الرسالة الباهرة/الصفحة الثانية


  • قال أبو محمد رحمه الله : ولو استطاعت هذه الطائفة المستأخرة من الحنفية والمالكية أن يدّعوا لصاحبهم أنه تكلم في المهد ما تأخروا عن ذلك .

فقد رأيت في بعض الكتب التي جمعوها في فضائل مالك رحمه الله : أنه كان في فخذه مكتوب بالنور : ( مالك عدّة الله ) وأدخلوا في فضائلهم أنه قام خمساً وعشرين سنة ليس بينه وبين مسجد رسول الله إلا نيف وعشرون خطوة ، ولم يُصَلّ فيه صلاة فرض ولا جمعة .

وهذا لا يدخل في الفضائل أصلاً ، بل هو مما يجب أن يُعتذر له منه ، وما نظن به في ذلك إلا خيراً أو عذراً . فإما عذر صحيح عند الله تعالى وهو أولى به عندنا ، وإما تأويل تأوله من أنه كان لا يستجير الصلاة خلف الأمراء الفسّاق ، فإن هذا : فهو تأويل أخطأ فيه ، هو فيه مأجور أجراً واحداً ؛ لأن النبي أمر بالصلاة خلف الأمراء المؤخرين لها عن وقتها ، وليس في الفسق أكثر من فعل من فرّط في الصلاة عمداً حتى خرج وقتها .

وقد سمعت بعضهم يقول : إن مالكاً رأى عجوزاً رأت النبي .

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا كذب لا خفاء به ؛ لأنه لم يعش بعد أنس بن مالك رضي الله عنه احد رأى النبي إلا أبو الطفيل عامر بن وثلة وحده ، وكان موت أنس بن مالك قبل مولد مالك ، وما ذكر احد قط أن مالكاً رأى أبا الطفيل .

وقد ذكروا أنه المراد بـ ( عالم المدينة ) في الحديث المروي من طريق أبي الزبير هو مالك ، وهذا تقوّل منهم على رسول الله بغير علم ، ومن قطع على مراده فقد كذب عليه ، فليتبوأ مقعده من النار ، وقال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } الإسراء آية 36 ، وقال تعالى : { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } النجم آية 28 ، وقال تعالى : { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم } النور آية 15 .

فمن قطع بأن عالم المدينة المذكور في ذلك الحديث لو صح هو مالك بن أنس فقد قفا ما لا علم له به ، وقال ما ليس له به علم ، واتبع الظن ، والظن أكذب الحديث ، وقال على رسول الله بظنه فصار كاذباً عليه ، نعوذ بالله من الضلال ، وأيضاً فلو صح لهم أنه مالك بيقين لما كان في ذلك متعلق أصلاً ؛ لأنه ليس في ذلك الحديث أنه لا يوجد مثله في العلم ولا نظيره ، وإنما فيه أنه لا يوجد أعلم منه ، فإذا كان من الممكن أن يوجد مثله في العلم في زمانه فليس هو أولى بما وجد التقدم في العلم ممن هو مثله في ذلك ، ولا في الحديث أيضاً إنه يوجد بعدَه أعلم منه ، فقد سقط تعلقهم به جملة ، وبالله تعالى نتأيد .

فإن منعوا ذلك وأخرجوه من الممكن وقطعوا أنه لا يكون ذلك أبداً عجّزوا ربّهم وهذا كفر ، وهذا لا يعلم بنص ، وإذ لا نص في ذلك فقد منع من أين يكون فقد قطع على الله تعالى بالكذب ، فهم في هذا ما بين أمرين : إما كفر ، وإما كذب على الله تعالى ، فليختاروا ، وما فيهما حظّ لمختار ، فإن أبوا منهما معا ، فقد سقط تعلقهم بهذا الحديث ، وبطل تمويههم به على كل وجه ، وبالله تعالى التوفيق .

وقال منهم قائلون : قال سفيان بن عيينة : كانوا يرون أنه مالك .

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا لو صح عن سفيان ، فإن كان يكون زناً من الذين حكى ذلك عنهم سفيان ، ولعل سفيان إنما أخبر بذلك منكراً عليهم ، ولعلهم كانوا من أصحاب مالك وتلاميذه ، وهذا الذي لا يجوز أن يُظن بسفيان وغيره ؛ لأنه كان عبداً اتَّقى الله عز وجل من أن يقطع على رسول الله بغير نص صحيح ، وبرهان هذا هو ابن عيينة الذي ينسبون إليه هذا الباطل ، وهو مخالف لمالك ، فما قلده قط ، ولا اتبعه ، ولا طلب فتياه ، ولا كتب أقواله ، ولا عمل بشيء من رأيه ، ولا في مسألة من المسائل ، فلو كان عالم المدينة المذكور هو مالك عند سفيان لما استجاز مخالفتته ، ولا استحل تعطيل فتياه .

وأيضاً : فقد أخبرنا يوسف بن عبد الله بن أبي جعفر عن أحمد بن سعيد بن حزم الصدفي عن قاسم بن أصبغ عن محمد بن إسماعيل الترمذي قال نا نعيم بن حماد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : ( يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة ) قيل لسفيان : فمن تراه ؟ قال : قال نعيم بن حماد : فسمعته أكثر من ثلاثين مرة يقول : إن كان أحد فهو لعمري هذا العابد في المدينة ، يكنى أبا عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب .

قال أبو محمد رحمه الله : فهذا يبين بطلان ظنهم في قول سفيان ، وأيضاً على أبي الزبير وهو مدلس ، ما لم يقل حدثنا ، أو أخبرنا ، فظهر بطلان ظنهم من كل جهة .

نعم ، وادعى بعضهم في الخبر الوارد من طريق عمرو بن حكام عن شعبة ورويناه أيضاً من طريق هشام عن داود بن أبي هند ، وفيه : ( أنه لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله ) أنهم أهل مذهب مالك ، وهذا من استجاز الكذب واستحلاله في الدرجة القصوى ، وما أفريقية والأندلس بأولى باسم المغرب من مصر والشام ، وأهلهما على خلاف مالك ، بل الظاهر على مذهب أهل السنة جملة ، ولا أيضاً من صحراء زناتة والغالب عليها الخوارج والمعتزلة ، والشيعة على جبال كتامة ، وقد كانت أفريقية على رأي أبي حنيفة ، والأندلس على رأي الأوزاعي دهراً طويلاً ، فما الذي جعل صرف الخبر المذكور إلى ما هما عليه الآن أولى من صرفه إلى ما كانتا عليه قبل ذلك ، ولا ندري إلى ما تؤول إليه حالهما في المستأنف ، إلا أن يدعوا علم الغيب ، فحسبك هذا ضلالاً .

وأيضاً : فبلا شك ندري أنه إذ قال  : ( لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق ) فإن أهل الغرب كانوا حينئذ نصارى أولهم عن آخرهم ، ليس فيهم مسلم بوجه من الوجوه ؛ لأنه إنما فتحت مصر والشام في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأفريقية في زمان معاوية رضي الله عنه ، وفتحت الأندلس في زمن الوليد بن عبد الملك ، وقد أيقنا أن النبي لا يقول إلا الحق .

فإن صح الحديث المذكور فنحن موقنون أنه عليه السلام لم يخص وقتاً دون وقت ، فإذا وجب أن يكون الأمر كذلك : فالأغلب أن ذلك الوقت لم يأت بهد ، ولعله عند نزول عيسى بن مريم ، وإلا فما يدر بهم ، والقول بالظن لا يحل أيضاً ، فإن حمل الحديث المذكور على ظاهره اولى ، بل لا يحل سوى ذلك بلا دليل من نص أو إجماع .

ونحن إذا تدبرنا ذلك الحديث وجدنا لفظه يوجب الذم لا المدح ؛ لأنه عليه السلام إنما كان يكون مخبراً بأنهم لا يزالون ظاهرين على الحق ، والظهور في لغة العرب هو الغلبة ، فإنما يقتضي هذا اللفظ أنهم لا يزالون غالبين لأهل الحق حتى يأتي أمر الله .

قال أبو محمد رحمه الله : وهكذا وجدناهم أبداً مخالفين للحق ، مخامرين له ، دافعين له ، فأول ذلك أن المباشرين لقتل عثمان رضي الله عنه كانوا من أهل الغرب من أهل مصر ، وهم كنانة بن بشر التجيبي ، وعمران بن سودان ، وقنبرة ، وعبد الرحمن بن غدير البلوي ، كلهم مصريون .

ثم بعد بذلك أمّر علي بن بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاوية رحمة الله عليه ، فعليٌّ صاحب الحق بلا شك ، ومعاوية مجتهد متأول مخطئ معذور مأجور أجراً واحداً ، إذ لا خفاء في أن الفرق في الفضل بين معاوية أبين من أن يُشكل على منصف ، وإن معاوية كان رحمه الله صاحباً فاضلاً ، ولكن قال الله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } الحديد آية 10 .

فعليٌّ بن أبي طالب مهاجر أول ، سابق بدري أحدي خندقي حديبي ، ومعاوية رحمه الله من مسلمة الفتح ، وكان معاوية الغالب لعليّ إلى أن مات ، والظاهر على حق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .

ثم ظهور الفاسق يزيد على حقٍ بقية معاوية من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من أهل المدينة ، يوم الحرة ، وعظيم ما ارتكبه في الإسلام بأوباش أهل الغرب من أهل الشام ومصر .

ثم ظهور الفاسق الحجاج ومن قدّمه على حق أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، وابن الزبير بقية الصحابة ، وصاحب الحق ، والحجاج ومن ولاة أهل الباطل والثورة ، وشق عصا المسلمين بلا تأويل أصلاً ، ولا بوجه له مخرج ، ورجمه مكة بأوباش أهل الغرب من أهل مصر والشام .

ثم ظهور جور بني مروان وآله ، فما رأى الناس عدلاً في تلك المدة إلا الجور المبين ، ولعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنابر ، والاستخفاف بالصلاة إلا عامين من ولاية عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه ، وستة أشهر من ولاية يزيد بن الوليد رحمه الله ، وكان الأمر في مدة سليمان على قصرها افتراءً وخفة .

ثم ظهور الكفرة بني عبيد الله بالمغرب وغلبتهم بالكفر المجرد ، ما بين البحر الشامي إلى ما وراء مكة والمدينة إلى الفرات ، قد طمسوا نور الإسلام ونكسوا أعلامه إلى يومنا هذا ، فما هذا الخبر إن صح إلا إنذاراً بظهور أهل الغرب على أهل الحق ، وغلبتهم إياه ، وطمسهم لآثاره ، وهو أعظم حجة عليهم .

فهذه صفة أهل الغرب وأهله عياناً ، لا يقدر على دفعه إلا وقّاحُ الوجه ، مُدافعٌ للعيان ، لا يُبالي بمثله ، وليس بعضهم أولى بصحة دعواه من بعض .

وكل طائفة تدّعي أنها أهل الحق ، ولا حق إلا في كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله المبلغة بالسند الصحيح إليه فقط ، ولا بقي نور الإسلام وطلب السنن عن رسول الله كما يجب إلا بأقصى المشرق بخراسان وما هنالك .

وما الغرب فخال من ذلك كله ، صِفرٌ من جميعه إلا من الشاذ الفاذّ والنارد الغريب ، وكلهم مقلد لآبائه ، معرض عن سنة رسول الله وعن أحكامه ، وعن أحكام القرآن ، لا تجاوز تراقيهم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

قال أبو محمد رحمه الله : فهذا ما راموا به نصر قول مالك رحمه الله وتغليبه ، إلى حماقات سوى هذه يريدون أن يُعرِبوا بها فيُعجموا ، ويقصدون أن يبنوا فيهدموا ، من نحو قولهم : إن مالكاً رحمه الله صلى الصبح بوضوء العتمة أربعين سنة .

والعجب ممن أراد مدحه بهذا وهو خلاف ما كان عليه رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم ، وقد صح عن ص أنه ما قام ليلة حتى الصباح ، وأنه عليه السلام نهى عن ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبا الدرداء رضي الله عنهم .

وقال  : ( قم ونم ) ، وأخبر أنه { من رغب عن سنتي في ذلك فليس منه } .

أفترى مالكاً في هذه الأربعين سنة لم يكن له إلى أهله حاجة ؟ ألم يمرض ؟ ألم تعرض له في الليل بولة ولا قرقرة ؟ ألم تغلبه سنة ؟ .

إن هذا لعجب ، فهذا مع أنه ذم وبدعة ، فهو أيضاً كذب وفرية ومحال في الطبيعة .

وحكوا أيضاً عن ابن القاسم صاحبه رحمه الله : أنه كان يختم القرآن في رمضان مئتي مرة ، وهذه طامة من فضائح الكذب المشبع ؛ لأن هذا إذا قُسِمَ ، وقع لكل يوم وليلة ختم القرآن فيها ست مرات وثلثي مرة زيادة ، ومثل هذا من القول فهو أميل إلى الاستخفاف بالقرآن ، والاستهزاء بكلام الله عز وجل وتلاوته غير موفاة الحروف .

هذا لو أمكن ، ثم هو بعدُ معصية لله تعالى ؛ لأنه قد صح عن النبي أن لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث ليال ، ولم يختلف عن هذا أخد من الصحابة رضي الله عنهم في دون ذلك إلا في مرة واحدة في الليلة فقط ، ثم بعد هذا كله فهو محال وكذب ، أتراه لم ينم طول شهر رمضان لا ليلاً ولا نهاراً ؟ أما كانت عليه صلاة فرض ؟ أما كان عليه إفطار بأكل وشرب ؟ أما كان عليه شهود جمعة ؟ وإنصات للخطبة ؟ أما كان عليه وضوء وما يوجب الوضوء من بول وغيره وغسل جمعة ؟ أما كان من بني آدم فيأخذه من دندنة النهار والليل حيران وصداع ودوار وعشواء النفس وبحة الصوت ؟ أما كان يسأم ولا يفتر من قراءة القرآن ست مرات في كل بياض يوم وثلثا زيادة شهراً كاملاً متصلاً ؟ هذه صفة الملائكة التي ذكر الله عز وجل فيهم أنهم لا يسأمون ولا يفترون ، وليست هذه صفة آدمي أصلاً ، أما يستحي من له مُسكة عقل أو دين من أن يحدث بمثل هذا الحديث الذي قد جمع فيه الكذب والمعصية ؟ ونسأل الله تعالى أن لا يخذلنا بمنه .

ويقولون إن مالكاً ثبت على علم المدينة .

وهذا كلام في غاية الفساد ؛ لأن الذين خرجوا عن المدينة من الصحابة رضي الله عنهم وثم التابعين لهم ، ثم الفقهاء بعدهم كالحسن البصري ، وابن سيرين ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث ، وغيرهم ، إن أطلقوا عليهم أنهم بدّلوا الدين وأحدثوا شريعة ، فقد افتروا إثماً عظيماً ، فإن لم يبالوا بذلك ولا تورعوا عنه عاد ذلك عليهم ؛ لأنه إذا جاز ذلك على من ذكرنا ، جاز ذلك على من بقي في المدينة من الصحابة رضي الله عنهم ، وعلى من بعدهم ، وعلى تابعيهم ، وعلى مالك ومن معه ، وهذا كله هو الباطل المحض ، وقد أعاذ الله جميعهم من ذلك ، ونزعهم عنه ، ولا يظن ذلك بأحد منهم إلا فاسق خبيث .

وكذلك إن قالوا : إن عمر وعثمان رضي الله عنهما أغفلا تعليم رعيتهما من أهل العراق والشام ومصر أمور الدين ، وهم في طاعتهم ، يُوَلّون عليهم عُمّالهم من الصحابة ، وتَفِدْ عليهم وفودهم ، فَضَيَّع عمر وعثمان رضي الله عنهما تعليم شرائع الإسلام ، وأهملاهم وكتماهم الديانة ، فهذا إخراج للخليفتين المرضيين رضي الله عنهما عن الإسلام ، ولعمري إن الظان ذلك بهما أولى بهذه الصفة .

فصح أن الذي عند أهل المدينة هو عند غيرهم من فقهاء الأمصار سواء سواء ، ولا فرق ، إذ ليس العلم مكتوماً ، والحمد لله رب العالمين ، ولا أهل المدينة بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في البلاد أولى بالعلم من غيرهم ، وبالله تعالى التوفيق .

وأما الحنفيون فقد ادعوا لصاحبهم رواية عن عبد الله بن الحارث بن جزء صاحب رسول الله عن النبي .

وهذا لا يصح ؛ لأن أبا حنيفة مات رحمه الله سنة خمسين ومئة بلا خلاف ، وله سبعون سنة ، هكذا حكى ابنه حماد عن سنّ أبيه ، فمولد أبي حنيفة على هذا في سنة احدى وثمانين أو سنة ثمانين ، ولم يعش بعد احدى وتسعين من الصحابة رضي الله عنهم أحد ، وفي الخبر المذكور عن أبي حنيفة أنه لقى عبد الله بن الحارث بمكة وله ست عشرة سنة ، فكان لقاؤه في سنة ستة وتسعين ، ولم يكن عبد الله حياً في ذلك العام بلا شك ؛ فإنه لا خلاف بين علماء المسلمين في أن أنس بن مالك رضي الله عنه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم ، وقد مات قبل هذا التاريخ بمدة .

قال أبو محمد رحمه الله : ولقد حملت العصبية ورقة الدين بعضهم على أن وضع على رسول الله حديثاً رواه مأمون بن أحمد قال نا أحمد بن عبد الله الحرمازي وهو معروف بوضع الحديث عن أنس بن مالك عن رسول الله  : ( يكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي ، ويكون فيهم رجل يقال له محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس ) فمن أضل ممن يعترض ليتبوأ مقعده من النار نصراً لأقوال من لا يُغني عنه شيئاً ورأيه ، ونعوذ بالله من الخذلان .

ولقد رُوي عن بعضهم أنه قال : ما علقمة بدون ابن مسعود ، ولا إبراهيم بدون علقمة ، ولا حماد بن أبي سليمان بدون إبراهيم ، ولا صاحبكم يعني أبا حنيفة بدون حماد ، فأنتج هذا أن أبا حنيفة ليس بدون ابن مسعود في الفقه ، فإذا كانت هذه صفة أبي حنيفة عند أصحابه في الفقه ، فأين يقع عندهم مالك وغير مالك منه ؟!

قال أبو محمد رحمه الله : والذي لا نشك فيه : فإن الذي أحدثوه في الأقضية من الكشوف وكتابها وعقد مقالات ، والإشهاد عليها ، والاعذار مدة مسماة لا تتجاوز ثلاثين يوماً ولا بيوم ، وسجن مدّعي الإفلاس شهراً ، ثم حينئذ ينظرون في أمره وقبول الوكالة على صفة ما ، ومنعها على ما ، وقطع الحجة بعد التسجيل والتطواف بالشهود من واحد إلى ثانٍ ، وإن علم الحاكم حكم تلك المسألة فإن هذا لم يك قط على عهد رسول الله ، وهذا ما لا يشكون فيه أصلاً ، فلولا أن هذه الأمور عندهم خير زائد على ما كان في صفة أحكامه ، ثم على أحكام الصحابة رضي الله عنهم ، محدث مستحسن فما استعملوه ولا اشتغلوا به ، وهذا نفسه معنى قول القائل : ( أبو حنيفة كان أعلم بالقضاء من رسول الله ) ولولا خوف السيف ما أمنا إطلاق ذلك فيمن لا خلاق له منهم ، فإن لم يكن هذا خيراً زائداً عندهم ، وعلماً حادثاً حسناً ، فما يحل لهم أن يستعملوه .

وأما ما ذُكر عن أصحاب الشافعي وأحمد وداود فهم أغلى غلوا في أصحابهم في مثل هذه التكاذيب ، ولكن ورد من ذلك إن شاء الله ما يتبين به لهؤلاء الجهّال أن كل طائفة تعتقد أن صاحبها أعلم وأفضل وأجل وأورع وأفقه من الآخرين .

فقد رُوي أن رجلاً قال لأبو ثور : سمعت فلاناً يقول : إن الشافعي أفقه من مالك ، فقال له أبو ثور كلاماً معناه : وأي عجب في هذا ؟ الشافعي أفقه من سعيد بن المسيب .

وذكر بعض الشافعيين خبراً عن رسول الله  : ( أن الله يبعث على رأس كل مئة سنة رجلاً من قريش يحيي به الدين ) قال هذا القائل : هو في الأولى عمر بن عبد العزيز ، والمئة الثانية محمد بن إدريس الشافعي .

وقد ذكر بعض مشاهير المؤرخين أنهم كتبوا على قبره : هذا قبر محمد بن إدريس الشافعي أمين الله .

فانظر أحقاً تبلغ العصبية بهؤلاء القوم ؟ وهذه الآثار التي أسندوا إلى رسول الله لا تصح ، ولو صحت لكان تأويلهم فيها كذباً وظناً ، ونعوذ بالله من الخذلان .

وروينا عن أحمد بن محمد الأثرم أنه قال في مجلس أبي عبيد القاسم بن سلام في مسألة جرت ، فقال الأثرم : فقال هذا من لا يعدل به أحد في شرق الأرض ولا في غربها وهو أحمد بن حنبل ، فقال أبو عبيد : صدقت .

قال أبو محمد رحمه الله : ولقد بلغني أن طوائف من أتباع أحمد بن حنبل رحمه الله يمرون ببغداد على رحبة واسعة كان فيها أمام أحمد درب قصير ، فكان أحمد إذا مرّ به طأطأ رأسه ، فهم إذا مروا به الآن قالوا : طأطئوا ، فها هنا طأطأ الشيخ ، فيطأطئون رؤوسهم هنالك ، وليس بينهم وبين السماء سقف ولا عتبة .

وذكر بعض المؤرخين : أن في جنازته كان يمشي أمام النعش رجل من أصحابه يهتف بأعلى صوته :

وأظلمت الدنيا لفقد محمد
وأظلمت الدنيا لفقد ابن حنبل

وأما قولهم : لولا أحمد بن حنبل لكفر الناس ولصاروا كلهم جهمية ، فأشهر من أن يحتاج إلى تكلف إيراده ، وكل هذا حماقة وضلالة لا معنى له ، ولا فائدة فيه ، وما غلا أحد قط - ولله الحمد - في أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة رضي الله عنهم هذا الغلو ، إلا أن الرافضة غلت في عليّ أضعاف هذا ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .

قال أبو محمد رحمه الله : وقد قال أبو نصر يوسف بن عمر بن محمد ابن عمر إسماعيل بن إسحاق القاضي ، وولي أبو نصر هذا قاضي القضاة ببغداد في رسالته التي يذكر فيها رجوعه عن مذهب مالك إلى مذهب داود بن علي : ولسنا نجعل من تصديره في كتبه ومسائله بقول سعيد بن المسيب والزهري وربيعة كمن تصديره في كتبه ومسائله بقول الله عز وجل وقول رسول الله وإجماع الأمة ، هيهات ، هذه فضيلة محتباة لصاحبها ومرتبة جليلة صار أبو سليمان رضي الله عنه قدوة فيها .

وقال بعض أصحاب دواد رحمه الله في شعر له مشهور مطول :

ولقد نظرت إلى العلوم بأسرها
فمنحت لب لبابها دوودا
جعل القرآن مع النبي وقوله
والمسلمين أدلة وشهودا
ما حاد عن سنن النبي معانداً
إذ غيره أضحى لهن عنيدا
لو كان حياً من مضى من مالك
أو صحبه أضحوا إليه وفودا
أو ردّ فينا الشافعي مشفعا
لرأيته للشافعي مفيدا
وأبو حنيفة لو تعقب رأيه
أمسى يفند رأيه تفنيدا


الرسالة الباهرة

مقدمة المؤلف | الصفحة الأولى | الصفحة الثانية | الصفحة الثالثة