الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم/الجزء الثاني
► الجزء الأول | الجزء الثاني | ◄ |
هامش
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «قد روي أنه خولط في عقله آخر مدته، ولعله كذلك؛ فإن هذه المقالة لا يتجاسر عليها أحد من المسلمين، فكيف تصدر من أحد أئمة أهل البيت المطهرين! تمت. من إفادة السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله» اهـ.
- ↑ في نسخة: «ببركة» كذا في هامش (أ) و (ي).
- ↑ كتب فوق هذه الكلمة في (أ): «إكساب. ظ»
- ↑ في نسخة: «افتخرتم بممارستها» كذا في هامش (أ) و (ي) وهي كذلك في (س).
- ↑ في نسخة: «وهي» كذا في هامش (أ)، وهي كذلك في (س).
- ↑ عجزه في (ي): "لا على عين ولا على أثر" وفي (س): "منه لا على عين ولا أثر" في هامش (ي): «وبعد: فلحى الله الأولى زعموا ** أنك المعلوم بالنظر. كذبوا إن الذي زعموا ** خارج عن قوة البشر».
- ↑ في نسخة «مسائل» كذا في هامش (أ) و (ي)، وفي (س).
- ↑ في نسخة «القول» كذا في هامش (أ) و (ي).
- ↑ في نسخة: «لا يرد» كذا في هامش (أ) و (ي).
- ↑ في نسخة: «الفرقة الثانية» كذا في هامش (أ) و (ي).
- ↑ في (س): «مصة». وكتب في هامش (أ) و (ي): نقطة، كما في العلم المشهور لابن دحية».
- ↑ في هامش (أ) كتب: «بعده: "صبر جميل فكلانا مبتلى"»
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «المصنف رحمه الله محسن الظن بشيخ التصوف ابن الفارض، وكأنه ما اطلع على عقيدته! وهو من أهل وحدة الوجود الذي عابهم المصنف في الإيثار. قال الذهبي في ترجمته: ينعق بالاتحاد في أشعاره وانظره في «العلم» تمت شيخنا».
- ↑ في نسخة «اعتقد» كذا في هامش (أ) و (ي)، وهو كذلك في (س).
- ↑ في نسخة «بوجه» كذا في هامش (أ) و (ي) وهو كذلك في (س).
- ↑ في نسخة «العلم» كذا في هامش (أ) و (ي)، وهو كذلك في (س).
- ↑ في نسخة «واسع» كذا في هامش (أ) و (ي)، وهو كذلك في (س).
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «كأن بروقها وما بعدها بدل من أنوارها، بدل تفصيل» تمت القاضي محمد.
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «هذا الجواب ذكره القرطبي في التذكرة، ونسبه إلى ابن خزيمة، ثم أورد عليه ما أشار السيد محمد رحمه الله إلى دفعه بقوله: فإن قلت إلخ..» تمت من خط القاضي العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي رحمه الله.
- ↑ في نسخة: «المتبين» كذا في هامش (أ) و (ي).
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «من خط إمامنا المتوكل عليه السلام: «الظن أنه أراد فأدنى العوام، والظن ما قال، ويحتمل أنه أراد العموم أي عموم الناس، مع بعده». ثم كتب: قد قوبلت هذه النسخة على نسخة صحيحة، فكان كما ظنه مولانا أمير المؤمنين، حفظه الله، وأصلحت في هذه النسخة، ونسخة الإمام حفظه الله» اهـ.
- ↑ في (أ) و (ي) بعد هذه الكلمة بياض بمقدار ثلاث كلمات، ثم كتب في هامش النسختين إكمالا للفراغ: «على حد ما لو منعوه عقلا. ظ» ثم علق بما يأتي: «لم نجد في نسخة صحيحة هذا البياض، ولا التظنين» وهو كذلك في (س).
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «في شرح ابن النحوي للمنهاج في باب صفة الصلاة: فرع منقول عن الإمام فخر الدين الرازي، عن المتكلمين أنه لا يصح عبادة، ولم يخص بالمعتزلة فينظر. تمت من خط القاضي العلامة محمد بن عبد الملك رحمه الله».
- ↑ في الأصول: «النسائي»، ثم كتب في هامش (أ) و (ي): «في نسخة (ق) بدل النسائي، وهو الذي في أطراف المزي ولم يذكر النسائي. تمت من خط القاضي محمد الآنسي رحمه الله».
- ↑ في هامش الأصول ما نصه: «سقط السادس والعشرون من الأم، ولم يبيض له، وهو في العواصم، قال: «السادس والعشرون: فضل حب الأنصار، رواه عنه النسائي، وفضلهم مشهور، بل قرآني معلوم. انتهى» اهـ
- ↑ في (س): «يطلبوا»، وهو كذلك في نسخة كما في هامش (أ) و (ي).
- ↑ في (س): «فارق» وهو كذلك في نسخة كما في هامش (أ) و (ي).
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «في هذا البيت إشارة إلى كلام الوليد بن المغيرة لرسول الله ﷺ حين عرض عليه المال والرياسة، ويترك دعوى النبوة، فلم يجب عليه رسول الله ﷺ إلا بتلاوة آية السجدة، وعلى هذا كان أصحابه الراشدين رضي الله عنهم تمت» للعلامة محمد بن عبد الملك الآنسي.
الوهم الثاني عشر: وهم المعترض المسكين أن طائفة المعتزلة بالذكاء مخصوصة، وأجنحة أهل الأثر عن النهوض لهذه الفضيلة مقصوصة، وصرح بوصم الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه بالبله، وكذلك أهل الحديث، قال: «إنما قالوا بذلك لقلة ممارستهم بالعلوم، واقتصارهم على فن الحديث. وكلامه هذا ذكره في رسالته الثانية التي أجاب بها على القصيدة التي أولها:
ظلت عواذله تروح وتغتدي ** وتعيد تعنيف المحب وتبتدي
وهذه قصيدة أنشأتها في الحث على اتباع السنة النبوية، زادنا الله شرفا بالحث عليها، [والدعاء إليها]، وقد أحببت تكميل تشرفي في الذب عن أئمة الإسلام الأربعة، وسائر أئمة السنة في موضع واحد فأقول: كلام المعترض في هذا الموضع من جملة فضلات الكلام، ونزوات الأقلام، التي ليس تحتها أثارة من علم فتعرف، ولا فيها شبهة قادحة فتكشف. ولكن ينبغي تأديبه عليها بذكر تقريعات:
الأول: أن أهل السنة والبدعة، والخلف والسلف، والمتكلمين والأصوليين، والنحاة واللغويين، وأهل كتب المقالات في الملل والنحل، كلهم استمرت عادتهم على نسبة الأقوال إلى من قالها، وحكاية المذاهب عن أهلها؛ من غير زيادة سخرية ولا غمص ولا أذى ولا استهانة، تنزيها لألسنتهم عن خبث السفه، ولمصنفاتهم عما يدل على قلة التمييز والمناصفة. فترى المتكلمين وأهل المقالات ينسبون البدع إلى أهلها [كذلك]، بل يحكون مذاهب الخارجين عن الإسلام؛ فيقولون: ذهب الثنوية إلى كذا، وذهب النصارى إلى كذا؛ علما من المحصلين أنه لا حاصل تحت السفه، وأنه مقدور لأخس السوقة. وإنما يوجد شيء من ذلك في كلام بعض العلماء عند الانتصاف من المعتدين والانتصار لأئمة أهل الدين، قال الله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}.
الثاني: أنك عللت بلههم وجمود فطنتهم بقلة ممارستهم للعلوم، وعنيت بهذه العلوم علوم الجدل والخوض في دقيق النظر، لأنه لا يفهم إلا ذلك. والتعليل بهذه العلة هفوة كبيرة، لأن هذه العلة قد شاركهم فيها خيرة الله من خلقه من الأنبياء المرسلين، والأولياء والمقربين، والصحابة والتابعين، وسائر الصالحين، فإن كان هذا المعترض يجعل هذه العلة مؤثرة صحيحة، ويستلزم ما أدت إليه من الإزراء على كل من ترك الخوض في علم الكلام، والممارسة لأساليب المتحذلقين من أهل الجدل فقد تعرض للهلاك، وارتبك في البلادة أي ارتباك.
وقد اغتر بهذه الشبهة بعينها الحسين بن القاسم بن علي العياني، أحد من ادعى الإمامة من الزيدية، فخرج من مذهب الزيدية بل من المذاهب الإسلامية، وادعى أنه أفضل من رسول الله ﷺ، وأن كلامه أنفع من كلام الله عز وجل! 1 وتابعه على ذلك طائفة مخذولة من الزيدية، وقد انقرضت بعد الانتشار، وخملت بعد الاشتهار. وهذه العلة العليلة كانت سبب اغتراره من نفسه؛ فإنه كان يناظر أهل العلم بها، ويقول في مناظرته: قد ثبت أن الأعلم أفضل، وأن علم الكلام أفضل العلوم. ثم يقول لمن يوافقه من الزيدية والمعتزلة على هاتين المقدمتين: إنه يلزم منهما أنه أفضل من رسول الله ﷺ؛ لأنه يقطع أنه أعلم منه بعلم الكلام، وان مصنفاته قد اشتملت على الرد على الفلاسفة، وسائر أهل الملل والنحل، على ما ليس في كتاب الله ما يقوم مقامه، فتصانيفه أنفع للمسلمين من القرآن العظيم!
فإن كان المعترض قد اختار هذا المذهب، وأراد أن يحيي منه ما مات، ويستدرك على صاحبه من الكفر ما فات؛ فليس بمستنكر له بعد ذلك أن يستهزئ بأهل الحديث، ويسخر من علماء الأثر، وإن كان يأبي منه إباء المسلمين، ويأنف منه أنفة المؤمنين؛ فقد تبين له أن من كان له أسوة -في ترك علوم الأوائل وتحذلق الجدليين- بالأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، وسائر الصالحين، فهو حري بالتبجيل والتعظيم، والتوقير والتكريم.
فيا سيال الذهن ووقاد القريحة، من الأبله الآن؟ أمن علل بهذا التعليل العليل وقال: إن معرفته بالله مثل معرفة جبريل، بل قال: إن الله لا يعرف من ذاته أكثر منه بكثير ولا قليل، أم من آمن بالله وكتبه ورسله وتأدب بآداب التنزيل واقتدى بسيد المرسلين في ترك التعمق في الدين والمماراة للجاهلين؟
الثالث: البله وجمود الفطنة من أفعال الله تعالى التي أجرى العادة أن لا يخلى عنها الطائفة العظيمة الذين لا يحصرهم عدد، ولا يجمعهم نسب ولا بلد، وهو كالطول والقصر، والسواد والبياض، وحسن الصوت، وجمال الخلق، فالقول بذلك عليهم من قبيل التجري على البهت الذي هو عادة البطالين.
وكل منصف يعلم أن في كل طائفة عظيمة لا يجمعهم إقليم ولا نسب ولا طبيعة فطناء وبلداء، وكرام وبخلاء، وشجعان وجبناء، وقد خاطب الله عباد الحجارة الذين لم تكن عندهم من العلم أثارة بمثل قوله تعالى: {وأنتم تعقلون}، {وأنتم تعلمون}.
الرابع: أن رسالة المعترض منادية عليه نداء صريحا بجمود الفطنة، وكثرة البله، وكل إناء بالذي فيه يرشح. ولو كان من أهل المغاصات الغامضة، والأذهان السائلة والقرائح الوقادة؛ لظهر لذلك أثر في أساليبه، ولاحت من ذلك مخايل على رسائله، فلا مخبأ بعد بوس، ولا عطر بعد عروس. فيا هذا! ما حملك على عيب الخصوم بعيب أنت به موصوم؟
الخامس: أن الفلاسفة تدعي من الذكاء والفطنة مثل ما أنت مدع، وتعتقد في المسلمين كلهم مثل ما أنت معتقد في المحدثين، فإنهم يعتقدون أن المتكلمين من المسلمين غير ممارسين للعلوم العقلية على ما ينبغي. ولا منصفين في متابعة محض العقل، لمراعاتهم في كثير من المواضع لقواعد الإسلام، وتعصبهم لمذاهب الآباء والمشايخ، وخوف ما تقرر في نفوسهم من الصغر من خوف عذاب الاخرة، وعندهم أنهم السباق إلى تأسيس قواعد العلوم العقلية، والقوانين المنطقية، وأنهم استبدوا باستخراج علم المنطق، وميزان البرهان، بصفاء أذهانهم في النظر في الحقائق، وشدة غوصهم على لطائف الغوامض، فكما أن ذلك -وإن صدقوا في بعضه- لا يدل على صحة ما هم عليه من الكفر، ولا يرجح ما فرحوا به من الضلال والخسر، فكذلك ما احتج به المعترض على اختصاصه وأصحابه بالذكاء والفطنة، بسبب ما استعاروه من علم الأوائل، وشموا من رائحة الحذق في بعض المسائل، لا يوجب له صحة دعواه، ولا يستحق به الاختصاص بالنجاة؛ هذا إن سلم المعترض أن المدقق قد يضل في تدقيقه ويزل عن تحقيقه، وأما إن لم يسلم ذلك فليتخذهم أئمة، وينسلخ عما عليه الأمة، وفي هذا أكبر دليل على فساد ما توهمه المعترض من تعليل صفاء الأذهان، والرجوع في صحة الإيمان إلى ممارسة تواليف اليونان في علم البرهان، فقد ضل سقراط المعلم الأول، واهتدى من الأعراب كثير، وما مارس أحد منهم تلك العلوم ولا تأول.
فيا هذا! من أكثر ممارسة للعلوم العقلية وأهدى إلى العقائد الإسلامية، أم الدرداء، وأم سليم، وخديجة بنت خويلد، أم أرسطاطاليس، وأفلاطون، وابن سينا؟ وانظر بعد هذا في ميزانك الذي وزنت به أهل العلم والذكاء وأهل الجمود والبله، هل تجده مع مراعاة الإسلام عادلا، أو تراه إلى تعظيم الفلاسفة مائلا؟
السادس: كان المسلمون أمة واحدة في عهد رسول الله ﷺ وأيام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ليس بينهم خلاف في أمر العقيدة. وعلم من النبي ﷺ ومن الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين أن الذي كان عليه المسلمون في أعصارهم هو سبيل الهدى ومنهج الحق وطريق السلامة؛ حتى مارستم هذه العلوم، وتركتم الجمود، وسالت أذهانكم بالحقائق، وغصتم على هذه الدقائق، وضلت اثنتان وسبعون فرقة من ثلاث وسبعين، ولم يبق من الأمة على الحق بتركه هذه الممارسة عشرها، ولا نصف عشرها!
والمعتزلة تدعي أنها الفرقة الناجية: دعوى ممزوجة بعجب كثير، واستحقار لكل من خالفهم من صغير وكبير! وهم مع ذلك مختلفون غاية الاختلاف، مفترقون عشر فرق في مسائل عقلية قطعية، لا يمكن عندهم فيها تصويب الجميع ولا رفع الإثم عن المخطئ، ولا القطع بانتفاء الفسق بإجماعهم! ومنهم من يجيز في ذلك الاختلاف الواقع بينهم أن يكون فسقا فلا خلاف بينهم فيه، ومنهم من يصرح بتكفير مخالفه، وبين أصحاب أبي الحسين وأصحاب أبي هاشم في ذلك ما ليس بين فرق أهل الضلال أكثر منه، من قدح كل في علم الآخر، والقطع ببطلان ما هو عليه. وهذا الاضطراب العظيم، والخلاف الشديد بين المعجبين بدعوى الاختصاص بعلم الحق، والاعتصام بالميزان العدل الذي يرفع الخلاف، ويظهر معه ما خفي من الحق، وكل هذا حصل بسبب 2 ممارسة العلوم التي عبتم على المحدثين الغفلة عنها، فلا عدمكم المسلمون، زيدوا في هذه الممارسة فما يحصل منها غدا إلا ما حصل منها أمس: تباغض وافتراق، وجدال وشقاق، وتكفير وتفسيق، وهوى من الضلال إلى مكان سحيق.
فإن كان المحدثون ما استحقوا منك السخرية والإستهانة إلا لعدم دخولهم معكم في هذه الممارسة؛ فالأمر [في ذلك] مجبور، ولهم أسوة يعزون بها أنفسهم فيمن فاتته هذه الممارسة من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، والأولياء والصالحين.
السابع: أخبرنا ما هذه العقائد التي اختصصتم باعتقادها، وتميزتم على المحدثين، وعيرتم على المخلين بمعرفتها، ولم تكن معرفتها إلا بممارسة العلوم التي لم يمارسها الصحابة والسلف الصالح، فإنا رأينا الأمة قد أجمعت على صحة عقائد الصحابة قبل هذه الممارسة، فمن علينا بالتعريف بما استفدتموه بذلك.
فإن قلت: إن هذه العقائد هي اعتقاد وجود الله عز وجل، وأنه عالم قادر، موصوف بجميع صفات الكمال غير ممثل بمثال، فقد أمكن الصدر الأول معرفة هذا وأمثاله من الحق من غير ممارسة لعلومكم، ولم يصمهم أحد بالبله وجمود الفطنة ممن هو أذكى منك قلبا، وأرجح لبا، وأصلب دينا، وأتم يقينا. وإن كانت العقائد التي لا تدرك إلا بالممارسة هي قول شيوخكم: إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمونه، وقولهم: إن الله لا يقدر على هداية أحد من المذنبين، وقولهم: إن الله لم يخلق شيئا على الحقيقة قط، لأن الأشياء ثابتة فيما لم يزل، وتذويت الذات محال، وإنما الذي هو فعل الله اكتساب 3 الذوات الثابتة في القدم صفة الوجود، وليس لله تعالى عندهم فعل إلا صفة الوجود، لكن صفة الوجود عندهم وسائر الصفات ليست بشيء، فحصل من هذا أن الله تعالى لم يخلق شيئا قط، وإنما يقال: إنه خالق كل شيء مجازا. وقولهم: إن الله تعالى غير قادر على إعدام الألوان كلها وكذلك الطعوم فلا يقدر على قلب الأسود أغبر لأنه إنما يزيل الصفة بواسطة طروء ضدها عليه، وأن الله تعالى يريد بإرادة محدثة موجودة على حد وجود عرض مستقل بنفسه غير حال في ذاته تعالى، ولا في غيره ولا داخل في العالم ولا خارج عنه، وأن أول الواجبات النظر في الله، وأن النظر فيه لا يتم إلا بالشك فيه فوجب الشك في الله تعالى، بل كان أول الواجبات، لأن ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه، بحيث يحصل الثواب على الشك في الله والعقاب على تركه، ويستمر وجوب الشك في مهلة النظر، ويقبح فيها تعظيم الله تعالى لأنه عندهم في تلك الحال لا يؤمن أن لا يستحق التعظيم، فتحرم فيها لذلك الصلوات، وسائر العبادات، تحل جميع المحرمات الشرعيات، ويجب فيها استحلال جميع الحرام، وترك جميع الواجب. وقولهم: إن جميع الواجبات وجبت لأنفسها، وجميع المحرمات كذلك من غير إيجاب موجب، ولا تحريم محرم، وأن الله تعالى غير مختار في التحليل والتحريم، وإنما هو حاك فقط، فالله تعالى عندهم في ذلك، والرسول والمفتي سواء.
وقولهم: إن الله تعالى يقبح منه أن يتفضل على أحد من خلقه بغفران ذنب واحد، وأنه لا يغفر إلا ما وجب عليه غفرانه وجوبا يقبح خلافه، حتى لو زادت سيئات المسلم مثقال حبة من خردل قبح من الله تعالى مسامحته في ذلك، ووجب على الله تعالى تخليده في النيران كتخليد فرعون وهامان وعبدة الصلبان، وأنه لو فعل لاتصف بصفة الكاذبين، واستلزم ذلك بطلان هذا الدين، وأن من جوز عليه ذلك فإنه عند كثير منهم قد صار من المرجئة، وخرج من الفرقة الناجية، وأن من لم يعرف الله تعالى بأحد الأدلة التي حرروها فهو جاهل بالله كافر، وهذا يستلزم تكفير السواد الأعظم من المسلمين الأولين والآخرين، والأنصار والمهاجرين.
وقول شيوخكم البغدادية: إن الله تعالى ليس بسميع ولا بصير ولا مريد حقيقة، وإنما ذلك مجاز، معناه وحقيقته أنه عالم، وأن التقليد في الفروع حرام على العامة من النساء والعبيد والإماء وأهل الغباوة، وأن الاجتهاد في الحوادث ومعرفة أدلتها واجب عليهم مع ترخيص إمام البغدادية أبي القاسم البلخي في التقليد في معرفة الله تعالى، فهذا عجيب من ممارسي علوم النظر الدقيقة أن يجيزوا التقليد في أصل الدين ويحرموه في فرعه! والأصل أقوى من الفرع بالإجماع من العقلاء.
وقولهم: إن تفضل الله على عباده بالعفو قبيح عقلا وشرعا، إلا أن يجب عليه وجوبا يقبح معه تركه، وسواء كان العفو قبل الوعيد أو بعده، وهذا هو الفرق بين مذاهب البغدادية والبهاشمة، فإن البهاشمة لا يقبحون العفو قبل الوعيد عقلا، وقول البغدادية: إنه يقبح عقلا وشرعا العمل بجميع أخبار الثقاب من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، وأن العمل بالقياس حرام، وبجميع الأدلة الظنية. ومن العجب استحقارهم الظاهرية وتعظيمهم البغدادية، والظاهرية إنما أنكرت القياس فقط، والبغدادية أنكرت القياس والأخبار معا، فهذه العقائد يذهبون إليها ويناظرون عليها، وليست من قبيل الإلزام، فإن كانت هذه العقائد وأمثالها من الأباطيل هي التي اختصصتم بها على المحدثين، وتميزتم بمعرفتها على كثير من بله المسلمين، فلعمري إنه لم يصر إلى هذه العقائد أحد من المسلمين إلا بعد ممارسة علومكم هذه التي سيلت أذهانكم إلى هذا الحد، وخلصتم به من عار جمود المحدثين والسلف الصالحين من الصحابة والتابعين.
فإن قلت: إن أهل الحديث فرق كثيرة ويوجد لهم مثل ما يوجد للمتكلمين من الأقوال النكيرة.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن تلك الفرق المبتدعة ممن ينسب إلى السنة فرق شاذة منكرة، قد رد عليهم أئمة السنة، ونصوا على ضلالهم، كالمرجئة والنواصب والحشوية والكرامية والمشبهة والجبرية، إنما كلامنا فيما عليه الجمهور، وما هو المصحح المنصور عند المعتزلة وأهل السنة، ولم نذكر الفرق الشاذة من المعتزلة والشيعة، ولو تعرضنا لذكر ذلك لذكرنا فضائح وقبائح تتنزه عنها المعتزلة والزيدية ويضللون من قال بها، مثل قول الحسينية من الزيدية: إن الحسين بن القاسم أفضل من رسول الله ﷺ، وقول الإمامية: إن شرط الإمام أن يكون يعلم الغيب، وقول بعض البغدادية من المعتزلة -وهم المطرفية- باستقلال الطبائع بالتأثير في العالم بعد خلق الله تعالى لها ونسب هذا إلى البغدادية من المعتزلة، وقول بعض المعتزلة: إن الله تعالى غير قادر على المقدورات القبيحة عقلا، وأن الأطفال والبهائم لا تدرك شيئا من الآلام، لأن إيلامها قبيح، والله تعالى لا يفعله فأنكر الضرورة، فهذه المذاهب الشاذة لا يشنع بها على المعتزلة، وكذلك المذاهب الشاذة لا يشنع بها على أهل الحديث.
الثاني: أن ذلك إنما وقع من بعض أهل الحديث من فيض علومكم هذه التي اقترحتم ممارستها 4 وتميزتم عليهم بمعرفتها، ومن بقي منهم على ما كان عليه السلف الصالح سلم من جميع ما حدث من التعمق في الأنظار، والتكلف لاختراع ما لم يكن من العقائد. وبالجملة؛ فمن أحدث عقيدة لم تكن مشهورة وقت رسول الله ﷺ ودعا الناس إليها، وحملهم عليها، مع سكوت رسول الله ﷺ عنها، وعدم تعرضه لها؛ فليس بسني العقيدة، ولا سالك عند أهل الحديث الطريق الحميدة.
الثالث: أن كلامنا إنما هو من فوائد ممارسة العلوم العقلية النظرية التي لم يعرفها السلف، والمحدث إذا ابتدع ما لم يكن في زمن الصحابة فلم يؤت من الجمود وإنما أتي من سيلان الذهن، وممارسة هذه العلوم، فبان لك -أيها المعترض بهذا- وبال هذه الفيهقة التي توهمتها لك، لا 5 عليك.
الثامن: [من التقريعات] أن المحدثين هم أهل العناية التامة بحديث رسول الله ﷺ من أي فرقة كانوا، كالنحاة والمتكلمين. وهذه الصفة شريفة، فقول المعترض: إن الجمود وترك التأويل مذهب بله المحدثين، تعليق للسخرية والتنقص بأهل صفة شريفة، وهذا دليل على أنك متصف بما رميتهم به من البله، لأن التعليق للذم على الأوصاف الحميدة تغفيل، فلا يقول الفطناء متى أرادوا الذم والانتقاص لأحد: إنه من بله المؤمنين والصالحين ونحو ذلك.
التاسع: أن لأهل كل فن من الفنون الإسلامية منة على كل مسلم توجب توقير أهل ذلك الفن، وشكرهم والدعاء لهم، والثناء عليهم، لما مهدوا من قواعد علمهم وذللوا من صعوبة فنهم، وكثروا من فوائده وقيدوا من شوارده، فبئس ما جزيت من أحسن إليك بارتكاب ما لا يحل لك، وترك ما يجب عليك. ومن آداب العلماء أن يفتتحوا القراءة في مجالس العلم بالدعاء لمشايخهم ومعلميهم، وأهل كل فن هم مشايخ العالم فيه، وأدلة المتحير في خوافيه.
العاشر: العجب من المعترض كيف يذمهم وهو متحل بفرائد علومهم، وكارع في مشارع معارفهم، وتفسيره للقرآن مشحون برواياتهم، ومعرفته بالسير والتواريخ مستفادة من أئمتهم. وما أقبح بالإنسان أن يكون من كفار النعم، وأشباه النعم! فإن كنت لا بد ساخرا منهم، ومستهزئا [بهم]؛ فهلا استغنيت وأغنيت عنهم، وأنفت أنفة الأحرار عن الحاجة إليهم:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ** من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
الحادي عشر: أن جميع أئمة الفنون المبرزين فيها، المقتصرين على تجويدها، قد شاركوا أهل الحديث في عدم ممارسة علم الكلام، وإن لم يشاركوهم في كراهة الخوض فيه، لكن علة جمودهم، ورميهم بالبله في عدم الممارسة؛ والممارسة للفن لا تحصل بعد كراهته، فأخبرنا هل مارس علم الكلام جميع أئمة الفقه؟ كمالك والشافعي وأبي حنيفة، وأئمة العربية كالخليل وسيبويه، وأئمة اللغة والقراءات والتفسير، وسائر أئمة الفنون الإسلامية؟
فإن قلت: كل أهل الفنون قد مارس علم الكلام، كانت مباهتة! وإن قلت: بعضهم قد مارس فكذلك بعض المحدثين قد مارس علم الكلام، ولم ينفعهم ذلك عندك من جمود الفطنة، وداء البله، فلزم ذلك كل من شاركهم في هذا من أئمة العلوم الإسلامية، وما أقبح ما يجر إليه هذا الكلام من الكبر الفاحش! فإن الكبر غمص الناس، كما ورد في الصحيح وهذا غمص أئمة الناس، ووجوه الخواص.
الثاني عشر: تصريك بوصم شيخ الإسلام، وإمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه بأنه جامد الفطنة، دليل على أنك أنت جامد الفطنة، الطويل البطنة، وأنك لا تدري ما يخرج من رأسك، ولا ما يطيش من دماغك. كأنك لم تعلم أن الأمة أجمعت على أنه أحد أئمة المسلمين المجتهدين، وشيخ سنة سيد المرسلين، وأنها خضعت بين يديه كراسي [العلماء] التابعين، وقد جاء في الأثر: «إن الرجل إذا حفظ الزهراوين جد فينا».
وجاء في تعظيم العلماء والمتعلمين ما لا يتسع له هذا المكان من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ولو لم يكن من ذلك إلا ما ورد من بسط الملائكة أجنحتها لطالبه؛ لكانت كافية في رفع منار صاحبه، وتعظيم قدر مناقبه، وهذا في حق الطالب المتعلم؛ فكيف العالم المعلم؟ فكيف يا سيال الذهن بشيخ الإسلام وإمام دار هجرة المصطفى عليه السلام، الذي قال فيه الشافعي: «إذا ذكر العلماء فمالك النجم». وكيف لم يهتد ذهنك هذا السيال إلى أنه عار عليك أن تذم من لا تستفيد بذمه إلا كشف الغطاء عن حماقتك، وخلع جلباب الحياء عن وجه خلاعتك، وما أحسن في جوابك مما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أتهجوه ولست له بكفء ** فشركما لخيركما الفداء
الثالث عشر: أن أهل الحديث لم يختصوا بترك تأويل آيات الصفات وأحاديث الصفات، والإيمان بمراد الله تعالى منها، والنهي عن الخوض في الكلام، بل قد شاركهم في ذلك وفي بعضه كثير من خواص علماء الكلام المشاهير بصفاء الأذهان ولطافة الأفهام. وقد نقل النووي ذلك عن جماعة من المتكلمين، واختاره جماعة من محققيهم، هذا لفظ النووي ذكره في شرح مسلم كما قدمنا في الوهم التاسع.
وقال الحجة أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء -وقد ذكر علم الكلام ما لفظه-: «وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق، ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف؛ ولعل التحبيط والتضليل فيه أكبر من الكشف والتعريف. وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد الوصول إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام، وتبين أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الطريق مسدود. نعم لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام» انتهى كلام الحجة في الإحياء.
وله [في] كتاب المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال مثل هذا في ذم الكلام، والقول بأن أدلته لا تفيد اليقين.
وقال أيضا في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة وقد ذكر علم الكلام ما لفظه: «ولو تركنا المداهنة لصرحنا بأن الخوض في هذا العلم حرام».
فهذه نصوص الغزالي الذي قيل فيه: لم تر العيون ولا بعده أذكى منه. وذكر شيخ الاعتزال أبو القاسم البلخي الكعبي [العامة] في كتابه المقالات وأثنى على عقيدتهم، وعدهم فرقة مستقلة وقال: هنيئا لهم السلامة، وذكر الإمام المؤيد بالله -أجل علماء الزيدية، وشيوخ علم النظر-: كراهة التعمق في علم الكلام، ونهى عن ذلك، وحث على الاشتغال بالفقه، وطول الكلام في ذلك، ذكره في كتاب الزيادات، وكان يحيى بن منصور الحسني من علماء الكلام على مذهب الزيدية؛ فرجع عن ذلك وكان ينهى عنه، وله في ذلك أشعار حسنة منها قوله:
وما الذي ألجأهم إلى الخطر ** والخوض في علم الكلام والنظر
وما يقال فيه للمخطي كفر
ومنها قوله من قصيدة طويلة:
ويرون ذلك مذهبا مستعظما ** عن طول أنظار وحسن تفكر
ونسوا غنى الإسلام قبل حدوثهم ** عن كل قول حادث متأخر
ما ظنهم بالمصطفى في تركه ** ما استنبطوه ونهيه المتقرر
أيكون في دين النبي وصحبه ** نقص؟ فكيف به ولما يشعر
أوليس كان المصطفى بتمامه ** وبيانه أولى فلم لم يخبر
ما باله حتى السواك أبانه ** وقواعد الإسلام لم تتقرر
إن كان رب العرش اكمل دينه ** فاعجب لمبطن قوله والمظهر
إن كان في إجمال أحمد غنية ** فدع التكلف للزيادة واقصر
ما كان أحمد بعد منع كاتما ** لهداية كلا ورب المشعر
بل كان ينكر كل قول حادث ** حتى الممات فلا تشك وتمتر
وقال أيضا:
طلبتك جاهدا خمسين عاما ** فلم أحصل على برد اليقين
فهل بعد الممات بك اتصال ** فاعلم غامض السر المصون
نوى قذف وكم قد مات قبلي ** بحسرته عليك من القرون
ولابن أبي الحديد المعتزلي في ذلك أشعار جيدة ذكرها في شرح نهج البلاغة:
سافرت فيك العقول فما ** ربحت إلا عناء السفر
رجعت حسرى وما وقفت ** لا على عين ولا أثر 6
وقال أيضا من أبيات:
وأسائل الملل التي اختلفت ** في الدين حتى عابدي الوثن
فإذا الذي استكثرت منه هو الـ ** جاني علي عظائم المحن
فضللت في تيه بلا علم ** وغرقت في بحر بلا سفن
قال إمام الكلام والمتكلمين فخر الدين بن الخطيب الرازي في وصيته ما لفظه: «أحمد الله بالمحامد التي ذكره بها أفضل ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهداتهم، بل أقول ذلك من نتائج الحدوث والإمكان، فأحمده بالمحامد التي يستحقها للاهوتيته، واستوجبها بكمال إلاهيته، عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب مع جلالة رب الأرباب -إلى قوله- ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى، ويمنع من التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذلك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية».
وذكر في وصيته هذه أنه يدين لله تعالى بدين محمد ﷺ، [وسأل] الله تعالى أن يقبل منه هذه الجملة ولا يطالبه بالتفصيل. ومن شعره في هذا المعنى:
العلم للرحمن جل جلاله ** وسواه في جهلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ** يسعى ليعلم أنه لايعلم
[وله:]
نهاية إقدام العقول عقال ** وأكثر سعي العالمين ضلال
قال القرطبي في شرح مسلم ما لفظه:
وقد رجع كثير من أئمة المتكلمين عن الكلام بعد انقضاء أعمار مديدة وأمداد بعيدة، فمنهم إمام المتكلمين أبو المعالي، فقد حكى عنه الثقات أنه قال: «لقد خليت أهل الإسلام وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهوا عنه، كل ذلك رغبة في طلب الحق وهربا من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، والويل لابن الجويني!». وكان يقول لأصحابه: «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به». وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: أتعلمون أحدا أعلم مني؟ قالوا: لا. قال: أفتتهمونني؟ قالوا: لا. قال: فإني أوصيكم، أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أهل الحديث، فإني رأيت الحق معهم. وقال أبو الوفاء بن عقيل: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب».
قال القرطبي: وهذا الشهرستاني صاحب نهاية الإقدام في علم الكلام وصف حاله فيما وصل إليه من الكلام وما ناله، فتمثل بما قاله:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ** على ذقن أو قارعا سن نادم
ثم قال: «عليكم بدين العجائز، فإنه أسنى الجوائز». انتهى ما حكاه القرطبي.
فانظر إلى أمر [أعلام] البرهان، وفرسان هذا الشأن، كيف رجعوا القهقرى إلى ما قاله علماء الأثر وأئمة السنة، فإذا عرفت هذا تبين لك أن اختيار أهل الحديث لترك الكلام والتأويل ليس يلازم البله وجمود الفطنة، وأنه ربما ذهب إلى ذلك من هو ألطف منك طبعا، وأصلب نبعا، وأحسن فهما، وأغرز علما.
الرابع عشر: أن ذلك إنما يلازم البله وجمود الفطنة، لو كانوا قد بذلوا جهدهم في تفهم علم الكلام، وتعلم أساليب أهل الجدال، فكل منهم الجد، ولم يساعدهم الجد، ليس كذلك الأمر، فإنهم إنما تركوه لما ورد في القرآن من الأمر بالاقتداء برسول الله ﷺ، وذلك يقتضي الاقتداء في فعل ما كان يفعله وترك ما كان يتركه، ولما ورد في الصحيح من النهي عن البدع، والأمر بالاقتداء بالخلفاء الراشدين، كما روى الترمذي وحكم بصحته عن النبي ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» الحديث. وكذلك روى الترمذي مرفوعا: «ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدال»، وفي صحيح مسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم».
قال [القرطبي]: «وهذا الخصم المبغوض عند الله هو الذي يقصد بمخاصمته: مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة نبيه، وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية ومناقشات لفظية، يرد بسببها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها. ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال، لا يرتضيها البله ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر والأكوان والأحوال، لأنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح، ولم يؤخذ عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى وتعديدها وإيجادها في أنفسها، وأنها هي الذات أو غيرها؟».
إلى قوله: «إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر صاحب الشرع بالبحث عنها، وسكت أصحابه ومن سلك سبيلهم عن الخوض فيها، لعلمهم أنها بحث عن كيفية ما لم يعلم كيفيته، فإن العقول لها حد تقف عنده وهو: العجز عن التكييف لا تتعداه، ولا فرق بين البحث في كيفية الذات وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير: {ليس كمثله شيء وهو السميع العليم}، ولا تبادر بالانكار فعل الأغبياء الأغمار، فإنك قد حجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها، وعن كيفية إدراكاتك مع أنك تدركها، وإذا عجزت عن إدراك كيفية ما بين جنبيك؛ فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز. وغاية علم العلماء، وإدراك عقول العقلاء الفضلاء؛ أن يقطعوا بوجود فاعل لهذه المصنوعات، منزه عن صفاتها، مقدس عن أحوالها، موصوف بصفات الكمال اللائق به بتمامها، فما أخبرنا الصادقون عنه بشيء من أسمائه وصفاته قبلناه واعتقدناه، وما لم يتعرضوا له؛ سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه. هذه طريقة السلف، وما سواها مهاو وتلف»
ثم أورد ما جاء عن الأئمة والسلف من النهي عنه.
والقصد بإيراد هذا الكلام أن يظهر لك أن القوم لم يتركوا علم الكلام لدقته وغموضه، وإنما تركوه لما نصوا عليه من ثبوت النهي عنه عندهم، وكونه غير مفيد اليقين في الخفيات، ولا يحتاج إليه في الجليات. وقد نص على هذه العلة كثير من المتكلمين كما قدمنا.
وقد خاض في علم الكلام غير واحد من المحدثين كابن تيمية والشيخ تقي الدين، فبلغوا في التدقيق وراء مدارك الفطناء من أئمة الكلام، كما يعرف ذلك من رأى كلامهم، وردوا على المتكلمين ودققوا مع المدققين.
وإنما أول القرطبي النهي عن الجدال؛ لأن الموجب لتأويله نص القرآن في قوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} وقوله تعالى في الحكاية عن قوم نوح عليه السلام: {يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} ونحو ذلك. وإنما يكون المكروه منه نوعان:
أحدهما: المراء به واللجاج الذي يعرف صاحبه أنه غير مفيد، وربما عرف أنه مثير للشر، والفرق بينه وبين الجدال بالتي هي أحسن: أن يكون المجادل بالتي هي أحسن قاصدا لإيضاح الحق، أو طامعا في اتباع خصمه لا يقبل، ولم يكن له مقصد إلا غلبة الخصم، ومجرد الظهور عليه، ملاحظة لحظ النفس في ذلك فقد صار مماريا وداخلا في المنهي عنه.
وثانيهما: أن ينتصر للحق بالخوض في أمور يستلزم الخوص فيها الشكوك والحيرة والبدعة، ولا يقتصر -في الانتصار للحق- على أساليب القرآن والأنبياء عليهم السلام والسلف الصالح رضي الله عنهم، وإنما كره الانتصار للحق بتلك الطريقة لما أشار إليه كثير من محققي علم الكلام: من أنها خوض في محارات العقول، وبحث في غوامض تلتبس العلوم فيها بالظنون، وسير في متوعرات مسالك تزل فيها أقدام الحلوم.
ألا ترى أنهم قد خاضوا في الروح مع قوله تعالى: {ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} مع عدم الحاجة إلى الخوض فيه؛ لأن معرفته غير واجبة كمعرفة الله تعالى، وقد حاولوا تأويل الآية ليتنزهوا عن دعوى ما لا يعلمون، فجمعوا بين خطر تأويل القرآن بغير قاطع، ولغير موجب، وبين خطر دعوى علم ما لم يثبت على دعواه برهان قاطع، وقد قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}.
فهذا وأمثاله هو الذي كره أهل الحديث الخوض فيه، رغبة في الاقتداء برسول الله ﷺ، بأصحابه والتابعين لهم رضي الله عنهم، وأمساكا عن التهور في مهاوي دعاوى العلوم في مواضع الظنون، لا لما وصمهم به المعترض من البله وجمود الفطنة، ولهذا الكلام تتمة تأتي في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى تشتمل على معرفة كيفية النظر في معرفة الله تعالى عند المحدثين، وبماذا يعامل به أهل الفلسفة وأمثالهم متى أوردوا الشبه الدقيقة على المسلمين.
الوهم الثالث عشر: أراد المعترض أن يحتج على أن الأشعرية وأهل الحديث كفار تصريح لإنكارهم ما هو معلوم من ضرورة الدين، وذكر أشياء: منها: زعم أنهم ينكرون أن لنا أفعالا وتصرفات.
الجواب: أن هذا مجرد دعوى عليهم من غير بينة، بل بهت لهم ومصادمة لنصوصهم. ولنا في بيان براءتهم في ذلك طريقان:
الطريق الأولى: نقل براءتهم عن ذلك من أشهر كتب الزيدية، وهو شرح الأصول الذي هو مدرس الزيدية، ومدرس هذا المدعي لهذه الدعوى الفرية فنقول:
قال السيد أحمد بن أبي هاشم مصنف الشرح في أوائل الفصل الثاني في العدل -ما لفظه-: «يبين ما ذكرناه ويوضحه أن أحدنا لو خير بين الصدق والكذب، وكان النفع بأحدهما كالنفع بالآخر، وهو عالم بقبح الكذب، مستغن عنه، عالم باستغنائه عنه، فإنه قط لا يختار الكذب على الصدق». إلى قوله ما لفظه: «فإن قالوا هذا بناء على أن الواحد منا مخير في تصرفاته، ونحن لا نسلم ذلك، فإن من مذهبنا أنه مجبر عليه في هذه الأفعال، وأنها مخلوقة». ثم أجاب بأربعة وجوه: قال في الثالث منها ما لفظه: «وبعد فلا خلاف بيننا وبينكم في أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا وأنا مختارون فيها، إنما الخلاف في جهة التعلق: أكسب أم حدوث؟».
فهذا نص صريح لا يحتمل التأويل في مدرس الزيدية يدل على أن القوم يقولون: بأنا مختارون في أفعالنا، وقد تأوله بعض من لا يدري بمذهبهم بأنه أراد بالاختيار هنا: الإرادة فقط مع وقوع الإرادة من غير اختيار، وهذا جهل بقصد المصنف وبمذهب القوم، أما المصنف؛ فإنه قصد نقض جوابهم علينا في التحسين والتقبيح بالجبر وبخلق الأفعال، وبين أن الحجة لازمة على مقتضى مذهبهم، لأنهم لا ينكرون تعلق الأفعال بنا ووقوعها باختيارنا، ألا ترى أنه قال: فإن قالوا هذا بناء على أن الواحد منا مخير في تصرفاته ونحن نسلم ذلك إلى آخر كلامه، ثم نقض هذا عليهم وبين أنه ليس بمذهبهم، فكيف يمكن تأويل هذا على أنه ما روى عنهم القول بالاختيار، وهل هذا إلا محض الجهل أو التجاهل؟ ولو سلمنا أن مقصد هذا المصنف: التبيين، أو أنه لم ينص على ذلك لم يخف مذهب القوم على طالبه، فالقوم مصرحون بمذهبهم في مصنفاتهم كما ترى الآن من الطريق الثانية، والطمع في تعمية مذهبهم ورميهم بما لم يقولوا يزري بصاحبه ولا يضر من رمي به.
الطريق الثانية: وهي المعتمدة المفيدة لمن يحب العلم المتواتر بمقصدهم في مذهبهم، وهي نقل نصوصهم من مصنفات محققيهم الحافلة وتواليفهم الممتعة، فمن ذلك ما ذكره الفخر الرازي في كتاب الأربعين في أصول الدين وفي كتابه نهاية العقول، فإنه ذكر ما معناه: إنهم أربع فرق، فذكر في الكتابين أنه يجمعهم القول بأن العبد غير مستقل بفعله، وذكر في النهاية أيضا أنه يجمعهم القول بأن الاختيار للعبد في فعله، كما سوف نوضح ذلك بالكلام على كل فرقة منهم فنقول:
الفرقة الأولى منهم: هم الجبرية الخلص، وهم الذين يقولون: إنه لا تأثير لقدرة العبد في الفعل ولا في صفة من صفاته، بل الله تعالى يخلق الفعل بقدرته، ويخلق [العبد] قدرة متعلقة بفعله، مقارنة في حدوثها لحدوثه، غير متقدمة عليه، ولا مؤثرة فيه البتة، وهذا قول الأشعري وأتباعه، وجماهير المحققين من المتأخرين على خلاف هذا، قال الرازي في النهاية ما لفظه: قالت المعتزلة: لو كان فعل العبد موجودا بقدرة الله تعالى ما حسن المدح والذم والأمر والنهي. ثم قال: اختلفوا في الجواب على طريقين: الأولى: طريقة الأشعري: أن قدرة العبد غير مؤثرة، وأما الأمر والنهي؛ فلأن الله أجرى العادة بأن العبد متى اختار الطاعة فإنه تعالى يخلق الطاعة فيه عقيب اختياره إياها، وكذلك إن اختار المعصية. وإذا كانت المكنة بهذا المعنى حاصلة لا جرم حسن الأمر والنهي. إلى قوله: إذا كان الأمر كذلك؛ كان التكليف والأمر والنهي إنما كان لأنه [متمكن] من اختيار أحد مقدوريه دون الآخر، وإن لم يكن متمكنا من الإيجاد، لا يقال: ترجيحه أحد تعلقي الإرادة على تعلقها.
الثاني: إن وقع بالعبد فقد اعترفتم بتأثير قدرة العبد، وإن وقع بالله فلا يكون ذلك الترجيح مضافا إلى العبدأصلا، لأنا نقول: إن ترجيح أحد التعلقين على الآخر ليس أمرا ثبوتيا أصلا لا في حق الله تعالى، ولا في حق العبد حتى يلزم من إسناده إلى العبد ما يلزم من الاعتراف بكون قدرته مؤثرة، فإن ذلك لو كان أمرا ثبوتيا لكان وقوعه أيضا بالاختيار فيلزم التسلسل.
فهذا صريح منهم في كتبهم مبين معلل لا يمكن تأويله، وقد أفصحوا بأن مذهب الجبرية الخلص أن العبد مختار، وأنه إنما يستحق الذم والعقاب والأمر والنهي بسوء اختياره، وبهذا يتخلص من قول المعتزلة: إنهم يجوزون على الله العبث والقبيح والظلم لقولهم بخلق الأفعال، وهذا من وجه مثل قول الجاحظ وثمامة بن الأشرس: إنه لا فعل للعبد إلا الإرادة، وهما من أجلاء شيوخ الاعتزال.
وذكر الرازي في هذا الموضع: أن العبد يفعل الاختيار عند الداعي الراجح وجوبا كما يفعل الله الواجب في حكمته، ويترك القبيح في علمه وجوبا عند المعتزلة، ولا ينافي ذلك الوجوب ثبوت الاختيار، قال: ولا يصح للمعتزلة أن يلزموهم نفي الاختيار بذلك لوجهين: أحدهما أن الداعي عند المعتزلة غير موجب؛ وثانيهما أنهم يقولون بمثل ذلك في حق الله تعالى في أفعاله الواجبة عندهم، ولم يقتض ذلك أنه تعالى عندهم غير مختار.
قلت: بل يقولون بذلك في حق العبد في غير موضع: منها في احتجاجهم على ثبوت التحسين والتقبيح عقلا، وقولهم: إذا خير العاقل بين الصدق والكذب وكان النفع فيهما سواء اختار الصدق وجوبا، بل يقولون بذلك في جميع أفعال العباد كما أشار إليه الرازي في احتجاجهم على أن لنا أفعالا وتصرفات، فإنهم احتجوا على ذلك بأنها تقع عند [وجود] دواعينا أو تنتفي عند وجود صوارفنا.
وقد ذكر الرازي أن هذا هو مقصود القائلين بأن الداعي موجب لأنه لو لم يكن موجبا لم يكن ما ذكروا دائما، ولكان اتفاقيا أو أكثريا، ولو كان كذلك لم يكن حجة لهم. وأما قولهم: إنه وجوب استمرار لا وجوب اضطرار فقد صرح القوم بمعنى ذلك، فإنهم صرحوا بأن معنى ذلك الوجوب لا ينافي الاختيار، بل قال الرازي: إن القول بأنه ينافي الاختيار خروج من الإسلام، لأنه يستلزم ذلك في حق الله تعالى، وينبغي معرفة هذه النكتة فعليها المدار، وقد قال الرازي: إن الجبر حق، وفسر الجبر بوجوب وقوع فعل العبد عند رجحان الداعي لانتفاء الاختيار، وصرح في غير موضع بأن القول بوجوب الفعل عند رجحان الداعي لا يوجب نفي الاختيار. فثبت بهذه الجملة أن الجبرية ما أرادوا بالجبر وخلق الأفعال ما فهمته عنهم المعتزلة، ومع تصريحهم بمقصدهم يحرم نسبتهم إلى غيره.
الفرقة الثانية: أهل القول بالكسب من الأشعرية ورئيسهم القاضي أبو بكر الباقلاني، ومعنى الكسب عندهم: أن قدرة الله تعالى مستقلة بإيجاد ذوات أفعال العباد التي لا توصف بحسن ولا قبح، ولا يستحق عليها ثواب ولا عقاب، وقدرة العبد مستقلة بصفات تلك الأفعال التي توجب وصفها بالحسن والقبح، ويستحق عليها الثواب والعقاب.
مثال ذلك: أن أصل الحركة عندهم من الله، وأما كون تلك الحركة متصفة بصفة مخصوصة مثل كونها صلاة أو زنا؛ فذلك أثر قدرة العبد، وهو أقرب الأقوال إلى قول المعتزلة من الطائفة الأولى، لأن أكثر المعتزلة يقولون: إنه لا تأثير لقدرة العبد إلا في صفات الفعل، لكن المعتزلة يقولون أيضا بمثل ذلك في قدرة الله تعالى، فإنها عندهم لا تؤثر إلا في الصفات، فإن الذوات عندهم ثابتة في العدم والقدم، غير موجودة ويفرقون بين الثبوت والوجود، بل المعتزلة يقولون: إن الصفة بنفسها غير مقدورة، بل المقدور جعل الذات عليها، والقصد: [بيان] أن المعتزلة قد شاركوا هذه الفرقة في القول بأن ذوات أفعال العباد غير مقدورة لهم، فالذي قالت هذه الفرقة من الأشعرية: إنه مخلوق من أفعال العباد، وهو الذي قالت المعتزلة: إنه ثابت في العدم والقدم، وإنه غير مقدور لا للخالق ولا للمخلوق.
قالت هذه الفرقة من الأشعرية: ونحن نقول ببعض ما قالت المعتزلة فنقول: إن العبد غير مؤثر في ذات الفعل، وهذا صحيح عند المعتزلة. ونقول: إن العبد مؤثر في صفة الحسن والقبح، وهذا صحيح عند المعتزلة، ونقول: إن العبد مؤثر في صفة الحسن والقبح، وهذا صحيح عندهم أيضا، فإن جلة المعتزلة قد أقرت أن الأفعال لا تحسن وتقبح لذواتها بل لوقوعها على وجوه واعتبارات، وذلك لأن ذوات أفعال العباد واحدة، فإنها كلها راجعة إلى كونها حركة أو سكونا؛ بل عند الفريقين من المعتزلة والأشعرية أن الحركة والسكون راجعان إلى معنى واحد، وهو لبث المتحيز في الجهة لكون السكون لبث المتحيز وقتين فصاعدا، والحركة لبث المتحيز في جهة عقيب لبثه في جهة أخرى، ولهذا سموا لبثه في أول وجوده إذا انتقل أو عدم في الوقت الثاني كونا مطلقا، ويعنون بذلك: أنه ليس بحركة لأنه لم يكن لبث قبل ذلك في جهة أخرى وهذا شرط سميته حركة، وليس بسكون لأنه لبث أقل من وقتين، فإذن أفعال العباد كلها راجعة إلى شيء واحد، وهو اللبث في جهة.
قال الرازي في تلخيص ذلك: إن الحركة هي الكون في الجهة الثانية في الوقت الأول، والسكون هو الكون في الوقت الثاني في الجهة الأولى، فبهذا تعرف أن الأفعال لا تحسن ولا تقبح لذواتها، لأنه يلزم أن تكون حسنة قبيحة معا، ويلزم أن يقبح غير الأجسام والألوان من أفعال الله تعالى، ويرد على المتكلمين في قولهم: إن المرجع بالحركة إلى اللبث إشكالات صعبة قد أشار الرازي في كتبه إلى بعضها، والذي ألجأهم إلى ذلك: القول بأن الحركة والسكون ثبوتيان، وأن واحدهما ليس بعدمي، كما يعرفه من نظر في كتبهم.
فإذا عرفت هذا عرفت أن ما ذكره [القاضي] أبو بكر الباقلاني لازم للمعتزلة ولجميع المتكلمين، وذلك لأن لبث المتحيز في جهة ما ضروري لا يمكن العبد أن يختار غيره، فثبت أنه فعل الله تعالى. وقد ثبت عندهم أن أفعال العباد كلها راجعة إلى لبث المتحيز في جهة، فثبت أن ذوات أفعال العباد فعل الله تعالى، وإنما يقع اختيارهم على اكتساب ذلك الفعل بهيئات مخصوصة، وإيقاعه على مقاصد متغايرة هي منشأ الحسن والقبح، والأمر والنهي، والثواب والعقاب، والذي اختصت به المعتزلة دون القاضي [أبي] بكر أنها قالت: إن قدرة العبد تؤثر في صفة وجود فعله وفي سائر صفاته، والقاضي قال: تؤثر في صفة الحسن والقبح دون صفة الوجود، لكن المعتزلة تقول: إن صفة الوجود ليست منشأ الحسن والقبح، والأمر والنهي، وإنما منشأها صفة الحسن والقبح الذي ذكر القاضي أنها من آثار قدرة العبد، فثبت أنهم قد اتفقوا في موضع يوجب الاتفاق فيه ترك التأثيم، فتفهم ذلك فهو سر المسألة.
الفرقة الثالثة من الأشعرية: الذين قالوا: قدرة العبد تؤثر [بمعين]. قال الرازي: ويشبه أن يكون هذا قول أبي إسحاق الإسفرايني، وهو أقرب إلى الاعتزال من الفرقة الأولى، لأنهم قد أثبتوا لقدرة العبد أثرا في صفة الوجود، وإنما ينكر المعتزلة من قول هؤلاء تجويز مقدور بين قادرين، وقد جوزه شيخ الاعتزال أبو الحسين البصري المتكلم، وإذا اتحد الفعل واختلف الفاعلان جاز أن يحسن من أحدهما لإيقاعه على وجه حسن، ويقبح من الآخر لإيقاعه على وجه قبيح، وقد بسطت ذلك في الأصل ثم اختصرته هنا لوضوحه عند أهل التمييز.
الفرقة الرابعة من الأشعرية: إمام الحرمين أبو المعالي الجويني وأصحابه، وهؤلاء يقولون بمثل قول المعتزلة: إن قدرة العبد تؤثر في ذات فعله، وصفاتها كلها صفة الوجود وصفة الحسن والقبح، بل زادوا على المعتزلة، فإن المعتزلة إنما قالوا بأن قدرة العبد تؤثر في صفة الوجود لا في الذات نفسها، إلا أبا الحسين البصري، فيقول بمثل قول الجويني سواء، لكن هؤلاء يفارقون المعتزلة لقولهم إن العبد غير مستقل بفعله بسبب أن القدرة عندهم لا تؤثر إلا بشرط وجود الداعي، والداعي عند الفرق كلها وعند المعتزلة من الله تعالى، لكن الداعي عند هؤلاء غير مخرج للعبد عن الاختيار، ولكن عندهم أنه يقع الفعل عنده اختيارا قطعا من غير تردد كما تقول المعتزلة في أفعال الله تعالى الوجبة، وفي غيرها ما تقدم بيانه، فهؤلاء قولهم في هذه المسألة [و] قول أبي الحسين البصري من المعتزلة واحد، فإنه أيضا يقول في الداعي بمثل قولهم، فكيف يحسن من المعتزلة تقبيح على الجويني ولا يقبح على أبي الحسين البصري، وينسب الجبر إلى أحدهما دون الآخر؟ وهل هذا إلا محض العصبية؟ ولله من قال:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ** كما أن عين السخط تبدي المساويا
وقد طولت هذه المسألة في العواصم لمسيس الحاجة إلى معرفتها، وأكثرت من الاستشهاد على براءة أهل السنة [من] نفي الاختيار [بما] يكاد يمل الواقف عليه، لما رأيت من كثرة عصبية الفرق [فيها] وتكفير المسلمين وتضليلهم بعضهم بعضا من أجل الاختلاف فيها، والأمر [فيها] قريب كما ترى، فإن الجبرية أقروا بثبوت الاختيار للعبد، والمعتزلة يقرون بأن العبد غير مستقل بالمعنى الذي ذكره الجويني وأصحابه، خاصة أبو الحسين البصري وأتباعه، لكنهم يختلفون في العبارة، ويحتاج العارف بمقاصدهم إلى الجمع بين أطراف كلامهم، والنظر فيها مع الإنصاف والشفقة على المسلمين ولا يكون من القوم الذين قيل فيهم:
أعوذ بالله من قوم إذا سمعوا ** خيرا أسروه أو شرا أذاعوه
ثم المعتزلة بأجمعهم يخالفون في المشيئة ويقولون: المشيئة للعباد في أفعالهم لا لله تعالى، والواقع منها ما شاء العبد لا ما شاء الله، وأهل السنة مجمعون على أن المشيئة لله تعالى في ذلك لا للعبد؛ وهذه في الحقيقة هي مسألة الخلاف لا الأولى، فلو ذكرها المعترض لكان ذلك به أولى، وحين أعرض عن ذكرها أعرضت عنه أيضا لأني مجيب لا مبتدئ، وإنما ذكرت ذلك لئلا يتوهم الواقف على كلامي أني قد سويت بين المعتزلي والسني من كل وجه وجهلت موضع الخلاف بينهما.
وقد رام بعضهم أن يلفق بين الفريقين فقال: إن المعتزلي يقول: إن الله تعالى أراد أن يجعل للعباد مشيئتهم ويمضي لهم مرادهم، وتلخيصه: أن المعتزلة تقول: إن الله تعالى أراد أن تكون دار التكليف دار تخلية بين المكلفين وبين ما أرادوا، فكأنه قد أراد ما أرادوا، فلهذا لم يكن مغلوبا سبحانه وتعالى. وفي هذا نظر [ليس هنا] موضع ذكره. وخلاصته: أن المعتزلة يجيزون تعارض إرادة الله وإرادة العبد في الفعل المعين، ويوجبون تأثير إرادة العبد دون إرادة الله في ذلك الفعل، وأهل السنة يمنعون ذلك، فلا يمكن التلفيق بين أقوالهم في هذه المسألة، وإنما يمكن توجيه كلام أهل السنة بما ذكره الذهبي في ترجمة عكرمة من كتاب الميزان فإنه روى عن عكرمة أنه سئل: لم أنزل الله المتشابه؟ فقال: ليضل به. قال الذهبي: «ما أخشنها من عبارة وأقبحها! أنزله ليضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، وما يضل به إلا الفاسقين».
وإذا أخرج الشيء هذا المخرج وعلل بالعلل المعقولة لم يبعد منه المعتزلي. وقد أوضحت في غير هذا الموضع لأهل السنة في ذلك من الوجوه ما يوجب على المعتزلي موافقتهم مع بقائه على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وهو من النفائس، ولا تخفى مواقعه على الفطن في كتاب الله [مثل قوله] تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} ومثل قوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين} وغير ذلك. ولا بد في هذه المسألة للسني والمعتزلي من الرجوع إلى محض التسليم للشريعة وترك محض التحسين والتقبيح العقلي في بعض المواضع الدقيقة التي يجوز غلط العقل فيها لحيرته وتبلده، وعدم نفوذ نظر بصيرته فاعلم ذلك.
الوهم الرابع عشر: وهم أنهم أنكروا القدر الضروري في شكر المنعم، وليس كذلك، فإنهم في تلك المسألة المرسومة في الأصول إنما نازعوا في وجوب شكر المنعم الذي هو الله تعالى من جهة العقل، مع اعترافهم بوجوبه شرعا، وقطعهم بكفر من قال: بأن شكر الله لا يجب، لكنهم نازعوا في معرفة العقل لذلك في حقه تعالى قبل الشرع، لأنه تعالى غني عن شكرنا [لأنه] لا يمكن أن ينتفع به، ولا يتضرر بتركه، مع أن في فعل الشكر مضرة على العبد ناجزة لما في المحافظة عليه من المشقة، قالوا: فلو خلينا وقضية العقل، لم نقطع بوجوب ما هذه صفته، قال الجويني في البرهان ما لفظه: «والبرهان القاطع في بطلان ما صاروا إليه: أن الشكر تعب للشاكر ناجز، ولا يفيد المشكور شيئا، فكيف يقضي العقل بوجوبه؟» انتهى.
فإن قلت: قد خالفوا في وجوب شكر المنعم في الشاهد عقلا، فقد دفعوا الضرورة العقلية.
قلت: ليس كذلك، فإنهم يعرفون ما في الطبيعة من استحسان الشكر واستقباح نقيضه، وإنما نازعوا في استحقاق الذم عليه عاجلا والعقاب آجلا، وعلى فعل ما استقبحه العقل، مع اعترافهم أنه صفة نقص لا تجوز على الله تعالى، ولهذا نصوا: أن العقل يدرك تنزيه الله تعالى عن الكذب لأن الكذب صفة نقص، وإنما موضع النزاع فيما يستحقه فاعل صفة النقص عقلا قبل ورود الشرع، وهذا هو موضع الخلاف في مهمات مواضع 7 التحسين والتقبيح العقليين كما ذكره الرازي من الأشعرية، والإمام يحيى بن حمزة من الزيدية ذكره في كتاب التمهيد.
الوهم الخامس عشر: وهم المعترض أن مذهبهم القول بجوار تكليف ما لا يطاق؛ وليس كذلك. فلم يذهب إلى هذا منهم إلا الأشعري والرازي، على اختلاف شديد في نقل مذهب الأشعري في ذلك. وقد صرح الرجال برد هذا المذهب، ونقض شبه من ذهب إليه. وقد ذكرت آنفا أنه لو لزمهم مذهب من ينسب إليهم للزم المعتزلة والزيدية كثير من المذاهب الباطلة. وقد رد الغزالي على من قال بذلك، وبالغ الجويني في البرهان في إبطال هذا القول، وكذلك ابن الحاجب في مختصر المنتهى، وكذلك شراحه من الأشعرية. وذلك معروف في مواضعه فلا نطول بنقل ألفاظهم فيه.
الوهم السادس عشر: وهم المعترض أنهم قد دفعوا الضرورة في تجويز تعذيب الأطفال بذنوب آبائهم، وليس كذلك لوجهين:
الوجه الأول: أنهم لم يجمعوا على القول بهذه المسألة، فنسبتها إلى جميعهم غير صحيحة. قال الإمام النووي في شرح مسلم وقد ذكر الأقوال في أطفال المشركين حتى قال ما لفظه: «وثانيها: الوقف، وثالثها: ما ذهب إليه المحققون: أنهم من أهل الجنة، ويستدل لهم بأشياء منها: حديث إبراهيم الخليل ﷺ «حين رآه النبي ﷺ في الجنة وحوله أولاد الناس قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين». رواه البخاري في صحيحه. وروى أنس عن النبي ﷺ أنه قال: «سألت ربي اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم فأعطانيهم، فهم خدم أهل الجنة» يعني الأطفال، وليس في إسناده إلا يزيد بن أبان الرقاشي الصالح المشهور، وهو من أهل الورع والتقوى، وفي حفظه شيء يسير، فقد قال الحافظ ابن عدي فيه: أرجو أنه لا بأس به، وقد تابعه عبد الرحمن بن إسحاق، وهو أيضا وإن ضعفه بعضهم فقد قال النسائي وابن خزيمة: ليس به بأس، فهذا مع حديث البخاري وظاهر القرآن يتعاضد. ومنها قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
ثم تكلم في نصرة هذا المذهب، 8 وذكر تأويل الأحاديث التي تخالفه. وقد أجابوا بأنها كلها ضعيفة إلا حديث سلمة بن يزيد الجعفي فإنه صحيح الإسناد لكنه غير عام فإنه نص في موءودة بعينها فاحتمل التأويل، وذلك أنهم سألوا النبي ﷺ عنه أخت لهم ماتت في الجاهلية موءودة لم تبلغ الحنث فقال: «إنها في النار». قال السبكي: فإن كان لهذا الحديث علة لم نحتج إلى جواب، وقد قيل: إنه ﷺ اطلع عن أن سن تلك الموءودة بل التكليف، ولم يلتفت إلى قول السائل: لم تبلغ الحنث لجهله، ويكون التكليف في ذلك الوقت منوطا بالتمييز والسائل لجهله، ليس ذلك عنده من الأمور المحتاج إليها في تلك الحال فيبينه فيها. هذه خلاصة كلام أهل هذا المذهب، وهم المحققون من أهل السنة كما قال النووي رحمه الله.
فثبت بنقل إمام المحدثين أن المحققين منهم لا يقولون بتعذيب الأطفال، وإلى ذلك مال الإمام السبكي في جزء ألفه في هذه المسألة. وكذلك الغزالي في كتاب القسطاس المستقيم قال ما لفظه: «وأنت تعلم أن الله تعالى ينزل الصبيان إذا ماتوا منزلا من الجنة دون منازل البالغين»، هذا لفظه في كتابه المذكور، وهو مشهور عند الأشعرية. وقال القاضي أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي في شرح الترمذي: إن حديث رؤية النبي ﷺ لإبراهيم قوي، وحديث: «عصفور من عصافير الجنة» قد غمزه الحفاظ، وحديث «هم من آبائهم»، يعني في إهدار دمهم فإنهم سألوه: إنا نغير على المشركين فنصيب من أولادهم، فقال: «هم من آبائهم» يعني في إهدار الجناية عليهم، وهذا بين لا إشكال فيه». هذا لفظه. وقال أيضا في الترجيح بين الأخبار في ذلك: «أما حديث: «كل مولود يولد على الفطرة» فيعضده المشاهدة والأدلة العقلية. إلى قوله: «وقد يكون في أولاد المشركين مؤمن، وفي أولاد المؤمنين كافر، ويحكم الباري فيهم بعلمه، وهذا بين من التأويل لا يتطرق إليه إشكال ويرفع جهل الجهال»، وكلامه في هذا يرد 9 على الخصم، حيث زعم أنهم يعللون تعذيب الأطفال بكفر الآباء وينكرون الأدلة العقلية، وأما من أجاز ذلك، ولم يتأول الأخبار من أهل العلم منهم؛ فإنهم لم يجيزوا تعذيب الأطفال لأجل ذنوب آبائهم، بل افترقوا في تعليل ذلك فرقتين:
الفرقة الأولى: أهل الجمود منهم، وترك الخوض في الكلام، وهؤلاء يجوزون أن في حكمة الله وعلمه المكنون من أنواع الحكم ما لا تدركه العقول، فيجوز عندهم أن يكون ذلك على ظاهره، ويكون لله تعالى من الحكمة فيه ما يحسن معه، وإلى هذا أشار ابن الجوزي بقوله في وصف الله تعالى: «بث الحكم فلم يعارض بلم»، وقوله في ذلك: «خرست في حضرة القدس صولة لم، فأقدام الطلب واقفة على جمر التسليم».
وربما ذكر الفطناء منهم وجوها من حكمة الله تعالى في ذلك على سبيل التمثيل والتقريب. منها: أن الله تعالى قد خلقهم فيما مضى، وخلق عقولهم وكلفهم وعصوا، ويحتجون على ذلك بحديث إخراج ذرية آدم من ظهره على صورة الذر، وبه فسروا قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}.
ويحتجون أيضا بما رواه البخاري عن قيس بن حفص، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس يرفعه: «إن الله عز وجل يقول لأهون أهل النار عذابا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم. قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا، وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي؛ فأبيت إلا الشرك» أخرجه البخاري آخر الجزء الثاني عشر من تجزئته، وهو في الجزء الثاني من أربعة أجزاء.
في الصحيحين شاهد لهذا عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة» الحديث، وهو دليل على أن الله تعالى قد خلق الخلق فيما مضى مرة أوله، وهذا غير ممتنع في مقدور الله تعالى، وهو على كل شيء قدير.
وأما قوله تعالى في الآية: {قالوا بلى} فلا يدل على إسلام جميع ذلك الخلق الأول لوجوه:
أحدها: ما ذكره ابن عبد البر وغيره في تفسير قوله تعالى: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها}، فإنهم فسروا إسلام أهل الأرض كلهم بذلك وقالوا: إن أهل السعادة قالوا ذلك عن معرفة له طوعا، وأهل الشقاوة قالوا ذلك كرها، وهذا وجه وجيه.
الوجه الثاني: أنه يجوز أنهم قالوا ذلك ثم عصوا بعد قوله.
الوجه الثالث: أنه يجوز أن يكون القائل بذلك بعضهم، وتكون الآية من العام الذي أريد به الخاص، وتخصيص العموم بالسنة جائز إجماعا.
وأما قوله تعالى: {من بني آدم} فيحتمل أنه أخرج من صلب آدم أولاده لصلبه، ثم أخرج من صلب كل واحد منهم أولاده، على أن دلالة الأحاديث على المقصود لا [تتوقف] على تفسير الآية بذلك؛ فإن الأحاديث صريحة في ذلك والآية محتملة، وهذا هو أحد الاحتمالين في قوله ﷺ وقد سئل عن الوجه في تعذيب أطفال المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، وفيه إشارة إلى أنهم عذبوا بعمل، وأنه وكل العلم به إلى الله تعالى.
الاحتمال الثاني: أنها تؤجج لهم نار فيقال: «ردوها فيردها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل، فيقول الله: إياي عصيتم، فكيف رسلي لو أتتكم».
قال السبكي: رواه أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ. ومن الناس من يوقفه على أبي سعيد. وروي معناه من حديث أنس ومعاذ والأسود بن سريع وأبي هريرة وثوبان، كلهم عن النبي ﷺ. وذكر عبد الحق في العاقبة حديث الأسود وصححه، ورواه أحمد في مسنده من حديث الأسود وأبي هريرة. قال السبكي: «وأسانيدها صالحة».
وقد اعترض صحتها بعض أهل الأثر برأي عقلي ضعيف، وقد أوضحته في العواصم.
ومما يمكن تقديره في ذلك على قواعد المعتزلة والأشعرية وأهل الحديث وجوه:
منها: أنهم يدخلون النار ثم يخرجون منها، ويكون لهم على ألمهم من النار أعواض عظيمة ينالونها في الجنة، ويكون ذلك مثل إيلامهم في الدنيا وهم صغار، وهذا يصح على قول طائفة من المعتزلة وهم الجبائية أصحاب شيخ الاعتزال أبي علي فإنه كان يذهب إلى أنه يحسن من الله تعالى أن يؤلم من لا ذنب له لأجل العوض من دون اعتبار، ومنع أبو هاشم وأصحابه من ذلك إلا مع الاعتبار، وتعذيب الأطفال على هذا الوجه ممكن على قول هذه الطائفة أيضا، فإنه يمكن أن يخلق الله خلقا في تلك الحال، مكلفين غير عالمين علما ضروريا بالآخرة، ويعلمهم علما استدلاليا بذلك الألم الذي ابتلي به الأطفال، ويعلمهم بما أعد لأهل البلاء من عظيم النوال، بل يجوز أن يكون الاعتبار بذلك حاصلا لنا اليوم لعلمنا أو علم بعضنا بذلك في المستقبل.
ومنها: أنه يحتمل أن الأطفال إذا ماتوا أكمل الله عقولهم قبل الموت، وأمرهم فعصوه فماتوا.
ومنها: أنه يجوز إذا ماتوا أحياهم الله تعالى مرة ثانية قبل يوم القيامة؛ إما في غير هذه الدار، أو فيها، ولا نعلم أنهم هم، ثم يكمل عقولهم ويكلفهم، ولا يكون موتهم الأول مضطرا لهم إلى الطاعة، إما لعدم تمام عقولهم، أو لأنهم لم يروا فيه شيئا من أمور الآخرة، وإنما كان مثل النوم.
ومنها: أنه يجوز أن يدخلوا النار ولا يتألمون بها كما يكون فيها الحيات، وكما يكون فيها الخزنة من الملائكة عليهم السلام، وكل هذه الوجوه محتملة على مذهب المعتزلة.
فإن قيل: إن المعتزلة لا يجيزون الخروج من النار، والوجه الأول منها مبني على ذلك.
قلت: إنما يمنعون خروج من دخل النار معاقبا، أما من ليس بمعاقب كالحيات، وخزنة النار؛ فلا يمنعون ذلك، وإنما قصدت بذكر هذه الوجوه إطلاع المعتزلي على أن وجوه حكمة الله تعالى أوسع من أن يقطع المتكلم على عدم ما لم يعلم منها، فإن هذه المسألة أقبح ما ينسبه المعتزلي إلى الأشعري، والمحدث، ويعتقد أنه لا يمكن أن يكون لها تأويل على قواعد المعتزلة، وقد بان بهذا أنه لا يلزم من تجويز هذه المسألة تجويز الظلم على الله جل جلاله، وعظم شأنه، ولا يلزم من قال بها إنكار المعلوم بالضرورة.
فهذا الكلام انسحب من ذكر فرقة أهل الجمود من أهل الحديث، وأما فرقة 10 أهل الكلام من الأشعرية فإنهم يثبتون الكلام في هذه المسألة على قواعدهم في التحسين والتقبيح، وقد مرت الإشارة إلى نكتة منه، وتمامه مذكور في كتبهم البسيطة مثل: نهاية العقول للرازي، وغيرها، ومن وقف عليه علم أن بطلانه غير معلوم بالضرورة، وأنه لا يتمكن من الجواب عليهم فيه إلا خواص المتبحرين في الكلام، فكيف يدعي المعترض أنهم كذبة يتعمدون الكفر مع علمهم بذلك؟ على أنه في هذا خالف سلفه من أهل البيت، وشيوخه من المعتزلة، فقد بينا فيما تقدم أنهم نصوا على أن القوم من أهل التأويل والتدين. وقد تركت إيراد كلام متكلمي الأشعرية في التحسين والتقبيح؛ لأن كتابي هذا [كتاب] نصرة للحديث وأهله الواقفين على ما كان عليه السلف، من ترك الخوض في عويص الكلام، ودقيق الجدال.
ومما يدل على تنزيه أهل الحديث مما رماهم به من تجويز التعذيب بذنب الغير أنه لما رود في الحديث: «أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» تأولوا ذلك بأن يكون الميت أوصى بذلك، ذكر ذلك البخاري في صحيحه، وذكره النووي في موضعين: أحدهما: كتاب رياض الصالحين في الرقائق. وثانيهما: كتاب روضة الطالبين في الفقه، ذكره منه في كتاب الجنائز. وقد ذكر الذهبي في ذلك وجها آخر، وهو أن ما يصيب المسلم في قبره من ضمة القبر ونحوها من جملة آلام الدنيا التي يبتلى بها الصالحون، وهو صحيح على أصول المعتزلة، فإن العوض من الله تعالى ممكن في ذلك، وكذلك الاعتبار، فإن المكلفين يعتبرون بذلك حين يعلمونه، وهذا إنما ذكره الذهبي في ضمة القبر لورود النص الصحيح: «أن القبر ضم سعد بن معاذ، وأن العرش اهتز لموته، وأن الله أهبط لموته سبعين ألف ملك»، ومثل هذا الوجه يمكن في جميع ما يلحق المؤمن في القبر، ويوم القيامة، وتأويل البخاري والنووي أكثر ملاءمة لقوله تعالى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر}، {وهم من فزع يومئذ آمنون} ونحو ذلك.
وقد ذكرت في الأصل أنه يحتمل أن يكون سببا لعذاب الميت، والعذاب في نفسه مستحق بذنوب عملها الميت في حال التكليف، وقد جاء في الصحيح: «من نوقش الحساب عذب» ويكون الحكمة في ذلك، وفي الخبر به: الزجر العظيم عن معصية النياحة التي هي من عمل الجاهلية.
الوهم السابع عشر: ذكر المعترض عن الفقهاء أنهم يجيزون إمامة الجائر، وحكى عن ابن بطال أنه قال: الفقهاء مجمعون أن المتغلب طاعته لازمة ما أقام الجمعات والأعياد والجهاد وأنصف المظلوم غالبا، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من تسكين الدهماء وحقن الدماء، ولذلك قال ﷺ: «أطيعوا السلطان ولو كان عبدا حبشيا» ولا يمنع من الصلاة خلفه، وكذلك المذموم ببدعة أو فسق. انتهى إلى قول المعترض: فإذا كان هذا مذهب القوم عرفت أنهم كانوا من أئمة الجور، الذين قتلوا الأئمة الأطهار، وأنهم شيعة الحجاج بن يوسف، بل شيعة يزيد قاتل الحسين رضي الله عنه، لأنهم يعتقدون بغي من خرج على المتغلب الظالم، كما صرح به ابن بطال، ويصوبون قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، لأنهم بغاة على قولهم. انتهى كلامه.
والجواب عليه يتم بالكلام على فصول:
الفصل الأول: في بيان أن الفقهاء لا يقولون: إن الخارج على إمام الجور باغ ولا آثم، وهذا واضح من أقوالهم، ويدل عليه وجوه:
الأول: نصهم على ذلك، قال الإمام النووي في الروضة ما لفظه: «الباغي في اصطلاح العلماء هو: المخالف لإمام العدل، الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجب عليه أو غيره» انتهى كلامه. وهو نص في موضع النزاع. وقد حكى هذا عن العلماء على الإطلاق والاستغراق، ولم يستثن أحدا.
الوجه الثاني: أن الكلام في الخروج على أئمة الجور [عندهم] من المسائل الظنية الفروعية التي لا يأثم المخالف فيها، وللشافعية في جواز ذلك وجهان معروفان، ذكرهما في الروضة للنووي، وفي «مجموع المذهب في قواعد المذهب» للشيخ صلاح الدين العلائي، وذكر ذلك غير واحد، ومن المعلوم أن ذلك لو كان حراما قطعا كشرب الخمر، لم يكن لهم فيه قولان.
الوجه الثالث: أن الذهبي صنف كتاب ميزان الاعتدال وشرط فيه أن يذكر كل من تكلم عليه من أهل الرواية للحديث بحق أو باطل، قال: «لئلا يستدرك على كتابه»، فلم يذكر فيه زيد بن علي رضي الله عنهما مع أنه من رجال الكتب الستة، على أنه قل ما سلم أحد من ذكره في هذا الكتاب، حتى إنه ذكر سفيان الثوري وأويسا القرني وجعفر الصادق ويحيى بن معين وأبا حنيفة وعلي بن المديني، وأمثال هؤلاء الأئمة، وإنما ذكرهم لأنه قلما سلم أحد من الكلام بحق أو باطل. فحين لم يذكر زيد بن علي رضي الله عنهما دل ذلك على جلالته، وأن الذهبي على سعة اطلاعه لم يعلم فيه قدحا البتة. وأصرح من هذا أن الذهبي قال في كتابه الكاشف: «إن زيدا رضي الله عنه استشهد» بهذا اللفظ، وهذا نص منه في موضع النزاع، فإن الباغي ليس بشهيد إجماعا.
الفصل الثاني: في بيان أن منع الخروج على الظلمة استثنى من ذلك من فحش ظلمه وعظمت المفسدة بولايته، مثل يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف، وأنه لم يقل أحد منهم ممن يعتد به بإمامة من هذه حاله، وإن ظن ذلك من لم يبحث، لإيهام ظواهر عباراتهم في بعض الموضع، فقد نصوا على بيان مرادهم وخصوا عموم ألفاظهم، فممن ذكره الإمام الجويني فإنه قال في كتاب الغياثي -وقد ذكر أن الإمام لا ينعزل بذلك ما لفظه-: «وهذا في نادر الفسق، فأما إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة؛ فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم، فإن أمكن كف يده وتولية غيره بالصفات المعتبرة، فالبدار البدار، وإن لم يكن ذلك لاستظهاره بالشوكة إلا بإراقة الدماء، ومصادمة الأهوال؛ فالوجه أن يقاس ما الناس مدفوعون إليه مبتلون به بما يفرض وقوعه، فإن كان الناجز الواقع أكثر مما يتوقع؛ فيجب احتمال المتوقع، وإلا فلا يسوغ التشاغل بالدفع، بل يتعين الصبر والابتهال إلى الله تعالى».
ومن ذلك ما ذكره أبو محمد بن حزم في الرد على أبي بكر بن مجاهد المقرئ، فإنه ادعى الإجماع على تحريم الخروج على الظلمة، فرد ذلك عليه ابن حزم، واحتج عليه بخروج الحسين بن علي رضي الله عنهما وخروج أصحابه على يزيد، وبخروج ابن الأشعث ومن معه من كبار التابعين وخيار المسلمين على الحجاج بن يوسف. وقال ابن حزم: أترى هؤلاء كفروا؟ بل والله من كفرهم فهو أحق بالتكفير. ولقد يحق على المرء المسلم أن يزم لسانه ويعلم أنه مجزي بما تكلم به مسئول عنه غدا. قال: ولو كان خلافا يخفى لعذرناه؛ ولكنه أمر ظاهر لا يخفى على المخدرات في البيوت»، ذكره في كتاب الإجماع، رواه عنه الريمي في كتابه عمدة الأمة في إجماع الأئمة.
وقد ذكر هذه المسألة القاضي عياض، وذكر دعوى ابن مجاهد للإجماع، قال القاضي عياض: ورد عليه هذا بعضهم بقيام الحسين بن علي رضي الله عنه وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث، وتأول هذا القائل قوله: «أن لا ننازع الأمر أهله» على أئمة العدل، قال عياض: «وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس لمجرد الفسق، بل لما غير من الشرع، وأظهر من الكفر» انتهى كلامه.
وفيه: بيان اتفاقهم على تحسين ما فعله الحسين رضي الله عنه مع يزيد، وابن الأشعث وأصحابه مع الحجاج، وأن جمهورهم قصروا جواز الخروج على من كان مثل يزيد والحجاج، ومنهم من جوز الخروج على كل ظالم. وفيه أنهم اتفقوا على الاحتجاج بفعل الحسين، ولكن منهم من قصره على مثل يزيد، ومنهم من قاس عليه كل ظالم.
ومن ذلك كلام ابن بطال الذي أورده المعترض، وقد مر، وهو على المعترض لا له، فإنه روى عن الفقهاء أنهم اشترطوا في طاعة المتغلب إقامة الجمعات والأعياد، والجهاد، وإنصاف المظلوم غالبا، ولم يكن يزيد والحجاج بهذه الصفة. والعجب أن المعترض ادعى على ابن بطال أنه نص على ما ادعاه من تصويب يزيد والحجاج وبغي الحسين، ولم يذكر ذلك ابن بطال بمنطوق ولا مفهوم، ولا نص ولا عموم، وهذا كلام من غفل عن معنى النص.
وقال ابن الأثير في نهايته ما لفظه: «فيه أنه ذكر الخلفاء بعده فقال: أوه لفراخ آل محمد من خليفة يستخلف عتريف مترف، يقتل خلفي وخلف الخلف».
قال ابن الأثير: العتريف: الغاشم الظالم، وقيل: الداهي الخبيث، وقيل: هو قلب العفريب الشيطان الخبيث، قال الخطابي: قوله: خلفي [يتأول على] ما كان من يزيد بن معاوية إلى الحسين بن علي وأولاده الذين قتلوا معه، وخلف الخلف: ما كان منه يوم الحرة إلى أولاد المهاجرين والأنصار». انتهى بلفظه من النهاية.
وفيه شهادة على براءة القوم مما رماهم به المعترض من تصويب يزيد الخبيث في قتل الحسين الشهيد. وكيف يقال ذلك وقد نصوا على أن يزيد ظالم غاشم خبيث شيطان، وروى الترمذي في جامعه حديثا وحسنه عن سفينة الصحابي، مولى رسول الله ﷺ، وفيه أيضا لما روى الحديث: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» قال له سعيد بن جمهان: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم، قال: كذبوا [بنو] الزرقاء، هم ملوك من شر الملوك. هذه رواية [الترمذي].
وفي رواية أبي داود قال سعيد: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليا لم يكن بخليفة، قال: كذبت أستاه بني الزرقاء، يعني بني مروان.
وروى الترمذي عن [الحسن] بن علي رضي الله عنهما أن النبي ﷺ أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: {إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر} يملكها بعدك بنو أمية يا محمد. قال القاسم بن الفضل: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما.
ولما ذكر ابن حزم خروم الإسلام عدها أربعة: قتل عثمان، وقتل الحسين، ويوم الحرة؛ ولم يعد قتل عمر ولا قتل علي منها، تعظيما لقتل الحسين وإظهارا لبلوغه من القبح إلى حد فوق حد الكبائر.
وقال الذهبي في النبلاء: «يزيد بن معاوية كان ناصبيا فظا غليظا جلفا، يتناول المسكر ويفعل المنكر، افتتح دولته بقتل الشهيد الحسين رضي الله عنه واختتمها بوقعه الحرة، فمقته الناس، ولم يبارك في عمره، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين رضي الله عنه كأهل المدينة لله» وذكر من خرج عليه.
قال: «وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن مكحول عن أبي عبيدة مرفوعا: «لا يزال أمر أمتي قائما حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد» أخرجه أبو يعلى في مسنده.
وروى عن جويرية عن نافع قال: مشى عبد الله بن مطيع إلى ابن الحنفية في خلع يزيد، وقال: إنه يشرب الخمر، [ويترك] الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب.
وعن عمر بن عبد العزيز قال رجل في حضرته: أمير المؤمنين يزيد، فأمر به فضرب عشرين سوطا».
قال الذهبي في الميزان: «إنه مقدوح في عدالته ليس بأهل أن يروى عنه. وقال أحمد بن حنبل: لا ينبغي أن يروى عنه».
وقال ابن حزم في أسماء الخلفاء آخر السير النبوية ما لفظه: «بويع يزيد بن معاوية إذ مات أبوه، وامتنع من بيعته الحسين بن علي رضي الله عنه وعبد الله بن الزبير بن العوام، فأما الحسين رضي الله عنه فنهض إلى الكوفة فقتل قبل دخولها، وهي ثانية مصائب الإسلام وخرومه؛ لأن المسلمين استضيموا في قتله ظلما وعلانية، وأما عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فاستجار بمكة، فبقي هنالك إلى أن أغزى يزيد الجيوش إلى المدينة حرم رسول الله ﷺ وإلى مكة حرم الله تعالى، فقتل بقايا المهاجرين والأنصار يوم الحرة، وهي ثالثة مصائب الإسلام وخرومه؛ لأن أفاضل الصحابة وبقيتهم رضي الله عنهم وخيار المسلمين قتلوا جهرا ظلما في الحرب وصبرا، وجالت الخيل في مسجد رسول الله ﷺ، وراقت وبالت في الروضة بين القبر والمنبر، ولم يصل جماعة في مسجد رسول الله ﷺ تلك الأيام، ولا كان فيه أحد حاشا سعيد بن المسيب، فإنه لم يفارق المسجد، ولولا شهادة [عمرو] بن عثمان بن عفان ومروان بن الحكم له عند مسلم بن عقبة بأنه مجنون لقتله، وأكره الناس على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أنهم عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق، وذكر بعضهم البيعة على حكم القرآن وسنة رسول الله ﷺ، فأمر بقتله فضربت عنقه صبرا رحمه الله. وهتك يزيد الإسلام هتكا وأنهب المدينة ثلاثا، واستخف بأصحاب رسول الله ﷺ ومدت إليهم الأيدي، وانتهبت دورهم، وحوصرت مكة، ورمي البيت بحجارة المنجنيق، وأخذ الله يزيد فمات بعد الحرة بأقل من ثلاثة أشهر وأزيد من شهرين، في نصف ربيع الأول سنة أربع وستين، وله نيف وثلاثون سنة» انتهى كلام [أبي] محمد بن حزم بلفظه.
وفيه أعظم شهادة لأهل السنة على البراءة من تصويب يزيد والتشيع له. هذا على أن الذهبي ذكر أن ابن حزم قد وصم بالتعصب لبني أمية، فإذا كان هذا كلام من رمي بالتعصب لهم فكيف بمن لم يرم بذلك. على أن كلام ابن حزم هذا يرد على ما رماه بالعصبية، ويشهد له بالسلوك من الإنصاف في طريقة سوية.
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية الكلبي في كتابه العلم المشهور ما هذا لفظه مختصرا: «وفي هذا اليوم -يعني عاشوراء- قتل السيد الأمير، ريحانة رسول الله ﷺ، سيد شباب أهل الجنة: الحسين بن فاطمة البتول يوم الجمعة، وقيل: يوم السبت سنة إحدى وستين بالطف بكربلاء، وهو ابن ست وخمسين سنة، ولما أحاطوا بالحسين رضي الله عنه قام في أصحابه خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: قد نزل بي ما ترون من الأمر، وإن الدنيا قد تنكرت وتغيرت، وأدبر معروفها [وانشمر، حتى] لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، إلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يعمل به، والباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما. وكان عبيد الله بن زياد كتب إلى الحر بن [يزيد]: أن جعجع بالحسين، أي: ضيق عليه، ثم أمده بعمر بن [سعد] المتكفل بقتال الحسين رضي الله عنه حتى ينجز له عبيد الله الرشد بالغي، وهو القائل:
أأترك ملك الري والري منيتي ** وأرجع مأثوما بقتل حسين
فضيق عليه اللعين أشد تضييق، وسد بين يديه واضح الطريق، إلى أن قتله في التاريخ المتقدم ويسمى عام الحزن، وقتل معه اثنان وثمانون رجلا من أصحابه مبارزة، وجميع ولده -إلا علي بن الحسين زين العابدين- وقتل أكثر إخوة الحسين وبني أعمامه.
لمحمد سلوا سيوف محمد ** قطعوا بها هامات آل محمد
وفي هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين -على جده وعليه أفضل السلام- رئي رسول الله ﷺ يجمع دم الحسين في قارورة، وإن كانت رؤيا منام فإنها صادقة ليست بأضغاث أحلام، أسند ذلك إمام أهل السنة الصابر على المحنة أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: رأيت النبي ﷺ في المنام نصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه فيها، قلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم. قال عمار: فحفظنا ذلك اليوم، فوجدناه قتل ذلك اليوم».
قال ابن دحية: هذا سند صحيح، عبد الرحمن هو أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي إمام أهل الحديث، وحماد إمام فقيه ثقة، وعمار من ثقات التابعين أخرج مسلم أحاديثه في صحيحه.
وتولى حمل الرأس: بشر بن مالك الكندي، ودخل به على ابن زياد وهو يقول:
املأ ركابي فضة وذهبا ** إني قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا
وقد صدق هذا القائل الفاسق في المديح، وتقريظ هذا السيد الذبيح، ولقي الله بفعله القبيح. وأمر [عبيد] الله بن زياد من قور رأس الحسين حتى ينصب في الرمح، فتحاماه الناس حتى قام طارق بن المبارك، فأجابه إلى ذلك، وفعله ونادى في الناس وجمعهم في المسجد الجامع، وصعد المنبر، وخطب خطبة لا يحل ذكرها، ثم دعا عبيد الله بن زياد زحر بن قيس الجعفي فسلم إليه رأس الحسين، ورءوس أهله وأصحابه، فحملها حتى قدموا دمشق، وخطب زحر خطبة فيها كذب وزور، ثم أحضر الرأس فوضعه بين يدي يزيد، فتكلم بكلام قبيح قد ذكره الحاكم، والبيهقي وغير واحد من أشياخ أهل النقل بطريق ضعيف وصحيح، وقد ذكر ذلك كله أخطب الخطباء ضياء الدين أبو المؤيد موفق الدين بن أحمد الخوارزمي في تأليفه في مقتل الحسين عليه السلام وهو عندي في مجلدين.
وذكر شيخ السنة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي قال: حدثنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله، سمعت أبا الحسن علي بن محمد الأديب يذكر بإسناد له أن رأس الحسين عليه السلام لما صلب بالشام أخفى خالد بن عفران شخصه من أصحابه وهو من أفاضل التابعين، فطلبوه شهرا حتى وجدوه، فسألوه عن عزلته فقال: أما ترون ما نزل بنا؟ ثم أنشأ يقول:
جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد ** متزملا بدمائه تزميلا
فكأنما بك يا ابن بنت محمد ** قتلوا جهارا عامدين رسولا
قتلوك عطشانا ولم يترقبوا ** في قتلك التنزيل والتأويلا
ويكبرون بأن قتلت وإنما ** قتلوا بك التكبير والتهليلا
قال ابن دحية: واعجبوا -رحمكم الله- من الأمم الذين كانوا من قبلكم، وقد فضل الله أمة محمد ﷺ عليهم، منهم: المجوس يعظمون النار لأنها صارت بردا وسلاما على إبراهيم، والنصارى يعظمون الصليب لادعائهم أنه من جنس العود الذي صلب عليه ابن مريم، وابن مرجانة وأصحابه العدا قتلوا الحسين ابن نبي الهدى، ولم يلتفتوا إلى قول أصدق القائلين: {قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى}.
قال: ولما قدموا برأس الحسين صرخت نساء بني هاشم؛ فقال مروان:
عجت نساء بين زياد عجة ** كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
قال ابن دحية: وأنا أقول قولا هو الإيمان: هنيئا لك الشماتة برسول الله ﷺ يا مروان. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أنه سأله رجل في دم البعوضة، فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق، فقال: انظروا إلى هذا! يسألني عن دم البعوضة، وقد قتلوا ابن النبي ﷺ! وسمعت النبي ﷺ يقول: «هما ريحانتاي» وفي رواية: «هما ريحانتي». قال ابن دحية: تفرد بإخراجه البخاري من طريقين في كتاب المناقب وفي كتاب الأدب. وقال إبراهيم النخعي الإمام فيما حكاه أبو [سعد] السمان الرازي بسنده إليه قال: لو أني كنت فيمن قاتل الحسين، ثم أتيت بالمغفرة من ربي فأدخلت الجنة لاستحييت من رسول الله ﷺ أن أمر عليه فيراني. قال ابن دحية: عباد الله! اعجبوا من آراء هؤلاء الملاعين وعقولهم! إذ قتلوا الحسين بن فاطمة [ولد] رسول الله ﷺ، ثم أكبوا في شمالهم على شرب شمولهم، تعسا لشيوخهم وكهولهم! أفي صلاتهم يصلون على محمد وآله، ثم يمنعونهم من شرب نطفة 11 من الفرات وزلاله، ويجتمعون على قتله وقتاله، ويذبحونه ولا يستحيون من نور شيبته وجماله. أما والله إن حق رسول الله ﷺ على أمته أن يعظموا تراب نعل قدمه، بل تراب نعل خادم من خدمه، ليت شعري ما اعتذر هؤلاء الشطار الخبثة الأشرار، في قتل هؤلاء الأخيار، عند محمد المختار، {يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار}. وقد سلط الله عليهم المختار، فقتلهم حتى أوردهم النار. وأخرج الترمذي في جامعه الكبير ما هذا نصه: «حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، قال: لما جيء برأس [عبيد] الله بن زياد وأصحابه، نضدت في المسجد، فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت، قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تخلل الرءوس حتى دخلت في منخري عبيد الله، فمكثت هنيهة، ثم خرجت، فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا: قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا. هذا حديث حسن صحيح».
انتهى المنقول من كتاب العلم المشهور في فضل الأيام والشهور للحافظ المحدث الشهير بأبي الخطاب بن دحية.
وفيما ذكره أوضح دليل على براءة المحدثين وأهل السنة مما افتراه عليهم المعترض من نسبتهم إلى التشيع ليزيد، وتصويب قتلة الحسين بن علي عليهما السلام. وكيف وهذه رواياتهم مفصحة بضد ذلك كما بيناه في مسند أحمد وصحيح البخاري وجامع الترمذي وأمثالها! وهذه الكتب هي مفزعهم، وإلى ما فيها مرجعهم، وهي التي يخضعون لنصوصها، ويقصرون التعظيم عليها بخصوصها.
وقال ابن خلكان في ترجمة أبي الحسن علي بن محمد الملقب عماد الدين، المعروف بالكيا الهراسي الشافعي ما لفظه: وسئل الكيا عن يزيد بن معاوية فقال: إنه لم يكن من الصحابة، لأنه ولد في أيام عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وأما قول السلف؛ ففيه لأحمد قولان: تلويح وتصريح، ولمالك قولان: تلويح وتصريح، ولأبي حنيفة قولان: تلويح وتصريح، ولنا قول واحد: تصريح دون تلويح. كيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد، والمتصيد بالفهود، ومدمن الخمر، وشعره في الخمر معلوم، ومنه قوله:
أقول لصحب ضمت الكأس شملهم ** وداعي صبابات الهوى يترنم
خذوا بنصيب من نعيم ولذة ** فكل وإن طال المدى يتصرم
وكتب فصلا طويلا، ثم قلب الورقة وكتب: لو مددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل؛ وكتب فلان ابن فلان». انتهى كلام الكيا، وفيه ما ترى من نقل مذاهب الأئمة الأربعة. فأما الشافعية فقد بين أن لهم فيه قولا واحدا تصريحا غير تلويح، وأما سائر الأئمة فقد صرحوا تارة ولوحوا أخرى، وإنما لوحوا بتضليله في بعض الأحوال، وفي هذا أكبر دليل على عدالتهم؛ لأنهم حين خافوا لوحوا بتضليله، ولو عملوا بالرخصة لصرحوا بالثناء عليه عند الخوف، وهذا كلام شيخ الشافعية. قال ابن خلكان: تفقه بالجويني مدة إلى أن برع. قال الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي فيه: كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في الدروس، وكان ثاني أبي [حامد] الغزالي، بل كان آصل وأصلح وأطيب في [الصوت] والنظر، وارتفع شأنه، وتولى القضاء، وكان محدثا يستعمل الحديث في مناظراته ومجالسه. ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهبات الرياح.
ولما حكى ابن خلكان كلام الحافظ عماد الدين هذا، أورد بعده كلاما رواه عن الغزالي، فكلام الغزالي ذلك شاهد ببراءة الغزالي من القول بتصويب يزيد في قتل الحسين، وإنما تكلم في مسألتين غير ذلك:
إحداهما: تحريم اللعن؛ ولم يخص [يزيد] بذلك، فهو مذهبه في كل فاسق وكافر كما رواه عنه النووي في الأذكار، وقد ذكر النووي أن ظاهر الأخبار خلاف ذلك، وقد أفردت الكلام على ذلك في كراس.
وثانيهما: القول بأن العلم برضا يزيد بقتل الحسين متعذر، وليس في هذا نزاع، ولو أقر يزيد بلفظ صريح وسمعنا ذلك منه، لم نعلم أن باطنه كما أظهر، وقد جهل رسول الله ﷺ بواطن المنافقين، ووكل علم ذلك إلى الله تعالى، ولكن الحكم للظاهر. وقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله ﷺ، وإن الوحي قد انقطع، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس بنا من سريرته شيء، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة».
الفصل الثالث: في بيان موضع الخلاف. فاعلم أن الفقهاء [لم يخالفونا] في شرائط الإمامة التي زعم المعترض أنهم خالفوا فيها.
قال النووي في الروضة: «شروط الإمامة: أن يكون الإمام مكلفا مسلما عدلا حرا ذكرا، عالما مجتهدا، شجاعا ذا رأي وكفاية، سميعا بصيرا، ناطقا قرشيا» ونحو ذلك، [قاله] العمراني في كتابه البيان.
وقال القاضي عياض: لا تنعقد الإمامة لفاسق ابتداء، بل قال النووي في الروضة في كتاب الزكاة: «يشترط في الساعي كونه مكلفا مسلما، عدلا حرا، فقهيا بأبواب الزكاة» إلى آخر كلامه في ذلك.
وقال الإمام إبراهيم بن تاج الدين في كتابه إلى الملك المظفر ما لفظه: «هذا والجهابذة من أتباع الحبر العلامة محمد بن إدريس رضي الله عنه يقولون: إنه لا بد أن يكون في الأمة من قائم بأمر الإسلام، من حقه بعد المنصب أن يكون جامعا للفضائل منزها عن الرذائل». انتهى كلامه.
وفيه شهادة لهم من خصومهم، وممن هو مقبول النقل عند المعترض.
فإن قلت: فأين موضع الخلاف بينهم وبين المعتزلة والشيعة؟ قلت: في موضعين:
الموضع الأول: أنهم ذكروا أن الخروج على أئمة الجور متى كان مؤديا إلى أعظم من جورهم، من إراقة الدماء وفساد ذات البين، حرم تحريما ظنيا اجتهاديا [مختلفا] في صحته بين علمائهم وسائر علماء الإسلام، كما قدمنا في الفصل الثاني، وللزيدية والمعتزلة ما يلزمهم موافقة الفقهاء على هذا، فإنهم نصوا في باب النهي عن المنكر على أنه لا يحسن متى كان يؤدي إلى وقوع منكر اكبر منه، والمسألة واحدة.
الموضع الثاني: -وهو محل الخلاف على الحقيقة- وهو في صحة أخذ الولاية من أئمة الجور على ما يتعلق بمصالح المسلمين من القضاء ونحوه، وقد وافقهم على أخذ ولاية القضاء من أئمة الجور: إمام الزيدية المؤيد بالله، ذكره في كتاب الزيادات، واحتج عليه وبالغ في ذلك، والمسألة ظنية ليس فيها نص معلوم اللفظ والمعنى، ولا إجماع قطعي، وقد تمسك جمهور الفقهاء في هذا الأمر بظواهر الأحاديث الواردة في طاعة السلطان، وأنه ولي من لا ولي لها من النساء في التزويج، والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة لا حاجة إلى ذكرها، وفي بعضها ما يدل على أن السلطان قد يكون جائرا بلفظ خاص مثل الحديث المرفوع: «وإنما الإمام جنة يتقى بها ويقاتل من ورائه، فإن عدل كان له بذلك أجرا، وإن جار كان عليه بذلك وزر» رواه البخاري. وحديث مسلم وفيه: «فإن كان لله خليفة في الأرض فاسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» والحديث الذي فيه: «أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ قال: أعطوهم حقهم، وسلوا الله حقكم» ونحو هذا مما يطول ذكره، وبقية الأحاديث تدل على ذلك بإطلاقها، فإن المرجع في تفسير السلطان إلى اللغة.
وأما المعتزلة والشيعة فاحتجوا بالسمع والرأي؛ أما السمع فبعمومات مثل قوله تعالى: {قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}. وللفقهاء أن يجيبوا في هذه الآية بوجوه:
أحدها: أن الإمامة المذكورة في الآية هي النبوة؛ لأن إبراهيم عليه السلام سأل لذريته الإمامة التي جعلها الله تعالى له وهي النبوة.
وثانيها: أن الإمامة التي في الآية مجملة محتملة لإمامة النبوة، وإمامة خلافة النبوة، وأدلة الفقهاء المتقدمة نصوص في خلافة النبوة فكانت أخص.
وثالثها: أن الآية من شرع من كان قبلنا، وقد ورد في شرعنا ما يخالفها، وليس يجوز العمل بشرع من قبلنا مع مخالفة شرعنا له إجماعا، وسائر أدلة المعتزلة والشيعة من هذا القبيل؛ إما دليل صحيح في لفظه لكنه ليس بنص، أو دليل نص في المسألة لكن صحته غير مسلمة.
وأما الرأي فقالوا: الإمام راع منصوب للمصلحة، فإذا كان مهلكا للرعية، مفسدا في الأرض، كان المسترعي له مثل المسترعي للذئب على الغنم، ومطفي مشبوب النيران بالضرم.
وللفقهاء أن يجيبوا عن ذلك بأنهم لم يخالفوا في جواز اختياره، فقد قدمنا نص القاضي عياض على أنه لا يصح نصب الفاسق ابتداء، ولا حرموا الخروج عليه إلا إذا غلب على الظن أن المفسدة في الخروج عليه أعظم من مفسدة ولايته، وقد أجمع العقلاء، وأطبق أهل الرأي على وجوب احتمال المضرة الخفيفة متى كانت دافعة لما هو أعظم منها، ولذلك وجب قطع العضو المتآكل متى غلب على الظن أنه إن لم يقطع سرى إلى الجسد، وكان سبب الهلاك، فبان بهذا أن الفقهاء أيضا قد تمسكوا في هذا النص السمعي والرأي العقلي، وسيأتي لهذا مزيد بيان في الفصل الخامس إن شاء الله تعالى.
الفصل الرابع: في بيان أنهم وإن قالوا بصحة أخذ الولاية في المصالح من أئمة الجور؛ فلم يجعلوهم مثل أئمة العدل مطلقا في جميع الأمور، وذلك ظاهر في كتبهم، والذي يدل عليه وجوه:
الأول: أنهم نصوا على اشتراط العدالة والعلم في الإمام.
الثاني: أنه يحرم نصب الإمام الجائر عندهم والرضا باختياره.
الثالث: أنه يحرم على الجائر التغلب على الإمامة ويأثم بها، نص عليه النووي في الروضة.
الرابع: أن الخارج على الجائر لا يكون باغيا كما قدمنا نص النووي على ذلك في الروضة بل رواه النووي عن العلماء.
الخامس: أنهم منعوا من جواز تسليم بيت المال إليه على سبيل الاختيار؛ فإن الإمام النووي لما ذكر في الروضة عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه يقول بميراث ذوي الأرحام، ولا يقول برد ما بقي من مال الميراث على ذوي السهام، ذكر أن ذلك على الصحيح إنما يكون مع استقامة بيت المال بولاية العادل، وأنه متى ولي بيت المال جائر رد بقية المال على الورثة، وورث ذووا الأرحام، ولم يعط الإمام الجائر، قال النووي: وبه أفتى أكثر المتأخرين، وهو الصحيح والأصح عند محققي أصحابنا ومتقدميهم، قال ابن سراقة: وهو قول عامة مشايخنا، وعليه الفتوى اليوم في الأمصار، ونقله صاحب الحاوي عن مذهب الشافعي، قال: «وغلط الشيخ أبو حامد في مخالفته» هذا كله لفظ الإمام النووي رحمه الله.
وهو دال على أنهم لا يعتقدون أن للجائر من الحقوق مثل ما للعادل، وكذا قال النووي في الروضة عن الماوردي أنه قال: «إذا كان العامل جائرا في أخذ الصدقة عادلا في قمستها جاز كتمها عنه ودفعها إليه، وإذا كان عادلا في الأخذ جائرا في القسمة وجب كتمها عنه وإنما اختص بهذا الماوردي لأن المسألة مفروضة في جور العامل، لا في جور الإمام، ولأن الامتناع من تسليم الصدقات إليهم غير مقدور؛ لأن ذلك يكون سببا في فساد عظيم كما قدمنا.
الفصل الخامس: في بيان عظيم غلط المعترض على الفقهاء، حيث ظن أنهم يصوبون أئمة الجور في قتلهم الذين يأمرون بالقسط من الناس وبيان أن الفقهاء إنما قصدوا حقن دماء الذين يأمرون بالقسط من الناس، بل نظروا في مصالح الجميع في الخاصة والعامة، وعملوا بمقتضى قواعد الشريعة في رعاية المصالح، وذلك أنه لا يشك من تأمل أن أكثر الأقطار الإسلامية قد غلب عليها أئمة الجور من بعد انقراض عصر الصحابة؛ فإن الشام ومصر والغرب والهند والسند، والحجاز والجزيرة، والعراقين واليمن، وسائر أقطار المملكة الإسلامية ما استدامت فيها دولة حق منذ قرون عديدة، ودهور طويلة، فلا شك أن في هذه الأقاليم من عامة أهل الإسلام عوالم لا يخصون، وخلائق لا ينحصرون، ولا شك أنهم في هذه القرون العديدة، والدهور الطويلة لو تركوا هملا لا يقام فيهم حد، ولا يقضى فيهم بحق، ولا يجاهد فيهم الطغاة، ولا يؤدب منهم العصاة: لفشا الفساد، وتظالم العباد، ومرج أمر المسلمين، وتعطلت أحكام رب العالمين.
وقد علمنا على الجملة أن الله تعالى ما أراد بإقامة الحدود إلا زجر أهل المعاصي، ولا أراد بالجهاد إلا حفظ حوزة الإسلام وإرغام أعاديه من أهل الإجرام؛ فمتى توقفت هذه المصالح على شرط وتعذر تحصيله لم يعتبر ذلك الشرط، وقد ذكر العلماء لذلك نظائر:
منها نكاح المرأة بغير إذن وليها متى غاب وليها، أو بعد مكانه، أو جهلت حياته، فقد ترك كثير من العلماء شرط العقد المشروع -وهو رضا الولي- لأجل مصلحة امرأة واحدة، وخوف مضرتها.
ومنها نظرهم في تزويج امرأة المفقود، فكيف بمصلحة عوالم من المسلمين وخوف مضرتهم؟
ومنها الانتفاع باللقطة بعد تعريف سنة لأن المال مخلوق للمنفعة غالبا، فلما تعذر انتفاع صاحبه به انتفع به غيره كي لا يبقى هملا لا نفع فيه، ولهذا قال عليه السلام في ضالة الغنم: «إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب» فزال شرط حل المال، وهو رضا المالك لما تعذر، فهذه مصلحة شخصية غير ضرورية، فكيف بالكلية الضرورية.
ومنها ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم من الزيادة في حد الخمر، ففي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: «جلد رسول الله ﷺ في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما ولي عمر دعا الناس فقال لهم: إن الناس دنوا من الريف، فما ترون في حد الخمر؟ فقال عبد الرحمن: نرى أن تجعله كأخف الحدود فجلد فيه ثمانين». أخرجه مسلم وأبو داود، وأخرج البخاري وابن ماجه بعضه.
وعن حضين بن المنذر عن علي رضي الله عنه: «جلد رسول الله ﷺ أربعين -وأحسبه قال: وجلد أبو بكر أربعين- وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي» أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
فجلد الثمانين في الخمر قد شاع في الصحابة واستمر عليه عمل الأمة إلى هذا العصر، مع أنه غير منصوص في كتاب ولا سنة، وإنما عمل به للمصلحة، فدل على إجماع الصحابة ومن بعدهم على جواز العمل بالمصالح ما لم تصادم النصوص.
ومن المعلوم أن أخذ الولاية من أئمة الجور في ممالك الإسلام، وإقامة الحدود، واستخراج الحقوق، والقضاء بين الخصوم: من أعظم المصالح العامة، وآكد الفرائض المهمة، وقد ورد القرآن الكريم بقتل النفس لمصلحة غير كلية، وذلك في قصة يونس عليه السلام قال تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} فألقى بنفسه الكريمة لأجل مصلحة أهل السفينة، وإن كان هذا من شرع من قبلنا؛ فالصحيح: أن ما حكاه الله تعالى في كتابنا من ذلك فهو حجة لقوله ﷺ في قصة كسر سن الربيع بنت معوذ: «القصاص كتاب الله»، وهو في الصحيح ولم يرد السن بالسن في كتاب الله إلا حكاية عن شرع من قبلنا في قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها} الآية.
وكذا في الصحيح مرفوعا: «من نام عن صلاته أو نسيها فوقتها حين يذكرها» ثم تلا رسول الله ﷺ: {وأقم الصلاة لذكري} فاحتج عليه السلام بالآية وهي في خطاب موسى عليه السلام، وفي هذا دليل على أن المصلحة يجوز أن تكون جزئية؛ لأن أهل السفينة بعض المسلمين، ويجوز أن تكون ظنية؛ لأنه لا سبيل إلى العلم بما يقع فيه أهل الإسلام في المستقبل، وقد تكلم غير واحد من العلماء في المصالح وهذا (المختصر) لا يحتمل التطويل بذكر ذلك، وأحسن من تكلم في ذلك العلامة الكبير عز الدين بن عبد السلام في كتابه «قواعد الأحكام في مصالح الأنام».
الوهم الثامن عشر: قدح المعترض على المحدثين بالرواية عن الزهري، وجرح الزهري بمخالطته للسلاطين وإعانتهم على الظلم.
فأما مخالطة السلاطين فقد كانت منه ومن غير واحد ممن أجمع أهل العلم على عدالتهم وفضلهم، ونبلهم، مثل الإمام علي بن موسى الرضى والقاضي أبي يوسف رحمهما الله تعالى، ومن لا يأتي عليه العد.
وأما الإعانة على الظلم فدعوى على الزهري غير صحيحة، وقد ذكر العلماء رضي الله عنهم ما يجوز من مخالطة الظلمة، وفرقوا بين المداراة والمداهنة. قال القاضي عياض و[المازري] في شرح مسلم: المداهنة: بما كان من أمر الدين، مثل أن يفتيه بغير حق، والمداراة: ما كان من أمور الدنيا.
قلت: الحجج على جواز المخالطة إذا لم يكن معها معصية ظاهرة، ولنذكر منها وجوها.
الوجه الأول: الحديث الصحيح، والنص الصريح، وهو قوله ﷺ في أئمة الجور: «فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني، ولست منه، وليس بوارد علي الحوض يوم القيامة، ومن غشيها أو لم يغشها، فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض يوم القيامة» رواه الترمذي في موضعين من جامعه بإسنادين مختلفين، أحدهما: صحيح وعليه الاعتماد، والثاني: معلول.
ومن ذلك ما روى أبو داود عن النبي ﷺ: «أنه نهى عن المسألة إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان» والمسألة لا تمكن إلا بضرب من المخالطة.
الوجه الثاني: قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} الآية، وعمومها وسبب نزولها يستلزم جواز المخالطة ونحوها، وقد بينت ذلك في الأصل.
الوجه الثالث: قصة يوسف عليه السلام ومخالطته لعزيز مصر وقوله: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بشرع من قبلنا، وقد بسطت الكلام في هذه المسألة في الأصل في قدر كراس ونصف أو يزيد، وأوضحت غلط المعترض في هذه المسألة، وبينت جلالة الزهري واجتهاده واعتداد العلماء بخلافه، وقبول أصحاب المعترض لحديثه، واحتجاجهم بروايته ولله الحمد.
الوهم التاسع عشر: روى قصة ليحيى بن عبد الله بن الحسن رضي الله عنهم مع أبي البختري وهب بن وهب القاضي المدني، والقصة مشتملة على شهادة زور وقعت بأمر هذا القاضي مع جماعة كثيرين، وقدح بذلك في المحدثين وفي صحة حديثهم، وهذا غلو وإسراف في التهويل والإرجاف، لأنه لا ملازمة بين رواة الحديث وبين جماعة شهدوا زورا في واقعة معينة، إلا أن يذكر المعترض من شهد تلك الشهادة من رواة الحديث، مع أن في كلام المعترض ما ينقض حجته، فإنه ذكر أنهم خافوا من هارون الرشيد إن لم يشهدوا، والخوف من سطوة أئمة الجور يبيح كلمة الكفر، كيف شهادة الزور؟ قال الله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} على أن هذه القصة التي أشار إليها غير معلومة الصحة، ولا رواها بإسناد صحيح، وهي أحقر من أن تجاب، لولا محبة الذب عن أهل السنة، وهداية من يغتر بمثل هذه الشبهة.
الوهم الموفي عشرين: وهم المعترض أن أبا البختري وهب بن وهب ابن [كبير] القاضي القرشي المدني من رواة الصحاح. وقد ذكرت في الأصل اتفاق علماء الحديث على جرحه، وتصريحهم في كتب الرجال بتكذيبه. ونقلت كلام العلامة أبي عبد الله الذهبي فيه في كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال. وقد وهم المسكين أنه من رواة الترمذي، وليس كذلك، وإنما روى الجماعة عن أبي البختري سعيد بن فيروز الطائي التابعي الجليل الراوي عن علي رضي الله عنه؛ وهما مختلفان نسبا واسما، وصفة وزمانا، كما أوضحته في الأصل.
قال: «الوجه الرابع: مما يدل على أن في أخبار كتبهم التي يسمونها الصحاح ما هو مردود: أن في أخبار هذه الكتب ما يثبت التجيسم والجبر والإرجاء ونسبة ما لا يجوز إلى الأنبياء؛ ومثل ذلك يضرب به وجه راويه، وأقل أحواله أن يكذب فيه» إلى آخر كلامه في هذا الفصل.
أقول: هذا مقام وعر قد تعرض له المعترض وأبدى صفحته، ورام أن يكذب الرواة فيما لم يفهم تأويله، وهذا بحر عميق لا يمكن ركوبه إلا في سفين البراهين القاطعة، وليل بهيم لا يحسن مسراه إلا بعد طلوع أهلة الأدلة الساطعة، وسوف أجيب على ما ذكره، وأذكر من حججه ما سطره، وقد استوفيت الجواب في الأصل وأشبعت الكلام في هذا الفصل، وذكرت من المقدمات ومراتب التأويل ما لا يسع الخائض في علم الحديث جهله، وسوف أشير إلى عيون يسيرة من ذلك:
المقدمة الأولى: كل ما خالف الأدلة القاطعة العلمية من الأحاديث الظنية في متنها، أو في معناها وجب العمل بالقطعي دون الظني إجماعا، وفيه تنبيهان:
الأول: أن كثيرا من المتكلمين يظن في بعض الشبه دليل قطعي، فيخالف الحديث الصحيح لذلك، معتقدا فيمن عمل بالحديث أنه يقدم الظن على العلم، وهذا جهل مفرط، فليس في العقلاء -دع عنك المسلمين- من يقدم المظنون على المعلوم.
الثاني: أن كثيرا ممن لا يعرف الحديث ويمارس علومه يظن في بعض الأحادث أنها ظنية وهي متواترة تواترا لفظيا أو معنويا، فليحترز الحاذق من الوقوع في ذلك.
المقدمة الثانية: أن التأويل المتعسف مردود، وفيه تنبيهان:
أحدهما: أن الحكم بأنه متعسف صعب لا يتمكن من معرفته إلا الراسخون في العلم.
وثانيهما: أنه لا يلزم من رد بعض التأويلات القطع بأنه لا تأويل للحديث غير متعسف، فإنه قد يأتي بعض البلداء فيتعرض للتأويل؛ [فيقع] ذهنه على تأويل رديء مردود فيحسب هو أو غيره ممن يقف على تأويله أنه لا تأويل للحديث إلا ذلك، فإذا انكشف بطلان ذلك التأويل تطرقوا في ذلك إلى القدح في الحديث، وهذا باطل! فإن أقصى ما في الباب: أن يطلب المتأول تأويلا صحيحا فلا يجد، لكن عدم الوجدان في النظر لايدل على عدم المطلوب من الوجود، وذلك لأن الباحث عن التأويل إما أن يكون من العلماء أو لا. والثاني: ليس له أن يتأول قطعا، والأول: إما أن يكون من الراسخين في العلم أو لا. الثاني: ليس له أن يتأول ظاهرا؛ لأن الله تعالى لم يجعل ذلك له، في جميع أقوال المفسرين لقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} وأما الأول -وهم الراسخون في العلم- فأما أن يكون الجاهل بالتأويل بعضهم أو كلهم؛ إن كان بعضهم فلا مانع منه؛ لأن لم تثبت العلم بالتأويل لبعضهم بنص ولا ظاهر، كما أن آيات الإجماع لم تثبت حرمة مخالفة بعض الأمة.
ويدل عليه أن الراسخين من جميع الفرق يختلفون في التأويل على وجوه متنافية، فلو كان الواحد منهم لا يجوز عليه الخطأ في التأويل لم يصح ذلك، ولم يكن لمن بعده مخالفته، ويدل عليه: أن موسى الكليم من الراسخين إجماعا مع أنه ما عرف تأويل ما احاط الخضر بتأويله، فكيف يحيط غير الكليم بعلم الله؟ مع أن علم الكليم والخضر في علم الله تعالى، كما يأخذ الطائر بمنقاره من البحر، كما قال الخضر عليه السلام، وإن كان الجاهل بالتأويل كلهم فههنا يظهر الخلاف في معنى الآية، والظاهر أنه لا يعلمه إلا الله تعالى، لقوله تعالى في هذه الآية في ذم الذين في قلوبهم زيغ: {ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} وقد تأولها المخالفون بأن المراد ابتغاء تأويله الذي يوافق أهوائهم، فجعلوها من المتشابه، مع أن المرجع إليها في الفرق بين المتشابه والمحكم وهذا بعيد، وهو أيضا تأويل بغير دليل قاطع، فلا مانع من ورود السمع بالنهي عن تأويل المتشابه، سواء كان الراسخون متمكنين من معرفته أو لا.
وأما قولهم: إنه يلزم من ذلك نسبة العبث إلى الله تعالى؛ فغلط واضح، فإن العبث ما لاحكمة فيه، وليس الحكمة مقصورة على معرفة التأويل، فإن الإيمان بالتنزيل، والتعظيم له والتجليل، حكمة بالغة، وكذلك الإيمان بمراد الله تعالى على سبيل الجملة فيه تكليف. مع أنه يقال لهم: إما أن توجبوا على جميع المكلفين بذلك فهذا باطل بالقرآن والاتفاق، أما القرآن فالآية المقدمة، وأما الإجماع فهو منعقد على سقوط ذلك عن العامي والعجمي، بل على تحريمه عليهما، وإذا كان علم البعض بالتأويل يكفي فلعل علم الملائكة والأنبياء بذلك كاف، فمن أين يلزم ما زعم بعض المعتزلة من استلزم ذلك للعبث في حقه جل وعلا، وقد حكى القاضي عياض في كتابه المعلم بفوائد شرح مسلم: أن قوله تعالى في هذه الآية: {والراسخون في العلم} من المتشابه المحتمل؛ وهذا أيضا بعيد لما قدمنا ذكره ولنقل الفراء للوقف على اسم الله تعالى، ولأن قوله تعالى في الثناء عليهم: «يقولون آمنا به كل من عند ربنا»، مناسب لإيمانهم بمراد الله تعالى على سبيل الجملة، وليس فيه مناسبة لمعرفتهم للتأويل على التفصيل، والعمدة في ذلك ما قدمنا من ذمه تعالى لمن ابتغى تأويله ونصه على أنه صفة الذين في قلوبهم زيغ، والله أعلم.
المقدمة الثالثة: أن المتشابه من القرآن ليس هو المجاز. لأن المجاز وقت نزول القرآن معروف عند [أجلاف] العرب وعباد الأصنام، وكل عربي اللغة من مسلم وغيره، والمتشابه بخلافه. ألا ترى أن كل أحد منهم يعرف معنى قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} ونحو ذلك. فإن قلت: فما المتشابه؟ قلت: عندي أنه ما [لا] تدرك العقول معرفته، وهو قسمان:
أحدهما: ما لا تعرفه العقول من حكمة الله تعالى، مثل خلق من المعلوم أنه من أهل النار، وعنه وقع سؤال الملائكة والإجمال في الجواب عليهم.
وثانيهما: ما لا تدركه العقول إلا بالسمع، مثل كلام السماء والأرض والنملة ونحو ذلك مما ورد في السمع، والقسم الأول أصعب، والدليل على أنه من المتشابه المحتاج إلى التأويل: قوله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} والدليل في هذه الآية واضح على ما ذكرته. والله أعلم.
المقدمة الرابعة: في الإشارة إلى القرائن الدالة على التجوز في الكلام وهي ثلاث: عقلية وعرفية ولفظية.
مثال العقلية: قوله تعالى: {وسئل القرية التي كنا فيها والعير} فإن العقل يدرك أن سؤال القرية والعير لا يصح فيفهم أن المراد أهلهما.
ومثال العرفية: قول القائل: بنى السلطان سور المدينة، فإن مباشرة السلطان لنقل الحجارة والتراب غير محال في العقل ولكنه ممتنع في العادة والعرف، فيفهم من ذلك: أن السلطان أمر بذلك. وما يجري مجراه، ومنه قوله تعالى: {يا هامان ابن لي صرحا} أي مر من يبني، لأنه لم يكن ممن يباشر مثل ذلك.
وأما اللفظية: فمثل: أسد شاكي السلاح، أو حسن الثياب، أو نحو ذلك. ومنه قوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره} فقوله: {مثل نوره} قرينة لفظية تدل على أنه تعالى ليس بنور في ذاته، وإنما هو خالق النور، وأن معنى {الله نور السماوات والأرض} منورهما. وكذلك قوله تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء} فإنه قرينة لفظية تدل على أن النور المذكور في الآية نور الهدى والعلم لا نور الشمس والقمر.
وكل مجاز لم يدل على المراد منه أحد هذه القرائن الثلاث، لم يصح التجوز به في لغة العرب بإجماع علماء المعاني والبيان وأئمة هذ الشأن، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن القرينة العقلية إنما يصح الاستدلال [على التجوز] بها متى كان العقل يقطع على أن المتكلم ممن لا يصح منه إرادة ظاهر كلامه، فلهذه النكتة يختلف الاستدلال بها: فيصح في مواضع فيما بين الناس ولا يصح مثله في كلام الله تعالى، وكلام رسوله ﷺ، مثال ذلك: أنا نفهم التجوز في قول الشاعر:
شكا إلي جملي طول السرى يا ** جملي ليس إلي المشتكى 12
وذلك لأن العادة جرت أن العجماوات لا تكلم الناس، فأما ما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن هذا الجمل شكا علي أنك تجيعه وتدئبه» فلا يفهم منه التجوز؛ لأنا لم نعلم ولا نظن امتناع الظاهر في حقه ﷺ، بل يجوز مثل ذلك لكبار أولياء الله تعالى وخواص عباده الصالحين نفع الله بهم. ومن ههنا اختلف كثير من المحدثين والمعتزلة في تأويل كثير من الأحاديث والآيات مثل قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}. فالمعتزلة حملوه على المجاز لظنهم أن الظاهر لا يصح، وأهل الحديث لم يتأولوه، لقطعهم على أنه لا مانع من صحة الظاهر، بالنظر إلى قدرة الله تعالى وعلمه، فإنه تعالى قادر على إنطاق كل شيء بالإجماع من المعتزلي والمحدث، وقد ورد في القرآن: {علمنا منطق الطير} وكلام الهدهد والنملة مع سليمان عليه السلام وتسبيح الجبال مع داود عليه السلام. وورد في السنة من ذلك ما لا يتسع له هذا المكان، مثل: حنين الجذع إلى رسول الله ﷺ، وتسبيح الحصى في يده الشريفة، وقد ذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى جميع ذلك في كتابه الشفاء وقسمه في ثلاثة فصول بعضها في كلام الحيوانات من العجماوات، وبعضها في كلام الشجر، وبعضها في كلام سائر الجمادت.
فإذا تقرر هذا؛ فاعلم أن عامة أهل الأثر لما رأوا هذا داخلا في قدرة الله تعالى، لم يتأولوا شيئا مما ورد من ذلك مثل قوله تعالى: {قالتا أتينا طائعين} وليس يلزمهم من هذا أن يسبح كل جزء من الأجسام اللطيفة مثل ورقة التين والقلم والسواك، بل إذا سبحت الأرض والسماء ونحوهما فقد صدق أنه يسبح لله تعالى كل شيء مثل ما أنه يصدق أنه قد سبح لله تعالى كل شيء، من جنس الملائكة والأنبياء والمؤمنين، وإن لم يسبح منهم كل شعرة على انفرادها، على أنه تعالى قادر على إنطاق كل جزء لطيف، فأصل الخلاف في تأويل هذه الآية وأمثالها على هذه النكتة التي أشرت إليها، وقد يتوقف المحدث في استحالة أمور عقلية وهي ظاهرة الاستحالة عند أهل النظر في العقليات مثل حديث: «إنه يؤتى بالموت على صورة كبش يوم القيامة فيذبح» فمن لم يكن له أنس بعلم العقل لم يقطع باستحالة ظاهر هذا، فربما أجراه على ظاهره، وربما توقف في معناه، وأما أهل الكلام فظاهره محال عندهم فيجب تأويله؛ لأن الموت عندهم إما عرض أو عدم عرض، وكل ذلك لا يصح أن ينقلب حيوانا وإنما تاويله عندهم: أن ذلك يخيل إلى أهل الجنة كما يخيل إلى النائم أشياء لا حقيقة لها، أو يضرب ذكر ذلك مثلا لثقتهم بالخلود، وأمانيهم من الموت كما يجري مثل ذلك في ألسنة البلغاء، ومن ذلك قول شيخ التصوف ابن الفارض نفع الله به: 13
وقالوا جرت حمرا دموعك قلت عن ** أمور جرت في كثرة الشوق قلت
نحرت لطيف السهد في جفني الكرى ** قرى فجرى دمعي دما فوق وجنتي
والخطر في تأويل مثل هذا والتوقف فيه يسير، ولكن قد يعرض من بعض المتكلمين سخرية واستهانة [بمن] خالفهم في تأويل هذا الجنس من أهل الأثر، وهذا قبيح ممن فعله؛ لأن البحث عن هذا وإن كان من جليات علم المعقول، فإنه لا يجب البحث عنه على كل مسلم، بل ترك البحث عنه سنة عند أهل الحديث، داخلة في عموم ما ورد من [الحث] على الاقتداء برسول الله ﷺ وبأصحابه رضي الله تعالى عنهم والوقف في التأويل مع عدم العلم بالموجب له هو الواجب، ومن فعل الواجب لا تحل غيبته، ولا تسقط حرمته، بل من اعتقد الظاهر لأنه يظن ذلك، وقدرنا أنه أخطأ لم يأثم ولم تحل غيبته؛ لأن المسلم قد يخطئ، وليس كل أمر جلي في العقل يجب على المسلمين النظر فيه، فإن من الجليات عند أهل علم المعقول صحة قولنا: إذا صدق أن كل (ألف باء) وجب بالضرورة أن بعض (الباء ألف)، وهذا وإن كان علما ضروريا عند من عرف مقصدهم؛ فإنه لا يلزم المسلمين أن يعرفوه، ولا يستحق جاهله الاستهانة والسخرية، فقد جهله خير أمة أخرجت [للناس]، وقد قدمنا أن أهل علم الأثر لم يتركوا الخوض في ذلك لتبلد أذهانهم عن فهمه، ولا لقصور عقولهم عن علمه -فهم أهل الفطن الوقادة والفكر النقاد- ولكنهم كرهوا الابتداع ورغبوا إلى الاتباع، وعضوا النواجذ على الاقتداء بالخلفاء الراشدين كما أوصاهم بذلك رسول الله ﷺ، وقد أوضحت هذا في (الوهم الثاني عشر) فخذه من هنالك.
المقدمة الخامسة: في ذكر ترجيح التأويل على التكذيب فيما وجب تأويله من أحاديث الصحاح التي ذكرها المعترض، وترجيح ذلك يظهر بذكر مرجحات:
المرجح الأول: أن القطع أنهم تعتمدوا الكذب [فيها] يؤدي إلى بطلان أمر مجمع على صحته، وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وقد تقدم الكلام على إجماع طوائف الإسلام على الرجوع إلى المحدثين في علم الحديث، والاحتجاج بما رواه أئمتهم في مصنفاتهم، فلا حاجة إلى إعادة ذلك.
المرجح الثاني: قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}. والقول بأن ثقات الرواة قد تعمدوا الكذب على رسول الله ﷺ مما ليس لأحد به علم، ومن قطع بذلك؛ فقد قطع بغير تقدير، ولا هدى، ولا كتاب منير، وقد نهى رسول الله ﷺ عن تكذيب أهل الكتاب في حديثهم خوفا من تكذيب الصدق ورد الحق، فإن الكافر قد يصدق، فهذا في حق اليهود القوم البهت، فكيف بثقات المسلمين وأئمة الدين؟
المرجح الثالث: أن الخطأ في القبول أهون من الخطأ في الرد والتكذيب؛ لأنا متى أخطأنا في القبول كان تصديقا للنبي ﷺ موقوفا على شرط صحة الحديث عنه، ومتى أخطأنا في التكذيب كان تكذيبا لكلامه متى صح أنه كلامه، والتصديق الموقوف بالضرورة، أقصى ما في الباب: أن يكون الخطأ في القبول كذبا عليه والخطأ في الرد تكذيبا لكلامه، لكن عمد الكذب عليه فسق وعمد التكذيب كفر، والخطأ فيما عمده كفر، وهذا من ألطف المرجحات وخفيات المدارك النظريات.
المرجح الرابع: أن القطع على الرواة بتعمد الكذب تفسيق لهم، والتأويل تصديق لهم، وتصديق المسلمين أولى من تفسيقهم لوجهين:
أحدهما: أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.
وثانيهما: أنه يخاف على من فسق مسلما أن يرجع الفسق عليه، فقد ورد في الصحيح: أن من دعا أخاه بالفسق وليس كذلك، [حار] عليه، أو كما ورد.
المرجح الخامس: أنا وجدنا في كتاب الله تعالى شواهد لجميع ما أنكرته المبتدعة من أحاديث الصحاح كما أوضحته في الأصل كما يأتي فيما نذكر تأويله إن شاء الله تعالى.
المقدمة السادسة: في الإشارة إلى مراتب التأويل والتصديق، وقد ذكرت في الأصل من ذلك ست مراتب وطولت القول فيها، وقد رأيت الاقتصار في هذا المختصر على ذكر ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى: حمل الكلام على التخيل وهو رؤية مثال الشيء في اليقظة، وهو كالمنام، إلا أنه يكون في اليقظة، والأشعرية يجوزون هذا، والمعتزلة تنكره إلا في حال النوم، وعند تغير العقل من مرض أو غيره، ومن جوزه يحتج له بأمور:
أولها: قوله: {فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم} وقوله تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} وهذا مع نص القرآن عليه معلوم من أحوال السحرة وخواص السحر، وفيه دليل على صحة ما أنكرته المعتزلة من رؤية ما لا وجود له في الحقيقة مع صحة العقل.
وثانيها: أن ذلك من العلوم الضرورية التجريبية المتواترة عن أرباب الرياضيات وملازمة الخلوات، فإنهم يرون في اليقظة مثل ما يرى الناس في النوم، ويسمعون مخاطبات من غير رؤية مخاطب، وقد ذكر الفخر الرازي في المفاتيح أن هذا مما اعترفت به الفلاسفة ولم تنكره، وإنما وقع النزاع في ماهية ذلك، فأما جحده فعناد ودفع للضرورة، وفيه ما يدل على بطلان قول المعتزلة.
وثالثها: أنه قد ثبت بالضرورة أن العاقل المستيقظ قد يتخيل الشيء الواحد اثنين، ويتخيل المستقيم معوجا، كما يتخيل العود في الماء، وهذا مما وافقت عليه المعتزلة، وهو يدل على جواز ما ذكرناه من صحة تخيل العاقل لما لا وجود له؛ لأن كل ذلك بصر كاذب في حال الصحة واليقظة؛ وإنما كذب بخلل وقع وعذر اتفق.
وهذه المرتبة الأولى من مراتب التأويل، ذكرها أبو حامد الغزالي وجعل منها حديث رؤية النبي ﷺ في المنام، وهذا المثال غير مطابق؛ لأن الكلام في حال اليقظة غير المنام، وكذلك أهل السنة فإنهم قد تأولوا أشياء بهذا التأويل، ولكن بشرط المنام كما قالوا في حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في رؤية النبي ﷺ لربه عز وجل على تلك الصفة المنكرة، وقد ذكره الذهبي في ترجمة حماد في كتاب الميزان وساق طريقه ثم قال: «فهذه الرؤية إن صحت رؤية منام».
ومما جاء التصريح في متن الحديث بأنه كان في المنام قول أنس مرفوعا في حديث المعراج: «ثم دنا الجبار تعالى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى». ومنه ما رواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بت عائش رضي الله عنه عن النبي ﷺ: «أتاني ربي في هذه الليلة فقال لي: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى»، فقد جاء في الحديث ما يدل على أن هذا كان في المنام، فهذا كله متعلق بالمنام.
وأما ما ورد من ذلك عن النبي صريحا في اليقظة، وهو على سبيل التخيل؛ فلا أعلم أهل الحديث ذكروا من ذلك شيئا، إلا ما ذكره ابن قتيبة في حديث موسى عليه السلام وأنه فقأ عين ملك الموت عليه السلام كما سيأتي تحقيقه. قال ابن قتيبة: «أذهب موسى العين التي هي تخييل وتمثيل وليست حقيقة خلقته، وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان لم ينقص منه شيء» فهذا أكثر ما وجدت لأهل الحديث من التأويل بهذا الوجه، مع أنه لم يجعله من صريح هذا الوجه ولو جعله منه لقال: إن موسى في الحقيقة ما فقأ عينا قط، وإنما خيل إليه ذلك، فإن كان قصد هذا فقصرت عبارته عن مراده.
وقد جاء في الأحاديث ما هو صريح في جواز وقوع هذا الوجه، ولكنه ورد على جهة التصريح من رسول الله ﷺ لا على جهة التأويل من المحدثين، فلهذا لم أعده من التأويل.
وكذلك حديث: رؤية الناس للنار والماء مع الدجال، وأن ناره ماء وماءه نار، وهو حديث صحيح متفق على صحته من غير طريق.
وفي حديث حذيفة المتفق على صحته: «فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء بارد، وأما الذي يرى الناس أنه ماء فنار تحرق، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي هو نار فهو ماء عذب بارد».
وكذا في الحديث الطويل الثابت صفة القيامة: «فيتمثل لكل فرقة معبودها فتتبعه حتى يقدم بها في النار ويتمثل لمن كان يعبد عيسى فيتبعها حتى تقذفه في النار» وهو ثابت في الصحيح.
وقد جعل الغزالي من هذا القبيل حديث رؤية النبي ﷺ للجنة والنار وهو يصلي بأصحابه صلاة الكسوف، وهو متفق على صحته، ولكن الغزالي بنى تأويله على أنه ورد في الحديث: أن الجنة والنار عرضا على رسول ﷺ في عرض حائط، قال: وهو يستحيل أن يتسع الحائط لهما على تقدير الوجود الحقيقي.
قلت: ولم أجد هذه الزيادة التي ذكرها في الكتب الستة، ولكن ذكرها ابن الأثير في النهاية، ولا شك أنه قد يذكر الحديث الضعيف في النهاية فإذا صحت فهي مثال حسن في هذا المعنى، وإذا لم تصح فلا مانع على قواعد أهل الحديث من رؤيتها على الحقيقة، وهذا باب واسع يتركب عليه في التأويل أمور كثيرة عند من يرغب إلى التأويل، والله سبحانه أعلم.
المرتبة الثانية: حمل الكلام على المجاز اللغوي، وأكثر التأويل يدور عليه، وفيه: الجلي والدقيق والقريب والعميق، والمجاز: مرسل واستعارة، فالمرسل: الذي علاقته غير المشابهة كاليد في القدرة والنعمة، وله أقسام كثيرة، والاستعارة: حيث تكون العلاقة هي المشابهة، وهي مطلقة ومجردة ومرشحة، فالمطلقة: التي لا تتبع بصفات المشبه ولا بصفات المشبه به، والمجردة: التي تتبع بصفات المشبه مثل: أسد شاكي السلاح، والمرشحة: التي تتبع بصفات المشبه به مثل قوله: "* له لبد أظفاره لم تقلم *"
وقرائن المجاز ثلاث: عقلية وعرفية ولفظية، كما مر تمثيلها في المقدمة الرابعة.
فإذا عرفت هذا؛ فاعلم أن القرينة متى كانت معروفة عند المتخاطبين، [أو] عليها دليل قاطع يوجب اليقين حسنت المبالغة في التجوز ولم يدخل في باب التعمية للمراد والإلغاز في الخطاب، هذ عند المتكلمين، وسواء كان القاطع جليا أو خفيا، وعند أهل الحديث: متى كانت القرينة معروفة عند المتخاطبين حسن التجوز وزال الإشكال. والسر كله في هذه النكتة هي: ظهور القرينة وخفاؤها، وعلى ذلك يدور الخلاف بين المتكلمين والمحدثين في كثير من التأويل، فإن المتكلمين يجعلون قرينة التجوز في كثير من آيات الصفات وأحاديثها عقلية، وإذا سألتهم عنها أحالوا في ثبوت تلك القرينة العقلية على النظر في دقائق معارف علم المعقول التي نازعهم في صحتها من شاركهم في المعرفة بالعقليات لدقتها وغموضها، فكيف يتقدر أن الصحابة ومن عاصرهم من العرب عرفوها؟
ومن مارس علم النظر وعلم التاريخ حصل له من مجموعهما علم ضروري بخلو أهل ذلك العصر الأول عن تلك المعارف، فأشكل الأمر حينئذ على المتكلمين، لأنهم إن قالوا: إن أهل ذلك العصر الأول تأولوا من غير دليل، وقالوا بالتجوز من غير قرينة فهذا لا يجوز، وهو يفتح باب القرمطة ومذهب الباطنية المجمع على بطلانه، وإن قالوا: إن أهل ذلك العصر يعرفون هذه الأدلة التي ألجأت أهل الكلام إلى التأويل فذلك عناد يعلمه الخاصة من أهل ذلك العصر، وهذا الثاني هو الذي يركبه المتكلمون، فإنهم يدعون مشاركة الصحابة في المعارف العقلية على سبيل الجملة، وقد تكلم الرازي في رد ذلك بأن المعرفة الجملية غير صحيحة؛ لأن البرهان متى تركب من عشر مقدمات استحال من العارف أن يزيد في مقدماته مقدمة واحدة، واستحال من القاصر أن ينتج له العلم بمعرفة تسع مقدمات، وكلامه هذا حق لا محيص عنه، فأما أن يدعي المتكلمون مشاركة الصحابة في علم الكلام على سبيل التفصيل فهذا عناد عظيم، أو يدعون المشاركة فيه على سبيل الجملة فهذا عذر غير مستقيم، فلهذا التجأ أهل الحديث إلى الإيمان الجملي، وترك الخوض مع الخائضين في بحار التأويل، وسيأتي لهذه النكتة مزيد من بيان، وقد مر من ذلك طرف صالح أيضا.
وفائدة هذا الكلام: أن تعرف أن القرينة متى ظهرت وعرفها المتكلم والسامع لم يختلف أهل اللغة في حسن التجوز، وهنا يتوافق المحدث والمتكلم، بل يكون تناسي التشبيه أبلغ وأفصح، فإذا وصفت زيدا بأنه أسد، جاز أن تنسب إليه جميع صفات الأسد كما في قوله:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف ** له لبد أظفاره لم تقلم
فوصف الرجل بصفات الأسد من اللبد وطول الأظفار، وكذلك لو أنك وصفت الرجل الشجاع بجميع صفات الأسد وأسمائه، وذكرت محله وأشباله ما ازداد المجاز إلا حسنا، ولم يكن ذلك مما يصعب تأويله في لغة العرب أبدا.
قال علماء المعاني: ولأجل البناء على تناسي التشبيه صح التعجب في قوله:
قامت تظللني من الشمس ** نفس أعز علي من نفسي
قامت تظللني فواعجبا ** شمس تظللني من الشمس
ولذلك صح النهي عن التعجب في قوله:
لا تعجبوا من بلى غلالته ** قد زر أزراره على القمر
قالوا: ولهذا يبنى على علو القدر ما يبنى على علو المكان مثل قوله:
ويصعد حتى يظن الجهول ** بأن له حاجة في السماء
كل هذا ذكره علماء المعاني والبيان، وقد رأيت تأكيد ما ذكروه بذكر جملة صالحة مما رود في هذا المعنى مطابقة لمقتضى الحال، فإن مقتضاه المبالغة في كشف عطاء البيان، لإنكار المعترض إمكان التأويل في بعض الأحاديث التي لم تبلغ في التجوز مرتبة كثير مما نورده من كلام البلغاء، وإنما وقع التفاوت في ظهور القرينة الدالة على التجوز في نفس الأمر.
فمن ذلك ما ذكره الزمخشري رحمه الله في كشافه في تفسير قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم} فإنه تكلم في هذا لما يشهد بما ذكرته فقال ما لفظه: «فإن قلت هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال؛ فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن ثمة مبايعة على الحقيقة؟
قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهي: أن تساق كلمة مساق المجاز ثم تقفى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن ديباجة وأكثر ماء ورونقا منه، وهو المجاز المرشح، وذلك نحو قول العرب في البليد: كأن أذني قلبه خطلاوان، جعلوه كالحمار ثم رشحوا ذلك روما لتحقيق البلادة؛ فادعوا لقلبه أذنين وادعوا لهما الخطل، ليمثلوا البلادة تمثيلا يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة، ونحوه:
ولما رأيت النسر عز ابن دأية وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر» إلى آخر كلامه في هذا، وأنشد في غير هذا الموضع في [كشافه]:
ينازعني ردائي عبد عمرو ** رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يمين ** ودونك فاعتجز منه بشطر
قال: أراد بردائه سيفه، ثم قال: فاعتجز منه بشطر، فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار» انتهى كلامه.
ومن ذلك قوله تعالى: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} فذكر الأفواه ترشيحا لذكر الإطفاء، ومن مطربات الترشيح قول المعري:
وسألت كم بين العقيق وبارق ** فعجبت من بعد المدى المتطاول
وعذرت طيفك في الزيارة إنه ** يسري فيصبح دوننا بمراحل
فإنه لما تجوز في وصف الطيف بالزيادة تناسى التجوز حتى عليه التأخر عن الزيارة فسأل عن محل صديقه، فأخبر ببعده المفرط فعرف الطيف، وعلم أنه لا يقدر قطع تلك المسافة المتطاولة في ليلة واحدة، وأنه لا يصح في الطيف أن يأتي نهارا؛ لأنه وقت اليقظة، وهذا معنى لطيف يهز البلغاء طربا.
ومما جاوز حد الغرابة في هذا قول الزمخشري كناية عن الجماع:
وقد خطبت على أعواد منبره ** سبعا رقاق المعاني جزلة الكلم
وقد اعترض نفسه باستعارة هذه الأمور الشريفة لما لا حظ له في مراتب الشرف.
وللشيخ عمر بن الفارض في هذا من الإجادة ما ليس لغيره، من ذلك قوله:
كان لي قلب بجرعاء الحمى ** ضاع مني هل له رد علي
فاعهدوا بطحاء وادي سلم ** فهو ما بين كداء وكدي
فإنه لما تجوز في ضياع قلبه، بنى عليه ما يبنى على الضياع الحقيقي فأمرهم بطلب قلبه، وعين لهم الموضع الذي هو فيه، وحده بكداء وكدي، وهما موضعان بمكة المشرفة.
ومن أطول ما سمعته في هذا المعنى وأحسنه قصيدة الشيخ أبي حفص عمر بن الفارض الصوفي السعدي نفع الله به، التي قال فيها:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ** سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
ولها البدر كأس هي شمس يديرها ** هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
ولولا شذاها ما اهتدينا لحانها ** ولولا سناها ما تصورها الوهم
فإن ذكرت في الحي أصبح أهله ** نشاوى ولا عار عليهم ولا إثم
ومن بين أحشاء الدنان تصاعدت ** ولم يبق فيها في الحقيقة إلا اسم
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ ** أقامت به الأفراح وارتحل الهم
ولو نظر الندمان ختم إنائها ** لأسكرهم من دونها ذلك الختم
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت ** لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
ولو طرحوا في فيء حائط كرمها ** عليلا وقد أشفى لفارقه السقم
ولو نال فدم القوم لثم قدامها ** لأكسبه معنى شمائلها اللثم
هنيئا لأهل الدير كم سكروا بها ** وما شربوا منها ولكنهم هموا
ودونكها في ألحان فاستجلها به ** على نغم الألحان فهي بها غنم
فما سكنت والهم يوما بموضع ** كذلك لم يسكن مع النغم الغم
يقولون لي صفها فأنت بوصفها ** بصير، أجل عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى ** ونور ولا نار وروح ولا جسم
إلى آخر ما ذكره الشيخ. فانظر إلى ما فيها من الترشيح، وتناسي التشبيه، فإن الشيخ لما توله في حب الله تعالى جل جلاله، وارتفعت في منازل المحبة أحواله، شبه الحب في تلعبه بعقول المحبين بالخمرة فاستعار اسمها للمحبة، ثم أخذ يفتن في ترشيح الاستعارة بذكر أوصاف الخمرة ومتعلقاتها متناسيا للتشبيه، فذكر الشرب، والساقي، والشذا، والحان، والنشوة، والدنان، والفدام، وختم الإناء، والنضح منها، والكرم الذي منه عنبها، والحائط الذي كانت غروس العنب فيه، والسكر منها، والدير الذي شربت فيه، وهنأ لأهل الدير بسكرهم منها، وذكر مزاجها وشربها صرفا على الألحان التي تصاحبها في العادة، وزوال الهم معها، وشبه الكأس الذي تشرب فيه بالنجم، والساقي في جماله بالهلال، وأمثال ذلك.
فمن زعم أن هذا نظم خارج عن طريقة العرب، غير بليغ ولا مستقيم، فهو بهيمي الطبع جامد القريحة، ومن أقر أنه عربي بليغ في أرفع درجات الصنعة البديعية عند أهل هذا الشأن؛ لزمه ألا يقول فيما هو دونه بدرجات كثيرة من القرآن والحديث أنه يستحيل تأويله على قانون اللغة العربية في التجوز، وبطل قول من يدعي في كثير من ذلك أن التجوز فيه داخل في حد الإلغاز والتعمية، وما لا يجوز على الله تعالى، وأنه يتعذر معرفة الوجه فيه على جميع من أظلت السماء من العلماء والبلغاء والفطناء من أول الدهر إلى آخره! وانظر أي تجوز في السنة بلغ إلى هذا المبلغ الذي ذكرته لك في البعد عن الحقيقة.
فإن قلت: إن هذه المبالغة لا يجوز دخولها في القرآن والحديث لأنها كذب محض، ولا يجوز ذلك في كتاب الله تعالى وكلام رسوله ﷺ. قلت: هذا جهل باللغة والبلاغة، بل جهل بما في الكتاب والسنة من ذلك. وقد تقدم شيء من ذلك في هذا النوع الذي نحن فيه، وفي القرآن العظيم ما هو أعظم مما ذكرناه، ولو لم يرد في جواز هذا، والشهادة بالبراءة له من الكذب إلا قول الله تعالى: {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا} فإنا نعلم أن من رأى الولدان الحسان لا يحسبهم لؤلؤا منثورا في صفاء ألوانهم، وحسن منظرهم كالدر. ووصفه للدر بأنه منثور من جملة ما ذكرنا من ترشيح الاستعارة.
وكذلك قول الكاتب: كلام لو مزج به ماء البحر لعذب طعمه، ليس بكذب؛ لأن المتكلم به لم يقصد أن يوهم السامع حقيقة ذلك، ولا خاف من السامع أن يتوهم ذلك، وإنما قصد وصف الكلام بالبلاغة لا غير، وعرف أنه لا يفهم من عبارته إلا ذلك، فكأن أهل اللسان وضعوا لوصف الكلام بالحسن عبارتين:
إحداهما: أن يقول: كلام فصيح أو بليغ، أو نحو ذلك.
وثانيهما: أن يقول: كلام لو مزج به ماء البحر لعذب ونحو ذلك، وهذا يخالف الكذب القبيح، فإن الكذب هو: ما قصد المتكلم به إيهام السامع ما ليس بصدق، والمتجوز لم يقصد ذلك، وهذا هو الفرق بين الاستعارة والكذب، كما ذكره أهل البيان، وقد أكثرت من الاستشهاد على أمر جلي لما ادعى الخصم أن في الحديث ما لم يمكن تأويله، وما يجب تكذيب راويه، وفيما ذكرت ما يرد عليه على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة في التأويل: الحكم بالوهم لدليل يوجب ذلك، والوهم أنواع: فمنه الوهم في اللفظ وهو صحيح مأثور، ومنه حديث عائشة الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما: وفيه عن ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما مرفوعا: «الميت يعذب في قبره بما نيح عليه» وفيه: قالت عائشة: «لا والله ما قال رسول الله ﷺ قط إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا، وإن الله لهو أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولكن السمع يخطئ». هذا لفظ البخاري ومسلم، وفيما ذكرته شهادة لجواز ظن الوهم في الراوي عند من اعتمد 14 القطع بأن الظاهر لا يصح، وأنه وقع مثل ذلك في زمن أصحاب رسول الله ﷺ، ورضي الله عنهم، في حق أوثق الرواة وأفضلهم وأروعهم ممن يعتقد تعظيمه وتفضيله، على أن المختار صحة مثل ذلك على أصول الجميع.
أما أهل الحديث؛ فقد ذكر الذهبي في ضمة القبر أنها مثل آلام الدنيا تصيب المطيع والعاصي، وأما على أصول المعتزلة فلأن كل ألم صح فيه العوض والاعتبار فهو جائز، وكلاهما ممكن في ذلك: أما العوض فلا إشكال، وأما الاعتبار فاعتبار من يعلم بذلك من المكلفين، وفي المعتزلة من يجيز الإيلام لأجل العوض فقط، ولكن في الحديث إشارة إلى تعليل استحقاق العذاب بالبكاء، فلذلك تأوله البخاري والنووي لمن أوصى أن يبكى عليه، ويكن الجواب بشيء 15 آخر، وهو: أن البكاء جعل سببا للعذاب لا مؤثرا في استحقاقه، كما تكون أسباب الآلام في الدنيا أمورا غير مأثرة في الاستحقاق.
والحكمة في جعل البكاء سببا للعذاب: ما في ذلك من الزجر العظيم عن البكاء. وتسمية الآلام عذابا كثير في اللغة شائع، على أنه قد تقدم أن السمع قد دل على استحقاق كل أحد لشيء من العذاب، فمن الجائز أن يكون عذابا مستحقا بذنب غير البكاء، وجعل البكاء سببا على سبيل الزجر عنه والله أعلم.
فهذه الوجوه كلها دالة على سعة وجوه الحكمة الربانية، وعلى أنه يجب على المسلم ألا يعجل برمي الرواة الثقات بالوهم في الحديث ما أمكنه، فإن قال بذلك قائل فلا حرج عليه، ففي عائشة رضي الله عنها أسوة حسنة.
ومن هذا القبيل حديث قيام الساعة لمقدار مئة سنة، وهو في الصحيح وليس المراد به القيامة، وذلك لأن رسول الله ﷺ إنما قال: «لا يأتي مئة سنة حتى أتتكم ساعتكم» هكذا ورد في بعض ألفاظ الصحيح وساعتهم هي الموت، وهو معنى صحيح قرآني.
قال الله تعالى في تسمية الموت بالساعة: {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، الملك يومئذ لله يحكم بينهم} قال الجوهري في صحاحه سمي يوم القيامة عقيما لأنه لا موت بعده، قلت: ويدل على ما قاله الجوهري قوله تعالى: {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} فدل على أن الساعة في الآية هي الموت. وقد ظن بعض السامعين للحديث أنه أراد القيامة فإن في الترمذي وأبي داود عن ابن عمر أن الناس وهلوا في مقالة رسول الله ﷺ تلك فيما يتحدثونه بتلك الأحاديث نحو مئة سنة، وإنما قال رسول الله ﷺ: «لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن، فهذا نص ابن عمر على أن الناس وهلوا في ذلك، والوهل هنا: بمعنى الوهم في معنى كلام رسول الله ﷺ. قال ابن الأثير في جامع الأصول: تقول: وهل إلى الشيء إذا ذهب وهمه إليه: وقد يكون الوهل بمعنى الفزع، ولكنه لا يلائم كلام ابن عمر ههنا، لقول ابن عمر في الرد على من وهل: إن رسول الله ﷺ ما أراد إلا انخرام ذلك القرن، فدل على أنهم وهموا أنه أراد القيامة، كما قد جاءت أحاديث توهم ذلك، ولعلها من رواية أولئك الذين وهموا والله أعلم.
ومثل هذا إذا وقع نادر في بعض الأحاديث، لم يوجب التشكيك في الرجوع إلى الأحاديث الصحيحة، فإن الثقة لا يعصم من الخطأ. وفي الصحيح: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» فقيد الوعيد بالتعمد. وأجمع العلماء على أن الثقة لا يجرح بالخطأ إلا إذا كثر كما تقدم تفصيله.
ومن أنواع الوهم: رفع الموقوف على الصحابي، وجعله مرفوعا إلى النبي ﷺ.
وأشد منه: الإدراج، وهو أن يتكلم راوي الحديث بكلام بعد فراغه من رواية الحديث، فيحسبه السامع من الحديث لاتصاله به.
ومن أنواع الوهم: أن يروي الحديث أحد الضعفاء، وله اسم أو كنية أو نسبة يوافق فيها بعض الثقات، فيحسب السامع أنه عن الثقة فيرويه عن الثقة لا على وجه يميز الثقة عن الضعيف فيلصق بالثقة ما لم يقله، وقد بالغ الحفاظ في الاحتراز من هذا الخلل وصنفوا في ذلك كتب العلل؛ فهذا [آخر] وجوه المحامل، ومع إمكانه لا يجوز الحكم على الثقات بتعمد الكذب، ومثل هذا لا يبطل به علم الأثر لوجهين:
أحدهما: أن الخطأ قد يقع من أئمة أهل النظر في نظرهم، فكما لم يبطل بذلك علم النظر عندهم فكذلك لا يبطل علم الأثر بمثله عند أهل الأثر.
وثانيهما: أنه لو وجب الاحتراز من الوهم للزم الراوي ألا يعمل بشيء مما حفظه وسمعه من رسول الله ﷺ، لأنه يجوز فيما لم يعلمه بالضرورة على نفسه من الوهم ما يجوز على سائر الثقات، وهذا خلاف العقل والنقل، فإذا قدحنا بالوهم لم يختص أهل الأثر، ولزم أهل النحو واللغة والفقه والتفسير، فإذا كان الوهم مجوزا فأقل الحديث وهما: كتب أئمة الحديث المنقحة المصححة، التي حكم بعلو قدرها في الصحة أئمة النقد، وعكف الأفاضل على تحقيقها من قبل ومن بعد. وهذا القدر كاف في التمهيد للجواب بذكر هذه المقدمات.
ولنشرع الآن في الجواب، ونتكلم على فصلين، أحدهما: في الجواب الجملي، وثانيهما: في طرف من المعارضات، فأما التحقيق؛ فلا مكانه ولا زمانه ولا فرسانه ولا ميدانه.
أما الفصل الأول: فالجواب أن المعترض ذكر أحاديث معينة وذكر أنه لا يصح لها تأويل، فنقول له: مرادك لا يصح لها تأويل في فهمك؟ فمسلم ولا يضر تسليمه، أو مرادك لا يصح لها تأويل في علم الله تعالى، ولا في علم أحد من الراسخين في العلم؟ فهذا ممنوع لوجهين:
الوجه الأول: أن موسى كليم الله لما لم يعلم تأويل فعل الخضر عليه السلام لم يجب أن لا يعلمه الخضر، فإذا جاز على موسى الكليم عليه السلام أن يجهل ما علمه غيره؛ جاز على المعترض أكثر من ذلك.
الوجه الثاني: أن الملائكة عليهم السلام ما عرفوا حكمة الله تعالى على التعيين في استخلافه لآدم عليه السلام في الأرض، وسألوا الله تعالى عن ذلك فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}، فلم يخبرهم تعالى بوجه الحكمة على التعيين، بل أجاب عليهم بالجواب الجملي فقال تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} فإذا كفى الملائكة الجواب 16 الجملي كفى كثيرا من المسلمين، فأما فهم معنى الآيات؛ فقد قدمنا أنه لا يجب على جميع المسلمين من العامة والعجم إجماعا، وان معرفة البعض إذا كانت كافية في ذلك، فلا مانع من أن معرفة رسول الله ﷺ تكفي في ذلك.
الفصل الثاني: وهو في المعارضات، فهو نوعان:
أحدهما: معارضة الخصم بتأويل أصحابه المعتزلة لما هو أصعب تأويلا من تلك الأحاديث، من آيات القرآن العظيم الدالة على أنه تعالى سميع بصير مريد، وأنه الذي أوجب الواجبات الشرعية، وحرم المحرمات الشرعية، ورفع الحرج فيها عن المسلمين، وأراد اليسر في ذلك بالمؤمنين، ونحو ذلك مما لا يصح عند المعتزلة إلا بتأويل ظاهر، وهذا النوع ظاهر 17 لا سبيل إلى استقصائه، وقد ذكر قاضي القضاة، عبد الجبار بن أحمد -وهو أحد علمائهم- ما يخالف مذهبهم من القرآن العظيم، فجاء في مجلد كبير، فلنقتصر في هذا الوجه على هذه الاشارة، ففيها تنبيه على كيفية معارضتهم بهذه الطريقة، وقد ذكرت في الأصل طرفا من الآيات التي تعسفوا في تأويلها وحكموا بصحة ذلك التأويل، وبينت أن تأويل الأحاديث التي ذكرها المعترض أقرب من تأويلهم لتلك الآيات.
النوع الثاني: معارضة الخصم بإيراد شواهد تلك الأحاديث التي زعم أنه لا يمكن تأويلها بذكر ما هو مثلها من القرآن العظيم، وأنه يلزم من أقر بصحة تأويل تلك الآيات أن يصحح تأويل تلك الأحاديث التي انتقاها المعترض من أدق ما وجد في الحديث، وأبعد ما فيه عن التأويل، وسوف أجيب عن جميعها، وأبين أن في القرآن ما هو مثلها، فمن تأوله تأولها، ومن آمن به آمن بها، ومن ردها لزمه أن يرد ما هو في معناها من كلام الله تعالى: وهي هذه مرتبة على ترتيب المورد لها:
الحديث الأول: الحديث الطويل الوارد في صفة يوم القيامة وفي الشفاعة، وفيه: «وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم» هذه رواية البخاري ومسلم في حديث أبي هريرة.
وفي البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد: «حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه» الحديث.
وفي صحيح مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله بلفظ السماع من جابر رضي الله عنه نحو ذلك. وللحديث طرق ليس هذا موضع استيفائها، وفي بعض ألفاظ الحديث ذكر التجلي، وفي بعضها ذكر وضع القدم في النار، وفي بعضها ذكر الضحك.
والجواب:
أنه قد ثبت أن علماء التأويل من أهل المعاني والبيان وأهل الكلام قد أولوا آيات كثيرة في القرآن مثل قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} وقوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} وقالوا في هذه الآيات وأمثالها: إن إسناد المجيء والإتيان إلى الله تعالى مجاز وهو من باب الإيجاز، أحد علوم المعاني، وهو حذف بعض الكلام لدلالة القرينة على حذفه، والقرينة الدالة هنا هي القرينة العقلية كالقرينة في قوله تعالى: {وسئل القرية التي كنا فيها والعير} أي أهل القرية وأهل العير، قالوا: والمعنى وجاء أمر ربك أو عذابه أو نحو ذلك من المقدرات المحذوفة.
فنقول: إذا كان مثل هذا صحيحا عندكم صح في الحديث مثله، فيقال: إن إسناد المجيء فيه إلى الله تعالى مجاز وهو في الحقيقة مسند إلى ملك من ملائكة الله. وقوله في الحديث: «أنا ربكم» أي: رسول ربكم، وكذلك قولهم: «أنت ربنا» أي: رسول ربنا، وإذا جاز تأويل لفظ على معنى جاز تأويله على ذلك المعنى، وإن كرر مئة مرة، وهذا التأويل مفحم للمبتدعة، وقد كان وقع في خاطري وكنت محبا أن أقف على مثل ذلك لأحد من أهل العلم لأستأنس بموافقته، فأسلم من وحشة الشذوذ، فوقفت عليه في شرح مسلم للنووي رحمه الله ووجدته قد تأول الحديث بذلك، فقال رحمه الله ما لفظه: «وقيل المراد «يأتيهم الله» أي: يأتيهم بعض ملائكته. قال القاضي عياض: وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث، قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدث الظاهرة على الملك والمخلوق، قال: أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة، أي: بصورة ويظهر لهم من صورة ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله [ليختبرهم]، وهذا آخر امتحان المؤمنين، وإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة: «أنا ربكم» رأوا عليه من سمات المخلوق ما يعلمون به أنه ليس بربهم ويستعيذون بالله منه. وأما قوله: «فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها» فالمراد بالصورة هنا الصفة، ومعناه فيتجلى لهم على الصفة التي يعرفونها، وإنما عبر عن الصفة بالصورة لمشابهتهما ولمجانسة الكلام فإنه تقدم ذكر الصورة، وأما قولهم: «نعوذ بالله منك» فقال الخطابي: يحتمل أن تكون الاستعاذة من المنافقين خاصة، وأنكر القاضي عياض هذا، قال النووي: وما قاله القاضي عياض هو الصواب، ولفظ الحديث مصرح به أو ظاهر فيه، وإنما استعاذوا منه لما قدمناه من كونهم رأوا سمات المخلوق. وأما قوله ﷺ: «فيتبعونه» فمعناه يتبعون أمره إياهم بذهابهم إلى الجنة» انتهى ما ذكره النووي رضي الله عنه.
وقوله في هذا التأويل: فيتجلى لهم على الصفة التي يعرفونها، أراد به تجلي الرؤية على مذهب أهل الحديث والأشعرية وغيرهم، وقد صرح به لكنه سقط التصريح له من هذا الكلام، ولم يحضرني شرح مسلم فانقل منه كلامه بنصه. وأما على مذهب المعتزلة فتأويل التجلي عندهم كتأويله في قوله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا}، ويكون المعنى عند المعتزلة على مقتضى أساليبهم في التأويل: فيتجلى ما يدل على عظيم قدرة الله تعالى، وإحاطة علمه من عجائب أفعاله المعجزة لجميع المخلوقين التي يعلم بها أنه المكلم.
وإنما ذكرت تأويل الحديث على كل مذهب ليظهر للمعترض بطلان قوله: إن تأويل الحديث غير ممكن على مذهب المعتزلة، وأنه يجب على أصولهم رده، وقد ظهر أنه لا يمكنهم رده، مع إقرارهم بما هو مثله في كتاب الله تعالى، وليس في الحديث الذي أورده المعترض ما يظن أنه زائد على ما في القرآن إلا ثلاثة أمور:
أحدها: ذكر أنهم سجدوا لتلك الصورة، والجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أنه يجوز أن يكونوا قصدوا بالسجود التعبد لله تعالى عند رؤيتهم لذلك الملك، تعظيما لله تعالى حين رأوا من عظيم مخلوقاته ما يوجب ذلك.
الوجه الثاني: أنه يجوز السجود للملك على سبيل التعظيم والتكرمة، كما سجدت الملائكة لآدم عليه السلام، وكما سجد إخوة يوسف له، فإن تحريم السجود لغير الله حكم شرعي يجوز تغيره إجماعا.
الأمر الثاني: مما ورد في الحديث، وليس في كتاب الله تعالى، ذكر الصورة وأنه جاءهم على صورتين، والجواب من وجهين:
الوجه الأول: ما ذكره النووي والقاضي عياض وقد تقدم.
الوجه الثاني: وهو القاطع للجاج أنا قد ذكرنا أن الذي جاءهم ملك من ملائكة الله تعالى.
فإن قلت: لا يجوز أن يكون للملك صورتان، وإنما المعروف أن له صورة واحدة.
فالجواب من وجوه:
الأول: أنه لا مانع من ذلك فهو داخل في قدرة الله تعالى.
الوجه الثاني: أنه قد جاء حديث صحيح يرفع الإشكال في ذلك، و[أنه] جاءهم في الصورة الأولى محتجبا عنهم، وفي الثانية متجليا لهم، رواه شيخنا النفيس العلوي في كتابه الأربعين، وهو صحيح خرجه الإمام شمس الدين بن قيم الجوزية.
الوجه الثالث: ما تقدم ذكره عن القاضي عياض والنووي في تأويل الصورة بالصفة.
الأمر الثالث: أنه كثر في الحديث ذكر ما يقتضي التشبيه الكثير حتى صار ذلك فيه كالتصريح، وليس في القرآن مثل ذلك.
والجواب عليه: أن هذا على أصول أهل التأويل أقل إشكالا لأن صفات المخلوقين كلما [كثرت] كانت أظهر دلالة على التجوز، وعلى حذف المسند إليه، وكان هذا أشبه بالاستعارة المجردة التي يذكر فيها صفات المشبه مثل قولنا: أسد شاكي السلاح، حسن الثياب، لطيف الأخلاق، فصيح الكلام، ونحو ذلك من تكثير القرائن اللفظية الدالة على التجوز، ولو أنه بعد إسناد الإتيان إلى الله تعالى ذكر الصفات المختصة بالله تعالى كان أبعد عند أهل الصنعة من التجوز، وكان أشبه بالاستعارة المرشحة التي يذكر بعدها صفات المشبه به كقوله في البيت المشهور: "له لبد أظفاره لم تقلم" ونحو ذلك، وقد تقدم ذكر ذلك في المقدمة السادسة في المرتبة الثانية من مراتب التأويل، وإنما قلنا: إن هذا الوارد في الحديث مثل المجاز الوارد في القرآن عند أهل التأويل؛ لأن كل واحد منهما مجاز في الإسناد وحذف المسند إليه من طرق الإيجاز في الكلام، وكلما أردف التجوز من صفات المحذوف أو المذكور لم يكن في ذلك شيء من التجوز، وإنما تكون فيه قرائن لفظية تدل على المبالغة في إظهار المقصود أو المبالغة في معنى التجوز، وأما التجوز فليس إلا في الإسناد على ما يعرفه علماء المعاني والبيان، والله أعلم.
وقد أبرق المعترض وأرعد على البخاري رضي الله عنه لروايته في الحديث «فيكشف عن ساقه» وهذا من الجهل المفرط، فإنه لا فرق بين كشف الساق، والمجيء عند أهل التأويل في جواز إسناد الجميع من ذلك إلى غير الله، وامتناع إسناده إليه سبحانه وتعالى، وكذلك قوله في الحديث: «فيضع الرب قدمه» أي فيضع رسول الرب قدمه، أو نحو ذلك، وهذا النوع من التأويل عربي فصيح، ومنه قول جبريل عليه السلام فيما حكى الله عنه: {لأهب لك غلاما زكيا} في إحدى القراءتين؛ ومنه قول عيسى عليه السلام: {وأحيي الموتى بإذن الله} أراد: ويحيي الله الموتى عند إرادتي لذلك، ومنه الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يارب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده» الحديث إلى آخره. وهو صحيح صريح في صحة مجاز الحذف الذي نحن فيه، وكذلك ما ورد في الحديث من ذكر الضحك فهو أسهل من هذا كله، إن شئنا جعلناه من قبيل الإيجاز وحذف المسند إليه، ويكون مسندا في الحقيقة إلى الملك، وإن شئنا جعلنا التجوز في الضحك لا في الإسناد، ويبقى الضحك المجازي مسندا إلى الله تعالى، فقد صح نسبة العجب والغضب والرضا إلى الله تعالى، وكلام أهل التأويل في هذه الأمور متقارب، وقد اشتهر في لغة العرب التجوز في الضحك، وشحن البلغاء أشعارهم بذكر ضحك البروق والأزهار والأنوار، وقد فسروا ضحك الرب برضاه. وذكر ابن متويه المعتزلي ضحك الأرض في المجاز وأنشد في ذلك: "تضحك الأرض من بكاء السماء"
وقد اتسع البلغاء في ذلك حتى نسبوا الضحك إلى القبور، فدع نسبته إلى الأنوار والزهور! قال المعري:
رب قبر صار [قبرا] مرارا ** ضاحك من تزاحم الأضداد
وقد أذكرني التجوز في الضحك ليلة عجيبة كانت مرت بي، طلع القمر فيها، وهو في غاية التمام والإنارة، وكان طلوعه من الجانب الشرقي في حال التماع بروق منيرة من الجانب الغربي، مع مطر وحنين رعود، واجتمعت الأنوار مع زهور رياض مختلفة الألوان في المكان الذي نحن فيه، وكان ذلك عقيب وداعنا لبعض إخواننا رعاه الله تعالى، فقلت في ذلك:
وليلة ضحكت أنوارها طربا ** بروقها 18 وزهور الأرض والقمر
فكدت أضحك لولا حن راعدها ** حنين شاك ولولا أن بكى المطر
فذكر الرعد قلبي في تحننه ** حنين خلي لما أن دنا السفر
فنحت حتى تباكت كل ضاحكة ** من الثلاث وحتى رق لي الشجر
وهذا المعنى مطروق مشهور في أشعار المتقدمين والمتأخرين.
فإن قلت: إن هذه التجوزات التي في الأشعار تخالف ما في القرآن والسنة، فإن من سمع الآيات والأحاديث الواردة في الصفات لم يفهم التجوز إلا أن يكون من العلماء الذين قد خاضوا في الكلام وسمعوا التأويل، وأما الأشعار المذكورة فكل من سمعها فهم التجوز فيها من الخاصة والعامة.
والجواب: أن السبب في ذلك ظاهر، وهو أن القرينة الدالة على التجوز في الأشعار معلومة بالضرورة لكل سامع، فإن كل عاقل يعرف أن الضحك الحقيقي يستحيل صدوره من الرياض والبروق والشمس والقمر، ونحو ذلك، بخلاف ما قدمنا، فإن القرينة فيه خفية دقيقة، قد اختلف في تحرير الدليل عليها أذكياء الخاصة من أئمة الكلام، ورد بعضهم دليل بعض. ومن هنا ترك أهل الحديث التأويل مدعين أن شرط حسن المجاز عندهم سامع الكلام للقرينة الدالة على التجوز حتى تصرفه معرفته بها عن اعتقاد ظاهر الكلام، ولذلك أجمعوا على تأويل حديث: «الركن يمين الله تعالى»، وحديث: «إني أجد نفس الرحمن من جهة اليمن» ونحوهما.
وأجمعوا على تأويل قوله تعالى {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} وقوله تعالى: {إلا هو معهم أين ما} ونحوهما لما كانت القرينة معروفة عند المخاطب، قالوا: والمعلوم من أحوال المسلمين في زمن رسول الله ﷺ عدم المعرفة بالأدلة الكلامية الموجبة للتأويل.
وأما المتكلمون ومن اختار التأويل؛ فإنهم لم يشترطوا في حسن المجاز إلا تمكن السامع من معرفة القرينة ولو بالنظر الدقيق والبحث الطويل، ولما اضطرب الناس في هذا ودق الكلام فيه، وعظم الخطر، اعتصم الجماهير من أهل السنة بالإقرار بما ورد في الآيات والأحاديث، على الوجه الذي أراده الله تعالى، مذعنين للعلم بذلك الوجه، لا رادين لما ورد في ذلك من السمع، ولا مشبهين لله تعالى بما لحقه من صفات النقص، معتقدين أن الله تعالى كما وصف نفسه في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} منزهين لله تعالى من كل ما يقتضي النقص من شبه المخلوقين في أفعالهم وذواتهم وصفاتهم، وهذه عقيدة صالحة منجية لمن اعتقدها، ومن ضلل أهلها لزمه تضليل أصحاب رسول الله ﷺ وتضليل جميع المسلمين إلا طائفة المتكلمين، وذلك يعود إلى الإدغال في الدين والقدح على سيد المرسلين، ونعوذ بالله من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.
وقد دخل تحت هذه الجملة تأويل حديثين أوردهما المعترض في هذا المعنى، ثم إنه أردفهما بحديث جرير بن عبد الله البجلي في الرؤية، وهو الحديث الثالث، ونظمه في سلكهما، وقد تقدم الكلام على صحته، وأنه متواتر المعنى، وأن شواهده مروية عن أكثر من ثلاثين صحابيا في أكثر من ثمانين حديثا.
وأما الكلام على معناه:
فأما أهل الحديث: فيؤمنون به كما ورد على الوجه الذي أراده رسول الله ﷺ.
وأما المتكلمون من الأشعرية والمعتزلة والشيعة: فيجتمعون على أنه تعالى لا يرى في جهة متحيزا كما يرى القمر، ثم يفترقون في تفسير معناه، ولا حاجة إلى نقل ألفاظهم في ذلك فإنه معروف في مواضعه، وإنما غرضنا هنا بيان بطلان ما زعم المعترض من اشتمال كتب الحديث الصحيحة على ما يجب تكذيب راويه، وهذا الحديث مما لا يمكن تكذيب راويه لأنه حديث متواتر كما قدمنا، ومن أنكر ذلك لم يزد على أنه ادعى على نفسه الجهل بتواتره، ونحن نسلم له ما ادعاه لنفسه من الجهل ولا ننازعه، فإن ادعى على أحد غيره أنه يجب أن يشاركه في الجهل؛ لم يساعده على ذلك دليل من العقل ولا من السمع، إلا أن يدعي أحد مثل دعواه فنسلم له من الجهل ما ادعاه، ومن أحب معرفة تواتر هذا الحديث فليطالع كتب أهل الحديث الحافلة الجامعة لطرقه الكثيرة وفوائده الغزيرة، ولا طريق إلى إقامة البرهان على التواتر إلا ما ذكرناه كما يعرف ذلك أهل الصناعة، ولو كان إلى ذلك سبيل غير ما أشرنا لفتحنا أبوابها وذللنا صعابها.
وبعد، فكلام الفريقين في هذه المسألة معروف المواضع مكشوف البراقع، فاختصرنا التطويل بنقل المعروف، وبيان المكشوف.
الحديث الرابع: حديث خروج أهل التوحيد من النار، والشفاعة لهم إلى الوهاب الغفار، وتمييزهم بذلك من بين الكفار، فإن المعترض أنكر ذلك أشد الإنكار، ونظمه في سلك ما يجب تكذيب راويه من الأخبار، وبنى كلامه في ذلك على شفا جرف هار، وتوهم أنه في ذلك موافق لإجماع أهل البيت الأطهار، وخطؤه ينكشف بذكر فائدتين يتضح بهما المذهب الحق المختار:
الفائدة الأولى: في تعريف المعترض أنه قد جهل في ذلك مذهب أصحابه، وظن أن هذا المذهب مما يختص بالقول به خصومه، ولم يعلم أن ذلك مذهب مشترك بين السني والشيعي والمعتزلي والأشعري، فقد ظهر القول به في كل الطوائف، واشترك في نصرته أجناس أهل المعارف، ونحن ننقل ما يدل على ذلك من مصنفات أصحاب المعترض: فمن ذلك من ذكره الحاكم أبو سعد في شرح العيون فإنه أورد فصلا في ذكر المرجئه، وأخطأ في هذه التسمية كما سيأتي بيانه، ونسب الإرجاء إلى جلة وافرة من أكابر شيوخ المعتزلة، ذكر ذلك في تراجمهم عند الكلام عليها في طبقاتهم من كتابه هذا، حتى نسب إلى زيد بن علي رضي الله عنه مخالفة المعتزلة المبالغين في هذه المسألة، وصرح بأنه يخالف المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين، ذكره في ترجمة زيد بن علي رضي الله عنه مختصرة بعد ترجمته البسيطة، وأسند إلى صاحب المصابيح وإنما ذكرت هذا عن زيد ابن علي رضي الله عنه؛ لأن الخصوم يقبلون رواية هذا الرجل، وإلا فأهل الحديث يرون عنه مخالفة المعتزلة، وحسبك أن أبا عبد الله الذهبي لم يذكره في الميزان وقد شرط ألا يترك أحدا تكلم فيه بحق أو باطل إلا ذكره.
وقال الحاكم المذكور في شرح العيون في فصل عقده فيما أجمع عليه أهل التوحيد والعدل: «إن اسم الاعتزال صار في العرف لمن يقول بنفي التشبيه والرؤية والجبر، وافق في الوعيد أو خالف، وافق في مسائل الإمامة أو خالف، وكذا في فروع الكلام، ولذا تجد الخلاف بين الشيخين والبصرية والبغدادية يزيد على الخلاف بينهم وبين سائر المخالفين، وكذا تراهم يعدون من نفى الرؤية، وقال بحدوث القرآن، ومسائل العدل: معتزليا وإن خالف في الوعيد ككثير من مشايخنا، منهم الصالحي والخالدي وغيرهما، وكذا ترى من خالف في هذه الأصول لا يعد منهم، وإن قال بالوعيد كالنجارية والخوارج وغيرهم». انتهى.
وقال حميد بن أحمد المحلي الزيدي في كتابه عمدة المسترشدين في أصول الدين: «إن القائلين بالشفاعة لأهل الكبائر والخروج من النار صنفان: عدلية وغير عدلية، وذكر للعدلية القائلين بذلك مذاهب أربعة.
وذكر القاضي عبد الله بن حسن الدواري الزيدي في تعليق الخلاصة: انقسام القائلين بذلك إلى عدلية، وغير عدلية، قال: «فمن أهل العدل القائلين بذلك: أبو القاسم البستي، وكان من الزيدية من أصحاب المؤيد بالله، وغيره من المعتزلة منهم: محمد بن شبيب، وغيلان الدمشقي رأس المعتزلة، ومويس بن عمران، وأبو شمر، وصالح قبة، والرقاشي، والصالحي، والخالدي وغيرهم، ومن القدماء: سعيد بن جبير!، وحماد بن [أبي] سليمان، وأبو حنيفة وأصحابه». انتهى كلامه.
قلت: وإلى ذلك ذهب من أئمة الزيدية الدعاة: يحيى بن المحسن المعروف بالداعي، والمهدي أحمد بن يحيى المتأخر، وكان الفقيه علي بن عبد الله بن أبي الخير يذهب إلى هذا، وغيره من أهل المعرفة، فثبت بما ذكرناه أن المعترض قد جهل مذاهب أصحابه.
أما الفائدة الثانية: فهي في الإشارة إلى ضعف كلامه وبطلان شبهته، فإنه ذكر أن الأحاديث الدالة على خروج أهل الإسلام من النار تعارض آيات الوعيد الدالة على خلود أهل النار، وهذا جهل مفرط، فإن العموم والخصوص لا يتناقضان على القطع عند أحد من فرق الإسلام بحيث يقطع على كذب أحدهما في نفس الأمر، ولو جحد ذلك أحد من أهل الجهل كان الرد عليه متسهلا على أقل أهل المعارف الإسلامية بصيرة، وكيف يستطيع مسلم أن يشك في جواز ذلك، والقرآن مشحون بالعموم والخصوص، كما يعرف ذلك أهل التمييز، دع أهل الخصوص: مثال ذلك قوله تعالى: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}، فأطلق نفي الخلة والشفاعة في هذه الآية عن كل أحد، ثم قيده في قوله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}، وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون}، فأثبت الخلة والشفاعة لمن اتقى، ولمن ارتضى بعد أن نفاهما مطلقا، وكذلك ما ورد في خروج أهل الإسلام من النار من صحيح الأخبار، المتواتر معناها عند العلماء الأحبار، وقد أوضحت ذلك في الأصل بما لا فائدة لذكره في هذا المختصر، لأنه من جليات مبادئ الأصول الفقهية لا من خفيات المعارف النظرية، والأمر في هذه المسألة عند علماء الزيدية قريب، وقد ذكر القاضي حسن بن محمد النحوي في كتابه التذكرة في الفقه الذي هو مدرسهم الآن: أن المخالف في هذه المسألة لا يكفر ولا يفسق، فلا حاجة إلى التطويل بذكرها، وإنما أحببت تعريف المعترض أنه قد جاوز حدود الزيدية والعتزلة فيها؛ فزاد على معلمه كما تقول العامة.
الحديث الخامس: حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام، والجواب على ما ذكره: أن المحدثين أبرياء عما اتهمهم به من افتراء ذلك في نصرة مذهبهم، ولو كان المعترض من أهل التمييز لعلم أن ظاهر ذلك الحديث ليس بمذهب لأحد من أهل الإسلام، وعرف أن رجال الحديث وأهل السنة قد نصوا على تأويله في شروح الحديث النبوي على صاحبه السلام، لأن ظاهره يقتضي أن يحتج العصاه بالقدر على الله تعالى، وذلك ممنوع بإجماع المسلمين، وإنما يحتج به من تاب من ذنبه عند أهل السنة كما ذكره شراح الحديث على صاحبه السلام.
وعندي في الجواب عنه وجه واضح، وقبل الكلام عليه أشير إلى تمهيد (قاعدة)، وهي: أن الأمة أجمعت على عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الجهل بالله تعالى وصفاته وقواعد شرائعه، وعلى صحة عقائدهم فيما يتعلق بأفعال الله وحكمته وجلاله. وهذه القاعدة تقتضي المنع من تجويز وقوع المنازعة بين الأنبياء عليهم السلام في أمر من الأمور الدينية، فإن وقع بينهم ما يشبه ذلك علمنا أنه ليس على طريق دفع الحق بالمماراة، ولا على سبيل اللجاجة في المجادلة، وإنما يكون على سبيل الموعظة والمعاتبة وطلب الزيادة في المعرفة، مثال ذلك: ما جرى بين موسى وهارون، وبين موسى والخضر سلام الله عليهم، فمناظرتهم على سبيل الموعظة والعتاب، لا على سبيل الجهل بالحق في أمر الدين ولا الدفع له، فهم معصومون عن ذلك، وإذا كانت محاجتهم من هذا القبيل، لم تدخلها البراهين العقلية، ولم تقرر على القواعد القطعية، وحسن منهم فيها الاسترواح إلى الاحتجاج بما يجري به الاعتذار في مألوف العادات ولطيف المخاطبات، فلنتكلم في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في الدليل على أن محاجتهما عليهما السلام ليست برهانية، والدليل على ذلك: أنهما لم يتنازعا في أمر يصح فيه من مثلهما الجهل المحض الذي لا يغسل أدرانه إلا صريح البراهين القاطعة، ولا يجلو ظلامه إلا شروق الأدلة الصادعة، وقد ظهر هذا من كلامهما ظهورا لا يخفى.
أما موسى فإنه هو الذي بدأ الخطاب، وفتح هذا الباب، فسأل آدم عليه السلام عن كيفية ذنبه، وأكله الشجرة وأتى بكيف الإنكارية، ولا شك أن السؤال عن الكيفية المحققة غير مقصود، فإنه يعرف كيف أكل الشجرة، فلم يقصد حقيقة السؤال، وإنما قصد إظهار التعجب والاستنكار لما فعله آدم عليه السلام وورود «كيف» بمعنى ذلك كثير شهير، من ذلك قوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} فإنه تعالى لم يرد محض السؤال عن كيفية الكفر، ويؤيد ما ذكرته: أن موسى عليه السلام قدم قبل السؤال، عن كيفية أكل الشجرة، السؤال عن اصطفاء الله تعالى لآدم، ثم عقب ذلك السؤال عن كيفية وقوع الذنب منه، فظهر أنه أراد كيف كان منك الذي كان من الذنب، وأنت من الله تعالى بتلك المنزلة الرفيعة والمحل العظيم؟ ويؤيد ما ذكرته من أن موسى عليه السلام قصد المعاتبة، أو معرفة هذا السبب العجيب الذي أوقع آدم عليه السلام في ذلك مع جلالة قدره: أن موسى عليه السلام أجل من أن يجهل أن التائب من الذنب غير مستحق للذم، وأدنى أهل التمييز يعرف ذلك في جميع العصاة، فكيف لا يعرفه موسى عليه السلام في حق أول أنبياء الله عليهم السلام الذي أسجد الله له الملائكة الكرام؟ فيجب ألا يكون قصد موسى عليه السلام مجرد اللوام، وإنما أخرج الكلام مخرج التعجب والاستغراب من وقوع مثل ذلك من أهل مقام النبوة، سيما ممن أسكنه الله الجنة وأسجد له الملائكة، وعلمه الأسماء، وهداه واصطفاه، وحذره من الشيطان، ونهاه عن الشجرة بعينها، وقطع معه الأعذار كلها، فأراد موسى السؤال عن السبب الموقع في ذلك مع استغراب شديد لوقوع الذنب ممن هذه حاله، واستطراف عظيم يهيج أسباب التنديم والتحزين على ما كان.
وأما آدم عليه السلام فجوابه يحتمل وجهين:
الوجه الأول: أن يكون قصد تهوين ما ظهر من موسى عليه السلام من عظيم الاستغراب، وشديد الاستطراف لوقوع الذنب منه، فأتى بما يمحو آثار الاستغراب والتعجب، ويحسم مادة الاستنكار العتابي، وهو: سبق العلم، وجفوف القلم بجميع ما كان منه، ولا شك أنها حجة مسكتة للمتعجب من وقوع الشيء المستغرب له السائل عن وقوعه بكيف الإنكارية، وبيان ذلك: أن الله تعالى لو أخبرنا بوقوع أمر من أفعالنا في وقت ثم لم يقع لكان هذا بالضرورة مما يتحير العقلاء في الجواب عنه، ويتبلد الأذكياء في معرفة وجهه، فإذا تقرر ذلك؛ ثبت أن وقوع الشيء مطابقا لما مضى فيه من علم الله تعالى غير مستنكر في العقل ولا يدفع في النظر، إذ من المستقبح أن يقول القائل: كيف وقع ما أخبر الله به مثل ما أخبر؟ أو كيف وقع الذي علم الله كما علم؟ ولا شك أنه إذا ثبت أن تقدير وقوع خلاف معلوم الله تعالى محارة للعقول، مضلة للأفهام، لم يصح أن يكون نقيضه كذلك، إذ يستحيل في الشيء ونقيضه أن يكون وقوع كل واحد منهما غريبا في العقل بديعا في النظر، فثبت بهذا أنه لا معنى لاستغراب موسى عليه السلام لوقوع ما كتبه الله تعالى على آدم وتعجبه من ذلك، وثبت بذلك صحة قول من أوتي جوامع الكلم «فحج آدم موسى» والله أعلم.
الاحتمال الثاني: أن يكون آدم عليه السلام فهم من موسى عليه السلام أنه أراد إثارة أحزانه على فعل الذنب، فقصد التسلي بالقدر؛ لأنه قد خرج من دار التكليف، ولم يبق عليه أن يندم، وهذا وجه لا غبار عليه، أما على أصول السنة؛ فظاهر، وأما على أصول المعتزلة؛ فإن تألم آدم عليه السلام في تلك الحال ممكن بشرط العوض من الله تعالى والاعتبار وهما حاصلان، أما العوض: فظاهر، وأما الاعتبار: فلأنه يمكن أن يعتبر بذلك أحد من الملائكة عليهم السلام أو يعتبر به أحد من المكلفين الذين عرفوا ذلك بتعريف رسول الله ﷺ، فظهر بذلك بطلان ما توهمه المعترض على كل مذهب، وسقوطه على كل تقدير.
الفصل الثاني: في بطلان احتجاج الجبرية بقدر الله تعالى الذي هو علمه السابق وقضاؤه النافذ، ولنورد في هذا الفصل فوائد نفيسة من كلام علماء السنة وأئمة الحديث، يشتمل على تعريف ماهية القدر عندهم، ويرد على من يقول بالجبر ممن ينتحل مذهبهم، فمن ذلك: قول الخطابي في معالم السنن ما لفظه: «قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله سبحانه والقضاء [منه، معنى] الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن قوله: «فحج آدم موسى» من هذا الوجه، وليس كذلك، وإنما معنى القدر الإخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من أفعال العباد وصدورها من تقدير منه وخلق لها. وكذا ذكر هذا أبو السعادات بن الأثير في جامع الأصول ومحيي الدين النووي في شرح مسلم. وقال الإمام الجويني في كتابه البرهان ما لفظه: «إن قيل: ما علم الله أنه لا يكون، وأخبر عن وفق علمه بأنه لا يكون فلا يكون، والتكليف بخلاف المعلوم جائز. قلنا: إنما يسوغ ذلك لأن خلاف المعلوم مقدور في نفسه وليس امتناعه بالعلم بأنه لا يقع، ولكن إذا كان لا يقع مع إمكانه في نفسه؛ فالعلم يتعلق به على ما هو عليه، وتعلق العلم بالمعلوم لا يغيره ولا يوجبه، بل يتبعه في النفي والإثبات، ولو كان العلم يؤثر في المعلوم لما تعلق العلم بالقديم. وتقرير ذلك في فن الكلام» انتهى كلامه.
وفي كلام الفخر ابن الخطيب الرازي أشياء في ذلك فاتني لفظها، وقد ذكرت جملة صالحة مما يدل على براءة أئمة السنة من الجبر، ونقلت في ذلك ألفاظهم من كتبهم الشهيرة، وأشرت إلى معنى قولهم بخلق أفعال العباد، وقد تقدم ذلك في الوهم الثالث عشر من هذا المختصر فخذه من هنالك، فإنه قد يتوهم أن قولهم بالاختيار مع قولهم بخلق الأفعال مناقضة صريحة، وليس هذا بلازم من مجرد إطلاق هذا اللفظ، مع فرقهم بين خلق الله تعالى وفعله، وقولهم: إن أفعال العباد لا توصف بأنها فعل الله تعالى، فقد عنوا بخلق الأفعال غير ما توهمه منهم المعتزلة، ومما يدل على ذلك أن العلم لو كان يخرج القادر عن القدرة لقدح ذلك في كونه تعالى قادرا، ولكان تعالى غير قادر على ترك ما علم أنه سيخلقه، ولا على خلق ما علم أنه لا يخلقه، ولكان العلم كافيا في إيجاد المخلوقات من غير قدرة ولا خلق، ونحو ذلك مما أجمعت الأمة بل العقلاء على بطلانه، وقد وردت الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة بما يدل على نفي الجبر وثبوت الاختيار:
قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقال رسول الله ﷺ في حديث القسم للنساء: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك» رواه أبو داود في السنن، قال الحافظ ابن كثير الشافعي في كتابه إرشاد الفقيه: إنه حديث صحيح. وروى مسلم بن الحجاج في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا: «فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه». وفي الأحاديث الصحيحة من ذلك ما يطول ذكره، والقصد الإشارة، وقد علم أن رسول الله ﷺ كان يعمل ويجتهد في العبادة ويأمر بذلك، ويحترز في الحروب، ويلبس الدروع، ويستشير في الرأي ويدبر الأمور، وقال ﷺ وقد سئل عن هذه الشبهة بعينها: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» فﷺ، لقد أوتي جوامع الكلم، وجمع في اللفظ القليل متفرقات الحكم.
الفصل الثالث: في الدليل على حسن الاحتجاج بالقدر من غير العاصي لله تعالى على ما قدمنا في الفصل الأول من الاعتبار، وعلى شريطة عدم الاحتجاج به على الجبر ونفي الاختيار، والدليل على ذلك أنه قد ورد في الشرع ورودا كثيرا، فمن ذلك قوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} فالله تعالى في هذه الآية الكريمة نص على حسن التسلي بالقدر، ولا معنى للتسلي إلا القطع بأن المقدر واقع لا محالة، وإن كان ممكنا في ذاته لم يخرج تركه عن القدرة، ومن ذلك أن المنافقين لما قالوا لإخوانهم: {لو أطاعونا ما قتلوا} رد الله ذلك عليهم، واحتج بالقدر فقال تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}، وأصرح من هذه الآية في المقصود قوله تعالى: {قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} فسوى بين القتل الذي هو من فعل المخلوقين، وبين الموت الذي هو من فعله تعالى في أنه لا يغني الاحتراز من القتل كما لا يغني الاحتراز من الموت، ومن ذلك قوله تعالى: {إلا امرأته قدرناها من الغابرين} فقوله: {قدرناها} تعليل لهلاكها لا خبر مستقبل، لأنه لا يحسن أن يقال: إلا امرأته جعلناها من الغابرين، لما لم يكن بينهما ملازمة تصلح للتعليل، ومن ذلك قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} قال في الكشاف: «أي عمله» ومنه قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين} قال في الكشاف في تفسيرها: «وأوحينا إليهم وحيا مقضيا -أي مقطوعا مبتوتا- بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة»، هذا لفظه مع غلوه في مذهبه. ومنه قوله تعالى: {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} وقوله تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم} وقوله تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم} وقول يعقوب عليه السلام: {يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء} إلى قوله تعالى: {إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه} وقال الزمخشري في تفسيرها: «خاف أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم» إلى قوله: {وما أغني عنكم من الله من شيء} يعني إن أراد الله بكم سوءا لم ينفعكم، ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق وهو مصيبكم لا محالة {إن الحكم إلا لله} ثم قال: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} يعني متفرقين {ما كان يغني عنهم} رأي يعقوب ودخولهم متفرقين شيئا حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم {إلا حاجة في نفس يعقوب} استثناء منقطع على معنى: ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قال لهم ووصاهم به: «وإنه لذو علم لما علمناه» يعني قوله: وما أغني عنكم، وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر» انتهى كلام الزمخشري.
وإنما اخترت كلامه دون كلام غيره من المفسرين؛ ليكون حجة على المعترض، فإنه أنكر احتجاج آدم عليه السلام بالقدر، والاحتجاج به والتعزي والاعتذار مشهور في السنة والقرآن، وألسنة أهل الإسلام، وإذا كان هذا الزمخشري على أنه داعية الاعتزال كما ترى، فكيف بغيره؟ ولم يزل العقلاء يتسلون بالقدر، وينظمون ذلك في أشعارهم، وقد تداول البلغاء هذا المعنى فقال بعضهم:
ما قد قضي يا نفس فاصطبري له ** ولك الأمان من الذي لم يقدر
ثم اعلمي أن المقدر كائن ** حتما عليك صبرت أم لم تصبري
وقال آخر:
نفذ القضاء بكل ما هو كائن ** فأرح فؤادك من لعل ومن لو
وقال آخر:
ومن الدليل على القضاء وكونه ** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وقال آخر:
ما ثم إلا ما يريـ ** ـــد فألق همك واسترح
واقطع علائقك التي ** يشغلن قلبك واطرح
وهي قصيدة كعب بن زهير الشهيرة: "وكل ما قدر الرحمن مفعول"
ونحو هذا مما لا سبيل إلى التقصي عليه مما اشتهر بين المسلمين من غير نكير على المتعزي به، فكيف أنكر المعترض ما لا يخفى؟
فإن قال: إنما أنكر ذلك لوقوعه من آدم عليه السلام جوابا على من لامه على الذنب، والمذنب لا يجوز له أن يتسلى بالقدر.
فالجواب: أن ذلك صحيح في حق المذنب، ولكن آدم عليه السلام تائب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وعلى هذا الجواب بحث، وهو أن يقال: إنه لا يحسن من التائب منا أن يتسلى بالقدر، بل المشروع من التائب أن يلوم نفسه ويتذكر ما يهيج حزنه على ما فرط منه كما لم يزل عليه أهل الصلاح.
فالجواب على هذا البحث: أن المبالغة في الندم بعد التوبة إنما لزمتنا لبقاء توجه التكليف علينا، وأما آدم عليه السلام فإنه ما تكلم بهذا إلا بعد الخروج من دار التكليف، ولا شك أنه لا يلزم المكلف في دار الآخرة أن يتأسف على ما فرط منه، ولو كان ذلك لازما في دار الآخرة؛ للزم في أهل الجنة وحسن منهم ولا قائل بهذا، وهذا هو لباب الجواب في هذه المباحث، وقد اقتصرت على هذا المختصر وقد أودعت الأصل أكثر من هذا، ولولا لجاج الخصم الألد ما احتجنا إلى ذكر هذا ولا بعضه، نسأل الله السلامة، ونرغب إليه في الاستقامة.
وقد أورد المعترض في الحديث ما ليس منه، فروى عن آدم ﷺ أنه قال -بعد ذكر تقدير الله ذلك عليه-: «وخلقه في قبل أن يخلقني بألفي عام»، وأوهم المعترض أن هذه الرواية في الصحاح، والصحاح برئية من هذا الإفك، فخلق المعصية في آدم قبل أن يخلق محال، والشيء لا يكون ظرفا لغيره في حال العدم، وكم بين هذه الرواية وبين ما ثبت في دواوين الإسلام.
الحديث السادس: حديث موسى وملك الموت عليهما السلام، وقد جعله المعترض ختام الأحاديث التي لا يمكن تأويلها، لما لم يعرف وجه ما ورد فيه من لطم موسى للملك عليهما السلام حين جاء الملك ليقبض روحه الشريفة، وعن هذا الحديث جوابان: معارضة وتحقيق.
أما المعارضة: فإنه قد ورد في القرآن العظيم أن موسى أخذ برأس أخيه عليهما السلام يجره إليه، وذلك من غير ذنب علمه من أخيه، ولا دفع مضرة خافها منه، وأخوه هارون نبي كريم بنص القرآن وإجماع المسلمين، وحرمة الأنبياء مثل حرمة الملائكة، وقد بطش موسى بهارون بطشا شديدا، ولهذا قال هارون متلطفا ومستعطفا له: يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي، ولا برأسي، ولا تشمت بي الأعداء، فإن كان المعترض يكذب القرآن فذلك حسبه من الكفران، وإن كان يتأول أفعال الأنبياء عليهم السلام على ما يليق حسب الإمكان، ويرجع فيما لم يمكن تأويله إلى الإيمان؛ فما باله لا يفعل مثل ذلك في الأحاديث الصحيحة والسنن المأثورة؟ وما له والتقحم في المهالك، والميل إلى متوعرات المسالك، والقطع بتكذيب الرواة، والمتابعة لبادئ رأيه وهواه؟
فإن قال: إن موسى عليه السلام إنما فعل ذلك غضبا لله تعالى؛ لأنه ظن أن هارون قصر في النهي عما فعل قومه من عبادة العجل ومجاوزته للحد في الغضب لأجل مجاوزة فعلهم للحد في القبح، ولما بقي عليه من طبيعة البشر في الغضب، وقد ورد في الصحيح عن رسول الله ﷺ: «اللهم إني بشر آسف كما يأسف البشر» فكذلك موسى عليه السلام.
قلنا: هذا كلام صحيح، ولكن يجب أن نتطلب لما ورد في السنة وجها حسنا أيضا كما تطلبنا مثل ذلك لما ورد في القرآن العظيم، فنقول وهو التحقيق: إن ذلك يحتمل وجهين:
الوجه الأول: 19 وهو المعتمد أن يكون الملك أتاه على صورة رجل من البشر، ولم يعرف أنه ملك، مثل ما أتى جبريل عليه السلام إلى مريم البتول رضي الله عنها فتمثل لها بشرا سويا ففزعت منه فقالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا، ولو علمت أنه جبريل الأمين لما استعاذت منه، فلما أتى ملك الموت إلى موسى على هذه الصفة، وأراد أن يقتله دفع موسى عن نفسه.
فإن قلت: أليس في الحديث أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال: يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وهذا يدل على أنه قد أخبره أنه ملك الموت، وأنه جاء لقبضه.
والجواب: أن هذا لا يدل على معرفة موسى لملك الموت، لأن معرفة ملك الموت لكراهة موسى للموت لا تستلزم معرفة موسى للملك بنص ولا مفهوم، ولا معقول ولا مسموع، ولو أن الملك جاء على صورة البشر وادعى أنه ملك، ولم يظهر لموسى ما يدل على صدقه، ولا خلق الله فيه علما ضروريا بذلك، لم يكن لموسى أن يصدقه في ذلك، وإلا جاز أن يدعي بعض شياطين الجن أو الإنس مثل ذلك على الأنبياء عليهم السلام ويجوز عليهم، وهذا ما لا يجوز أبدا.
ويدل على ما ذكرناه من عدم معرفة موسى للملك: أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى لا يقبض نبيا حتى يخيره، فلما جاء ملك الموت لقبض روح موسى من غير تخيير، أمكن أن يكون موسى قد علم أنه لا يقبض حتى يخير، فشك في صدقه لذلك، والذي يدل على هذا دلالة ظاهرة، أنه قد ورد في هذا الحديث بعينه أن ملك الموت لما رجع إلى موسى عليه السلام وخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم، ويؤيد هذا أن الله تعالى لو أراد موته في المرة الأولى، وتسليط الملك عليه لنفذ مراد الله فيه، ولم يقدر على دفع ملك الموت، ولكن الله تعالى أراد الذي كان منه لحكمة بالغة، وليعلم من يثبت إيمانه، ومن يستحوذ عليه شيطانه، كما قال تعالى في تحويل القبلة: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} وبمثل هذه الأمور يميز الله الخبيث من الطيب، والمؤمن من المتريب، نسأل الله أن يثبت قلوبنا على الإيمان، ويعصمنا من وساوس الشيطان.
الوجه الثاني: أن نقول: سلمنا أن الملك جاء إلى موسى عليهما السلام على صورة يعرفه عليها، ولكن ما المانع أن يكون موسى فعل ذلك وقد تغير عقله، فإن تلك الحال مظنة لتغير العقول، فقد خر موسى صعقا لأجل اندكاك الطور، فكيف بهول المطلع، فإنه عند العلماء بجلال الله سبحانه وتعالى أعظم وأجل من اندكاك الجبل، وهذا الاحتمال ايضا يمكن فيه حالان:
أحدهما: أن يكون الملك أتاه وقد تغير عقله من غمرات الألم وسكرات النزع.
وثانيهما: أن يكون جاءه وهو صحيح غير أليم، وإنما تغير عقله حين أخبره بأزوف الرحلة من دار العمل، وانقطاع المهلة والأمل، وذلك لأن أمل الأنبياء عليهم السلام عظيم في الترقي في مراتب الخدمة لله تعالى، وبلوغ أقصى المراتب في ذلك، والآخرة دار انقطاع من ذلك، فارتاع موسى عليه السلام لذلك، ويحتمل غير ذلك مما يحتاج إلى تأويل بعض ألفاظ الحديث فتركته اختصارا.
وأما ما ورد من أنه فقأ عين الملك فقال ابن قتيبة: «أذهب موسى العين التي هي تخييل وتمثيل وليست على حقيقة خلقته، وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان لم ينقص منه شيء».
والوجه في الحديث عندي هو الأول، وإنما ذكرت الوجه الثاني لبيان سعة المحامل لمن طلبها، وتعريف المعترض ببطلان ما توهم من عدم إمكان تأويل هذا الحديث.
ثم إن المعترض قدح على أهل الصحاح بروايتهم لأحاديث فساق التأويل، وكفار التأويل، وادعى الإجماع على تحريم قبول كفار التأويل، والقطع على تحريم قبول فساق التأويل، وركب الصعب والذلول في استنتاج القطع بذلك من الأدلة الظنية، وقد أوردت كلامه بلفظه في الأصل واستوفيت نقضه، واستوعبت الكلام فيه في قدر سبعين ورقة كبارا، وبلغت ما يرد عليه من الإشكالات إلى نيف ومئتي إشكال، وقدر رأيت أن أقتصر في هذا المختصر على نكت يسيرة من ذلك فأقول:
الكلام في أهل التأويل يشتمل على فوائد:
الفائدة الأولى: في تعريف المعترض أن في كلامه هذا هدم قواعد مذهبه، وخالف جميع سلفه، وكذب ثقات أصحابه، وقدح على كبار أئمته، وذلك أن الظاهر من مذهب الزيدية قبول أهل التأويل مطلقا كفارهم وفساقهم، وادعوا على جواز ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وذلك في كتب الزيدية ظاهر لا يدفع، مكشوف لا يتقنع. ولنذكر هنا ثماني طرق للإجماع، من طريق أئمة الزيدية وعلمائهم، الذين يجب عند المعترض قبول رواياتهم:
الطريق الأولى: عن الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، فإنه ادعى الإجماع على ذلك في كتابيه صفوة الاختيار والمهذب لكنه في الصفوة بالنص الصريح، وفي المهذب بالعموم الظاهر.
الطريق الثانية: طريق الإمام يحيى بن حمزة ذكره في الانتصار في كتاب الأذان مرة، وفي كتاب الشهادات أخرى.
الطريق الثالثة: طريق القاضي زيد بن محمد صاحب شرح التحرير ذكرها في شرح التحرير في كتاب الشهادات، ورواها عنه الأمير الحسين في التقرير.
الطريق الرابعة: طريق الفقيه عبد الله بن زيد العنسي ذكرها في كتابه الدرر المنظومة في أصول الفقه.
الطريق الخامسة: طريق الشيخ أبي الحسين البصري المعتزلي ذكرها في كتابه المعتمد في أصول الفقه.
الطريق السادسة: طريق الحاكم أبي سعيد المحسن بن كرامة المعتزلي ذكرها في كتابه شرح العيون.
الطريق السابعة: طريق الشيخ الحسن بن محمد بن الحسن الرصاص الزيدي رواها عنه حفيده أحمد بن محمد بن الحسن في كتابه غرر الحقائق.
الطريق الثامنة: طريق حفيده هذا أحمد بن محمد الرصاص ذكرها في كتابه جوهرة الأصول.
وفي هؤلاء من اقتصر على دعوى الإجماع، على قبول فساق التأويل دون الكفار، ومنهم من ادعى الإجماع على قبول كفار التأويل أيضا، وهم: الإمام يحيى بن حمزة في الانتصار [نصا] صريحا، والإمام المنصور في المهذب عموما ظاهرا، وعبد الله بن زيد في الدرر نصا صريحا، والقاضي زيد في الشرح كذلك.
وقال المؤيد في اللمع -الذي هو مدرس الزيدية- في كفار التأويل ما لفظه: «فعلى هذا شهادتهم جائزة عند أصحابنا» ثبت هذا اللفظ عنه في كتاب اللمع وكتاب التقرير وهذا في الشهادة التي هي آكد من الرواية، وأكثر من هذا أن السيد أبا طالب قال في كتاب اللمع: «إن كل من قبلهم ادعى الإجماع على ذلك، وهذا يدل على أن المدعين للإجماع عدد كثير من ثقات العلماء وأهل المعرفة التامة، فكيف يجترئ المعترض بالقدح بذلك على المحدثين موهما أنه لا يذهب إلى جواز لك أحد من الزيدية والمعتزلة، وقد أجمعت الزيدية على قبول مراسيل من يقبل من كفار التأويل وفساقه؛ كالمنصور بالله والمؤيد بتخطئة المجتهدين الذين قبولهم وبنوا الأحكام على روايتهم، ويستلزم ذلك عدم الاعتداد بأقوالهم، وانعقاد الإجماع على رءوسهم، وتحريم التقليد لهم، ونحو ذلك من الشناعات المستلزمة لمخالفة الإجماع.
الفائدة الثانية: في بيان كلام أئمة الحديث في ذلك، فقد ذكروا في فسافق التأويل أقوالا:
الأول: أنهم لا يقبلون كالمصرحين، يروى عن مالك، وقال ابن الصلاح: «إنه بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة» كما سيأتي.
الثاني: أنه إن كان يستحل الكذب لنصرة مذهبه لم يقبل، وإلا قبل، وهو مذهب أحمد، كما قال الخطيب.
قال ابن الصلاح: وهذا مذهب الكثير أو الأكثر، وهو أعدلها وأولاها.
قال ابن حبان: «هو قول أئمتنا قاطبة لا أعلم بينهم فيه خلافا» وكذا حكى بعض أصحاب الشافعي عن أصحاب الشافعي أنهم لم يختلفوا في ذلك.
وأما كفار التأويل فمن لم يكفرهم فحكمهم عنده على ما تقدم، وأما من كفرهم فحكى زين الدين ابن العراقي عن الحافظ الخطيب البغدادي الشافعي أنه حكى عن جماعة من أهل النقل والمتكلمين أنهم يقبلون أهل التأويل وإن كانوا كفارا، قال زين الدين: واختاره صاحب المحصول.
قلت: الجمهور منهم على رد الكافر، قال زين الدين: ونقله السيف الآمدي عن الأكثرين، وبه جزم أبو عمرو بن الحاجب. وقال صاحب المحصول: «الحق أنه إن اعتقد حرمة الكذب قبلنا روايته، وإلا فلا، لأن اعتقاده حرمة الكذب يمنعه منه».
الفائدة الثالثة: في ذكر بعض حجج القابلين لهم والمخالفين في ذلك، أما القابلون لهم فلهم حجج:
الحجة الأولى: الإجماع، وبيانه أن أهل الحديث وأهل السنة قاطبة أجمعوا على صحة حديث الصحيحين، مع أن في حديثهما ما هو مستند إلى المبتدعة: القدرية والمرجئة وغيرهم، من غير ظهور متابعة، ولا استشهاد، ولا تصريح من البخاري ومسلم بأن المتأول غير مقبول عندهما، فيجب حملهما على معرفة متابعات وشواهد تقوي حديث أولئك المبتدعة، ويجب الحكم بصحة حديثهم لأجل تلك المتابعات والشواهد، لا لأجل الثقة لهم. هذا إجماع ظاهر من أهل السنة.
وأما المعتزلة والشيعة: فقد ذكرنا رواية ثقاتهم للإجماع على ذلك، وذكرنا إجماعهم على الرجوع إلى الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة، وبينا أنهم يقبلون مراسيل من يقبل أهل التأويل، وأنه لا يمكنهم تمييز حديثهم من حديث أهل التأويل عندهم البتة.
فإن قيل: كيف نصغي إلى دعوى الإجماع، وقد علم وقوع الخلاف؟
قلنا: ذلك يصح؛ لأن الإجماع المدعى ليس بإجماع جميع الأمة، وإنما هو إجماع أهل عصر منهم، وهو إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فإن أهل العصر قد يجمعون فيعلم إجماعهم بعض أهل العلم فيرويه ويتبعه، ولا يعلم ذلك بعض أهل العلم فيخالف، ويروى الخلاف والإجماع، ومثل هذا كثير الوقوع، وقد عين كثير من أهل العلم ذلك العصر المدعى إجماع أهله، وذكر أنه عصر الصحابة والتابعين، واحتجوا بإجماع الصحابة على قبول القائمين على عثمان رضي الله عنه من الصحابة، ممن روى هذا أبو عمرو بن الحاجب في مختصر المنتهى وأجاب عنه بوجهين:
الأول: عدم تسليم الإجماع.
وهذا الوجه ليس بشيء، لأن راوي الإجماع إذا كان ثقة عارفا مطلعا موافقا في الطريق التي يعرف بها ثبوت الإجماع؛ وجب قبوله كما يجب قبول راوي الحديث. ولم يعارض إلا بنقل الخلاف بطريقة صحيحة، ولو جاز مقابلة نقلة الأدلة بذلك أمكن رد كل راو وتكذيب كل عالم.
الوجه الثاني: أنه يجوز أنهم قبلوا حديث أولئك لعدم اعتقادهم فسقهم، أو لتوقفهم في ذلك، أو لعدم معرفتهم بوقوع ذلك منهم، أو لاعتقاد بعضهم إصابتهم.
والجواب عنه من وجوه:
الأول: أنه إذا روى الإجماع ثقة لم يقدح تجويز وهمه في روايته لما لا حقيقة له، ولو قدح بمثل ذلك في هذا الإجماع أمكن القدح بمثله في كل إجماع، بل في كل رواية طريقها النقل في الأخبار واللغات ونحوها، فيقال في الخبر المرفوع: لعل السامع له وهم أنه من كلام رسول الله ﷺ، وإنما حكاه رسول الله ﷺ عن غيره، أو لعله توهمه مرفوعا وهو موقوف، أو مسندا وهو مقطوع، أو نحو ذلك.
الوجه الثاني: أن مدعي الإجماع ادعى العلم، ومن رد ذلك لم ينقل خلافا في ذلك وإنما استبعد أن يعلم ذلك غيره مع أنه لا يعلمه، ومن علم حجة على من جهل، وقد يختلف الناس في معرفة أخبار السلف وأحوالهم، ويحصل لبعض العلماء بشدة البحث للأخبار والتواريخ علم بأمور كثيرة لا يشاركه فيها غيره، وفي قبول مدعي الإجماع حمل الجميع على السلامة أما المدعي فلظن صدقه وتورعه عن رواية ما لا يعرف، وأما المنكر فلظن عدم معرفته لما عرف مدعي الإجماع، وحمله على عدم العناد، وعلى أنه لو عرف لوافق.
الوجه الثالث: أن اختلافهم في العلة لا يقدح في صحة التمسك بالإجماع، كما لو أجمعوا على قتل رجل اختلفوا في العلة، فقيل: بالقصاص، وقيل: بالردة، وقيل: بغير ذلك، فإن قتله يجوز قطعا، وكذلك قبول رواية فاسق التأويل إذا أجمعوا عليه واختلفوا في علته، فمنهم من قبله لأن فسق التأويل لا يوجب رد الرواية، ومنهم من قبله؛ لأن مذهبه أنه ليس بفسق عنده، فإن حديث ذلك الرجل يكون مقبولا بالإجماع، وأما فسقه فمأخوذ من دليل آخر. ويتعلق بهذا بحث دقيق يتعلق بالحديث المتلقى بالقبول؛ هل نقطع بصحته أم لا؟ وقد اختلف العلماء فيه وأوضحته في الأصل بما لا مزيد عليه.
الوجه الرابع: وهو المعتمد أنا وإن سلمنا عدم العلم بإجماع الصحابة على ذلك فلا نسلم عدم العلم بإجماع المتأخرين على قبول ما اتفق البخاري ومسلم على تصحيحه من حديث المبتدعة، وقد قدمنا بيان إجماع المعتزلة والشيعة على ذلك، وبينا اضطرارهم إلى القول به، وبسطناه في الأصل بسطا يضطر المعاند إلى الوفاق، ويخضع له منهم أهل اللجاج والشقاق، ومن وقف على كلام أبي عبد الله الذهبي في ميزان الاعتدال في نقد الرجال أيقن أنه لا سبيل إلى رواية السنن إلا على هذه الطريقة. ولله در الإمام الشافعي رضي الله عنه ما أوضح مناره وأقوى أنظاره وأصح اختياره وأحسن اعتباره! فهذه نبذة يسيرة مما يتعلق بالحجة الأولى وهي حجة الإجماع.
الحجة الثانية: أن الأمة أجمعت على أنه يحرم على العالم العمل بالعموم مع ظن وجود الخاص، والعمل بالحديث الظني مع ظن وجود ناسخه، والعمل بالقياس مع ظن وجود النص، ولا شك أن أخبارهم توجب ظن وجود الخاص والناسخ والنص المانعة من العمل بالعام والمنسوخ والقياس.
الحجة الثالثة: أن في رد حديثهم مضرة مظنونة، ودفع المضرة عن النفس واجب. وأما أن في ذلك مضرة مظنونة فذلك معلوم؛ فإن أهل الصدق والأمانة لو أخبرونا بأن الطعام مسموم؛ لوجب علينا تجنبه عند الأشعرية والمعتزلة عقلا وشرعا، وإذا كان هذا في مضار الدنيا -مع حقارتها- فكيف إذا أخبرونا بأن فعل بعض الأمور يغضب الله جل جلاله، ويستحق به عقابه ونكاله.
الحجة الرابعة: أنه يحصل بخبرهم الظن، والعمل بالظن حسن عقلا، أما عند المعتزلة فظاهر، وأما عند الأشعرية فلأن الفخر الرازي ذكر في المحصول وغيره أنهم لم يخالفوا في هذا القدر، وإنما خالفوا في أن تارك ما أوجبه العقل يستحق الذم عاجلا والعقاب آجلا.
وتقرير هذا الوجه: أن العقلاء اتفقوا على حسن الخبر والاستخبار، واعتمدوا في المهمات على إرسال الرسول، وكتابة الكتاب، وبعث النذير إلى من يخاف عليه، والطليعة إلى من يخاف منه، وكل هذا لا يفيد إلا الظن، وكذلك تصرفاتهم فإن عامتها مبني على استحسان العمل بالظن، فسفر التاجر على ظن الربح، وزرع الزارع على ظن التمام، وغزو الملوك على ظن الظفر، وقراءة القراء على ظن حصول المعرفة، ولهذا فإن رسول الله ﷺ لما بعث رسله إلى أهل عصره يخبرونهم بالشريعة ويبلغونهم الأحكام اتفق أهل ذلك العصر بفطر عقولهم السليمة على وجوب العمل بما أخبرهم به رسل رسول الله ﷺ من غير أن يعلموا جواز ذلك بنص شرعي متواتر قطعي، ومن غير أن يستقبح ذلك منهم أحد، ولم يختلفوا ويتناظروا في ذلك، فثبت بهذا أن العمل بالظن حسن عقلا، وأن العمل له لم يزل بين المسلمين ظاهرا قديما وحديثا، ولا يخص من ذلك إلا ما خصه الدليل الشرعي، وقد تعرض ابن الحاجب لإبطال هذا الوجه فلم يأت بشيء، ولولا خوف التطويل لبينت ذلك.
الحجة الخامسة: قوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما} وقوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} وأمثال ذلك، وهذا عام في كل ما جاء عن الله، سواء كان من كلامه سبحانه أو على لسان رسول الله ﷺ، وسواء كان معلوما أو مظنونا، بل الأكثر من ذلك هو الذي جاء مظنونا، وقد ثبت أن معنى القرآن الكريم منقسم إلى: معلوم ومظنون، وأنا متعبدون بهما معا، وأن المعنى المظنون من جملة ما جاءنا من عند الله تعالى، فكذلك السنة فيها معلوم ومظنون، وكل منهما مما جاءنا من عند الله.
الحجة السادسة: قوله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} فذمهم الله تعالى بعدم الاستماع على الإطلاق، ولا بد من تقييده بعدم استماع ما جاء من عند الله تعالى من معلوم أو مظنون، وإنما قدرنا ذلك لأن تقدير المعلوم وحده على خلاف الإجماع، فإن الأمة أجمعت على وجوب الرجوع إلى الأدلة الظنية من المعاني القرآنية والأخبار الآحادية، وإنما لم يؤثموا المجتهدين إذا خالفوا شيئا من الأدلة الظنية؛ لأنهم اتبعوا ما ظنوا صحته.
الحجة السابعة: قوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون} وهي عامة في كل ما آتانا الله من معلوم ومظنون، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» فيجب بذل الاستطاعة في تعرف ما آتانا الله تعالى من معلوم ومظنون، فأعلى المراتب: أن نعلم اللفظ والمعنى، ودون ذلك: أن نعلم اللفظ ونظن المعنى. ودون ذلك: أن نعلم المعنى ونظن اللفظ أو نظنهما معا، على أن في علم المعنى مع ظن اللفظ بحثا ليس هذا موضعه.
الحجة الثامنة: قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وفي آية: {الفاسقون} وفي آية: {الظالمون} وقد ثبت أن ما أنزل الله منقسم إلى معلوم ومظنون وقد مر تقريره.
الحجة التاسعة: حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وهو حديث حسن معمول به، ذكره النووي في مباني الإسلام وحسنه وأخرجه الترمذي في جامعه وهو يصلح حجة في المسألة هو وما في معناه من الحديث، لمن ثبت له صحته من غير طرق المبتدعة بفسق أو بكفر، وهو يدل على قبول من يظن صدقه لأن رده مما يريب.
فإن قلت: إن تصديقهم مما يريب أيضا.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أن ذلك يسمى ريبا؛ لأنه راجح مظنون، والراجح المظنون صحته لا يسمى تجويز خلافه ريبا في اللغة، فإن الإنسان إذا غاب من منزله ساعة من نهار، وعهده بعمارته قائمة صحيحة؛ فإنه لا يسمى مريبا في انهدام الدار، وإن كان يجوز ذلك، وكذا إذا أخبره ثقة بخوف عدو، فإنه يسمى مريبا من خوف العدو لا صدق الثقة الذي أخبره.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا أن ذلك يسمى ريبا لما سلمنا سقوط التكليف بقبولهم، وذلك لأن في قبولهم ريبا مرجوحا، وفي ردهم ريبا راجحا، ولا شك أن الاحتراز من المضرة الراجح وقوعها أولى من الاحتراس من المضرة المرجوح وقوعها، وإلا لزم قبح التصديق للنذير، وإن كان ثقة، لتجويز الكذب أو الوهم عليه، ونحو ذلك، ويعضد هذا المعنى كل ما ورد فيه مثل حديث: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» الحديث، وهو صحيح، ويدخل في الشبهات، ارتكاب ما رووا تحريمه، وترك ما رووا وجوبه، بل هو أقرب إلى الحرام؛ لأنه من قبيل ارتكاب ما يغلب على الظن تحريمه، فتأمل ذلك ونظائره في الحديث.
الحجة العاشرة: أنه يحرم عليهم كتم ما يعرفونه من حديث رسول الله ﷺ لما ورد في تحريم ذلك من القرآن والسنة والإجماع، فلا يرتفع وجوب ذلك عنهم إلا بدليل يعارض أدلة تحريم كتم العلم في القوة والظهور، ولا شك أنه لا يوجد ما يماثل ذلك في إسقاط تحريم الكتم عليهم، وإذا ثبت أنه يجب عليهم التبليغ ويحرم عليهم الكتم ثبت أنه يجب قبولهم وإلا لم يكن لتبليغهم فائدة، ولا لوجوب ذلك عليهم معنى.
وأما المصرح بالكفر والفسق؛ فغير متعبد بذلك في حال فسقه، لانعقاد الإجماع على اشتراط توبته في القبول.
وأما المتأول؛ فلم ينعقد الإجماع على ذلك بل ادعى غير واحد من أهل الفقه انعقاد الإجماع على قبولهم كما قدمنا فافترقا. وفي هذا بحث لطيف تركته اختصارا.
وهذه عشر حجج اختصرتها من نيف وثلاثين حجة ذكرتها في الأصل، وأردفتها بذكر بضعة عشر مرجحا لقبولهم على ردهم.
وأما الرادون لحديث كفار التأويل وفساقه، فقد احتجوا بأمور ضعيفة، وقد أوردتها في الأصل وأضحت الجواب عليها، وأنا أورد هنا أقوى ما تمسكوا به، وألوح إلى جمل كافية في الجواب على ذلك.
فمما احتجوا به قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة}.
قال المعترض: وهذا في معنى العموم كأنه قال: إن جاءكم فاسق أي فاسق.
والجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن المتأول لا يستحق اسم الفسوق في عرف العرب؛ لأنه في عرف أهل اللغة: الذي يتعمد ارتكاب الفواحش تمردا أو خلاعة، وليس هو من يكف نفسه عن كل ما يعلم تحريمه أو يظنه، ولا يفعل قبيحا إلا بتأويل، وإذا لم يكن يسمى فاسقا في عرفهم لم تتناوله الآية، سواء كان يسمى في وضع اللغة أم لا، لأن الحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية، والذي يدل على ذلك العرف آيات كثيرة، منها: قوله تعالى في الكفار: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} وقوله تعالى في المشركين: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله} إلى قوله {وأكثرهم فاسقون} وقوله تعالى في اليهود: {وأن أكثركم فاسقون} وهذه الآيات الكريمة دالة على أن في المشركين وسائر الكفار من ليس بفاسق، وقد فسر الزمخشري هذه الآيات على المعنى الذي ذكرته، فقال في قوله تعالى: {وأكثرهم فاسقون} «متمردون خلعاء لا مروءة تزعهم، ولا شمائل مرضية تردعهم، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التفادي عن الكذب والنكث، والتعفف عما يثلم العرض ويجر أحدوثة السوء» انتهى.
وهو تصريح منه بما ذكرته في تفسير الفاسق، فكيف يدخل فيه المتأول المتعبد المتورع المتخشع؟ وقد فهم هذا المعنى في هذه الآية بخصوصها غير واحد من أهل العلم بتفسير كتاب الله تعالى، فقال عبد الصمد في تفسيرها: سمى الله الوليد فاسقا لكذبه الذي وقع به الإغراء، وقال القرطبي في هذه الآية في تفسيره: «وسمى الله الوليد فاسقا، أي كاذبا» قال القرطبي: «وقال العلماء: الفاسق الكذاب، وقيل: الذي لا يستحي من الله». انتهى كلامه.
وفيه شهادة للمعنى الذي ذكرته، أقصى ما في الباب: أن هذا الاحتمال غير ظاهر، لكنه محتمل غير مرجوح، وذلك يمنع من الاحتجاج بها في المتأولين.
الوجه الثاني: أن الله تعالى قال: {إن جاءكم فاسق بنبأ فنبينوا} ولم يقل: فلا تقبلوه، والتبين هو تطلب البيان، وليس القطع على أنه كاذب يسمى تبينا في اللغة ولا في العرف ولا في الشرع، وقد جاء الأمر بالتبين في القرآن الكريم، وليس المراد به الرد والتكذيب، وذلك في قوله تعالى في سورة النساء: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} فروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن المسلمين لحقوا رجلا في غنيمة له، فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته فنزلت، وهو حديث صحيح مروي من غير طريق، فثبت أن التبين طلب البيان لا رد المتهم.
فنقول: من جملة التبين أنا ننظر إلى المخبر أهو من أهل الصدق والتحري أم لا؟ فإن لم يكن منهم لم نقبله، وإن كان منهم نظرنا هل أخبرنا بأمر يتعلق بحقوق المخلوقين، أو بأمر من أمور الدين، فإن كان مما يتعلق بأمر الدين؛ اكتفينا فيه بظن صدقه وأمانته ما لم يجرح بأمر يعارض أدلة قبوله، وإن كان في حقوق المخلوقين لم نصدقه حتى يشهد معه شاهد آخر غالبا، ولا شك أن الآية نزلت في حقوق المخلوقين وأن الوليد لم يكن في المتأولين باتفاق العارفين.
الوجه الثالث: أن الله تعالى علل التبين بخوف الإصابة بالجهالة، وهذه العلة غير حاصلة في خبر المتدين، 20 فإن خبره يفيد الظن الراجح وذلك لا يسمى جهالة لوجهين:
الوجه الأول: أنه يسمى علما في لغة العرب لقوله تعالى: {وما شهدنا إلا ما علمنا} وغير ذلك، وما ثبت أنه يسمى علما في لسان العرب فلا يسبق إلى الفهم أنه يسمى جهالة، ولا يجوز ذلك إلا بدليل.
الوجه الثاني: وهو المعتمد أنا نظرنا في الجهالة هل هي عدم العلم أو عدم الظن؟ فوجدناها عدم الظن لا عدم العلم، وإنما قلنا ليست عدم العلم؛ لأن العلم لا يحصل أيضا بخبر المسلم الثقة ولا بخبر الثقتين، فثبت أن الجهالة تنتفي بحصول الظن، وهو حاصل بخبر المتأول المتدين، وقد قال القرطبي: «في هذه الآية الكريمة سبع مسائل، وذكر منها: أن القاضي إذا قضى على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة كالقضاء بشاهدين عدلين، وقبول قول عالم مجتهد» انتهى.
وهو صريح في المعنى الذي ذكرته ولله الحمد. وللزمخشري مثل ذلك ذكره في تفسير قوله تعالى: {فإن علمتموهم مؤمنات}.
الوجه الرابع: أن الآية خاصة في حقوق المخلوقين لا عامة في جميع أخبار المخبرين، ولا شك أن خبر الواحد الثقة غير مقبول في حقوق المخلوقين على الإطلاق، وأن الثقات غير مقبولين في حقوقهم إذا كانت بينهم أحنة عداوة، والوليد كان بينه وبين الذين كذب عليهم عداوة، فلا حجة في الآية لا في عمومها، ولا في مفهومها، ولا في تعليلها المقتضي للقياس عليها.
الوجه الخامس: أنا لو قدرنا عمومها وسلمنا تسليم جدل لم يمنع ذلك من تخصيصها، ولا شك أن في أدلتنا المتقدمة ما هو أخص منها كالإجماع، ودليل المعقول وغيرهما.
الوجه السادس: أنا لو سلمنا عدم وجود المخصص، لم يلزم ما ذكره الخصوم؛ لأن ما أوردناه من الآيات الكريمة معارضة لعموم هذه الآية، لو سلمنا أنها عامة وتلك الآيات أرجح لكثرتها، ولما في قبول المتأولين من الاحتياط غالبا، ولما في مخالفة ذلك من خوف مخالفة الإجماع، ولغير ذلك من المرجحات المذكورة في الأصل وقد ذكرت في الأصل سبعة عشر وجها في القدح على المعترض في احتجاجه بهذه الآية الكريمة، وفي هذا القدر كفاية إن شاء الله تعالى.
الحجة الثانية: مما احتجوا به: القياس على الكافر والفاسق المصرحين، قالوا: فإن العلة في ردهما الكفر والفسق، وهي حاصلة في المتأولين، والجواب من وجوه:
الأول: أن هذا قياس مصادم للإجماع والدليل العقلي، فلا يقبل وفاقا، فإن كل واحد منهما يمنع منه.
الوجه الثاني: أنه مخصص لكثير من الآيات القرآنية والآثار الصحيحة، وكل قياس على هذه الصفة لم يلزم المصير إليه، بل يقف ذلك على حسب مذهب العالم في تجويز تخصيص العموم به، وعلى حسب قوة العموم أو قوة القياس أو ضعفهما، أو قوة أحدهما وضعف الآخر.
الوجه الثالث: أن التعليل بالفسق غير مسلم، وإذا لم تسلم العلة انهدم أساس القياس، وذلك أن الخصم ادعى أن العلة في قبول العدل: أن قبول منصب تعظيم وتشريف، والفاسق المتأول غير أهل لذلك، وعندي أن العلة هي ظن الصدق ورجحانه، والدليل على ذلك وجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}، فلو كانت العلة مجرد العدالة، وكونها منصبا شريفا، مستحقا للتعظيم، مانعا من قبول الرد لما فيه من الاستهانة بالمردود والتهمة له، لكفى العدل الواحد، فإن قيل: هذا ينعكس عليكم، فإنه لو كان العلة الظن لكفى الوحد أيضا، فالجواب من وجوه:
أحدهما: أن القصد في حقوق المخلوقين الظن الأقوى حسب الإمكان المتيسر، وفي حقوق الله تعالى مجرد الظن.
وثانيهما: أنه إذا بطل بهذا تعليلنا بطل به تعليل الخصم، وذلك يضر الخصم ولا يضرنا، لأن بطلان به تعليل يستلزم بطلان القياس وبذلك تبطل حجة الخصم القياسية. وأما نحن؛ فلم نحتج إلى القياس في هذه المسألة وإنما قصدنا بطلانه.
وثالثها: أن سائر أدلتنا في استنباط التعليل بالظن غير معارضة بما يساويها في القوة.
الوجه الثاني: قوله تعالى: {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} فأباح الله تعالى قبول كافر التصريح عند الضرورة الدنيوية، حين لم يوجد من يحفظ المال بالشهادة سواه، فدل على أن قبولها ليس بمنصب تشريف لا يستحقه إلا مؤمن، فأولى وأحرى أن نقبل المتأول من أهل القبلة، إذا اضطررنا إلى ذلك في أمر ديننا، بأن يحفظ عن نبينا ﷺ حكما ونظن صدقه فيه ولا نجد غيره أحدا يرويه، فإن الشرع قد جعل الشهادة في حقوق المخلوقين آكد من الخبر عن أمور الدين، لما ورد فيها من اعتبار شاهدين اثنين، وعدم الاجتزاء بامرأة واحدة عن احد الشاهدين ونحو ذلك، فإذا جاز في الضرورة اعتبار كافر التصريح في الشهادة، مع تغليظ حكمها، فجواز اعتبار كافر التأويل في الرواية أولى، وفي هذه الآية أوضح دليل على جواز تخصيص العلة، فتأمل ذلك.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} فعلل بما يفيد قوة الظن.
الوجه الرابع: قوله تعالى في الكتابة: {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا} وهذا أوضح دليل على اعتبار ما يبعد عن الريبة، دون اعتبار منصب العدالة الراجع إلى ما يستحقه المسلم من التعظيم.
الوجه الخامس: ورود الشرع بشاهد ويمين عند من يقول بذلك من أهل العلم، ولا شك أن شرع اليمين يدل على اعتبار قوة الظن ولا يناسب مقام تعظيم المؤمن، بل فيها تهمة للشاهد والحالف، ولو صدقا من غير شهادة ولا يمين كان أكثر تعظيما لهما.
الوجه السادس: أنه يجب رد حديث العدل في دينه إذا كان سيء الحفظ [يترجح] خطؤه على صوابه، وهذا إجماع، وفيه أكبر دليل على أن العبرة الظن، ولهذا وجب رد المسلم المتدين حيث زال الظن لصدقه، ولو كانت العلة ما ذكره المعترض من استحقاقه لمنصب القبول بإسلامه وإيمانه وديانته؛ لوجب قبول سيء الحفظ، وإن كان خطؤه أكثر من صوابه، لأنه لم يتعمد ولا إثم [عليه] في ذلك ولا حرج باتفاق المسلمين.
الوجه السابع: أن علماء الأصول عملوا في باب الترجيح بتقديم خبر من قوي الظن بإصابته وصدقه، ولم يقدموا خبر من كثر ثوابه وعظمت منزلته عند الله تعالى، فاعتبروا في الترجيح جودة الحفظ، وملازمة الفن، وموافقة أهل الإتقان، ولم يعتبروا أسباب عظم المنزلة عند الله من كثرة الجهاد والصدقة والذكر، وقد ضعفوا [جماعة] لكثرة اشتغالهم بالعبادة وانقطاعهم في الذكر، حتى غفلوا عن الحديث وساء حفظهم، وهذا أوضح دليل على تعليل القبول بالظن لا باستحقاق منصب التعظيم.
الوجه الثامن: أنه يجب على المجتهد العمل بما يفيده الظن في المعاني القرآنية اللفظية ونحوها، فيجب عليه تقديم دليل المنطوق على دليل المفهوم ونحو ذلك، وليس العلة أن دليل المنطوق منصب للتعظيم، ودليل المفهوم منصب للاستهانة، وإنما العلة وجوب قبول الراجح وتقديمه على المرجوح، فيجب مثل ذلك في رواة الأخبار النبوية، فإن العلة واحدة وهي حصول الظن الراجح.
قال المعترض: يلزم وجوب قبول من ظن صدقه من المصرحين بالمعاصي.
والجواب: أنه مخصوص بالإجماع على رده، وهذا لا يبطل العلة لأنه تخصيص، وتخصيص العلة جائز كما في تعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان، مع أنه يخص من ذلك الأب إذا قتله ابنه عمدا عدوانا، فإنه لا يقتل به قصاصا، وإن كانت علة وجوب القصاص قد وجدت فيه للدليل الذي خصه، ولا بد للمخالف من تخصيص العلة، فإن من علل بالعدالة خصص من العدول سيء الحفظ الذي خطؤه أكثر من صوابه.
وقد ذكرنا أن قوله تعالى: {أو آخران من غيركم} حجة ظاهرة على جواز تخصيص العلة، على أن الشيخ العلامة عز الدين بن عبد السلام قد روى خلافا في قبول فاسق التصريح المظنون صدقه، فروى عن الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه: أن فاسق التصريح متى كان معروفا بالصدق مشهورا بالأنفة العظيمة من رذيلة الكذب، بحيث أنه اختبر في ذلك وعرف منه أنه يجتنبه كما يجتنب المؤمن الحرام قبلت شهادته، ذكره في كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام وبه قال المنصور بالله من أئمة الزيدية، وشرط في جواز قبوله خلو الأرض -التي يقبل فيها- عن وجود أهل العدالة؛ لأنه قاس ذلك على جواز قبول الكافر في السفر عند عدم المسلمين.
واحتج سائر أهل العلم على المنع من قبول المصرحين: بأن وازع المصرح عن الكذب إنما هو الحياء عن ظهور هذه الرذيلة عليه والأنفة من ذلك، وهذا الوازع وإن عظم فإنه لا يقوم مقام وازع التقوى والمراقبة لله تعالى، لأن خوف العار وحب المحمدة يضعف فيما يخفى ويظن صاحبه أنه لا ينكشف للناس، والوازع الأخروي، والحياء من الله، والخوف من غضبه وعقوبته مستو في الباطن والظاهر، والفاسق المصرح وإن حصل بخبره ظن، فالظن بخبر الثقة من أهل العدالة أقوى، ولا يمنع أن يرد الشرع باعتبار ظن دون ظن في حقوق الله تعالى لزيادة قوة أحدهما على الآخر، كما ورد باعتبار ذلك في حقوق المخلوقين لهذه العلة، فوجب الحكم بالظن الصادر عن شهادة عدلين دون الظن الصادر عن شهادة عدلتين، وكذلك حقوق الله تعالى فلا يمنع وجوب قبول الظن الصادر عن العدل دون غيره، ولكن هذا خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل، وذلك الدليل هو قوله تعالى: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم}، وقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} ونحو ذلك مما ورد في السنة النبوية، فلهذا تركنا الفاسق والكافر المصرحين.
وأما الفرق بين الكافر والفاسق تأويلا وقبول الفاسق دون الكافر فضعيف؛ لأن التأويل إن أثر في القبول لعلة ظن الصدق اعتبر فيهما معا، وإلا لم يعتبر، وأما من لم يقبل الدعاة منهم فله وجهان:
أحدهما: أنهم يتهمون لشدة حرصهم على الدعاء إلى بدعتهم بتدليس خفي عن بعض الضعفاء فيما ينصر مذهبهم، ونحو ذلك، وهذا يضعف فيما لا يتعلق بمذهبهم، ويوقف فيه فيما يتعلق بذلك على حسب القرائن.
الوجه الثاني: للزجر عن مخالطة الطلبة لهم خوفا على الطلبة من فتنتهم، وهذا نظر مصلحي لا يسقط بمثله وجوب العمل بالحديث الراجح المظنون صحته، ولا سيما وقد بلغنا ما رووه بعد موتهم أو في حياتهم من غير مخالطة لهم، ولم أقف للقائلين بذلك على وجه، وإنما تكلفت هذين الوجهين لهم، والعجب من مصنفي علوم الحديث كيف لم يتعرضوا لذكر وجه ذلك! على أن الرواية عن الداعية الثقة ثابتة في الصحيح كرواية حديث قتادة مع أنه كان قدريا، روى الذهبي عنه في التذكرة أنه لم يكن يقنع حتى يصيح به صياحا، رواه بصيغة الجزم عن ضمرة بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب ثقة عن ثقة، ولنقتصر على هذا القدر من إيراد ما تمسكوا به وبيان الجواب عليهم، فليس لهم متمسك أقوى مما ذكرناه.
الفائدة الرابعة: في ذكر ثلاث طوائف خصهم بالذكر، وأورد في الاحتجاج على جرحهم في الرواية ما لم يورد في غيرهم: الطائفة الأولى المجبرة؛ لكنه أراد بهم من ليس بجبري من الأشعرية وأهل الحديث، وهذا لفظه قال: أما المجبرة فعندهم أن الله تعالى يحوز أن يعاقب المطيع وأن يثيب العاصي فلا فائدة في الطاعة، وأيضا فعندهم أن أفعالهم من الله تعالى، فالإثابة عليها والعقاب لا معنى له، فإن قالوا: هذا من جهة العقل، لكن قد ورد السمع أنه يدخل المطيع الجنة والعاصي النار، قلنا: إنه إنما وعد ذلك مقرونا بمشيئته لقوله: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} وهم لا يعلمون من الذين يشاء الله أن يغفر لهم.
أقول: الجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: أنا قد بينا غير مرة أن الأشعرية وأهل الحديث لا يقولون بالجبر، وبينا نصوص أئمتهم على ثبوت الاختيار ونفي الإجبار كالجويني والخطابي والنووي وابن الحاجب، وغير واحد ممن قدمنا ذكره، وهم أعرف بمذاهبهم من غيرهم، والرجوع إليهم في تفسير مقاصدهم في عباراتهم أولى من الرجوع إلى من عداهم؛ وإذا جاز أن ينسب إليهم ما هم مفصحون بالبراءة منه، جاز أن ينسب إلى الشيعة والمعتزلة مثل ذلك، فوجب اطراحه والرجوع إلى العدل والإنصاف، والحكم بما ظهر من أهل الخلاف.
الوجه الثاني: أن المعلوم ضرورة من مذهبهم خلاف ما ذكره، وإنما ألزمتهم ذلك المعتزلة مجرد إلزام، كما أنهم ألزموا المعتزلة القول بأقبح من ذلك في كثير من مسائل الكلام، والفريقان أعقل من أن يرتكبوا من الكذب المعلوم بالضرورة ما ارتكبه المعترض، فإن الكذاب إنما غرضه أن يعتقد صحة باطله وصدق كذبه، فإذا كان معلوما بالضرورة لم يستفد بكذبه إلا أن يعلم أنه كاذب، فإن كان الذي جرأه على هذا كراهيته للأشعرية؛ فما أصاب السنة، ولا عمل بمقتضى الشريعة، قال الله تعالى: {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} وإن كان قال ذلك طمعا في التمويه على خصمه، فأدنى العوام 21 يعرف أنه ليس في أهل القبلة من يعتقد أن الله تعالى يعاقب المطيع ويثيب العاصي، بل ما علمنا في ملل الشرك وعباد الأوثان من يعتقد ذلك في معبوده.
الوجه الثالث: أن هذا الاستدلال هو المعروف في علم المنطق بالمغالطة، قال المنطقيون: والمورد لها إن قابل بها الحكيم فهو سوفسطائي، وإن قابل بها الجدلي فهو مشاغبي. وإنما قلت ذلك؛ لأن المغالطة قياس يتركب من مقدمات شبيهة بالحق تفسد صورته بألا يكون على هيئة منتجة لاختلال شرط معتبر، وهذا حاصل في كلام المعترض، وبيانه من وجهين:
الوجه الأول: قوله عندهم: أنه يجوز أن يعاقب الله المطيع ويثيب العاصي، فهذه مقدمة باطلة تشبه الحق.
أما بطلانها؛ فلأنهم مصرحون بأن ذلك لا يجوز بدليل السمع القاطع، بل مجوز ذلك يكفر عندهم بشكه فيما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وأما شبهها بالحق؛ فلأن عبارة بعض الأشعرية في علم الكلام توهم أن ذلك عندهم جائز في العقل فقط، وقد بينا فيما مضى موضع الخلاف بينهم وبين المعتزلة في التحسين والتقبيح، وأنهم لم يخالفوا في أن المستقبح بضرورة العقل صفة نقص، وأن الله تعالى منزه عن صفة النقص، وإنما خالفوا في أن فاعل صفة النقص يستحق الذم والعقاب بمجرد العقل، وعلى كل تقدير فإنهم يمنعون مما ذكر أنهم يجيزون إما عقلا وسمعا، وإما سمعا، ومنعهم من ذلك سمعا كاف في تحريم نسبة تجويز ذلك إليهم، 22 ألا ترى أن المعتزلة والشيعة يقولون بأن نكاح الأمهات والأخوات حسن عقلا، لكنه قبيح شرعا، لم يلزمهم تجويز ذلك على الإطلاق.
الوجه الثاني: في بيان سلوكه مسلك المغالطة قوله: فلا فائدة في الطاعة، فإنه أوهم أن هذا من جملة مذهبهم ليتم له ما قصد من الاستدلال على تجرئهم على الكذب على الله تعالى ورسوله، فهذا باطل من هذا الوجه، وهو شبيه بالحق لأنه يوهم الجاهل أن مذهبهم في نفي التحسين والتقبيح عقلا يوجب ذهابهم إلى ذلك.
الوجه الرابع: أنهم لو ذهبوا إلى ذلك؛ لوجب تكفير المعتزلة والزيدية وسائر الشيعة إلا أبا الهذيل، وبيان ذلك: أن في المعتزلة والزيدية من لا يقول بتكفيرهم، وبقيتهم لا يكفرون من لم يكفر الجبرية من شيوخهم إلا رواية عن أبي الهذيل، ولو كانوا يجوزون تعذيب رسول الله ﷺ، وأن أبا لهب يكون صاحب الشفاعة يوم القيامة؛ لكان كفرهم معلوما من ضرورة الدين وكفر من لم يكفرهم كذلك، وكان يلزم كفر المعتزلة والزيدية، أما من لا يكفر [هم] مثل السيد الإمام المؤيد بالله، والإمام يحيى بن حمزة وغيرهما فظاهر لأنهم حينئذ يكونون بمنزلة من شك في كفر المشركين واليهود، والنصارى، وأما سائر المعتزلة والزيدية فلأنهم لا يكفرون أئمتهم وشيوخهم الذين منعوا من تكفير الأشعرية، ولا شك أن من شك في كفر عابد الأصنام وجب تكفيره، ومن لم يكفره، ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضرورة، فثبت بهذه الوجوه أن المعترض كاذب بالضرورة. وقد طولت في الرد عليه في الأصل على سبيل التوبيخ له، وإن كان مثل هذا غير محتاج إلى الجواب. وبقية كلامه في المجبرة على هذا الأسلوب كما أوضحته في الأصل ولم يبق في كلامه ما يحسن إيضاح بطلانه إلا قوله: فإن قالوا هذا من جهة العقل، لكن قد ورد السمع بأنه يدخل المطيع الجنة والعاصي النار. قلنا: إنه إنما وعد ذلك مقرونا بمشيئته لقوله: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} وهم لا يعلمون من يشاء الله أن يغفر لهم.
والجواب عليه: أنه جحد للضرورة، فإنهم يعلمون أن الذين يشاء الله أن يغفر لهم هم من أهل الإسلام دون المشركين، وأن أهل الكبائر من أهل الإسلام قد توعدهم الله بالعقاب، وأن وعيد الله تعالى لهم صادق، لكنه عموم يجوز تخصيصه بالمغفرة لبعضهم من غير تعيين، وبهذا يبقى الخوف والرجاء مع كل مؤمن، وهذا مذهبهم معلوم بالضرورة، لا يمكن التشكيك فيه، والآية وإن كانت مجملة، فقد ورد بيانها، وقد أجمع أهل ملة الإسلام على وجوب العمل ببيان المجمل، فإما أن يقول المعترض: إنه لم يرد لهذه الآية بيان في السمع، أو يقول: إن مذهبهم العمل بالمجمل وطرح المبين، وأي هذين ارتكب لم يزد على أنه عرف خصمه بجرأته على البهت، وقلة حيائه من أهل العلم.
"* فاختر وما فيهما حظ لمختار *"
ومن العجائب الدالة على إسراف المعترض، وغلوه: أنه احتج بما ذكره على أن الجبرية لا يتنزهون عن الكذب، وقد قال في البراهمة: إنهم يتحرزون عن الكذب أشد التحرز، ويتنزهون عنه أعظم التنزه، مع أن البراهمة يصرحون بتكذيب جميع كتب الله المنزلة، ويفصحون بتضليل جميع الأنبياء والرسل الكرام، وينسبونهم إلى السحر وطلب العيش في الدنيا بالكذب على الله تعالى، ويسخرون منهم سخر الله منهم، ولهم عذاب أليم، ولا يعتقدون ثبوت النار، ولا يخافون العقاب على ذنب من الذنوب، فهؤلاء نص المعترض على تنزيههم عن الكذب! وبالغ في المنع من ذلك في حق من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وجميع ما جاءوا به، وأقام أركان الإسلام وأحل الحلال وحرم الحرام! فهذا هو الكلام على الطائفة الأولى من المتأولين الذين خصهم بالذكر، وتجاهل في رميهم بالجبر.
الطائفة الثانية: المرجئة، وهذا لفظه فيهم قال: ولأن المرجئة والمجبرة لا يرتدعون عن الكذب وغيره من المعاصي، أما المرجئة: فعندهم أنهم مؤمنون، وأن الله لا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، وإن زنا وإن سرق، وإن قتل، والكذب أخف من ذلك.
أقول: حل هذه الشبهة التي أوردها المعترض في هذا الموضع متوعر المسالك، بعيد الأغوار، دقيق المأخذ، ولم يورد في رسالته أعوص منها، وما أعد ما ألهمني الله تعالى إليه من الجواب فيها إلا من الفتوحات الربانية والألطاف الخفية، وإنما قدمت هذا قبل ذكر الجواب؛ لتكون معرفة الجواب عندك أيها السني بالمحل السني، وإنما استوعرت مسلك الجواب عنها؛ لأن ما نسبه إليهم من المذهب حق، واستلزامه لعدم خوف الله تعالى أشبه شيء بالحق، ولا يميز بين الحق، وما يعظم شبهه به إلا من أمده الله تعالى بألطافه، وبصره من الحق مطالع أنواره. وتحرير الجواب على ما ذكره يتم بذكر وجوه:
الوجه الأول: أن قوله: «إن المرجئة لا يرتدعون عن الكذب وغيره من المعاصي» مباهتة عظيمة وإنكار للضرورة، فإن كلامنا إنما هو فيمن عرف منهم بالديانة والأمانة وأداء الواجبات وترك المحرمات، والمعلوم بالضرورة أن في المرجئة من هو من أهل العبادة والزهادة، والعلم والإفادة، والمراتب الشريفة والخصال الحميدة، والمحافظة على النوافل على ما هو أشق من المفروضات، وأصعب من ترك المقبحات؛ من إطعام الطعام، وسرد الصيام، والصلاة والناس نيام، والبكاء العظيم من التقصير في حق الملك العلام. فقول المعترض: إنهم لا يرتدعون عن الكذب وسائر المعاصي باطل بالضرورة؛ لأنه إما أن يدعي أن فعل المعاصي يقع من عبادهم وثقاتهم في الباطن قطعا، وإن أظهروا الصلاح فهذا من علم الغيب المحجوب عن الخلق، ورسول الله ﷺ ما علم هذا في حق من عاصره إلا بالوحي في بعضهم، والحكم بهذا حرام بإجماع المسلمين، فلا نطول في الكلام عليه.
وإما أن يدعي أن فعل الطاعة وترك المعصية غير واقع منهم ظاهرا لبطلان خوف العقوبة من الله تعالى فذلك لا يصح لأمرين:
أحدهما: أنه استدل على بطلان أمر معلوم بالضرورة، وذلك لا يصح، وبيانه: أن فعلهم للطاعة معلوم بالضرورة، فالاستدلال على أنهم لا يفعلون الطاعة لا يصح.
وثانيهما: أن نقول: إما يسلم المعترض أن فعل الطاعة وترك المعصية مقدور لهم أو لا، إن قال: إنه غير مقدور لهم، وجاز وقوعه منهم؛ فلا وجه لقطعه بأنهم لا يفعلون أحد الجائزين. وهلا ذكر قوله في رسالته: إنه لا يجوز للإنسان أن يخبر بخبر يجوز أنه كذب؟ فكيف أخبر عن جميع المرجئة بارتكاب الكذب وغيره من المعاصي؟ وليس يجوز [مثل] هذا في حق الفساق المصرحين إلا فيما شوهد من معاصيهم، فليس لك أن تقول في قاطع الصلاة: إنه يشرب الخمر، ولا في الزاني: إنه مرب، ولا في المربي: إنه يقتل النفس التي حرم الله، وأمثال ذلك، فكيف قلت فيمن أرجأ ولم يعرف منه إلا معصية الإرجاء: إنه يفعل غيرها من المعاصي؟ وهلا قلت: إن قوله هذا يضعف الظن بقيامه بالواجبات واجتنابه للمحرمات حتى تجاب بما يجاب به من أورد الشبهات، وتميز نفسك عن منكري الضرورات؟
والعجب من المعترض أنه نزه البراهمة عن الكذب مع إنكارهم للنبوات، وجحدهم لجميع الشرائع الإسلامية، وقد تقدم تقرير هذا في آخر الجواب عما أورده في حق الجبرية، فهذا الوجه الأول من وجوه الجواب عن المرجئة يصلح جوابا على ما أورده في حق الجبرية فإنه قال فيهم الجميع: إنهم لا يرتدعون عن الكذب وسائر المعاصي.
الوجه الثاني: اعلم أن الحامل على المحافظة على الخيرات والمجانبة للمكروهات ليس مجرد اعتقاد أن الله تعالى يعاقب على الذنب، وإنما هو شرف في النفوس وحياء في القلوب من مبارزة المنعم بجميع النعم بالمعاصي، ولهذا فإن أكثر الخلق محافظة على الخير ومجانبة للمكروه أشدهم حياء من الله تعالى وإجلالا له، وأما مجرد الاعتقاد فهو واحد لا يزيد ولا ينقص؛ ولهذا تجد الوعيدية مختلفين مع اتحاد معتقدهم، ولكن تفاضلوا في شرف النفوس وأنفتها من دناءة المعاصي، ومذلة كفران المنعم، وتفاوتت مراتبهم في شدة الحياء من ملك الملوك ورب الأرباب، وتباينت هممهم في التعظيم والإجلال لمن بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ولهذا فإن أقرب الخلق إلى الله أخوفهم منه وآنسهم به وأطوعهم له.
ولهذا اشتد خوف الأنبياء والأولياء من الله تعالى وعظم أنسهم به، وكانوا أطوع خلقه لو وأرغبهم إليه، وقد كان كثير من الصالحين لا يرضى أن يعبد الله تعالى خوفا من العذاب ولا رغبة في الثواب. وقالت المعتزلة: 23 إن نوى ذلك بعبادته لم تصح، ولهذا اختلفت حال الكفار المنكرين للمعاد من المشركين والفلاسفة: فكان منهم المتلطخون بالرذائل، ومنهم المتحملون لأثقال المكارم والفضائل، وكان فيهم السادة والأتباع، وكان في سادتهم المخذول والمطاع، على قدر تفاضلهم في الصبر على المكاره، واحتمال مشاق المكارم، وقالوا في أمثالهم: «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها» وقالت هند: أوتزني الحرة؟ وقال حاتم:
وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ** وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وهذا كله من غير خوف العقاب ولا رجاء الثواب، فكيف يقال: إن من لم يخف العقاب قال الزور وارتكب الفجور؟ هذا كلام من لم يتأمل، فقد علمنا بالضرورة أن في المرجئة عبادا خاشعين ورهبانا خاضعين، وكثير منا إذا تأملنا وأنصفنا يقصر عن كثير منهم في الأعمال لا في العقيدة ولله الحمد والمنة، وذلك لأن من صبر على مشاق الطاعات وترك الشهوات من غير خوف العذاب؛ فهو شريف النفس، حر الطبيعة، عزيز الهمة، عظيم المروءة، كثير الحياء من الله تعالى، ومن لا يقوم إلى الطاعة حتى يخاف العذاب من النار؛ فطبعه طبع شرار العبيد وخساس الهمم، وما أحسن قول ابن دريد في هذا المعنى:
واللوم للحر مقيم رادع ** والعبد لا تردعه إلا العصا
وإن كثيرا من المتحابين من المخلوقين لا يعصي محبوبه ولا يغضبه، وإن كان لا يخاف منه مضرة، ولهذا قال بعض الظرفاء في المعنى:
أهابك إجلالا وما بك قدرة ** علي ولكن ملء عين حبيبها
فإن كان هذا ما بين الأحباب من عبيد الله؛ فالذين آمنوا أشد حبا لله، وفي الحديث المرفوع: «نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه» وفي هذا الجواب موعظة لأهل الحقائق والأحوال. وقد أجاد من قال:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ** هذا محال في العقول بديع
لو كنت تضمر حبه لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع
وقد ظن المعترض أن من لم يكن من أهل مقام الخوف فليس من أهل الطاعة، ولم يعرف المسكين أن مقام المحبة فوق مقام الخوف عند العارفين، ولهذا قال الشيخ أبو عمر بن الفارض -وما أنفع قوله هذا لأهل القلوب-:
فدع عنك دعوى الحب وادع غيره ** فؤادك وادفع عنك غيك بالتي
وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن ** وها أنت حي إن تكن صادقا مت
ولهذا قالت الحكماء: المرء أسير أكبر ما في قلبه، ولا شك أن أكثر ما في القلب هو المحبوب لا المخوف، فإن المخوف قد يكون عدوا بغيضا بخلاف المحبوب، وقد نظم ابن الفارض هذا المعنى فقال وأجاد:
أنت القتيل بأي من أحببته ** فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
الوجه الثالث: أن نقول: ما سبب تخصيص المرجئة بالذكر؟ هل تجويزهم لدخول أهل الكبائر من المسلمين الجنة، وتجويزهم لنجاتهم من النار، أو قطعهم بذلك؟ الثاني: وهو القطع بذلك ممنوع، لأنهم يجوزون أن يموت صاحب الكبيرة المسلم كافرا، ويخافون من كبائر الذنوب أن يكون ارتكابها سببا للوقوع في ذنب الكفر الذي لا يغفر إلا بالتوبة. وأما الأول، وهو تجويزهم لدخول أهل الكبائر من المسلمين الجنة، فقد شاركهم في ذلك سائر الفرق، ولكن المعتزلي يجوز ذلك بشرط التوبة أو المغفرة.
فإن قلت: إن المرجئ يقطع بأن من مات مسلما وهو مصر على الفسق لم يعذبه الله تعالى، والسني والمعتزلي لا يقولان بذلك.
قلت: ذلك مسلم؛ ولكنه لا يقطع بأنه يموت مسلما مثلما أن المعتزلي لا يقطع بأنه يموت تائبا، بل هذا الإشكال لا يلزم المعتزلة ولا يلزم المرجئة، وذلك لأن المعتزلة فريقان:
أحدهما يقول: إن من مضى له وقت أدى فيه جميع ما كلفه الله تعالى علم أنه من أهل الجنة؛ لأن الله تعالى لو علم أنه يموت على حال يستحق فيه النار؛ لقبح منه تبقيته، ووجب عليه أن يميته في ذلك الوقت الذي أتى فيه بالطاعة، وهذا هو قول من يوجب الأصلح على الله تعالى، كأبي القاسم الكعبي إمام البغدادية من المعتزلة ومن يقول بقوله، وهذا الإشكال يتجه عليهم أكثر من المرجئة لأنهم يجيزون أن يأتي المكلف في بعض الأوقات بجميع تكليف ذلك الوقت، وأن يعلم المكلف إتيانه بذلك، وحينئذ يقطع بأنه من أهل الجنة.
وأما الفرقة الثانية: وهم الذين لا يوجبون على الله الأصلح للعبد فإنهم يوجبون على الله سبحانه أن يبقى العاصي بعد المعصية وقتا يتمكن فيه من التوبة، وبهذا قال شيخ الاغتزال أبو علي الجبائي وأصحابه، ووافقه عليه أبو القاسم الكعبي أيضا فلو كان ما ذكره المعترض في حق المرجئة يدل على الكذب في الحديث، لدلت مذاهب المعتزلة هذه على مثل ذلك، فيقول من يوجب الأصلح للعبد على الله تعالى: المعاصي لا تضرني لعلمي أني من أهل الجنة بسبب طاعتي لله تعالى يوما أو ساعة أو لحظة، ويقول من لا يرى ذلك: أنا أقدم على هذه المعصية وأتوب عقيبها، ولا أخشى مفاجأة الموت قبل التمكن من التوبة.
ولكن ليس وقوع المعاصي على حسب الاعتقاد، وإنما ذلك على حسب شرف الطباع، وارتفاع الهمم، وشهامة النفوس، كما قدمنا في الوجه الأول، ولو كان السبب في العصيان هو تجويز النجاة من عذاب الله؛ إما اتكالا على التوبة أو اتكالا على الرحمة، لم توجد فرقة من فرق الإسلام إلا وهي مجروحة، ولكان العدل من اعتقد أن الله لا يقبل التوبة ولا يقيل العثرة، ولا يغفر الخطيئة، لكن الذاهب إلى هذا كافر بالإجماع، خارج عن ملة الإسلام.
الوجه الرابع: أن من اعتقد أن الله تعالى يتفضل على أهل الإسلام بمغفرة جميع الذنوب من غير توبة، لم يلزم من ذلك أن يتعمد الكذب على الله تعالى ويجاهر بجميع المعاصي، ودليل ذلك: أن عبدا من عبيد المخلوقين لو اعتقد في سيده أنه في غاية الحلم، ونهاية الجود والسماحة، لم يدل ذلك على أنه كثير العصيان لسيده والكذب عليه، بل قد يكون في غاية الإجلال لسيده والطاعة له، مع اعتقاد حلمه ومسامحته والأمان من عقوبته، محبة منه لسيده ورغبة في شكر نعمة وارتفاع المنزلة عنده، وكذلك عمل الناس مع إخوانهم وأهل الحلم والكرم منهم، ولم يكن أصحاب الأحنف وعشيرته يعصونه ويكذبون عليه ويعفون رحمه لأجل حلمه، وكم من مهيب يعصى وتتحمل عقوبته لأجل بغضه ومساوئ أخلاقه! وكم من حليم يطاع وكريم يمتثل وتفنى الأموال والأرواح في طاعته! فمن أين للمعترض أن المرجئة لما اعتقدوا أن الله تعالى يغفر لأهل الإسلام استهانوا بجلال الله وانهمكوا في معاصي الله وصار دأبهم الكذب على الله وعلى رسول الله ﷺ؟ ولقد رأينا في الصالحين من يزداد عملا ونشاطا مع الرجاء، ويزداد ضعفا وفتورا مع الخوف، وهذا معروف عند أهل الذوق، وأنشدوا في ذلك:
لها بوجهك نور يستضاء به ** ومن أياديك في أعقابها حادي
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ** عن المنام وتلهيها عن الزاد
الوجه الخامس: أن القول بالإرجاء وإن كان حراما فليس بكفر ولا فسق، وكل بدعة محرمة تأول فيها صاحبها، ولم تكن كفرا، ولا فسقا فصاحبها مقبول بالإجماع. أما أن الإرجاء ليس بكفر ولا فسق؛ فذلك مقتضى الدليل، ومذهب أصحاب الخصم.
أما الدليل: فلأن التكفير والتفسيق يحتاج إلى دليل سمعي وهو مفقود، ومخالفتهم للنصوص تأويلا لا يكفي في [الكفر]، على أن ابن الحاجب اختار عدم التأثيم لمن خالف القطعي مجتهدا وهو قوي، والموضع يضيق عن ذكر الحجج في المسألة.
وقد ذكر الذهبي في الميزان ما معناه: «إن بدعة الإرجاء ليست بكبيرة».
وأما الحديث الذي فيه: «ليس للمرجئة في الإسلام نصيب» [وأما مذهب الخصم: فقد نص عليه القاضي شرف الدين في تذكرته، وذكر معنى ذلك القاضي العلامة عبد الله بن حسن] الدواري في تعليق الخلاصة، والحاكم في شرح العيون وغيرهم.
وأما دعوى الإجماع: فذكرها الأمير علي بن الحسين في اللمع الذي هو مدرسهم.
وفي هذا القدر كفاية في الذب عن السنن الصحيحة المنقولة عن ثقات المرجئة، وقد تركت بعض ما في الأصل من التطويل في ذلك، وقد أكثرت من الانتصار لظن صدقهم وقبول روايتهم، حتى ربما توهم بعض الضعفاء أني أميل رأيهم، ومعاذ الله تعالى من ذلك، فعقيدة أهل السنة أصح مباني واوضح معاني، وحسبك أنها جامعة لمحاسن العقائد؛ من حسن الظن بالله ورجاء مغفرته مع خوف عذابه، والحذر من غضبه، وإن مات العاصي على الإسلام فلا بد من الخوف والرجاء لذي الجلال والإكرام، فقد قال الله تعالى في الملائكة مع أمانهم من الموت عن الكفر، ومن ارتكاب الكبائر: {يخافون ربهم من فوقهم} وقال فيهم: {هم من خشية ربهم مشفقون} فإذا كان هذا حال الملائكة عليهم السلام، فكيف بحال العبد العاصي! وفي الصحيح عن رسول الله ﷺ: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا وضحكتم قليلا» فنسأل الله السلامة، وأن يجعلنا ممن يشفق من ذنبه، بل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، آمين آمين.
الطائفة الثالثة: معاوية والمغيرة وعمرة بن العاص، ومن تقدم ذكره في الأوهام، فإن كثيرا من الشيعة ذكروا أنها ظهرت على هؤلاء الثلاثة قرائن تدل على التأويل، وقدحوا بتصحيح حديثهم في حديث الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم.
وأما أهل الحديث فمذهبهم أنهم من أهل التأويل والاجتهاد والصدق، لكونهم أظهروا التأويل فيما يحتمله، وعلم البواطن محجوب عن الجميع، وبين الفريقين في هذا مالا يتسع له هذا المختصر، والقصد: مجرد تصحيح الحديث الصحيح، والذب عنه لا غيره فيما بين أهل المذهبين، وقد اجتهدت في هذا الكتاب في نصرة الحديث الصحيح بالطرق التي يتفق الفريقان على صحتها أو يتفقون على قواعد تستلزم صحتها، كما يعرف ذلك من تأمل هذا الكتاب كله، وفي هذا الموضع لم أجد طريقا قريبة مجمعا عليها إلا طريقا واحدة، وهي: بيان صدق هؤلاء المذكورين في روايتهم بشهادة من لم تجرحه الشيعة من الصحابة لهم بصحة الرواية في كل حديث على التعيين، خاصة في أحاديث الأحكام المعتمدة في معرفة الحلال والحرام.
فأما أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عمرو بن العاص ونحوهم ممن لم يصح عنه حرب لعلي رضي الله عنه ولا سب؛ فقد تقدم الجواب عما ذكر المعترض فيهم.
وأما هؤلاء الثلاثة المذكورون فهم الذين أذكر هنا ما يدل على صحة حديثهم، وأقتصر على ما يتعلق بالأحكام من ذلك اختصارا، وذلك يتم بذكر ما لهم من الأحاديث المتعلقة بالأحكام وما لأحاديثهم من الشواهد المروية عن النبي ﷺ، ونشير إلى ذلك على أقل ما يكون من الاختصار المفيد إن شاء الله تعالى فنقول:
المروي في الكتب الستة من طريق معاوية في الأحكام ثلاثون حديثا.
الأول: حديث تحريم الوصل في شعور النساء، رواه عنه البخاري ومسلم وغيرهما، ويشهد لصحته رواية أسماء لذلك وعائشة وجابر. أما حديث أسماء فخرجه البخاري ومسلم والنسائي. وأما حديث عائشة فخرجه البخاري ومسلم والنسائي أيضا. وأما حديث جابر فخرجه مسلم.
الثاني: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» أخرجه عنه البخاري ومسلم. وقد رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص. ورواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان. ورواه الترمذي عن معاوية بن قرة. ورواه أبو داود عن عمران بن حصين.
الثالث: حديث النهي عن الركعتين بعد العصر، رواه البخاري عنه. وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أم المؤمنين أم سلمة. وروى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضرب من يفعل ذلك، ولم ينكر ذلك من فعله فجرى مجرى الإجماع، وهو قول طوائف من أهل العلم.
الرابع: حديث النهي عن الإلحاف في المسألة رواه عنه مسلم. ورواه البخاري ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمر. وأبو داود والترمذي والنسائي عن سمرة بن جندب. والنسائي عن عائد بن عمرو. والبخاري عن الزبير بن العوام. والبخاري ومسلم ومالك في الموطأ والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. وأبو داود والنسائي عن ثوبان. ومالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر. والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن حكيم بن حزام. وأبو داود والنسائي عن ابن الفراسي عن أبيه.
الخامس: «إن هذا الأمر لا يزال في قريش» رواه عنه البخاري. ورواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر. وروى مسلم نحوه عن جابر بن عبد الله. ورواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
السادس: حديث جلد شارب الخمر وقتله في الرابعة، رواه عنه أبو داود والترمذي. وأما جلده فمعلوم من الدين ضرورة والأحاديث فيه كثيرة مأثورة، وأما قتله في الرابعة فرواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة. ورواه أبو داود عن قبيصة بن ذؤيب، وعن نفر من الصحابة رضي الله عنهم. ورواه الإمام الهادي يحيى بن الحسين في كتاب الأحكام. ولكن هذا الحكم منسوخ عند كثير من أهل العلم.
السابع: حديث «النهي عن لباس الحرير والذهب، وجلود السباع» رواه عنه أبو داود والنسائي، والترمذي بعضه بغير لفظه، فأما شواهد تحريم لباس الحرير والذهب فأشهر من أن تذكر. وأما جلود السباع فله عليه شاهد عن أبي المليح خرجه الترمذي وأبو داود والنسائي.
الثامن: حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة، رواه عنه أبو داود. وروى الترمذي مثله عن ابن عمرو. وروى الترمذي وأبو داود مثله عن أبي هريرة.
التاسع: النهي عن سبق الإمام بالركوع والسجود، رواه عنه أبو داود و[ابن ماجه]. 24 وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، ومالك في الموطأ عنه أيضا. ومسلم والنسائي عن أنس.
العاشر: النهي عن الشغار، رواه عنه أبو داود. وقد رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر. وهو مشهور عن غير واحد من الصحابة، ومجمع على القول بمقتضاه.
الحادي عشر: أنه توضأ كوضوه رسول الله ﷺ رواه أبو داود، وليس فيه ما يحتاج إلى شاهد إلا زيادة صب الماء على الناصية والوجه. وقد رواه أبو داود عن علي رضي الله عنه.
الثاني عشر: النهي عن النوح، رواه عنه ابن ماجه. وهو أشهر من أن يحتاج إلى ذكر شواهده.
الثالث عشر: النهي عن الرضا بالقيام، رواه عنه الترمذي وأبو داود. وله شواهد في الترمذي عن أنس، وفي سنن أبي داود عن أبي أمامة. وفي كتاب [الترخيص] في القيام للنووي عنهما، وعن أبي بكرة، وصحح حديث أنس.
الرابع عشر: النهي عن التمادح، رواه عنه ابن ماجه. وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي بكرة. والبخاري ومسلم عن أبي موسى. ومسلم والترمذي وأبو داود عن عبد الله بن سخرة [عن المقداد بن الأسود]، والترمذي عن أبي هريرة.
الخامس عشر: تحريم كل مسكر، رواه عنه ابن ماجه. ورواه الجماعة إلا ابن ماجه عن ابن عمر، ومسلم والنسائي عن جابر وأبو داود عن ابن عباس، والنسائي عنه أيضا.
السادس عشر: حكم من سها في الصلاة، رواه عنه النسائي. وله شاهد في سنن أبي داود عن ثوبان.
السابع عشر: النهي عن القران بين الحج والعمرة، رواه عنه أبو داود. وله شاهد عن ابن عمر رواه مالك في الموطأ مرفوعا، وعن عمر وعثمان رواه مسلم موقوفا عليهما.
الثامن عشر: أنه قصر للنبي ﷺ بمشقص بعد عمرته ﷺ، وبعد حجه، رواه عنه البخاري ومسلم وأبو دواد والنسائي. وله شواهد عن علي خرجه مسلم، وعن عثمان رضي الله عنه في مسلم أيضا، وعن سعد بن أبي وقاص رواه مالك في الموطأ والنسائي والترمذي وصححه، رواه النسائي عن ابن عباس عن عمر، والترمذي عن ابن عمر، والبخاري ومسلم عن عمران بن الحصين. وروى الترمذي والنسائي أن معاوية لما روى هذا الحديث قال ابن عباس: هذه على معاوية؛ لأنه ينهى عن المتعة.
التاسع عشر: ما روى عن أخته أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنه «أن رسول الله ﷺ كان يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه، ما لم ير فيه أذى» رواه أبو داود والنسائي، ويشهد لمعناه أحاديث كثيرة، منها أن رسول الله ﷺ: «كان يصلي في نعليه ما لم ير بهما أذى» رواه البخاري ومسلم عن سعيد بن [يزيد] ورواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري. ويشهد لذلك حديث: «فلا ينصرفن حتى يجد ريحا أو يسمع صوتا» وهو متفق على صحته، إلى أشباه لذلك كثيرة تدل على جواز الاحتجاج بالاستصحاب للحكم المتقدم. وعلى ذلك عمل العلماء في فطر يوم الشك من آخر شعبان، وصوم يوم الشك من آخر رمضان.
الموفي عشرين حديثا: «نهي من أكل الثوم أو البصل عن دخول مسجد رسول الله ﷺ» وهو من روايته عن أبيه، وله شواهد كثيرة، فرواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ عن جابر بن عبد الله، والبخاري ومسلم عن أنس، ومسلم ومالك في الموطأ عن أبي هريرة، وأبو داود عن حذيفة والمغيرة، والبخاري ومسلم وأبو داود عن ابن عمر، والنسائي عن عمر، مسلم وأبو داود عن أبي سعيد. وأما النهي عن هاتين الشجرتين مطلقا من غير تقييده بدخول المسجد، فرواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله، وأبو داود والترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الحادي والعشرون: حديث: «هذا يوم عاشوراء لم يكتب عليكم» رواه عنه البخاري ومسلم ومالك والنسائي. وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس ما يشهد لصحة معناه، وهو قوله ﷺ في الحديث المشار إليه، بعد سؤاله عن سبب صوم اليهود له: «فأنا أحق بموسى» وقوله ﷺ: «فنحن نصومه تعظيما له».
الثاني والعشرون: حديث: «لا تنقطع الهجرة» رواه عنه أبو داود، ولم يصح عنه، قال الخطابي: «في إسناده مقال»، وله شاهد رواه النسائي عن عبد الله بن السعدي.
الثالث والعشرون: حديث النهي عن لباس الذهب إلا مقطعا رواه عنه أبو داود، وله شاهد عن جمع من أصحاب رسول الله ﷺ رواه النسائي.
الرابع والعشرون: النهي عن المغلوطات، قال الخطابي: الأغلوطات. ولم يصح عنه، في إسناده مجهول. مع أن أبا السعادات بن الأثير روى في جامع الأصول له شاهدا عن أبي هريرة، وفي البخاري عن أنس: «نهينا عن التكلف»، وهذا يشهد لمعناه.
الخامس والعشرون: حديث الفصل بين الجمعة والنافلة بعدها بالكلام أو الخروج، رواه عنه مسلم، وله شاهد في البخاري ومسلم عن ابن عمر من فعل رسول الله ﷺ، وروى أبو داود عن أبي مسعود الزرقي نحو ذلك في حق الإمام. 25
السابع والعشرون: حديث: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الشرك بالله وقتل المؤمن» رواه عنه النسائي، وله شاهد عن أبي الدرداء رواه أبو داود، وله شاهد في كتاب الله تعالى.
الثامن والعشرون: رواه عنه أبو داود حديث: «اشفعوا تؤجروا» وهو حديث معروف، رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى، وفي القرآن ما يشهد لمعناه، وهو مجمع على مقتضاه.
التاسع والعشرون: كراهة تتبع عورات الناس، رواه عنه أبو داود. وله شواهد، في الترمذي عن ابن عمر وحسنه، وفي سنن أبي داود عن أبي برزة الأسلمي وعقبة بن عامر وزيد بن وهب، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة.
الموفي ثلاثين حديثا: حديث: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» رواه عنه البخاري. وله شاهدان عن ابن عباس وأبي هريرة ذكرهما الترمذي في الجامع وصحح حديث ابن عباس.
فهذه عامة أحاديث معاوية التي هي صريحة في الأحكام أو يستنبط منها حكم، وهي موافقة لمذهب الشيعة والفقهاء، وليس فيها ما لم يذهب إليه جماهير العلماء، إلا قتل شارب الخمر في الرابعة لأجل النسخ، وقد رواه إمام الزيدية كما قدمنا، وقد وافقه ثقات الصحابة فيما روى.
فاعجب لمن يشنع على أهل الصحاح برواية هذه الأحاديث وإدخالها في الصحيح.
وله غير هذه أحاديث يسيرة شهيرة تركنا إيرادها وإيراد شواهدها اختصارا، ونشير إليها إشارة لطيفة ليعرف ما هي، وذلك حديثه في فضل المؤذنين، وفضل إجابة المؤذن، وفضل حلق الذكر، وليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وفضل حب الأنصار، وفضل طلحة، وتاريخ وفاة رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وحديث: «اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت» وقد رواه مسلم عن علي رضي الله تعالى عنه.
وحديث: «الخير عادة والشر لجاجة» و «لم يبق في الدنيا إلا بلاء وفتنة» و «إنما الأعمال كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه».
وفيمن نزل: {والذين يكنزون الذهب والفضة}.
وأثران موقوفان عليه؛ في ذكر كعب الأحبار، وفي تقبيل الأركان كلها.
فهذا جملة ما له في جميع دواوين الإسلام الستة، لا يشذ عني من ذلك شيء، إلا ما لا يعصم عنه البشر من السهو. وليس في حديثه ما ينكر قط، على أن فيها ما لم يصح عنه أو ما في صحته عنه خلاف، وجملة ما اتفق على صحته عنه منها كلها في الفضائل والأحكام: ثلاثة عشر حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة، وهذا دليل صدق أهل ذلك العصر، وعدم انحطاطهم إلى مرتبة الكذابين خذلهم الله تعالى، ولو لم يدل على ذلك إلا أن معاوية لم يرو شيئا قط في ذم علي رضي الله عنه، ولا في استحلال حربه، ولا في فضائل عثمان، ولا في ذم القائمين عليه، مع تصديق جنده له، وحاجته إلى تنشيطهم بذلك فلم يكن منه في ذلك شيء على طول المدة، لا في حياة علي ولا بعد وفاته، ولا تفرد برواية ما يخالف الإسلام ويهدم القواعد، ولهذا روى عن معاوية غير واحد من أعيان الصحابة والتابعين؛ كعبد الله بن عباس وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن الزبير وسعيد بن المسيب وأبي صالح السمان وأبي إدريس الخولاني وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله ومحمد بن سيرين، وخلق كثير. وروى عن هؤلاء عنه أمثالهم. وإنما ذكرت هذا ليعرف أن المحدثين لم يختصوا برواية حديثه، فإن من المعلوم أنهم لا يقبلون من الحديث إلا ما اتصل إسناده برواية الثقات، فلولا رواية ثقات كل عصر لحديثه عن أمثالهم لم يصح للمحدثين أنه حديثه، ولو لم يصح لهم أنه حديثه لم يرووه عنه في الكتب الصحيحة. وإنما ذكرت هذا على سبيل الاستئناس. والعمدة في الحجة ما قدمته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد قبلت الشيعة والمعتزلة ما هو أعظم من قبوله على أصولهم، وهو مرسل الثقة، فإنه مقبول عندهم على الإطلاق؛ فقبلوا بذلك أحاديث معاوية وهم لا يشعرون! بل فقبلوا موضوعات كثيرة رواها بعض ثقاتهم بسلامة صدر عن بعض من لم يعرف من المجاهيل، أو طبقات المجروحين. ومن قبل مرسل الثقة على الإطلاق دخل ذلك عليه من حيث لا يدري، فإن من الثقات من يقبل المجاهيل، وفيهم من يقبل كفار التأويل، وفيهم من هو كافر تأويل عند جمهور المعتزلة والشيعة، وفيهم من يقبل الفاسق المصرح إذا عرف بالصدق والأنفة من الكذب، ولقد روي هذا عن الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه كما قدمنا ذكر ذلك.
وقبول المرسل على هذه الصفة أعظم مفسدة وأدخل في قبول الأكاذيب على رسول الله ﷺ. فينبغي للعاقل أن ينظر في عيب القريب وعيب الصديق كما ينظر في عيب الخصم والبعيد. نسأل الله التوفيق لذلك آمين آمين.
وأما حديث عمرو بن العاص فله في الأحكام عشرة أحاديث:
الأول: في النهي عن صيام أيام التشريق، رواه عنه أبو داود وله شواهد؛ فرواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر، ومسلم عن نبيشة الهذلي، ومسلم ومالك في الموطأ عن عبد الله بن حذافة، والنسائي عن بشر بن سحيم، ومسلم عن كعب بن مالك، ومالك في الموطأ عن سليمان بن يسار مرسلا، والبخاري عن ابن عمر وعائشة بلفظ: «لم يرخص في صومها إلا لمن لا يجد الهدي».
الثاني: التكبير في صلاة عيد الفطر سبعا في الأولى، وخمسا في الثانية، رواه أبو داود، وفي سنده عمرو بن شعيب، وفي صحة حديثه خلاف، وأكثر المتأخرين على صحته، وقد رواه أبو داود و[ابن ماجه] عن عائشة، والترمذي عن عمرو بن عوف، وقال ابن النحوي: في الباب أحاديث كثيرة أخر، والله أعلم.
الثالث: حديث أن النبي ﷺ أقرأه خمس عشرة سجدة من القرآن، منها: ثلاث من المفصل، وفي سورة الحج سجدتان، رواه عنه أبو داود وابن ماجه القزويني، وفي إسناد ابن ماجه ابن لهيعة وضعفه مشهور.
وهذا الحديث لم يصح عن عمرو قاله ابن النحوي، وعزاه إلى ابن القطان وابن الجوزي، ومع ذلك فلهذا الحديث شاهد عام وشواهد خاصة: فأما الشاهد العام، فروى البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمر ما يدل على أن السجود مشروع في كل موضع سجدة في كتاب الله تعالى، قال: ولكنا منعنا ما زاد على الخمس عشرة للإجماع على المنع من الزيادة على ذلك، رواه أبو محمد بن حزم وغيره.
وأما الشواهد الخاصة: فاعلم أنه لا نزاع بين الأمة على قول ابن حزم، وبين الجماهير على قول غيره إلا في خمس سجدات هي: ثلاث في المفصل، وسجدة في {ص}، والسجدة الثانية من سورة الحج.
فأما سجدات المفصل فإحداهن في {النجم} رواها البخاري والترمذي من حديث ابن عباس، وأبو داود عن ابن مسعود، والنسائي عن المطلب بن أبي وداعة، والبخاري عن ابن عمر، ومالك في الموطأ عن عمر، والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن زيد بن ثابت.
والسجدة الثانية: في {انشقت} وقد رواها البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة.
والسجدة الثالثة: في سورة {اقرأ} وقد رواها مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
وأما سجدة {ص} فقد رواها أبو داود عن أبي سعيد الخدري، والبخاري والترمذي وأبو داود والنسائي عن ابن عباس.
وأما السجدة الثانية في الحج: فقد رواها أبو داود والترمذي عن عقبة بن عامر، ورواها مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب وولده عبد الله، ولكن موقوفا عليهما.
فهذه الخمس السجدات المختلف فيها قد تابعه في كل واحدة منها من ذكرنا.
وأما العشر البواقي فإن أبا محمد بن حزم ادعى إجماع الأمة على السجود فيها، وذكر ابن هبيرة أنه قول فقهاء الأمة الأربعة وأتباعهم.
قلت: وهو قول الزيدية، بل مذهب الزيدية أن السجدات خمس عشرة على ما روى عمرو بن العاص، وهو مذهب أحمد بن حنبل وغيره من أهل العلم. إلا أن الفقيه جمال الدين الريمي ذكر في كتابه «عمدة الأمة في إجماع الأئمة»: أن الإجماع لم ينعقد على عشر سجدات وإنما انعقد على أربع، والصواب قبول رواية ابن حزم فإنه ثقة مطلع، ووجود الخلاف الشاذ لا يقدح في رواية ثقات العلماء في الإجماع؛ لأنه يمكن أنهم ادعوا إجماع أهل عصر من الأعصار، وأن ذلك الخلاف تقدم الإجماع أو تأخر عنه ممن لم يصح له الإجماع.
وأما حديث أبي الدرداء في سجوده مع النبي ﷺ إحدى عشرة سجدة فقد رواه أبو داود والترمذي، ولكن قال أبو داود: «إسناده واه».
وأما حديث ابن عباس: «أن النبي ﷺ لم يسجد في المفصل بعد هجرته إلى المدينة» فضعيف ومعارض بما هو أصح منه من حديث غيره، فقد صح عن أبي هريرة أنه سجد في المفصل مع رسول الله ﷺ ولم يسلم أبو هريرة إلا بعد الهجرة، وهذا أولى لصحة إسناده، ولأن المثبت أولى من النافي، وابن عباس إنما قال إنه لم يسجد، وهذا نفي، ولعله سجد ولم يعلم ابن عباس، فيقبل المثبت لما في ذلك من حمل الجميع على السلامة.
وهذه السجدات العشر في الأعراف والرعد والنحل وسبحان ومريم والأولى من الحج والفرقان والنمل والجرز [كذا] والسجدة.
الحديث الرابع: حديث تقريره ﷺ لعمرو على التيمم حين احتج بما يدل أنه خاف على نفسه الموت من شدة البرد وهو قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} وله شاهد على ذلك، وهو الإجماع أولا، وما أخرجه أبو داود عن ابن عباس ثانيا.
الحديث الخامس: حديث: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران» الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي و[ابن ماجه]، وقد رواه الترمذي، والنسائي عن أبي هريرة.
السادس: حديثه في الحث على السحور، لكونه فصلا بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، رواه عنه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه. وقد وردت في الحث على ذلك أحاديث؛ فرواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس، ورواه النسائي وأبو داود عن عرباض بن سارية، ورواه النسائي عن المقدام بن معدي، وعن خالد بن معدان، ورواه أبو داود عن أبي هريرة.
السابع: حديث: «أن النبي ﷺ نهانا أن ندخل على النساء بغير إذن أزواجهن» رواه عنه الترمذي وحسنه، وله شاهد عن عمرو بن الأحوص رواه الترمذي وصححه، وفيه: «فحقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون».
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: «لا يدخل رجل بعد يومي هذا سرا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان» فقوله: «سرا» تقييد يقتضي إباحة ذلك بإذن الزوج لأنه يخرج به عن السر، وإنما [لم] يذكر إذن الزوج في هذا الحديث لأنه في المغيبة، وحديث عمرو بن الأحوص وعمرو بن العاص في الحاضر زوجها؛ فهذان شاهدان على تحريم الدخول إلا بإذن الزوج، وأما تحريم الدخول مطلقا فيشهد له مع الشاهدين المذكورين: حديث عقبة بن عامر خرجه البخاري ومسلم والترمذي. وحديث جابر خرجه مسلم. وحديث ابن عباس خرجه البخاري ومسلم، فهذه خمسة شواهد على أصل النهي وعمومه، واثنان على بيانه وخصوصه.
الثامن: حديثه في تكفير الإسلام والحج والهجرة لما قبلها رواه عنه مسلم.
فأما تكفير الإسلام لما قبله فإجماع، والشواهد عليه كثيرة.
وأما تكفير الحج لما قبله فله شاهد في الترمذي والنسائي عن ابن مسعود، ورواه النسائي عن ابن عباس، ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك عن أبي هريرة.
وأما تكفير الهجرة ما قبلها، ففي النسائي عن فضالة بن عبيد ما يشهد لمعنى ذلك، لكن بزيادة الإيمان والإسلام، وهذه الزيادة في حكم المذكورة في حديث عمرو، إذ لا عبرة بهجرة الكافر إجماعا بل صحتها غير متصورة، كصلاته وسائر قرباته الشرعية، مع ماله من الشواهد العامة من القرآن والسنة كقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}، وقوله ﷺ: «واتبع السيئة الحسنة تمحها» رواه النووي في مباني الإسلام.
التاسع: حديث: «قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها» فأما ما يخص عائشة من هذا فرواه عنه مسلم والترمذي والنسائي، وله [شواهد]، أما في حبها فعن أبي موسى بلفظ حديث عمرو رواه الترمذي، وأما في تفضيلها على النساء فله شاهدان: أحدهما: عن أنس رواه البخاري ومسلم والترمذي، وثانيهما: عن أبي موسى رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
وأما ما يخص أبا بكر الصديق رضي الله عنه من هذا الحديث فرواه عن عمرو الترمذي والنسائي، وله شاهد بمعناه، وهو قول رسول الله ﷺ في أحاديث كثيرة: «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» رواه البخاري من حديث ابن مسعود، ورواه مسلم من حديث جندب بن عبد الله، وله شاهد أيضا موقوف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه الترمذي.
العاشر: قوله في عدة المتوفى عنها: «إنها أربعة أشهر وعشر» يعني وإن كانت أم ولد، رواه أبو داود وابن ماجه؛ وهو موقوف عليه. وعموم القرآن حجة لقوله.
فهذه جملة ما لعمرو بن العاص في الكتب الستة مما فيه حكم ظاهر، أو يمكن استخراج حكم منه، على أن فيما ذكرته من أحاديثه ما يمكن القدح في صحته عنه، فالذي في الصحيحين له ستة أحاديث اتفاقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بحديثين، والذي بقي من حديثه شيء قليل لا يتعلق به حكم، وهو أقل الثلاثة حديثا، وفيما بقي حديثان لم أعرف ما فيهما:
أحدهما: حديث: «كنا مع عمرو في حج أو عمرة فلما كان بمر الظهران إذا نحن بامرأة في هودجها».
وثانيهما: حديث: «فزع الناس بالمدينة فرأيت سالما احتبى بسيفه وجلس في المسجد» لم أعرف تمامها، يبحث هل فيهما حكم شرعي، وهل له شاهد؟ ويلحق ذلك.
وأما حديث المغيرة: فله -فيما يتعلق بالحلال والحرام- ثلاثة وعشرون حديثا أو أقل:
الأول: حديث المسح على الخفين، وهو حديث مجمع على صحته، لكن ادعى بعض الشيعة أنه منسوخ، لنزول المائدة بعده وفيها الأمر بالغسل، وقال الفقهاء: إن المسح كان قبل المائدة وبعدها كما ثبت ذلك في حديث جرير المتفق على صحته، وهذا الحكم مع صحته مروي من طرق كثيرة: فرواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن جرير بن عبد الله، ورواه البخاري ومالك وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص، ورواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن بلال، ورواه الترمذي عن جابر بن عبد الله، ورواه البخاري والنسائي عن عمرو بن أمية، ورواه أبو داود والترمذي عن بريدة، ورواه الحسن البصري عن سبعين صحابيا.
وأما المسح على الجوربين فلم يصح عن المغيرة كما قاله الحافظ الكبير عبد الرحمن بن مهدي، ومع ذلك فله شاهد عن أبي موسى، وكذلك مسح أسفل الخف فإنه لم يصح عن المغيرة. وقال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث معلول، قال: وسألت أبا زرعة ومحمدا -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقالا: ليس بصحيح.
الثاني: حديثه في الصلاة على الطفل وله شواهد، فرواه أبو داود عن عبد الله البهي مولى مصعب بن الزبير، ورواه عن عطاء مرسلا، ورواه الترمذي عن جابر بشرط الاستهلال. ورواه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة موقوفا. ورواه البخاري عن الحسن البصري موقوفا عليه.
وأما ما رواه أبو داود عن عائشة: «أن النبي ﷺ لم يصل على ابنه إبراهيم» فمعارض برواية عطاء وعبد الله البهي أنه ﷺ صلى عليه، والمثبت أولى، ويعتضد حكم روايتهما بعموم حديث جابر المتقدم، وفي رفعه ووقفه خلاف يترجح على حسب القواعد.
الثالث: حديث «بعث عمر الناس في أفناء الأمصار» أخرجه البخاري، وفيه «أن المغيرة قال لكسرى: إن نبينا ﷺ أمرنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية»، وهذا يشهد له حديث عبد الرحمن بن عوف في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»، وهو صحيح، وإنما قلت ذلك لأن كسرى مجوسي، فحديث عبد الرحمن يشهد لحديث المغيرة هذا.
الرابع: للنسائي وابن ماجه حديث النهي عن إسبال الإزار، وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر، والنسائي عن ابن عباس.
الخامس: لمسلم والنسائي والترمذي وأبي داود حديث المسح على العمامة، وقد رواه أبو داود عن ثوبان وأنس، ورواه أحمد وأبو داود وسعيد بن منصور عن بلال، ذكره عبد السلام في المنتقى.
السادس: لأبي داود حديث تحريم بيع الخمر، وشواهده أكثر من أن تذكر.
السابع: للبخاري ومسلم والنسائي: «كسفت الشمس يوم موت إبراهيم»، فأما تاريخ الكسوف بيوم مات؛ فرواه مسلم وأبو داود والنسائي عن جابر، وأما بقية الحديث الذي يتعلق به الحكم فهو أشهر من أن تذكر شواهده.
الثامن: لأبي داود والترمذي حديث: ترك التشهد الأوسط وسجود السهو لنسيانه، وله شاهد من حديث عبد الله بن بحينة خرجه البخاري ومسلم ومالك وأهل السنن إلا ابن ماجه. وأما روايته فيه لسجود السهو قبل التسليم فله شواهد: منها حديث ابن بحينة المقدم خرجه من تقدم ذكره، وخرجه الترمذي عن عمران بن حصين، وأبو داود عن ابن مسعود، ومسلم ومالك والنسائي والترمذي وأبو داود عن أبي سعيد الخدري، والترمذي عن عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة. وقال أبو داود -بعد رواية حديث المغيرة-: «وفعل مثل ما فعل المغيرة: سعد بن أبي وقاص، وعمران بن حصين، والضحاك، ومعاوية، وأفتى به ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز».
التاسع: حديث: «لا تسبوا الأموات»، فقد رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة، وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.
العاشر: [لابن ماجه] حديث: «أن رسول الله ﷺ أتى سباطة قوم فبال قائما»، وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن حذيفة.
الحادي عشر: حديث: «دية الجنين غرة»، وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة.
الثاني عشر: لأبي داود وابن ماجه حديث: «لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول»، رواه عنه أبو داود وابن ماجه، وقد رواه أبو داود عن أبي هريرة.
الثالث عشر: للترمذي والنسائي وابن ماجه حديث: «من اكتوى [أو] استرقى فقد برئ من التوكل»، رواه عنه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقد رواه أو معناه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عكيم، ورواه عن ابن عمر، ورواه البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس، ورواه مسلم عن عمران بن الحصين.
الرابع عشر: حديث: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، رواه عنه البخاري ومسلم والترمذي، وهو حديث متواتر مستغن عن ذكر الشواهد.
الخامس عشر: حديث: «من نيح عليه فهو يعذب بما نيح عليه»، وهو طرف من الحديث قبله، وله شواهد كثيرة: فرواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب، ورواه النسائي عن عمران ابن حصين، ورواه الترمذي عن أبي موسى، وله شواهد غير هذه، وقد ذكرنا وجهه فيما تقدم.
السادس عشر: حديث: «فرض الجدة السدس»، وقد رواه محمد بن مسلمة رواه عنه البخاري وأبو داود والترمذي، ورواه الترمذي عن ابن مسعود، وأبو داود عن بريدة، وهو إجماع.
السابع عشر: [للبخاري ومسلم] حديث: «ما سأل أحد رسول الله ﷺ عن الدجال أكثر مما سألته، يقولون: إن معه جنة ونارا، فقال: هو أهون على الله من ذلك»، وله شواهد، ومن العجب أن من الناس من يتوهمها معارضات له، وذلك [أن] جميع ما ورد في الصحيحين وغيرهما من دواوين الإسلام عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله ﷺ قال: «إن ناره جنة وماءه نار» وهذا يعضد حديث المغيرة فإنها متفقة على نفي أن يكون مع الدجال جنة ونار على الحقيقة، وإنما أوردت هذا الحديث وإن لم يكن تحته شيء من الأحكام، للتنبيه على هذه النكتة اللطيفة، ففيها جمع بين الأحاديث، والله أعلم.
الثامن عشر: [لمسلم والبخاري] حديث: «لا يزال أناس من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» وقد وقد مرت شواهده في أحاديث معاوية.
التاسع عشر: حديث: «إن المرأة يعقل عنها عصبتها ويرثها بنوها» رواه عنه أبو داود، وله شواهد منها: عن أبي هريرة رواه الجماعة إلا ابن ماجه، وهو مثل حديث المغيرة، وذكر الدية فيه فقط فيما تقدم من حديث أبي هريرة، وفي الموطأ والنسائي عن ابن المسيب مرسل. وفي سنن أبي داود والنسائي عن ابن عباس.
الموفي عشرين: حديث: «ترك الوضوء مما مست النار» رواه عنه مسلم وأبو داود والنسائي، وله شواهد: فرواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس، وعمرو بن أمية، وميمونة. ورواه مسلم عن أبي رافع، ومالك في الموطأ، وأبو داود والترمذي عن جابر.
الحادي والعشرون: [للبخاري ومسلم] حديث سعد بن عبادة وفيه: «أتعجبون من غيرة سعد؟ إنه لغيور» وفيه: «ما أحد أغير من الله»، ولهذا المعنى المتعلق بأحاديث الصفات شاهد في الصحيحين عن عائشة.
الثاني والعشرون: حديث: نهي آكل الثوم من دخول المسجد، وقد مرت شواهده في أحاديث معاوية.
الثالث والعشرون: حديث: مشي الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه مما لا يتعلق به تحليل محرم ولا تحريم محلل، وإنما هو في آداب المشيع للجنازة.
وثانيهما: أنه مما لم يصححه إلا بعضهم كالحاكم وابن السكن، وقد ضعفه غير واحد من أهل النقد، ولم يصححوه عن المغيرة.
فقال الإمام المجتهد أبو الوليد المالكي في كتابه نهاية المجتهد. وقد ذكر هذا الحديث وغيره من أحاديث المشي خلف الجنازة ما لفظه: «وهي أحاديث يصححونها -يعني أهل الكوفة- ويضعفها غيرهم».
وقد أشار إلى تضعيفه الإمام أبو عمر بن عبد البر والقاضي ابن العربي المالكيان؛ فإنهما أشارا إلى ضعف أحاديث الباب كله إلا حديث ابن عمر مع أنه مرسل من مراسيل الزهري على الصحيح عند أكثر الحفاظ، فإذا كان أصحها مع تعليله بالإرسال فما ظنك بغيره؟
ولهذا ترك الشيخان تخريج شيء من هذه الأحاديث في كتابيهما، مع خلو كتابيهما عما يقوم مقامهما، وذلك نادر فيهما، ومع عدم الصحة عن المغيرة لا يلزم ذكر الشواهد في رعاية ما قصدته من مراعاة ما يتفق الشيعة وأهل السنة عليه، من وجوب العمل بأحاديث الصحيحين وما حكم الأئمة بصحته من أحاديث دواوين الإسلام الستة.
ومن العجب أن الحاكم هو المصحح لحديث المغيرة هذا على تشيعه، وكلامنا إنما هو في دفع اعتراض بعض الشيعة، فهذا شاهد على المعترض من أصحابه ودليل على أن أهل السنة لم يختصوا بذلك.
الرابع العشرون: حديث: «كان إذا ذهب المذهب أبعد». رواه عنه أهل السنن إلا ابن ماجه، وقد رواه النسائي عن عبد الرحمن بن أبي قراد، والعجب أن هذا الحديث وحديثا نحوه من رواية المغيرة أيضا هما أول ما في كتاب شفاء الأوام من كتب الزيدية أوردهما مصنفه ناسبا لهما إلى المغيرة، واحتج بهما من غير ذكر غيرهما، وهم ينكرون على المحدثين مثل ذلك!
وهذا آخر ما عرفت من أحاديث المغيرة مما يتعلق بالتحليل والتحريم، ولم يبق من حديثه إلا القليل مما يتعلق بذلك. على أن فيها ما يمكن القدح في صحته عنه: فالذي في صحيحي البخاري ومسلم منها اثنا عشر حديثا اتفقا على تسعة وانفرد البخاري بحديث ومسلم بحديثين.
وقد عرفت بهذه الجملة بطلان ما توهمه المعترض من دعوى بطلان أحاديثهم، وسقط قوله على كل مذهب، وصحت أحاديثهم [هذه] على وجه لا شبهة فيه على قواعد الخصوم، والله سبحانه أعلم.
قال المعترض: ويقال: ما تقول إذا وردت شبهات الملحدين ومشكلات المشبهة والمجبرة المتمردين، وقد ساعدك الناس إلى إهمال النظر في علم الكلام، وهل هذا إلا مكيدة للدين؟ إلى آخر ما ذكره.
أقول: لا يخلو الكفرة إما أن يطالبوا 26 منا أدلتنا حتى يسلموا، أو يوردوا علينا شبههم حتى نترك الإسلام. فهاتان مسألتان.
أما المسألة الأولى، وهي إذا سألونا أدلتنا حتى يسلموا، فالجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن نقول لأهل الكلام: ما تقولون للكفرة إذا قالوا: إن أدلتكم [المحررة] في علم الكلام شبه ضعيفة وخيالات باردة، كما قد قالوا ذلك وأمثاله، فما أجبتم به عليهم بعد الاستدلال والنزاع والخصومة؛ فهو جوابنا عليهم قبل ذلك كله.
فإن قالوا: إنه يحسن منا بعد إقامة البراهين العقلية أن نحكم عليهم بالعناد ونرجع إلى الإعراض عنهم وإلى الجهاد، وأما أنتم فإنه يقبح منكم ذلك قبل إقامة البراهين.
قلنا لهم: إن الحجة لله تعالى عليهم قد تمت -قبل أن تذكروا لهم تلك البراهين- بما خلق الله تعالى لهم من العقول، وأرسل إليهم من الرسل، فكما أنهم لو ماتوا على كفرهم قبل مناظرتكم لهم حسن من الله تعالى أن يعذبهم بالنار، فكذلك يحسن منا أن نقول لهم قد أقام الله الحجة عليكم وعرفكم صحة ما أمركم بالإقرار به من الإسلام، وإنما كلفنا أن ندعوكم إلى الإقرار مما قد عرفكم به وكلفنا بجهادكم إن لم تجيبوا إلى ذلك، وكذلك فعل رسول الله ﷺ، ولنا فيه أسوة حسنة في فعله وقوله؛ أما فعله فظاهر فإنه معلوم من الدين ضرورة أنه كان يقاتل الكفار قبل المناظرة بالأدلة، وإنما اختلف في قتالهم قبل الدعوة وصح أنه ﷺ قاتلهم قبل الدعوة، في آخر الأمر.
وأما قوله: فإنه ثبت عنه ﷺ أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» الحديث، ولم يقل فيه: أمرت أن أجادل الناس حتى يقولوا ذلك، وكذلك قال الله تعالى: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} وقالت الرسل الكرام عليهم السلام: {وما علينا إلا البلاغ المبين}.
وتحقيق هذا الجواب: أن أهل الكلام إما أن يحكموا على الكفار قبل المناظرة وفي خلالها بأنهم معذورون لا إثم عليهم في الكفر، أو لا، فإن قالوا بالأول، خالفوا المعلوم من ضرورة الدين وإجماع المسلمين، وإن قالوا بالثاني قلنا لهم: فالحكم الذي حكمتهم عليهم به بعد المناظرة قد كان حاصلا قبلها، فإن كان قصدكم بالمناظرة العلم بعنادهم فهو معلوم قبلها، إذ لو لم يكونوا معاندين كانوا معذورين غير معذبين عند الله ولا ملومين، لأن التكليف بما لا يعلم ولا يمكن غير جائز ولا واقع، على ما هو مقرر في مواضعه، وإن كان قصدكم بالمناظرة تمكينهم من معرفة الله فقد مكنهم الله تعالى من ذلك وهو غير متهم في إقامة الحجة وقطع العذر. وفي صحيح البخاري مرفوعا: «ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل».
الوجه الثاني: أن الكفار متى سألونا الدليل على ثبوت الإسلام، قلنا لهم: انظروا في ملكوت السماوات والأرض ومعجزات الأنبياء ونحو ذلك من أدلة الإسلام على الإنصاف وطلب معرفة الحق، فإن نظرنا لأنفسنا لا يولد العلم لكم، وذكرنا للأدلة التي نظرنا في صحتها لا ينفعكم أيضا، فإن ذكرها لكم من غير أن تنظروا في صحتها لا يولد العلم لكم، وعلى الجملة فإيجاد العلم بصحة الإسلام في قلوب الكفار غير مقدور للمسلمين لا بأدلة الكلام ولا بأدلة السلف، لأن وجود العلم متوقف إما على نظر الكفار على الوجه الصحيح أو على خلق الله تعالى له، وكلاهما غير مقدور لنا. فلم يبق إلا أنا نأمرهم بأن ينظروا فيما نظرنا فيه على مقتضى ما خلق الله في عقولهم السليمة، ومقتضى ما علمهم الله على ألسنة أنبيائه الكرام عليهم الصلاة والسلام، فبمجموع العقل وبعثة الرسل تمت الحجة عليهم بإجماع المسلمين بل إجماع العقلاء المنصفين، قال الله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وأمثال ذلك، وإذا كانت حجة الله علينا وعليهم إنما هي العقل، وبعثة الرسل، ونحن فيهما على سواء في القدر الذي تقوم به الحجة، ويحصل معه التمكن من الإسلام، لم يجب علينا أن نعرفهم بأمر قد شاركونا في التمكن من معرفته بغير علم منا. ألم تر أنه لم يجب على المفتي أن يفتي العامي في حضرة الرسول، فكذلك لا يجب علينا أن نعرف الكفار بمقتضى العقول مع وجود العقول. فإن قال الكافر: إني قد نظرت في جميع ما ذكرتم بجهدي فلم أجد شيئا مما ذكرتم يدل على الإسلام، فإنا نقطع على أنه كاذب معاند، مثلما أن المتكلمين يقطعون على ذلك بعد المناظرة، فإنما علمنا أنهم معاندون في ذلك -مع أنه غيب لا سبيل لنا إلى معرفته- لأن الله تعالى أخبرنا بذلك حيث يقول: {قل فلله الحجة البالغة} وغير هذه الآية الكريمة. وبمعنى هذا الجواب جاء القرآن صريحا، قال الله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب، فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} فما تركت هذه الآية شيئا مما ذكرناه والحمد لله.
فإن قلت: قد يكون في الناس من هو بليد لا يستطيع أن ينظر وحده ولا يعرف الأدلة إلا بالتعليم فيجب تعليمه.
والجواب من وجوه:
الأول: لا سبيل على قواعدكم إلى العلم القاطع بوجود من هو كذلك. سلمنا، فإن الله تعالى حين يعلم منه النظر وطلب الحق يلهمه ويمكنه لا محالة. وسلمنا أن الله تعالى لم يمكنه من ذلك لبلادته، فمن أين أنه مكلف بالعلم؟ وما المانع من أنه غير مكلف عند من لا يجيز التقليد في هذه المعارف، ويكون لاحقا بالصبيان المميزين العارفين بالعلوم الضرورية؟ أو يكون مكلفا بالتقليد أو ما يقوم مقامه من الظن عند من يجيز ذلك، كأبي القاسم الكعبي من المعتزلة، والمؤيد من الزيدية، وغير واحد من أهل السنة.
الوجه الثاني: أن نقول: قد يكون في الناس من لا يفهم الأدلة المحققة بالتعليم أيضا لشدة بلادته، فما أجبتم به فهو جوابنا. فإن قلتم: الأدلة تمنع وجود مثل هذا، فإن وجد فغير مكلف، قلنا: ونحن نقول بمثل هذا فيمن لا يتمكن من معرفة الإسلام بمجرد خلق العقل وبعثة الرسل.
الوجه الثالث: أن الذي يعرفه أهل الجهل من المسلمين يكفي أهل البلادة من الكفار، فإنه لا يطالب بالأدلة الدقيقة -التي لا يعرفها إلا علماء الكلام- إلا أهل الذكاء من الكفار، وأهل الذكاء منهم قد تمت عليهم الحجة ومكنهم الله من المعرفة، ولا يجب علينا تعريفهم بما هم ممكنون من معرفته من غير تعريفنا كما تقدم.
الوجه الثالث: من الأصل أن كل مسلم يبذل جهده في دعاء الكفار إلى الله تعالى بالدليل والموعظة، على قدر قوة عقله وبلاغة منطقه، من متكلم أو محدث أو عامي، ولا يجب تعلم الكلام لذلك، فليس كل من قرأ الكلام تمكن من تمييل القلوب المصرة على الكفر إلى الإسلام، وإنما يتمكن من ذلك من أهل الكلام من آتاه الله تعالى صفاء الذهن، وحسن الفهم، والبراعة في تعليم غوامض العلم، وأهل هذه الصفة العزيزة قليل من المتكلمين وغير محتاجين إلى تعلم الكلام، بل في فطرهم ما يكفيهم، كما كان الذين ابتكروا علم الكلام وسبقوا إليه.
الوجه الرابع: سلمنا أنه من عرف علم الكلام تمكن من محاجة الكفار وإفحامهم دون غيره، ولكن ذلك لا يجب ولا يستحب، أما أنه لا يجب فلعدم ما يدل على وجوبه، وأما أنه لا يستحب فلما يخاف من المضرة الحاصلة بمعرفته كما تقدم تحقيق ذلك في (الوهم الثاني عشر).
فإن قيل: قد ورد في السمع ما يدل على وجوب البيان على العلماء.
فالجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن المراد بذلك بيان ما لم يبينه الله تعالى للعامة إلا بواسطة علماء الشريعة، من أحكام الفروع وأركان الشريعة، وأما العلوم العقلية التي ساوى الله تعالى بين الجميع فيها فلا يجب تعليمها لأن ما لم يتعلق بالإسلام من ذلك لم يجب إجماعا، وما يتعلق بالإسلام منه فقد بينه الله تعالى، وما بينه الله لم تجب إعادة البيان، ألا ترى أن ما بينه بعض العلماء لم تجب إعادة بيانه، مع أنه ربما ظن أنه قد بين للخصم ولم يتبين للخصم صحة ما ذكره، فأولى وأحرى أن لا تجب إعادة بيان ما بينه الله تعالى، لأنه يعلم البواطن ويعلم أنه قد أقام الحجة، وقد أعلمنا بذلك فعلمنا بخبره لنا قيام الحجة على الكفار، وكان ذلك أتم من مناظرتنا لهم، غاية ما في الأمر أن هذا تخصيص للعمومات الموجبة لتعلم الجاهل، فهو تخصيص صحيح لأنه تخصيص بالعقل، وتخصيص العموم جائز عند جماهير العلماء بالقياس الظني، كيف بالدليل العقلي.
الوجه الثاني: أنا نخصص تلك العمومات بفعل رسول الله ﷺ، فإنه عليه السلام لم يشتغل ببيان كيفية النظر وتعليم العقلاء ذلك، بل دعا الناس إلى الإسلام، وقاتلهم عليه وبلغ ما أوحي إليه، والعلماء ليسوا أبلغ من الأنبياء، وقال تعالى في حق الأنبياء: {وما علينا إلا البلاغ المبين} كذلك العلماء فإنما هم ورثة الأنبياء، وأهل السنة قد قاموا بحق الوراثة للعلم النبوي، وقد علمنا أن رسول الله ﷺ لم يأمرنا بالمناظرة قبل قتال الكفار، وإنما أمرنا بالدعاء قبل القتال حتى اشتهرت الدعوة النبوية وقاتل عليه السلام قبل الدعوة.
ومن المعلوم أن الكفار لو اعتذروا بالشبه وجاءوا بفيلسوف يجادل عنهم، وطلبوا من النبي ﷺ ترك الجهاد حتى يتعلموا أدلة علم الكلام ويجيب النبي ﷺ على جميع شبه الفلاسفة القادحة في العلم حتى يؤمنوا على يقين، ما عذرهم النبي ﷺ في الكفر يوما واحدا، وكيف يمهلهم ويترك جهادهم حتى يتعلموا ذلك! وتعلم ذلك على الوجه المرضي لم يحصل لأهل الدربة في النظر إلا في مدة طويلة، وإذا جازت المهلة في مدة النظر حتى يحصل للناظر العلم بما ذكره المعتزلة، وجب الرجوع في معرفة مدة المهلة إلى الناظر، لأن الناس يختلفون في سرعة حصول العلم بالنظر على حسب فطنهم، ومعرفة ذلك بالوحي بعد انقطاعه غير ممكنة، فلزم الخصم أمهال من اعتذر بذلك حتى يقر بحصول العلم له وأنه معاند، أو الرجوع إلى ما بدأ به أهل الحديث من الدعاء والجهاد والاكتفاء ببيان الله تعالى.
الوجه الخامس: أنها وردت نصوص تقتضي العلم أو الظن أن الخوض في الكلام على وجه التحكيم للأدلة العقلية في المحارات الخفية، وتقديمها على النصوص السمعية مضرة عظيمة، ودفع المضرة المظنونة واجب عقلا بإجماع الخصوم ودليل المعقول.
فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام خوف مضرة أيضا.
فالجواب: أن تسمية المرجوح خوفا غير مسلم، وإلا لسمينا خائفين لسقوط الأبنية القائمة الصحيحة علينا.
وسلمنا أنه يسمى خوفا. لكن دفع المضرة الموهومة أو المجوزة لا يجب، لا سيما إذا لم يندفع إلا بارتكاب ما فيه مضرة مظنونة فإن ذلك قبيح بالضرورة مع تساوي المضرتين أو احتمال تساويهما.
الوجه السادس: من قبيل المعارضة لبعض المتكلمين، وذلك أن في المتكلمين من المعتزلة طائفتين عظيمتين لا توجبان النظر:
أحدهما: من يجيز التقليد في أصول الدين مثل شيخ البغدادية أبي القاسم الكعبى وأتباعه، وإمام الزيدية المؤيد بالله وأتباعه.
ثانيهما: من يقول: بأن المعارف ضرورية من المعتزلة وعلماء الزيدية، والمعتزلة مطبقون على تعظيم هاتين الطائفتين منهم، وإن قطعوا ببطلان ماقالاه فنقول لهم: جواب المحدثين على أهل الفلسفة والكفر مثل جواب هاتين الطائفتين وقد قال بهما جلة من شيوخهم النظار المتحذلقين الكبار، فلا تسرفوا في التشنيع على أهل الأثر، فقد شاركهم في ذلك جماعة من أهل النظر.
ويتعلق بهذا بحث وجوابه تركتهما اختصارا.
وأما المسألة الثانية: وهي قولهم: ما يصنع المحدثون عند ورود الشبه الدقيقة من الفلاسفة وغيرهم، وذكرهم لحكاية ملك الروم، وإرساله إلى الرشيد يطلب المناظرة، وإن الرشيد أمر بمحدث فسألوه عن الدليل على ثبوت الصانع فاحتج عليهم بقول النبي ﷺ: «بني الإسلام على خمس دعائم» الحديث فكتبوا إلى الرشيد في ذلك وطلبوا غيره، فأرسل بمتكلم فدسوا عليه من فهمه في طريقه فوجدوه كما يحذرون، فسموه قبل الوصول إليهم.
والجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: معارضة وهي أن نقول: أخبرنا ما كان يصنع الصحابة والتابعون ومن أجاز التقليد في الأصول من المتكلمين وأهل المعارف الضرورية منهم، وأول من ابتكر علم الكلام، فإنه لا يمكن من لا يعرف الكلام أن يصنع مثلهم؟ فإن قالوا: إنه كان في الصحابة وكل من ذكرتم من يتمكن من ذلك من غير تعليم ولا رياضة في الكلام لفرط ذكائه، قلنا: ما المانع أن يكون في كل عصر من هو كذلك مثل أوائل مشايخ الكلام، بل أوائل أهل الفلسفة والبراهمة، بل الذي يتمكن من حل الشبه من أهل الكلام وهو من خصه الله تعالى بالذكاء والفطنة، وليس كل من قرأ الكلام صلح للذب عن الدين ومناظرة الملحدين، وإذا كانت الصلاحية لذلك لذلك موقوفة على الذكاء وحسن الإيراد والإصدار، فذلك موجود في المتكلمين وغيرهم كما أقر المتكلمون أنه كان في الصحابة من يعرف ذلك ويتمكن منه من غير رياضة في تعلم الكلام، وإذا اتفق لبعض أهل الحديث البلداء مالا يخفى على الأذكياء ضعفه، فذلك قد يتفق لبعض أهل الكلام من الاختيارات الركيكة ما لا يخفى الأذكياء ضعفه كما قدمنا في (الوهم الثاني عشر).
الوجه الثاني: أن أصولكم تقتضي عدم الخوف من ذلك، لأن عندكم أن النظر واجب على العبد، والبيان واللطف واجبان على الله تعالى، فنقول: لا حاجة على هذا إلى تعلم الكلام بل نقف حتى ترد الشبهة، فإن لم تقدح في أحد أركان الدليل لم توجب شكا ولا تستحق جوابا، وإن قدحت فعلنا ما يجب علينا وهو النظر عند المعتزلة، والله تعالى يفعل عندهم ما يجب في حكمته وهو البيان لنا والهداية واللطف المطلع على أسباب الدراية، ومع ذلك تجلى لنا المشكلات، ونسلم من مداحض الشبهات.
فإن قيل: فهل تقولون بقبح النظر؟ فقد أبطلتم كل النظر ببعض النظر، لأن أدلتكم هذه نظرية وهذا متناقض.
والجواب أنا لا نقبح النظر، وكيف وقد أمر الله تعالى به! ونحن إنما دفاعنا عن الكتاب والسنة، ولكنا نبطل مبتدع النظر بمسنونه، فنبطل من الأنظار ما أدى إلى القدح على الصحابة رضي الله عنه وإلى تفكير المسلمين، وإلى القطع في صفات الله تعالى بغير تقدير ولا هدى ولا كتاب منير، وقد بينا في (الوهم الثاني عشر) أن الذي يبطله أهل السنة من النظر نوعان:
أحدهما: ما كان متوقفا على المراء واللجاج الذي لا يفيد اليقين، ويثير الشر.
وثانيهما: الانتصار للحق بالخوض في أمور يستلزم الخوض فيها الشكوك والحيرة والبدعة لما في تلك الأمور من الكلام بغير علم في محار العقول ومواقفها، وقد أوضحت ذلك في (الوهم الثاني عشر) وذكرت أقوال فحول المتكلمين فيه واعترافهم بذلك فخذه من هنالك، فقد أبطل أهل الحديث بعض النظر ببعضه كما فعل أهل الكلام في إبطال أنظار خصومهم بأنظارهم، وهذا صحيح عند الجميع.
وأما الحكاية الني شنع بها أهل الكلام على المحدثين من إرسال ملك الروم إلى هارون الرشيد وطلب المناظرة وعجز المحدث عنها وسخرية أولئك الفلاسفة به، فقد كثر الكلام في التبجح بذلك وبحكاية أخرى تشبهها.
والجواب عليهم في ذلك: أنهم إن أرادوا الاستدلال على أنهم أجدل من المحدثين، فذلك مسلم لهم، بل مسلم لهم أنهم أجدل من رسول الله ﷺ. وإن أرادوا بذلك أنهم أعلم بالله وأفضل عند الله، فليس ذلك يدل على هذا؛ لأنا نعلم وكل عارف أنه لم يصدر شيء من الكلام ومجادلة الفلاسفة من رسول الله ﷺ ولا من جميع أصحابه رضي الله عنه ولا اشتغلوا بممارستهم لمماراة أهل اللجاج، وارتياضهم على النظر في شبه أهل الباطل، وليس يلزم من ذلك أنهم أقل معرفة بالله، ولا أقل نصرة لدين الله، ولو أحبوا الخوض في الكلام واشتغلوا بتعلمه وتعليمه لبلغوا فيه ما أرادوا، وعرفوا ما عرف المتكلمون وزادوا، وكذلك من اقتدى بهم من أهل السنة وسائر من اشتغل بالعبادة أو الجهاد، ولكنهم أعرضوا عن هذا الفن إعراض مستغن عنه فارغ القلب منه، لا يعرفون له مراسا ولا رفعوا إليه رأسا.
وقد عرضت لرسول الله ﷺ أسباب تقتضي الخوض في ذلك، كذلك أصحابه رضي الله عنهم، فلم يخض أحد منهم في ذلك على أساليب أهل الكلام، وقد كان رسول ﷺ أعلم بالله وأحب للدعاء بالحكمة إلى الله، فأعرض عمن خاض بالباطل في آيات الله ولم يزدهم على تبليغ آيات الله.
كما فعل مع ابن الزبعري فإنه لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} تعرض المخذول للجدال وزعم أن المسيح والملائكة عليهم السلام ممن يعبدون وأنه يلزم من ذلك أنهم معذبون، فأعرض عنه رسول الله ﷺ ولم يجب عليه بشيء، حتى نزل قوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون}.
وكذلك أبو سفيان فإن رسول الله ﷺ أمره أن يشهد له بالنبوة فقال: أما هذه ففي النفس منها شيء حتى الآن، فسكت عنه رسول الله ﷺ وأراد أن يضرب عنقه، فشهد الشهادتين.
وكذلك الوليد بن المغيرة، فإنه كلم رسول الله ﷺ في ترك النبوة وعرض عليه المال والرياسة، فلم يجب عليه إلا بتلاوة سورة السجدة.
وكذلك نصارى نجران الذين نزلت فيهم آية المباهلة، تعرضوا لمباهلته عليه الصلاة والسلام في أن عيسى ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، فلم يخض معهم في شيء من أساليب المتكلمين؛ ودعاهم إلى المباهلة كما ذلك معروف في مواضعه.
وهذه الأمور وإن نقل بعضها أو كلها آحاد فمعناها في الجملة معلوم بالضرورة لمن طالع السير والأخبار. وكذلك أصحابه رضي الله عنهم ألا ترى إلى قصة جعفر بن أبي طالب ومهاجرة الحبشة مع النجاشي وما راجعه به خطيبهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حين قيل للنجاشي: إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما، وكانت النصارى يعبدون عيسى ويستعظمون القول بأنه عبد من عبيد الله، فلما سألهم النجاشي عن ذلك أجابوا بكلام الله تعالى واحتجوا به على صحة عقيدتهم؛ وتلا جعفر على النجاشي صدر سورة مريم حتى بكى النجاشي وأصحابه، وكان ذلك سبب إسلام النجاشي.
وكل هذه المحاجات التي أشرنا إليها لا تصح على قواعد المتكلمين ولا تنفق في سوق الجدليين؛ فإنه لا يصح عندهم الاحتجاج بالقرآن ولا بالمعجز إلا على من قد صح له وجود الباري تعالى وأنه عالم قادر عدل حكيم صادق بالأدلة المحققة في علم الكلام، على ما ذلك مقرر بأدلته في مصنفاتهم.
والعجب من تشنيعهم على المحدث الذي أرسله هارون إلى الروم فبلغهم ما عنده من دعوة رسول الله ﷺ. وليت شعري ما الذي أنكروه من ذلك؟ فإن كان المنكر عندهم هو تبليغ كلام رسول الله ﷺ فلا نكارة في هذا، فقد كان رسول الله ﷺ يبلغ عن الله تعالى من غير زيادة استدلال ولا تجديد احتجاج، وإن كان المنكر عندهم كونهم طلبوا منه الحجة العقلية فلم يأت وعدل إلى ذكر أركان الإسلام، فغير مستنكر أيضا؛ فقد أمر الله رسوله ﷺ بمثل ذلك فقال تعالى: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} وأما قولهم: كيف يحتج على الخصوم بقول رسول الله ﷺ ولم يسلموا له صحة نبوته؟ فذلك جهل منهم، فإنه يصح الاحتجاج بذلك لأن الله تعالى قد أقام عليهم الحجة بذلك وإن جحدوه كما قال تعالى: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} وقال: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} وقد ثبت في فعل رسول الله ﷺ المعلوم في الجملة ما يرد عليهم، فإنه ﷺ أرسل إلى هرقل عظيم الروم من كان في صفة المحدث الذي أرسله هارون وهو دحية بن خليفة الكلبي ولم يعلمه ما يجيب به عليهم إن أوردوا عليه ما يدق من شبههم؛ فإنهم اليونان أهل الفن المنطقي وسائر الدقائق النظرية. وكذلك سائر رسله عليه السلام؛ فإنه بعث إلى النجاشي صاحب الحبشة، وإلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وبعث أبا عبيدة إلى البحرين يعلمهم الإسلام، وبعث عليا ومعاذا وأبا موسى إلى اليمن، وبعث إلى سائر الملوك. وكذلك كتب رسول الله ﷺ التي أنفذها إلى الآفاق البعيدة للدعاء إلى الإسلام، لم يضمنها شيئا من ذلك مع أنه موضعه، مثل كتابه إلى هرقل وإلى كسرى وإلى جهينة.
وبالجملة فالعلم حاصل بأن أهل الحديث أشبه برسول الله ﷺ وأصحابه من أهل الكلام في أمر العقيدة والرجوع إلى القرآن والسنة، لا يشك في ذلك إلا من قصرت معرفته بالأحوال النبوية والآثار الصحابية.
فإن قيل: أليس قد أمر الله رسوله ﷺ بالجدال في قوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن}
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قيد ذلك بالتي هي أحسن، ولم يأمره بمطلق الجدال والنزاع، إنما هو في كيفية ذلك وتفسير التي هي أحسن. وحجة المحدثين فيه واضحة، وذلك أن رسول الله ﷺ قد امتثل ما أمر به من الجدال في هذه الآية، ومع ذلك فلم ينقل عنه أنه جادل بأساليب المتكلمين. وهذا واضح. وكذلك جميع ما أخبر الله تعالى به عن الأنبياء عليهم السلام من مجادلة الكفار والاحتجاج عليهم، فإنه لا يعجز عن مثله محدث ولا يطابق أساليب أهل الكلام. مثل ما حكى الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام في قوله للذي حاجه في الله تعالى: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} ومثل ما علم الله رسوله ﷺ أن يحاجهم به في قوله تعالى: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد}.
ومثل ما ثبت عنه ﷺ من ذلك. ففي الصحيحين من حديث ابن عباس: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد ﷺ على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» -لبطون قريش- حتى اجتمعوا فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم كنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان [فالنجاء]، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم وصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم» الحديث.
وأمثال ذلك مما في القرآن والحديث الصحيح معلوم، فالسني يفهم مثل هذا ويهتدي إلى الاحتجاج به على قدر فهمه وذكائه، وفهم مثل هذا لا يحتاج إلى خوض في لطيف الكلام. وأهل البلادة من أهل الكلام وأهل السنة لا يكادون يفهمون ما دق من السمع والعقل، ولهم من الفهم ما تقوم عليهم به الحجة ويلزمهم معه التكليف. وقد ذكر الله تعالى في سورة هود في محاجة الأنبياء وجدالهم ما معرفته مغن عن ذكره، وكذا ذكر محاجة إبراهيم لقومه ومحاجة يوسف لصاحبي السجن ونحو ذلك مما يطول ذكره.
الوجه الثاني: أن الله تعالى أجمل كيفية الجدال بالتي هي أحسن في تلك الآية وببينه في غيرها بتعليمه في القرآن العظيم لنبيه ﷺ، فقال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب، فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} فهذه الآية الكريمة على ما يتمناه السني في وضوح الدلالة على المقصود في هذا الباب، من النص الصريح على أن ما ذهبوا إليه وأجابوا به أهل اللجاج في الدين، هو الذي أمر الله به رسوله ﷺ من الاقتصار على مجرد الدعاء إلى الإسلام والاتكال في إيضاح الحجة على ما قد فعله الله تعالى لهم من خلق العقول وبعثة الرسول وإنزال الآيات وظهور المعجزات وتكثير مواد البينات، كما قال سبحانه وتعالى في تمثيل نور هدايته للخلق إلى معرفة الحق: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} فمن ادعى عدم بيان أدلة الإسلام بعد هذا لم يقبل منه ولا يلتفت إليه، وقد نص الله على ما يكذب القائل لذلك في قوله تعالى في الآية المتقدمة: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} في العلم ببواطنهم وما أقام عليهم من الحجة حتى استوجبوا العقوبة والغضب من الله تعالى. فأما الخوض مع أهل المراء واللجاج والطمع في هدايتهم بالجدال والحجاج، فذلك ما لا يطمع فيه بصير، ولا جاء به كتاب منير؛ وكيف تطمع في أهل الزيغ وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم جادلوه يوم القيامة وأنكروا ما صنعوا من معاصيه سبحانه حتى شهدت عليهم أيديهم وأرجلهم، وبعد أن شهدت عليهم لم يكل حد حجاجهم ولا خمد شواظ جدالهم، بل قالوا لأعضائهم: لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء. فمن بلغ في اللجاج إلى هذا الحد، كيف يطمع السني أو الجدلي أن يفحمه بالدليل ويهديه إلى سواء السبيل! هيهات أن يكون ذلك أبدا، وكان الإنسان أكثر شيء جدلا.
وقد تأول هذه الآية المصرحة بجدال الكفار يوم القيامة بعض أهل الكلام فلم يأت بما يساوي سماعه، والله الذي خلق الخلق هو أعلم منهم بطباعهم وهو الذي أخبر عنهم بذلك وبأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. والحكيم من اكتفى بحكمة الله وبيانه في حق هؤلاء الذين لا يعرف طباعهم سواه ولا يعلم غلاظهم غيره. ولهذا وعد الله تعالى بالفصل بينهم يوم القيامة وسماه يوم الفصل. فأي جدلي مغفل يظن أنه يفصل بجدله بين الخلق قبل يوم القيامة؟ والحكيم الخبير قد أنبأنا من عتوهم وإصرارهم على الباطل بما لم نكن نعرفه إلا بتعريفه سبحانه وتعالى فقال: {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} وقال سبحانه وتعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} فكيف تنفع المناظرة من لم تنفعه مثل هذه الآيات الباهرة. وإنما الحكمة أن يوكلوا إلى الذي قال في بيان القدرة على هدايتهم بما هو أعظم من تلك الآيات من ألطافه التي ليسوا لها أهلا: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}، {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} وقال تعالى في بيان علمه ببواطنهم، وحكمته في ترك هداية غواتهم: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهعم معرضون} وقال تعالى في إقامة الحجة عليهم بخلق العقول وبعثة الرسول: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} وقال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وقال تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
فهذه الآيات الكريمة وأمثالها تعرف السني قيام حجة الله تعالى على الخلق في إيضاح سبيل الحق، فيدعوهم إلى الله تعالى مقتديا برسله الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام، مكتفيا من البيان بما في القرآن، مقتصرا في الفرق بين الحق والباطل بالفرقان؛ يستصبح بنوره في ظلم الحيرات ويمتثل مطاع أمره في {فاستبقوا الخيرات} ولا يتعدى حدود نصحه في الإعراض عن الجاهلين والمجانبة للخائضين في آيات رب العالمين.
إخواني، فلا يستخفنكم الذين لا يوقنون، ولا يستهوينكم الذين يسمون المؤمنين بالسفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون، ولا يطيشن وقاركم الذين يسخرون منكم، سخر الله منهم ولهم عذاب أليم، فقد استهزأوا قبلكم بجميع الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين، وقد حكى الله عنهم أنهم: {كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} فتأسوا رحمكم الله بمن تقدم من المؤمنين في الإعراض عن المستهزئين: {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون، أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} وعليكم بالقرآن فإنه الطبيب الآسي والكريم المواسي، ارتعوا في رياض حواميمه وانتفعوا ببيان طواسيمه، اقتدوا بأنوار مصابيحه واستسقوا بأنواء مجاديحه، فإنه المعجز الذي لا تتناوله طاقات العباد، والحجة البالغة على أهل العناد، والجديد الذي لا يخلق على طول الترداد ولا يبلى على مرور الآباد، قرآن بلي قشيب الزمان وإعجازه جديد، وهرم شباب الأيام ورونقه إلى مزيد، قد خالف 27 المعجزات باستحالة السحر في حقه، وسطوع نور الحق من مشكاة بلاغته وصدقه. وذلك لأن إعجازه في أمور كثيرة، ووجوه حججه منيره: منها حسن تركيبه وإحكام ترصيفه، ومطابقة أفانينه للطيف حالتي القبض والبسط، وموافقة أساليبه لدقيق شأني القطع والربط؛ فوعيده يبكي العيون، ويستحلب الشؤون، وتقشعر له الجلود، ويقطع نياط القلوب ويمنع الهجود، ووعده يثير النشاط ويبعث داعية الانبساط، وأقاصيصه تثبت الإيمان في القلوب، وتجلي عنها غياهب الكروب، وتزيد في الإيمان وتهدي إلى الإحسان؛ وهذا لا يستطيعه السحرة والمشعوذون، إنهم عن السمع لمعزولون. ولو كان ذلك من المجوزات لجوز مثل ذلك على جميع الأشعار المدونات، ولكنا إذا سمعنا كلاما بليغا ونظاما بديعا -قد وشيت بعلوم البيان بردته، وحكيت في أفانين المعاني لحمته، وقمعت بطرائف الأمثال أساليبه، وطرزت بمطابقة الأحوال أفانينه- جوزنا أنه من طمطمة العجوم، وهمهمة علوم الروم! ومتى سمعنا رطن الأعاجم وأصوات البهائم جوزنا أنها من رسائل البديع المضمنة لعلوم البديع! ولو كانت الفصاحة من مقدورات السحرة وحيل حذاقهم المهرة لقدروا بذلك على معارضة القرآن، فكيف وقد عجزوا عن يسير البيان! فأكثرهم لا يعرف وزن بيت من أي الأوزان، ولا يدري كيف الجولان في هذا الميدان! فانظروا في هذه المعجزة العظيمة الباقية على مر الدهور الطويلة، التي أخرست مهرة الكلام من العرب وأسكنتهم وأردت فرسان البلاغة فنكستهم، أظهر الله به عجزهم، وأبطل به عزاهم وعزهم؛ وقد مر اليوم نيف على ثمان مئة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ولم يقدر على معارضته إنسان، ولا نطق بمثل سوره لسان. على أن هذه المدة الطويلة مرت على سحرة الكتابة والخطابة، ومهرة اليراعة والبراعة، أُساة أساليب الكلام إذا اعتل، وبناة أساسات البيان إذا اختل.
يرمون بالخطب الطوال وتارة ** وحي الملاحظ خيفة الرقباء
فسبحان من أخرس أمراء البيان عن معارضة هذا القرآن، وجعله عصمة لأهل الإيمان في جميع الأزمان: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}. فاستنصحوا القرآن واستهدوه واستخبروه واستشفوه، فإنه الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، الطبيب الذي لا يخطئ. فاتهموا فيه آراءكم، واستغشوا [فيه] أهواءكم، واستغنوا بمنطق القرآن عن منطق اليونان، وانظروا فيما أمركم بالنظر فيه، متبعين في كيفية النظر لرسوله الذي أثنى على متبعيه، فسرحوا أبصار بصائركم وأفكار ضمائركم في سماء مرفوعة، وأرض موضوعة، ونجوم في مقدرات منازلها سيارة، وعلى محكمات أفلاكها دوارة، زينة تجتليها أعين المعتبرين، ومصابيح تتوهج أنوارها للمتفكرين، منها ثواقب وثوابت، ومعالم ورواجم، وأقمار نوارة وبحار موارة، وأرواح خفاقة، وأنهار دفاقة، وسحائب ثقال مطارة، وعيون سيالة وقطارة، وأودية غير منسدة المهارق، نافذة في المغارب والمشارق، وحيوانات حساسة منها في الأجواء طيارة، ومنها على الأقدام سيارة، ومنها أمم مكلفة ومنها أخرى مسخرة، ولكل أرزاق مقدرة، وأحوال مقررة، ونعم ونقم وعبرة وعبر، وفيهم المهنى والمعزى والمعافى والمرزى، والضاحك والباكي، والمغبوط والشاكي. ورسل الله تعالى في خلال ذلك تترى، وكتبه سبحانه لا تزال تقرأ. فسبحانك اللهم ما أعظم ما يرى من خلقك وما أصغره في جنب قدرتك، وما أجل ما نشاهده من سلطانك وما أحقر ذلك في جنب ما غاب عنا في ملكوتك، وما أصدق ما قلت في كتابك المبين يا أصدق القائلين: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}.
وهذا آخر ما وفق الله من هذا المختصر، وقد رأيت أن أختمه بما بدأت به بذكر شيء من الأبيات المتضمنة للحث على الاتباع وترك التعمق والابتداع، فمن ذلك قولي في هذا المعنى:
منطق الأولياء والأديان ** منطق الأنبياء والقرآن
ولأهل اللجاج عند التماري ** منطق الأذكياء واليونان
فإذا ما جمعت علم الفريقين ** (م) فكن مائلا إلى الفرقان
وإذا ما اكتفيت يوما بعلم ** كان علم المحدث الرباني
إن علم الحديث علم رجال ** ورثوا هدي ناسخ الأديان
جمعوا طرق ما تواتر عنه ** ورووا بعده صحيح المباني
ورووا بعده حسان الأحاديث ** ووهوا ما دون شرط الحسان
واعتنوا بالنفيس من غير خبط ** في دعاوى معنى بغير بيان
وأبانوا نقد الرواة بيانا ** يكشف الغامضات للعميان
فانظروا في مصنف ابن عدي ** وكتاب التكميل والميزان
تعلموا أنهم قد اعتمدوا النصح ** وصحوا عن علة الإذهان
واستدلوا بالمسندات العوالي ** في تفاريع دينهم والمباني
عملا بالمظنون منها وقطعا ** باعتقاد المعلوم في الأديان
فإذا جئتهم تريدن مراء ** شمت هدي المبعوث من عدنان
قد رضوا ما رماهم منطقي ** بهدي أهل بيعة الرضوان
فلقاهم عندي أجل الأماني ** وهواهم علامة الإيمان
ومما قلت في هذا المعنى:
عليك بأصحاب الحديث الأفاضل ** تجد عندهم كل الهدى والفضائل
أحن إليهم كلما هبت الصبا ** وأدعوا إليهم في الضحى والأصائل
لئن شحت الأيام في الجمع بيننا ** سخت بالتوالي بيننا والرسائل
وقد تلتقي الأرواح والبون نازح ** على الجمع للأشباح ذات الهياكل
فيا ليت شعري والأماني ضلة ** متى نلتقي بعد النوى المتطاول
شيوخ حديث المصطفى ومعادن الـ ** ـتقى وبدور نورهم غير آفل
شفوا علل الأكباد منه فأصبحوا ** وقد لبسوا منه نفيس الغلائل
هم نقحوا منه الصحيح وبينوا ** معارفه في الممتعات الحوافل
فهم في مبانيهم جبال منيفة ** وهم في مغانيهم شموس المحافل
يذبون عن دين النبي محمد ** بألسنة مثل السيوف الفواصل
دليلهم قول الرسول وفعله ** وذلك يوم الفصل أقوى الدلائل
ومدرسهم آي الكتاب وإنه ** لأقمع برهان لكل مناضل
هما حجة الإسلام لا ما يطيش من ** دماغ ألد في الخصام مجادل
ولولاهما كان ابن سينا منزلا ** من العلم في أعلى بروج المنازل
وكان ابن مسعود وأعلام عصره ** من الصحب في مهوى من الجهل نازل
فلا تقتدوا إلا بهم وتيمموا ** لهم منهجا كالقدح ليس بمائل
ألم تر أن المصطفى يوم جاءه الـ ** ــوليد بقول الأحوذي المجادل 28
تجنب منهاج المرا وتلا له ** من السجدة الآيات ذات الفواصل
ولم يجعل القرآن غير مصدق ** إذا لم تقدمه دروس الأوائل
كذا فعل الطيار يوم خطابه ** لأصحمة بين الخصوم المقاول
تلا لهم آي الكتاب فأيقنوا ** بها بشهادات الدموع الهواطل
إلى ذاك صار الأذكياء من الورى ** وعادوا إليه بعد بعد المراحل
أبو حامد وابن الخطيب وهكذا الـ ** إمام الجويني الذي لم يماثل
كذا ابن عقيل وهو أبرع عاقل ** غدا وهو معقول كبعض العقائل
فلا تسبحوا في لجة البحر وابعدوا ** عن الخوض فيه واكتفوا بالسواحل
فإن لم يكن بد من الخوض فاجعلوا ** مواردكم مستعذبات المناهل
عليكم بقول المصطفى فهو عصمة ** وما عاقل، عما يقول بعادل
سعدت بذبي عن حماه وحبه ** كما شقيت بالصد عنه عواذلي
كتب في آخر نسخة (أ) ما صورته: «انتهى تحصيل هذا الكتاب بعون الملك الوهاب ولطفه ومنه، فله الحمد كثيرا بكرة وأصيلا، والحمد لله على كل حال وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله خير آل. كان الفراغ من رقمه ليلة الاثنين المبارك، أحد أيام شهر [ذي] القعدة الحرام سنة (1179هـ) ختمت بخير».
ثم كتب: «بلغ مقابلة على أصله مع (عناية) حسب الإمكان، وذلك يوم الأحد لعله سابع شهر محرم الحرام سنة (1180هـ) (وقع في الأصل (1108هـ وهو وهم). وكتب الفقير إلى رحمة الله ربه لطف الباري بن أحمد عفى الله عنه وغفر له ولوالديه، ولمسامحه ولجميع المؤمنين آمين».
وكتب في آخر نسخة (ي) ما صورته: «انتهى تحصيل هذا الكتاب المبارك بعون الله الملك الوهاب ولطفه ومنه، فله الحمد كثيرا بكرة وأصيلا، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين، وآله خير آل، وأصحابه الراشدين، والحمد لله على كل حال. حرر صبح الجمعة المبارك أحد أيام ذي القعدة الحرام سنة ست وثلاثين وثلاث مائة وألف ختمت بخير وما بعدها إن شاء الله».
ثم كتب: «بلغ بحمد الله تعالى مقابلة هذه النسخة ليلة رمضان الكريم (1340هـ)، والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى».
وكتب أيضا: «قال القاضي العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي رحمه الله في آخر النسخة التي بقلمه التي قابلنا هذه النسخة عليها، بخط سيدي العلامة إسحاق بن يوسف رحمه الله في آخر نسخته في هذا التاليف ما لفظه: «انتهى ما أردت من مطالعة هذا السفر الجليل الذي هو برؤ العليل وشفاء الغليل، فرحم الله مؤلفه رحمة واسعة، وحشره في زمرة حبيبه الشفيع، وحرر في رمضان (1137هـ) انتهى».