الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الحدود/صفحة واحدة



كتاب الحدود

عدل

باب حد الزاني

عدل

والزنا من أكبر الكبائر في جميع الأديان قال تعالى : ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا وعلى هذا اتفق المسلمون وإن كان لهم في حد الزنا اختلاف .

إن كان بكراً حراً جلد مائة جلدة لقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وفي قوله : لا تأخذكم بهما رأفة نهي عن تعطيل الحدود . وقيل نهي عن تخفيف الضرب . بحيث لا يحصل وجع معتد به وقوله : ليشهد عذابهما قيل : يجب حضور ثلاثة فما فوقهم ، وقيل : أربعة بعد شهود الزنا ، وقال أبو حنيفة الإمام والشهود إن ثبت الزنا بالشهود والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

وبعد الجلد يغرب عاماً لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما أن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله () فقال : يارسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه . نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال رسول الله () قل . قال إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته وأني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله () والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة الغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد ياأنيس لرجل من أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها قال فغدا عليها فاعترفت فأمر رسول الله () فرجمت قال مالك العسيف الأجير . وفي البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي () قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه وأخرج مسلم وغيره من حديث عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله () : خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم وقد ذهب إلى تغريب الزاني الذي لم يحصن الجمهور حتى ادعى محمد بن نصر في كتاب الإجماع الاتفاق على نفي الزاني البكر إلا عن الكوفيين . وقد حكي ابن المنذر أنه عمل بالتغريب الخلفاء الراشدون ولم ينكره أحد فكان إجماعاً . ولم يأت من لم يقل بالتغريب بحجة نيرة ، وغاية ما تمسكوا به عدم ذكره في بعض الأحاديث وذلك لا يستلزم العدم . واختلف من أثبت التغريب هل تغرب المرأة أم لا فقال مالك والأوزاعي : لا تغرب المرأة لأنه عورة وظاهر الأدلة عدم الفرق . قلت : والتغريب من جملة الإيذاء الذي أمر به القرآن قال : فآذوهما وعليه الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يغرب .

وإن كان ثيباً جلد كما يجلد البكر بما تقدم من الأدلة وبغيرها كرجمه () لماعز ، ورجمه () لليهودي واليهودية ، ورجمه للغامدية والكل في الصحيح .

ثم يرجم حتى يموت والرجم كان متلواً ثم نسخت تلاوته ، وأيضاً يتناوله الايذاء ، وعلى هذا أكثر أهل العلم ، وتكلموا في ترتيب هذه الدلائل مع حديث عبادة الثيب بالثيب جلد مائة والرجم وجمع علي كرم الله وجهه بين الرجم والجلد فقالوا : الجلد منسوخ فيمن وجب عليه الرجم لأن النبي () رجم ماعزاً والغامدية واليهوديين ولم يجلد واحداً منهم . وقال لأنيس الأسلمي فإن اعترفت فارجمها ولم يأمر بالجلد وهذا آخر الأمرين .لأن أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الإسلام فيكون ناسخاً لما سبق من الحدين الجلد والرجم ، ثم رجم الشيخان أبو بكر وعمر في خلافتهما ولم يجمعا بين الرجم والجلد . قال في المسوى : في حديث عبادة ما يدل على أنه من آخر أحكام النبي () لأن لفظه خذوا عني إلخ . فيه إشارة إلى قوله تعالى أو يجعل الله لهن سبيلاً فهو متأخر عن هذه الآية ، وهذه الآية في سورة النساء وهي من آخر ما نزل . فلا تدل رواية أبي هريرة إياه على النسخ بل الظاهر عندي أنه يجوز للإمام أن يجمع بين الجلد والرجم ويستحب له أن يقتصر على الرجم لاقتصار النبي () على الرجم والحكمة في ذلك أن الرجم عقوبة تأتي على النفس فأصل الرجم المطلوب حاصل به والجلد زيادة عقوبة رخص في تركها ، فهذا وجه الاقتصار على الرجم عندي والعلم عند الله تعالى .

ويكفي إقراره وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان فلقصد الاستثباث لأن أخذ المقر بإقراره هو الثابت في الشريعة . فمن أوجب تكرار الأقراب في فرد من أفراد الشريعة كان الدليل عليه ولا دليل ههنا ، بيد من أوجب تربيع الإقرار إلا مجرد ما وقع من ماعز من تكرار الإقرار ، ولم يثبت عن النبي () أنه أمره أو أمر غيره بأن يكرر الاقرار ، ولا ثبت عنه () أن إقرار الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات ، وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الإقرار الأول لقصد التثبت في أمره ولهذا قال له () أبك جنون ووقع منه () السؤال لقوم ماعز عن عقله وقد اكتفى () بالإقرار مرة واحدة . كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله () واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها وثبت عنه () أنه رجم الغامدية ولم تقر إلا مرة واحدة كما في صحيح مسلم وغيره ، وكما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه أن النبي () رجم رجلاً أقر مرة واحدة ومن ذلك حديث الرجل الذي ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل فرجمه وفي رواية أنه عفا عنه ، والحديث في سنن النسائي والترمذي ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية فإنه لم ينقل أنهما كررا الإقرار ، فلو كان الإقرار أربع مرات شرطاً في حد الزاني لما وقع منه () المخالفة له في عدة قضايا ، فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبساً في ثوب العقل وعدمه والصحو والسكر ونحو ذلك ، وأحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة على من كان معروفاً بحصة العقل ونحوه . وأما اعتبار كون الشهود أربعة فذلك لمزيد الإحتياط في الحدود لكونها تسقط بالشبهة ولا وجه للإحتياط بعد الإقرار ، فإن إقرار الرجل على نفسه لا يبقى بعده ريبة بخلاف شهادة الشهود عليه وهذا أمر واضح . وقد ذهب إلى ما ذكرنا جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم . وحكاه صاحب البحر عن أبي بكر وعمر والحسن البصري ومالك وحماد وأبي ثور والبتي والشافعي ، وذهب الجمهور إلى التربيع في الإقرار .

أقول : هذه المسألة من المعارك والحق أن الإقرار الذي يستباح به الجلد والرجم لا يشترط فيه أن يكون على مرة ، وقد ثبت عنه () أنه رجم وأمر بالرجم وجلد بمجرد الإقزاز مرة واحدة كما ثبت ذلك في عدة أحاديث ، وأما سكوته () في مثل قضية ماعز حتى أقر أربعاً فليس فيها أن ذلك شرط ، بل غاية ما فيها أن الامام إذا تثبت في بعض الأحوال حتى يقع الإقرار مرات كان له ذلك . وقد بسط الماتن المسألة في شرح المنتقى فليرجع إليه فالمقام حقيق بالتحقيق .

وأما الشهادة فلا بد من أربعة ولا أعلم في ذلك خلافاً وقد دل على هذا الكتاب والسنة . قال في المسوى : يثبت الزنا بالإقرار وبأربعة شهداء قال الله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا قلت : على هذا أهل العلم .

ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج لقوله () لماعز : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت فقال : لا يارسول الله قال : أفنكتها ؟ لا يكنى قال : نعم ، فعند ذلك أمر برجمه أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس . وأخرج أبو داود والنسائي والدارقطني من حديث أبي هريرة قال : جاء الأسلمي رسول الله () يشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراماً أربع مرات كل ذلك يعرض عنه فأقبل عليه في الخامسة فقال : أنكتها قال : نعم . قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال نعم الحديث وفي إسناده ابن الهضهاض قال البخاري : حديثه في أهل الحجار ليس يعرف إلا هذا الواحد . وقد وقع من عمر بمحضر من الصحابة في استفصال شهود المغيرة بنحو هذا والقصة معروفة .

ويسقط الحد بالشبهات المحتملة لحديث أبي هريرة قال قال رسول الله () : ادرؤا الحدود على المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطيء في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة أخرجه الترمذي وقد رواه الترمذي أيضاً من حديث الزهري عن عروة عن عائشة ، وقد أعل الحديث بالوقف . وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ ادفعوا الحدود ماوجدتم لها مدفعاً وقد روى من حديث علي مرفوعاً ادرؤا الحدود بالشبهات وروي نحوه عن عمر وابن مسعود بإسناد صحيح . وفي الباب من الروايات ما يعضد بعضه ويقويه ، ومما يؤيد ذلك قوله () لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها يعني امرأة العجلاني كما في الصحيحين من حديث ابن عباس .

وبالرجوع عن الإقرار لحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي أن ماعزاً لما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحى جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله () فقال : هلا تركتموه قال الترمذي : إنه حديث حسن وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة انتهى . ورجال إسناده ثقات . وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه وزاد أنه لما وجد مس الحجارة صرخ يا قوم ردوني إلى رسول الله () فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله () غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه فلما رجعنا إلى رسول الله () وأخبرناه قال : فهلا تركتموه وجئتموني به وقد أخرج البخاري ومسلم طرفاً من هذا الحديث ، وفي الباب روايات . وقد ذهب إلى ذلك أحمد والشافعية والحنيفة ، وهو مروي عن مالك في قول له . وقد ذهب ابن أبي ليلى والبتي وأبو ثور ورواية عن مالك وقول للشافعي أن لا يقبل منه الرجوع عن الإقرار .

وبكون المرأة عذراء أو رتقاء وبكون الرجل محجوباً أو عنيناً لكون المانع موجوداً فتبطل به الشهادة أو الاقرار لأنه قد علم كذب ذلك قطعاً . وقد روي أنه () بعث علياً لقتل رجل كان يدخل على مارية القبطية فذهب فوجده يغتسل في ماء فأخذ بيده فأخرجه من الماء ليقتله فرآه مجبوباً فتركه ورجع إلى النبي () وأخبره بذلك ، والقصة مشهورة وهذا معناه قلت وقد أخرج مسلم وغيره ما حكاه الماتن ، وذكره جمع من أهل السير .

وتحرم الشفاعة في الحدود لما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر عن النبي () قال: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره وفي الصحيحين من حديث عائشة في قصة المرأة المخزومية التي سرقت لما شفع فيها أسامة بن زيد فقال النبي () له : أتشفع في حد من حدود الله وفي لفظ لا أراك تشفع في حد من حدود الله وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الحاكم وابن الجارود أن النبي () قال له لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه : هلا كان قبل أن تأتيني به وفي الباب أحاديث .

ويحفر للمرجوم إلى الصدر لكونه () أمر بأن يحفر للغامدية إلى صدرها وهو في صحيح مسلم وغيره أنه حفر لماعز حفرة ثم أمر به فرجم كما في حديث عبد الله بن بريدة في قصة ماعز . وأخرجها أحمد وزاد فحفر له حفرة فجعل فيها إلى صدره وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه أنه اعترف رجل بالزنا فقال له رسول الله () : أحصنت قال نعم فأمر برجمه ، فذهبنا فحفرنا له حتى أمكننا ورميناه بالحجارة حتى هدأ وقد ثبت في مسلم وغيره من حديث أبي سعيد قال : لما أمرنا رسول الله () أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ويؤيد هذا ما وقع في حديث غيره أنه هرب كما تقدم ، ولكن ترك الحفر له لا ينافي ثبوت مشروعية الحفر قال ابن القيم : بعد تخريج حديث ماعز المتقدم بألفاظ وكل هذه الألفاظ صحيحة ، وفي بعضها أنه أمر فحفرت له حفيرة ذكرها مسلم وهي غلط من رواية بشير بن المهاجر . وإن كان مسلم روي له في الصحيح فالثقة قد يغلط على أن أحمد وأبا حاتم قد تكلما فيه ، وإنما حصل الوهم من حفرة الغامدية فسرى إلى ماعز والله تعالى أعلم انتهى .

أقول : وجمع بين الحديثين بأنه فد كان حفر له حفرة صغيرة ثم خرج منها ورجموه وهو قائم كما تدل عليه رواية أبي سعيد وأما الحفر للمرأة فثابت ، وقد اختلف في مشروعيته والحق أنه مشروع .

ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم وغيره أن النبي () جاءته امرأة من غامد من الأزد فقال طهرني يارسول الله فقال : ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت : أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال : وما ذاك قالت : إني حبلى من الزنا قال : أنت ؟ قالت : نعم فقال لها حتى تضعي ما في بطنك قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي () فقال : قد وضعت الغامدية فقال : إذن لا نرجمها وندع ولدها صغير السن ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال : إلي رضاعه يا نبي الله قال فارجمها وأخرج مسلم وغيره من حديث عمران ابن حصين أن امرأة جهينة أتت النبي () وهي حبلى من الزنا فقالت : يارسول الله أصبت حداً فأقمه علي فدعا نبي الله () وليها فقال : أحسن إليها فإذا وضعت فأتني ففعل فأمر بها رسول الله () فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت الحديث . وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وابن عباس وأحاديثهم عند مسلم . وقد اختلفت الروايات ففي بعضها ما تقدم في حديث بريدة وفي بعضها أن النبي صلى الله تعالى عليها وآله وسلم أخر رجمها إلى الفطام فجاءت بعد ذلك فرجمت وقد جمع بينهما مجموعات .

ويجوز الجلد حال المرض بعثكال ونحوه لحديث أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال : كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها . فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله () وكان ذلك الرجل مسلماً فقال : اضربوه حده . قالوا يا رسول الله : إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال : خذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة قال : ففعلوا وراه أحمد وابن ماجة والشافعي والبيهقي ورواه الدارقطني عن فليح عن أبي سالم عن سهل بن سعد ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري . ورواه أبو داود من حديث رجل من الأنصار . وأخرجه النسائي من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه وإسناد الحديث حسن . وقد أخرج مسلم وغيره من حديث علي قال : إن أمة لرسول الله () زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت أن أجلدها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي () فقال : أحسنت اتركها حتى تماثل وقد جمع بين هذا الحديث والحديث الأول بأن المريض إذا كان مرضه مرجواً أمهل كما في الحديث الآخر وإن كان مأيوساً جلد كما في الحديث الأول . وقد حكى في البحر الإجماع على أنه تمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو ، فإن كان مأيوساً فقال أصحاب الشافعي : أنه يضرب بعثكول إن احتمله .

ومن لاط بذكر قتل ولو كان بكراً وكذلك المفعول به إذاً كان مختاراً لحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي قال : قال رسول الله () من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به قال ابن حجر : رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافاً . وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة أن النبي () قال : اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أولم يحصنا وإسناده ضعيف . قال ابن الطلاع في أحكامه لم يثبت عن رسول الله () أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال : اقتلوا الفاعل والمفعول به رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى . وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطياً قال الشافعي : وبهذا نأخذ نرجم اللوطي محصناً كان أو غير محصن . وأخرج البيهقي أيضاً عن أبي بكر أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء فسأل أصحاب رسول الله () عن ذلك فكان من أشدهم يومئذ قولاً علي ابن أبي طالب قال : هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم نرى أنه نحرقه بالنار ، فاجتمع أصحاب رسول الله () على أن يحرقه بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية يرجم . وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضاً أنه سئل عن حد اللوطي فقال : ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منسكاً ثم يتبع الحجارة وقد إختلف أهل العلم في عقوبة اللواط بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر ، فذهب من تقدم من الصحابة إلى أن حده القتل ولو كان بكراً سواء كان فاعلاً أو مفعولاً به وإليه ذهب الشافعي . وحكى صاحب شفاء الأوام إجماع الصحابة على القتل . وحكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحق أنه يرجم محصناً كان أو غير محصن . وروي عن النخعي أنه قال لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين لرجم اللوطي . وقال المنذري حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك . وذهب من عدا من تقدم إلى أن حد اللوطي حد الزاني . وقال الشافعي في الأظهر أن حد الفاعل حد الزنا إن كان محصناً رجم وإلا جلد وغرب . وحد المفعول به الجلد والتغريب وفي قول كالفاعل ، وفي قول يقتل الفاعل والمفعول به . وقال أبو حنيفة : يعزر باللواط ولا يجلد ولا يرجم .

أقول : قد صح عن النبي () الأمر بقتل الفاعل والمفعول به . وصح عن الصحابة امتثال هذا الأمر وقتلهم لمن ارتكب هذه الفاحشة العظيمة من غير فرق بين بكر وثيب ، ووقع ذلك في عصرهم مرات ولم يظهر في ذلك خلاف من أحد منهم مع أن السكوت في مثل إراقة دم امرىء مسلم لا يسوغ لأحد من المسلمين ، وكان في ذلك الزمن الحق مقبول من كل من جاء به كائناً من كان ، فإن اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزاني ، فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل سواء كان محصناً أو غير محصن ، وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنا ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي .

ويعزر من نكح بهيمة لكون الحديث المروي عن ابن عباس أن النبي () قال : من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه فقد روي الترمذي وأبو داود من حديث أبي رزين عن ابن عباس أنه قال : من أتى بهيمة فلا حد عليه وقال : أنه أصح من الحديث الأول . قال : والعمل على هذا عند أهل العلم . وقد روى أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة نحو حديث ابن عباس في القتل ولكن في إسناده عبد الغفار . قال ابن عدي : أنه رجع عنه وذكر أنهم كانوا لقنوه ، وقد وقع الإجماع على تحريم إتيان البهيمة كما حكى ذلك صاحب البحر . ووقع الخلاف بين أهل العلم فقيل : يحد الزاني وقيل : يعزر فقط إذ ليس بزنا وقيل يقتل . ووجه ما ذكرنا من التعزير أنه فعل محرماً مجمعاً عليه فاستحق العقوبة بالتعزير وهذا أقل ما يفعل به .

والحاصل : أن من وقع على بهيمة فقد ورد ما يدل على أنه يقتل ولكن لم يثبت ثبوتاً تقوم به الحجة ، ولا وقع من الصحابة مثل ما وقع في اللواط ، وفي النفس شئ من دخوله تحت أدلة الزنا العامة فالظاهر التعزير فقط من غير فرق بين بكر وثيب .

ويجلد المملوك نصف جلد الحر لقوله تعالى : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر . وقد أخرج عبد الله بن أحمد في المسند من حديث علي قال : أرسلني رسول الله () إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد فوجدتها في دمها فأخبرت بذلك رسول الله () ، فقال : إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين وهو في صحيح مسلم كما تقدم بدون ذكر الخمسين . وأخرج مالك في الموطأ عن عبد الله بن عياش المخزومي قال : أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا وذهب ابن عباس إلى أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكاً بقوله تعالى : فإذا أحصن الآية وأجيب بأن المراد بالإحصان هنا الإسلام . قلت الإحصان في كلام العرب المنع ويقع في القرآن والسنة على الإسلام والحرية والعفاف والتزوج لأن الإسلام يمنعه عما لا يباح له وكذلك الحرية والعفاف والتزوج ، وقوله تعالى والمحصنات من النساء أراد المزوجات . وقوله تعالى : أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم أراد به الحرائر . وقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات أراد العفاف . وقوله تعالى : محصنين غير مسافحين أراد المتزوجين . وقوله تعالى : فإذا أحصن أي تزوجن وعلى هذا أهل العلم .

ويحده سيده أو الإمام لعموم الأدلة الواردة في مطلق الحد ، ولحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي () قال : إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت فليجدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحل من شعر وقد ذهب إلى أن السيد يجلد مملوكه جماعة من السلف . قال الشافعي : للسيد إقامة الحد على مملوكه دون السلطان . وقال أبو حنيفة : يرفعه المولى إلى السلطان ولا يقيمه بنفسه

باب السرقة

عدل

من سرق مكلفاً مختاراً وقد تقدم وجه اشتراط التكليف والاختيار .

من حرز أي مال محرز ، واستدل على ذلك بما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله () وقد سأله رجل عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها قال : فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن . قال يا رسول الله : فالثمار وما أخذ منها في أكمامها . قال : من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شئ ، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال ، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وقد أخرجه أيضاً أحمد والنسائي والحاكم ، وصححه وحسنه الترمذي . والحريسة التي ترعى وعليها حرس . وكذا حديث لا قطع في ثمر ولا كثر عند أحمد وأهل السنن والحاكم ، وصححه ابن حبان والبيهقي من حديث رافع بن خديج ، وقد ذهب إلى إعتبار الحرز الأكثر . وذهب أحمد وإسحق والظاهرية وطائفة من أهل الحديث إلى عدم اعتباره ، واستدلوا على عدم الإعتبار . وإن كان قيامهم مقام المنع يكفيهم بما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي ومالك في الموطأ والشافعي والحاكم وصححه من حديث صفوان بن أمية قال : كنت نائماً في المسجد على خميصة لي فسرقت فأخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله () فأمر بقطعه . فقلت يارسول الله : أفي خميصة ثمن ثلاثين درهماً أنا أهبها له . قال : فهلا كان قبل أن تأتيني به وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر أن رسول الله () قطع يد سارق سرق برنساً من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم وقد أخرج مسلم معناه . وقد روي نحو حديث صفوان من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وضعف إسناده ابن حجر . ويجاب عن الإستدلال بهذه الأحاديث على عدم اعتبار الحرز بأن المساجد حرز لما دخل إليها ، ولو كان على صاحبه ، فيكون الحرز أعم مما وقع تبيينه في كتب الفقه ، ولكنه يشكل على من اعتبر الحرز حديث قطع جاحد الوديعة وسيأتي ، ويمكن أن يكون ذلك خاصاً بما ورد فيه فلا يعارض ما ورد في اعتبار الحرز في غيره . قال في المسوى : ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا قطع في سرقة شئ من الفواكه الرطبة ولا الخشب ولا الحشيش عملاً بعموم حديث رافع ، وتأوله الشافعي على معنى اشتراط الحرز وقال : نخيل المدينة لا حوائط لأكثرها فلا تكون محرزة ، وإنما خرج الحديث مخرج العادة ، يوضح ذلك حديث الجرين ، وقطع عثمان في أترجة . قال في الحجة البالغة : قال رسول الله () : لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل ، فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن .

أقول : أفهم النبي () أن الحرز شرط القطع ، وسبب ذلك أن غير المحرز يقال فيه الإلتقاط ، فيجب الاحتراز عنه قلت والحرز ما يعده الناس حرزاً لمثل ذلك المال ، فالمتبن حرز للتبن ، والإصطبل للدواب ، والمراح للغنم ، والجرين للثمار ، وأما إذا كان المال في صحراء أو في مسجد ، فإنما حرزه أن يكون له ناظر بحسب ما جرت العادة من النظر وعليه أهل العلم في الجملة .

ربع دينار فصاعداً لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما قالت : كان رسول الله () يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً وفي رواية لمسلم وغيره أن النبي () قال : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً وفي لفظ لأحمد اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا في ماهو أدنى من ذلك ، وكان ربع الدينار يؤمنذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهماً وفي رواية للنسائي قالت : قال رسول الله () : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن . قيل لعائشة ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال : قطع رسول الله () في مجن ثمنه ثلاث دراهم وقد عرفت أن الثلاث الدراهم هي صرف ربع دينار كما تقدم في رواية أحمد . قال الشافعي : وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم وذلك أن الصرف على عهد رسول الله () اثني عشر دراهماً بدينار ، وهو موافق لما في تقدير الديات من الذهب بألف دينار ، ومن الفضة بإثني عشر ألف درهم . وقد ذهب إلى كون نصاب القطع ربع دينار أو ثلاثة دراهم الجمهور من السلف والخلف ، ومنهم الخلفاء الأربعة . وفي المسألة اثنا عشر مذهباً قد أوضحها الماتن في شرح المنتقى . وأما ماروي من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال : قال رسول الله () : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده فقد قال الأعمش : كانوا يرون أنه بيض الحديد ، والحبل كانوا يرون أن منها مايساوي ثلاثة دراهم كذا في البخاري وغيره . قال الحجة البالغة الحاصل : أن هذه التقديرات الثلاث كانت منطبقة على شئ واحد في زمانه () ثم اختلف بعده ، ولم يصلح المجن للاعتبار لعدم انضباطه ، فاختلف المسلمون في الحديثين الأخيرين . فقيل : ربع دينار ، وقيل ثلاثة دراهم ، وقيل : بلوغ المال إلى أحد القدرين وهو الأظهر عندي ، وهذا شرعه النبي () فرقا بين التافه وغيره لأنه لا يصلح للتقدير جنس دون جنس لاختلاف الأسعار في البلدان ، واختلاف الأجناس نفاسة وخساسة بحسب اختلاف البلاد ، فمباح قوم وتافههم مال عزيز عند آخرين فوجب أن يعتبر التقدير في الثمن ، وقيل لا يعتبر فيها . وأن الحطب وإن كان قيمته عشرة دراهم لا يقطع فيه . قال في المسوى : ذهب الشافعي إلى حديث عائشة أن نصاب السرقة ربع دينار . وذهب مالك إلى حديث ابن عمر والجواب من قبل الشافعي عن حديث ابن عمر أن الشئ التافه قد جرت العادة بتقويمه بالدراهم ، وكانت الثلاثة دراهم تبليغ قيمتها ربع دينار يوضح ذلك حديث عثمان فإنه يدل على أن العبرة بالذهب ، ومن أجل ذلك ردت قيمة الدراهم إليه بعد ما قومت الأترجة بالدراهم . ويوضح ذلك أيضاً وقوع اثني عشر ألف درهم موضع ألف دينار في الدية . وقال أبو حنيفة : لا تقطع في أقل من عشرة دراهم .

أقول : أصح ما روي أن ثمن المجن ثلاثة دراهم وهي ربع دينار ، وقد ورد التقدير بربع دينار في الروايات الصحيحة والنهي عن القطع فيما دونه ، فنصاب السرقة إما ثلاثة دراهم أو ربع دينار ، هذا هو الحق . وما روي من زيادة ثمن المجن فقد بين سقوط الاستدلال به في شرح المنتقى .

قطعت كفه اليمنى لقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما قلت : اتفق أهل العلم على أن السارق إذا سرق أول مرة تقطع يده اليمنى ، ثم إذا سرق ثانياً تقطع رجله اليسرى واختلفوا فما إذا سرق ثالثاً بعد قطع يده ورجله ، فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى ، ثم إذا سرق أيضاً تقطع رجله اليمنى ، ثم إذا سرق أيضاً يعزر ويحبس وعليه الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى ولكن يعزر ويحبس .

ويكفي الإقرار مرة واحدة لما قدمنا في الباب الأول . وقد قطع النبي () يد سارق المجن ، وسارق رداء صفوان ، ولم ينقل أنه أمره بتكرار الإقرار . وأما ما وقع منه () من قوله للسارق الذي اعترف بالسرق ما أخالك سرقت قال : بلى مرتين أو ثلاث فهذا هو من باب الاستثبات كما تقدم . وقد ذهب إلى أنه يكفي الاقرار مرة واحدة مالك والشافعية والحنفية ، وذهب ابن أبي ليلى وأحمد وإسحق إلى اعتبار المرتين . والحق هو الأول .

أو شهادة عدلين لكون السرقة مندرجة تحت ما ورد من أدلة الكتاب والسنة في اعتبار الشاهدين .

ويندب تلقين المسقط لحديث أبي أمية المخزومي عند أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد رجاله ثقات أن النبي () أتى بلص اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله () : ما أخالك سرقت . قال : بلى مرتين أو ثلاثاً وقد روي عن عطاء أنه قال : كان من مضى يؤتي إليهم بالسارق فيقول : أسرقت قل : لا . وسمى أبا بكر وعمر أخرجه عبد الرزاق . وفي الباب عن جماعة من الصحابة .

ويحسم موضع القطع لئلا يسري فيهلك ، فإن الحسم سبب عدم السراية لما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان من حديث أبي هريرة أن رسول الله () أتى بسارق قد سرق شملة . فقالوا يا رسول الله : إن هذا قد سرق فقال رسول الله () : ما أخاله سرق . فقال السارق بلى يا رسول الله فقال : اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به ، فقطع فأتي به . فقال : تب إلى الله . فقال : قد تبت إلى الله . قال تاب الله عليك .

وتعلق اليد في عنق السارق لما أخرجه أهل السنن وحسنه الترمذي من حديث فضالة ابن عبيد قال : أتي رسول الله () بسارق فقطعت يده ، ثم أمر بها فعلقت في عنقه وفي إسناده الحجاج بن أرطاة . قال النسائي : هو ضعيف لا يحتج بحديثه . قال في الحجة البالغة : إنما فعل هذا للتشهير وليعلم الناس أنه سارق ، وفرقاً بين ما يقطع اليد ظلماً وبين ما يقطع حداً .

ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده فقد وجب لحديث صفوان المتقدم . وأخرج النسائي وأبو داود والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله () قال : تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب قلت : وعليه أهل العلم . ويحرم الشفاعة للسارق إذا بلغ أمره السلطان أن لا يقطع يده .

ولا قطع في ثمر ولا كثر ما لم يؤوه الجرين إذا أكل ولم يتخذ خبنة وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين وضرب نكال لحديث عمرو بن شعيب ورافع بن خديج المتقدمين في أول الباب . والكثر جمار النخل أو طلعها ، وإلزامه بالثمن مرتين تأديب له بالمال ، ولم يكتف () بذلك بل قال وضرب نكال ليجمع له بين عقوبة المال والبدن والخبنة ما يحمله الإنسان في حضنه وقد تقدم ضبطها وتفسيرها .

وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع لحديث جابر عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي ، وصححه الترمذي وابن حبان عن النبي () قال : ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف بنحو حديث جابر . وأخرج ابن ماجه أيضاً والطبراني من حديث أنس نحوه . قلت وعلى هذا أهل العلم .

وقد ثبت القطع في جحد العارية لما أخرجه مسلم وغيره من حديث عائشة قالت : كانت امرأة مخزمية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي () بقطع يدها وأخرج أحمد والنسائي وأبو داود وأبو عوانة في صحيحه من حديث ابن عمر مثل حديث عائشة . وقد ذهب إلى قطع جاحد العارية من لم يشترط الحرز وهم من تقدم وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع يد جاحد العارية ، قالوا : لأن الجاحد للعارية ليس بسارق لغة ، وإنما ورد الكتاب والسنة بقطع السارق . ويرد بأن الجاحد إذا لم يكن سارقاً لغة ، فهو سارق شرعاً ، والشرع مقدم على اللغة . وقد ثبت الحديث من طريق عائشة وابن عمر كما تقدم وكذا من حديث جابر وابن مسعود وغير هؤلاء ، وقد وقع في رواية من حديث ابن مسعود عند ابن ماجه والحاكم وصححه أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله () ووقع في مراسيل حبيب بن أبي ثابت أنها سرقت حلياً فيمكن أن تكون هذه المخزومية قد جمعت بين السرقة وجحد العارية

باب حد القذف

عدل

رمي المحصنات بالزنا كبيرة . قال الله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة واتفق على ذلك المسلمون .

من رمى غيره بالزنا وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة لقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وقد أجمع أهل العلم على ذلك . واختلفوا هل ينصف للعبد أم لا . فذهب الأكثر إلى الأول ، وروى مالك عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء هلم جراً فما رأيت أحداً جلد عبداً في فرية أكثر من أربعين . وذهب ابن مسعود والليث والزهري والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز وابن حزم إلى أنه لا ينصف لعموم الأية .

أقول : الآية الكريمة عامة يدخل تحتها الحر والعبد ، والغضاضة بقذف العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر ، وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد لا من الكتاب ولا من السنة ، ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله تعالى في حد الزنا : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف ، فإلحاق أحد الحدين بالأخر فيه إشكال لا سيما مع اختلاف العلة ، وكون أحدهما حقاً لله محضاً والآخر مشوباً بحق آدمي قال في المسوى : من رمى إنساناً بالزنا فإن كان المقذوف محصناً يجب على القاذف جلد ثمانين إن كان حراً ، فإن كان عبداً فجلد أربعين ، فإن كان المقذوف غير محصن فعلى قاذفه التعزير ، وكذا لا حد في النسبة إلى غير الزنا إنما فيه التعزير ، وشرائط الإحصان خمسة : الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا . حتى أن من زنى في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف لا حد عليه ، وعلى هذا أهل العلم . وإذا عفا المقذوف لم يجلد قاذفه ، وإذا قذف أبوا رجل وقد هلكا فله المطالبة بالحد . وفي الأنوار حد القاذف وتعزيره حق الآدمي يورث عنه ويسقط بعفوه وعفو وارثه إن مات ، أو قذف ميتاً وهو حق جميع الورثة . وفي الهداية لا يصح عفو المقذوف عندنا ، وفيها لو قال يا ابن الزانية وأمه ميتة محصنة فطالب الابن بحد القذف حد القاذف لأنه قذف محصنة ، ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه ، وهو الوالد والولد ، ومذهب الشافعية والحنفية أن الوالد لا يجلد بقذفه ولده ، وإذا قذف جماعة جلد حداً واحداً وعليه أبو حنيفة وقال الشافعي : إذا اختلف المقذوف فلا تداخل ، والتعريض الظاهر ملحق بالصريح وعليه مالك . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يلحق به ولا يحد إلى بالصريح .

أقول : التحقيق أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله عز وجل هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل لغة أوشرعاً أو عرفاً على الرمي بالزنا ، ويظهر من قرائن الأحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك ، ولم يأت بتأويل مقبول يصح حمل الكلام عليه ، فهذا يوجب حد القذف بلا شك ولا شبهة ، وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا أو يحتمله احتمالاً مرجوحاً وأقر أنه أراد الرمي بالزنا ، فإنه يجب عليه الحد . وأما إذا عرض بلفظ محتمل ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا فلا شئ عليه لأنه لا يسوغ إيلامه بمجرد الإحتمال .

ويثبت ذلك بإقراره مرة لكون إقرار المرء لازماً له . ومن ادعى أنه يشترط التكرار مرتين فعليه الدليل ، ولم يأت في ذلك دليل من كتاب ولا سنة .

أبو بشهادة عدلين كسائر ما تعتبر فيه الشهادة كما أطلقه الكتاب العزيز .

وإذا لم يتب لم تقبل شهادته لقوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ثم ذكر بعد ذلك التوبة .

فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود يشهدون على المقذوف بأنه زنى سقط عنه الحد لأن القاذف لم يكن حينئذ قاذفاً بل قد تقرر صدور الزنا بشهادة الأربعة ، فيقام الحد على الزاني وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا فلا حد على من رماه به بل يحد المقر بالزنا ، وقد ثبت عنه () أنه جلد أهل الإفك كما في مسند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه ، وأشار إلى ذلك البخاري في صحيحه فثبت حد القذف بالسنة كما ثبت بالقرآن ووقع في أيام الصحابة جلد من شهد على المغيرة بالزنا حيث لم تكمل الشهادة وذلك معروف ثابت

باب حد الشرب

عدل

شرب الخمر كبيرة وعليه أهل العلم .

من شرب مسكراً مكلفاً مختاراً وقد تقدم دليله جلد على ما يراه الإمام إما أربعين جلدة أو أقل أو أكثر ولو بالنعال لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي () جلد في الخمر بالجريد والنعال ، وجلد أبو بكر أربعين وفي مسلم من حديثه أن النبي () أتي برجل قد شرب الخمر فجلد بجريدتين نحو أربعين . قال : وفعله أبو بكر . فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن : أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر وفي البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحرث قال : جيء بالنعيمان أو ابن النعيمان شارباً فأمر رسول الله () من كان في البيت أن يضربوه ، فكنت فيمن ضربه بالنعال والجريد وفيه أيضاً من حديث السائب بن يزيد قال : كنا نؤتي بالشارب في عهد رسول الله () وفي أمرة أبي بكر وصدراً من أمرة عمر فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدراً من إمرة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة نحوه . وفي الباب أحاديث يستفاد مجموعها أن حد السكر لم يثبت تقديره عن الشارع ، وأنه كان يقام بين يديه على صورة مختلفة بحسب ما يقتضيه الحال . فالحق أن جلد الشرب غير مقدر بل الذي يجب فعله هو إما الضرب باليد ، أو العصا ، أو النعل ، أو الثوب على مقدار يراه الإمام من قليل أو كثير فيكون على هذا من جملة أنواع التعزير . وفي الصحيحين عن علي أنه قال : ما كنت لأقيم حداً على أحد فيموت وأجد في نفسي شيئاً إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله () لم يسنه قلت : وعليه أهل العلم إلا أن الشافعي يقول : أصل حد الخمر أربعون، وما زاده عمر على الأربعين ، كان تعزيراً لما روي أن النبي () أتي بشارب فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك المضروب فقومه أربعين فضرب أربعين حياته ثم عمر حتى تتابع الناس فاستشار عمر فضرب ثمانين ثم قال علي : حين أقام الحد على وليد بن عقبة لما بلغ أربعين . حسبك جلد النبي () أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة ، وهذا أحب إلى قال في الحجة البالغة : ثم قال أي النبي () بكتوه فأقبلوا عليه يقولون ما اتقيت الله ما خشيت الله ما استحييت من رسول الله وروي أنه () أخذ تراباً من الأرض فرمى به وجهه انتهى . وروى مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن حد العبد في الخمر فقال : بلغني أن عليه نصف الحد في الحر وأن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر قد جلدوا عبيدهم نصف حد الحر في الخمر . ولا يجوز للإمام أن يعفو عن حد . قال سعيد بن المسيب : ما من شئ إلا يحب الله أن يعفو عنه ما لم يكن حداً . قلت : وعليه أهل العلم .

ويكفي إقراره مرة أو شهادة عدلين لمثل ما تقدم ولعدم وجود دليل يدل على اعتبار التكرار .

ولو على القيء لكون خروجها من جوفه يفيد القطع بأنه شربها والأصل عدم المسقط ، ولهذا حد الصحابة الوليد بن عقبة لما شهد عليه رجلان أحدهما أنه شربها والآخر أنه تقيأها فقال عثمان : أنه لم يتقيأها حتى شربها كما في مسلم وغيره .

وقتله في الرابعة منسوخ لما رواه الترمذي والنسائي عن جابر عن النبي () إن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ثم أتي النبي () بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله ومثله أخرج أبو داود والترمذي من حديث قبيصة بن ذؤيب وفيه ثم أتي به يعني في الرابعة فجلده ورفع القتل وفي رواية لأحمد من حديث أبي هريرة فأتي رسول الله () بسكران في الرابعة فخلى سبيله . أقول : قد وردت الأحاديث بالقتل في الثالثة في بعض الروايات وفي الرابعة في بعض وفي الخامسة في بعض ، وورد ما يدل على النسخ من فعله () ، وأنه رفع القتل عن الشارب ، وأجمع على ذلك جيمع أهل العلم ، وخالف فيه بعض أهل الظاهر

بيان أن المعاصي التي لا توجب حداً يجب فيها التعزيز

عدل

والتعزير في المعاصي التي لا توجب حداً ثابت بحبس أو ضرب أو نحوهما ولا يجاوز عشرة أسواط لحديث أبي بردة بن نيار في الصحيحين وغيرهما أنه سمع النبي () يقول : لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه . وقال الحاكم : صحيح الإسناد من حديث بهز بن حكيم أن النبي () حبس رجلاً في تهمة يوماً وليلة وقد ثبت أن عمر أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يربط خالد بن الوليد بعمامته لما عزله عن إمارة الجيش كما في كتب السير ، وسبب ذلك أنه استنكر منه إعطاء شئ من أموال الله . وتقدم في باب السرقة أن النبي () قال : وضرب نكال .

أقول : هذا الفصل يراد به كل عقوبة ليست بحد من الحدود المتقدمة والآتية فمنها الضرب ، ولكن يكون عشرة أسواط فما دون لحديث أبي بردة المتقدم ، ولا تجوز الزيادة على ذلك ، ولكن ليس في هذا الحديث مايدل على وجوب التعزيز ، بل غاية ما فيه الجواز فقط ، وقد اطلع رسول الله () على جماعة ارتكبوا ذنوباً لا توجب حداً فلم يضربهم ولا حبسهم ولا نعى ذلك عليهم كالمجامع في نهار رمضان ، والذي لقي امرأة فأصاب منها ما يصب الرجل من زوجته غير أنه لم يجامعها وغير ذلك كثير ، ومن أنواع التعزير الحبس ، ويجوز الحبس مع التهمة ، وهكذا يجوز حبس من كان يخشى على المسلمين معرته وإضراره بهم . لو كان مطلقاً فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بقد الإمكان ولا يمكن القيام بهما في حق من عرف بذلك إلا بالحيلولة بينة وبين الناس بالحبس . ومنها النفي كما فعله () بجماعة من المخنثين . ومنها ترك المكلمة كما فعله () بالثلاثة الذين تخلفوا عنه حتى ضافت عليهم الأرض بما رحبت . ومنها الشتم الذي لا فحش فيه كقول الله تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام : فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين ومن ذلك قول يوسف عليه السلام لأخوته : أنتم شر مكاناً لما نسبوه إلى السرقة . وقال () لأبي ذر : إنك امرؤ فيك جاهلية كما في البخاري لما سمعه () يسب امرأة . وفي مسلم أن رجلاً أكل بشماله عند رسول الله () فقال : كل بيمينك . فقال : لا أستطيع فقال : لا استطعت ما منعه إلا الكبر . قال : فما رفعها إلى فيه وفي مسلم من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا وفي مسلم أيضاً أن النبي () قال له : لا وجدت وفي الترمذي إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك وقال () للخطيب : بئس خطيب القوم أنت أخرجه مسلم وغيره ، ووقع منه () من هذا الجنس شئ كثير ، وكذلك وقع من الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح من ذلك ما يرشد إلى جوازه إذا ظن فاعله تأثيره في المرتكب للذنب

باب حد المحارب

عدل

هو أحد الأنواع المذكورة في القرآن القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف أو نفي من الأرض لقوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم قلت : أكثر أهل العلم على أن هذه الآية نزلت في أهل الإسلام لا الكفار بدليل قوله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم والإسلام يحقن الدم سواء أسلم قبل القدرة عليه أو بعدها ، وإنما أضاف الحرب إلى الله ورسوله إيذاناً بأن حرب المسلمين كأنه حرب الله تعالى ورسوله .

أقول : ظاهر القرآن الكريم أن من صدق عليه أنه محارب لله ورسوله ساع في الأرض فساداً فإن عقوبته إما القتل أو الصلب أو القطع من خلاف أو النفي من الأرض من غير فرق بين كونه قتل أو لم يقتل . والظاهر أنه لا يجمع له بين هذه الأنواع ولا بين اثنين منها ، ولا يجوز تركه عن أحدها . هذا معنى النظم القرآني . فإن قلت : كيف عقوبة الصلب هل يفعل به ما يصدق عليه مسمى الصلب ، ولو كان قليلاً قلت يفعل به ما يصدق عليه أنه صلب عند أهل اللغة فإن كان الصلب عندهم هو الذي يفضي إلى الموت فذاك ، وإن كان أعم منه فالإمتثال يحصل بفرد من أفراده . وقال الشافعي : المكابرون في الأمصار قطاع . وقال أبو حنيفة : لا . وظاهر مذهب الشافعي في صفة الصلب أنه يقتل ويغسل ويصلي عليه . ثم يصلب ثلاثاً ثم ينزل ويدفن . وقيل يصلب حياً ثم يطعن حتى يموت مصلوباً وقال أبو حنيفة : لا يغسل ولا يصلى على قاطع الطريق ، ومعنى النفي عند الحنفية الحبس حتى يرى عليه أثر الصلاح . وعند الشافعي للإمام أن يحبس أو يغرب أو يطلبه للتعزيز ، والطلب نفي أيضاً لأنه حامل على هربه .

يفعل الإمام منها مارأى فيه صلاحاً لكل من قطع طريقاً ولو في المصر إذا كان قد سعى في الأرض فساداً هذا ظاهر ما دل عليه الكتاب العزيز من غير نظر إلى ما حدث من المذاهب ، فإن الله سبحانه قال : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا فضم إلى محاربة الله ورسوله أي معصيتهما السعي في الأرض فساداً ، فكان ذلك دليلاً على أن من عصى الله ورسوله بالسعي في الأرض فساداً كان حده ما ذكره الله في الآية ، ولما كانت الآية الكريمة نازلة في قطاع الطريق وهم العرنيون كان دخول من قطع طريقاً تحت عموم الآية دخولاً أولياً ثم حصر الجزاء في قوله : أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض فخير بين هذا الأنواع فكان للإمام أن يختار ما رأى فيه صلاحاً منها ، فإن لم يكن إمام فمن يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات فهذا ما يقتضيه نظم القرآن الكريم ، ولم يأت من الأدلة النبوية ما يصرف ما يدل عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب . وأما ما روي عن ابن عباس كما أخرجه الشافعي في مسنده أنه قال في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا الأموال صلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض فليس هذا الاجتهاد مما تقوم به الحجة على أحد ، ولو فرضنا أنه في حكم التفسير للآية . وإن كان مخالفاً لها غاية المخالفة ، ففي إسناده ابن أبي يحيى وهو ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة . وأما ما روي عن ابن عباس أيضاً أن الآية نزلت في المشركين كما أخرجه أبو داود والنسائي عنه فذلك مدفوع بأنها نزلت في العرنيين وقد كانوا أسلموا كما في الأمهات . ولو سلمنا ما روي عن ابن عباس لم تقم به حجة من قال باختصاص ما في الآية بالمشركين لما تقرر من أن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . على أن في إسناد ذلك علي بن الحسين بن واقد وهو ضعيف . وقد ذهب إلى مثل ما ذهبنا إليه جماعة من السلف كالحسن البصري وابن المسيب ومجاهد وأسعد الناس بالحق من كان معه كتاب الله . وقد ثبت عن رسول الله () في العرنيين أنه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية وهو القطع كما في الصحيحين وغيرها من حديث أنس . والمراد بالصلب المذكور في الآية هو الصلب على الجذوع أو نحوها حتى يموت إذا رأى الإمام ذلك ، أو يصلبه صلباً لا يموت فيه . فإن اسم الصلب يصدق على الصلب المفضي إلى الموت ، والصلب الذي لا يفضي إلى الموت . ولو فرضنا أنه يختص بالصلب المفضي إلى الموت لم يكن في ذلك تكرار بعد ذكر القتل ، لأن الصلب هو قتل خاص . وأما النفي من الأرض فهو طرده من الأرض التي أفسد فيها ، وقد قيل أنه الحبس وهو خلاف المعنى العربي .

فإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ذلك لنص القرآن بذلك وهو قوله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم قلت : معناه عند الشافعي إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه يسقط عنه من العقوبة ما يختص بقطع الطريق ، فإن كان قتل يسقط تحتم القتل ويبقى عليه القصاص ، فالولي فيه بالخيار إن شاء استوفاه وإن شاء عفا عنه . وإن كان قد أخذ المال سقط عنه قطع اليد والرجل ، وقيل في سقوط قطع اليد حكمه حكم السارق في البلد إذا تاب . وإن كان قد قتل وأخذ المال سقط عنه تحتم القتل والصلب ، وإذا تاب بعد القدرة لا يسقط عنه شئ من العقوبات . ولا يسقط سائر الحدود بالتوبة قبل القدرة عليه ، وهذا أظهر قولي الشافعي . والقول الثاني : أن كل عقوبة تجب حقاً لله تعالى مثل عقوبات قاطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا والشرب تسقط بالتوبة . لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .

وأقول : الآية ليس فيها إلى الإشارة إلى عفو الله ورحمته لمن تاب قبل القدرة . وليس فيها القطع بحصول المغفرة والرحمة لمن تاب . ولو سلم القطع فذلك في الذنوب التي أمرها إلى الله فيسقط بالتوبة الخطاب الأخروي والحد الذي شرعه الله . وأما الحقوق التي للآدميين من دم أو مال أو عرض فليس في الآية ما يدل على سقوطها . ومن زعم أن ثم دليلاً يدل على السقوط فما الدليل على هذا الزعم

باب من يستحق القتل حداً

عدل

هو الحربي ولا خلاف في ذلك لأوامر الله عز وجل بقتل المشركين في مواضع من كتابه العزيز ، ولما ثبت عنه () ثبوتاً متواتراً من قتالهم ، وأنه كان يدعوهم إلى ثلاث ويأمر بذلك من يبعثه للقتال .

والمرتد لقوله () من بدل دينه فاقتلوه وهو للبخاري وغيره من حديث ابن عباس وحديث لا يحل دم امريء مسلم إلا باحدى ثلاث كفر بعد إيمان الحديث ، وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود . وحديث أبي موسى في الصحيحين أيضاً أن النبي () قال له : اذهب إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة وقال : أنزل وإذا جاء رجل عنده موثق قال : ما هذا ؟ قال : كان يهودياً فأسلم ثم تهود قال : لا أجلس حتى يقتل قضاء لله ورسوله قال في المسوى : من ارتد عن الإسلام إن كان في منعة من قومه جمع الإمام المسلمين وقاتلهم قال تعالى : من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وفي هذا الآية إخبار عما علم الله تعالى وقوعه . وقد ارتد أكثر العرب في زمن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فبعث إليهم المسلمين وقاتلهم حتى رجعوا وعلى هذا أهل العلم ومن ارتد عن الإسلام وليس له منعة قتل وعليه أهل العلم . وإذا كان المرتد رجلاً ، واختلفوا في المرتدة قال الشافعي : تقتل . وقال أبو حنيفة : لا تقتل ولكن تحبس حتى تسلم .

أقول : الأدلة الدالة على قتل المرتد عامة ولم يرد ما يقتضي تخصيصها وأما حديث النهي عن قتل النساء فذلك إنما هو في حال الحرب ، فإن النساء المشركات لا يقتلن وليس ذلك محل النزاع . ثم قد ثبت عنه () أنه قتل عدة نساء كاللاتي أمر بقتلهن يوم الفتح لما كان يقع منهن السب له ، وكذلك قتل امرأتين من بني قريظة وغير ذلك . ثم ليس النهي عن قتل النساء مستلزماً لتركهن على الكفر إذا امتنعن من الإسلام والجزية ، فإنه لا يجوز التقرير على الكفر . فإذا قالت امرأة لا أسلم أبداً ولا أعطي الجزية وصممت على ذلك كان تركها حينئذ كافرة غير جائز لأحد من المسلمين . ومن ههنا يلوح لك أن النهي عن قتل النساء إنما هو لأجل كونهن مستضعفات يحصل منهن الإنقياد للإسلام بدون ذلك وليس عندهن غناء في القتال . ولهذا كان سبب النهي عن قتلهن أن النبي () رأى امرأة مقتولة فقال : ما كانت هذه لتقاتل ثم نهى عن قتلهن . فانظر كيف جعل النهي عن قتلهن معللاً بعدم المقاتلة ، وأما قول بعض أهل العلم أن المتأول كالمرتد فههنا تسكب العبرات ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا بسنة ولا قرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان . بل لما غلت مراجل العصبية في الدين وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم الزمان بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب في البقعية . فيالله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي أعظم فواقر الدين والرزية التي ما رزيء بمثلها سبيل المؤمنين . وأنت إن بقي فيك نصيب من عقل وبقية من مراقبة الله عز وجل وحصة من الغيرة الإسلامية علمت وعلم كل من له علم بهذا الدين أن النبي () لما سئل عن الإسلام قال في بيان . حقيقته وإيضاح مفهومه ، أنه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والأحاديث بهذا المعنى متواترة . فمن جاء جاء بهذه الأركان الخمسة وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك كائناً من كان ، فمن جاءك بما يخالف هذا من ساقط القول وزائف العلم بالجهل فاضرب به في وجهه وقل له قد تقدم هذيانك هذا برهان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامة عليه .

دعوا كل قول عند قول محمد……….. فما آمن في دينه كمخاطر

وكما أنه تقدم الحكم من رسول الله () لمن قام بهذه الأركان الخمسة بالإسلام ، فقد حكم لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره بالإيمان ، وهذا منقول عنه نقلاً متواتراً . فمن كان هكذا فهو المؤمن حقاً وقد ورد من الأدلة المشتملة على الترهيب العظيم من تكفير المسلمين . والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه ما يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح ، فكيف بإخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية فإن هذه جناية لا تعد لها جناية ، وجرأة لا تماثلها جرأة ، وأين هذا المجترىء على تكفير أخيه من قول رسول الله () الثابت عنه في الصحيح أيضاً المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن قول رسول الله () الثابت عنه في الصحيح أيضاً سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ومن قول رسول الله () أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام وهو أيضاً في الصحيح . وكم يعد العاد من الأحاديث الصحيحة والآيات القرآنية . والهداية بيد الله عز وجل إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء هذا ما أفاده الماتن العلامة في السيل . وقال أيضاً : إعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما هكذا في الصحيح . وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه أي رجع . وفي لفظ في الصحيح فقد كفر أحدهما ففي هذه الأحاديث وما ورد مرودها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن السراع في التكفير . وقد قال عز وجل : ولكن من شرح بالكفر صدراً فلا بد من شرح الصدر بالكفر ، وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه ، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ، ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه ، فإن قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام ، وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلماً كما تقدم ، وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلاً يخالف الشرع كما في حديث لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يفيد أن صدور شئ من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر . قلت : إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقاً تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله () اسم الكفر فهو كما قال . ولا يجوز اطلاقه على غير من سماه رسول الله () من المسلمين كافراً إلا من شرح بالكفر صدراً ، فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة . فإن الإقدام على ما فيه بعض الباس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولاعائدة . فكيف إذا كان على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله () كافراً . أفهذا يقود إليه العقل فضلاً عن الشرع . ومع هذا فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب ، وقد أمكن هنا بما ذكرناه فتعين المصير إليه فحتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح به صدراً ويقصر ماورد مما تقدم مورده

وهذا الحق ليس بـــه خفـــــاء………فدعني عن بنيات الطريق

ويأبى الفتى إلا اتباع الهوى……….ومنهج الحـــق له واضــح

وكيف يحكم بالكفر على من حكى قولاً كفرياً صدر من كافر ، فإن القرآن الكريم قد اشتمل على ما يأبى عنه الحصر من حكاية ما هو كفر بواح من أقوال الكفار . وهكذا لا يحكم بكفر من كفر مكرهاً ، فقد استثناه القرآن الكريم بقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وكفى به ا هـ .

والساحر لكون عمل السحر نوعاً من الكفر ، ففاعله مرتد يستحق ما يستحقه المرتد . وقد روى الترمذي والدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث جندب قال : قال رسول الله () : حد الساحر ضربه بالسيف قال الترمذي : والصحيح عن جندب موقوفاً قال : والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي () وغيرهم وهو قول مالك بن أنس . وقال الشافعي : إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر ، فإذا عمل عملاً دون الكفر لم نر عليه قتلاً ا هـ . وفي إسناد هذا الحديث إسمعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف . وأخرج أحمد وعبد الرزاق والبيهقي أن عمر بن الخطاب كتب قبل موته بشهر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة والأرجح ما قاله الشافعي ، لأن الساحر إنما يقتل لكفره فلا بد أن يكون ما عمله من السحر موجباً للكفر . قال في المسوى : السحر كبيرة قال تعالى : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر واختلف في ذلك أهل العلم فقال مالك وأحمد : يقتل الساحر . وقال الشافعي : ما تقدم ، ولو قتل الساحر رجلاً بسحره وأقر إني سحرته وسحري يقتل غالباً يجب عليه القود عند الشافعي ، ولا يجب عند أبي حنيفة . ولو قال سحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد . ولو قال أخطأت إليه من غيره فهو خطأ تجب فيه الدية المخففة وتكون في ماله لأنه ثبت باعترافه إلا أن تصدقه العاقلة فتكون عليهم .

أقول : لا شك أن من تعلم السحر بعد إسلامه كان بفعل السحر كافراً مرتداً ، وحده حد المرتد ، وقد تقدم . وقد ورد في الساحر بخصوصه أن حده القتل ، ولا يعارض ذلك ترك النبي () لقتل لبيد بن الأعصم الذي سحره ، فقد يكون ذلك قبل أن يثبت أن حد الساحر القتل ، وقد يكون ذلك لأجل خشية معرة اليهود وقد كانوا أهل شوكة حتى أبادهم الله وفل شوكتهم وأقلهم وأذلهم ، وقد عمل الخلفاء الراشدون على قتل السحرة وشاع ذلك وذاع ولم ينكره أحد .

والكاهن لكون الكهانة نوعاً من الكفر ، فلا بد أن يعمل من كهانته ما يوجب الكفر . وقد ورد أن تصديق الكاهن كفر فبالأولى الكاهن إذا كان معتقداً بصحة الكهانة . ومن ذلك حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره أن النبي () قال من أتى كاهناً أوعرافاً فقد كفر بما أنزل على محمد () وفي الباب أحاديث .

والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة والطاعن في الدين وكل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح ، ففاعلها مرتد حده حده . وقد أخرج أبو داود من حديث علي أن يهودية كانت تشتم النبي () وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله () دمها ولكنه من رواية الشعبي عن علي ، وقد قيل أنه ما سمع منه . وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي () فقتلها فأهدر النبي () دمها ورجال إسناده ثقات . وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي برزة قال : كنت عند أبي بكر فتغيظ علي رجل فاشتد غضبه فقلت : أتاذن لي يا خليفة رسول الله أن أضرب عنقه قال : فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إلي فقال : ما الذي قلت آنفاً . قلت : ائذن لي أضرب عنقه قال : أكنت فاعلاً لو أمرتك . قلت نعم قال : لا والله ما كان لبشر بعد محمد () وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن من سب النبي () وجب قتله . ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي () بما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء ، فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل ، وحد القذف لا يسقط بالتوبة وخالفه القفال فقال : كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام . قال الخطابي : لا أعلم خلافاً في وجوب قتله إذا كان مسلماً ا هـ . وإذا ثبت ما ذكرنا في سب النبي () فبالأولى من سب الله تبارك وتعالى ، أو سب كتابه أو الإسلام ، أو طعن في دينه وكفر ، من فعل هذا لا يحتاج إلى برهان .

أقول : وقريب من هذا من جعل سب الصحابة شعاره ودثاره فإنه لا مقتضى لسبهم قط ، ولا حامل عليه أصلاً إلا غش الدين في قلب فاعله وكراهة الإسلام وأهله ، فإن هؤلاء هم أهله على الحقيقة أقاموه بسيوفهم وحفظوا هذه الشريعة المطهرة ونقلوها إلينا كما هي فرضى الله عنهم وأرضاهم وأقمأ المشتغلين بثلبهم وتمزيق أعراضهم المصونة . وقد رأينا في التواريخ ما صار يفعله أهل الشام والمغرب من قتل من كان كذلك بعد مرافعته إلى حكام الشريعة وحكمهم بسفك دمائهم . وهذا وإن كان عندنا غير جائز لما عرفناك من عصمة دم المسلم حتى يقوم الدليل الدال على جواز سفكه ، ولكن فيه القيام التام بحقوق أساطين الإسلام .

والزنديق وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعتقد بطلان الشرائع فهذا كافر بالله وبدينه مرتد عن الإسلام أقبح ردة إذا ظهر منه ذلك بقول أو فعل . وقد اختلف أهل العلم هل تقبل توبته أم لا . والحق قبول التوبة قال في المسوى : في باب حكم الخوارج والقدرية وأشباههم قال الشافعي : ولو أن قوماً أظهروا رأي الخوارج وتجنبوا الجماعات وأكفروهم لم يحل بذلك قتالهم . بلغنا أن علياً رضي الله تعالى عنه سمع رجلاً يقول لا حكم إلا لله في ناحية المسجد فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها إسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بقتال . وقال أهل الحديث من الحنابلة يجوز قتلهم .

أقول : الظاهر عندي دراية ورواية قول أهل الحديث ، أما رواية فلقوله () فأين لقيتموهم فاقتلوهم وأما قول علي ، فمعناه أن الإنكار على الإمام والطعن فيه لا يوجب قتلاً حتى ينزع يده من الطاعة فيكون

باغياً أو قاطع طريق ، وإذا أنكر ضرورياً من ضروريات الدين يقتل لذلك لا للإنكار على الإمام . بيان ذلك أن المفتي إذا سئل عن بعض أفعال زيد حكم بالجواز ، وإذا سئل عن بعضها الآخر حكم بالفسق ، ثم إذا سئل عن بعضها الآخر حكم بالكفر . فههنا لم يظهر هذا الرجل عنده إلا الإنكار في مسألة التحكيم فحكم حسبما أظهر ، ولو أنه أظهر إنكار الشفاعة يوم القيامة ، أو إنكار مسألة التحريم فحكم حسبما أظهر ، ولو أنه أظهر إنكار الشفاعة يوم القيامة ، أو إنكار الحوض الكوثر وما يجري مجرى ذلك من الثابت في الدين بالضرورة لحكم بالكفر . وأما حديث أولئك الذين نهاني الله عنهم ففي المنافقين دون الزنادقة بيان ذلك أن المخالف للدين الحق إن لم يعترف به ولم يذعن له لا ظاهراً ولا باطناً فهو الكافر ، وإن اعترف بلسانه وقلبه على الكفر فهو المنافق ، وإن اعترف به ظاهراً وباطناً لكنه يفسر بعض ما ثبت من الدين ضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الأمة فهو الزنديق . كما إذا اعترف بأن القرآن حق وما فيه من ذكر الجنة والنار حق لكن المراد بالجنة الإبتهاج الذي يحصل بسبب الملكات المحمودة والمراد بالنار هي الندامة التي تحصل بسبب الملكات المذمومة وليس في الخارج جنة ولا نار فهو الزنديق . قوله () أولئك الذين نهاني الله عنهم في المنافقين دون الزنادقة ، وأما دراية فلأن الشرع كما نصب القتل جزاء للارتداد ليكون مزجرة للمرتدين وذباً عن الملة التي ارتضاها ، فكذلك نصب القتل في هذا الحديث وأمثاله جزاء للزندقة ليكون مزجرة للزنادقة وذباً عن تأويل فاسد في الدين لا يصح القول به . ثم التأويل تأويلان : تأويل لا يخالف قاطعاً من الكتاب والسنة واتفاق الأمة . وتأويل يصادم ما يثبت بقاطع فذلك الزندقة . فكل من أنكر الشفاعة أو أنكر رؤية الله يوم القيامة أو أنكر عذاب القبر وسؤال منكر ونكير أو أنكر الصراط والحساب سواء قال لا أثق بهؤلاء الرواة أو قال أثق بهم ، لكن الحديث مؤول . ثم ذكر تأويلاً فاسداً لم يسمع ممن قبله فهو الزنديق ، وكذلك من قال في الشيخين أبي بكر وعمر مثلاً : ليسا من أهل الجنة مع تواتر الحديث في بشارتهما ، أو قال أن النبي () خاتم النبوة ولكن معنى هذا الكلام أنه لا يجوز أن يسمى بعده أحد بالنبي ، وأما معنى النبوة وهو كون الإنسان مبعوثاً من الله تعالى إلى الخلق مفترض الطاعة معصوماً من الذنوب ومن البقاء على الخطأ فيما يرى فهو موجود في الأئمة بعده فذلك هو الزنديق . وقد اتفق جماهير المتأخرين من الحنفية والشافعية على قتل من يجري هذا المجرى والله تعالى أعلم اهـ .

بعد استتابتهم لحديث جابر عند الدارقطني والبيهقي أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه تعالى عليه وآله وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت وله طريقان ضعفهما ابن حجر . وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف عن عائشة أن امرأة ارتدت يوم أحد فأمر النبي () أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت وأخرج أبو الشيخ في كتاب الحدود عن جابر أنه () استتاب رجلاً أربع مرات وفي إسناده العلاء بن هلال وهو متروك وأخرجه البيهقي من وجه آخر . وأخرج الدارقطني والبيهقي أن أبا بكر استتاب امرأة يقال لها أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها قال ابن حجر : وفي السير أن النبي () قتل أم قرفة يوم قريظة وهي غير تلك . وأخرج مالك في الموطأ والشافعي أن رجلاً قدم على عمر بن الخطاب من قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره فقال : هل من مغربة خبر قال نعم : رجل كفر بعد إسلامه قال : فما فعلتم به قال : قربناه فضربنا عنقه فقال عمر : هلا حبستموه ثلاثاً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله أنى لم أحضر ولم أرض إذا بلغني وقد اختلف أهل العلم في وجوب الاستتابة ثم كيفيتها ، والظاهر أنه يجب تقديم الدعاء إلى الإسلام قبل السيف كما كان رسول الله () يدعو أهل الشرك ويأمر بدعائهم إلى إحدى ثلاث خصال ، ولا يقاتلهم حتى يدعوهم . فهذا ثبت في كل كافر . فيقال للمرتد إن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك ، وللساحر والكاهن والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة ، أو للطاعن في الدين ، أو الزنديق قد كفرت بعد إسلامك فإن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك فهذه هي الإستتابة وهي واجبة . كما وجب دعاء الحربي إلى الإسلام . وأما كونه يقال للمرتد بأي نوع من تلك الأنواع مرتين أو ثلاثة ، أو في ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر فلم يأت ما تقوم به الحجة في ذلك . بل يقال لكل واحد من هؤلاء ارجع إلى الإسلام فإن أبي قتل مكانه . قال في المسوى : اختلفت الروايات عن أبي حنيفة والشافعي في ذلك . وفي المنهاج ويجب استتابة المرتد والمرتدة ، وفي قول يستحب وهي في الحال ، وفي قول ثلاثة أيام فإن أصرا قتلا . وفي الهداية إذا ارتد المسلم عن الإسلام عرض عليه الإسلام ، فإن كانت له شبهة كشفت عنه ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم وإلا قتل . وفي الجامع الصغير يعرض عليه الإسلام فإن أبى قتل . قيل تأويل الأول أنه إن استمهل يمهل ثلاثة أيام . وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يستحب أن يؤجله طلب ذلك أو لم يطلب ا هـ .

أقول : الأدلة الصحيحة المصرحة بقتل المرتد لم يثبت في شئ منها الإستتابة بل فيها الأمر القتل للفور ، وما ورد عن بعض الصحابة من إنكار قتل المرتدين قبل الاستتابة فليس بحجة ولا يصلح لتقييد ما ثبت عن الشارع ، ودعوى أن ذلك إجماع بواسطة عدم الإنكار دعوى باطلة . فالحق أن المرتد يقال له ارجع إلى الإسلام فإن أجاب وجب حقن دمه وإن لم يجب تعين قتله في ذلك الوقت وقد حصل الدعاء المشروع بمجرد قولنا له ارجع إلى الإسلام .

والزاني المحصن واللوطي مطلقاً والمحارب وقد تقدم الكلام فيهم . وأما الديوث فلم يصح في قتله شئ . وأصل دم المسلم العصمة ، وليس كل معصية مبيحة للقتل بل معاصي مخصوصة ورد الشرع بها ولا سيما بعد ورود الحصر في حديث لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث وليس هذا منها .

فالحاصل : أن الديوث من أعظم العصاة مع ما في ذلك من الهجنة المنافية للدين والمروءة ، وأما أنه يقتل فلا ولا كرامة ، وأما قتل الباطنية فالحق أنهم مع تسترهم بالكفر لا يحل قتل أحد منهم إلا بعد أن يفعل أو يقول ما هو كفر بدون تأويل ، ولا سيما والمشهور عنهم أنهم يظهرون لعوامهم الإسلام والصلاح ويوهمونهم أنهم على الحق فإن صح هذا فجميع عوامهم لا يعلمون أنهم على الكفر بل يعتقدون أنه على الحق ، فهم إلى تعريفهم بالحق أحوج منه إلى القتل فلا يجوز قتل أحمد من الباطنية وهم البواهر في أرض الهند إلا بعد أن يظهر منه كفر بواح لأن كلمتهم إسلامية ودعوتهم نبوية وإن كانوا على شفا جرف هار من أمور الدين