوء مجتمع عليه إلا بحديث مجتمع عليه أو بدليل من كتاب أو سنة لا معارض له.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا ضمرة عن رجاء قال سألت الوليد بن هشام عما غيرت النار فقال إني لست بالذي أسأل قلت على ذلك قال كان مكحول وكان أعظم فقها يتوضأ منه فلقي من أثبت له الحديث أنه ليس فيه وضوء فترك الوضوء.

أخبرنا أحمد بن قاسم قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عمرو بن هشام البيروتي قال سمعت الأوزاعي يقول سألت ابن شهاب عن الوضوء مما غيرت النار فقال لي توضأ قلت عمن قال عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة قلت فأبو بكر قال لم يكن يتوضأ قلت فعمر قال لم يكن يتوضأ قلت فعثمان قال لم يكن يتوضأ قلت فعلي قال لم يكن يتوضأ قلت فابن عباس قال لم يكن يتوضأ قال فقلت له أرأيت إن سألتك رجالا مثل رجالي فقال إذا لأتيتك بهم حدثنا أبو الفضل أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن وأبو عثمان يعيش بن سعيد بن محمد الوراق الإمام وأبو عبد الله محمد بن حكم قالوا أخبرنا أبو بكر محمد بن معاوية القرشي قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال حدثنا عبد الله ابن قال حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي عن اليزيد بن أبي زياد عن مقسم قال بينما نحن عند ابن عباس إذ أتي بجفنة فيها ثريد قال خذوا باسم الله وكلوا من نواحيها وذروا الذروة فإن في الذروة البركة فأكلنا ثم دعا بماء فشربه ثم قام إلى الصلاة فقلت يا ابن عباس إن الناس يقولون إن فيما غيرت النار من الطعام الوضوء فقال لولا النار ما أكلناه وما زادته النار إلاطيبا وإنما الوضوء فيما يخرج وليس فيما يدخل وصلى بنا على بساط".

وممن قال بإسقاط الوضوء مما مست النار أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعامر بن ربيعة وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أمامة وقال بذلك من فقهاء الأمصار مالك فيمن قال بقوله من أهل المدينة وغيرهم وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وسائر أهل الكوفة والأوزاعي في أهل الشام والليث بن سعد والشافعي ومن اتبعه وأحمد بن حنبل وأبو ثور وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وداود بن علي ومحمد بن جرير الطبري وجماعة أهل الأثر إلا أن أحمد بن حنبل وطائفة من أهل الحديث يقولون من أكل لحم الجزور خاصة فقد وجب عليه الوضوء وليس ذلك عليه في شيء مسته النار غير لحم الجزور.

وقال أحمد فيه حديثان صحيحان حديث البراء وحديث جابر بن سمرة يعني عن النبي وكذلك قال إسحاق بن راهويه ذكره الأثرم عن أحمد وذكره إسحاق بن منصور والكوسج عن إسحاق

قال أبو عمر  : حديث البراء حدثناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال "سئل رسول الله عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضئوا منها".

وحديث جابر بن سمرة عن النبي رواه أبو عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة "أن رجلا سأل رسول الله أتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم توضأ من لحوم الإبل" رواه شعبة وزائدة عن سماك ابن حرب عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة عن النبي نحوه وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا شيبان بن عبد الله بن شيبان قال حدثنا محمد بن عبد الله بن سابق الحضرمي قال حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى قال حدثنا ابن أبي ليلى عن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن جابر بن سمرة "أن أعرابيا أتى النبي فقال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم قال أصلي في مباركها قال لا قال أتوضأ من لحوم الغنم قال لا قال أصلي في مرابضها قال نعم".

وممن قال بقول أحمد هذا في لحم الإبل خاصة إسحاق بن راهويه وأبو ثور ويحيى بن يحيى النيسابوري وأبو خيثمة وهو قول محمد بن إسحاق وأما قول مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والليث والأوزاعي فكلهم في شيء مسته النار وضوءا على من أكله سواء عندهم لحم الإبل في ذلك وغير الإبل لأن في الأحاديث الثابتة "أن رسول الله أكل خبزا ولحما وأكل كتفا" ونحو هذا كثير ولم يخص لحم جزور من غيره وصلى ولم يتوضأ وهذا ناسخ رافع عندهم لما عارضه على ما تقدم ذكرنا له وبالله التوفيق

قال أبو عمر  : قد تأول بعض الناس في هذا الحديث أن قوله "توضئوا مما مست النار" أنه أريد به غسل اليد قال فلما سمع أبو هريرة قوله هذا ورآه يتوضأ لكل صلاة ظن أن ذلك أريد به الوضوء للصلاة

قال أبو عمر  : هذا ليس بشيء وقد تقدم رد هذا القول ودفع هذا التأويل وقد اجتنبنا في هذا الباب ما تبين به جهل هذا المتكلف في تأويله هذا وبالله التوفيق اه.

حدثني أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري قال حدثنا أحمد بن عمير قال حدثنا عمرو قال حدثنا عقبة بن علقمة قال حدثنا الأوزاعي قال "كان مكحول يتوضأ مما مست النار حتى لقي عطاء بن أبي رباح فأخبره عن جابر بن عبدالله أن أبا بكر الصديق أكل ذراعا أو كتفا ثم صلى ولم يتوضأ فترك مكحول الوضوء فقيل له أتركت الوضوء مما مست النار فقال لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله " وذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثنا عارم وسليمان بن حرب قالا حدثنا حماد بن زيد قال سمعت أيوب يقول لعثمان البتي إذا سمعت أمرا عن النبي عليه السلام أو بلغك فانظر ما كان عليه أبو بكر وعمر فشد به يديك.

قال وحدثنا عارم قال حدثنا حماد بن زيد عن خالد الحذاء قال كانوا يرون الناسخ من حديث رسول الله ما كان عليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال حماد وكان رأي خالد أحب إلينا من حديثه قال وحدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد قال كان أبو بكر وعمر أتبع الناس لهدي رسول الله .

وروى محمد بن الحسن عن مالك بن أنس أنه قال إذا جاء عن النبي حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة أن الحق فيما عملا به

وقد روى عكراش بن ذوئب عن النبي صفة الوضوء مما غيرت النار ولم أر لذكره معنى لأن إسناده ضعيف لا يحتج بمثله وأهل العلم ينكرونه.