وقد ذكر أرباب المقالات : ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات ولا مماثل له في جميع الصفات بل من أعظم ما نقلوا في ذلك قول الثنوية الذي يقولون بالأصلين ( النور ) والظلمة ) وإن النور خلق الخير والظلمة خلقت الشر

ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين : أحدهما أنها محدثة فتكون من جملة المخلوقات له

والثاني : أنها قديمة لكنها لم تفعل الا الشر فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور

وقد أخبر سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه في كتابه فقال : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون } إلى قوله { فأنى تسحرون } إلى قوله { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } وقال : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وبهذا وغيره : يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر : غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع

فيقولون : هو واحد في ذاته لا قسم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له

وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو ( توحيد الأفعال ) وهو أن خالق العالم واحد وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله حتى قد يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الإختراع

ومعلوم أن المشركين من العرب الذي بعث اليهم محمد أولا : لم يكونوا يخالفونه في هذا بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء حتى أنهم كانوا يقرون بالقدر أيضا وهم مع هذا مشركون

فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك ولكن غاية ما يقال : إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقا لغير الله كالقدرية وغيرهم لكن هؤولاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم وإن قالوا إنهم خلقوا أفعالهم

وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور هم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة لا يقولون أنها غنية عن مشاركة له في الخلق فأما من أنكر الصانع فذاك جاحد معطل للمصانع كالقول الذي أظهر فرعون

والكلام الآن مع المشركين بالله المقرين بوجود فإن هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون بل يقرون به مع إنهم مشركون كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع وكما علم بالإضطرار من دين الإسلام

وكذلك ( نوع الثاني ) - وهو قولهم : لا شبيه له في صفاته - فإنه ليس في الأمم من أثبت ثديما مماثلا له في ذاته سواء قال أنه يشاركه أو قال : أنه لا فعل له بل من شبه به شيئا من مخلوقاته فإنما يشبه به في بعض الأمور

وقد علم بالعقل بامتناع أن يكون له مقل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم

وعلم أيضا بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد بينهما من قدر مشترك كاتفاقهما في مسمى الوجود والقيام بالنفس والذات ونحو ذلك فإن يفي ذلك يقتضي التعطيل المحض ن وأنه لا بد من إثبات خصائص الربوبية وقد تقدم الكلام على ذلك

ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا يفي الصفات في مسمى التوحيد فصار من قال : إن لله علما أو قدرة أو أنه يرى في الآخرة أو إن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق يقولون : إنه مشبه ليس بموحد

وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى وقالوا : من قال إن الله عليم قدير عزيز حكيم : فهو مشبه ليس بموحد

وزاد عليهم غلاة الغلاة وقالوا : لا يوصف بالنفي ولا الإثبات لأن في كل منهما تشبيها له وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات وفرارا من تشيبهم - بزعمهم - له بالأحياء

ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت له حد ما يثبت لمخلوق أصلا وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات : لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيدا ويجعلون مقابل ذلك التشبيه ويسمون نفوسهم الموحدين وكذلك ( النوع الثالث ) وهو قولهم : هو واحد لا قسيم له في ذاته أولا جزء له أولا بعض له لفظ مجمل فإن الله سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فيمتنع عليه أن يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء لكنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه ومباينته لخلقه وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله ويجعلون ذلك من التوحيد فقد تبين أن ما يسمونه توحيدا : فيه ما هو حق وفيه ما هو باطل ولو كان جمعية حقا فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن وقاتلهم عليه الرسول بل لا بد أن يعترفوا أنه لا اله إلا الله

وليس المراد ( بالإله ) هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الأختراع دون غيره وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو

فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه بل الإله الحق هو الذي يستحق بأن يعبد فهو إله بمعنى مألوه لا إله بمعنى آله والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له والإشراك أن يجعل مع الله إلها آخر

وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار أهل الإثبات للقدر المنتسبون الى السنة إنما هو توحيد الربوبية وإن الله رب كل شيء ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون

وكذلك طوائف من أهل التصرف والمنت سبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد : غالية عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد وأن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا سيما إذا غاب العارف بموجود عن وجوده وبمشهود عن شهوده وبمعروفه عن معروفه ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها

ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما فظلا عن أن يكون وليا لله أو من سادات الأولياء

وطائفة من أهل التصرف والمعرفة : يقررون هذا التوحيد من اثبات الصفات فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبا الخالق للعلم ألمباين لمخلوقاته وآخر ون يضمون هذا إلى نفي الصفات فيدخلون في التعطيل مع هذا وهذا شر من حال كثير من المشركين

وكان جهنم ينفي الصفات ويقول بالجبر فهذا تحيقي قول جهم لكنه إذا أثبت الأمر والنهي والثواب والعقاب : فارق المشركين من الوجه لكن جهما ومن اتبعه يقول بالإرجاء فيضعف الأمر والنهي والثواب والعقاب عنده

والتجارية والضرارية وغيرم : يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضا في نفي الصفات والكلابية والأشعرية : خير من هؤلاء في باب الصفات فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية وأئمتهم يثبتون الصفات الخيرية في الجملة كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع

وأما في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة

والكلابية هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب الذي سلك الأشعري خطته

وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي وأبي العباس الفلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا وهذا فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل

والكرامية قولهم في الإيمان قول منكم لم يسبقهم اليه أحد حيث جعلوا الإيمان قول اللسان وإن كان مع عدم تصديق القلب فيجعلون المنافق مؤمنا لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الأسم دون الحكم وأما في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة

وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات ويقاربون قول جهم لكنهم ينفون القدر فهم وإن عظموا الأمر والنهي والوعد والوعيد وغلو فيه فهم يكذبون بالقدر ففيهم نوع من الشرك منه هذا الباب والإقرار بالأمر والنهي والوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد

ولهذا لم يكن في زمن الصحابه والتابعين من ينفي الأمر والني والوعد والوعيد وكان قد نبغ فيهم القدرية كما نبغ فيهم الخوارج : الحرورية وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخفى وكما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة

فهؤلاء المتصفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي : شر من القدرية المعتزله ونحوهم : أولئك يشبهون المجوس وهؤلاء يشبهون المشركين الذين قالوا : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } والمشركون شر من المجوس

فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الاصلين أو أحدهما مع ظنه أنه غاية التحقيق والتوحيد والعلم والمعرفة

فإقرار المشرك بأن الله رب كل شيء ومليكه وخلقه : لا ينجيه من عذاب الله أن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة أحد إلا هو وأن محمدا رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فلا بد من الكلام في هذين الأصلين : -

الأصل الأول ( توحيد الإلهية ) فإنه سبحانه أخبر عن المشركين كما تقدك بأنهم أثبتوا بسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذون شفعاء بدون اذن الله تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون

وقال تعالى عن مؤمن يسن { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني آمنت بربكم فاسمعون } وقال تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } فأخبر سبحانه عن شفعائهم انهم زعموا أنهم فيهم شركاء وقال تعالى : { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون } وقال تعالى : { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } قال تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } وقال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } وقال تعالى { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }

قال طائفة من السلف : كان قوم يدعون العزير والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن الملائكة والأنبياء يقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذاب

ومن تحقيق التوحيد : أن يعلم أن الله تعالى أثبت له حقا لا يشركه فيه مخلوق كالعبادة والتوكل ن والخوف والخشية والتقوى كما قال تعالى : { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } وقال تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين } وقال تعالى : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } وقال تعالى : { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } إلى قوله : ( الشاكرين ) وكل من الرسل يقول لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره }

وقد قال تعالى في توكل : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقال : { قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون }

فقال في الأيتان : { ما آتاهم الله ورسوله } وقال في التوكل : { وقالوا حسبنا الله } ولم يقل : ورسوله لأن الإيتان هو الأعطاء الشرعي وذلك يتضمن الإباحة والإحلال والذي بلغه الرسول فان الحلال ما أحله والحرام ما حرمه الدين ما شرعه قال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }

وأما الحسب فهو الكافي والله وحده كاف عبده كما قال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فهو وحده حسبهم كلهم وقال تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله فهو كافيكم كلكم

وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك كما يظنه بعض الغالطين إذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول وهذا في اللغة كقول الشاعر :

فحسبك والضحاك سيف مهند

وتقول العرب : حسبك وزيدا درهم أي يكفيك وزيدا جميعا درهم

وقال في الخوف والخشية والتقوى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فأثبت الطاعة لله والرسول وأثبت الخشية والتقوى لله وحده كما قال نوح عليه السلام : { إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } فجعل العبادة والتقوى لله وحدة وجع لا لطاعة للرسول فإنه يطع الرسول فقد أطاع الله

وقد قال تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون } وقال تعالى : { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } وقال الخليل عليه السلام : { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }

وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا : وأينا لم يظلم نفسه فقال النبي  : [ إنما هو الشرك أو لم تسمعوا إلى قول العبد الصالح : { إن الشرك لظلم عظيم } ] وقال تعالى : { فإياي فارهبون } { وإياي فاتقون }

ومن هذا الباب أن النبي كان يقول في خطبته : ( من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا

وقال : [ ولا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ]

ففي الطاعة : قرن اسم الرسول باسمه بحرف الواو وفي المشيئة : أمر أن يجعل ذلك بحرف ثم وذلك لأن طاعة الرسول طاعة لله فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله وطاعة الله طاعة الرسول بخلاف المشيئة فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله ولا مشيئة الله مستلزمى لمشيئة العباد بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله

الأصل الثاني : حق الرسول

فعلينا أن نؤمن به ونطيعه ونتبعه ونرضيه ونحبه ونسلم لحكمه وأمثال ذلك قال تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } وقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وأمثال ذلك

الايمان بخلق الله وأمره

وإذا ثبت هذا : فمن المعلوم أن يجب الإيمان بخلق الله وأمره : بقضائه وشرعه

وأهل الضلال الحائضون في القدر انقسموا الى ثلاث فرق : مجوسية ومشركية وبليسية

فالمجوسية : الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه ففلانهم أنكروا العلم والكتاب و مقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم

والفرقة الثانية : المشركية الذين أقروا بالقضاء والقدر وأنكر الأمر والنهي قال تعالى : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } فمن احتج على تعطل الأمر والنهي والقدر فهو من هؤلاء وهذا قد كثر فيمن يدعى الحقيقة من المتصوفة

والفرقة الثالثة : وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين لكن جعلوا هذا متناقضا من الرب - سبحانه وتعالى - وطعنوا في حكمته وعدله كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم كما نقله أهل المقالات ونقل عن أهل الكتاب والمقصود أن هذا مما تقول أهل الضلال وأما أهل الهدى والفلاح ففيؤمنون بهذا وهذا ويؤمنون بأن الله خالق شيء وربه ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وأحاط بكل شيء علما وكل شيء أحصاه في أمام مبين

ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله وقدرته ومشيئته ووحدانيته وربوبيته وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه : ما هو من أصول الإيمان ومع هذا فلا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب التي يخلق بها المسببات كما قال تعالى : { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } وقال تعالى : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } وقال تعالى : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } فأخبر أنه يفعل بالأسباب

ومن قال : إنه يفعل عندما لا بها فقد خالف ما جاء به القرآن وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع وهو شبيه بانكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد كما أن من جعلها هي للبدعة لذلك فقد أشرك بالله وأضاف فعله إلى غيره

وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه ولابد من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده قال تعالى : { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } أي فتعلمون أن خالق الأزواج واحد

ولهذا من قال : إن الله لا يصدر عنه إلا واحد - لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد - كان جاهلا فإنه ليس في الوجود واحد عنه وحده شيء - لا واحد

ولا اثنان - إلا الله الذي خلق الازواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلون

فالنار التي خلق الله فيه حرارة لا يحصل الأحراق الا بها وبمحل يقبل الأحراق فإذا وقعت على السمندل والياقوت ونحوها لم تحرقها وقد يطلى الجسم بما يمنع احراقه

والشمس التي يكون عنها الشعاع لا بد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف : لم يحصل الشعاع تحته وقد بسط هذا في غير هذا الموضع

والمقصود هنا : أنه لابد من ( الإيمان بالقدر ) فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد كما قال ابن عباس : هو نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر ثم توحيده ومن وحد الله كذي بالقدر نقض توحيده

ولابد من الإيمان بالشرع وهو الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه

والإنسان مضطر الى شرع حياته الدنيا فإنه لا بد له من حركة يجلب بها منفعته وحركة يدفع بها مضربه والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفعه والأفعال التي تضره وهو عدل الله في خلقه ونوره بين عباده فلا يمكن الآدبيين أن يعيشوا بلا شرع يميزون بين ما يفعلونه ويتركونه

وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم بل الإنسان المنفرد لا بد له من فعل ولرك فإن الإنسان همام حارث كما قال النبي [ أصدق الأسماء حارث وهمام ] وهو معنى قولهم متحرك بالإرادات فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها ولا بد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار ؟ وهل يصلحه أو يفسده ؟

وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم وبعضهم يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم لهم

وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يعرف حسنا وقبيحها بالعقل أم ليس لها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل ؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع وبينا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه

فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل وهو أن يكون الفعل سببا لما يحبه الفاعل ويلتذ به وسببا يبغضه ويؤذيه وهذا القدر يعلم بالعقل تارة وبالشرع وبهما جميعا أخرى لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال : من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع

فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك

وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان وجاء به الكتاب هو ما دل عليه قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } وقوله تعالى : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب } وقوله تعالى : { قل إنما أنذركم بالوحي }

لكن توهمت طائفة أن للحسن والقبح معنى غير هذا وأنه يعلم بالعقل وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبيح : يخرج عن هذا فكلا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن - والقبح العقلين أو الشرعيين وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت

ثم إن كلتى الطائفتين لما كانتا تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا والسخط والفرح ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية ودلت عليه الشواهد العقلية : تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح هل ذلك ممتنع لذاته وأنه يتصور قدرته على ما هو قبيح وأنه سبحانه منزه عن ذلك لا يفعله لمجرد القبح العقلى الذي أثبتوه ؟ على قولين

والقولان في الأنحراف من جنس القولين المتقدمين أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال والطاعة والمعصية والأبرار والفجار وأهل الجنة وأهل النار والرحمة والعذاب فلا جعلوه محمودا على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم ولا ما فعله من الإحسان والنعمة وما تركه من التعذيت والنقمة

والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلى الذي أثبتوه ولا حقيقه له وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه

فمن نظر الى القدر فقط وعظم الفناء في توحيد الربوبية ووقف عند الحقيقة الكونية : لم يميز بين العلم والجهل والصدق والهدى والضلال والرشاد والغى وأولياء الله وأعدائه وأهل الجنة وأهل النار ي

وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله ودينه وشرائعه فهم مخالفون أيضا لضرورة الحس والذوق وضرورة العقل والقياس فإن أحدهم لابد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء فيميز بين ما يأكل ويشرب وما يأكل ولا يشرب وبين ما يؤذية من الحر والبرد وما ليس كذلك وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضر هو الحقيقة الشرعية الدينية

ومن ظن أن البشر ينتهى إلى حد يسوى عنده الأمر دائما : فقد افترى وخالف ضرورة الحس ولكن قد يعرض للأنسان بعض الأوقات عارض كالسكر واغماء ونحو ذلك مما يشغل عن الإحساس ببعض الأمور فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه بل يرى في منامه ما يسوؤه تارة وما يسره أخرى

فالأحوال التي يعبر عنها تالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض فهي مع نقص صاحبها - لضعف تمييزه - لا تنتهى إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقا ومن نفي التمييز في هذا المقام مطلقا وعظم هذا المقام فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية : قدرا وشرعا وغلط في خلق الله وفي أمره حيث ظن أن وجود هذا لا جود له وحيث ظن أنه ممدوح ولا مدح في عدم التمييز : العقل والمعرفة

وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول : أريد أن لا أو أن العارف لا حظ له وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل ونحو ذلك فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي يؤمر بها وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه

ومن أراد بذلك أنه إرادته بالكلية وأنه لا يحس باللذة والألم والنافع والضار فهذا مخالف لضرورة الحسن والعقل والدين

الفناء عند الصوفية وغيرهم : فصل في أقسام الفناء الثلاثة

أحدها : هو الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب وهو أن يفنى عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به : فيفنى عن عبادة غيره بعبادته وعن طاعته غيره بطاعته وطاعة رسوله وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه وعن محبة ما سواه بمحبة ما سواه بمحبته ومحبة رسول وعن خوف غيره بخوفه بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هذا من الله وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواها كما قال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } فهذا كله هو مما أمر الله به ورسوله

وأما ( الفناء الثاني ) : وهو الذي يذكره بعض الصوفية وهو أن يغنى عن شهود ما سوى الله تعالى فيغنى عن عبادته وبمذكوره عن ذكر هو وبمعروفه بحيث قد يغيب عن شهود نفسه لما سوى الله تعالى فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين وليس هو من لوازم طريق الله

ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي وللسابقين الأولين ومن جعل هذا نهاية السالكين فهو ضال ضلالا مبينا وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض ليس هو من اللوازم التي تحصل لمل سالك

وأما الثالث : فهو الفناء عن وجود السوى بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق وأن الوجود واحد بالعين فهو قول أهل الإلحاد والإتحاد الذين هم من أضل العباد

وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس : فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله فإنه إذا كان مشاهدا للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور فعومل بموجب ذلك مثل أن يضرب ويجاع حتى يبتلي بعظيم الأوصاب والأوجاع فإن لام من فعل ذلك به وعابه فقد يقض قوله وخرج عن أصل مذهبه وقيل له : هذا الذي فعله مقضى مقدور فخلق الله وقدره ومشيئته : متناول لك وله وهو يعمكما فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا والا فليس بحجة لا لك ولا له

فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر الى القدر ويعرض عن الأمر والنهي والمؤمن مأمور بان يفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على المقدور كما قال تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }

وقال في قصة يوصف : { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فالتقوى فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه ولهذا قال الله تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار } فأمره مع الاستغفار الصبر فإن العباد لا بد لهم من الاستغفار أو لهم وآخرهم قال النبي في الحديث الصحيح : [ يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فو الذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ] وقال : [ انه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ]

[ وكان يقول اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدى وكل ذلك عندى اللهم أغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر ]

وقد ذكر عن آدم أبي البشر انه استغفر ربه وتاب إليه فاجتباه ربه فتاب عليه وهداه وعن إبليس أبي الجن - لعنه الله - أنه أصر متعلقا بالقدر لعنه وأقصاه فمن أذنب وتاب وندم فقد أشبه أباه ومن أشبه أباه فما ظلم قال الله تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما }

ولهذا قرن الله سبحانه بين التوحيد والإستغفار في غير آية كما قال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقال تعالى : { فاستقيموا إليه واستغفروه } وقال تعالى : { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير * أن لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى }

وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره : يقول الشيطان أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والإستغفار فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا

وقد ذكر سبحانه عن ذي النون انه نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال تعالى : { فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } قال النبي [ دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه ]

وجماع ذلك انه لابد له في الأمر من أصلين ولابد له في القدر من أصلين

ففي الأمر عليه الإجتهاد في الإمتثال علما وعملا فلا تزال تجتهد في العلم بما أمر الله به والعمل بذلك

ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور وتعديه الحدود

ولهذا كان من المشروع أن يختم جميع الأعمال بالإستغفار فكان النبي إذا أنصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقد قال الله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } فقاموا بالليل وختموه بالإستغفار وآخر سورة نزلت قول الله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } وفي الصحيح أ ه كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : [ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم إغفر لي ] يتأول القرآن

وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به ويتوكل عليه ويدعوه ويرعب إليه ويستعيذ به ويكون مفتقرا إليه في طلب الخير وترك الشر وعليه أن يصبر على المقدور ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأ لم يكن ليصيبه وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدر عليه

ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى لما قال : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك بكلامه فبكم وجدت مكتوبا على من قبل أن أخلق : ( وعصى آدم ربه فغوى ) قال : بكذا وكذا فحج آدم موسى

وذلك أن موسى لم يكن عتبه لآدم لأجل الذنب فإن آدم كان تاب منه التائب من الذنب كمن لا ذنب له وليكن لأجل المصيبة التي لحقهم من ذلك

وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب وأن يستغفروا من المعائب كما قال تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك } فمن راعى الأمر والقدر كما ذكر : كان عابدا الله مطيعا له مستعينا به متوكلا عليه من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقا

وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع كقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } وقوله : { فاعبده وتوكل عليه } وقوله : { عليه توكلت وإليه أنيب } وقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا } فالعبادة لله والاستعانة به [ وكان النبي يقول عند الأضحية اللهم منك ولك ] فما لم يكن بالله لا يكون فانه لا حول ولا قوة إلا بالله وما لم يكن لله فلا ينفع ولا يدوم ولابد في عبادته من أصلين ( أحدهما ) إخلاص الدين له :

الثاني ) موافقة أمره الذي بعث به رسله ولهذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا يجعل لأحد فيه شيئا وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) قال : أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا على : ما أخلصه وأصوبه قال : إذا كان العمل خالصا ولم يكن صوابا لن يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة

ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على أتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدين ما لم يأذن به الله من عبادة غيره فعل ما لم يشرعه من الدين كما قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله

والدين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله و لا دين إلا ما شرعه

ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام : فالمؤمنون المتقون هم له وبه يعبدونه ويستعينونه

وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر فتجد عند أحدهم تحريا الطاعة والورع ولزوم السنة ولكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر بل فيهم عجز وجزع

وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة فقد يمكن أحدهم ويكون له نوع من الحال باطنا وظاهرا ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصيف الأول ولكن لا عاقبة له فإنه لبس من المتقين والعاقبة للتقوى فالأولون لهم دين ضعيف ولكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه الجزع والعجز وهؤلاء لأحدهم حال وقوة ولكن لا يبقى له إلا ما وافق الأمر واتبع فيه السنة

وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه فهو لا يشهد أن علمه لله ولا أنه بالله

فالمعتزلة ونحوهم - من القدرية الذين أنكروا القدر - هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من هؤلاء الجبرية القدرية الذين يعرضون عن الشرع والأمر والنهى

والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية : خير من المعتزلة ولكن فيهم من فيه نوع بدع مع إعراض عن بعض الأمر والنهي والوعد والوعيد حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك ويصيرون أيضا معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم فهم معتزلة من هذا الوجه

وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شرا من بدعة أولئك المعتزلة وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة

وإنما دين الله ما بعث به رسله وأنزل به كتبه وهو الصراط المستقيم وهو طريقة أصحاب رسول الله خير القرون وأفضل الأمة وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين قال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } فرضى عن السابقين الأولين رضا مطلقا ورضى عن التابعين لهم بإحسان

وقد قال النبي في الأحاديث الصحيحة : [ خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ]

و [ كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب رسول الله أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ]

وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما : يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم فو الله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبها بعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا

وقد [ قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه : خط لنا رسول الله خطا وخط حوله خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال : ( هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وقد أمرنا سبحانه أن نقول في صلاتنا { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ]

وقال النبي  : [ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ] وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه والنصارى عبدوا الله بغير علم

ولهذا كان يقال : [ تعوذا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ] وقال تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } قال ابن عباس رضي الله عنهما : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وقرأ هذه الآية

وكذلك قوله تعالى : { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } فأخبر أن هؤلاء مهتدون مفلحون وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين

فنسأل الله العظيم يهدينا وسائر أواننا صراطه المستقيم صراط الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا