الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الحدود/باب حد القذف
رمي المحصنات بالزنا كبيرة . قال الله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة واتفق على ذلك المسلمون .
من رمى غيره بالزنا وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة لقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وقد أجمع أهل العلم على ذلك . واختلفوا هل ينصف للعبد أم لا . فذهب الأكثر إلى الأول ، وروى مالك عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء هلم جراً فما رأيت أحداً جلد عبداً في فرية أكثر من أربعين . وذهب ابن مسعود والليث والزهري والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز وابن حزم إلى أنه لا ينصف لعموم الأية .
أقول : الآية الكريمة عامة يدخل تحتها الحر والعبد ، والغضاضة بقذف العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر ، وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد لا من الكتاب ولا من السنة ، ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله تعالى في حد الزنا : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف ، فإلحاق أحد الحدين بالأخر فيه إشكال لا سيما مع اختلاف العلة ، وكون أحدهما حقاً لله محضاً والآخر مشوباً بحق آدمي قال في المسوى : من رمى إنساناً بالزنا فإن كان المقذوف محصناً يجب على القاذف جلد ثمانين إن كان حراً ، فإن كان عبداً فجلد أربعين ، فإن كان المقذوف غير محصن فعلى قاذفه التعزير ، وكذا لا حد في النسبة إلى غير الزنا إنما فيه التعزير ، وشرائط الإحصان خمسة : الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا . حتى أن من زنى في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف لا حد عليه ، وعلى هذا أهل العلم . وإذا عفا المقذوف لم يجلد قاذفه ، وإذا قذف أبوا رجل وقد هلكا فله المطالبة بالحد . وفي الأنوار حد القاذف وتعزيره حق الآدمي يورث عنه ويسقط بعفوه وعفو وارثه إن مات ، أو قذف ميتاً وهو حق جميع الورثة . وفي الهداية لا يصح عفو المقذوف عندنا ، وفيها لو قال يا ابن الزانية وأمه ميتة محصنة فطالب الابن بحد القذف حد القاذف لأنه قذف محصنة ، ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه ، وهو الوالد والولد ، ومذهب الشافعية والحنفية أن الوالد لا يجلد بقذفه ولده ، وإذا قذف جماعة جلد حداً واحداً وعليه أبو حنيفة وقال الشافعي : إذا اختلف المقذوف فلا تداخل ، والتعريض الظاهر ملحق بالصريح وعليه مالك . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يلحق به ولا يحد إلى بالصريح .
أقول : التحقيق أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله عز وجل هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل لغة أوشرعاً أو عرفاً على الرمي بالزنا ، ويظهر من قرائن الأحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك ، ولم يأت بتأويل مقبول يصح حمل الكلام عليه ، فهذا يوجب حد القذف بلا شك ولا شبهة ، وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا أو يحتمله احتمالاً مرجوحاً وأقر أنه أراد الرمي بالزنا ، فإنه يجب عليه الحد . وأما إذا عرض بلفظ محتمل ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا فلا شئ عليه لأنه لا يسوغ إيلامه بمجرد الإحتمال .
ويثبت ذلك بإقراره مرة لكون إقرار المرء لازماً له . ومن ادعى أنه يشترط التكرار مرتين فعليه الدليل ، ولم يأت في ذلك دليل من كتاب ولا سنة .
أبو بشهادة عدلين كسائر ما تعتبر فيه الشهادة كما أطلقه الكتاب العزيز .
وإذا لم يتب لم تقبل شهادته لقوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ثم ذكر بعد ذلك التوبة .
فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود يشهدون على المقذوف بأنه زنى سقط عنه الحد لأن القاذف لم يكن حينئذ قاذفاً بل قد تقرر صدور الزنا بشهادة الأربعة ، فيقام الحد على الزاني وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا فلا حد على من رماه به بل يحد المقر بالزنا ، وقد ثبت عنه (ﷺ) أنه جلد أهل الإفك كما في مسند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه ، وأشار إلى ذلك البخاري في صحيحه فثبت حد القذف بالسنة كما ثبت بالقرآن ووقع في أيام الصحابة جلد من شهد على المغيرة بالزنا حيث لم تكمل الشهادة وذلك معروف ثابت
الروضة الندية شرح الدرر البهية - كتاب الحدود | |
---|---|
باب حد الزاني | باب السرقة | باب حد القذف | باب حد الشرب | بيان أن المعاصي التي لا توجب حداً يجب فيها التعزيز | باب حد المحارب | باب من يستحق القتل حداً |