الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب البيع/صفحة واحدة


كتاب البيع

تعريف البيع

المعتبر فيه مجرد التراضي وحقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى . والمراد ههنا إمارته كالإيجاب والقبول ، وكالتعاطي عند القائل به ، وعلى هذا أهل العلم .

ولو بإشارة وينعقد بالكناية من قادر على النطق لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعض أهل العلم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها ، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو : بعت منك ، وبعتك . فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك ، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها ولم يرد في ذلك شئ وقد قال الله تعالى : تجارة عن تراض فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط . ولا بد من الدلالة عليه بلفظ ، أو إشارة ، أو كناية بأي لفظ وقع على أي صفة كان وبأي إشارة مفيدة حصل ، وقال () : لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه فإذا وجدت طيبة النفس مع التراضي فلا يعتبر غير ذلك .

أقول : هذا غاية ما يستفاد من الأدلة . أعني أن المعتبر في البيع هو مجرد التراضي ، والمشعر بالرضا لا ينحصر فيما ذكروه من الألفاظ المخصوصة المقيدة بقيود ، بل ما أشعر بالرضا ولو بكناية ، أو إشارة ، أو معاطاة من دون لفظ ولا ما في معناه . فإن البيع عند وجود المشعر بمطلق الرضا بيع صحيح ، وعلى مدعي الاختصاص الدليل . ولا ينفعه في المقام مثل حديث إذا بعت وحكاية مبايعته () للأعرابي وما أشبه ذلك . لأنا لا نمنع من اشعار لفظ بعت ونحوه بالرضا ، وإنما نمنع دعوى التخصيص ببعض الأفراد التي لا تستفاد إلا من صيغ مخصوصة ومن ههنا يلوح لك أن قولهم لا ربا في المعاطاة باطل وهكذا أخواته . والحاصل أنا لم نجد في الكتاب والسنة بعد ذكر مطلق البيع إلا قيد الرضا ، والأمور المشعرة به أعم من الألفاظ التي اصطلح عليها الفقهاء . فيندرج تحت الرضا كل ما دل عليه ولو إشارة من قادر ، وكتابة من حاضر .

ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما أنه سمع النبي () يقول : إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام .

والكلب والسنور لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي مسعود قال : نهى رسول الله () عن ثمن الكلب وفيها أيضاً من حديث أبي جحيفة نحوه . وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي () نهى عن ثمن الكلب والسنور . وأخرج النسائي بإسناد رجاله ثقات قال : نهى رسول الله () عن ثمن الكلب إلا كلب صيد . قال في المسوى اختلفوا في بيع الكلب فقال الشافعي : حرام وقال أبو حنيفة : جائز ويضمن متلفه .

والدم لحديث أبي جحيفة في الصحيحين قال : إن رسول الله () حرم ثمن الدم .

وعسب الفحل وهو ماء الفحل . يكريه صاحبه لينزى به . لما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر أن النبي () عليه نهى عن ثمن عسب الفحل ومثله في صحيحي مسلم من حديث جابر . وفي الباب أحاديث . ورخص في الكرامة وهي ما يعطى على عسب الفحل من غير شرط شئ عليه . كذا في الحجة البالغة .

وكل حرام لما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر قيل يا رسول الله : أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس . فقال : لا هو حرام . ثم قال : قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه . وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس أن النبي () قال : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه . قال ابن القيم في الإعلام: وفي قوله حرام قولان أحدهما : أن هذه الأفعال حرام والثاني : أن البيع حرام وإن كان المشتري يشتريه لذلك ، والقولان مبنيان على أن السؤال هل وقع عن البيع لهذا الإنتفاع المذكور ؟ أوعن الإنتفاع المذكور ؟ والأول اختاره شيخنا وهو الأظهر لأنه لم يخبرهم أولاً عن تحريم هذا الإنتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه . وإنما أخبرهم عن تحريم البيع فأخبروه أنهم يبتاعونه لهذا الإنتفاع فلم يرخص لهم في البيع ، ولم ينههم عن الإنتفاع المذكور . ولا تلازم بين جواز البيع وحل المنفعة ، والله تعالى أعلم انتهى . قلت : والأقرب إلى السنة ما ذهب إليه الماتن .

وفضل الماء لحديث إياس بن عبد أن النبي () عليه نهى عن بيع فضل الماء رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي وصححه . وقال القشيري : هو على شرط الشيخين ، ولحديث جابر عند مسلم ، وأحمد ، وابن ماجة بنحوه . وقد ورد مقيداً في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ وفي لفظ لا يباع فضل الماء ليمنع به الكلأ وهو في مسلم .

وما فيه غرر وهو استتار عاقبة الشئ ، وتردده بين جهتين ممكنتين ، كبيع الطير في الهواء ، والسمك في الماء . لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره أن النبي () عليه نهى عن بيع الغرر وأخرج أحمد من حديث ابن مسعود أن النبي () عليه قال : لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر وفي إسناده يزيد بن أبي زياد . وقد رجح البيهقي وقفه ، ولكنه داخل في بيع الغرر . قال في المسوى : قال مالك : ومن الغرر والمخاطرة أن يعمد الرجل قد ضلت دابته ، أو أبق غلامه ، وثمن شئ من ذلك خمسون ديناراً ، فيقول رجل أنا أخذه منك بعشرين ديناراً ، فإن وجده المبتاع ذهب من البائع ثلاثون ديناراً ، وإن لم يجده ذهب البائع من المبتاع بعشرين ديناراً . قال مالك وفي ذلك أيضاً عيب آخر أن تلك الضالة إن وجدت لم يدر زادت أم نقصت أم ما حدث بها من العيوب وهذا أعظم المخاطرة . قال مالك : والأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب ، لأنه لا يدري أيخرج أم لا يخرج ، فإن خرج لم يدر أيكون حسناً ، أم قبيحاً ، أم تاماً ، أم ناقصاً ، أم ذكراً ، أم أنثى . وذلك كله يتفاضل إن كان على كذا فقيمته كذا ، وإن كذا فقيمته كذا انتهى .

وحبل الحبلة لنهيه صلى الله وسله عليه عن ذلك كما في مسلم وغيره من حديث ابن عمرو أن رسول الله () عليه نهى عن بيع حبل الحبلة أخرجه مالك . وفي الصحيحين كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة ، وحبلة الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت ، فنهاهم عن ذلك وقد قيل : أنه بيع ولد الناقة الحامل في الحال . وقيل : بيع ولد ولدها كما في الرواية . وقد ورد النهي عن شراء ما في بطون الأنعام . كما في حديث أبي سعيد عند أحمد ، وابن ماجة ، والبزار ، والدارقطني ، وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه ضعف . وروى مالك عن سعيد بن المسيب أنه قال : لا ربا في الحيوان ، وإنما نهى من الحيوان عن ثلاثة : عن المضامين ، والملاقيح ، وحبل الحبلة . فالمضامين ما في بطون أناث الإبل ، والملاقيح ما في ظهور الجمال . قلت : وعليه أهل العلم . قال محمد : هذه البيوع كلها مكروهة ولا ينبغي مباشرتها لأنها غرر عندنا ، وفي المنهاج نهى رسول الله () عليه عن حبل الحبلة وهو نتاج النتاج . بأن يبيع نتاج النتاج أو بثمن إلى نتاج النتاج . وعن الملاقيح وهي : ما في البطون . والمضامين وهي : ما في أصلاب الفحول .

والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه ، وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل ، ويقول كل واحد منهما هذا بهذا . فهذا الذي عنه .

والملامسة أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره ، ولا يتبين ما فيه ، أو يبتاعه ليلاً ولا يعلم ما فيه . لحديث أبي سعيد في الصحيحين قال : نهى رسول الله () عليه عن الملامسة والمنابذة في البيع . وأخرج نحوه مالك في الموطأ من حديث أبي هريرة ، وفسرهما بما تقدم . ولفظ الماتن الملامسة لمس ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه ، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض كذا في الرواية . وفي الباب عن أنس عند البخاري قلت : وعليه أهل العلم . قال المحلى : والبطلان فيهما لعدم الرؤية ، أو عدم الصيغة ، أو الشرط الفاسد . أي لا خيار له إذا رآه . كذا في المسوى .

وما في الضرع والعبد الآبق والمغانم حتى تقسم والثمر حتى يصلح والصوف في الظهر والسمن في اللبن لحديث أبي سعيد المتقدم في النهي عن شراء ما في بطون الأنعام فإن فيه النهي عن بيع ما في ضروعها ، وعن شراء العبد الآبق ، وعن شراء المغانم حتى تقسم . وقد ورد النهي عن بيع المغانم حتى تقسم من حديث ابن عباس عند النسائي ، ومن حديث أبي هريرة عند أحمد وأبو داود . وقد ورد النهي عن بيع الثمر حتى يطعم ، والصوف على الظهر ، واللبن في الضرع ، والسمن في اللبن من حديث ابن عباس أيضاً عند الدارقطني ، والبيهقي . وفي إسناده عمر بن فروخ ، وقد وثقه يحيى بن معين وغيره . وأحاديث النهي عن بيع الغرر تشد من عضد جميع ما في هذه الروايات ، لأن الغرر يصدق على جميع هذه الصور . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي () عليه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع . وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي هريرة . وفي الصحيحين من حديث أنس نحوه . قال مالك : ، الأمر عندنا في بيع البطيخ . والقثاء ، والخربز ، والجزر أن بيعه إذا بدا صلاحه حلال جائز ، ثم يكون للمشتري ما ينبت حتى ينقطع ثمره ويهلك وليس في ذلك وقت مؤقت ، وذلك أن وقته معروف وربما دخلته العاهة فقطعت ثمرته قبل أن يأتي ذلك الوقت ، فإذا دخلته العاهة بجائحة تبلغ الثلث فصاعداً كان ذلك موضوعاً عن الذي ابتاعه .

والمحاقلة بيع الزرع بكيل من الطعام معلوم . قال مالك : المحاقلة كراء الأرض بالحنطة . وقال في المسوى : المحاقلة بيع الزرع بعد اشتداد الحب نفياً .

والمزابنة بيع ثمر النخل بأوساق من التمر . وقال مالك : المزابنة اشتراء الثمر بالتمر في رؤس النخل . وقال في المسوى : المزابنة بيع الثمر على الشجر بجنسه على الأرض . قال مالك : ونهى رسول الله () عليه عن المزابنة ؟ وتفسير المزابنة أن كل شئ من الجزاف الذي لا يعلم كيله ، ولا وزنه ، ولا عدده ابتيع بشئ مسمى من الكيل ، والوزن ، والعدد . وذلك أن يقول الرجل للرجل يكون له الطعام المصبر الذي لا يعلم كيله من الحنطة والتمر ، أو ما أشبه ذلك من الأطعمة ، أو يكون للرجل السلعة من الخبط ، أو النوى أو القضب ، أو العصفر ، أو الكرسف ، أو الكتان ، أو القز أو ما أشبه ذلك من السلع لا يعلم كيل شئ من ذلك ، ولا وزنه ، ولا عدده ، فيقول الرجل : لرب تلك السلعة كل سلعتك هذه ، أو مر من يكيلها ، أوزن من ذلك ما يوزن ، أوعدد منها ما كان يعد فما نقص من كذا وكذا صاعاً لتسمية يسميها ، أو وزن كذا وكذا رطلاً ، أو عدد كذا وكذا فما نقص من ذلك فعلي غرمه حتى أوفيك تلك التسمية فما زاد على تلك التسمية فهو لي أضمن ما نقص من ذلك على أن يكون ما زاد . فليس ذلك بيعاً ولكنه المخاطرة ، والغرر والقمار يدخل هذا لأنه لم يشتر منه شيئاً بشئ أخرجه ، ولكن ضمن له ما سمى من ذلك الكيل أو الوزن أو العدد على أن يكون له ما زاد على ذلك فإن نقصت تلك السلعة من تلك التسمية أخذ من مال صاحبه ما نقص بغير ثمن أعطاه إياه ، وإن زادت تلك السلعة على تلك التسمية أخذ الرجل من مال رب السلعة مالاً بغير ثمن ولا هبة طيبة بها نفسه ، فهذا يشبه القمار . وما كان مثل هذا من الأشياء فذلك يدخله قلت : في شرح السنة ، والعمل على هذا عند عامة أهلم العلم . والعلة في النهي أن المساواة بينهما شرط وما على الشجر لا يحرز بكيل ولا وزن، وإنما يكون تقديره بالخرص وهو حدس وظن لا يؤمن فيه من التفاوت . فأما إذا باع بجنس آخر من الثمار على الأرض ، أو على الشجر يجوز . لأن المماثلة بينهما غير شرط ، والتقابض شرط في المجلس ، وقبض ما على الأرض بالنقل ، وقبض ما على الشجر بالتخلية .

أقول : ومعنى هذا الكلام أن سبب التحريم هو شبه الربا ، ومعنى قول مالك أن سبب التحريم معنى القمار ، وكلا الأمرين صحيح انتهى .

والمعاومة بيع ثمر النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد والجميع بيع غرر وجهالة والمخاضرة بيع الثمرة خضراء قبل بدو صلاحها . دليل ذلك حديث أنس عند البخاري قال : نهى رسول الله () عليه عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة والملامسة والمزابنة . وفي الصحيحين من حديث جابر قال : نهى النبي () عليه عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة وفي الباب أحاديث .

والعربون هو أن يعطي المشتري البائع درهماً أو نحوه قبل البيع ، على أنه إذا ترك الشراء كان الدرهم للبائع بغير شئ ، لما أخرجه أحمد ، والنسائي ، وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : نهى النبي () عليه عن بيع العربون ولا يعارض هذا ما أخرجه عبد الرزاق في مسنده عن زيد بن أسلم أنه سئل النبي () عليه عن العربان في البيع فأحله ، لأن في إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف . وأيضاً الحديث مرسل . قال في المسوى : قال مالك : وذلك فيما نرى والله تعالى أعلم ، أن يشتري الرجل العبد ، أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشتراه منه ، أو تكارى منه أعطيتك ديناراً ، أو درهماً ، أو أقل ، أو أكثر من ذلك ، على أني إن أخذت السلعة ، أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك من ثمن السلعة ، أو من كراء الدابة ، وإن تركت ابتياع السلعة ، أو كراء الدابة فما أعطيتك فهو لك بغير شئ . قلت : وعليه أهل العلم في المنهاج ، ولا يصح بيع العربون بأن يشتري ويعطيه دراهم لتكون من الثمن إن رضي السلعة ، وإلا فهي هبة. قال المحلى . وعدم صحته لاشتماله على شرط الرد ، والهبة إن لم يرض السلعة انتهى .

والعصير إلى من يتخذه خمراً لحديث لعن بائع الخمر وشاربها ومشتريها وعاصرها أخرجه الترمذي ، وابن ماجه، ورجاله ثقات من حديث أنس . وأخرج نحوه أحمد ، وابن ماجه، وأبو داود ، وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي ، وقد قيل أنه غير معروف ، وقيل أنه معروف وهو من أمراء الأندلس ، وصحح الحديث ابن السكن . وأخرج الطبراني في الأوسط عن بريدة مرفوعاً من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي ، أو نصراني ، أو ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة وإسناده حسن كما قال الحافظ ، وأخرجه أيضاً البيهقي وزاد أو ممن يعلم أنه يتخذه خمراً ويؤيده حديث أبي أمامة عند الترمذي أن رسول الله () عليه قال : لا تبيعوا القينات المغنيات ، ولا تشتروهن ، ولا تعلموهن ، ولا خير في تجارة فيهن ، وثمنهن حرام وفي الباب أحاديث . وأخرج مالك عن ابن عمر أن رجالاً من أهل العراق قالوا له يا أبا عبد الرحمن : إنا نبتاع من ثمر النخل ، والعنب فنعصره خمراً فنبيعها فقال عبد الله بن عمر : إني أشهد الله عليكم وملائكته ، ومن سمع من الجن والأنس ، أني لا آمر كم أن تبيعوها ، ولا تبتاعوها ، ولا تعصروها ، ولا تسقوها فإنها رجس من عمل الشيطان قلت : وعليه أهل العلم .

والكاليء بالكاليء أي المعدوم بالمعدوم . لحديث ابن عمر عند الدارقطني والحاكم وصححه أن النبي () عليه نهى عن بيع الكاليء بالكاليء ولكنه اعترض على الحاكم بأنه وهم في صحيحه لأن في إسناده موسى بن عبيدة وهو ضعيف. ولكنه قد رواه الشافعي بلفظ نهى عن الدين بالدين ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج أن النبي () عليه نهى عن بيع الكاليء بالكاليء دين بدين وفي إسناده موسى بن عبيدة الزبدي وهو ضعيف ، وقد قال أحمد فيه لا تحل الرواية عنه عندي ولا أعرف هذا الحديث عن غيره . وقال ليس في هذا أيضاً حديث يصح ، ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين انتهى . يعني روى الإجماع على معنى الحديث فشد ذلك من عضده لأنه صار متلقى بالقبول ويؤيده النهي عن بيع الملاقيح والمضامين ، وحبل الحبلة ، لأن العلة في ذلك هي كونه بيع معدوم . وتقويه أيضاً الأحاديث الواردة في اشتراط التقابض كحديث إذا كان يداً بيد وهو في الصحيح . وحديث ما لم تتفرقا وبينكما شئ .

وما اشتراه قبل قبضه لحديث جابر عند مسلم وغيره قال : قال رسول الله () : إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تستوفيه وأخرج مسلم أيضاً وغيره قال : نهى النبي () عليه أن تباع السلع حتى تستوفي وأخرج أحمد من حديث حكيم بن حزام أن النبي () عليه قال له : اذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه وفي إسناده العلاء بن خالد الواسطي . وأخرج أبو داود ، والدارقطني ، والحاكم ، وابن حبان وصححاه من حديث زيد بن ثابت أن النبي () نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم وفي الباب أحاديث . وقد ذهب إلى ذلك الجمهور . وفي الحجة البالغة : قيل مخصوص بالطعام لأنه أكثر الأموال تعاوراً وحاجة ولا ينتفع به إلا بإهلاكه فإذا لم يستوفه فربما تصرف فيه البائع فيكون قضية في قضية ، وقيل يجري في المنقول لأنه مظنة أن يتغير ويتعيب فتحصل الخصومة في الخصومة . وقال ابن عباس : ولا أحسب كل شئ إلا مثله وهو الأقيس بما ذكرنا في العلة انتهى .

قال في المسوى : قال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه من اشترى طعاماً براً ، أو شعيراً ، أو سلتاً ، أو ذرة ، أو دخناً ، أو شيئاً من الحبوب القطنية ، أو شيئاً مما يشبه القطنية مما تجب فيه الزكاة ، أو شيئاً من الأدم كلها الزيت ، والسمن ، والعسل ، والخل ، والجبن ، واللبن ، والشبرق وما أشبه ذلك من الأدم فإن المبتاع لا يبيع شيئاً من ذلك حتى يقبضه ويستوفيه . وفي شرح السنة : اتفق أهل العلم على أن من ابتاع طعاماً لا يجوز له بيعه قبل القبض ، واختلفوا فيما سواه . فقال الشافعي ومحمد : لا فرق بين الطعام ، والسلع ، والعقار في أن بيع شئ منها لا يجوز قبل القبض . قال أبو حنيفة وأبو يوسف : يجوز بيع العقار قبل القبض ، ولا يجوز بيع المنقول . وقال مالك : ما عدا المطعوم يجوز بيعه قبل القبض . قلت كان الأمراء يكتبون للناس بأرزاقهم وعطياتهم كتباً وكان الناس يبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها ويعطون المشتري الصك ليمضي به ويقبضه فذلك بيع الصكوك انتهى .

والطعام حتى يجري فيه الصاعان لحديث عثمان عند أحمد ، والبخاري أن النبي () عليه قال له : إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل وأخرج ابن ماجه، والدارقطني ، والبيهقي من حديث جابر قال : نهى رسول الله () عليه عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع ، وصاع المشتري وفي إسناده ابن أبي ليلى . وفي الباب عن أبي هريرة بإسناد حسن وعن غيره بأسانيد فيها مقال وقد ذهب إلى ذلك الجمهور .

ولا يصح الاستثناء في البيع مثل أن يبيع عشرة أفراق إلا شيئاً لأن فيه جهالة مفضية إلى المنازعة ، والمفسد هو المفضي إلى المنازعة .

إلا إذا كان معلوماً لحديث جابر عند مسلم وغيره أن النبي () نهى عن بيع الثنيا وزاد النسائي ، والترمذي ، وابن حبان وصححاه إلا أن تعلم والمراد أن يبيع شيئاً ويستثنى منه شيئاً مجهولاً لا إذا كان معلوماً فيصح .

ومنه أي من الثنيا المعلومة إستثناء جابر ظهر المبيع أي جمله إلى المدينة بعد أن باعه من النبي () ، وهو في الصحيحين وغيرهما من حديثه . قال النووي في شرح مسلم . الثنيا المبطلة للبيع . قوله بعتك هذه الصبرة إلا بعضها أو هذه الأشجار إلا بعضها فلا يصح البيع لأن المستثنى مجهول . ولو قال : بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة ، أو إلا ربعها ، أو الصبرة إلا ثلثها . أو بعتك بألف إلا درهماً صح البيع باتفاق العلماء . ولو باع الصبرة إلا صاعاً منها فالبيع باطل عند الشافعي . وصحح مالك أن يستثني منها ما لا يزيد على ثلثها ، وإذا باع ثمرة نخلات واستثنى عشرة آصع للبائع فمذهب الشافعي وأبي حنيفة والعلماء كافة بطلان البيع . وقال مالك وجماعة من علماء المدينة : يجوز ذلك ما لم يزيد على قدر ثلث الثمرة .

ولا يجوز التفريق بين المحارم لحديث أبي أيوب قال : سمعت رسول الله () يقول : من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة أخرجه أحمد ، والترمذي ، والدارقطني ، والحاكم وصححه . وحديث علي أمرني النبي () أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما وفرقت بينهما فذكرت ذلك له فقال : أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما إلا جمعياً أخرجه أحمد ، وقد صححه ابن خزيمة ، وابن الجارود ، وابن حبان ، والحاكم وغيرهم . وحديث أبي موسى قال : لعن رسول الله () من فرق بين الوالد وولده وبين الأخ وأخيه أخرجه ابن ماجة ، والدارقطني ولا بأس بإسناده . وحديث علي أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي () عن ذلك ورد البيع أخرجه أبو داود ، والدارقطني ، والحاكم وصححه ، وقد أعل بالإنقطاع . وفي الباب أحاديث . وقد قيل : أنه مجمع على ذلك وفيه نظر .

أقول : الإختلاف في هذه المسألة أعني بيع أمهات الأولاد بين الصحابة أشهر من نار على علم ، وروي عن علي كرم الله وجهه الموافقة لعمر ومن معه في عدم جواز بيعهن ، ثم صح عنه القول بجواز البيع . وقد ذكر الماتن في شرح المنتقى متمسكات الجميع فليرجع إليه . والعجب ممن يزعم أن تحريم البيع قطعي ، وأما المدبر فقد دلت الأدلة الصحيحة على جواز بيعه للحاجة كالدين والاعواز عن النفقة ونحوهما .

ولا أن يبيع حاصر لباد لحديث ابن عمر قال : نهى النبي () أن يبيع حاضر لباد أخرجه البخاري . وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي () قال : لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض وفي الصحيحين من حديث أنس قال : نهينا أن يبيع حاضر لباد وأن كان أخاه لأبيه وأمه قلت : وعليه أهل العلم . وفي المنهاج بيع حاضر لباد بأن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه فيقول بلدي أتركه عندي لأبيعه على التدريج . وفي الوقاية : كره بيع الحاضر للبادي طمعاً في الثمن الغالي زمان القحط انتهى .

والتناجش وهو الزيادة في ثمن السلعة عن مواطأة لرفع ثمنها . وعن ابن عمر عند مالك قال : النجش أن تعطيه في السلعة أكثر من ثمنها وليس في نفسك اشتراء فيقتدي بك غيرك وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي () نهى أن يبيع حاضر لباد وأن يتناجشوا وفيهما من حديث ابن عمر قال : نهى النبي () عن النجش وأخرجه مالك أيضاً قلت : وعليه أهل العلم في المنهاج . ومن المنهي عنه النجش بأن يزيد في الثمن لا لرغبة بل ليخدع غيره فيشتريها وفي الوقاية كره النجش .

والبيع على البيع لحديث ابن عمر عند أحمد والنسائي أن النبي () قال : لا يبيع أحدكم على بيع أخيه وهو في الصحيحين أيضاً بنحو ذلك وفيهما أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً لا يبيع الرجل على بيع أخيه وقد ورد أن من باع من رجلين فهو للأول منهما أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي وحسنه ، وصححه أبو زرعة ، وأبو حاتم ، والحاكم . وفي الموطأ من حديث ابن عمر أن رسول الله () قال : لا يبع بعضكم على بعض قلت : وعليه الشافعي . وفي المنهاج . ومن المنهي عنه البيع على بيع غيره قبل لزومه بأن يأمر المشتري بالفسخ ليبيعه مثله ، والشراء على الشراء بأن يأمر البائع بالفسخ ليشتريه بأكثر . وفي شرح السنة عند الحنفية المراد بالبيع على بيع أخيه هو السوم لأن عنده خيار المكان لا يثبت بالبيع فلا يتصور بعد التواجب بيع الغير عليه .

وتلقي الركبان بأن يتلقى طائفة يحملون متاعاً إلى البلد فيشتريه منهم قبل قدومهم ومعرفتهم بالسعر وله الخيار إذا عرف الغبن كذا في المنهاج لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال : نهى النبي () أن يتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال نهى النبي () عن تلقي البيوع وفيهما أيضاً نحو ذلك من حديث ابن عمر ، وابن عباس . وفي الموطأ من حديث أبي هريرة أن رسول الله () قال : لا تلقوا الركبان للبيع ولا يبع بعضكم على بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولا تصروا الأبل والغنم قلت : وعليه أهل العلم .

والإحتكار لحديث ابن عمر عند أحمد ، والحاكم ، وابن أبي شيبة ، والبزار ، وأبي يعلى مرفوعاً من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برىء من الله وبرىء الله منه وفي إسناده أصبغ بن زيد وفيه مقال . وأخرج مسلم وغيره من حديث معمر بن عبد الله مرفوعاً لا يحتكر إلا خاطيء وأخرج نحوه أحمد ، والحاكم من حديث أبي هريرة . قلت : وعليه أهل العلم . قال النووي في شرح مسلم : قال أصحابنا : الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة ، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء ، ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلو ثمنه ، فأما إذا إشتراه أو جاء من قرية وقت الرخص وادخره ، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله ، أو ابتاعه ليبيعه في الوقت فليس باحتكار ولا تحريم فيه . وأما غير الأقوات فلا يحرم الإحتكار فيه بكل حال هذا تفصيل مذهبنا . وفي الهداية يكره الإحتكار في أقوات الآدمي والبهائم إذا كان ذلك في بلد يضر الإحتكار بأهله ، ومن احتكر غلة ضيعته أو جلبه من بلد آخر فليس بمحتكر .

أقول : الحق أن الأحاديث المطلقة في تحريم الاحتكار مقيدة بالطعام فلا يصح ما قيل من تحريم احتكار قوت البهائم ، والقياس له على قوت الآدمي قياس مع الفارق ، ولا يكون الإحتكار محرماً إذا كان لقصد أن يغلي ذلك على المسلمين كما ورد في حديث أبي هريرة عند أحمد ، والحاكم فاعتبار هذا القيد لا بد منه فمن لم يقصد ذلك لم يحرم عليه الإحتكار وظاهره أن القاصد بإحتكاره غلاء الأسعار على المسلمين داخل تحت النهي والوعيد سواء كان بالمسلمين حاجة أم لا لأن هذا القصد بمجرده كاف . وأما إجبار المحتكر على البيع فجائز إن لم يكن واجباً لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما واجبان على كل مكلف .

والتسعير لحديث أنس عند أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه، والدارمي والبزار ، وأبي يعلى أن السعر غلا على عهد رسول الله () فقالوا : يارسول الله سعر لنا فقال : أن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وأني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال وصححه ابن حبان والترمذي وفي الباب أحاديث . وفي الهداية ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون في القيمة تعدياً فاحشاً وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصر انتهى .

ويجب وضع الجوائح الجائحة الآفة التي تهلك الثمار والأموال لحديث جابر أن النبي () وضع الجوائح أخرجه أحمد ، والنسائي ، وأبو داود وأخرجه أيضاً مسلم بلفظ أمر بوضع الجوائح وفي لفظ لمسلم وغيره إن كنت بعت من أخيك ثمراً فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك وفي الباب عن عائشة في الصحيحين ، وعن أنس فيهما أيضاً ، وقد ذهب إلى ذلك الشافعي ، وأبو حنيفة ، والليث ، وسائر الكوفيين . قلت : وهو عند أبي حنيفة على الاستحباب ، وعند الشافعي في القديم على الوجوب ، وفي الجديد على الاستحباب .

ولا يحل سلف وبيع قال مالك : وتفسير ذلك أن يقول الرجل للرجل آخذ سلعتك بكذا وكذا على أن تسلفني كذا وكذا فإن عقدا بيعهما على هذا فهو غير جائز . فإن ترك الذي اشترط السلف ما اشترط منه ، كان ذلك البيع جائزاً . قلت : وعليه أهل العلم . ، وفي شرح السنة هو أن يقول . أبيعك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تقرضني عشرة دراهم ، والمراد بالسلف هنا القرض فهذا فاسد لأنه جعل العشرة وفي القرض ثمناً للثوب فإذا بطل الشرط سقط بعض الثمن وصار ما يبقى من المبيع بمقابلة الباقي مجهولاً. قال الماتن : قال مالك : هو أي السلف هنا ، أن تقرض قرضاً ثم تبايعه عليه بيعاً يزداد عليه وهو فاسد ، لأنه إنما تقرضه على أن تحابيه في الثمن . وقد يكون السلف بمعنى السلم وذلك مثل : أن تقول أبيعك عبدي هذا بألف على أن تسلفني ماله في كذا وكذا انتهى .

ولا شرطان في بيع لحديث عبد الله بن عمرو أن النبي () قال : لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي وصححه ، وكذلك صححه ابن خزيمة ، والحاكم . والشرطان في بيع أن يقول بعتك هذا بألف إن كان نقداً وبألفين إن كان نسيئة . وقيل هو أن يقول بعتك ثوبي بكذا وعلي قصارته وخياطته . وفي الحجة البالغة : ومعنى الشرطين أن يشترط حقوق البيع ويشترط أن يشترط حقوق البيع ويشترط شيئاً خارجاً منها مثل : أن يهبه كذا أو يشفع له إلى فلان ، أو إن احتاج إلى بيعه لم يبع إلا منه ، ونحو ذلك . فهذان شرطان في صفقة واحدة .

ولا بيعتان في بيعة لحديث أبي هريرة عند أحمد ، والنسائي ، وأبو داود ، والترمذي وصححه أن النبي () نهى عن بيعتين في بيعة ولفظ أبو داود من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا وأخرجه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود قال : نهى النبي صلى الله عليه تعالى عليه وآله وسلم عن صفقتين في صفقة قال سماك هو الرجل يبيع البيع فيقول بنسء كذا وبنقد كذا ورجاله رجال الصحيح وما ذكره سماك هو معنى البيعتين في بيعة وقد تقدم تفسير الشرطين في بيعة بمثل هذا وليس بصحيح . بل المراد بالشرطين في بيعة أن البيع واحد شرط فيه شرطان وهنا البيع بيعان . قلت : وفي شرح السنة فسروا البيعتين في بيعة على وجهين : أحدهما أن يقول بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة إلى سنة فهو فاسد عند أكثر أهل العلم . فإذا باعه على أحد الأمرين في المجلس فهو صحيح لا خلاف فيه ، والآخر أن يقول بعتك عبدي هذا بعشرين ديناراً على أن تبيعني جاريتك فهذا فاسد ، لأنه جعل ثمن العبد عشرين ديناراً وشرك بيع الجارية ، وذلك شرط لا يلزم وإذا لم يلزم ذلك بطل بعض الثمن فيصير ما بقي من المبيع في مقابلة الباقي مجهولاً . أما إذا جمع بين شيئين في صفقة واحدة بأن باع داراً وعبداً بثمن واحد فهو جائز وليس من باب البيعتين في بيعة إنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين . وأما بيع الشئ بأكثر من سعر يومه مؤجلاً فأقول الزيادة على سعر يوم البيع ليست من الربا في ورد ولا صدر لأن الربا زيادة أحد المتساويين على الآخر ولا تساوي بين الشئ وثمنه مع إختلاف جنسهما فلا يصح أن يكون تحريم هذه الصورة لكونها رباً . فإن قيل أن تحريمها لكونه الزيادة في مقابل التنفيس بالأجل فقط فلا يخفى أن تحريم مثل ذلك مفتقر إلى دليل ، والمسألة محتملة للبسط ، وقد أفردها الماتن برسالة مستقلة سماها شفاء العلل في حكم الزيادة لأجل الأجل . ولكن يمكن الإستدلال لهذا المنع بما أخرجه أحمد ، والنسائي ، والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله () : من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا وبما أخرجه أحمد ، والبزار والطبراني في الكبير والأوسط عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : نهى النبي () عن صفقتين في صفقة قال : سماك هو الرجل يبيع المبيع فيقول : هو بنساء كذا وهو بنقد كذا قال في مجمع الزوائد : رجال أحمد ثقات ، فهذان الحديثان قد دلا على أن الزيادة لأجل النساء ممنوعة ولهذا قال : فله أو كسهما أو الربا والأعيان التي هي غير ربوية داخلة في عموم الحديثين . وقد ذهب الجمهور : إلى جواز بيع الشئ بأكثر من بيع يومه لأجل النساء ، ونازعوا في دلالة الحديثين المذكورين على محل النزاع

وربح ما لم يضمن لما تقدم في دليل لا يحل سلف وبيع وهو أن يبيع شيئاً لم يدخل في ضمانه كالبيع قبل القبض .

وبيع ما ليس عند البائع لحديث حكيم بن حزام قال : قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال لا تبع ما ليس عندك أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن ماجهوالمراد بقوله : ما ليس عندك أي ما ليس في ملكك وقدرتك وفي معنى بيع ما ليس عنده أن يبيع مال غيره بغير إذنه لأنه غرر لا يدري هل يجيزه غيره أولاً وهو قول الشافعي . وقال أبو حنيفة : يجوز بيع الفضولي ويكون موقوفاً على إجازة المالك . وبيع القطوط عند أهل العلم لا يجوز حتى تصل إلى من كتبت له فيملك ثم يبيع القط الصك ومنه قوله تعالى : عجل لنا قطنا .

ويجوز بشرط عدم الخداع لحديث ابن عمر في الصحيحين قال : ذكر رجل لرسول الله () أنه يخدع في البيوع فقال : من بايعت فقل لا خلابة وفي الباب أحاديث . والخلابة الخديعة ، وظاهره أن من قال بذلك ثبت له الخيار سواء غبن أو لم يغبن .

والخيار في المجلس ثابت ما لم يتفرقا لحديث حكيم بن حزام في الصحيحين أن النبي () قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وفيهما أيضاً نحوه من حديث ابن عمر وأيضاً في الموطأ من حديث ابن عمر بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار وفي الباب أحاديث . وقد ذهب إلى إثبات خيار المجلس جماعة من الصحابة منهم علي وأبو برزة الأسلمي وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو هريرة وغيرهم ، ومن التابعين شريح الشعبي ، وطاوس ، وعطاء ، وابن أبي مليكة . نقل ذلك عنهم البخاري . ونقل ابن المنذر القول به أيضاً عن سعيد بن المسيب . والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة . وعن الحسن البصري ، والأوزاعي ، وابن جريج وغيرهم . وبالغ ابن حزم فقال : لا يعرف لهم مخالف من التابعين إلا النخعي وحده ، وحكاه صاحب البحر أيضاً عن الشافعي، وأحمد ، وإسحق ، وأبي ثور . وذهب الحنفية والمالكية وغيرهم إلى أنها إذا وجبت الصفقة فلا خيار والحق القول الأول

باب الربا

قال الله تعالى : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا وقال : يمحق الله الربا ويربي الصدقات وقال : وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله واتفق أهل العلم أن الربا من الكبائر ، وأنه إذا وقع هذا العقد فهو باطل ، ولا يجب إلا رد رأس المال ، وإن كان ذو عسرة فحكمه الإنظار إلى الميسرة .

أقول : هذا الحكم يستفاد من كتاب الله تعالى . قال عز وجل : وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ومفهوم الشرط يدل على جواز أخذ مال المربى مع عدم التوبة ، ويستدل بهذه الآية أيضاً على جواز أخذ ما ربح المربى من الربا ، وهو ما زاد على رأس ماله سواء تاب أو لم يتب .

فالحاصل : أنه يجوز أخذ جميع ماله الربح ورأس المال مع عدم التوبة ، ويجوز أخذ رأس المال فقط معها .

يحرم بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، إلا مثلاً بمثل يداً بيد ، فإذا إختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد والستة الأجناس المذكورة هي المنصوص عليها في الأحاديث . كحديث أبي سعيد بلفظ الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو ازداد فقد أربى . الآخذ والمعطي فيه سواء وهو في الصحيح . وسائر الأحاديث في الصحيحين وغيرهما هكذا ليس فيها إلا ذكر الستة الأجناس . وفي الحجة البالغة ، وتفطن الفقهاء أن الربا المحرم يجري في غير الأعيان الستة المنصوص عليها ، وأن الحكم متعد منها إلى كل ملحق بشئ منها . في شرح السنة اتفق العلماء على أن الربا يجري في هذه الأشياء الستة التي نص الحديث عليها . وذهب عامتهم إلى أن حكم الربا غير مقصور عليها بأعيانها. إنما ثبت لأوصاف فيها ، ويتعدى إلى كل ما يوجد فيه تلك الأوصاف . وذهبوا إلى أن الربا ثبت في الدراهم والدنانير بوصف ، وفي الأشياء الأربعة بوصف آخر . ثم إختلفوا في ذلك الوصف فقال الشافعي : ثبت في الدراهم والدنانير بوصف النقدية . وقال أبو حنيفة : بعلة الوزن حتى أن الربا يجري في الحديد والنحاس والقطن . وقال الشافعي : في القديم ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الطعم مع الكيل والوزن كما قال سعيد بن المسيب . وفي الجديد ثبت فيها بوصف الطعم فقط ، وأثبت في جميع الأشياء المطعومة مثل : الثمار والفواكه والبقول والأدوية ، فدل على أن مأخذ الإشتقاق علة . وقال أبوحنيفة : ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الكيل حتى أن الربا يجري في الجص والنورة . وسيأتي ما يدفع ذلك كله .

وفي إلحاق غيرها بها خلاف هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة غيرها ، فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء مع الاتفاق في الجنس وتحريم النساء فقط مع الإختلاف في الجنس والإتفاق في العلة . فقالت الظاهرية : أنه لا يلحق بها غيرها ورجحه في سبل السلام . وقال قد أردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميناها القول المجتبي انتهى . وتفصيل ذلك في مسك الختام . وذهب من عداهم إلى أنه يلحق بها ما يشاركها في العلة . واختلفوا في العلة ما هي ؟ فقيل الاتفاق في الجنس والطعم . وقيل الجنس والتقدير بالكيل والوزن والإقتيات . وقيل الجنس ووجوب الزكاة وقيل الجنس والتقدير بالكيل والوزن . وقد يستدل لمن قال بالإلحاق بما أخرجه الدارقطني والبزار عن الحسن من حديث عبادة وأنس أن النبي () قال : ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعاً واحداً وما كيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به وقد أشار إلى هذا الحديث صاحب التلخيص ولم يتكلم عليه ، وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره وضعفه جماعة . قال أحمد : لا بأس به ، وقال يحيى بن معين : في رواية عنه ضعيف وفي أخرى ليس به بأس وربما دلس . وقال ابن سعد والنسائي ضعيف . وقال أبو زرعة شيخ صالح وقال أبو حاتم : رجل صالح انتهى . ولا يلزم من وصفه بالصلاح أن يكون ثقة في الحديث . وقال في التقريب : صدوق سيء الحفظ ، ولا يخفاك أن الحجة لا تقوم بمثل هذا الحديث لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم . فإنه حكم بالربا الذي هو من أعظم معاصي الله سبحانه وتعالى على غير الأجناس التي نص عليها رسول الله () وذلك يستلزم الحكم على فاعله بأنه مرتكب لهذه المعصية التي هي من الكبائر ومن القطعيات الشرعية . ومع هذا فإن هذا الإلحاق قد ذهب إليه الجمع الجم والسواد الأعظم ، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية فقط . وهذا الحديث كما يدل على إلحاق غير الستة بها كذلك يدل على أن العلة الاتفاق في الكيل والوزن مع إتحاد الجنس . ومما يدل على أن الربا يثبت في غير هذه الأجناس حديث ابن عمر في الصحيحين قال : نهى رسول الله () عن المزابنة أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً ، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله وفي لفظ لمسلم وعن كل ثمر بخرصه فإن هذا الحديث يدل على ثبوت الربا في الكرم والزبيب . ورواية مسلم تدل على أهم من ذلك . ومما يدل على الإلحاق ما أخرجه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أن النبي () نهى عن بيع اللحم بالحيوان وأخرجه أيضاً الشافعي ، وأبو داود في المراسيل ، ووصله الدارقطني في الغريب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد وحكم بضعفه وصوب الرواية المرسلة وتبعه ابن عبد البر وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار وفي إسناده ثابت بن زهير وهو ضعيف ، وأخرجه أيضاً من رواية أبي أمية بن يعلى عن نافع أيضاً وأبو أمية ضعيف ، وله شاهد أقوى منه من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة ، ومما يؤيد ذلك حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة عند الترمذي في رخصة العرايا وفيه وعن بيع العنب بالزبيب وعن كل ثمر بخرصه ومما يدل على أن المعتبر الاتفاق في الوزن حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم بلفظ لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزناً بوزن مثلاً بمثل سواء بسواء وأخرج أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل . وعند مسلم والنسائي وأبو داود من حديث فضالة بن عبيد عن النبي () لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن ومما ورد في إعتبار الكيل حديث ابن عمر المتقدم وفيه وإن كان كرماً أن تبيعه بزبيب كيلاً وما سيأتي قريباً من النهي عن بيع الصبرة لا يعلم كيلها .

أقول : أما إختلاف مثبتي القياس في علة الربا فليس على شئ من هذه الأقوال حجة نيرة ، إنما هي مجرد تظننات وتخمينات انضمت إليها دعاوي طويلة بلا طائل . هذا يقول العلة التي ذهب إليها ساقه إلى القول بها مسلك من مسالك العلة لتخريج المناط ، والآخر يقول ساقه إلى ما ذهب إليه مسلك آخر كالسبر والتقسيم . ونحن لا نمنع كون هذه المسالك تثبت بمثلها الأحكام الشرعية ، بل نمنع اندراج ما زعموه علة في هذا المقام تحت شئ منها ، فما أحسن الإقتصار على نصوص الشريعة وعدم التكليف بمجاوزتها والتوسع في تكليفات العباد بما هو تكليف محض . ولسنا ممن يقول بنفي القياس لكنا نقول بمنع التعبد به فيما عدا العلة المنصوصة وما كان طريق ثبوته فحوى الخطاب وليس ما ذكروه ههنا من هذا القبيل فليكن هذا المبحث على ذكر منك تنتفع به في مسائل كثيرة . قال الماتن رحمه الله في كتابه السيل الجرار : ولا يخفاك أن ذكره () للكيل والوزن في الأحاديث لبيان ما يتحصل به التساوي في الأجناس المنصوص عليها فكيف كان هذا الذكر سبباً لإلحاق سائر الأجناس المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة في الأحاديث ، وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك ، وأي مناط ستفيد منها مع العلم أن الغرض بذكرها هو تحقيق التساوي كما قال : مثلاً بمثل سواء بسواء وأما الإتفاق في الجنس والطعم كما قال الشافعي . واستدلوا على ذلك بما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع النبي () يقول : الطعام بالطعام مثلاً بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير فأقول : ذكر النبي () الطعام فكان ماذا ؟ وأي دليل على أنه أراد بهذا الذكر الإلحاق ؟ وأي فهم يسبق إلى كون ذلك هو العلة المعدية حتى تركب عليها القناطر وتبنى عليها القصور . ويقال هذا دليل على أن كل ماله طعم كان يبعه بماله متفاضلاً رباً . مع أن أول ما يدفع هذا الإستدلال الذهب والفضة اللذين هما أول منصوص عليه في الأحاديث المصرحة بذكر الأجناس التي تحرم فيها الربا . ومما يدفع القولين جميعاً أنه قد ثبت في الأحاديث أن النبي () ذكر العدد كما في حديث عثمان عند مسلم بلفظ لا تبيعوا الدينار بالدينارين وفي رواية من حديث أبي سعيد ولا درهمين بدهم ولا يعتبر العدد أحد من أهل هذين القولين ولا من غيرهم. وقد وافقت المالكية الشافعي في الطعم وزادت عليه الإدخار والاقتيات فوسعوا الدائرة بما ليس بشئ .

والحاصل أنه لم يرد دليل به الحجة على إلحاق ما عدا الأجناس المنصوص عليها بها .

فإن إختلفت الأجناس جاز التفاضل إذا كان يداً بيد لما ثبت في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت عن النبي () قال الذهب الذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد . فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد وفي الباب أحاديث .

ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي لما وقع في الأحاديث الصحيحة من قوله () مثلاً بمثل سواء بسواء وزناً بوزن فإن هذا يدل على أنه لا يجوز بيع الشئ بجنسه إلا بعد العلم بالمماثلة والمساواة ، ومما يدل على ذلك حديث جابر عند مسلم وغيره قال : نهى رسول الله () عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكليل المسمى من التمر فإن هذا يدل على أنه لا يجوز البيع إلا بعد العلم .

وإن صحبه غيره أي لا تأثير لمصاحبة شئ آخر لأحد المثلين . لحديث فضالة بن عبيد عند مسلم وغيره قال : إشتريت قلادة يوم خيبر بإثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً فذكرت ذلك للنبي () فقال : لا تباع حتى تفصل وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف منهم عمر بن الخطاب ، وقال به الشافعي وأحمد وإسحق ، وذهب جماعة منهم الحنفية إلى جواز التفاضل مع مصاحبة شئ آخر إذا كانت الزيادة مساوية لما قابلها .

ولا بيع الرطب بما كان يابساً لحديث ابن عمر المتقدم في النهي عن أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً ، وكذلك حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة المتقدمات ، وفي الموطأ حديث سعد قال سمعت رسول الله () يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال رسول الله () : أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقالوا : نعم فنهى عن ذلك قلت : وعليه الشافعي ، وهذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شئ من المطعوم بجنسه أحدهما رطب والآخر يابس مثل : بيع الرطب بالتمر ، وبيع العنب بالزبيب ، وبيع اللحم الرطب بالقديد ، وهذا قول أكثر أهل العلم وإليه ذهب مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة . وجوزه أبو حنيفة وحده ورده بالمتشابه من قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا والمتشابه من قياس في غاية الفساد وهو قولهم : الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين ، وإما أن يكون جنساً واحداً ، وعلى التقديرين فلا يمنع بيع أحدهما بالآخر . قال ابن القيم : وإذا نظرت إلى هذا القياس رأيته مصادماً للسنة أعظم مصادمة ، ومع أنه فاسد في نفسه ، بل هما جنس واحد ، أحدهما أزيد من الآخر قطعاً بنية ، فهو أزيد أجزاء من الآخر بزيادة لا يمكن فصلها وتميزها ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به عند الكمال ، إذ هو ظن وحسبان ، فكان المنع من بيع أحدهما بالآخر محض القياس لو لم يأت به سنة ، وحتى لو لم يكن ربا ولا القياس يقتضيه لكان أصلاً قائماً بنفسه يجب التسليم والإنقياد له كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة انتهى .

إلا لأهل العرايا لحديث زيد بن ثابت عند البخاري وغيره أن النبي () رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلاً وفي لفظ في الصحيحين رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً وأخرج أحمد والشافعي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث جابر قال : سمعت رسول الله () يقول : حين أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بخرصها الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة وفي الباب أحاديث . والمراد أن النبي () رخص للفقراء الذين لا نخل لهم أن يشتروا من أهل النخل رطباً يأكلونه في شجره بخرصه تمراً . والعرايا جمع عرية وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة . وقد ذهب إلى ذلك الجمهور . ومن خالف فالأحاديث ترد عليه . قلت : العرية فعيلة بمعنى مفعولة من عراه يعروه إذا قصده ، وهي عقد مقصود ، أو بمعنى فاعلة من عرى يعرى إذا خلع ثوبه كأنها عريت ، وهي بيع الرطب على النخل بتمر في الأرض والعنب في الشجر بزبيب فيما دون خمسة أوسق . وقال محمد : وبهذا نأخذ ، ولفظ البخاري في باب تفسير العرايا قال مالك : العرية أن يعرى الرجل الرجل النخلة ثم يتأذى بدخوله عليه فرخص له أن يشتريها منه بتمر . وقال ابن إدريس : العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يداً بيد ، ولا تكون بالجزاف . ومما يقويه قول ابن أبي حثمة بالأوسق الموسقة . وقال ابن إسحق : في حديثه عن نافع عن ابن عمر كانت العرايا أن يعرى الرجل الرجل في ماله النخلة والنخلتين . وقال يزيد : عن سفيان بن حسين العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها رخص لهم أن يبيعوها بما شاؤا من التمر انتهى .

أقول : العرايا أصلها أن العرب كانت تطوع على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة ، وهي عطية اللبن دون الرقبة . قال الجوهري في الصحاح : العرية هي النخلة التي يعريها صاحبها رجلاً محتاجاً بأن يجعل له ثمرها عاماً من عراة إذا قصده انتهى . فرخص () لمن لا نخل لهم أن يشتري الرطب على النخل بخرصها تمراً كما وقع في الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن ثابت ، وفي لفظ في الصحيحين من حديثه رخص في العرايا يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً وفي لفظ لهما من حديثه ولم يرخص في غير ذلك فهذا جائز ، والذي أخبرنا بتحريم الربا ومنعنا من المزابنة هو الذي رخص لنا في العرايا والكل حق وشريعة واضحة وسنة قائمة ومن منع ذلك فقد تعرض لرد الخاص بالعام ولرد الرخصة بالعزيمة ولرد السنة بمجرد الرأي ، وهكذا من منع من البيع وجوز الهبة كما روي عن أبي حنيفة رحمه الله ولكن هذه الرخصة مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق والوسقين والثلاثة والأربعة كما وقع في حديث جابر عند الشافعي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم فلا يجوز الشراء بزيادة على ذلك .

ولا بيع اللحم بالحيوان لما تقدم قريباً من حديث سعيد بن المسيب عند مالك أن رسول الله () نهى عن بيع الحيوان باللحم وقال سعيد : من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين . وقال نهى عن بيع الحيوان باللحم . وقال أبو الزناد : كل من أدركت من أهل العلم ينهون عن بيع الحيوان باللحم أي من جنسه وكذا بغير جنسه من مأكول وغيره . وفي شرح السنة ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى تحريمه ، وإليه ذهب الشافعي. وحديث ابن المسيب وإن كان مرسلاً لكنه يتقوى بعمل الصحابة واستحسن الشافعي مرسل ابن المسيب . وذهب جماعة إلى إباحته واختارها المزني إذ لم يثبت الحديث وكان فيه قول متقدم ممن يكون بقول اختلاف ولأن الحيوان ليس بمال الربا بدليل أنه يجوز بيع حيوان بحيوانين فبيع اللحم بالحيوان بيع مال الربا بما لا ربا فيه فيجوز ذلك في القياس إلا أن يثبت الحديث فنأخذ به وندع القياس . وقال محمد في الموطأ : وبهذا نأخذ من باع لحماً من لحم الغنم بشاة حية لا يدري اللحم أكثر أو مافي الشاة أكثر فالبيع فاسد مكروه ولا ينبغي وهذا مثل المزابنة والمحاقلة. وكذا بيع الزيتون بالزيت ودهن السمسم بالسمسم .

أقول : والأحسن عندي أن معنى الحديث : أن يقول للقصاب كم يخرج من هذه الشاة فيقول القصاب : عشرون رطلاً فيقول : خذ هذه الشاة بعشرين رطلاً من اللحم إن خرج أكثر فلك أو أقل فعليك . وهذا نوع من القمار . ورجع الحديث إلى القياس .

ويجوز بيع الحيوان بإثنين أو أكثر من جنسه لحديث جابر عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي قال : أن النبي () اشترى عبداً بعبدين وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه . وأخرج أيضاً مسلم وغيره من حديث أنس أن النبي () اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبي وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عمرو أن النبي () أمره أن يبعث جيشاً على إبل كانت عنده قال : فحملت الناس عليها حتى نفذت الإبل وبقيت بقية من الناس قال : فقلت يارسول الله الإبل قد نفذت وبقيت بقية من الناس لا ظهر لهم فقال لي : ابتع علينا إبلاً بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى ينفذ هذا البعث قال : وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى نفذت ذلك البعث فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله () وفي إسناده محمد ابن اسحق وفيه مقال ، وقوي في الفتح إسناده . وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن الجارود من حديث سمرة قال : نهى النبي () عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وهو من رواية الحسن عن سمرة ولم يسمع منه . وقد جمع الشافعي بين الحديثين بأن المراد به النسيئة من الطرفين فيكون ذلك من بيع الكالىء بالكالىء لا من طرف واحد فيجوز . وفي الموطأ أن علي بن أبي طالب باع جملاً له يدعى عصيفر بعشرين بعيراً إلى أجل . وأن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة . وسئل ابن شهاب عن بيع الحيوان اثنين بواحد إلى أجل فقال : لا بأس بذلك . قال الشافعي : يجوز سواء كان الجنس واحداً أو مختلفاً ، مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم سواء باع واحداً بواحد أو بإثنين . وقال أبو حنيفة : لا يجوز . وفي بيع الحيوان بالحيوان نسيئة خلاف .

ولا يجوز بيع العينة لحديث ابن عمر أن النبي () قال : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وابن القطان وصححه . وقال الحافظ : رجاله ثقات . والمراد بالعينة بكسر العين المهملة بيع التاجر سلعته بثمن إلى أجل ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن . ويدل على المنع من ذلك ما رواه أبو إسحق السبيعي عن إمرأته أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقع فقالت : يا أم المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وأني ابتعته منه بستمائة نقداً فقالت لها عائشة : بئسما إشتريت وبئسما شريت إن جهاده مع رسول الله () قد بطل إلا أن يتوب أخرجه الدارقطني ، وفي إسناده الغالية بنت أيفع . وقد روي عن الشافعي أنه لا يصح ، وقرر كلامه ابن كثير في إرشاده . وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد، وجوز ذلك الشافعي وأصحابه . وقد ورد النهي عن العينة من طرق عقد لهما البيهقي في سننه باباً .

أقول : أما بيع أئمة الجور وشراؤهم على وجه التجارة مع رعاياهم فهذه المسألة قد عمت وطمت وكادت تطبق الأرض وقد رأينا في كتب التواريخ حكايات عن ملوك مصر من الجراكسة ، وذلك من أشدها وأعظمها جرماً أنهم إذا أرادوا بيع شئ لهم أكرهوا التجار على شرائه بأضعاف ثمنه ، وإذا أراد أحد منهم الإمتناع ضربوه ضرباً مبرحاً ، وأخذوا ماله كرهاً . ومن ذلك أنهم يمنعون الناس من الشراء من أحد من التجار حتى ينفق ما يريدون بيعه من أموالهم فيرتفع ثمنه لأجل ذلك وينفق سريعاً . قال الماتن في حاشية الشفاء : وفي الديار اليمنية من هذا القبيل أنواعها منها : أنهم يرسمون صرف القرش بمقدار محدود من الضربة التي يضربونها من الفضة المغشوشة بالنحاس المغلوبة بالغش على وجه لا تكون الفضة الخالصة إلا مقدار نصف الفضة التي في القرش ، ثم أن الرعايا لا تمتثل هذا الرسم بل يتعاملون في المصارفة بزيادة على ذلك إلى مقدار الثلث أو الربع من ذلك الرسم ، فإذا كان النقد خارجاً من مال الدولة إلى غيرهم من الأجناد ونحوهم كان على ذلك الرسم الناقص ، وإذا كان النقد داخلاً إلى أموال الدولة من الرعايا لم يقبلوا منهم إلا القروش الفرانسة أو الصرف الزائد الذي يتعامل به الرعية فيما بينهم فيأخذون ثلث أموال الرعية أو ربعها ظلماً ، وإذا تزايد صرف القروش بين الرعايا أمر الأمراء بكسر السكة ويضربون ضربة أخرى مثل الكسورة في الخالص والغش أو أكثر منها غشاً ، ثم يمنعون التعامل بتلك الضربة الأولى فيبيعونها الرعايا وزناً من الدولة ، فيأتي ثمن القفلة منها بنصف قفلة من الضربة الأخرى وقد يزيد قليلاً ، أو ينقص قليلاً ثم يأخذون تلك السكة الأولى ويضربونها على تلك الضربة الأخرى ويدفعونها إلى الرعايا بصرف قد رسموه فيأكلون بهذا الذريعة نصف أموال العباد أو قريباً من ذلك ، والرعايا لا يقدرون على الإستمرار على الرسم الذي يرسمونه لهم في صرف القروش من تلك الضربة لأنهم يحتاجون إلى القروش الفرانسة في كثير من الحالات لكونه لا يتفق لهم في المعاملة لتجار سائر الأرض إلا هي . ومن الأنواع التي يأكلون بها أموال الرعايا أكلاً ظاهراً ويتجرون فيها إتجاراً بيناً ، أنهم يجعلون ضرائب على الباعة في الأسواق يجبرونهم على تسليمها شاؤا أم أبوا ، ثم يأذنون لهم بالزيادة في الأسعار فيبيعون بما شاؤا ويصنعون بالناس ما أرادوا وليس عليهم إلا الوفاء بالضرائب . فإذا استغاث مستغيث بالناس من زيادة الأسعار أو أراد منكر أن ينكر على الباعة ما يفعلونه ، قالوا : هذه الزيادات للدولة فيلقمون المنكر والمستغيث حجراً . وكم أعدد لك من هذه إلا حبولات الشيطانية التي هي السحت بلا شك ولا شبهة نسأل الله أن يصلح الجميع انتهى . ومن هذا القبيل أنواع المكوس على أهل الدور ، والتجارات ، والضرائب المتنوعة ، التي لا تكاد تنحصر على الرعايا في الأشياء المختلفة ، وكل ذلك من جهة الدول ولا شكوى في ذلك من الكفرة الفجرة ، الذي استولوا على أكثر البلاد الإسلامية ، بل من ملوك الإسلام وولاة المسلمين المدعين للتدين بالدين المحمدي والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . وانظر في كتابنا أكليل الكرامة في تبيان مقاصد الأمامة يتضح عليك الحق في هذا الباب من الباطل والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . قال الماتن في حاشية الشفاء : اعلم أن باب المصارفة قد صار في هذه الأزمنة بحيث لا يتمكن من الخلوص عن الدخول به في الربا البحت أحد ، كما عرفناك فيما سبق . ثم أن الناس يحتاجون إلى التعامل بهذه الضربة في تصرفاتهم ، ويضطرون إلى المصارفة بها إلى القرش الفرنجي بذلك المقدار المرسوم لهم فيبيعون الفضة بالفضة مع العلم بالتفاضل وهذا رباً بحت . والعارف منهم يستروح إلى حيل قد رآها في كتب الفروع التي لا يرجع غالبها إلى دليل ، وهي لا تغني من الحق شيئاً . وها نحن نعرفك بغالب ما يظنونه من الحيل مخلصاً له من ورطة الربا ، فمن ذلك أن بعض المتفقهة الذين لا يعرفون لعلوم الإجتهاد رسماً قد أفتاهم بأنه لا ربا في المعاطاة ، وأن الصرف الذي يفعله الناس الآن هو معاطاة لعدم وقوع العقد . وهذا المقصر لا يدري بأن أدلة الكتاب والسنة مصرحة بتحريم الربا من غير نظر إلى عقد . بل لم يعتبر الله في البيع إلا مجرد الرضا . ومن ذلك ما قاله أيضاً بعض المصنفين في الفروع أن الغش في كل واحد من البدلين يكون مقابلاً للفضة في الآخر ، وهذا لا يرضى به عاقل قط . وكيف يرضى العاقل أن يبيع تسع أواقي فضة بأوقية نحاس . فإن كان مراد هذا القائل أن ذلك مخلص عن الربا سواء رضي كل واحد من المتبايعين بالبدل أم لم يرض فهذا جهل لا علم ومن ذلك أن الغش في كل واحد من البدلين يكون جريرة مسوغة للصرف . وهذا يرده حديث القلادة فإنه قد انضم إلى الفضة غيرها ولم يجعل النبي () ذلك مسوغاً للبيع بل أمر بالفصل والتمييز بين الفضتين . وقد ذكروا غير هذه الأمور مما هو من السقوط بمكان لا يخفى على من له أدنى فطنة . فإن قلت فهل من مخلص من هذه الورطة التي وقع الناس فيها ؟ قلت : نعم . ثم مخلص أرشد إليه رسول الله () وهو ما قاله لمن اشترى تمراً جيداً بتمر رديء أحد التمرين جمع والآخر جنيب وأخبره أنه اشترى الصاع الجيد بصاعين من الرديء فقال له رسول الله () أن ذلك ربا فسأله رسول الله كيف يصنع فقال : أنه يبيع التمر الرديء بالدراهم ثم يشتري بها التمر الجيد فهذه وسيلة شرعية ومعاملة نبوية فمن أراد أن يصرف الدراهم المغشوشة بالقروش الفرنجية فليشتر صاحب الدراهم مثلاً بمقدار صرف القرش سلعة من صاحب القرش ثم يبيعها منه بالقرش ولا مخلص من ذلك إلا هذه الصورة . ومن ظن أن ثم مخلصاً في غيرها فهو مخادع بنفسه بما هو صريح الربا المتوعية عليه بحرب من الله ورسوله وعلى الضارب لتلك الدراهم المغشوشة نصيبه من الإثم لأنه حمل الناس على الربا وألجأهم إلى الدخول فيه وسن لهم هذه السنة الملعونة لقصد الحطام وأكل أموال الناس بالباطل . ولو كان ممتثلاً لما أمر الله به من الرفق بالرعية والعدل في القضية لكان له بضرب الفضة الخالصة عن الغش مندوحة وأقل أحوال المسلم أن يكون في رعاية مصالح الرعية كالفرنج فيجعل ضربته كضربتهم حتى يرتفع الربا في المصارفة انتهى .

باب الخيارات

يجب على من باع ذاعيب أن يبينه وإلا ثبت للمشتري الخيار لحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجة والدارقطني والحاكم والطبراني قال : سمعت رسول الله () يقول : المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً وفيه عيب إلا بينه وقد حسن إسناده الحافظ في القمح . وأخرج نحوه أحمد وابن ماجهوالحاكم في المستدرك من حديث واثلة مرفوعاً وفي إسناده أبو جعفر الرازي وأبو سباع والأول مختلف فيه والثاني مجهول . وأخرج ابن ماجهوالترمذي والنسائي وابن الجارود والبخاري تعليقاً من حديث العداء بن خالد قال : كتب لي النبي () هذا ما إشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبداً أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بكسر الخاء بيع المسلم المسلم ويؤيد هذه الأحاديث : حديث من غشنا فليس منا وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة . فدلت هذه الأحاديث على أن من باع ذا عيب ولم يبينه فقد باع بيعاً لا يحل شرعاً . فيكون المشتري بالخيار إن رضيه فقد أثم البائع وصح البيع لوجود المناط الشرعي وهو التراضي ، وإن لم يرضه كان له رده لأن العلم بالعيب كشف عن عدم الرضا الواقع حال العقد فلم يوجد المناط الشرعي ولما ورد في رد المعيب وسيأتي .

والخراج بالضمان لحديث عائشة عند أحمد وأهل السنن والشافعي ، وصححه الترمذي وابن حبان وابن الجارود والحاكم وابن القطان وابن خزيمة أن النبي () قضى أن الخراج بالضمان وفي رواية أن رجلاً ابتاع غلاماً فاستغله ثم وجد به عيباً فرده بالعيب . فقال البائع غلة عبدي فقال النبي () : الغلة بالضمان والمراد بالخراج الدخل والمنفعة أي يملك المشتري الخراج الحاصل من المبيع بضمان الأصل الذي عليه أي بسببه قال مالك : في الرجل يشتري العبد فيؤاجره بالإجارة العظيمة أو القليلة ثم يجد به عيباً يرد منه أنه يرده بذلك العيب وتكون له إجارته وغلته ، وذلك الأمر الذي كانت عليه الجماعة ببلدنا ، وذلك لون أن رجلاً إبتاع عبداً فبنى له داراً قيمة بنيانها ثمن العبد أضعافاً ثم يوجد به عيب يرد منه رده ولا يحسب للعبد عليه إجارة فيما عمل له ذلك فكذلك تكون له إجارته إذا آجره من غيره لأنه ضامن له قلت : وعليه أهل العلم .

وللمشتري الرد بالغرر لأن المشتري إنما رضي بالمبيع عند العقد قبل علمه بالغرر فإذا تبين له الغرر كشف عن عدم الرضا الذي هو المناط الشرعي .

ومنه أي من ذلك الغرر المصراة فيردها وصاعاً من تمر فإنه ثبت الخيار فيها بوجود الغرر الكائن بالتصرية وهو حبس اللبن في الضروع ليخيل المشتري غزارته فيغتر . وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي () قال : لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر وفي رواية مسلم وغيره من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر لا سمراء قلت : وعليه الشافعي . وفي المنهاج التصرية حرام تثبت الخيار على الفور . وقيل : يمتد ثلاثة أيام فإن رد بعد تلف اللبن رد معها صاع تمر . وقيل يكفي صاع قوت . والأصح أن الصاع لا يختلف بكثرة اللبن . وفي شرح السنة قال أبو حنيفة : لا خيار له بسبب التصرية وليس له ردها بالعيب بعد ما حلبها . وقال ابن أبي ليلى : وأبو يوسف : بردها ويرد معها قيمة اللبن . قال في الحجة البالغة : واعتذر بعض من لم يوفق للعمل بهذا الحديث بضرب قاعدة من عند نفسه فقال : كل حديث لا يرويه إلا غير فقيه أسند باب الرأي فيه يترك العمل به . وهذه القاعدة على ما فيها لا تنطبق على صورتنا هذه لأنه أخرجه البخاري عن ابن مسعود أيضاً وناهيك به ولأنه بمنزلة سائر المقادير الشرعية يدرك العقل حسن تقدير ما فيه ولا يستقل بمعرفة حكمه هذا القدر . خاصة اللهم إلا عقول الراسخين في العلم انتهى . قال ابن القيم : ومنها رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصراة بالمتشابه من القياس . وزعمهم أن هذا حديث يخالف الأصول فلا يقبل فيقال : الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنة . فالحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال الأصل يخالف نفسه ؟ هذا من أبطل الباطل والأصول في الحقيقة إثنان لا ثالث لهما : كلام الله تعالى ، وكلام رسوله . وما عداهما فمردود إليهما . فالسنة أصل قائم بنفسه ، والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع ؟ قال الإمام أحمد : إنما القياس أن يقيس على أصل فأما أن يجيء إلى أصل فيهدمه ثم يقيس فعلى أي يقيس . وقد تقدم بيان موافقة حديث المصراة للقياس وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس وأنه ليس في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح . وأما القياس الباطل فالشريعة كلها مخالفة له . ويا لله العجب كيف وافق الوضوء بالنبيذ المشتد الأصول حتى قبل وخالف خبر المصراة الأصول حتى رد انتهى .

والحاصل : أنه لم يرد ما يعارض حديث المصراة ولم تصح الرواية بلفظ طعام أو بر بل الذي صح الصاع من التمر . وللحنفية أجوبة عن الحديث كثيرة ليس على شئ منها أثارة من علم ، وقد استوفاها الماتن في شرح المنتقى ودفعها جميعها ولا نؤثر على نص الشارع شيئاً بل نقول : إذا تنازع بائع المصراة ومشتريها في قيمة اللبن المستهلك ورد المشتري صاعاً من تمر وجب على البائع قبوله ولا يجاب إلى غيره ولو كان المثل موجوداً . نعم إذا عدم التمر كان الواجب الرجوع إلى قيمته . وكذلك إذا تراضى البائع والمشتري على قيمة أخرى كان الرضا له حكمه . وتمام هذا البحث في شرحنا لبلوغ المرام فليرجع إليه .

أو ما يتراضيان عليه لأن حق الآدمي مفوض إليه فإذا رضي بأخذ عوض عنه جاز ذلك كما لو رضي بإسقاطه أو أخذ بعضه .

ويثبت الخيار لمن خدع فإن كان مع شرط عدم الخداع فلا ريب في ذلك لما تقدم من حديث ابن عمر أن رجلاً كان يخدع في البيوت فقال له رسول الله () : من بايعت فقل لا خلابة وهو في الصحيحين والموطأ وزاد فيه فكان الرجل إذا بايع يقول لا خلابة وقد ثبت أن النبي () جعل لحبان بن منقذ الذي كان يخدع في البيوع خيار ثلاثة أيام كما في حديث ابن عمر في رواية منه وكذلك في حديث غيره ، وأما إذا لم يشترط فالبيع الذي وقع ليس هو بيع المسلم إلى المسلم بل هو مشتمل على الخبث والخداع والغائلة ، فللمخدوع الخيار لكونه كذلك ولكونه الخداع كشفاً عن عدم الرضا المحقق الذي هو المناط كما تقدم تقريره . قلت : اختلفوا في تفسير هذا الحديث فقال المحلي : لا خلابة عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثة أيام . وفي رواية البيهقي وابن ماجهثم أنت بالخيار في كل سلعة أبتعتها ثلاث ليال وقال محمد : نرى أن هذا كان لذلك الرجل خاصة يريد أنه خيار الغبن وليس بمطرد وفي شرح السنة : عند أحمد الخبر عام في حق كافة الناس إذا ذكر هذه الكلمة في البيع كان له الرد إذا ظهر في بيعه الغبن وسبيله سبيل من باع واشترى بشرط الخيار في المنهاج لهما ولأحدهما شرط الخيار وإنما يجوز في مدة معلومة ولا تزيد على ثلاثة أيام .

أو باع قبل وصول السوق لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال : نهى النبي () أن يتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق وتلقي الجلب هو أن يقدم ركب بتجارة فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد ويعرفوا السعر فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد ، وهذا مظنة ضرر للبائع لأنه إن نزل بالسوق كان أغلى له ، ولذلك كان له الخيار إذا عثر على الضرر .

ولكل من المتبايعين بيعاً منهياً عنه الرد كتلك الصور المتقدمة ووجهه : أن النهي إن كان مقتضياً للفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول ، فوجود العقد كعدمه وهو غير لازم لواحد منهما ، فالرد بالخيار هو بمعنى الرد لما هو غير لازم ، وإن كان النهي غير مقتض للفساد فوقوع العقد على صورة من تلك الصور إن رضيه كل واحد منهما فقد حصل المناط الشرعي وهو الرضا وان لم يحصل الرضا منهما أو من أحدهما لوقوعه على وجه يخالف الشرع فقد المناط .

ومن اشترى شيئاً لم يره فله رده إذا رآه لحديث أبي هريرة مرفوعاً من اشترى ما لم يره فله الخيار إذا رآه أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكردي وهو ضعيف ، ولكنهما أخرجا عن مكحول مرسلاً عن النبي () نحوه وفي إسناده أيضاً أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف ومثل هذا لا تقوم به الحجة ، ولكن الخيار في الغالب يمكن الإستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر فإن ما لم يقف الإنسان على حقيقته لا يخلو عن نوع غرر سواء كان بعناية البائع أم لا وأيضاً لا بد من حصول المناط الشرعي وهو التراضي ، فإذا لم يرض المشتري بالمبيع عند رؤيته فقد فقد الرضا وعدم المصحح .

وله رد ما اشتراه بخيار وذلك نحو أن يشتري شيئاً على أنه له فيه الخيار مدة معلومة لما ورد في الأحاديث الصحيحة الواردة في خيار المجلس بلفظ كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار وفي لفظ إلا أن يكون صفقة خيار وهما في الصحيحين وفيهما ألفاظ بهذا المعنى ، ولكنه قد اختلف في تفسير بيع الخيار فقيل هذا وقيل غيره ويؤيد ثبوت خيار الشرط ما تقدم من حديث من كان يخدع في البيوت أن النبي () قال له : إذا بايعت فقل لا خلابة وفي بعض الروايات ولك الخيار ثلاثة أيام وقد تقدم ذلك .

وإذا إختلف البيعان فالقول ما يقوله البائع لحديث ابن مسعود عند أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي، وصححه الحاكم وابن السكن قال : قال رسول الله () : إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة أو يترادان وفي لفظ والمبيع قائم بعينه وفي لفظ إذا اختلف البيعان والمبيع مستهلك فالقول قول البائع وفي لفظ ولا بينة لأحدهما وفي الباب روايات كثيرة قد استوفاها المصنف في نيل الأوطار . وحاصلها : يفيد أن القول قول البائع ، وقد قيل : أن هذا الحديث مخصص لأحاديث أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين وسيأتي . وقيل بينهما عموم وخصوص من وجه ، فظاهر حديث القول ما يقول البائع أن القول قوله سواء كان مدعياً أو مدعى عليه وظاهر حديث على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين أن القول قول المنكر مع يمينه سواء كان بائعاً أو غير بائع وقد تقرر أنه إذا تعارض عمومان كما نحن بصدده وجب المصير إلى الترجيح إن أمكن ، والترجيح ههنا ممكن . فإن حديث على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين أصح من حديث فالقول قول البائع ومتقضى هذا الترجيح أن القول لا يكون قول البائع إلا إذا كان منكراً غير مدع من غير فرق بين المبيع الباقي والتالف ، ولكنه يرشد إلى الجمع ما رواه أحمد في زوائد المسند والدارمي والطبراني من حديث ابن مسعود الذي فيه فالقول ما يقول البائع بزيادة والسلعة قائمة ولكن في إسناد هذه الزيارة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف لسوء حفظه فلا يصح للجمع بين الحديثين بها ، وقد اختلف الفقهاء في ذلك إختلافاً طويلاً . قال مالك . الأمر عندنا في الرجل يشتري السلعة فيختلفان في الثمن فيقول البائع بعتكها بعشرة دنانير ويقول المبتاع إبتعتها منك بخمسة دنانير أنه يقال للبائع إن شئت فأعطها المشتري بما قال ، وإن شئت فاحلف بالله ما بعت سلعتك إلا بما قلت. فإن حلف قيل للمشتري إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع وإما أن تحلف بالله ما اشتريتها إلا بما قلت ، فإن حلف بريء منها وذلك أن كل واحد منهما مدع على صاحبه . وفي شرح السنة : ولا فرق عند الشافعي بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة في أنهما يتحالفان ويرد قيمة السلعة ، وإليه رجع محمد بن الحسن . وذهب أبو حنيفة إلى أنهما لا يتحالفان بعد هلاك السلعة عند المشتري بل القول قول المشتري مع يمينه . فإذا إختلفا في الأجل أو الخيار أو الرهن أو الضمين فهو عند الشافعي كالإختلاف في الثمن يتحالفان . وقال أبو حنيفة : القول قول من ينفيها ولا تحالف عنده إلا عند إختلاف الثمن . وفي الحجة البالغة : القول قول صاحب المال لكن المبتاع بالخيار لأن البيع مبناه على التراضي

باب السلم

هو نوع مخصوص من أنواع البيع فلا يجوز أن يكون المالان مؤجلين لأن ذلك هو بيع الكالىء بالكالىء ، وقد تقدم المنع منه فلا بد أن يكون رأس المال مدفوعاً عند العقد .

أن يسلم رأس المال في مجلس العقد وقد وقع الإتفاق على أنه يشترك فيه ما يشترط في البيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس ، وقد شرط في السلم جماعة من أهل العلم شروطاً لم يدل عليها دليل .

على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلوماً إلى أجل معلوم لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال : قدم النبي () المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال : من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم وأخرج أحمد والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا : كنا نصيب المغانم مع رسول الله () وكان يأتينا أبناط من أنباط الشأم فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى قيل : أكان لهم زرع أو لم يكن ؟ قال : ما كنا نسألهم عن ذلك وفي لفظ لأحمد وأهل السنن إلا الترمذي وما نراه عندهم في شرح السنة : السف له معنيان في المعاملات أحدهما القرض ، والثاني السلم ، ومعناه عند الشافعي لو كان مؤجلاً اشترط معرفة الأجل ، ولو كان مكيلاً أو موزوناً إشترط معرفة الكيل أو الوزن وفهم معرفة الجنس والوصف بالأولى . وفي الوقاية : يصح فيما يعلم قدره وصفته لا فيما لا يعلم قدره وصفته كالحيوان . وشروطه بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره معلوماً وأجله معلوماً وأقله شهر . وفي الحجة البالغة : قدم رسول الله () المدينة وهو يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال : من أسلف في شئ فليسلف في كيل ووزن إلى أجل معلوم وذلك لترتفع المناقشة بقدر الإمكان ، وقاسوا عليها الأوصاف التي يبين بها الشئ من غير تضييق ، ومبنى القرض على التبرع من أول الأمر ، وفيه معنى الإعارة فلذلك جازت النسيئة وحرم الفضل انتهى .

أقول : أما إعتبار الجنس والصفة فليس في الحديث ما يدل عليه ، وكذلك إشتراط تعيين المكان ليس في الحديث ما يدل عليه ، وإنما اعتبر تعيين هذه الأمور لرفع التشاجر من بعد . ولا يخفى أن الرجوع إلى النوع المعهود ، أو الصفة المعهودة ، أو إلى الأوسط من ذلك يرفع التشاجر ، وكذلك يرفع التشاجر في تعيين المكان إلى الاصل ، وهو عدم وجوب الإيصال على المسلم إليه والرجوع إلى البلدة التي هي وطنه أو بلد إقامته يرفع ذلك أيضاً .

فالحاصل : أن شروط السلم تعيين جنس المسلم فيه وكونه معلوماً بكيل أو وزن ، وكونه إلى أجل معلوم فهذه ثلاثة شروط ولم يدل الدليل على إشتراط غيرها .

ولا يأخذ إلا ما سماه أو رأس ماله لحديث ابن عمر عند الدارقطني قال : قال رسول الله () : من أسلف شيئاً فلا يشرط على صاحبه غير قضائه وفي لفظ من أسلف في شئ فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله قال مالك : الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى فحل الأجل فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء مما إبتاع منه فأقاله فإنه لا ينبغي له أن يأخذ إلا ورقه أو ذهبه أو الثمن الذي دفع إليه بعينه .

ولا يتصرف فيه قبل قبضه لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله () : من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره وفي إسناده عطية بن سعيد العوفي وفيه مقال . والمعنى : أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمناً لشئ قبل قبضه ولا يجوز بيعه قبل القبض . وقد اختلف أهل العلم في ذلك قال مالك : لا يشتري منه بذلك الثمن شيئاً حتى يقبضه منه ، وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه أوصرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه فهو بيع الطعام قبل أن يستوفي . قلت : وعليه أهل العلم . في الوقاية : ولم يجز التصرف في رأس المال والمسلم فيه كالشركة والتولية قبل قبضه . وفي المنهاج : ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه ولا الاعتياض عنه

باب القرض

يجب إرجاع مثله لأنه إذا وقع التعاطي على أن يكون القضاء زائداً على أصل الدين فذلك هو الربا بل قد ورد ما يدل على أن مجرد الهدية من المستقرض للمقرض ربا كما أخرجه البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال : قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي : إنك بارض فيها الربا فاش ، فإذا كان لك على رجل حق فأهدي إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذنه فإنه ربا .

ولا يجوز أن يكون أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطاً لحديث جابر في الصحيحين قال : أتيت النبي () وكان لي عليه دين فقضاني وزادني وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة قال : كان لرجل على النبي () سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال أعطوه فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سناً فوقها فقال : أعطوه فقال : أوفيتني أوفاك الله فقال النبي () : أن خيركم أحسنكم قضاء وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث أبي رافع . وهذان الحديثان كما يدلان على جواز أن يكون القضاء أفضل ، يدلان على أنه يصح قرض الحيوان وإليه ذهب الجمهور ومنه من ذلك الكوفيون .

ولا يجوز أن يجر القرض نفعاً للمقرض لحديث أنس عند ابن ماجهأنه سئل عن الرجل يقرض أخاه المال فيهدى إليه فقال : قال رسول الله () : إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدي إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك وفي إسناده يحيى بن إسحق الهنائي وهو مجهول وفي إسناده أيضاً عتبة ابن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد والراوي عنه إسمعيل بن عياش وهو أيضاً ضعيف . وقد أخرج البخاري في التاريخ من حديث أنس عن النبي () قال : إذا أقرض فلا يأخذ هدية وأخرج البيهقي عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عياش في السنن الكبرى موقوفاً عليهم إن كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا وأخرج البيهقي أيضاً نحو ذلك في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفاً عليه . وقد تقدم ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن سلام . وقد أخرجه الحرث بن أبي أسامة من حديث علي أن النبي () نهى عن قرض جر منفعة وفي رواية كل قرض جر منفعة فهو ربا وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك . وما في الباب من الأحاديث والآثار يشهد بعضها لبعض