الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الأطعمة/الأصل في الأطعمة الحل



الأصل في الأطعمة الحل


الأصل في كل شئ الحل ولا يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله وما سكتا عنه فهو عفو لمثل قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية . فإن النكرة في سياق النفي تدل على العموم . ولمثل حديث سلمان الفارسي قال : سئل رسول الله () عن السمن والجبن والفراء فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا لكم أخرجه أبن ماجه والترمذي ، وفي إسناد أبن ماجه سيف بن هرون البرجمي وهو ضعيف ، وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله () قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شئ لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي () قال : ذروني ماتركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وأخرج البزار وقال : سنده صالح والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء ورفعه بلفظ ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى وتلا وما كان ربك نسياً وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها وفي الكتاب والسنة مما يتقرر به هذا الأصل الكثير الطيب . فيتوجه الاقتصار في رفع الحل على ماورد فيه دليل يخصه ، ومن التخصيص قوله تعالى في آخر تلك الآية : إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير وكذلك قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة إلى آخر الآية .

فيحرم ما في الكتاب العزيز وهو قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة أي ما مات حتف أنفه والدم وهو المسفوح صرح بذلك في الآية الأخرى والمفسر قاض على المبهم ، وهذا مما ينقض به قول القائل المبهم على إبهامه والمفسر على تفسيره . فإنهم اتفقوا في هذه الآية على التقييد ولحم الخنزير وكل شئ من الخنزيز حرام ، وتخصيص اللحم بالذكر لأنه يقصد في العادة ، والخنزير حيوان مسخ بصورته قوم . ولم يزل نوح ومن بعده من الأنبياء يحرمون الخنزير ويأمرون بالتبعد عنه إلى تنزل عيسى عليه السلام فيقتله ، ويشبه أن الخنزير كان يأكله قوم فنطقت الشرائع بالنهي عنه . وهجر أمره أشد ما يكون . وما أهل لغير الله به أي ذكر اسم غير الله عند ذبحه والمنخنقة هي التي تختنق فتموت والموقوذة هي المقتولة بالعصا والمتردية هي التي تتردى من مكان عال فتموت والنطيحة هي التي تنطحها أخرى فتموت وما أكل السبع يريد ما بقي مما أكل السبع . لأنه ضبط المذبوح الطيب بما قصد إزهاق الروح باستعمال المحدد في حلفه أو لبته فجر ذلك إلى تحريم الأشياء إلا ما ذكيتم أي ما أدركتم من هذه الأشياء وفيه حياة مستقرة فذبحتموه أما ما صار إلى حالة المذبوح فهو في حكم الميتة وما ذبح على النصب قيل : مفرد كعنق ، وقيل : جمع نصاب وهو الشئ المنصوب من حجر ونحوه إمارة للطاغوت . والجمع بينه وبين ما أهل لغير الله به يدل على الفرق بينهما وذلك لأن المذبوح عند النصب قصد به تعظيم الطاغوت دلالة وإن لم يتلفظ بإسمه فهو بمنزلة ما أهل الغير الله به وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق إلى قوله فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم قلت قد اتفق المسلمون على ذلك في الجملة وإن كان لهم في التفاصيل اختلاف .

وكل ذي ناب من السباع لخروج طبيعتها من الاعتدال وبشكاسة أخلاقها وقسوة قلوبها لحديث أبي ثعلبة الخشني عند مسلم ومالك وغيره أن رسول الله () قال كل ذي ناب من السباع فأكله حرام وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما . والمراد بالناب السن الذي خلف الرباعية جمعه أنياب . وكل ذي ناب يتقوى به ويصاد ، وقال في النهاية : هو ما يفترس الحيوان ويأكل قسراً كالأسد والذئب والنمر ونحوها . قال في القاموس : السبع بضم الباء المفترس من الحيوان انتهى . وأراد بذي ناب ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم مثل : الذئب والأسد والكلب والفهد والنمر وعلى هذا أهل العلم . إلى أن الشافعي ذهب إلى إباحة الضبع والثعلب . وقال أبو حنيفة : هما حرامان كسائر السباع . أقول : قد قيل أنه لا ناب للضبع وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس كذا قال ابن رسلان في شرح السنن . وعلى تسليم أن لها ناباً فيخصصها من حديث كل ذي ناب حديث جابر فإنه قيل له : الضبع صيد قال : نعم . فقال له السائل آكلها ؟ قال نعم . فقال له : أقاله رسول الله () ؟ قال : نعم أخرجه أبو داود وأبن ماجه والنسائي والترمذي وصححه. وصححه أيضاً البخاري وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي . ولا يعارض هذا الحديث الصحيح ما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال : سألت رسول الله () عن الضبع فقال : أو يأكل الضبع أحد وفي رواية ومن يأكل الضبع لأن في إسناده عبد الكريم أبا أمية وهو متفق على ضعفه والراوي عنه اسمعيل بن مسلم وهو ضعيف .

وكل ذي مخلب من الطير لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره قال : نهى رسول الله () عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير والمخلب بكسر الميم وفتح اللام . قال أهل اللغة : المراد به ما هو في الطير بمنزلة الظفر للإنسان ، ويباح منه الحمام والعصفور لأنهما من المستطاب .

و من ذلك الحمر الإنسية وكان كثير من أهل الطباع السليمة من العرب يحرمونه ، ويشبه الشياطين وهو يرى الشيطان فينهق وهو قوله () إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً ويضرب به المثل في الحق والهوان . وقد حرمه من العرب أذكاهم فطرة وأطيبهم نفساً كما في حديث البراء بن عازب في الصحيحين وغيرهما أنه () نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية وفيهما من حديث ابن عمر وأبي ثعلبة الخشني نحوه . وفي الباب غير ذلك ، وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء . قلت : وأما الحمار الوحشي فاتفقوا على إباحته كذا في المسوى . وأهدي له () الحمار الوحشي فأكله كذا في الحجة البالغة .

و من ذلك الجلالة قبل الإستحالة لحديث ابن عمر عند أحمد وأبو داود وأبن ماجه والترمذي وحسنه قال : نهى رسول الله () عن أكل الجلالة وألبانها وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن دقيق العيد من حديث ابن عباس النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها وأخرج أحمد والنسائي والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحو ذلك . وفي الباب غير ذلك . وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل والثوري والشافعي ة . وذهب بعض أهل العلم إلى الكراهة فقط . وظاهر النهي التحريم . والعلة تغير لحمها ولبنها فإذا زالت العلة بمنعها عن ذلك حتى يزول الأثر فلا وجه للتحريم لأنها حلال بيقين. إنما حرمت لمانع وقد زال . قال في الحجة البالغة : الجيفة وما تأثر منها خبيث في جميع الأمم والملل فإذا تميز الخبيث من غيره ألقي الخبيث وأكل الطيب وإن لم يكن التميز حرم أكله . ودل الحديث على حرمة كل نجس ومتنجس . ونهى () عن أكل الجلالة وألبانها لأنها لما شربت أعضاؤها النجاسة وانتشرت في أجزائها كان حكمها حكم النجاسات ، أو حكم من يتعيش بالنجاسة .

أقول : الإستحالة مطهرة والأولى أن يقال في طهارة ما استحال أن العين التي حكم الشارع بنجاستها لم تبق إسماً ولا صفة فإن حكمه بنجاسة العذرة مقيد بكونها عذرة فإذا صارت رماداً فليست بعذرة . فمن ادعى بقاء النجاسة مع ذهاب الإسم والصفة فعليه الدليل .

و من ذلك الكلاب ولا خلاف في ذلك يعتد به . وهو مستخبث وقد وقع الأمر بقتله عموماً وخصوصاً . وقد نهى النبي () عن أكل ثمنه كما تقدم وسيأتي . وتقدم أن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه . وقد جعله بعضهم داخلاً في ذوات الناب من السباع . قال في الحجة البالغة : ويحرم الكلب والسنور لأنهما من السباع ويأكلان الجيف والكلب شيطان .

و من ذلك الهر لحديث جابر عن أبو داود وأبن ماجه والترمذي أن النبي () نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها وفي إسناده عمر بن زيد الصنعاني وهو ضعيف . لكن يشد من عضده ما ثبت من النهي عن أكل ثمن الكلب والسنور وهو في الصحيح وقد تقدم . ولا فرق بين الوحشي والأهلي ، وللشافعية وجه في حل الوحشي .

و من ذلك ما كان مستخثاً لقوله تعالى : ويحرم عليهم الخبائث فما استخبثه الناس من الحيوانات لا لعلة ولا لعدم إعتياد بل لمجرد الإستخباث فهو حرام . وإن استخبثه البعض دون البعض كان الإعتبار بالأكثر ، كحشرات الأرض ، وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها ، ولم ينهض على تحريمها دليل يخصها ، فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة فتندرج تحت قوله ويحرم عليهم الخبائث . وقد أخرج أبو داود عن ملقام بن تلب قال صحبت النبي () فلم أسمع لحشرات الأرض تحريماً وقد قال البيهقي : أن إسناده غير قوي . وقال النسائي  : ينبغي أن يكون ملقام بن تلب ليس بالمشهور . وهذا الحديث ليس فيه ما يخالف الآية ، وغايته عدم سماعه لشئ من النبي () وهو لا يدل على العدم . وقد أخرج ابن عدي والبيهقي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن أكل الرخمة وفي إسناده خارجة بن مصعب وهو ضعيف جداً فلا ينتهض للإحتجاج به . وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عيسى بن نميلة الفزازي عن أبيه قال كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنقذ فتلا هذه الآية قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية . فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي () فقال : خبيثة من الخبائث . فقال ابن عمر : إن كان قاله رسول الله () فهو كما قال . وعيسى بن نميلة ضعيف فلا يصلح الحديث لتخصيص القنفذ من أدلة الحل العامة . وقد قيل أن من أسباب التحريم الأمر بقتل الشئ كالخمس الفواسق الوزغ ونحو ذلك ، والنهي عن قتله كالنملة والنحلة والهدهد والصرد والضفدع ونحو ذلك ، ولم يأت عن الشاعر ما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله أو نهي عن قتله حتى يكون الأمر والنهي دليلين على ذلك ، ولا ملازمة عقلية ولا عرفية . فلا وجه لجعل ذلك أصلاً من أصول التحريم بل إن كان المأمور بقلته أو المنهى عن قتله مما يدخل في الخبائب كان تحريمه بالآية الكريمة ، وإن لم يكن من ذلك كان حلالاً عملاً بما أسلفنا من أصالة الحل وقيام الأدلة الكلية على ذلك ولهذا قلنا :

وما عدا ذلك فهو حلال قال الشافعي  : ما لم يرد فيه نص تحريم ولا تحليل ولا أمر بقتله ولا نهي عن قتله فالمرجع فيه إلى العرب من سكان البلاد والقرى دون أجلاف البوادي ، فإن استطابته العرب أو سمته بإسم حيوان حلال ، فهو حلال وإن استخبثته أو سمته بإسم حيوان حرام فهو حرام . فأما ما أمر الشرع بقتله أو نهى عن قتله فلا يكون حلالاً ، فقد قال النبي () خمس يقتلن في الحل والحرم الحديث وأمر بقتل الوزغ ونهى عن قتل أربعة من الدواب النملة ، والنحلة ، والصرد ، والهدهد ، وبالجملة : فتحل الطيبات وتحرم الخبائث لقوله تعالى ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث والطيبات ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن ورد بتحريمه نص من كتاب أو سنة . قال الماتن في حاشية الشفاء : أن القول بكراهية أكل الأرنب لا مستند له بخلاف الضب فإنه قد ورد النهي عن أكله كما أخرجه أبو داود . وثبت في صحيح مسلم أنه () قال : إن الله غضب على سبط من بني اسرائيل فمسخهم دواب ولا أدري لعل هذا منها والنهي حقيقة في التحريم لولا ما ثبت في الصحيحين من حديث جماعة من الصحابة أن النبي () أذن لهم بأكل الضب فقال لهم كلوه فإنه حلال ولكن ليس من طعامي فإن هذا الحديث يصرف النهي عن حقيقته إلى مجازه وهو الكراهة . وحديث تردده () في كونه ممسوخاً مؤيد لذلك وأما أكل التراب فلم يصح في المنع منه شئ لكنه من أسباب العلل الصعبة التي يتأثر عنها إنحلال البنية وقد نهى الله سبحانه عن قتل الأنفس

الروضة الندية شرح الدرر البهية - كتاب الأطعمة
الأصل في الأطعمة الحل | باب الصيد | باب الذبح | باب الضيافة | باب آداب الآكل