الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الصيام/صفحة واحدة


كتاب الصيام

فرضية صيام رمضان

يجب صيام رمضان وهو ركن من أركان الدين وضروري من ضرورياته .

لرؤية هلاله من عدل لصيامه () وأمره للناس بالصيام لما أخبره عبد الله بن عمر أنه رآه أخرجه أبو داود والدارمي وابن حبان والحاكم وصححاه . وصححه أيضاً ابن حزم من حديث ابن عمر بلفظ تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله () أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه . وأخرج أهل السنن وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث ابن عباس قال : جاء أعرابي إلى النبي () فقال : إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله قال : نعم قال : أتشهد أن محمداً رسول الله قال : نعم قال : يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً وأخرج الدارقطني والطبراني من طريق طاوس قال : شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس ، فجاء رجل إلى وإليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان ، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه وقالا : إن رسول الله () أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان ، وكان لا يجيز شهادة الإفطار بشهادة الرجلين قال الدارقطني تفرد به حفص بن عمر الايلي وهو ضعيف وقد ذهب إلى العمل بشهادة الواحد ابن المبارك وأحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه . قال النووي : وهو الأصح وذهب مالك والليث والأوزاعي والثوري إلى أنه يعتبر اثنان ، واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وفيه فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا أخرجه أحمد والنسائي . وفي حديث أمير مكة الحرث بن حاطب قال : عهد إلينا رسول الله () أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهداً عدل نسكنا بشهادتهما أخرجه أبو داود والدارقطني وقال : هذا الإسناد متصل صحيح . وغاية ما في الحديثين أن مفهوم الشرط يدل على عدم قبول الواحد ، ولكن أحاديث قبول الواحد أرجح من هذا المفهوم ، وقد حققه الماتن رح في كتابه إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الإختلال . ويؤيد وجوب العمل بخبر الواحد ، الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد على العموم ، إلا ما خصه دليل ، فمحل النزاع مندرج تحت العموم بعد التنصيص عليه بما في حديث الأعرابي وبما في حديث ابن عمر ، وأما التأويل بإحتمال أن يكون قد شهد عند النبي () رجل قبل شهادة ابن عمر ، فلو كان مجرد هذا الإحتمال قادحاً في الإستدلال لم يبق دليل شرعي إلا وأمكن دفعه بمثل هذا التأويل الباطل . في المسوى إختلفوا في هلال رمضان فقيل يثبت بشهادة الواحد وعليه أبو حنيفة ، وقيل لا بد من عدلين وعليه مالك . وللشافعي قولان كالمذهبين أظهرهما الأول ، ولا فرق عنده بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة . وقال أبو حنيفة في الصحو لا بد من جمع كثير . وفي العالمكيرية إذا رأوا الهلال قبل الزوال أو بعده لا يصام به ولا يفطر وهو من الليلة المستقبلة . وفي الأنوار وإذا رؤي الهلال بالنهار يوم الثلاثين فهو لليلة المستقبلة .

أو إكمال عدة شعبان لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال : قال رسول الله ()  : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . وفي الحجة البالغة ، لما كان وقت الصوم مضبوطاً بالشهر القمري بإعتبار رؤية الهلال ، وهو تارة ثلاثون يوماً وتارة تسع وعشرون ، وجب في صورة الاشتباه أن يرجع إلى هذا الأصل ، وأيضاً مبنى الشرائع على الأمور الظاهرة عند الأميين دون التعمق والمحاسبات النجومية ، بل الشريعة واردة بإخمال ذكرها وهو قوله ()  : إنا أمة أمية لا تكتب ولا نحسب انتهى .

ويصوم ثلاثين يوماً ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها وجهه ما ورد من الأدلة الصحيحة ، أن الهلال إذا غم صاموا ثلاثين يوماً كحديث أبي هريرة المذكور ، ومثله في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ، ومن حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي والترمذي ، وصححه من حديث عائشة عند أحمد وأبي داود والدارقطني بإسناد صحيح ، وغير ذلك من الأحاديث وفيها التصريح بإكمال العدة الثلاثين يوماً في بعضها عدة شعبان ، وفي بعضها ما يفيد أنها عدة رمضان ، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بأحد الشهرين . قال في الحجة : قوله () : شهراً عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة قيل لا ينقصان معاً ، وقيل لا يتفاوت أجر ثلاثين وتسعة وعشرين ، وهذا الآخر أقعد بقواعد التشريع ، كأنه أراد سد أن يخطر في قلب أحد ذلك انتهى .

أقول : يمكن أن يقال : إن هذا إخبار من الشارع بعدم دخول النقص في الشهرين المذكورين ، فما ورد عنه أنه يكون الشهر تسعة وعشرين عام مخصص بالشهرين المذكورين وما ورد في خصوص شهر رمضان مما يدل على أنه قد يكون تسعة وعشرين ، فيمكن أن يقال فيه أن ذلك إنما هو باعتبار ما ظهر للناس من طلوع الهلال عليهم ، وفي نفس الأمر ذلك الشهر هو ثلاثون يوماً . قال بعض المحققين : التكليف الشهري علق معرفة وقته برؤية الهلال دخولاً وخروجاً أو إكمال العدة ثلاثين يوماً ، فهل في الأكوان أوضح من هذا البيان والتوقيت في الأيام والشهور بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة انتهى .

أقول : أن الرؤية التي إعتبرها الشارع في قوله صوموا لرؤيته هي الرؤية الليلية لا الرؤية النهاية ، فليست بمعتبرة ، سواء كانت قبل الزوال أو بعده ، ومن زعم خلاف هذا فهو عن معرفة المقاصد الشرعية بمراحل . واحتجاج من احتج برؤية الذين أخبروا النبي () بأنهم رأوه بالأمس باطل كاحتجاج من احتج على وجوب الإتمام بقول تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل وكلا الدليلين لا دلالة لهما على محل النزاع . وأما الأول فإنهم إنما أخبروا عن الرؤية في الوقت المعتبر وذلك مرادهم بلفظ أمس كما لا يخفى على عالم وأما الثاني فالمراد به وجوب إتمام الصيام إلى الوقت الذي يسوغ فيه الإفطار تعييناً لوقته الذي لا يكون صوماً بدونه .

والحاصل : أن المجادلة عن هذا القول الفاسد وهو الإعتداد برؤية الهلال نهاراً يأباه الإنصاف ، وإن قال المتخذلق إن الإعتبار بالرؤية وقد وقعت لحديث صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته والاعتبار بعموم اللفظ ونحو ذلك من المجادلات التي لا يجهل صاحبها أنه غالط أو مغالط ، ولو كان هذا صحيحاً لوجب الإفطار عند كل رؤية للهلال في أي وقت من أوقات الشهر وهو باطل بالضرورة الدينية .

وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة وجهه الأحاديث المصرحة بالصيام لرؤيته والإفطار لرؤيته ، وهي خطاب لجميع الأمة ، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لجميعهم ، وأما استدلال من استدل بحديث كريب عند مسلم وغيره أنه استهل عليه رمضان وهو بالشأم ، فرأى الهلال ليلة الجمعة ، فقدم المدينة فأخبر بذلك ابن عباس فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ، ثم قال : هكذا أمرنا رسول الله () وله ألفاظ فغير صحيح ، لأنه لم يصرح ابن عباس بأن النبي () أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار ، بل أراد ابن عباس أنه أمرهم بإكمال الثلاثين أو يروه ، ظناً منه أن المراد بالرؤية رؤية أهل المحل وهذا خطأ في الإستدلال أوقع الناس في الخبط والخلط حتى تفرقوا في ذلك على ثمانية مذاهب . وقد أوضح الماتن المقام في الرسالة التي سماها اطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال . قال في المسوى : لاخلاف في أن رؤية بعض أهل البلد موجبة على الباقين ، واختلفوا في لزوم رؤية أهل بلد أهل بلد آخر . والأقوى عند الشافعي يلزم حكم البلد القريب دون البعيد . وعند أبي حنيفة يلزم مطلقاً .

وعلى الصائم النية قبل الفجر لحديث حفصة عن النبي () أنه قال : من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له أخرجه أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان وصححاه ، ولا ينافي ذلك رواية من رواه موقوفاً ، فالرفع زيادة يتعين قبولها على ما ذهب إليه أهل الأصول وبعض أهل الحديث ، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم وخالفهم آخرون واستدلوا بما لا تقوم به الحجة . أما حديث أمره () لمن أصبح صائماً أن يتم صومه في يوم عاشوراء فغاية ما فيه ، أن من لم يتبين له وجوب الصوم إلا بعد دخول النهار كان ذلك عذراً له عن التبييت وأما حديث أنه () دخل على بعض نسائه ذات يوم فقال : هل عندكم من شئ ؟ فقالوا لا فقال : فإني إذن صائم فذلك في صوم التطوع . قال في المسوى : قال الشافعي : يشترط للفرض التبييت ، ويصح النفل بنيته قبل الزوال . وقال أبو حنيفة : يكفي في الفرض والنفل وأن ينوي قبل نصف النهار ، ولا بد في القضاء والكفارات من التبييت . أقول : وأما أنه يجب تجديد النية لكل يوم ، فلا يخفى أن النية هي مجرد القصد إلى الشئ أو الإرادة له من دون إعتبار أمر آخر . ولا ريب أن من قام في وقت السحر ، وتناول طعامه وشرابه في ذلك الوقت من دون عادة له به في غير أيام الصوم ، فقد حصل له القصد المعتبر ، لأن أفعال العقلاء لا تخلو عن ذلك ، وكذلك الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لا يكون إلا من قاصد للصوم بالضرورة إذا لم يكن ثم عذر مانع عن الأكل والشرب غير الصوم ، ولا يمكن وجود مثل ذلك من غير قاصد ، إلا إذا كان مجنوناً أو ساهياً أو نائماً كمن ينام يوماً كاملاً ، وإذا تقرر هذا ، فمجرد القصد إلى السحور قائم مقام تبييت النية عند من اعتبر التبييت ، ومجرد الإمساك عن المفطرات وكف النفس عنها في جميع النهار يقوم أيضاً مقام النية عند من لم يعتبر التبييت . ومن قال أنه يجب في النية زيادة على هذا المقدار فليأت بالبرهان ، فإن مفهوم النية لغة وشرعاً لا يدل على غير ما ذكرناه . وهكذا سائر العبادات ، فإن مجرد قصدها كاف من غير إحتياج إلى زيادة على ذلك . مثلاً يكفي في نية الوضوء مجرد دخول المكان المعتاد لذلك ، والإشتغال بغسل الأعضاء المخصوصة على الصفة المشروعة ، وكذلك في الصلاة ، يكفي الدخول في المحل الذي تقام فيه ، والتأهب لها والشروع فيها على الصفة المشروعة ، فإن القصد والإرادة لا زمان لهذه الأفعال لعدم صدور مثل ذلك من العقلاء لمجرد اللعب والعبث

فصل ويبطل الصوم بالأكل والشرب عمدا لا مع النسيان

يبطل بالأكل والشرب عمداً لا خلاف في ذلك ، وأما مع النسيان فلا ، لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة فقال : قال رسول الله () من نسي وهو صائم ، فأكل وشرب فليتم صومه ، فإنما الله أطعمه وسقاه وفي لفظ للدارقطني بإسناد صحيح فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه وفي لفظ آخر للدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من أفطر يوماً من رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة وإسناده صحيح أيضاً قاله الحافظ ابن حجر . وأخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعاً من أكل في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه قال ابن حجر : وإسناده وأن كان ضعيفاً ، ولكنه صالح للمتابعة ، فأقل درجات هذا الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسناً ، فيصلح للاحتجاج به انتهى . وقد ذهب إلى العمل بهذا الجمهور ، وهو الحق ، ومن قابل هذه السنة بالرأي الفاسد ، فرأيه رد عليه مضروب في وجهه .

و هكذا الجماع لا خلاف في أنه يبطل الصيام إذا وقع من عامد ، وأما إذا وقع مع النسيان فبعض أهل العلم ألحقه بمن آكل أو شرب ناسياً ، وتمسك بقوله في الرواية الأخرى من أفطر يوماً من رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة وبعضهم منع من الإلحاق .

أقول : إفساد الصوم بالوطء لا يعرف في مثل هذا خلاف ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن المجامع في رمضان قال النبي ()  : هلكت يارسول الله قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان فأمره بكفارة وفي رواية لأبي داود وابن ماجه أنه () قال له : وصم يوماً مكانه وهذذ الزيادة مروية من أربع طرق ويقوى بعضها بعضاً . ويدل على تحريم الوطء للصائم واجباً مفهوم قوله سبحانه : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم .

والقيء عمداً لحديث أبي هريرة أن النبي () قال : من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ، ومن إستقاء عمداً فليقض أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه . وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفسد الصيام وفيه نظر ، فإن ابن مسعود وعكرمة وربيعة قالوا : إنه لا يفسد الصوم سواء كان غالباً أو مستخرجاً ما لم يرجع منه شئ بإختياره . واستدلوا بحديث ثلاث لا يفطرن القيء والحجامة والاحتلام أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد ، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف ، وعلى فرض صلاحيته للإستدلال فلا يعارض حديث أبي هريرة ، لأن هذا مطلق وذاك مقيد بالعمد .

أقول : حديث أبي هريرة المتقدم هو في عدة من كتب الحديث ، وله طرق مختلفة ينتهض معها للإستدلال ، وفيه الفرق بين المتعمد للقيء وغير المتعمد ، ولا يعارض هذا حديث أبي سعيد المتقدم ، لأنه عام مخصص الحديث الفرق بين المتعمد وغير المتعمد ، فيكون معناه أن القيء إذا وقع من غير إختيار الصائم بل ذرعه كان غير مفطر ، وهذا الجمع لا بد منه ويؤيده حديث أنه () قاء فأفطر فإن بعض الحفاظ فسره بأنه إستقاء ، والمراد بالإستقاء تعمد القيء كما صرح به أهل العلم .

وتحرم الوصال لنهيهه () عن ذلك كما في حديث أبي هريرة ، ابن عمر وعائشة وهو في الصحيحين وغيرهما وفي الباب أحاديث .

وعلى من أفطر عمداً كفارة ككفارة الظهار لحديث المجامع في رمضان ، فإن النبي () قال له : هل تجد ما تعتق رقبة ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً ؟ قال : لا ثم أتى النبي () بعرق فيه تمر فقال : تصدق بهذا قال : فهل علي أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا ، فضحك النبي () حتى بدت نواجذه وقال : أذهب فأطعمه أهلك وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة وقد قيل أن الكفارة لا تجب على من أفطر عامداً بأي سبب بل بالجماع فقط ، ولكن الرجل إنما جامع امرأته فليس في الجماع في نهاية رمضان إلا ما في الأكل والشرب ، لكون الجميع حلالاً لم يحرم إلا لعارض الصوم وقد وقع في رواية من هذا الحديث أن رجلاً أفطر ولم يذكر الجماع .

أقول : إذا ورد ما يدل على وجوب مثل كفارة الظهار ، وورد ما يدل على أنه يجزيء أقل منها ، كان ورود الأقل رخصة لمن لا يجد مثل كفارة الظهار ، وهذا ظاهر لا لبس فيه .

ويندب تعجيل الفطر وتأخير السحور لحديث سهل بن سعد أن النبي () قال : لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وهو في الصحيحين وغيرهما وعن أبي ذر أن النبي () قال : لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر أخرجه أحمد وفي إسناده سليمان بن عثمان قال أبو حاتم : مجهول . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن ثابت أنه كان بين تسحره () ودخوله في الصلاة قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية . وفي الباب أحاديث كثيرة

فصل وجوب القضاء على من أفطر لعذر شرعي

ويجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي كالمسافر والمريض ، وقد صرح بذلك القرآن الكريم فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة وقد تقدم ذكره والنفساء مثلها .

والفطر للمسافر ونحوه رخصة إلا أن يخشى التلف أو الضعف عن القتال فعزيمة الأحاديث في ذلك كثيرة منها : قوله () إن شئت فصم وإن شئت فأفطر لما سأله حمزة بن عمرو الأسلمي عن الصوم في السفر وهو في الصحيحين من حديث عائشة ، وفيه دليل على تفويض الفطر في الصوم وعدمه إلى المسافر ، ومن حمله على صوم التطوع فلم يصب ، فإنه عند أبي داود والحاكم وصححه أنه قال : ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان . وأما حديث أنه قيل له () أن جماعة لم يفطروا في سفر من أسفارهم فقال : أولئك العصاة فذاك لأنه () قد كان أمرهم بالإفطار في ذاك اليوم بخصوصه ، فسماهم عصاة لمخالفة أمره لا لمجرد الصوم في السفر . وأما حديث ليس من البر الصيام في السفر وهو متفق عليه ، ففي رواية زادها النسائي في هذا الحديث عليكم برخص الله التي رخص لكم فاقبلوا فالتصريح بالرخصة مشعر بأن الصوم عزية وهو المطلوب . وأما ما روي بلفظ الصائم في السفر كالمفطر في الحضر فقد صحح جماعة من الحفاظ وقفه على عبد الرحمن بن عوف ، ولا حجة في ذلك . وفي الصحيحين من حديث أنس كنا نسافر مع رسول الله () فلم يعب الصائم على المفطر . ولا المفطر على الصائم وأخرج مسلم وغيره عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال يا رسول الله : أجد مني قوة على الصوم فهل علي جناح فقال : هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وفي الصحيحين من حديث جابر قال : كان رسول الله () في سفر ، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال : ماهذا ؟ فقالوا : صائم . فقال : ليس من البر الصوم في السفر وأخرج مسلم وأحمد وأبو داود من حديث أبي سيد قال : سافرنا مع رسول الله () إلى مكة ونحن صيام قال : فنزلنا منزلاً . فقال رسول الله ()  : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ، فكانت رخصة فمنا من صام ، ومنا من أفطر ، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا فكانت عزيمة ، ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله () في السفر وقد ذهب إلى كون الصوم رخصة في السفر الجمهور ، وروي عن بعض الظاهرية ، وهو محكي عن أبي هريرة أن الفطر في السفر واجب ، وأن الصوم لا يجزيء . والمراد بنحو المسافر الحبلي والمرضع لما أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي من حديث أنس بن مالك الكعبي أن رسول الله () قال : إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وعن الحبلى والمرضع الصوم .

ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه لحديث عائشة في الصحيحين وغيرها إن رسول الله () قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه وقد زاد البزار لفظ إن شاء قال في مجمع الزوائد : وإسناده حسن ، وبه قال أصحاب الحديث وبعض الشافعية وأبو ثور والأوزاعي وأحمد بن حنبل قال البيهقي في الخلافيات : هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافاً بين أهل الحديث في صحتها . وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب صوم الولي عن وليه . وقال في الحجة : ولا إختلاف بين قوله ()  : من مات وعليه صوم صام عنه وليه وقوله فيه أيضاً : فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً إذ يجوز أن يكون كل من الأمرين مجزئاً . قال ابن القيم في أعلام الموقعين : وصح عنه () أنه قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه وقالت : يصام عنه النذر والفرض ، وأبت طائفة ذلك وقالت : لا يصام عنه نذر ولا فرض ، وفصلت طائفة فقالت يصام النذر دون الفرض الأصلي وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه وهو الصحيح ، لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة ، فكما لا يصلي أحد عن أحد ولا يسلم أحد عن أحد فكذلك الصيام ، وأما النذر فهو إلتزام في الذمة بمنزلة الدين ، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه ، وهذا محض الفقه وطرد هذا أنه لا يحج عنه ولا يزكي عنه إلا إذا كان معذوراً بالتأخير ، كما يطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر ، فأما المفطر من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله تعالى التي فرض فيها وكان هو المأثور بها إبتلاء وإمتحاناً دون الولي ، فلا ينفع توبة أحد عن أحد ولا إسلامه عنه ولا أداء الصلاة عنه ولا غيرها من فرائض الله تعالى التي فرط فيها حتى مات والله تعالى أعلم .

أقول : الظاهر والله أعلم أنه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميت إذا كان عليه صوم ، سواء أوصى أو لم يوص ، كما هو مدلول الحديث ، ومن زعم خلاف ذلك فليأت بحجة تدفعه .

والكبير العاجز عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: لما نزلت هذه الآية وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وأخرج هذا الحديث أحمد وأبو داود عن معاذ بنحو ما تقدم وزاد ثم أنزل الله فمن شهد منكم الشهر فليصمه فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ، ورخص فيه للمريض والمسافر ، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام وأخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال : ليست هذه الآية منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً وأخرج أبو داود عن ابن عباس أنه قال : أثبتت للحبلى والمرضع أن يفطرا ويطعما كل يوم مسكيناً وأخرج الدارقطني والحاكم وصححاه عن ابن عباس أنه قال رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه وهذا أنه قال وهذا من ابن عباس تفسير لما في القرآن مع ما فيه من الأشعار بالرفع ، فكان ذلك دليلاً على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم .

أقول : لم يثبت في الكفارة على من لم يطق الصوم شئ من المرفوع في شئ من كتب الحديث ، وليس في الكتاب العزيز ما يدل على ذلك ، لأنه قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين إن كانت منسوخة كما ثبت عن سلمة بن الأكوع عند أهل الأمهات كلهم أنها كانت في أول الإسلام ، فكان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نسختها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه . ومثل ذلك روي عن معاذ بن جبل أخرجه أحمد وأبو داود ومثله عن ابن عمر أخرجه البخاري، فالمنسوخ ليس بحجة بلا خلاف ، وإن كانت محكمة كما رواه أبو داود عن ابن عباس ، فظاهرها جواز ترك الصوم لمن كان مطيقاً غير معذور ووجوب الفدية عليه ، وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون . وأما قول ابن عباس المتقدم فكلام غير مناسب لمعنى الآية ، لأنها في المطيقين لا فيمن لا يستطيع أن يصوم كما قال ، وكذلك ما رواه عنه أبو داود أنها أثبتت للحبلى والمرضع ، فإنه يدل على أنها منسوخة فيما عداهما ، فعلى كل حال ليس في الآية دليل على وجوب الإطعام على من ترك الصوم وهو لا يطيقه وهو محل النزاع ، وإذا لم يوجد دليل في كتاب الله ولا في سنة رسوله فليس في غيرهما أيضاً ما يدل على ذلك فالحق عدم وجوب الإطعام ، وقد ذهب إليه جماعة من السف منهم : مالك وأبو ثور وداود ، وكذا لا فدية على من حال عليه رمضان وعليه رمضان أبو بعضه ولم يقضه ، لأنه لم يثبت في ذلك شئ صح رفعه ، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصحابة من أقوالهم وليس بحجة على أحد ولا تعبد الله بها أحداً من عباده ، والبراءة الأصلية مستصحبة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح ، وقد ذهب إلى هذا النخعي وأبو حنيفة وأصحابه . وأما التفريق في قضاء رمضان فقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عمر أنه () سئل عن قضاء رمضان فقال : إن شاء فرقه وإن شاء تابعه وفي إسناده سفيان بن بشر وقد ضعفه بعضهم ، وقال ابن الجوزي ما علمنا أحداً طعن فيه ثم صحح الحديث ، ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من التخيير قوله تعالى فعدة من أيام أخر وهذه العدة تصدق على ما كان مجتمعاً ومتفرقاً لأنه يحصل من كل واحد منهما عدة والبراءة الأصلية قاضية بعدم التعبد بما هو أشق ما يصدق عليه معنى الآية دون ما هو أخف . وأما ما يروى من أنه () قال : من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه كما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة ففي إسناده عبدالرحمن بن إبراهيم القاص وقد ضعفه جماعة من الأئمة ، وقال البيهقي لا يصح ، وأنكره أبو حاتم على عبد الرحمن ، وأما ابن القطان فقال : لم يأت من ضعفه بحجة انتهى . ولكنه مع ذلك لا ينتهض للنقل عن مجرد البراءة الأصلية فضلاً عما عضدها

باب صوم التطوع

يستحب صيام ست من شوال لحديث من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذاك صيام الدهر أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي أيوب . وفي الباب أحاديث . قال في الحجة البالغة : والسر في مشروعيتها أنها بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة ، تكمل فائدتها بالنسبة إلى أمزجة لم تتأم فائدتها بهم ، وإنما خص في بيان الفضيلة التشبه بصوم الدهر ، لأن من القواعد المقررة أن الحسنة بعشر أمثالها ، وبهذه الستة يتم الحساب انتهى .

أقول : ظاهر الحديث أنه يكفي صيام ست من شوال ، سواء كانت من أوله أو من أوسطه أو من آخره ، ولا يشترط أن تكون متصلة به لا فاصل بينها وبين رمضان إلا يوم الفطر وإن كان ذلك هو الأولى ، ولأن الاتباع وإن صدق على جميع الصور ، فصدقه على الصورة التي لم يفصل فيها بين رمضان وبين الست إلا يوم الفطر الذي لا يصح صومه لا شك أنه أولى ، وأما أنه لا يحصل الأجر إلا لمن فعل كذلك فلا ، لأن من صام ستاً من آخر شوال فقد أتبع رمضان بصيام ست من شوال بلا شك وذلك هو المطلوب .

وتسع ذي الحجة لما ثبت عنه () من حديث حفصة عند أحمد والنسائي قالت : أربع لم يكن يدعهن رسول الله () صيام عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر وأخرجه أبو داود بلفظ كان يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وأول اثنين من الشهر والخميس وقد أخرج مسلم عن عائشة أنها قالت : ما رأيت رسول الله () صائماً في العشر قط وفي رواية لم يصم العشر قط وعدم رؤيتها وعلمها لا يستلزم العدم وأكد التسع يوم عرفة . وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قتادة قال : قال رسول الله () : صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة ، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية

و أما صيام شهر محرم فلحديث أبي هريرة عند مسلم وأحمد وأهل السنن أنه () سئل أي الصيام بعد رمضان أفضل ؟ فقال : شهر الله المحرم وأكده يوم عاشوراء لما ورد فيه من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة أنه () صامه وأمر بصيامه ثم قال : هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم ، فمن شاء صام ومن شاء فليفطر وقد تقدم أنه يكفر سنة ماضية . وثبت في مسلم وغيره ، أنه لما أمر بصيامه قالوا يار سول : إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى فقال : إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله () قلت : وعليه أهل العلم ، واستحب أكثرهم أن يصوم التاسع والعاشر . وفي العالمكيرية : ويكره صوم يوم عاشوراء مفرداً انتهى . وفي الباب أحاديث أخرى أوردها الشيخ عبدالحق الحنفي الدهلوي فيما ثبت من السنة في أيام السنة .

أقول : أما شهر المحرم ، فلا ريب أنه قد خصه دليل صحيح ناطق بأنه أفضل الصيام المتطوع به ، ولم يعارضه في هذه الأفضلية إلا ما قيل في صوم يوم عرفة . وقد ذكر الجمع الماتن رح في شرح المنتقى

وشعبان لحديث أم سلمة أن رسول الله () لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلى شعبان يصل به رمضان أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي . وفي الصحيحين من حديث عائشة ماكان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان ، كان يصومه إلا قليلاً بل كان يصومه كله وفي لفظ وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان .

والإثنين والخميس لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسمل كان يتحرى صيام الإثنين والخميس أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه . وأخرج نحوه أبو داود من حديث أسامة بن زيد . وأخرجه ايضاً النسائي ، وفي إسناده مجهول مع أنه قد صححه ابن خزيمة . وأخرج أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي () قال : تعرض الأعمال كل إثنين وخميس ، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم وفي صحيح مسلم أن النبي () سئل عن صوم يوم الإثنين فقال : ذاك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه .

وأيام البيض لحديث أبي قتادة عند مسلم وغيره قال : قال رسول الله ()  : ثلاث من كل شهر ، ورمضان إلى رمضان ، فهذا صيام الدهر كله وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان وصححه من حديث أبي ذر قال : قال رسول الله ()  : إذا صمت من الشهر ثلاثة ، فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وفي الباب أحاديث . قال في الحجة البالغة : وقد اختلفت الرواية في اختيار تلك الأيام فورد يا أبا ذر إلخ ... وورد كان يصوم من الشهر السبت والأحد والإثنين ، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس . وورد من غرة كل شهر ثلاثة أيام . وورد أنه أمر أم سلمة بثلاثة أولها الإثنين والخميس ، ولكل وجه انتهى .

وأفضل التطوع صوم يوم وإفطار يوم لحديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله () قال : صم في كل شهر ثلاثة أيام . قلت : فإني أقوى من ذلك ، فلم يزل يرفعني حتى قال : صم يوماً وأفطر يوماً ، فإنه أفضل الصيام ، وهو صوم أخي داود عليه السلام قال في الحجة البالغة : واختلفت سنن الأنبياء عليهم السلام في الصوم ، فكان نوح عليه السلام يصوم الدهر ، وكان داود عليه السلام يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكان عيسى عليه السلام يصوم يوماً ويفطر يومين أو أياماً ، وكان النبي () في خاصة نفسه يصوم حتى يقال لا يفطر ، ويفطر حتى يقال لا يصوم ، ولم يكن يستكمل صيام شهر إلا رمضان ، وذلك أن الصيام ترياق ، والترياق لا يستعمل إلا بقدر المرض ، وكان قوم نوح عليه السلام شديدي الأمزجة ، حتى روي غنهم ما روي ، وكان عليه السلام ذا قوة ورزانة وهو قوله () وكان لا يفر إذا لا قى وكان عيسى عليه السلام ضعيفاً في بدنه فارغاً لا أهل له ولامال ، فاختار كل واحد ما يناسب الحال . وكان نبينا () عارفاً بفوائد الصوم والإفطار ، مطلعاً على مزاجه وما يناسبه ، فاختار بحسب مصلحة الوقت ما شاء .

ويكره صوم الدهر لحديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ()  : لا صام من صام الأبد وهو في الصحيحين وغيرهما . وأخرج أحمد وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي وابن أبي شيبة من حديث أبي موسى عن النبي () قال من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وقبض كفه ولفظ ابن حبان ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين ورجاله رجال الصحيح . وهذه الأحاديث من أعظم الأدلة الدالة على أن صوم الدهر مخالف لهديه () ، لأنه نزل صوم صائم الدهر منزلة العدم في الحديث الأول ، وفي رواية لا صام من صام الدهر ولا أفطر والحديث صحيح ، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من نهيه () لابن عمرو لما أراد أن يصوم الدهر وقال له : لا تفعل وقال لما بغله عن المتكلفين في العبادة ، أنهم سألوا عن عبادته () فاستقلوها فقال أحدهم : أصوم ولا أفطر ، وقال الثاني : أقوم ولا أنام ، وقال الثالث : لا أنكح النساء ، فقال ()  : أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني وأما تقريره () لحمزة بن عمرو ، قال له يا رسول الله : أني أسرد الصوم ، أفأصوم في السفر ؟ قال : إن شئت كما أخرجه الشيخان وغيرهما ، فليس فيه دليل على صوم الدهر ، لأن السرد يصدق بصوم أيام متتابعة وإن كانت بعض سنة فضلاً عن أكثر منها . ومن جملة الوعيد لمن صام الدهر ، حديث أبي موسى المتقدم ، وهذا وعيد شديد ، ومن زعم أنه ترغيب في صوم الدهر فلم يصب .

وإفراد يوم الجمعة لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما أن النبي () نهى عن صوم يوم الجمعة وفي رواية أن يفرد بصوم وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم وفي لفظ المسلم ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم وفي الباب أحاديث . قال الشافعي : يكره إفراد الجمعة . وفي العالمكيرية يستحب صوم يوم الجمعة بانفراده .

أقول : الأحاديث واردة بالنهي ، وحقيقة النهي التحريم إذا لم يصم يوماً قبله ولا يوماً بعده . وما روي عنه () من أنه كان يصومه ، لا يصلح لجعله قرينة صارفة لوجهين : الأول أنه لم ينقل أنه كان يصومه منفرداً ، بل الظاهر أنه كان يصومه على غير الصفة التي نهانا عنها . الثاني أن فعله لا يعارض قوله الخاص بالأمة كما تقرر في الأصول ، وعلى فرض عدم الاختصاص لقوله بالأمة بل شموله له ولهم ، فهو مخصص له من العموم ، وذلك لا يصلح قرينة صارفة للنهي عن معناه الحقيقي .

ويوم السبت لحديث الصماء بنت بسر عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والطبراني والبيهقي وصححه ابن السكن أن رسول الله () قال : لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ، فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحاء شجر فليمضغه .

ويحرم صوم العيدين لحديث أبي سعيد في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله () أنه نهى عن صوم يومين : يوم الفطر ، ويوم النحر وقد أجمع المسلمون على ذلك .

وأيام التشريق لنهيه () عن الصوم فيها ، كما ثبت ذلك من طريق جماعة من الصحابة ، وقد سرد أحاديثه الماتن في شرح المنتقى .

وإستقبال رضمان بيوم أو يومين لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال : قال رسول الله ()  : لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين ، إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصمه ويؤيده حديث أبي هريرة أيضاً عند أصحاب السنن ، وصححه ابن حبان وغيره مرفوعاً بلفظ إذا انتصف شعبان فلا تصوموا وفي الباب أحاديث والخلاف طويل مبسوط في المطولات .

أقول : وما زال الخلاف في هذه المسألة من عصر الصحابة إلى الآن ، وقد صارت مركزاً من المراكز التي يتغالى الناس في أمرها اثباتاً ونفياً ، ولم يحتج أحد منهم بأن النبي () كان يصومه ، وأما ما احتجوا به من العمومات الدالة على مشروعية مطلق الصوم واستحبابه ، فنحن نقول بموجبها ، ونقول هي مخصصة بأحاديث أمره () بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته ، أو إكمال العدة كما صح في جميع دواوين الإسلام وبأحاديث نهيه () عن تقدم رمضان بيوم أو يومين وهو في الصحيح . بل ورد النهي عن صوم النصف الأخير من شعبان وقال عمار : من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم وهو صحيح ، بل قال ابن عبد البر : لا يختلفون في رفعه ، ولعل مراده أن له حكم الرفع ، لا أن القائل له هو النبي () ، فهذا إذا لم يصلح لتخصيص العمومات لم يصلح مخصص قط . ومن نظر إلى ما يقع من عوام المسلمين بل ومن بعض خواصهم في هذه الاعصار من البخاري على الصوم والإفطار بمجرد الشكوك والخيالات التي هي عن الشريعة بمعزل قضى العجب وبكى على الدين وانتظر القيامة .

باب الاعتكاف

يشرع لا خلاف في مشروعية الإعتكاف ، وقد كان يعتكف النبي () في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة .

ويصح في كل وقت في المساجد لأنه ورد الترغيب فيه ولم يأت ما يدل على أنه يختص بوقت معين . وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن عمر سأل النبي () قال : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال : فأوف بنذرك وأما كونه لا يكون إلا في المساجد ، فلأن ذلك هو معنى الإعتكاف شرعاً ، إذا لا يسمى من اعتكف في غيرها معتكفاً شرعاً . وقد ورد ما يدل على ذلك كحديث لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من حديث حذيفة . قال في المسوى الاعتكاف جائز في كل مسجد ، فإن لم يكن المسجد جامعاً ، فالخروج للجمعة واجب عليه ، فإذا خرج يبطل إعتكافه عند الشافعي ، فيحتاج إلى نية جديدة لما يستقبله إن كان تطوعاً ، ولا يبطل عند أبي حنيفة كما لو خرج لقضاء الحاجة .

أقول : لا ريب أن مسمى الإعتكاف الشرعي لا يحصل إلا إذا كان في المسجد ، ولهذا لم تختلف الأمة في إعتبار ذلك ، إلا ما يروى عن محمد بن عمر بن لبابة المالكي فإنه أجازه في كل مكان ، وإنما اختلفوا هل يجزيء الإعتكاف في كل مسجد أم في الثلاثة المساجد فقط أم في المسجد الحرام فقط ؟ والظاهر أنه يجزيء في كل مسجد قال تعالى : وأنتم عاكفون في المساجد ولا حجة في قول عائشة ولا في قول حذيفة في هذا الباب .

وهو في رمضان آكد سيما في العشر الأواخر منه أفضل ، وآكد لكونه () كان يعتكف فيها . ولم يرد ما يدل على توقيته بيوم أو أكثر ، ولا على اشتراط الصيام إلا من قول عائشة ، وحديث نذر عمر المتقدم يرده . وكذلك حديث ابن عباس أن النبي () قال : ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه أخرجه الدارقطني والحاكم وقال : صحيح الإسناد ، ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه .

وبالجملة : فلا حجة إلا في الثابت من قوله () ، ولم يثبت عنه ما يدل على أنه لا اعتكاف إلا بصوم ، بل ثبت عنه ما يخالفه في نذر عمر . وقد روى أبو داود عن عائشة مرفوعاً من حديث ولا إعتكاف إلا بصوم ورواه غيره من قولها ، ورجح ذلك الحفاظ .

أقول : أعلم أن كون الشئ شرطاً لشئ آخر أو ركناً له أو فرضاً من فروضه ، لا يثبت إلا بدليل ، لأنه حكم شرعي أو وضعي ، ولم يأت ما يدل على أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم ، بل ثبت الترغيب منه () في الاعتكاف . ولم ينقل إلينا أنه اعتبر ذلك ، ولو كان معتبراً لبينه للأمة وأما إعتكافه () في صومه فلا يستلزم أن يكون الاعتكاف كذلك ، لأنه أمر اتفاقي ، ولو كان ذلك معتبراً ، لكان إعتكافه في مسجده معتبراً ، فلا يصح من أحد الإعتكاف في غيره وأنه باطل . وأما قول عائشة المتقدم ، فظاهر هذا السياق أن لفظ ولا اعتكاف إلا بصوم ليس من بيان السنة المذكورة في أول كلامها ، بل ابتداء كلام منها ، فقد أخرجه النسائي ولم يذكر فيه قولها من السنة ، وكذلك أخرجه أيضاً من حديث مالك وليس فيه ذلك . وقال أبو داود : غير عبد الرحمن بن إسحق لا يقول فيه من السنة . وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها لا يخرج وما عداه ممن دونها وكذلك رحج ذلك البيهقي كما ذكره ابن كثير في إرشاده . ومما يؤيد هذا حديث من إعتكف فواق ناقة وكذلك حديث ليس على المعتكف صيام وفيهما مقال أوضحه الماتن رح في شرح المنتقى . وقد ثبت عنه () أنه اعتكف عشراً من شوال ولم ينقل عنه أنه صامها ، بل روي عنه أنه اعتكف العشر الأول من شوال ، ولا يخفى أن يوم الفطر من جملتها وليس بيوم صوم ، فالحق عدم اشتراط الصوم في الإعتكاف لما تقدم ، ولما ثبت أن عمر سأل النبي () قال : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال : أوف بنذرك وهو متفق عليه ، وفي رواية لمسلم يوماً مكان ليلة . وما في الصحيحين أرجح مما في أحدهما إذا لم يمكن الجمع . وقد جمع ابن حبان وغيره بأنه نذر إعتكاف ليلة ويوم ، وفي رواية أبي داود والنسائي أن النبي () قال له : اعتكف وصم ولكن في إسناده عبد الله بن بديل وهو ضعيف . وقد ذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عمرو بن دينار . وقال الحافظ في الفتح أن رواية من روى يوماً شاذة وإذا عرفت ما تقدم من عدم انتهاض ما احتجوا به على شرطية الصوم ، فالحق الحقيق بالقبول أن الإعتكاف يكون ساعة فما فوقها . بل حديث من اعتكف فواق ناقة يدل على أنه يكون أقله لحظة مختطفة ، وهذا الحديث وأن لم يكن صالحاً للإحتجاج به ، فالأصل عدم التقدير بوقت معين ، والدليل على مدعي ذلك . ثم كون اليوم الكامل شرطاً للصوم لا يسلتزم أن يكون شرطاً للإعتكاف ، لأنه يمكن الإعتكاف بعض اليوم مع الصوم لكل اليوم ، فاليوم شرط الصوم لا شرط الإعتكاف على تسليم أن الصوم شرط .

ويستحب الإجتهاد في العمل فيها لحديث عائشة أن النبي () كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل كله وأيقظ أهله وشد المئزر وهو في الصحيحين وغيرهما .

وقيام ليالي القدر لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي () من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وفي تعيين ليلة القدر أحاديث مختلفة ، وأقوال جاوزت الأربعين ذكرتها في مسك الختام شرح بلوغ المرام بالفارسية ، وقد استوفاها الماتن في نيل الأوطار وفي حاشية الشفاء للماتن . أقول : في تعيينها مذاهب يطول تعدادها وقد بسطتها في شرح المنتقى فكانت سبعة وأربعين قولاً ، وذكرت أدلتها وبينت راجحها من مرجوحها ورحجت أنها في أوتار العشر الأواخر لما ذكرته هنالك انتهى . قال في الحجة البالغة : إن ليلة القدر ليلتان : إحداهما ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ، وفيها نزل القرآن جملة واحدة ، ثم نزل بعد ذلك نجماً نجماً . وهي ليلة في السنة ، ولا يجب أن تكون في رمضان ، نعم رمضان مظنة غالبة لها ، واتفق أنها كانت في رمضان عند نزول القرآن . والثانية يكون فيها نوع انتشار الروحانية ومجيء الملائكة إلى الأرض ، فيتفق المسلمون فيها على الطاعات ، فيتعاكس أنوارهم فيما بينهم ، ويتقرب منهم الملائكة ، ويتباعد منهم الشياطين ، ويستجاب منهم أدعيتهم وطاعاتهم ، وهي ليلة في كل رمضان في أوتار العشر الأواخر تتقدم وتتأخر فيه ولا تخرج منها ، فمن قصد الأولى قال : هي في كل سنة ، ومن قصد الثانية قال : هي في العشر الأواخر من رمضان وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و آله وسلم : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر وقال : أريت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين فكان ذلك في ليلة إحدى وعشرين . وإختلاف الصحابة فيها مبني على إختلافهم في وجدانها . ومن أدعية من وجدها اللهم أنك عفو تحب العفو فاعف عهي وفي المسوى إختلفوا في ليلة هي أرجى ، والأقوى أنها ليلة في أوتار العشرة الأخيرة تتقدم وتتأخر . وقول أبي سعيد أنها ليلة إحدى وعشرين . وقال المزني وابن خزيمة أنها تنتقل كل نسة ليلة جمعاً بين الأخبار . قال في الروضة : وهو قوي . ومذهب الشافعي أنها لا تلزم ليلة بعينها . وفي المنهاج ميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والثالث والعشرين . وعن أبي حنيفة أنها في رمضان ، لا يدري أية ليلة هي ، وقد تتقدم وتتأخر ، وعندهما كذلك ، إلا أنها متعينة لا تتقدم ولا تتأخر .

ولا يخرج المتعتكف إلا لحاجة لما ثبت من حديث عائشة في الصحيحين عنه () أنه كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفاً وأخرج أبو داود عنها قالت : كان النبي () يمر بالمريض وهو معتكف ، فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه وفي إسناده ليث بن أبي سليم . قال الحافظ : والصحيح عن عائشة من فعلها أخرجه مسلم وغيره ، وقال صح ذلك عن علي . وأخرج أبو داود عن عائشة أيضاً قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع وأخرجه أيضاً النسائي وليس فيه قالت السنة . قال أبو داود : غير عبد الرحمن بن اسحق لا يقول فيه قالت السنة . وجزم الدارقطني بأن القدر من حديث عائشة قولها : لا يخرج وماعداه ممن دونها . قال في المسوى : اتفق أهل العلم على أن المعتكف يخرج للغائط والبول ولا يفسد به إعتكافه ، ولا يخرج للأكل والشرب ويجوز له غسل الرأس وترجيل الشعر وما في معناه ، وأكثرهم على أنه لا يجوز له الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة إلا أن يخرج لحاجة فيسأل المريض ماراً ، وإن شرط في اعتكافه الخروج لشئ من هذا جاز له أن يخرج عند الشافعي ، ولا يجوز عند أبي حنيفة كذا في شرح السنة .