الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الجنائز/صفحة واحدة


كتاب الجنائز عدل

من السنن في الجنائز عدل

من السنة عيادة المريض لأن الأحاديث في مشروعيتها متواترة . وقد جعلها الشارع من حقوق المسلم على المسلم . ففي الصحيحين . وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وإجابة الدعوة . وتشميت العاطس وزاد المسلم النصيحة وزاد البخاري من حديث البراء نصر المظلوم وإبرار القسم .

وتلقين المختضر وهو في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة .

الشهادتين فوجب أن يحث على الذكر والتوجيه إلى الله تعالى لتفارق نفسه وهي في غاشية من الإيمان فيجد ثمرتها في معاده . ودليله حديث أبي سعيد الثابت في الصحيح عن النبي () قال : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله وفي الباب أحاديث .

وتوجيهه إلى القبلة لحديث عبيد بن عمير عن أبيه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال وقد سأله رجل عن الكبائر فقال هي تسع : الشرك والسحر وقتل النفس وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات وعقوق الوالدين وإستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم . وقد أخرج البغوي في الجعديات من حديث ابن عمر نحوه وفي إسناده أيوب بن عتبة وهو ضعيف . وقد إستدل بهذا على مشروعية توجيه المريض إلى القبلة ليموت إليها ، لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قبلتكم أحياء وأمواتاً وفيه نظر لأن المراد بقوله أحياء عند الصلاة ، وبقوله أمواتاً في اللحد ، والمحتضر حي غير مصل ، فلا يتناوله الحديث وإلا لزم وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي وعدم إختصاصه بحال الصلاة وهو خلاف الإجماع ، والأولى الإستدلال بما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة أن البراء بن معرور أوصى أن يوجه إلى القبلة إذا احتضر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : أصاب الفطرة وقد اختلف الصفة التي يكون التوجه إلى القبلة عليها ، فقيل : يكون مستلقياً ليستقبلها بكل وجهه ، وقيل : على جنبه الأيمن وهو الأولى .

أقول : وهو الصفة التي يوجه عليها في قبره ، والصفة التي أمر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم النائم أن ينام عليها . ومن ذلك فعل البتول رضي الله عنها ، ولا وجه لإختيار الإستلقاء إلا وهم أنه أكمل .

وتغميضه إذا مات لحديث شداد بن أوس عند أحمد وابن ماجة والحاكم والطبراني والبزار قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح ، وقولوا خيراً فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت وأخرج مسلم في صحيحه أن النبي () دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال : إن الروح إذا قبض تبعه البصر .

وقراءة يس عليه لحديث اقرؤا على موتاكم يس أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان وصححه من حديث معقل بن يسار مرفوعاً وقد أعل . وقد أخرج نحوه صاحب مسند الفردوس من حديث أبي الدرداء وأبي ذر . وأخرج نحوه أيضاً أبو الشيخ في فضل القرآن من حديث أبي ذر وحده . قال ابن حبان في صحيحه : المراد بقوله اقرؤا على موتاكم يس من حضرته المنية لا الميت ، وكذلك لقنوا موتاكم لا إله إلا الله .

والمبادرة بتجهيزه إلا لتجويز حياته لما أخرجه أبو داود من حديث الحصين بن وحوح أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي () يعوده فقال : إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت فآذنوني به واعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله وأخرج أحمد والترمذي من حديث علي مرفوعاً بلفظ ثلاث لا يؤخرن : الصلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت كفؤاً وأما إذا كان يظن أنه لم يمت فلا يحل دفنه حتى يقع القطع بالموت كصاحب البرسام وغيره .

والقضاء لدينه لحديث إمتناعه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من الصلاة على الميت الذي عليه دين حتى إلتزم بذلك بعض الصحابة والحديث معروف . وحديث نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة .

وتسجيته لما وقع من الصحابة من تسجية رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عنه موته ببرد حبرة ، وهو في الصحيحين من حديث عائشة ، وذلك لا يكون إلا بجري العادة بذلك في حياته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم .

ويجوز تقبيله لتقبيله صلى الله عليه وآله وسلم لعثمان بن مظعون وهو ميت كما في حديث عائشة عند أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه . وفي الصحيح من حديثها وحديث ابن عباس أن أبا بكر قبل النبي () بعد موته .

وعلى المريض أن يحسن الظن بربه والأحاديث في ذلك كثيرة ولو لم يكن منها إلا حديث النهي عن أن يموت الميت إلا وهو حسن الظن بربه . وحديث المريض الذي زاره النبي () فقال : كيف تجدك فقال : أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال : ما اجتمعنا في قلب امرىء في مثل هذا الموطن إلا دخل الجنة أو كما قال .

ويتوب إليه والآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في ذلك لا يتسع المقام لبسطها . وفي الصحيحين إن الله يفرح بتوبة عبده وأن باب التوبة مفتوح لا يغلق .

ويتخلص عن كل ماعليه ووجوب ذلك معلوم ، وإذا أمكن بإرجاع كل شئ لمن هو له من دين أو وديعة أو غصب أو غير ذلك فهو الواجب ، وإن لم يكن في الحال فالوصية المفصلة هي أقل ما يجب . وورد الأمر بالوصية وأنه لا يحل لأحد أن يبيت إلا ووصيته عند رأسه كما في الأحاديث الصحيحة .

فصل في وجوب غسل الميت على الأحياء عدل

ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء وهو مجمع عليه كما حكى ذلك النووي والمهدي في البحر . ومستند هذا الإجماع أحاديث الأمر بالغسل والترغيب فيه ، كالأمر منه () بغسل الذي وقصته ناقته ، وبغسل ابنته زينب وهما في الصحيح .

والقريب أولى بالقريب إذا كان من جنسه لحديث ليليه أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظاً من ورع وأمانة أخرجه أحمد والطبراني وفي إسناده جابر الجعفي ، والحديث وإن كان لا يصلح للإحتجاج به ، ولكن للقرابة مزية وزيادة حنو وشفقة توجب كمال العناية ، ولا شك أنها وجه مرجح مع علم القريب بما يحتاج إليه في الغسل .

وأحد الزوجين بالآخر أولى لقوله () لعائشة ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك أخرجه أحمد وابن ماجة والدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي . وفي إسناده محمد بن إسحق ولم ينفرد به فقد تابعه عليه صالح بن كيسان . وأصل الحديث في البخاري بلفظ ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك وقالت عائشة : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ماغسل رسول الله () إلا نساؤه أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود ، وقد غسلت الصديق زوجته أسماء كما تقدم في الغسل لمن غسل ميتاً ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروه . وغسل علي فاطمة كما رواه الشافعي والدارقطني وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن . وقد ذهب إلى ذلك الجمهور . قال في المسوى : اتفقوا على جواز غسل المرأة زوجها واختلفوا في غسل الزوج إمرأته . قالت الحنفية : لا يجوز ، فإن لم يكن إلا الزوج يممها . وقال الشافعي : يجوز لما مر .

ويكون الغسل ثلاثاً أو خمساً أو أكثر بماء وسدر لقوله () للنسوة الغاسلات لابنته زينب اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافوراً وهو في الصحيحين من حديث أم عطية ، وفي لفظ لهما أيضاً اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن وفيه دليل على تفويض عدد الغسلات إلى الغاسل . قال في الحجة : إنما أمر بالسدر وزيادة الغسلات لأن المريض مظنة الأوساخ والرياح المنتنة 1هـ .

وفي الآخرة كافور لقوله () واجعلن في الآخرة كافوراً كما سبق ، وإنما أمر بالكافور في الآخرة لأن من خاصيته أن لا يسرع التغير فيما استعمل ، ويقال من فوائده أنه لا يقرب منه حيوان مؤذ .

وتقدم الميامن ليكون غسل الموتى بمنزلة غسل الأحياء ، وليحصل إكرام هذه الأعضاء ، ودليله قوله () في حديث أم عطية هذا ابدأن بميامنها ومواضع الضوء منها قال ابن القيم : السنة الصحيحة الصريحة في ضفر رأس الميت ثلاث ضفائر ، كقوله في الصحيحين في غسل إبنته اجعلوا رأسها ثلاثة قرون قالت أم عطية : ضفرنا رأسها وناصيتها وقرنيها ثلاثة قرون وألقيناه من خلفها فرد ذلك بأنه يشبه زينة الدنيا ، وإنما يرسل شعرها شقتين على ثديها وسنة رسول الله () أحق بالإتباع 1هـ .

ولا يغسل الشهيد بل يدفن في ثيابه ودمائه تنويهاً بما فعل ، وليتمثل صورة بقاء عمله بادي الرأي ، وهذا هو الحق لما ثبت في شهداء أحد أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا وهو في الصحيح . وما قيل بأن الترك إنما كان لكثرة القتلى وضيق الحال فمردود بما عند أحمد في هذا الحديث عنه () أنه قال في قتلى أحد : لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة وأخرج أبو داود عن جابر قال : رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله () وإسناده على شرط مسلم . وعن ابن عباس عند أبي داود وابن ماجة قال : أمر النبي () بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي وقد تكلم فيه جماعة ، وفيه أيضاً عطاء بن السائب وفيه مقال وفي الباب أحاديث .

وبالجملة : فقد جرت السنة في الشهيد أن لا يغسل ولم يرو أنه غسل شهيداً وبه قال الجمهور . وأما من أطلق عليه اسم الشهيد كالمطعون والمبطون والنفساء ونحوهم فقد حكي في البحر الإجماع على أنهم يغسلون .

فصل في جوب تكفين الميت بما يستره عدل

ويجب تكفينه الأصل في التكفين التشبه بحال النائم المسجى بثوبه أكمله في الرجل أزار وقميص وملحفة أو حلة ، وفي المرأة هذه مع زيادة ما لأنها يناسبها زيادة الستر .

بما يستره لأمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بإحسان الكفن كما في حديث إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قتادة ، والكفن الذي لا يستر ليس بحسن .

ولو لم يملك غيره أي الكفن ، لأمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بتكفين مصعب بن عمير في النمرة التي لم يترك غيرهما كما في الصحيحين وغيرهما من حديث خباب بن الأرت .

ولا بأس بالزيادة مع التمكن من غير مغالاة لما وقع منه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في كفن ابنته ، فإنه كان يناول النساء ثوباً ثوباً وهو عند الباب ، فناولهن الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر ، أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ليلى بنت قائف الثقفية . وقد كفن صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب سحولية جدد يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجاً وهو في الصحيحين . وأخرج أبو داود من حديث علي لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعاً .

أقول : أراد العدل بين الإفراط والتفريط وأن لا ينتحلوا عادة الجاهلية في المغالاة . والحاصل : أنه لا ريب في مشروعية الكفن للميت ، ولا شك في عدم وجوب زيادة على الواحد ، ولم يثبت عنه () كون الكفن على صفة من الصفات ، أوعدد من الأعداد ، إلا ما كان منه () في تكفين إبنته أم كلثوم ، وهذا الحديث وإن كان فيه مقال لكنه لا يخرج به عن حد الإعتبار . فغاية ما يقال أنه يستحب أن يكون كفن المرأة على هذه الصفة ، وأما كفن الرجل فلم يثبت عنه إلا الأمر بالتكفين في الثوب الواحد كما في قتلى أحد ، وفي الثوبين كما في المحرم الذي وقصته ناقته . وليس تكثير الأكفان والمغالاة في أثمانها بمحمود ، فإنه لولا ورود الشرع به لكان من إضاعة المال ، لأنه لا ينتفع به الميت ولا يعود نفعه على الحي ، ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال : إن الحي أحق بالجديد لما قيل له عند تعيينه لثوب من أثوابه في كفنه إن هذا خلق . والأولى أن يكون الكفن من الأبيض لحديث ألبسو من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم . أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه والشافعي وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان ، وفي معناه أحاديث أخر عن عمران وسمرة وأنس وابن عمر وأبي الدرداء .

ويكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها فقد كان ذلك صنعه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الشهداء المقتولين معه . وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود وقال : ادفنوهم بدمائهم وثيابهم وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن ثعلبة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال يوم أحد : زملوهم في ثيابهم .

وندب تطييب بدن الميت وكفنه لحديث جابر عند أحمد والبيهقي والبزار بإسناد رجاله رجال الصحيح قال : قال رسول الله () إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً ولقوله () في حديث المحرم الذي وقصته ناقته ولا تمسوه بطيب وهو في الصحيح من حديث ابن عباس ، فإن ذلك يشعر أن غير المحرم يطيب ، ولا سيما مع تعليله () بقوله : فإنه يبعث ملبياً قال في الحجة : فوجب المصير إليه ، وإلى هذه النكتة أشار النبي () لقوله : الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها وأما ما قيل تتبع بالطيب مساجده فلعل وجه ماقاله ابن مسعود ومن بعده تكريم هذه الأعضاء لكون الإعتماد عليها في أشرف طاعات الله وهي الصلاة ، ولم يرد فيه ذلك من المرفوع شئ ، ولكنه يحسن لستر ما لعله يظهر من روائح الميت التي يتأذى بها المتولون لتجهيزه .

فصل في وجوب الصلاة على الميت عدل

وتجب الصلاة على الميت لأن إجتماع أمة من المؤمنين شافعين للميت ، له تأثير بليغ في نزول الرحمة عليه . والصلاة على الأموات ثابتة ثبوتاً ضرورياً من فعله () وفعل أصحابه ، ولكنها من واجبات الكفاية ، لأنهم قد كانوا يصلون على الأموات في حياته () ولا يؤذنونه كما في حديث السوداء التي كانت تقم المسجد ، فإنه لم يعلم النبي () إلا بعد دفنها فقال لهم : ألا آذنتموني وهو في الصحيح . وامتنع من الصلاة على من عليه دين وأمرهم بأن يصلوا عليه .

ويقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة لحديث أنس بن مالك أنه صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه ، فلما رفعت أتى بجنازة امرأة فصلى عليها فقام وسطها فسئل عن ذلك ، وقيل له هكذا كان رسول الله () يقوم من الرجل حيث قمت ، ومن المرأة حيث قمت قال : نعم أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة ، ولفظ أبي داود هكذا كان رسول الله () يصلي على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعاً ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة قال : نعم وفي الصحيحين من حديث سمرة قال : صليت وراء رسول الله () على إمرأة ماتت في نفاسها فقام عليها رسول الله () في الصلاة وسطها والخلاف في المسألة معروف وهذا هو الحق .

وأقول : الثابت عنه () أنه كان يقف مقابلاً لرأس الرجل ولم يثبت عنه غير ذلك ، وأما المرأة فروي أنه كان يقوم مقابلاً لوسطها ، وروي أنه كان يقوم مقابلاً لعجيزتها ، ولا منافاة بين الروايتين ، فالعجيزة يصدق عليها أنها وسط ، وإيثار ما ثبت عن رسول الله () عند أئمة الفن الذين هم المرجع لغيرهم واجب . ولم يقل أحد من أهل العلم بترجيح قول أحد من الصحابة أو من غيرهم على قول رسول الله () وفعله ، وهذا مما لا ينبغي أن يخفى .

ويكبر أربعاً أو خمساً لورود الأدلة بذلك . أما الأربع فثبتت ثبوتاً متواتراً من طريق جماعة من الصحابة أبي هريرة وابن عباس وجابر وعقبة بن عامر والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم رضي الله تعالى عنهم ، وأما الخمس فثبتت في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلة قال : كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعاً وأنه كبر على جنازة خمساً فسألته فقال كان رسول الله () يكبرها أخرجه مسلم وأحمد وأهل السنن . وأخرج أحمد عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمساً ثم إلتفت فقال : ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر النبي () صلى على جنازة فكبر خمساً وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري وهو ضعيف . وقد إختلف الصحابة فمن بعدهم في عدد تكبير صلاة الجنازة : فذهب الجمهور إلى أنه أربع . وذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه خمس . وقال القاضي عياض : إختلفت الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع . قال ابن عبد البر : وإنعقد الإجماع بعد ذلك على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم فشذوذ لا يلتفت إليه ا هـ . وهذه الدعوى مردودة ، فالخلاف في ذلك معروف بين الصحابة وإلى الآن . ولا وجه لعدم العمل بالخمس بعد خروجها من مخرج صحيح مع كونها زيادة غير منافية إلا أن يصح ما رواه ابن عبدا لبر في الإستذكار من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يكبر على الجنائز أربعاً وخمساً وسبعاً وثمانياً حتى جاء موت النجاشي فخرج فكبر أربعاً ، ثم ثبت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أربع حتى توفاه الله تعالى على أن إستمراره على الأربع لا ينسخ ما وقع منه () من الخمس ما لم يقل قولاً يفيد ذلك . وقد أخرج الطبراني في الأوسط عن جابر مرفوعاً صلوا على موتاكم بالليل والنهار ، والصغير والكبير ، والدنىء والأمير أربعاً وفي إسناده عمرو بن هشام البيروتي تفرد به عن ابن لهيعة وما أحق هذا بأن لا يصح ولا يثبت . وقد روى البخاري عن علي أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً وقال إنه شهد بدراً . وروى سعيد بن منصور عن الحكم بن عتيبة أنه قال : كانوا يكبرون على أهل بدر خمساً وستاً وسبعاً .

ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة لحديث ابن عباس عند البخاري وأهل السنن أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال : لتعلموا أنه من السنة ولفظ النسائي فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر ، فلما فرغ قال سنة وحق وروى الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه ، ثم يصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شئ منهن ، ثم يسلم سراً في نفسه قال في الفتح : وإسناده صحيح ، وقد أخرجه عبد الرزاق والنسائي بدون قوله بعد التكبيرة ولا قوله ثم يسلم سراً في نفسه قال في الحجة : ومن السنة قراءة الفاتحة لأنها خير الأدعية وأجمعها علمها الله تعالى عباده في محكم كتابه اهـ .

والحاصل : أن المواطن موطن دعاء لا موطن قراءة قرآن ، فيتوجه الاقتصار على ما ورد وهو الفاتحة وسورة ، ويكون ذلك بعد التكبيرة الأولى ، ويشتغل فيما بعدها بمحض الدعاء .

ويدعو بين التكبيرات بالأدعية المأثورة منها ما أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة من حديث أبي هريرة قال : كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا صلى على جنازة قال : اللهم اغفر لحينا وميتنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان زاد أبو داود وابن ماجة اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده وأخرجه أيضاً النسائي وابن حبان والحاكم قال : وله شاهد صحيح من حديث عائشة نحوه : وأخرج هذا الشاهد الترمذي وأعله بعكرمة بن عمار . وأخرج مسلم وغيره من حديث عوف بن مالك قال : سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : اللهم اغفر له وارحمه ، واعف عنه وعافه ، وأكرم نزله ووسع مدخله ، واغسله بماء وثلج وبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، وزوجاً خيراً من زوجه ، وقه فتنة القبر وعذاب النار وقد وردت أدعية متنوعة في أحاديث صحيحة هي أولى من الإستحسانات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم من عند أنفسهم ، فإنهم لم يقصدوا أنها أولى من الثابت عنه () ، ولكن فن الرواية هم عنه بمعزل فضاعت عليهم المسالك وهي واسعة . قال في الحجة البالغة : ومن دعاء النبي () على الميت اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحق ، اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم وأما الصلاة على الجنائز في المساجد فغاية ما استدل به من قال بالكراهة ما أخرجه أبو دواد من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله () : من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ عليه وأخرجه ابن ماجة بلفظ فليس له شئ وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأجوبة منها : أنه ضعيف كما قاله جماعة من الحفاظ ، فإن في إسناده صالحاً مولى التوأمة . ومنها : أن الذي في النسخ المشهورة الصحيحة من سنن أبي داود بلفظ فلا شئ عليه كما تقدم ، وعلى فرض ثبوت الرواية باللفظ الآخر ، فيجب تأويلها لما ثبت من صلاته () ابني بيضاء في المسجد . بل أخرج سعيد بن منصور وابن شيبة أن الصحابة صلوا على أبي بكر وعمر في المسجد . وأما إنكار على عائشة فلا حجة فيه ، ولا سيما وقد إنقطع عند أن قامت عليه الحجة . وأما الصلاة على الجنازة فرادى فأقول : الإستدلال ممن قال باشتراط التجميع فيها بأنه () ما صلى على جنازة إلا في جماعة لا تتم به الحجة ، لأن الأصل في كل صلاة مشروعة أن تكون كالصلوات الخمس في إجزائها فرادى كما تجزىء جماعة . ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل ، ولو كان فعلها منه () في جماعة تقوم به الحجة للزم في صلاة الفرائض الخمس أن لا تصح إلا جماعة ، لأنه () لم يؤدها إلا في جماعة . إذا تقرر هذا فالاقتصار في الإستدلال لصحة صلاة الجنازة فرادى على ما ذكرناه مغن عن غيره ، فإن تحقيق إجماع الصحابة على تجويز الصلاة عليه () عند موته فرادى ممنوع ، لأنهم قد تفرقوا بعض تفرق في تلك الحال وإن كان الباقون في المدينة جمهورهم وأكابرهم . ثم لو فرض الإجماع على ذلك فهو إجماع سكوتي وإنتهاضه للاحتجاج فيه ما لا يخفى على عارف بالأصول . ثم هذا مبني على صدور ذلك ولم يرد إلا بإسناد ضعيف أنهم فعلوا ذلك . وأما ما يقال أنه () أوصاهم بأن يصلوا عليه فرادى ففي إسناده عند المنعم بن ادريس وهو كما قيل كذاب . وصرح بعض الحفاظ بأن الحديث موضوع .

ولا يصلي على الغال لا متناعه () في غزاة خبير من الصلاة على الغال ، كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

وقاتل نفسه لحديث جابر بن سمرة عند مسلم وأهل السنن أن رجلاً قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه النبي () .

والكافر وذلك هو المعلوم منه () ، فإنه لم ينقل عنه أنه صلى على كافر ، وقد صرح بذلك القرآن الكريم ، قال الله عز وجل : ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره .

والشهيد وقد اختلفت الروايات في ذلك ، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر أن النبي () لم يصل على شهداء أحد وأخرجه أيضاً أهل السنن . وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث أنس أنه () لم يصل عليهم .

أقول : لا يشك من له أدنى إلمام بفن الحديث أن أحاديث الترك أصح إسناداً وأقوى متناً ، حتى قال بعض الأئمة إنه كان ينبغي لمن عارض أحاديث النفي بأحاديث الإثبات أن يستحي على نفسه ، لكن الجهة التي جعلها المجوزون وجه ترجيح وهي الإثبات ، لا ريب أنها من المرجحات الأصولية ، إنما الشأن في صلاحية أحاديث الإثبات لمعارضة أحاديث النفي لأن الترجيح فرع المعارضة .

والحاصل : أن أحاديث الإثبات مروية من طرق متعددة لكنها جمعياً متكلم عليها . وقد أطال الماتن الكلام على هذا في شرح المنتقى ، وسرد الروايات المختلفة وإختلاف أهل العلم في ذلك فليرجع إليه فإن هذا المقام من المعارك .

ويصلي على القبر وعلى الغائب لحديث أنه () انتهى إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعاً وهو في الصحيحن من حديث ابن عباس . وكذلك صلاته على قبر السوداء التي كانت تقم المسجد وهو أيضاً في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة . وصلى على قبر أم سعد وقد مضى لذلك شهر أخرجه الترمذي . وصلى على النجاشي هو وأصحابه كما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر وأبي هريرة ، وهو مات في دياره بالحبشة فصلى عليه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالمدينة . والخلاف في الصلاة على القبر والغائب معروف ولم يأت المانع بشئ يعتد به .

أقول : الأدلة ثابتة في الصلاة على القبر ثبوتاً لا يقابله أهل العلم بغير القبول ، أما فيمن لم يصل عليه فالأمر أوضح من أن يخفى، ولا تزال الصلاة مشروعة عليه ما علم الناس أنه لم يصل عليه أحد . وأما فيمن قد صلى عليه فلمثل حديث السوداء المتقدم ومعلوم أن الميت لا يدفن في عصره () بدون صلاة عليه . وأما المانعون من الصلاة على القبر مطلقاً فأشف ما استدلوا به ما روي عنه () في حديث السوداء المذكور أنه قال : أن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وأن الله ينورها بصلاتي عليهم قالوا : فهذا يدل على إختصاصه () بذلك ، وتعقب بأنه () لم ينكر على من صلى معه على القبور ولو كان خاصاً به لأنكر عليهم . وأجيب عن هذا التعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا يصلح للإستدلال به على الفعل أصالة . وأحسن ما يجاب به عن هذه الزيادة بأنها مدرجة في هذا الحديث كما بين ذلك جماعة من أصحاب حماد بن زيد على أنه يمكن الجواب بأن كون الله ينور القبور بصلاة رسوله () عليها لا ينفي مشروعية الصلاة من غيره تأسياً به لا سيما بعد قوله () صلوا كما رأيتموني أصلي قال ابن القيم في أعلام الموقعين : ردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله : لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها وهذا حديث صحيح ، والذي قاله هو الذي صلى على القبر ، فهذا قوله وهذا فعله ولا يناقض أحدهما الآخر ، فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر ، فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختص بمكان ، بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه ، فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين . ولا فرق بين كونه على النعش وعلى الأرض ، وبين كونه في بطنها بخلاف سائر الصلوات ، فإنها لم تشرع في القبور ولا إليها لأنها ذريعة إلى إتخاذها مساجد ، وقد لعن رسول الله () من فعل ذلك ، فأين ما لعن فاعله وحذر منه وأخبر أن أهله شرار الخلق كما قال : إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذي يتخذون القبور مساجد إلى ما فعله () مراراً متكررة وبالله التوفيق .

فصل في الاسراع بالجنازة عدل

ويكون المشي بالجنازة سريعاً لحديث أبي بكرة عند أحمد والنسائي وأبي داود ، والحاكم قال : لقد رأيتنا مع رسول الله عليه وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملاً وأخرج البخاري في تاريخه قال : أسرع النبي () حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله () : أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسراع مستحب ، وقال ابن حزم : بوجوبه . وذلك بعض أهل العلم إلى أن المستحب التوسط لحديث أبي موسى قال : مرت برسول الله () جنازة تمخض مخض الزق فقال رسول الله () : عليكم القصد أخرجه أحمد وابن ماجة والبيهقي وفي إسناده ضعف . وأخرج الترمذي وأبو داود من حديث ابن مسعود قال : سألنا رسول الله () عن المشي خلف الجنازة فقال : ما دون الخبب فإن كان خيراً عجلتموه وإن كان شراً فلا يبعد إلا أهل النار وفي إسناده مجهول . ولا يخفاك أن حديث أبي موسى لا يصلح للإحتجاج به على فرض عدم وجود ما يعارضه ، فكيف وقد عارضه ما هو في الصحيحين بلفظ الأمر . وأما حديث ابن مسعود فلا ينافي الإسراع ، لأن الخبب هو ضرب من العدو وما دونه إسراع .

أقول : والحق هو القصد في المشي ، فالأحاديث المصرحة بمشروعية الإسراع ليس المراد بها الإفراط في المشي الخارج عن حد الإعتدال . والأحاديث التي فيها الإرشاد إلى القصد ليس المراد بها الإفراط في البطء فيجمع بين الأحاديث بسلوك طريقة وسطى بين الإفراط والتفريط يصدق عليها أنه إسراع بالنسبة إلى الإفراط في البطء وأنها قصد بالنسبة إلى الإفراط في الإسراع ، فيكون المشروع دون الخبب وفوق المشي الذي يفعله من يمشي في غير مهم ، ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود قال : سألنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال : ما دون الخبب وقد ضعفه جماعة بأبي ماجد المذكور في إسناده . قيل أنه مجهول ، وقيل منكر الحديث ، والراوي عنه يحيى الجابري وهو ضعيف . وأخرج أحمد والنسائي والحاكم عن أبي بكرة قال : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأنا لنكاد نرمل بالجنازة رملاً فمعنى نكاد نرمل أي نقارب الرمل .

والمشي معها سنة وهو ظاهرة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يمشي مع الجنائز هو وأصحابه ، كما يفيد ذلك الأحاديث المتقدمة في صفة المشي والأحاديث الآتية في التقدم والتأخر على الجنازة ، ولحديث أبي هريرة الثابت في الصحيح من اتبع جنازة مسلم إيماناً وإحتساباً الحديث ....

والحمل لها سنة لحديث ابن مسعود قال : من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع أخرجه ابن ماجة وأبو داوود اليطالسي والبيهقي من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عنه . وفي الباب عن جماعة من الصحابة ، والأحاديث يقوي بعضها بعضاً ولا تقصر عن إفادة مشروعية الحمل .

والمتقدم عليها والمتأخر عنها سواء لما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يمشون حول جنازة ابن الدحداح . وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وابن حبان وصححه أيضاً والحاكم وقال : على شرط البخاري من حديث المغيرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريباً منها عن يمينها أو عن يسارها ولفظ أبي داود والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها وفي لفظ لأحمد والنسائي والترمذي الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها وأخرج أحمد وأهل السنن والدارقطني والبيهقي وابن حبان وصححه من حديث ابن عمر أنه رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المشي أما الجنازة أفضل ، وبعضهم إلى أن المشي خلفها أفضل .

أقول : فإذا لم يكن المشي أمام الجنازة أفضل ، فأقل الأحوال أن يكون مساوياً للمشي خلفها في الفضيلة ، ولم يأت حديث صحيح ولا حسن أن المشي خلف الجنازة أفضل ، وأقوال الصحابة مختلفة ، فالحق أن ذلك سواء ، ولا ينافيه رواية من روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم مشى أمامها أو خلفها فذلك سواء ، لأن المشي مع الجنازة إنما يكون أمامها أو خلفها أو في جوانبها، وقد أرشد إلى ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما تقدم ، فكل مكان من الأمكنة المذكورة هو من جملة ما أرشد إليه . قال في الحجة : وهل يمشي أمام الجنازة أو خلفها ، وهل يحملها أربعة أو إثنان ، وهل يسل من قبل رجليه أو من القبلة . المختار أن الكل واسع ، وأنه قد صح في الكل حديث أو أثر ا هـ .

ويكره الركوب لحديث ثوبان قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى ناساً ركباناً فقال : ألا تستحيون أن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب أخرجه ابن ماجة والترمذي ، وأخرج أبو داود من حديث ثوبان أيضاً أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أتي بدابة وهو مع جنازة فأبي أن يركبها ، فلما انصرف أتي بدابة فركب فقيل له فقال : أن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت وقد خرج صلى الله عليه وآله وسلم مع جنازة ابن الدحداح ماشياً ورجع على فرس كما في حديث جابر بن سمرة عند الترمذي وقال صحيح ، ولا يعارض الكراهة ما تقدم من قوله : الراكب خلف الجنازة لأنه يمكن أن يكون ذلك لبيان الجواز مع الكراهة ، أو المراد بأن كون الراكب خلفها أن يكون بعيداً على وجه لا يكون في صورة من يمشي مع الجنازة .

ويحرم النعي لحديث حذيفة عند أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن النعي وحديث ابن مسعود عن النبي () إياكم والنعي فإن النعي عمل الجاهلية أخرجه الترمذي وفي إسناده أبو حمزة ميمون الأعور وليس بالقوي ، وفي الباب أحاديث ، والذي في الصحاح والقاموس والنهاية وغيرها من كتب اللغة أن النعي الإخبار بموت الميت ، فظاهره تحريم ذلك وإن لم يصحبه ما يستنكر كما كانت تفعله الجاهلية من إرسال من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق . ولكنه قد ثبت أنه () نعي النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه ، أي أخبرهم وأخبر بقتلى مؤتة . وقال في السوداء التي كانت تقم المسجد ألا أخبر تموني بموتها فدلت هذه الأحاديث على جواز الأعلام بمجرد الموت لمن يحضر الغسل والتكفين والصلاة ، والمنع منه لغير ذلك .

والنياحة لحديث من نيح عليه يعذب بما نيح عليه وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث المغيرة ، وعلى النياحة تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي () قال : الميت يعذب في قبره بما نيح عليه وأخرج أحمد ومسلم من حديث أبي مالك الأشعري النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي موسى بلفظ أنا بريء مما برىء منه رسول الله () فإن رسول الله () برىء من الصالقة والحالقة والشاقة .

أقول : الأحاديث في هذا الباب قد إختلفت فمنها ما فيه الأذن بمطلق البكاء ، ومنها ما فيه النهي عن مطلق البكاء . ووردت أحاديث مصرحة بالنهي عن النوح كما تقدم بعض ذلك ولم يأت ما يدل على جوازه . واختلف الناس في الجميع بين الأحاديث ، فالذي يترجح الجزم بتحريم نفس النوح ، لأنه أمر زائد على البكاء . وأما ما لا يستطاع دفعه من دمع العين ، وماعجز الطبع عن كتمه من الصوت فلا مانع منه ، وعليه تحمل أحاديث الإذن بالبكاء ، وفيها ما يرشد إلى هذا فليعلم .

وإتباعها بنار وشق الجيب والدعاء بالويل والثبور لحديث أبي بردة قال : أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال : لا تتبعوني بمجمر قالوا : أوسمعت فيه شيئاً قال : نعم من رسول الله () أخرجه ابن ماجة وفي إسناده مجهول ، وقد كان هذا الفعل من أفعال الجاهلية . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود أن النبي () قال : ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية .

ولا يقعد المتبع لها حتى توضع لحديث إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبع فلا يجلس حتى توضع وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد . وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة نحوه ، وقد وردت أحاديث صحيحة في القيام للجنازة إذا مرت بمن كان قاعداً كحديث إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر وغيره . وأخرج مسلم من حديث علي قال : قام النبي () يعني في الجنازة ثم قعد وفي رواية من حديثه قال : كان رسول الله () أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود وابن حبان . وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة والبزار من حديث عبادة بن الصامت أن يهودياً قال : لما كان النبي () يقوم للجنازة هكذا نفعل فقال النبي () : اجلسوا وخالفوهم وفي إسناده بشر بن أبي رافع وليس بالقوي كما قال الترمذي . وقال البزار تفرد به بشر وهو لين ، فأفاد ما ذكرناه .

أن القيام لها إذا مرت منسوخ وأما قيام الماشي خلفها حتى توضع على الأرض فمحكم لم ينسخ . قال القاضي عياض : ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا .

أقول : وهذا الحديث بلفظ ثم قعد لا يصلح لنسخ الأحاديث الصحيحة المصرحة بأمره () لنا بالقيام ، وعلل ذلك بأن الموت فزع و قام لجنازة فقيل إنها جنازة يهودي فقال : أليست نفساً فغاية ما يدل عليه قعوده من بعد هو أن القيام ليس بواجب عليه ، وقد تقرر في الأصول أنه إذا فعل فعلاً لم يظهر منه التأسي به فيه ، وكان ذلك مخالفاً لما قد أمر به الأمة أو نهاها عنه ، فأنه يكون مختصاً به ويبقى حكم الأمر أو النهي للأمة على حاله ، ولفظ أمرنا بالجلوس إن بلغ إلى حد الإعتبار صلح للنسخ ، ويؤيده حديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه ما تقدم والمقام عندي من المضايق .

فصل ويجب دفن الميت في حفرة تمنعه من السباع عدل

ويجب دفن الميت أي مواراة جيفته في حفرة قبر بحيث لا تنبشه السباع و تمنعه من السباع ولا تخرجه السيول المعتادة ولا خلاف في ذلك ، وهو ثابت في الشريعة ثبوتاً ضرورياً ، وقال النبي () : احفروا واعمقوا وأحسنوا أخرجه النسائي والترمذي وصححه .

ولا بأس بالضرح واللحد أولى لأن اللحد أقرب من إكرام الميت ، واهالة التراب على وجهه من غير ضرورة سوء أدب ، ودليله حديث أن أبا عبيدة بن الجراح كان يضرح وأن أبا طلحة كان يلحد وقد أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف . وأخرج أحمد وابن ماجه من حديث أنس قال : لما توفي رسول الله () كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا : نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه ، فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا له وإسناده حسن ، فتقريره () للرجلين في حياته هذا يلحد وهذا يضرح يدل على أن الكل جائز ، وأما أولوية اللحد فلحديث ابن عباس قال : قال رسول الله () : اللحد لنا والشق لغيرنا أخرجه أحمد وأهل السنن وقد حسنه الترمذي وصححه ابن السكن مع أن في إسناده عبد الأعلى بن عامر وهو ضعيف . وأخرج أحمد والبزار وابن ماجه من حديث جرير نحوه وفيه عثمان بن عمير وهو ضعيف ، وقد ذهب إلى ذلك الأكثر ، وحكى النووي في شرح مسلم اتفاق العلماء على جواز اللحد والشق ، وعلى كل حال اللحد أولى للخروج من الريبة وإن كان المقام مقام إحتمال .

ويدخل الميت من مؤخر القبر لحديث عبد الله بن زيد أنه أدخل ميتاً من قبل رجلي القبر وقال : هذا من السنة أخرجه أبو داود . وأخرج ابن ماجه من حديث أبي رافع قال : سل رسول الله () سعد بن معاذ سلاً وقد روى الشافعي من حديث ابن عباس وأبو بكر النجاد من حديث ابن عمر أن النبي () سل من قبل رأسه سلاً وقد روى البيهقي من حديث ابن عباس وابن مسعود وبريدة أنهم أدخلوا النبي () من جهة القبلة وقد ضعفها البيهقي ، ولا يعارض السنة ما وقع من بعض الصحابة عند دفنه () .

ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلاً وهو مما لا أعلم فيه خلافاً .

ويستحب حثو التراب من كل من حضر ثلاث حثيات لحديث أبي هريرة أن النبي () صلى على جنازة ثم أتي قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً أخرجه ابن ماجه وأبو داود وإسناده صحيح ، لا كما قال أبو حاتم وأخرج البزار والدار قطني من حديث عامر بن ربيعة أن النبي () حثى على قبر عثمان بن مظعون ثلاثاً وفي الباب غير ذلك .

ولا يرفع القبر زيادة على شبر لحديث علي عند مسلم وأحمد وأهل السنن أنه بعثه رسول الله () على أن لا يدع تمثالاً إلا طمسه ولا قبراً مشرفاً إلا سواه وفي مسلم أيضاً وغيره من حديث جابر أن النبي () نهى أن يبني على القبر وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله () رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء ورفعه شبراً .

أقول : الأحاديث الصحيحة وردت بالنهي عن رفع القبور ، وقد ثبت من حديث أبي الهياج ما تقدم ، فما تصدق عليه أنه قبر مرفوع أو مشرف لغة فهو من منكرات الشريعة التي يجب على المسلمين انكارها وتسويتها من غير فرق بين نبي وغير نبي ، وصالح وطالح ، فقد مات جماعة من أكابر الصحابة في عصره () ولم يرفع قبورهم ، بل أمر علياً بتسوية المشرف منها، ومات صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرفع قبره أصحابه ، وكان من آخر قوله لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ونهى أن يتخذوا قبره وثناً ، فما أحق الصلحاء والعلماء أن يكون شعارهم هو الشعار الذي أرشدهم إليه صلى الله عليه وآله وسلم ، وتخصيصهم بهذه البدعة المنهي عنها تخصيص لهم بما لا يناسب العلم والفضل ، فإنهم لو تكلموا لضجوا من إتخاذ الأبنية على قبورهم وزخرفتها ، لأنهم لا يرضون بأن يكون لهم شعار من مبتدعات الدين ومنهياته ، فإن رضوا بذلك في الحياة كمن يوصي من بعده أن يجعل على قبره بناء أو يزخرفه فهو غير فاضل ، والعالم يزجره علمه عن أن يكون على قبره ما هو مخالف لهدي نبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فما أقبح ما ابتدعه جهلة المسلمين من زخرفة القبور وتشييدها ، وما أسرع ما خالفوا وصية رسول الله () عند موته ، فجعلوا قبره على هذه الصفة التي هو عليها الآن ، وقد شد من عضد هذه البدعة ما وقع من بعض الفقهاء من تسويغها لأهل الفضل حتى دونوها في كتب الهداية والله المستعان ، ومثل هذا التسويغ الكتب على القبور بعد ورود صريح النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة كأنه لم يكف الناس ابتداعهم في مطعمهم ومشربهم وملبوسهم وسائر أمور دنياهم ، فجعلوا على قبورهم شيئاً من هذه البدع لتنادي عليهم بما كانوا عليه حال الحياة ، وتغالوا في ذلك حتى جعلوه مختصاً بأهل العلم والفضل . اللهم غفراً . وماجعلوه وجهاً لرفع القبور وهو تمييزها لأجل الزيارة ، فهذا ممكن بوضع حجر على القبر ، أو بوضع قضيب أو نحو ذلك ، لا بتشيد الأبنية ورفع الحيطان والقبب وتزويق الظاهر والباطن .

والزيارة للموتى مشروعة أي زيارة القبور لحديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمة فزوروها فإنها تذكر الآخرة أخرجه الترمذي وصححه وهو في الصحيح مسلم . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة بنحو ذلك وفي الباب أحاديث وقد قيل بإختصاص ذلك بالرجال لحديث أبي هريرة أن النبي () لعن زوارات القبور أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه . وفي الباب عن حسان بن ثابت عند أحمد وابن ماجه والحاكم وعن ابن عباس عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبزار بإسناد فيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف . وقد وردت أحاديث في نهي النساء عن اتباع الجنائز وهي تقوي المنع من الزيارة وروى الأثرم في سننه والحاكم من حديث عائشة أن النبي () رخص لهن في زيارة القبور وأخرج ابن ماجه عنها مختصراً أن النبي () رخص في زيارة القبور فيمكن أنها أرادت الترخيص الواقع في قوله () فزوروها كما سبق ، فلا يكون في ذلك حجة ، لأن الترخيص العام لا يعارض النهي الخاص ، لكنه يؤيد ماروته عائشة ما في صحيح مسلم عنها أنها قالت : يارسول الله كيف أقول إذا زرت القبور قال : قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين الحديث : وروى الحاكم أن فاطمة رضي الله تعالى عنها كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة ويجمع بين الأدلة بأن المنع لمن كانت تفعل في الزيارة ما لا يجوز من نوح ونحوه والإذن لمن لم تفعل ذلك .

أقول : استدلوا للجواز بأحاديث الإذن العام بالزيارة وغير خاف على عارف بالأصول أن الأحاديث الواردة في النهي للنساء عن الزيارة والتشديد في ذلك حتى لعن () من فعلت ذلك . بل وردت أحاديث صحيحة في نهيهن عن إتباع الجنائز ، فزيارة القبور ممنوعة منهن بالأولى وشدد في ذلك حتى قال للبتول رضي الله عنها : لو بلغت معهم . يعني أهل الميت . الكدي ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك فهذه الأحاديث مخصصة لأحاديث الإذن العام بالزيارة ، لكنه يشكل على ذلك أحاديث أخر منها حديث عائشة المتقدم ، أن النبي () علمها كيف تقول إذا زارت القبور . ومنها ما أخرجه البخاري أن النبي () مر بإمرأة تبكي على قبر ولم ينكر عليها الزيارة . قال القرطبي : اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة يعني لفظ زوارات قال : ولعل السبب مايفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج .

ويقف الزائر مستقبلاً للقبلة لحديث أنه جلس رسول الله () مستقبل القبلة لما خرج إلى المقبرة أخرجه أبو داود من حديث البراء ، وهو () خرج في هذا الحديث مع جنازة فأفاد مشروعية قعود من خرج من الجنازة مستقبلاً حتى يدفن ، وكذلك مشروعية الإستقبال للزائر لكونه قد خرج إلى المقبرة كما يخرج من معه جنازة وقعد كما يقعد . وقد كان () يقول عند الزيارة : السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية فينبغي للزائر أن يقول كذلك . وقال في الحجة : وفي رواية السلام عليكم ياأهل القبور يغفر الله لنا ولكم وأنتم سلفنا ونحن بالأثر والله تعالى أعلم .

ويحرم إتخاذ القبور مساجد الأحاديث في ذلك كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما ولها ألفاظ منها : لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي لفظ قاتل الله اليهود ، الحديث : وفي لفظ لاتتخذوا قبري مسجداً وفي آخر لا تتخذوا قبري وثناً وإتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها أو بمعنى الصلاة عليها . وفي مسلم لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ولا عليها قال البيضاوي : وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا لتعظيم له ولا لتوجه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد انتهى . وتعقبه في سبل السلام وقال : قوله لا لتعظيم له يقال إتخاذ المسجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له . ثم أحاديث النهي مطلقة ولا دليل على التعليل بما ذكر . والظاهر أن العلة سد الذريعة ، والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان التي تعظم الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر ، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية ، ولأنه سبب لا يقاد السرج عليها الملعون فاعله . ومفاسد مابني على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر . وقد أخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج وقد حققنا ذلك في رسالة مستقلة إنتهى .

وزخرفتها لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : ما أمرت بتشييد المساجد أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان . قال ابن عباس : لنزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى والتشييد رفع البناء وتزيينه بالشيد وهو الجص ، والحديث ظاهر في الكراهة أو التحريم لقول ابن عباس كما زخرفت اليهود والنصارى فإن التشبه بهم محرم ، وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس من الحر والبرد وتزيينه يشغل القلوب عن الإقبال عن الطاعة ويذهب الخشوع الذي هو روح جسم العبادة ، والقول بأنه يجوز تزيين المحراب باطل . قال المهدي في البحر : إن تزيين الحرمين لم يكن برأي ذي حل وعقد ولا سكوت رضا أي من العلماء ، وإنما فعله أهل الدول الجبابرة من غير مؤاذنة لأحد من أهل الفضل ، وسكت المسلمون والعلماء من غير رضا وهو كلام حسن . وفي قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما أمرت إشعار بأنه لا يحسن ، فإنه لو كان حسناً لأمره الله تعالى به صلى الله تعالى عليه وآله وسلم . وأخرج البخاري من حديث ابن عمر أن مسجده () كان على عهده مبنياً باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً . وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشباً ، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة وبنى جدرانه بالأحجار المنقشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج . قال ابن بطال : وهذا يدل على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تحسينه ، فقد كان عمر رضي الله تعالى عنه مع كثرة الفتوحات في أيامه وكثرة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه ، وإنما إحتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه ثم قال عند عمارته أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس ثم كان عثمان المال في زمنه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة ومع ذلك أنكر بعض الصحابة عليه . وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك ، وذلك في أواخر عصر الصحابة ، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفاً من الفتنة فتأمل .

وتسريجها لحديث لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وفي إسناده أبو صالح باذام وفيه مقال . وأخرج أحمد ومسلم وأهل السنن عن جابر قال : نهى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه وزاد الترمذي وأن يكتب عليه وأن يوطأ وصححه وأخرج النهي عن الكتابة أيضاً النسائي . وقال الحاكم أن الكتابة وإن لم يخرجها مسلم فهي على شرطه .

والقعود عليها لما أخرجه مسلم وأحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة قال : لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر وأخرج أحمد بإسناد صحيح عن عمرو ابن حزم قال : رآني رسول الله () متكئاً على قبر فقال لا تؤذ صاحب هذا القبر قال في الحجة البالغة : ومعنى أن لا يقعد عليه قيل : أن يلازمه المزورون ، وقيل : أن يطؤا القبور ، وعلى هذا فالمعنى إكرام الميت ، فالحق التوسط بين التعظيم الذي يقارب الشرك وبين الإهانة وترك الموالاة به .

وسب الأموات لقوله () لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ماقدموا أخرجه البخاري وغير من حديث عائشة . وأخرج أحمد والنسائي من حديث ابن عباس لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا وفي إسناده صالح بن نبهان وهو ضعيف ولكنه يشهد له ما ورد بمعناه من حديث سهل بن سعد والمغيرة .

أقول : أما السباب للأموات من الشافعين لهم القائمين بالصلاة عليهم فما لهذا حمل الحاملون الجنازة إليهم ، فإذا كان لا يستجيز الدعاء للميت كمن يكون مثلاً معلوم النفاق فيدعو المصلى لنفسه ولسائر المسلمين إذا ألجأته الضرورة إلى الصلاة عليه ، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس . قال بعض المقصرين لرجل من أهل العلم ألا تلعن فلاناً قال : وهل تعبدنا الله بذلك قال : نعم ، قال : فمتى عهدك بلعن الشيطان وفرعون ، فإنهما من رؤس هذه الطائفة التي زعمت أن الله تعبدك بلعنها قال : لا أدري قال : لقد فرطت فيما تعبدك الله به وتركت ما هو أحق بما تفعل فعرف ذلك المقصر خطأه .

والتعزية مشروعة لحديث من عزى مصاباً فله مثل أجره أخرجه ابن ماجه والترمذي والحاكم من حديث ابن مسعود وقد أنكر هذا الحديث على علي بن عاصم . وأخرج ابن ماجه من حديث عمرو بن حزم عن النبي () قال : ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة ورجال إسناده ثقات . وأخرج الشافعي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : لما توفي رسول الله () وجاءت التعزية سمعوا قائلاً يقوم : إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك ، ودركاً من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، وفي إسناده القاسم بن عبيد الله بن عمرو وهو متروك . وأخرج البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد قال : كنا عند النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو إبناً لها في الموت فقال للرسول : ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شئ عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب فينبغي التعزية بهذه الألفاظ الثابتة في الصحيح ولا يعدل عنها إلى غيرها .

وكذلك إهداء الطعام لأهل الميت لحديث عبد الله بن جعفر قال : لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي () : اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن السكن وحسنه الترمذي . وأخرج نحوه أحمد الطبراني وابن ماجه من حديث أسماء بنت عميس أم عبد الله بن جعفر . وأخرج أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث جرير قال : كنا نعد الإجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة ولا يعارض هذا ما قد ثبت عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وشرف وكرم .