الصاحبي في فقه اللغة - الجزء الثاني
وربّما كان اللفظُ خبراً والمعنى شرطٌ وجزاء، نحو قوله: "إنّا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون" فظاهره خبر، والمعنى: إنّا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا. ومثله "الطلاق مرتان" المعنى: مَن طلّق امرأته مرتين فليُمْسِكها بعدهما بمعروف أو يسرّحها بإحسان. والذي ذكرناه في قوله جلّ ثناؤه: "ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم" فهو تبكيت وقد جاء في الشعر مثله. قال شاعر يهجو جريراً: أبلغْ جريراً وأبلغ مَن يُبَلّغُـه
أني الأغرُّ وأني زهرةُ اليَمَنِ فقال جريرٌ مبكّتاً له: ألم تكن في وُسُوم قد وَسَمْتُ بها
من حَانَ موعظةٌ يا زهرةَ اليَمَنِ ويكون اللفظ خَبَراً، والمعنى دعاء وطلب مَرّ في الجملة. ونحوه: "إيّاكَ نعبُد وإياكَ نستعين" معناه فأعِنّا على عبادتك. ويقول القائل: أستغفر الله والمعنى: اغْفِرْ. قال الله جلّ ثناؤه: "لا تثريبَ عليكم اليومَ يغفِرُ الله لكم" ويقول الشاعر: استغفرُ اللهَ ذنباً لستُ مُحْصِيَهُ
ربَّ العبادِ إليه الوَجهُ والعملُ باب الاستخبار الاستخبارُ - طلب خُبْر ما ليس عن المستخبر، وهو الاستفهام. وذكر ناس أن بين الاستخبار والاستفهام أدنى فرق. قالوا: وذلك أن أولى الحالين الاستخبار لأن تستخبر فتجابُ بشيء، فربّما فهمته وربّما لم تفهمه، فإذا سألت ثانيةً فأنت مستفهم تقول: أفهمْني ما قتله لي. قالوا: والدليل على ذلك أن الباري جل ثناؤه يوصَف بالخُبْر ولا يوصف بالفهم. وجملة باب الاستخبار أن يكون ظاهره موافقاً لباطنه كسؤالك عنّا لا تعلمه، فتقول: ما عندك? ومَن رأيتَ?. ويكون استخباراً، في اللفظ، والمعنى تعجب. نحو: "ما أصحاب المَيْمَنَة". وقد يسمى هذا تفخيماً. ومنه وقوله: "ماذا يَستعجِل منه المجرمون" تفخيم للعذاب الذي يستعجلونه. ويكون استخباراً والمعنى توبيخ. نحو "أذْهبتم طيباتكم". ومنه قوله: أغَرَرْتني وزَعمت أن
نك لاَبِنٌ بالصيف تَامرْ ويكون اللفظ استخباراً، والمعنى تفجّع. نحو: "ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة". ويكون استخباراً، والمعنى تبكيت نحو: "أأنت قلت للناس" تبكيتُ للنصارى فيما ادعوه. ويكون استخباراً، والمعنى تقرير. نحو قوله جلّ ثناؤه: "ألست بربكم". ويكون استخباراً، والمعنى تسوية. نحو: "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم". ويكون استخباراً، والمعنى استرشاد. نحو: "أتجعل فيها من يُفسد فيها". ويكون استخباراً، والمعنى إنكار نحو: "أتقولون على الله ما لا تعلمون". ومنه قول القائل: وتقولُ عَزَّةُ قد مَلِلتَ فقل لها
أيَمَلُّ شيءٌ نفسَه فأمَلَّـهـا ويكون اللفظ استخباراً، والمعنى عَرْض. كقولك: "ألا تنزل" ويكون استخباراً، والمعنى تحْضيضِ. نحو قولك: هَلاَّ خيراً من ذلك" و: بني ضَوْطَرَى لولا ال
كَمِيَّ المـقـنَّـعـا ويكون استخباراً والمراد به الإفهام. نحو قوله جلّ ثناؤه: "وما تلك بيمينك" قد علم أن لها أمراً قد خفي على موسى عليه السلام، فأعلمه مِن حالها ما لم يعلمه. ويكون استخباراً، والمعنى تكثير، نحو قوله جلّ ثناؤه: "وكم من قرية أهلكناها" وكأيّنْ من قرية". ومثله: كَم مِن دَنِيٍّ لها قد صِرتُ أتْبَعُـه
ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا وقال آخر: وكم مِن غائط من دونِ سلْمى
قليلِ الأُنس ليس به كـتـيعُ ويَكون استخباراً، والمعنى نفي. قال الله جلّ ثناؤه: "فَمن يَهدي من أضلَّ اللَّهُ" فظاهره استخبار والمعنى: لا هاديَ لمن أضلَّ اللهُ. والدليل على ذلك قوله في العطف عليه: "وما لهم من ناصرين". ومما جاء في الشعر منه قولُ الفرزدق: أينَ الذين بهم تُسامِي دارِمـاً
أمْ منْ إلى سلفيْ طهيَّة تَجْعلُ ومنه قوله جلّ ثناؤه: "أفأنت تُنْقِذُ مَن في النار" أي لستَ منقذَهم. وقد يكونُ اللفظ استخباراً، والمعنى إخباراً وتحقيق. نحو قوله جلّ ثناؤه: "هل أتى على الإنسان حِينٌ من الدّهر" قالوا معناه: قد أتى. ويكون بلفظ الاستخبار، والمعنى تعجّب. كقوله جلّ ثناؤه: "عمّ يَتَسَاؤلُون" و"لأي يوم أجِّلتْ" ومِن دقيق باب الاستفهام أن يوضَع في الشرط وهو في الحقيقة للجزاء. وذلك قول القائل: إن أكرمتُكَ تُكرِمني المعنى : أتكرمني إن أكرمتُك? قال الله جلّ ثناؤه: "أفإن متَّ فهم الخالدون?" تأويل الكلام: أفهم الخالدون إن متّ? ومثله: "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم?" تأويله: أفتنقلبون على أعقابكم إنّ مات?. وربّما حَذفت العربُ ألف الاستفهام. ومن ذلك قول الهُذْلِيّ: رَفوْنِي وقالوا يا خويلدُ لم ترَعْ
فقلت وأنكرتُ الوجوهَ همُ همُ أراد: أهم? وقال آخر: لَعمرُكَ ما أدري وإن كنـتُ دارياً
شُعَيْث بنَ سَهْم أم شُعيث بنَ مِنْقرِ وقال آخر: لعمركَ ما أدري وإن كنتُ دارياً
بسبع رَمين الجمر أم بثـمـانِ وعلى هذا حمل بعض المفسرين قوله جلّ ثناؤه في قصة إبراهيم عليه السلام: "هذا ربي": أي: أهذا ربي?. باب الأمر الأمر عند العرب - ما إذا لم يفعله المأمور به سمي المأمور به عاصياً. ويكن بلفظ افْعلْ وليفْعَلْ نحو "أقيموا الصلاةَ" ونحو قوله: "وَليحكمْ أهلُ الإنجيل". فأما المعاني التي يحتملها لفظ الأمر فأن يَكون أمراً، المعنى مسألة. نحو قولك: اللهم اغفر لي. قال: ما مَسَّها من نَقبٍ ولا دَبَـرْ
اغْفِرْ له اللهمَّ إن كان فَجَر ويكون أمراً، والمعنى وعيد. نحو قوله جلّ ثناؤه: "فتمتعوا فسوف تعلمون". ومثله قوله جلّ ثناؤه: "اعْمَلُوا ما شئتم". ومنه قول عَبِيد: حَتّى سَقيناهم بكأسٍ مُـرَّةٍ
فيها المُثمَّلُ ناقعاً فليشْرَبوا ومن الوعيد قوله: ارْوُوْا عليَّ وأرْضُوا بي رِحالَكُمُ
واسُتَسْمِعوا يا بني مَيْثاءَ إنشادي ما ظنُّكم ببني مَيْثاءَ إن رَقـدوا
ليلاً وشَدَّ عليهم حَـيّةُ الـوادي وقد جاء في الحديث: "إذا لم تَسْتَحْيِ فاصنَعْ ما شئت" أي: إن الله جل ثناؤه مجازيك، قال الشاعر: إذا لم تَخْشَ عاقِبةَ الليالـي
ولم تَسْتَحي فاصنع ما تشاءُ ويكون اللفظ أمراً، والمعنى تسليم. نحو قوله جلّ ثناؤه: "فاقْضِ ما أنتَ قاض". ويكون أمراً، والمعنى تكوين. نحو قوله جلّ ثناؤه: "كونوا قِرَدَةً خاسِئِين". وهذا لا يجوز أن يكون إلا مِن الله جلّ ثناؤه. ويكون أمراً، وهو نَدْب نحو قوله جلّ ثناؤه: "فانْتَشِرُوا في الأرض". مثله: فقلتُ لراعيها انْتَشِرْ وتَبَقَّلِ ويكون أمراً، وهو تعجيز. نحو قوله جلّ ثناؤه: "فانفُذوا، لا تنفُذون إلا بسلطان". ومثله: خَلِّ الطريقَ لمن يَبْني المَنَارَ بهـا
وابرُز بِبَرْزَة حيثُ اضْطَرَّكَ الْقَدَرُ ويكون أمراً، وهو تعجب. نحو قوله جلّ ثناؤه: "أسْمِعْ بهم". قال: أحْسِنْ بها خُلَةً لو أنها صدقـتْ
موعودَها ولو انَّ النُّصحَ مقبولُ ويكون أمراً، وهو تمنٍّ. تقول لِشَخص تراه: "كُنْ فلاناً". ويكون أمراً، وهو واجب. في أمر الله جلّ ثناؤه: "أقيموا الصلاة". ويكون اللفظ أمراً، والمعنى تلهيفٌ وتحسير. كقول القائل: "متْ بِغَيْظِكَ" ومُتْ بِدائِكَ" وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "قل موتوا بغَيْظكم" ثم قال جرير: موتوا من الغَيْظ غَمّاً في جَزِيرَتِكم
لَنْ تقطعوا بطنَ وادٍ دونَهُ مُضَرُ ويكون أمراً، والمعنى خَبَر. كقوله جلّ ثناؤه: "فليَضْحكوا قليلاً، ولِيبكوا كثيراً" المعنى: انهم سيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً. فإن قال قائل: فما حال الأمر في وجوبه وغير وجوبه? قيل له: أمّا العرب فليس يُحفظُ عنهم في ذلك شيء، غير أن العادة بأنَّ من أمر خادمه بسقيه ماءً فلم يفعل، أنّ خادمه عاصٍ: وان الآمر مَعْصِيّ. وكذلك إذا نهى خادَمه عن الكلام فتكلّم، لا فرق عندهم في ذلك بين الأمر والنهي. فأما النهي - فقولك: لا تَفْعَلْ ومنه قوله: لا تَنِكحي إن فَرَّق الدهر بيننا
أغمَّ القفا والوَجهِ ليس بأنْزعا وأمّا الدعاء، والطَّلب - فيكون لمن فوقَ الداعي والطالب. نحو: اللهم اغُفرْ ويقال للخليفة: انظُرْ في أمري. قال الشاعر: إليك أشكو فتقبَّلْ مَـلَـقـي
واغفِرْ خطاياي وثمِّرْ وَرقي والعَرضُ. والتحضيض - متقاربان. إلا أن العَرْضَ أرفَقُ. والتحضيض أعْزَمُ. وذلك قولك في العَرض ألا تنزِل ألا تأكلُ والإغراء والحثُّ قولك: ألَمْ يأنِ لك أن تطيعَني. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "ألَمْ يَأنِ للذين آمنوا أن تَخْشَعَ قلوبُهم لذِكر الله". والحثّ والتحضيض كالأمر ومنه قوله عزّ وجلّ: "إنِ ائْتِ القومَ الظالمين، قومَ فِرعَون، ألاّ يتقون" فهذا من الحثّ والتخصيص، معناه: ائْتِهم ومُرْهُم بالاتّقاء. ولولا يكون لهذا المعنى، وقد مضى ذكرها. وربما كان تأويلها النفي، كقوله جلّ ثناؤه: "لولا يأتُونَ عليهم بسلُطان بَيِّن" المعنى: اتخذوا من دونه آلهة لا يأتونَ عليهم بسلطان بَيِن. والتمنيّ - وقولك: وَدِدتكَ عندنا وقوله: وَدِدتُ وما تُغني الوَدَادَةُ أنني
بما في ضمير الحاجِبيَّة عالِمُ قال قوم: مِن الأخبار، لأن معناه ليس إذا قال القائل: لَيْتَ لي مالاً فمعناه: ليس لي مالٌ. وآخرون يقولون: لو كان خبراً لجاز تصديق قائله أو تكذيبه، وأهل العربية مختلفون فيه على هذين الوجهين. أما العجب - فتفضيل شخص من الأشخاص أو غيره على أضرابه بوصف. كقولك: ما أحسَنَ زيداً. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "قُتِلَ الإنسانُ ما أكفره" وكذلك قوله جلّ ثناؤه: "فما أصْبَرَهم على النار" وقد قيل: إنّ معنى هذا: ما الذي صَبَّرهم. وآخرون يقولون: ما أصبرَهم: ما أجرأهم. قال وسمعت أعرابيّاً يقول لآخر: ما أصبرك على الله، أي ما أجرأك عليه. باب الخطاب بلفظ المذكر أو لجماعة الذُّكران إذا جاء الخطاب بلفظ مذكّر ولم يُنَصَّ فيه على ذِكر الرجال فإنّ ذلك الخطاب شامل للذُكران والإناث. كقوله جلّ ثناؤه: "يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وأقيموا الصلاة وآتوا الزَّكاة". كذا تَعْرف العرب هذا. فإن قال القائل: هذا لقوم من بني فلان فقد ذهب أكثرُ أهل اللغة إلى أن القوم للرجال دون النساء، فسمعت عليَّ بن إبراهيم يقول، سمعت ثعلباً يقول: يقال امروءٌ. وأمرآن. وقوم وامْرَأة وامْرأتان ونِسْوَة. وسمعت عليّاً يقول، سمعت المفسّر يقول، سمعت عبد الله بن مُسْلم يقول: القوم للرجال دون النساء، ثم يخالطهم النساء فيقال: هؤلاء القومُ قومُ فلان ولا يجوز للنساء ليس فهين رجل: هؤلاء قوم فلان، ولكن يقال: هؤلاء من قوم فلان، لأن قومه رجال والنساء منهم. قال: وإنّما سمّي الرجل دون النساء قوماً، لأنهم يقومون في الأمور وعند الشدائد يقال قائم وقَوْم، كما يقال: زائر وزَوْر. وصائم وصَوْم. ونائم ونَوْم. ومثله النَّفَر لأنهم ينفِرُون مع الرجال إذا استنفَرَهم. قال امرؤ القيس: فهو لا تَنمِي رَمِيَّتُـهُ
ما لَهُ لا عُدَّ من نَفَرِهِ ومما يدلّ على أن القوم للرجال قول زهير: وما أدري وسوف إخال أدري
أقول آل حصن أم نـسـاءُ باب أقلِّ العدد الجمعِ الرُّتَبُ في الأعداد ثلاث: رتبةُ الواحد. ورتبة الاثنين. ورتبة الجماعة، فهي للتوحيد والتثنية والجمع، لا يزاحم في الحقيقة بعضُها بعضاً. فإن عُبِّر عن واحد بلفظ جماعة وعن اثنين بلفظ جماعة فذلك كله مجاز والتحقيق ما ذكرناه. فإذا قال القائل: عندي دراهمُ. أو أفراسٌ. أو رجال فذلك كله عبارة عن أكثر من اثنين. وإلى ذلك ذهب عبد الله بن عباس - ومكانُه من العلم باللغة مكانُه - في قوله جلّ ثناؤه: "فإن كان له إخْوَةٌ فَلأِمِّهِ السُّدُس" إلى أن الحَجْبَ في هذا الموضع عن الثلث إلى السدس لا يكون إلا بأكثر من اثنين، وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "الاثنان فما فوقَهما جماعة" فإنما أراد أنهما إذا صَلَّيا فقد حازا فضلَ الجماعة، لا أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمَّي الشخصين جماعة. وقول القائل: إن أقلّ ذلك أن يُجْمع واحد إلى واحد فهذا مجاز، وإنما الحقيقة أن يُقال: كان واحد فثنّي ثم جمع. ولو كان الأمر على ما قالوه لما كان للتثنية ولا للاثنين معنى بوجه، ونحن نقول: خرجا. ويخرجان فلو كان الاثنان جمعاً لَمَا كان لقولنا يخرجان معنىً، وهذا لا يقوله أحد. باب الخطاب الذي يقع به الإفهام من القائل والفَهم من السامع يقل ذلك بين المتخاطبيْن من وجهين: أحدهما الإعراب، والآخر التصّريف. هذا فيمن يعرف الوجهين، فأمّا من لا يعرفهما فقد يمكن القائل إفهامُ السامع بوجوه يطول ذِكرها من إشارة وغير ذلك وإنّما المُعَوَّل على ما يقع في كتاب الله جلّ ثناؤه من الخطاب أو في سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو غيرهما من الكلام المشترك في اللفظ. فأمّا الإعراب - فبه تُميَّز المعاني ويُوقَف على أغراض المتكلمين. وذلك أنّ قائلاً لو قال: ما أحسنْ زيدْ غيرَ معرب أو ضربَ عمرْ زيد غير معرب لم يوقَف على مراده. فإن قال: ما أحسنَ زيداً أو ما أحسنُ زيدِ أو ما أحسنَ زيدٌ أبانَ بالإعراب عن المعنى الذي أراده. وللعرب في ذلك ما ليس لغيرها: فهم يفْرُقون بالحركات وغيرها بين المعاني. يقولون مِفْتَح للآلة التي يُفتح بها. ومَفْتَح لموضع الفتح ومِقَصّ لآلة القص. ومَقَصّ للموضع الذي يكون فيه القصّ. ومِحْلَب للقدَح يُحلب فيه ومَحْلب للمكان يُحتلب فيه ذواتُ اللبن. ويقولون: امرأة طاهر من الحيض لان الرجل لا يَشْرَكها في الحيض. وطاهرة من العيوب لأن الرجل يَشْرَكها في هذه الطّهارة. وكذلك قاعد من الحَبَل وقاعدة من القعود. ثم يقولون: هذا غلاماً أحسن منه رجلاً يريدون الحالَ في شخص واحد. ويقولون هذا غلام أحسنُ منه رجل فهما إذاً شخصان. وتقول: كم رجلاً رأيتَ? في الاستخبار وكم رجلٍ رأيتَ في الخبر يراد به التكثير. وهُنَّ حَوَاجُّ بيتِ الله إذا كنّ قد حَجَجْنَ. وحَوَاجُّ بيتِ الله إذا أردْن الحجَّ. ومن ذلك جاء الشتاءُ والحَطَبَ لم يُرِدْ أنَّ الحطب جاء، إنما أراد الحاجة إليه، فإن أراد مجيئَهما قال: والحطبُ. وهذا دليل يدل على ما وراءه. وأما التصريف - فإنَّ من فاته علمُه فإنه المُعظَم، لأنا نقول: وَجَدَ وهي كلمة مبهمة فإذا صرفنا أفصحتْ فقلنا في المال وُجْداً وفي الضالة وِجْداناً وفي الغضب مَوْجِدَةً وفي الحزن وَجْداً. وقال الله جلّ ثناؤه: "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حَطَباً" وقال: "وأقْسِطوا إن الله يحب المقسطين" كيف تحول المعنى بالتصريف من العدل إلى الجَوْر. ويكون ذلك في الأسماء والأفعال فيقولون للطريقة في الرمل خِبَّة وللأرض المخصبة والمجدبة خُبَّة. وتقول في الأرض السهلة الخوَّارة خارت، تخورُ، خَوْراً، وخؤُراً، وفي الإنسان إذا ضعُف خارَ، خَوَراً، وفي الثور خار، خُواراً. ويقولون للمرأة الضخمة ضِنَاك وللزُّكمة ضُنَاك ويقولون للإبل التي ذهبت ألبانها شَوْل وهي جمع شائلة. والتي شالت أذنابها لِلَّقح شُوَّل وهي جمع شائل. ويقولون لبقية الماء في الحوض شَوْل ويقولون للعاشق عميد وللبعير المتأكل السَّنام عَمِد إلى غير ذلك من الكلام الذي لا يُحصى. باب معاني ألفاظ العبارات التي يعبّر بها عن الأشياء ومرجعها إلى ثلاثة وهي: المعنى، والتفسير، والتأويل. وهي وإن اختلفت فإن المقاصد بها متقاربة. فأما المعنى - فهو القصد والمراد. يقال: عَنَيْتُ بالكلام كذا أي: قَصَدْتُ وعَمَدْت. أنشدني القطّان عن ثعلب عن ابن الأعرابي: مثلُ البُرام غدا في أُصْدَةٍ خلَـقِ
لم يستَعِن وحوامي الموتِ تَغشاهُ فَرَّجْتُ عنه بِصِرْعَيْنـا لأرمَـلة
وبائس جاء معناه كمـعـنـاهُ يقول في رجل قُدِّم لِيُقتل، وأنه فرج عنه بِصِرْعين، أي فِرْقين من غنم: قد كنتُ أعددتُها لأَرملة تأتيني تسألني أو لبائس مثل هذا المقدَّم ليقتل معنا، أي إن مقصدهما في السؤال والبؤس ومقصد واحد ويجوز أن يكون المعنى الحال أي حالهما واحدة. وقال قوم اشتقاق المعنى من الإظهار يقال: عَنتِ القِرْبة إذا لم تحفظ الماء بل أظهرته، وعُنوان الكتاب من هذا. وقال آخرون: المعنى مشتق من قول العرب عَنتِ الأرض بنبات حسن إذا أنبتت نباتاً حسناً. قال الفراء: لم تَعْنُ بلادنا بشيء إذا لم تُنبت وحكى ابن السّكِّيت: لم تَعْنِ من عَنَتْ. تعني فإن كان هذا فإنَّ المراد بالمعنى الشيء الذي يفيده اللفظ كما يقال: لم تَعْنِ هذه الأرض أي لم تُفِدْ. وأما التفسير - فإنه التفصيل كذا قال ابن عباس في قوله جلّ ثناؤه: "وأحْسَنَ تفسيراً" أي: تفصيلاً. وأما اشتقاقه فمن الفَسر. أخبرني القطّان عن المَعْدَانّي عن أبيه عن معروف عن الليث عن الخليل قال: الفسر البيان، واشتقاقه من فَسرِ الطبيب للماء إذا نظر إليه، ويقال لذلك: التَّفْسِرَة أيضاً. وأما التَّأْويل - فآخِرُ الأمر وعاقبته. يقال: إلى أي شيء مآل هذا الأمر? أي مَصيرُهُ وآخِره وعقباه. وكذا قالوا في قوله جلّ ثناؤه: "وما يَعلم تأويلَه إلاَّ الله" أي: لا يعلم الآجال والمُدَدَ إلاَّ الله جلّ ثناؤه، لأن القوم قالوا في مدّة هذه الملة ما قالوه، فأُعلموا أن مآل الأمر وعقباه لا يعمله إلا الله جل ثناؤه. واشتقاق الكلمة من المآل وهو العاقبة والمصير، قال عَبْدَةُ بن الطبيب: ولِلأَحِبَّة أيام تَـذَكَّـرُهـا
ولِلنّوى قبل يوم البين تأويلُ وقال الأعشى: على أنًّها كانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهـا
تَأّوُّلَ رِبِعِيِّ السِّقاب فأَصْحَبَا يقول: إن حبّها كان صغيراً في قلبه فآلَ إلى العِظَم ولم يزل يَنْبُت حتى أصْحَبَ، فصار كالسَّقب الذي لم يزل يَشِبُّ حتى أصحب، يعني أنه إذا استصحبَتْه أمّه صَحِبَها. باب الخطاب المطلق والمقيّد أمّا الإطلاق - فأنا يّذكَر الشيء باسمه لا يُقرَن به صفة ولا شرط ولا زمان ولا عدد ولا شيء يشبه ذلك. والتقيد - أن يذكَر بِقَرِينٍ من بعض ما ذكرناه، فيكون ذلك القرين زائداً في المعنى. من ذلك أن يقول القائل: زيدٌ لَيْثٌ، فهذا إنما شبَّهه بليث في شجاعته، فإذا قال: هو كالليثِ الحَرِبِ فقد زاد الحَرِبَ وهو الغضبان الذي حُرِبَ فريسَتَه، أي: سُلِبَها. فإذا كان كذا كان أدهى له. ومن المطلَق قوله: ترائِبُها مَصْقولة كالسَّجَنْجلِ فشبَّهَ صدرها بالمرآة، لم يزد على هذا. وذكر ذو الرّمة أخرى فزاد في المعنى حتى قيّد فقال: ووجهٌ كمرآة الغريبة أسْجَحُ فذكر المرآة كما ذكر امرؤ القيس السَّجنجل، وزاد الثاني ذِكْرَ الغريبة فزاد في المعنى، وذلك أن الغريبة ليس لها من يُعْلِمها محاسنها من مساويها فهي تحتاج أن تكون مرآتها أصفى وأنقى لتُرِيَها ما تحتاج إلى رؤيته من سُنَنِ وجهها. منه قول الأعشى: تَرُوحُ على آل المُحَلَّق جَفنةٌ
كجابِيَة الشيخ العِراقيِّ تَفْهَقُ فشبَّه الجفنة بالجابية، وهي الحوض، وقيدها بذكر الشيخ العراقي، لأن العراقي إذا كان بالبدو لم يعرف مواضعَ الماء ومواقع الغيث، فهو على جمع الماء الكثير أحرص من البدوي العارف بالمناقِع والأحساء. وفي هذا الباب قول حُمَيد بن ثَوْر يصف بعيراً: مُحَلّى بأطواقٍ عِتاقٍ يُبـينُـهـا
على الضُّرِّ راعى الثَّلَّة المُتَعيّفُ فقال راعي ثَلَّة ولم يطلق اسم الراعي، وذلك أنهم يقولون: إنّ راعي الغنم أجهلُ الرُّعاة، فيقول: إنّ هذا البعيرَ محلّىً بأطواق عتاق، أي كريمة، يُبينُها راعي الثلَّة على جهله فيكف بغيره ممن يعرف. باب الشيء يكون ذا وصفين فيُعلَّق بحُكْم من الأحكام على أحد وصفَيْه أمّا الفقهاء فمختلفون في هذا. فأمّا مذهب العرب فإنّ العربي قد يذكر الشيء بإحدى صفتيه فيؤَثّر ذلك، وقد يذكره فلا يؤثّر بل يكون الأمر في ذلك وفي غيره سواءً. ألاَ ترى القائل يقول: مِنْ أُناس ليسَ من أخلاقِـهـم
عاجِلُ الفُحش ولا سوء الطَّمَعْ فلو كان الأمر على ما يذهب إليه مَن يُخالِف مذهبَ العرب لا سُتُجيز عاجلُ الفُحش إذا كان الشاعرُ إنما ذكر العاجل، وقد قال الله جلّ ثناؤه: "ولا تكونوا أوّلَ كافِرٍ به" والكفر لا يجوز في حال من الأحوال. وحكى ناس عن أبي عُبيدْ إنما سَلك فيما قاله من هذا مَسْلك التَّأوُّل ذاهباً إلى مذهب من يقول بهذه المقالة، ولم يَحْكِ ما قاله عن العرب، ولو حكاه عنهم للزم القولُ به، لأنّ أبا عبيدْ ثِقة أمين فيما يحكيه عن العرب، فأما في الذي تأوَّله فإنّا نحن نُخالفه فيه كما نخالفه في مسألة مُتعة الحج وفي ذوي الأرحام وغير ذلك من المسائل المختلف فيها. باب سنن العرب في حقائق الكلام والمجاز نقول في معنى الحقيقة والمجاز: إن الحقيقة - من قولنا حَقَّ الشيء إذا وجب. واشتقاقه من الشيء المحقَّق وهو المُحْكَم، تقول: ثوب محقَّق النَّسْج أي مُحْكَمُه. قال الشاعر: تَسرْبلْ جِلدَ وجهِ أبيك إنّا
كَفيناكَ المحقَّقَةَ الرِّقاقا وهذا جنس من الكلام يُصدِّق بعضُه بعضاً من قولنا: حَقٌّ وحقيقة. ونصُّ الحِقاق. فالحقيقة: الكلام الموضوع موضِعَه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل، ولا تقديم فيه ولا تأخير، كقول القائل أحمدُ اللهَ على نِعَمِهِ وإحسانه. وهذا أكثر الكلام. قال الله جلّ ثناؤه: "والذين يؤمنونَ بما أُنزل إليكَ وما أنزل من قبلك وبالآخِرة هم يوقِنُون" وأكثر ما يأتي من الآي على هذا. ومثله في شعر العرب: لَمالُ المرءِ يُصْلحِهُ فيَغْنى
مفاقِرَه أعَفُ من القُنوعِ وقول الآخر: وفي الشرِّ نَجَـاةٌ حِ
ينَ لا يُنْجيكَ إحْسانُ وأمّا المجاز - فمأخوذ من جازَ، يَجُوزُ إذا استنَّ ماضياً تقول: جاز بنا فلان. وجازَ علينا فارِس هذا هو الأصل. ثم تقول: يجوز أن تفعلَ كذا أي: يَنْفُذ ولا يُرَدُّ ولا يُمْنَع. وتقول: عندنا دراهم وَضَح وازِنَة وأخرى تَجُوزُ جَوَازَ الوازِنَة أي: إن هذه وإن لم تكن وازِنة فهي تجوز مجازَها وجوازها لِقْربِها منها. فهذا تأويل قولنا: مجاز أي: إن الكلام الحقيقيّ يَمْضي لِسَنَنَهِ لا يُعْتَرض عليه، وقد يكون غيره يجوز جوازه لقُربه منه، إلاِّ أنّ فيه من تشبيهٍ واستعارَة وكفٍّ ما ليس في الأول، وذلك كقولك: عطاءُ فلان مُزْنٌ واكفٌ فهذا تشبيه وقد جاز مجاز قوله: عطاؤه كثير وافٍ ومن هذا في كتاب الله جلّ ثناؤه: سَنَسِمُه على الخُرطوم فهذا استعارة. وقال: " وله الجواري المُنْشآتُ في البحر كالأعلام" فهذا تشبيه ومنه قول الشاعر: ألَمْ ترَ أنّ الله أعطاكَ سـورَةً
تَرَى كلَّ مَلك دُونها يَتَذَبـذَبُ بأنّك شمسٌ والملوكُ كواكـبٌ
إذا طَلَعَتْ لم يبْدُ منهن كوكبُ فالمجاز هنا عند ذِكر السُّورَة وإنما هي من البناء. ثم قال يتذبذب والتذبذب يكون لِذَباذِب الثوب وهو ما يتدلّى منه فيضطرب ثم شبهه بالشمس وشبههم بالكواكب. وجاء هذان البابان في نُظوم كتاب الله جلّ ثناؤه، وكذلك يجيء بعدهما ما نذكره في سُنَن العرب لتكون حجَّة الله جلّ اسمه عليهم أكَدَ، ولِئَلاَّ يقولوا: إنما عجزنا عن الإتيان بمثله لأنه بغير لغتنا وبغير السُّنن التي نَسْتَنُّها. لا، بل أنزله جل ثناؤه بالحروف التي يعرفونها وبالسُّنن التي يسلكونها في أشعارهم ومخاطباتهم ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله أظهرَ وأشهر. ثم جعله تبارك اسمه أحد دلائل نُبوّة نبيّنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. ثم أعلمهم ألاَّ سبيل لهم إلى معارَضته، وقَطَع العُذر بقوله جلّ ثناؤه: "قل لَئن اجتمعت الإنسُ والجِنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً". فمن سنن العرب مخالفة ظاهرِ اللفظ معناه، كقولهم عند المدح: قاتله الله ما أشعره فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه. ومن قول امرئ القيس يصف رامياً: فهو لا تَنْمِي رَميتَّـه
مالهُ لا عُدَّ من نَفَرِه يقول: إذا عدَّ نفره لم يعدَّ معهم، كأنه قال: قتله الله، أماته الله، حتى لا يعدَّ. ومنه قولهم: هوَتْ أمُّه. وهَبِلَتْهُ. وثكلَته قال: كعب بن سعد يرثي أخاه: هَوَتْ أمُّهُ ما يَبْعَثُ الصبحُ غادياً
وماذا يؤَدّى الليلُ حـينَ يؤوبُ وهذا يكون عند التعجب من إصابة الرجُل في رميْه أو في فعل يفعله وكان عبد الله بن مسلم بن قتيبة يقول في هذا الباب: من ذلك الدعاءُ على جهة الذم لا يراد به الوقوعُ كقوله الله جلّ ثناؤه: "قُتل الخَرَّاصُون. وقُتل الإنسانُ ما أكْفَره. وقاتلهم الله أنَّى يُؤَفكون" وأشباه ذلك. قال أحمد بن فارس: وهذا وإن أشبه ما تقدم ذكره فإنه لا يجوز لأحد أن يُطلق فيما ذكره الله جلّ ثناؤه أنه دعاء لا يراد به الوقوع، بل هو دعاء عليهم أراد الله وقوعه بهم فكان كما أراد، لأنهم قُتلوا وأهلكوا وقوتلوا ولُعنوا، وما كان لله جلّ ثناؤه ليدعوَ على أحد فتَحِيدَ الدعوة عنه: قال الله جلّ ثناؤه: "تَبَّتْ يدا أبي لَهَب" - فدعا عليه ثم قال - "وتبَّ" أيّ وقد تبّ وحاق به التبَّاب. وابن قتيبة يُطِلق إطلاقات منكرةً ويروي أشياءَ شنعة، كالذي رواه عن الشَّعْبِيّ أنَّ أبا بكر وعمر وعليّاً توُفوا ولم يجمعوا القرآن. قال: وروى شَريك عن إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت الشَّعبي يقول ويحلف بالله: لقد دخل علي حُفرته وما حِفظ القرآن. وهذا كلام شنع جدّاً في من يقول "سَلُوني قبل أن تَفقِدوني، سلوني فما من آية إلاَّ أعلم أبليلٍ نَزلَت أم بنهار، أم في سَهْل أم في جبل" وروى السُّدّيّ عن عبدِ خيرٍ عن عليَّ رضي الله تعالى عنه أنه رأى من الناس طَيْرَةً عند وفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأقسَمَ ألاَّ يضع على ظهره رداءً حتى يجمع القرآن قال: فجلس في بيته حتّى جمع القرآن، فهو أول مصحف جُمع فيه القرآن، جَمعه في قلبه، وكان ند آل جعفر. وحدّثنا علي بن إبراهيم عن علي بن عبد العزيز قال: قال أبو عبيد حدّثني نصر بن بابٍ عن الحجاج عن الحكم عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي أنه قال: ما رأيتُ أحداً أقرى من عليّ صلوات الله عليه، صلّينا خلفه فأسْوأ بَرْزخاً ثم رجَع فقرأه ثم عاد إلى مكانه قال أبو عبيد البرزخ: ما بينَ كل شيئين، ومنه قيل للميت: هو في البرزخ، لأنه بين الدنيا والآخرة، فأراد أبو عبد الرحمن بالبرزخ ما بين الموضع الذي أسقط علي صلوات الله عليه منه ذلك الحرفَ إلى الموضع الذي كان انتهى إليه. باب أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق يكون ذلك على وجوه: فمنه اختلاف اللفظ والمعنى، وهو الأكثر الأشهر، مثل رجل. وفرس وسيف. ورمح ومنه اختلاف اللفظ واتفاق المعنى، كقولنا: سيف وعَضب ولَيْث وأسَد على مذهبنا في أن كل واحد منهما فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة ومنه اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، كقولنا عين الماء وعين المال وعين الرّكبة وعين الميزان ومنه في كتاب الله جلّ ثناؤه: "قضى" بمعنى: حَتَم كقوله جلّ ثناؤه "قضى عليها الموتَ" وقضى بمعنى: أمرَ كقوله جلّ ثناؤه: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلاَّ إيّاه أي أمر. ويكون قضى بمعنى: أعَلَم كقوله جلّ ثناؤه: "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب أي أعلمناهم. وقضى بمعنى: صَنَع كقوله جلّ ثناؤه: "فاقْضِ ما أنتَ قاضٍ وكقوله جلّ ثناؤه: "ثُمَّ اقْضوا إليَّ" أي اعملوا ما أنتم عاملون. وقضى: فَرَغ. ويقال للميت: قَضَى أي فرغ. وهذه وإن اختلفت ألفاظها فالأصل واحد. ومنه اتفاق اللفظ وتضادُّ المعنى ك "الظنّ" وقد مضى الكلام عليه. ومنه تقارب اللفظين والمعنيين ك "الحَزْم" و"الحَزن". فالحَزمُ من الأرض أرفع من الحَزن. وكم الخَضْم وهو بالفم كله. والقَضم وهو بأطراف الأسنان. ومنه اختلاف اللفظين وتقارب المعنيين كقولهم مدحه إذا كان حيّاً وأبَّنَه إذا كان ميتاً. ومنه تقارب اللفظين واختلاف المعنيين وذلك قولنا حَرِجَ إذا وقع في الحَرج وتَحرَّج إذا تباعد عن الحرج. وكذلك أثِمَ: وتأثَّمَ. وفَزِعَ إذا أتاه الفَزَع وفُزّعَ عن قلبه إذا نحِّي عنه الفزع قال الله جلّ ثناؤه: "حتّى إذا فُزّعَ عن قلوبهم" أراد والله أعلم: أخرِج منها الفزعُ. باب القلب ومن سنن العرب القلبُ. وذلك يَكون في الكلمة، ويكون في القِصَّة: فأمّا الكلمة - فقولهم: جَذَبَ وجبَذَ وبَكلَ. ولبَكَ وهو كثير وقد صنّفه علماء اللغة، وليس من هذا فيما أظن من كتاب الله جلّ ثناؤه شيءٌ. وأما الذي في غير الكلمات - فقولهم: كما عُصِبَ العِلْباءُ بالعودِ و: كما كان الزِّناءُ فريضة الرَّجْمِ و: كأنّ لونَ أرضه سماؤُهُ و: كأنّ الصفا أوْراكُها إنما أراد: كان أوراكَها الصَّفا، ويقولون: أدخلتُ الخاتَمَ في إصبعي و: تشقى الرِّماحُ بالضَّياطِرَةِ الحُمرِ و: كما بَطنْتَ بالفَدَنِ السيَّاعا و: حَسَرْتُ كَفِّي عن السِّرْبالِ وإنما حَسَرَ السِّربالَ عن كفه. ومثله في كتاب الله جلّ ثناؤه: "خُلِق الإنسانُ مِن عَجَلَ" ومنه قوله جلّ ثناؤه: "وحَرَّمْنا عليه المَراضِعَ من قبلُ" ومعلوم أن التحريم لا يقع إلا على مَن يلزَمُه الأمر والنّهي، وإذا كان كذا فالمعنى: وحرَّمنا على المراضع أن يرضِعْنَه. ووجه تحريم إرضاعه عليهن أن لا يقبَل إرضاعهن حتى يُرَد إلى أمّه. قال بعض علمائنا: ومنه قوله جلّ ثناؤه: "فإنهم عدوٌّ لي إلا ربَّ العالمين" والأصنام لا تعادي أحداً، فكأَنَّهُ قال: فإني عدوٌّ لهم. وعداوته لها بغضه إيّاها وبراءته منها. باب الإبدال ومن سنن العرب إبدالُ الحروف وإقامة بعضها مقام بعض، ويقولون مَدَحَه. ومَدَهَه وفَرسٌ رِفلٌّ. ورِفنٌّ وهو كثير مشهور قد ألَّف فيه العلماء. فأمّا ما جاء في كتاب الله جل ثناؤه فقوله جل ثناؤه: "فانْفَلقَ فكان كلُّ فرْق" فاللام والراء يتعاقبان كما تقول العرب: فلقُ الصبح. وفَرَقه. وذُكر عن الخليل ولم أسمعه سماعاً أنه قال في قوله جلّ ثناؤه: "فجاسوا": غنما أراد فحاسوا فقامتا لجيم مقام الحاء،وما أحسب الخليل قال هذا ولا أحقُّه عنه. باب الاستعارة ومن سنن العرب الاستعارة، وهو أن يضعوا الكلمة للشيء مسْتعارة من موضع آخر فيقولون: انشقت عصاهم إذا تفرقوا. وذلك يكون للعصا ولا يكون للقوم. ويقولون: كشَفَتْ عن ساقها الحروبُ. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "كأنهم حمرٌ مسْتَنْفِرة" يقولون للرجل المذموم: إنما هو حمار. وقال الشاعر: دُفِعتُ إلى شيخ بجنَبِ فِنائِهِ
هو العِيرُ إلا أنّه يتكـلَّـمُ ومنه قوله جلّ ثناؤه: "الْتفَّتِ السَّاقُ بالسَّاق" و"إنَّا لمردُودونَ في الحافرة" أي في الخلق الجديد. و"بَلْ رانَ على قلوبهم" وتقول العرب: رانَ به النُّعاس أي غلب عليه. و"ولقد خَلقنا الإنسان في كَبَد" أي ضيق وشدَّة. و"لَنَسْفَعاً بالنًّاصِيةَ". و"امرأتُه حمّالة الحطب" وقوله جلّ ثناؤه: "فما بكَتْ عليهم السماءُ والأرض" وتقول العرب ناقة تاجِرَة يريدون أنها تُنْفِّقُ نفسَها بحُسنها. وقولهم جلّ ثناؤه: "ويَتَخَطَّفُ الناسُ من حولهم" و"ألَمْ تَرَ أنهم في كل وادٍ يهيمون" و"ألا إنما طائِرهم عندَ الله" ويُراد حظُّهم وما يحصل لهم. والعرب تقول: فإني لستُ منكَ ولستَ مني
إذا ما طارَ من مالي الثمينُ أي حصل. ومنه قول جلّ ثناؤه: "أقِمِ الصلاة" أي ائْتِ بها كما أمرتَ به و"إنَّ ربّك أحاطَ بالناس" أي عَصَمَكَ منهم. رواه شعْبَة عن أبي رَجاء عن الحَسَن ومن الاستعارة قولهم: زالَتْ رحالةُ سابح كناية عن المرأة تستعصي على زوجها. قال الشمّاخ: وكنتُ إذا زالت رِحالَةُ سابحٍ
شَمِتُّ به حتَّى لقيتُ مِثالَها وكانت امرأته نَشَزَتْ عليه، وذلك قوله: ألا أصبحتْ عِرْسي من البيت جامحاً
بغيرِ بَلاءٍ سَـيِّئٍ مـا بَـدا لَـهـا باب الحذف والاختصار ومن سنُن العرب الحذف والاختصار، يقولون: والله أفعلُ ذاك يريد لا أفعل. وأتانا عند مَغيب الشمس. أو حين أرادَ. أو حينَ كادت تغرب قال ذو الرّمة: فلمّا لَبِسْنَ الليلَ أو حين نَصَّبتْ
له مِن خذا آذانها وهو جانِحُ ومنه في كتاب الله جلّ ثناؤه: "واسْأل القريَة" أراد أهلّها. و"الحجُّ أشهرٌ معلومات". وبنون فلان يَطَؤُهم الطريق أي أهله. ونحن نَطأُ السماء أي مَطرها. و"على خوف من فرعون وملاءِهم" أي من آل فرعون. و"وإذاً لأقناكم ضِعْفَ الحياة" أي ضِعفَ عذابِها. و"الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنُدْخِلنَّهم في الصالحين". ومثله: "أنِ اضرِبْ بعصاك البحرَ فانفلق" أي فضرب فانفلق. ومنه "أنيّ آمنتُ بربّكم فاسمَعُوني. قيل ادْخلِ الجنةَ" أراد الثناءَ الحسن. ومنه "فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله" معناه: فإذا عزم الأمر كَذبُوه. باب الزيادة قال بعض أهل العلم: إنّ العرب! تَزيد في كلامها أسماءً وأفعالاً. أما الأسماء - فالاسم والوَجه والمِثْلِ. قالوا: فالاسم في قولنا بسم الله إنما أردنا بالله لكنه لمّا أشّبه القسم زِيدَ فيه الاسمُ. أمّا الوجه فقول القائل: وَجْهي إليك وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "ويبقى وجهُ ربّك" ثم قال الشاعر أستغفر اللهّ ذنباً لستُ مُحْصِيَهُ
ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ وأما المِثْل ففي قوله جلّ ثناؤه: "فأْتوا بسورة من مِثْله" ويقول قائلهم: مثلي لا يَخضع لمثلك أي: أنا لا أخضعُ لك. قال الشاعر: يا عاذِلي دعْني مِن عَذْلكا
مِثليَ لا يَقبَل من مثلكـا وقوله جلّ ثناؤه: "وشَهد شاهد من بني إسرائيل على مثله" أي عليه. وأما الأفعال - فقولهم كاد في قول الشاعر: حتّى تناول كَلْبـاً فـي دِيارهِـم
وكادَ يسمو إلى الجُرفَيْنِ فارتَفعا أراد وسما، ألا ترى أنه قال: فارتفعَ. وما يُزاد أيضاً من الأفعال قول القائل: لا أعلم في ذلك اختلافاً وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "أم تُنَبِّئُونَه بما لا يعلم في الأرض" أراد والله أعلم: بما ليس في الأرض. وقد تزاد حروف من حروف المعاني - كزيادة لا ومن وغير ذلك. وقد مضى ذكره بشواهد. باب التكرار وسُنن العرب التكرير والإعادة إرادةَ الإبلاغ بحسب العناية بالأمر كما قال الحارث بن عُبَاد: قَرّبا مرْبِط النَّعامةِ مِـنّـي
لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عن حِيالِ فكرَّرَ قوله: قَرِبا مربِط النّعامة مني في رؤوس أبيات كثيرة عناية بالأمر وأراد الإبلاغ في التنبيه والتحذير. وكذلك قول الأشعر: وَكَتِيبَةٍ لبَّسْتهـا بـكـتـيبة
حتى يقول نساؤهم هذا فتى فكرر هذه الكلمة في رؤوس أبيات على ذلك المذهب. وكتكرير مَن كرَّر: مَهْلاً بني عَمِّنا مهلاً موالينا وكقول الآخر: كم نعمة كانت لَهُ كَمْ كَمْ وَكَمْ فكرّر لفظ كم لفرط العناية بقصد تكثير العدد. قال علماؤنا: فعلى هذه السنة ما جاء في كتاب الله جلّ ثناؤه من قوله: "فَبأي آلاءِ رِبِّكُما تُكَذِّبان". فأما تكرير الأنباء والقِصَص في كتاب الله جل ثناؤه - فقد قيلت فيه وجوه. واصح ما يقال فيه أن الله جل ثناؤه جعل هذا القرآن وعجْزَ القوم عن الإتيان بمثله أيةً لصحة نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم بيَّن وأوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القِصَّة في مَواضِعَ إعلاماً أنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاء وبأي عبارة عَبَّرَ. فهذا أولى ما قيل في هذا الباب. باب العموم والخصوص العامُّ - الذي يأتي على الجملة لا يغادر منها شيئاً. وذلك كقوله جلّ ثناؤه: "خَلق كل دابّة من ماء" وقال: "خالق كل شيء". والخاصُّ - الذي يتحلّل فيقع على شيء دون أشياء. وذلك كقوله جلّ ثناؤه: "وامرأة مؤمنة إن وهَبتْ نفسها للنبي" وكذلك قوله "واتَّقونِ يا أولي الألباب" فخاطب أهلَ العقلِ. وقد يكون الكلامان متّصلين، ويكون أحدهما خاصاً والآخر عامّاً. وذلك قولك لمن أعطى زيداً درهماً أعْط عمراً، فإن لم تفْعل فما أعطيتَ تريد: إن لم تُعطِ عمراً فأنت لم تعطِ زيداً أيضاً، وذلك غير محسوب لك. ومثله في كتاب الله جلّ ثناؤه: "يا أيها الرسولُ بَلّغْ ما أنزِلَ إليكَ من ربِّك" فهذا خاص، يريد: هذا الأمر المجدَّد بَلِّغْه، فإن لم تفعل ولم تبلغ هذا فما بلغت رسالته. يريد: جميع ما أرسلتَ به. وأمّا العامُّ الذي يراد به الخاصُّ - فكقوله جل ثناؤه حكاية عن موسى عليه السلام "وأنا أولُ المؤمنين ولم يرد كلَّ المؤمنين لأن الأنبياء قبله قد كانوا مؤمنين. ومثله كثير. ومنه "قالتِ الأعرابُ آمَنَّا" وإنّما قاله فريق منهم. و"الذينَ قال لهم الناس" إنما قاله نُعَيْم بن مسعود إن الناس أبو سفيان و عُيَيْنَة بن حِصْن. ومنه قوله جلّ ثناؤه: "وَمَا مَنَعَنا أن نُرسِلَ بالآيات إلا أنْ كَذَّب بها الأوّلون" أراد: الآيات التي إذا كذّب بها نزل العذاب على المكذِّبين وكذلك قوله: "ويستغفرون لمن في الأرض" أراد به من المؤمنين لقوله: "ويستغفرون للذين آمنوا". وأما الخاصُّ الذي يُرادُ به العامّ - فكقوله جلّ ثناؤه: "يا أيّها النبي اتَّقِ الله ولا تُطعِ الكافرين والمُنافقين" الخطاب له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والمراد الناسُ جميعاً. باب إضافة الفعل إلى ما ليس بفاعل في الحقيقة ومن سُنن العرب إضافة الفعل إلى ما ليس فاعلاً في الحقيقة، يقولون: أراد الحائطُ أن يقعَ وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: جِداراً يُريد أن يَنْقَضَّ" وهو في شعر العرب كثير. قال الشمّاخ: أقامتْ على رَبعَيْهما جارتا صفاً
كْمَيتا الأعالي جَوْنَتَا مُصْطلاهُما فجَعل الأثافِيَّ مُقيمةً. وقال: وأشعثَ وَرَّادِ العِـدادِ كـأنّـهُ
إذا انشقَّ في جَوز الفلاة فَليقُ يصف طريقاً يَرِدُ ماء وهو لا وِرْدَ له. ومنه قوله: كأني كَسوْتُ الرَّحُل أحقَبَ سَهْوقاً
أطاعَ لهُ من رامَـتَـيْن حَـدِيقُ فجعل الحديثَ مطيعاً لهذا الحمارِ لمَا تمكّن من رَعيه، والحديق لا طاعة ولا معصية له. باب الواحد يَرادُ به الجمع ومن سُنن العرب ذكر الواحد والمراد الجميع، كقوله للجماعة ضَيْفٌ وعَدْوّ قال الله جلّ ثناؤه: "هؤلاء ضيفي" وقال: "ثم يُخْرِجكم طفلاً وقال: لا نُفَرّق بين أحد منهم" والتفريق لا يكون إلا بين اثنين. ويقولون: "قد كَثُرَ الدِّرهَم والدِّينار" ويقولون: فقلنا أسْلِموا إنّا أخُوكُم ويقولون كُلُوا في نِصف بطنكمُ تعيشوا و"يا أيُّها الإنسانُ إنّكَ كادح" و"يا أيُّها الإنسانُ ما غرَّك بربّك الكريم". باب الجمع يراد به واحدٌ واثنان ومن سُنن العرب الإتيان بلفظ الجميع والمراد واحد واثنان كقوله جلّ ثناؤه: "وَليَشْهَدْ عذابَهما طائفة" يُراد به واحد واثنان وما فوق. وقال قَتَادةُ في قوله جلّ ثناؤه: "إن يُعْفَ عن طائفة منك تُعَذَّبْ طائفة": كان رجلاً من القوم لا يمالِئُهم على أقاويلهم في النبي صلى الله تعلى عليه وآله وسلم ويَسير مُجانِباً لهم فسمّاهُ الله جلّ ثناؤه طائفة وهو واحد. ومنه: "إنّ الذين ينادونك من وراء الحُجُرات" كان رجلاً نادى يا محمَّد! إنّ مدحي زَيْنٌ وإنّ ستمي شيْن فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وأله وسلم: ويلك. ذاك الله جل ثناؤه. وقال فقد صَغَتْ قلوبكما وهما قلبان وقال: بِمَ يَرجِعُ المرسلون وهو واحد يدلّ عليه قوله جلّ ثناؤه: "إرجِعْ إليهم". باب آخر العرب تصف الجميعَ بصفة الواحد كقوله جلّ ثناؤه: "وإن كنتم جُنُباً" فقال جنباً وهم جماعة. وكذلك قوله جلّ ثناؤه: "والملائكة بعد ذلك ظهير". ويقولون: قوم عَدْل ورِضىً قال زُهَيْر: وإن يَشْتَجرْ قوم يَقُلْ سَرَواتهمْ
هُمُ بيننا فَهُمُ رِضىً وهم عَدْلُ وربما وصفوا الواحدَ بلفظ الجميع فيقولون: بُرْمةٌ أشعارٌ وثوبٌ أهُدامٌ وحَبْلٌ أحْذاقٌ قال: جاء الشتاء وقميصي أخْلاَقْ
شَراذِمٌ يضحك منه التَّوَّاقْ فأخبرني علي بن إبراهيم عن محمد بن فرح عن سَلمة عن الفرّاء قال: التَّوّاق انبه. ومن الباب "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله" إنما أراد المسجد الحرام. ويقولون: أرض سَبَاسب" يسمّون كل بقعة منها سَبْسَباً لاتِّساعها. ومن الجمع الذي يُراد به الاثنان قولهم: امرأة ذات أوْراكٍ ومآكِمَ. باب مخاطبة الواحد بلفظ الجميع ومن سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجميع، فيقال للرجل العظيم انظروا في أمري. وكان بعض أصحابنا يقول: إنما يقال هذا لأنّ الرّجل العظيم يقول: نحن فعَلْنا فعلى هذا الابتداء خُوطبوا في الجواب. قال الله جلّ ثناؤه: "قالَ ربِّ ارْجعُون. باب آخر العرب تذكر جماعة وجماعة، أو جماعة وواحداً، ثم تخبر عنهما بلفظ الاثنين. يقول الأسْوَدُ: إن المنيِّةَ والحُتوفَ كِلاهمـا
يوفي المَخارِمَ يَرْقُبانِ سوادي وقال آخر: ألم يَحْزُنكَ أنّ حبالَ قَيسْ
وتَغْلِبَ قد تَبَايَنَتا انقطاعا وقد جاء مثله في القرآن: قال الله تبارك اسمه: "إن السماواتِ والأرضَ كانتا رَتْقاً فَفَتَقْناهما" باب مخاطبة الواحد خطاب الجمع إذا أريد بالخطاب هو ومَنْ معه قال الله جلَّ ثناؤه: "يا أيّها النبيُّ إذا طَلّقْتُم النساءَ فطلِّقوهن لعِدَّتهنّ" فخوطب صلى الله تعالى عليه واله وسلم بلفظ الجميع لأنه أريد هو وأمّته. وكان ابن مسعود يقرأ ارجعوا إليهم مِدْرَهَهُم. باب تحويل الخطاب من الشاهد إلى الغائب العربُ تخاطِب الشاهدَ، ثم تحول الخِطابَ إلى الغائب. وذلك كقوله النَّابغة: يا دارَ مَيَّةَ بالعَلياءِ فالـسَّـنَـدِ
أقْوت وطالَ عليها سالِفُ الأبَدِ فخاطب ثم قالَ أقوتْ وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "حتى إذا كنتم في الفُلك وجَرّيْنَ بهم" وقال: "وما آتيْتُم من زكاة تريدون وجهَ الله فأولئك هم المُضْعِفون". قال: "ولكن اللهَ حبَّبَ إليكم الإيمان" - وقال في آخر الآية - "فأولئك هم الراشِدون". ومنه قوله: أسِيئي بنا أوْ أحسنِي لا ملومةٌ
لديْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إنّ تقـلّـتِ باب تحويل الخطاب من الغائب إلى الشاهد وقد يجعلون خطابَ الغائب للشاهد، قال الهُذَلِيّ: يا ويحَ نفسي كان جدَّهُ خـالـدٍ
وبياضُ وجهك للتراب الأعْفَرِ فخبَّرَ عن خالد ثم واجَهَ فقال: وبياض وجهك. ومنه شَطتْ مزَار العاشقِينَ فأصْبَحَتْ
عسراً عليَّ طِلابُك ابنةَ مخرَمِ باب مخاطبة المخاطب ثم يجعل الخطاب لغيره أو يُخْبر عن شيء ثم يُجعل الخبر المتصِل به لغيره قال الله جلّ ثناؤه: "فإن لم يستجيبوا لكم" - الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم قال للكفار - "فاعلموا أنما أنزلَ بعلم الله" يدلّ على ذلك قوله جلّ ثناؤه: "فهل أنتم مسلمون". وقال: "فَمَنْ ربُّكما يا موسى". وقال: "فلا يخرجنّكما من الجنة فتشقى" وقريب من هذا الباب أن يبتدأ الشيء ثم يخبر عن غيره كقول شدَّاد بن مُعاوِية: ومَن يَكُ سائلاً عنّي فإني
وجِرْوَةَ لا تَرودُ ولا تُعارُ وجروَة فرسه، فالمسألة عنه والخبر عن غيره. وقال الأعشى: وإن امْرأُ أسـرَى إلـيك ودونَـه
من الأرض مَوْماةٌ ويَهْماءُ سَمْلقُ لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَستجيبي لصـوتـه
وأنْ تعلمي أنّ المُعان مـوَفَّـقُ وقد جاء في كتاب الله جلّ ثناؤه ما يشبه هذا وهو قوله جلّ ثناؤه: "إن الذين آمنوا والذين هادوا الصابئينَ والنّصارى والمجوسَ والذين أشركوا" - فبدأ بهم ثم قال - إنّ الله يفصِلُ بينهم" بدأ بهم ثم حوَّل الخطاب. ومنه قول القائل: لَعَلّيَ إنْ مالَتْ بي الريحُ مَيلةً
على ابنِ أبي ذِبّان أن يتَندَّما فذكر نفسه وترك وأقبل على غيره، كأنه أراد: لعل ابن أبي ذِبّانَ أن يتندم إن مالَتْ بي الريحُ عليه. ومثله في كتاب الله جلّ ثناؤه: "والذين يتُوَفَّوْن منكم وَيَذَرُون أزواجاً يتَربَّصْنَ" فخبَّر عن الأزواج وترك الذين. ومثله: بَني أسَدٍ إنْ ابنَ قيْس وقتلَه
بغير دَمٍ دارُ المذلَّة حُلَّتِ فترك ابن قيس وخبَّر عن القتل، كأنه قال: قتلُ ابن قيس ذُلّ. باب الشيئين ينسب الفعل إليهما وهو لأحدهما وينسبون الفعل إلى اثنين وهو لأحدهما. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "فلمّا بلغا مجمعَ بينهما نَسِيا حوتَهما وقد بلغا" وكان النسيان من أحدهما لأنه قال: "إنّي نسيتُ الحوتَ". وقال: "مَرجَ البحْرينِ يلْتَقيان" - ثم قال - "يُخرَجُ منهما اللؤلؤ والمرْجان" وإنما يُخرَجان من المِلحِ لا العذب. وينسبون الفعل إلى الجماعة وهو لواحد مهم. قال الله جلّ ثناؤه: "وإذا قتلتم نفساً" وإنما كانا القاتل واحداً. باب نسبة الفعل إلى أَحد اثنين وهو لهما قال الله جلّ ثناؤه: "وإذا رأوا تجارةً أو لهْواً انْفَضُّوا إليها" وإنما انفضوا إليهما. وقال الله جلّ ثناؤه: "والله ورسولُه أحقُّ أن يُرضوه". وقال: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها". ثم قال الشاعر: إنَّ شَرْخَ الشباب والشَّعرَ الأس
ودَ ما لم يُعاصَ كان جنونـا وقال آخر: نحنُ بما عندَنا وأنت بما عن
دكَ راضٍ والرأيُ مختلِفُ باب أمر الواحد بلفظ أمر الاثنين تقول العربُ: افعلا ذاك ويكون المخاطب واحداً. أنشد الفرّاء: فقلتُ لِصاحِبي لا تحبسانا
بنزع أصوله واجدزَّ شِيحا وقال: فإنْ تزجُراني يا ابن عَفَّانَ أنْزَجرْ
وإنْ تَدَعاني أحْمِ عِرْضاً مُمنَّعـا وقال الله جلّ ثناؤه: "ألْقيا في جهنم" وهو خطاب لخَزَنَة النّار والزَّبانِيَة. قال: ونُرى أن أصل ذلك أنَّ الرُّفْقة أدنى ما يكون ثلاثةُ نفرَ فجرى كلام الواحد على صاحبيْه، ألا ترى أن الشعراء أكثر الناس قولاً يا صاحبَّي ويا خليليّ. باب الفعل يأتي بلفظ الماضي وهو راهنٌ أو مستقبل وبلفظ المستقبل وهو ماضٍ قال الله جلّ ثناؤه: "كنتم خيرَ أمة" أي: أنتم. وقال جلّ ثناؤه: "أتى أمرُ الله" أي: يأتي. ويجيء بلفظ المستقبل وهو في المعنى ماضٍ. قال الشاعر: ولقد أمُرُّ على اللئيم يَسبُّنـي
فَمَضيْتُ عنه وقلتُ لا يعنيني فقال أمُرُّ ثم قال: مضيت. وقال: وما أضْحِي ولا أمسَيْتُ إلا
رأوْني منهمُ في كَوَّفـانِ وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "فلم تقتلون أنبياءَ الله من قبل وقال: واتَّبَعوا ما تتلو الشياطين" أي ما تَلَتْ. وقال آخر: وندمان يزيد الكأس طيباً
سقيت إذا تغوَّرت النجوم ومثله: "وقالت اليهودُ والنصارى: نَحنْ أبناءُ الله وأحباؤه، قل فلِمَ يعذِّبكم?" المعنى: فلم عذَّب آباءكم بالمسخ والقتل? لأن النبي صلى الله تعالى وأله وسلم لم يَؤْمَر بأن يحتجّ عليهم بشيء لم يكن، لأن الجاحد يقول: إني لا أعذَّب. لكن احتج عليهم بما قد كان. باب المفعول يأتي بلفظ الفاعل تقول: سِرُّ كاتم أي مكتوم. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "لا عاصم اليومَ من أمر الله" أي لا معصوم و"من ماءٍ دافِق" و"عِيشَةٍ راضية" أي مَرْضِيٍ بها. و"جعلنا حرماً آمِناً" أي مأموناً فيه ويقول الشاعر: إنَّ البَغيضَ لَمَنْ يُمَلُ حـديثُـه
فانقَعْ فؤادَكَ من حديث الوامِقِ أي المَوْمُوق. ومنه: أنا شِرَ لا زالَتْ يمينُك أشِرَة أي: مأشورة. وزعم ناس أنّ الفاعل يأتي بلفظ المفعول به. ويذكرون قوله جلّ ثناؤه: "إنّه كان وَعْدُه مأتِياً" أي: آتياً. قال ابنُ السِّكيت: ومنه عيْشٌ مغبون يريد أنه غابِن غيرَ صاحبه. باب آخر من سُنن العرب وصفُ الشيء بما يقع فيه أو يكون منه، كقولهم:" يومٌ عاصِف " المعنى: عاصفُ الرّيح. قال الله جلّ ثناؤه: "في يوم عاصف" فقيل: عاصف لأنَّ عُصُوفَ ريحه يكون فيه. ومثله: ليلٌ نائم وليلٌ ساهر لأنه يُنام فيه ويُسَهرْ قال أوس: خُذِلْتُ على ليلةٍ سـاهِـرَهْ
بصحْراء شرْجٍ إلى ناظِرَهْ وقال ابنُ بَرّاق: تقولُ سُلَيْمى لا تَعَرَّضْ لِتَلفَةٍ
وليلُك مِن ليل الصعالِيك نائِمُ ومثله: لقد لُمْتِنا يا أمّ غيلان في السُّرى
ونِمْتِ وما ليلُ المَطِيّ بـنـائمِ ويقولون: لا يَرْقُد وِسادُه وإنما يريدون متوسِّد الوِساد. باب معاني أبنية الأفعال في الأغلب الأكثر أول ذلك فعَّلتُ يكون بمعنى التكثير. نحو "غَلَّقَت الأبوابَ". وبمعنى أقْفَلْتُ نحو خبَّرْتُ. وأخبَرْتُ. ويكون مضادّاً لأفْعَلتُ نحو أفْرَطتُ: جُزْتُ الحَدَّ. وفرَّطتُ: قَصَّرتُ. ويكون بِنيْةً لا لمعنى نحو: كلَّمت. ويكون فَعلتُ: نَسبْتُ كقولك: شَجَّعْتَه. وظَلَّمْتُه: نسبتُه إلى الشجاعة والظلم. وأما أفْعَلَ فيكون بمعنى فعلْتُ تقول: أسْقيْته وسقَّيْته: قلت له سَقياً لك. ويكون بمعنى: فعَلْتُ نحو مَحْضْتُه الوُدَّ. وأمْحَضْته. وقد يختلفان نحو أجْبَرته على الشيء وجبَرْت العَظمَ. وقد يَتَضادّان نحو نَشَطْتُ العقْدَة: عقَدْتُها. وأنْشَطْتها إذا حَللْتها. وفاعَلَ يكون من اثنين. نحو ضاربَ، ويكون فاعَلَ بمعنى فَعَل نحن قاتلَهم اله وسافر، ويكن بمعنى فَعَّلَ نحو ضاعفَ وضَعَّفَ. وتَفاعل يكون من اثنين، نحو تخاصما. ويكون من واحد، نحو ترآءى له ويكون إظهاراً لغير ما هو عليه، نحو تغافَلَ: أظْهَرَ غفلةً وليس بغافل. وتَفَعَّلَ يكون لِتَكلُّف الشيء وليس به، نحو تَشَجَّع. وتَعَقَّل. ويكن بمعنى تفاعلَ نحو تعطّى. وتعاطا. ويكون الأخذ الشيء نحو: تفقّهَ وتعلَّم. ويكون منيّباً نحو تَكلَّم. ويكون تفعَّل بمعنى أفْعلْ نحو تعلَّم بمعنى أعلَمْ قال: تعلَّمْ أنَّ بعد الشرّ خـيراً
وأنّ لهذه الغُمَرِ انقشاعاً وأما اسْتفعلَ فيكون بمعنى التكلف، نحو تعظَّمَ. واسْتَعظَمَ وتكَّبَر. واستَكْبَر ويكون استفعل بمعنى الاستدعاء والطلب نحو: استَوْهبَ ويكون بمعنى فَعلَ: قرَّ. واستَقرَّ. وأمّا افْتَعلَ فيكون بمعنى فَعلَ، نحو: شَوَى. واشْتَوى ويكون بمعنى حدوثِ صفةٍ فيه نحو: افْتَقَرَ. وأمّا انْفَعلَ فهو فعل المطاوعة. نحو: كَسَرْتُه. فانْكَسَرَ وشَويْتُ اللحمَ فانْشوَى. قال: قد انْشَوى شِوَاؤُنا المُرَعْبَلُ
فاقْتَرِبوا من الغَدَاءِ فَكلُوا باب الفعل اللازم والمتعدي بلفظ واحد تقول: كسبَ زيدٌ المالَ. وكسَبَه غيرهُ. وهَبَطَ. وهَبَطَ غيره. وجَبَرَتِ اليدُ. وجَبَرْتُها. يكون فَعلَ بمعنيين متضادَّين نحو بِعْتُ الشيءَ وبعتُه: اشتريته. وارَتَوْتُ الشيءَ أرخيتُه وشدَدْته. وشَعَبْتُ الشيء جمعته وفرَّقْتُه. باب البناء الدال على الكثرة البناءُ الدالّ على الكثرة فَعُول. وفَعَّال نحو: ضَرْوب. وضَرَّاب وكذلك مِفْعال إذا كان عادةً نحو مِعْطار وامرأةٌ مِذْكارِ إذا كانت تلِدُ الذُّكور وكذلك مِينَاث في الإناث. باب الأبنية الدالة في الأغلب الأكثر على معان وقد تختلف يقولون: ما كان علي فَعَلان دلّ على الحركة والاضطراب نحو النَّزَوان. والغَلَبَان. وفَعْلان يجيء في صفات تقع من جُوع وعَطَش نحو: عَطْشان. وغَرْثان أو ما يضادّ ذلك نحو: رَيّان. وسكران. وفَعِلَ يكون في الوَجَع نحو وَجِعَ. وحَبِطَ أو ما أشبهه من فَزَعٍ. ويجيء من هذا فعِيل نحو: سَقِيم ويكون من الباب بَطرٌ. وفَرِحٌ وهذا على مُضادّة وَجِع وسَقِم. قالوا: الصفات بالألوان تأتي على أفْعلَ نحو أحْمَر. وأسْوَد. والأفعال منها على فَعُلَ مثل صَهُبَ. وعلى فَعِلَ نحو صَدِيءَ. وعلى أفْعالَّ مثل احْمَارٌ. وكذلك العيوب الأدواء تكون على أفْعَلَ نحو أزْرَق. وأعْوَر. وأفعالها على فَعِلَ نحو عَوِر. وشَتِرَ. ويكون الأدْواء على فُعال نحو: القُلاب. والخُمار. والأصوات أكثرها على هذا نحو: الدُّعاء. والصُّراخ. وللأصوات باب آخر على فَعيل نحو الهَدِير. والضَّجيج. وفُعالَة يأتي أكثره على ما يفضُل عن الشيء ويَسقُط منه نحو النُّحاتة. وفِعالَة في الصناعات كالِتّجار والنِّجارة.ويكون الفِعالُ في الأشياء كالعيوب: كالنِّفار والشِّماس. وفي السِّمات: نحو العِلاط والخِباط، وفي بلوغ الأشياء نهايتها: نحو الصّرام والجِزَاز. وتكون الصفات اللازمة للنفوس على فَعيل نحو: شريف وخفيف، وعلى أضدادها: نحو وَضِيع وكبير وصغير. هذا هو الأغلب وقد يختلف في اليسير. باب الفرق بين ضدّين بحرف أو حركة الفرق بين ضدَّين بحرف - قولهم: يُدْوِي من الداء ويُداوِي من الدواء. ويَخْفِر إذا أجار ويُخْفِر إذا نقص: من خَفَرَ وأخْفَرَ، وهو كثير. وما كان فرقه بحركة - فقولهم: لُعَنَه إذا أكثر اللعنَ ولُعْنَة إذا كان يُلْعَن وهُزَأة وسُخَرَة. وسُخْرَة. باب التوهم والإيهام ومن سنن العرب التوهم والإبهام وهو أن يَتوهم أحدهم شيئاً ثم يجعل ذلك كالحق. ومنه قولهم: وقفتُ بالربْع أسأله وهو أكمل عقلاً من أن يسأل رسماً يعلم أنه لا يَسمع ولا يَعقل لكنه تفجع لما رأى السِّكْنَ رحلوا وتوهَّم أنه يسأل الربع أن انْتَووْا. وذلك كثير في أشعارهم، قال: وقفتُ على رَبع لميَّة ناقتـي
فما زلت أبكي عنده وأخاطبهُ وأسألُ حتى كادَ ممـا أبِـثُّـهُ
تكلّمني أحجارهُ ومَلاعـبُـهْ وتوهُم وأوَهم أنّ ثَمَّ كلاماً ومُكَلِّما. وبيَّن ذلك لّبِيدٌ بقوله: فوقفتُ أسألها وكيف سؤالنا
صُمّاً خوالِدَ ما يَبِين كلاَمُها ومن الباب قوله: لا تُفزِعُ الأرنبَ أهوالُها إنما أراد: ليس بها أرنب يُفْزَع. وكذلك: على لا حِبٍ لا يُهتدى لِمنَاره إنما أراد: لا مَار به. وأظهرُ ذلك قول الجَعْدي: سبقتُ صِياحَ فراريجـهـا
وصَوتُ نواقِيسَ لم تُضْرَبِ وقال أبو ذؤيب: مُتَفَلّقٌ أنْساؤُها عن قـانـيءٍ
كالقرطِ صاوٍ غُبْرْه لا يُرضَعُ أو همَ أنّ ثَمَّ غَبْراً، وإنما أراد: لا غبر به فيرضع. باب البسط في الأسماء العرب تبسط الاسمَ والفعل فتزيد في عدد حروفهما، ولعل أكثر ذلك لإقامة وزنِ الشعرِ وتسوية قوافيه، وذلك قول القائل: ولـيلةٍ خـامـدة خـمــودا
طَخياءَ تُغْشي الجَدْيَ والفُرْقودا فزاد ف الفَرْقَد الواوَ وضم الفاء لأنه ليس في كلامهم فَعْلولاً ولذلك ضم الفاء. وقال في الزيادة في الفعل: لو أنّ عَمْراً همَّ أنْ يَرْقودا ومنه: أقولُ إذ خرّتْ على الكَلْكَالِ أرادَ الكلكل وفي بعض الشعر "فانْظور" أراد: "فانْظُر" وهذا قريبٌ من الذي ذكرناه في الخزم والزيادة التي لا معنى لَهَا. باب القبض ومن سنن العرب القَبْضُ محاذاةً للبسط الذي ذكرناه، وهو النقصان من عدد الحروف كقول القائل: غَرْثَى الوِشاحَيْن
صَموتُ الخَلْخَلِ أراد الخلخالَ. وكذلك قول الآخر: وسُرُحٌ حُرْجُج أراد حُرجوجاً وهي الضامِر. ويقولون: دَرَسَ المنا يريدون المنازل و: كأنما تُذْكى سنابكُها الحُبا أراد نار الحباحِب. وقال أبو النجم: أمْسِكْ فلانُ عن فلِ. أراد عن فلان. و: ليس شيء على المَنونِ بِخالِ أي: بخالد. ويقولون: أسَعْدَ بنَ مالٍ ألمْ تعجبوا وإنما أراد مالكاً. وقال آخر: وكادت فَزَارة تشقى بنـا
فأولى فَزَارَةُ أولى فزارا وقال أوس وهو الذي يسميه النحويون الترخِيم: تَنكَّرْتِ منَّا بعد معرفة لَمِي أراد: لَميسَ. وهذا كثير في أشعارهم، وما أحسب في كتاب الله جل ثناؤه منه، إلا أنه رُوي عن بعض القَرَأةِ أنه قرأ: ونادوْا يا مالِ أراد يا مالكُ والله أعلم بصحة ذلك. وربما وقع الحذف في الأول نحو قوله: بسمِ الذي في كل سُورة سِمُهْ أرد اسمه. ولاه ابنُ عمك أراد: لله ابنُ عمّك. باب المحاذاة معنى المحاذاة - أن يُجعل كلامٌ بحذاء كلام، فيؤْتى به على وزنه لفظاً وإن كان مختلفَين فيقولون: الغدايا والعشايا فقالوا: الغديا لانضمامها إلى العشايا. ومثله قولهم: أعوذ بك من السَّامَّة واللامَّة فالسّامّة من قولك: سَمَّتْ إذا خَصَّتْ واللامَّة أصلها ألمَّتْ لكن لما قُرنت بالسّامّةِ جُعلت في وزنها. وذكر بعض أهل العلم أن من هذا الباب كتابةَ المصحف، كتبوا والليل إذا سجى بالياء وهو من ذوات الواو لمّا قُرن بغيره مما يَكتب بالياء. قال: ومِن هذا الباب في كتاب الله جلّ ثناؤه: "ولو شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُم عليكم" فاللام التي في لسلّطهم جواب لو ثم قال: "فليقاتلوكم" فهذه حُوِّذيَت بتلك اللام، وإلاّ فالمعنى: لسلّطهم عليكم فقاتلوكم. ومثله لأعَذِّبنَّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه - فهما لا ما قَسَم ثم قال - أو لَيَأتِينّي فليس ذا موضعّ قسم لأنه عُذْر للهُدْهد فمل يكن ليُقسِم على الهدهد أن يأتي بعُذر، لكنَّه لمّا جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه، فكذا باب المحاذاة. قال: ومن الباب وَزَنْتُه فاتزَن. وكِلْتُه فاكْتال أي استوفاه كَيْلاً ووزناً. ومنه قوله جلّ ثناؤه: فما لكم عليهنّ من عِدّة تعتدُّونها تستوفونها لأنها حق للأزواج على النساء. ومن هذا الباب الجزاء على الفعل بمثل لفظه، نحو "إنما نحن مستهزؤن الله يستهزيء بهم" أي يجازيهم جزاءَ الاستهزاء. و"مَكَرْوا ومَكَر الله و"يَسْخَرْون منهم سَخِرَ الله منهم" و"نَسْوا الله فَنَسِيهم" و"وجزاء سَيِئةٍ سَيئّةٌ مثلُها". ومثل هذا في شعر العرب قول القائل: ألا لا يجهلنْ أحدٌ علـينـا
فنجهَلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا باب الإضمار من سُنن العرب الإضمار. ويكون على ثلاثة أضرُب: إضمارُ الأسماء، وإضمارُ الأفعال، وإضمارُ الحروف. فمن إضمار الأسماء قولهم ألا يَسْلَمِي يريدون ألا يا هذه اسلمي. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه "ألا يَسْجُدوا لله" بمعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا. فلما لم يذكر هؤلاء بل أضمرهم اتصلت يا بقوله: اسجدوا فصار كأنه فعل مستقبل. ومثله قول ذي الرّمّة: ألا يسْلَمِي يا دار مَيٍّ على البِلَى
ولا زال مُنهلا بِجَرْعائِك القَطْرُ وأخبرني علي بن إبراهيم عن محمد بن فَرَج عن سلمة عن الفرّاء سمع بعض العرب يقول: ألا يَرْحَمْنا يعني: ألا يا ربنا ارحمنا. ويقولون: يا هل أتاها على ما كان من حَدَثٍ و: يقولون لي يَحْلِفْ ولست بحالفٍ بمعنى: يا هذا احلِفْ. ويُضْمِرُونَ مِن الأسماء مَنْ فيقولون: ما في حَيِّنا إلا له إبلُ أي: مَنْ لَهُ إبل. وكَذَبتم بني شابَ قَرْناها أي: مَن شاب. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "وما منَّا إلا له مقام" أي: من له. ويضمرون هذا كقول حُميْد: أنت الهلالي الذي كانت مَرَّةً
سمِعنا به والأرْحَبِيُّ المُعَلفُ أي: وهذا الأرحبيّ يعني بعيره. باب إضمار الحروف ويضمرون الحروفَ فيقول قائلهم: ألا أيهذا الزّاجري أشهدَ الوَغى بمعنى أن أشهد. ويقولون: والله لَكانَ كذا بمعنى لقد. ويقول النابغة: لكلفتنِي ذنبَ امريء وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "ألم. غلبت الروم" قالوا: معناها لقد غلبت. إلا أنه لما أضمر قد أضمر اللام. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "سنعيدها سيرتها الأولى" فقالوا: إلى سيرتها. و"اختار موسى قومه" أي من قومه. ويقولون: اشْتَقْتك أي إليك. وهل يسمعونَكم بمعنى لكم. وأوجاؤكم حًصرت أي قد حصرت. ويقول قائلهم: حلفتُ بالله لناموا أي لقد. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "فإن أُحْصرْتم فما استيسرَ من الهَدْي" أي فعليكم. وقيل في قوله جلّ ثناؤه: "وترغبون أن تَنْكِحُوهنّ" معناها عن وقوم يقولون: في أن تنكحوهن. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "ومن آياته يُرِيكم البرق" أي أن يريكم البرق. وكقوله جلّ ثناؤه: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً" باب إضمار الأفعال من ذلك: قيل. ويقال. قال الله جلّ ثناؤه: "فأمّا الذين اسْوَدّت وجوههم أكَفَرْتم" معناه: فيقال لهم، لأن أمّا لا بد لها في الخبر من فاء، فلما أضمر القول أضمر الفاء. ومثله: فلا تدفِنُوني إن دَفْني محـرّمٌ
عليكم ولكن خامِري أمَّ عامر أي اتركوني للتي يقال لها خامري. ومنه "ثم يُخرِجكم طفلاً ثم لِتَبْلُغوا أشْدَّكم" أي: يعمّركم لتبلغوا أشدّكم. ومن باب الإضمار: أثَعْلَباً وتَفِرُّ أي: أترى ثعلباً. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم" أي يقولون: وأسرَ رجلٌ أسيراً ليلاً فلما أصبح رآه أسوَدَ فقال: أعبداً سائرَ الليلة كأنه قال: أراني أسرت عبداً. ومن الإضمار "قل لِمَنْ ما في السماوات والأرض، قل لله" فهذا مضمَر كأنه لما سألهم عادوا بالسؤال عليه فقيل له: "قل لله". ومن الإضمار "فقلنا أضربوه ببعضها"، كذلك - معناه: فضربوه فحَيَّ، كذلك "يُحيى اللهُ الموتى" ومثله في كتاب الله كثير. باب من الإضمار الآخر العرب تضمر الفعل فيشتبه المعنى حتى يُعْتَبَر فُيوقَفَ على المراد. وذلك كقول الخنساء: يا صَخْـرُ وَرّادَ قـد تَـنَـاذَرَهُ
أهلُ المواردِ ما في وِرْدِه عارُ. ظاهر هذا أن معناه: ما على ما وردَه عار، وليس في ورد الماء عار فيُبْجَحَ به. ولكن معناه: ما في ترك ورْدِهِ مخافةً عارٌ. وإنما عَنَتْ أنه ورد ماءً مخوفاً يتحاماه الناس فيُنذِرُ بعضهم بعضاً، تقول: فهو يرد هذا الماء لجُرْأته. ومثله قول النابغة: فإني لا أُلامُ على دخـول
ولكن ما وراءَكَ يا عِصَامُ يقول: لا ألام على ترك الدخول، لأنّ النُّعمان قد كان نذر دمَه متى رآه، فخاطب بهذا الكلام حاجبه. وقال الأعشى: اأزمَعْتَ من آل ليلى ابتِـكـاراً
وشَطَّتْ على ذي هوىً أن تُزارا ظاهِرُ هذا: أازمعتَ أن تبتكر منهم. وإنّما المعنى: أأزمعت من أجل آل ليلى وشوقك إليهم أن تبتكر من أهلك? لأنه عزم الرحلة إليها لا عنها، ألا تراه يقول: وبانَتْ بها غَرَبات النَّوى
وبُدّلتُ شوقاً بها وادِّكارا وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "ألا يَسْتَأْذنك الذي يؤْمنون بالله واليوم الآخر أن يُجاهِدوا" التأويل: لا يستأْذنك الذي يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يقعدوا عن الجهاد. باب التعويض من سُنن العرب التَّعْوِيض - وهو إقامة الكلمة مقامَ الكلمة. فيقيمون الفعلَ الماضي مقامَ الراهن، كقوله جلّ ثناؤه: "قل سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين" المعنى: أم أنت من الكاذبين. ومنه "وما جعلنا القِبلةَ التي كنتَ عليها" بمعنى: أنتَ عليها. ومن ذلك إقامة المصدر مقامَ الأمر، كقوله جلّ ثناؤه: "فسبحانَ الله حِين تُمسون وحينَ تُصبِحون" والسُّبْحة: الصلاة. يقولون: سَبّحْ سبحة. فتأويلُ الآية: سَبّحُوا للهِ جل ثناؤه، فصار في معنى الأمر والإغراء، كقوله جلّ ثناؤه: "فَضَرْب الرِّقاب" ومن ذلك إقامةُ الفاعل مقامَ المصدر، يقولون: قُمْ قائماً" قال: قُمْ قائماً قُم قائما
لَقِيتَ عبداً نائِماً وعُشَرَاء رائما
وأمَةً مُرَاغِما وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "ليس لِوَقْعَتِها كاذِبة" أي تكذيب. ومن ذلك إقامة المفعول مقام المصدر، كقوله جلّ ثناؤه: "بأيّكم المفتون" أي الفتنة. تقول العرب: ما له معقول. وحَلفَ مَحْلوفَه بالله. وجَهَدَ مجهوده. ويقولون: ما له معقول ولا مجلود ويريدون العَقْلَ والجَلد. قال الشمّاخ: من اللواتي إذا لانت عريكتها
يبقى لها بعدها آل ومجلودُ ويقول الآخر: إن أخا المجلود من صَبَرا ومن ذلك إقامة المصدر مقام الفعل، ويقولون: لقيت زيداً وقِيْلَهُ كذا أيَ يقول كذا. قال كعب: يسعى الوُشاةُ حوالَيْها وقِيلَهمُ
إنَّك يا ابن أبي سُلْمي لمقتولُ تأويله: يقولون. ولذلك نُصب. ومن ذلك وضعهم فَعِيلاً في موضع مُفْعَل نحو أمرٌ حكيم بمعنى مُحكَم. ووضعهم فَعِيلاً في موضع مَفْعِل نحو: "عذابٌ ألِيم" بمعنى مؤلم وتقول: أمِنْ رَيحانَةَ الداعي السميعُ بمعنى: مسْمِع. ومن ذلك وضعُهم: مفعولاً بمعنى فاعل كقوله جلّ ثناؤه: "حِجابَا مستورا" أي ساتراً، وقيل: مستوراً عن العيون كأنّه أُخْذَةٌ لا يُحِسُّ بها أحد. ومن ذلك إقامة الفعل مقام الحال كقوله جلّ ثناؤه: "يا أيّها النبيّ لمَ تَحْرِّمُ ما أحَلَّ الله لك تَبْتَغي مرْضاةَ أزواجك" أي مبتغياً. وقال: الرِّيحُ تَبكـي شَـجْـوَهُ
والبرقُ يَلمعُ في غمامهْ أراد: لامعاً. باب من النظم الذي جاء في القرآن من نظم كتاب الله جلّ ثناؤه: الاقتصاص - وهو أن يكون كلام في سورة مقتصاً من كلام في سورة أخرى أو في السورة معها. كقوله جلّ ثناؤه: "وآتيناهُ أجْرَهُ في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين" والآخرة دار ثواب لا عمل، وهو مقْتَصُّ عن قوله: "ومن يأْتِه مؤمناً قد عَمِل الصالحات فأولئك لهم الدرجاتُ العلى". ومنه قوله جلّ ثناؤه: "ولولا نعمةُ ربي لكنتُ من المحْضَرين" مأخوذ من قوله جل ثناؤه: "فأولئك في العذاب محضرَون" وقوله: "ثمّ لنحْضِرَنّهم حول جهنم". فأما قوله جلّ ثناؤه: "ويومَ يقوم الأشْهاد" فيقال: إنها مقتصة من أربع آيات لأن الأشهاد أربعة: الملائكة في قول جلّ ثناؤه: "وجاءت كلُّ نفْس معها سائقٌ وشهيد" والأنبياءُ صلوات الله عليهم "كيف إذا جيئنا من كلّ أمة بشهيد وجيئنا بك على هؤلاء شهيداً" وأمّةُ محمد ﷺ لقوله جلّ ثناؤه: "وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطاً لتكونوا شهداءَ على الناس" والأعضاءُ لقوله جلّ ثناؤه: "يومَ تَشْهد عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجُلهم بما كانوا يعملون". ومن الاقتصاص قوله جلّ ثناؤه: "إني أخاف عليكم يومَ التّناد قرئت مخففةً ومشدَّة: فمن شدَّدَ فهو نَدَّ إذا نفر، وهو مُقتصّ من قوله: "يوم يفرّ المرء من أخيه" إلى آخر القصة، ومن خَفّفَ فهو تَفَاعلَ من النِّداء مقتصّ من قوله جلّ ثناؤه: "ونادى أصحابُ الجنة أصحابَ النار". "ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنة". "ونادى أصحابُ الأعراف" وما أشبه هذا من الآي الذي فيها ذكر النداء. باب الأمر المحتاج إلى بيان وبيانه متصل به قال الله جلّ ثناؤه: "ويسألونك عن الأنفال" - فبيان هذا السؤال متصل به وهو قوله جل ثناؤه - قل الأنفال لله والرسول" ومثله "يسألونك ماذا أُحِلَّ لهم، قل أحِلّ لكم الطيبات" و"يسألونك عن الساعة، قل إنما علمُها عند ربي" ومنه "أم يقولون شاعر نَترَبَّصُ به رَيْبَ المنون، قل تربّصوا" فهذا وما أشبه هو الابتداء الذي تمامه متصل بِهِ. باب ما يكون بيانه مضمراً فيه وذلك مثل قوله جلّ ثناؤه: "حتى إذا جاؤها وفُتِّحَتْ أبوابها" فهذا محتاج إلى بيان لأن "حتى إذا" لا بد لها من تمام فالبيان ها هنا مُضمرَ، قالوا: تأويله: حتى إذا جاؤها جاؤها وفتحت أبوابها. ومثله "ولو أن قرآناً سُيِّرَتْ به الجبالُ فتمامه مضمر كأنه قال جلّ ثناؤه: لكان هذا القرآن. وهذا هو الذي يسمّى في سنن العرب بابَ الكَفّ وقد ذُكر. باب ما يكون بيانه منفصلاً منه ويجيء في السورة معها أو في غيرها قال الله جلّ ثناؤه: "وأوفوا بعهدي أوف بعهدِكم" قال أهل العلم: بيانُ هذا العهد قوله جلّ ثناؤه: "لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي" الآية، فهذا عهده جل ثناؤه، وعهدُهم تمام الآية في قوله جلّ ثناؤه: "لأُكَفِّرَنّ عنكم سيئاتِكم" فإذا وَفوا بالعهد الأول أعطوا ما وعدوه. وقال جلّ ثناؤه: "ويقول الذين كفروا ألستَ مرسلاً?" فالردّ على هذا قوله جلّ ثناؤه: "يس والقرآن الحكيم إنّك لَمِنَ المرسلين" وهذا هو الذي يسميه أهل القرآن جواباً. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه في الإخبار عنهم: "ربًّنا اكشفْ عنا العذاب إنّا مؤمنون" فقيل لهم: "ولو رَحِمْناهم وكشفنا ما بهم من ضُرٍّ لَلَجُّوا في طغْيانهم". ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: "وقالوا لولا نُزِّلَ هذا القرآنُ على رَجُل من القريتين عظيم" فردّ عليهم حين قيل: "وربُّك يخلق ما يشاء وَيَخْتارُ، ما كان لهم الخِيْرَةُ" ومن الباب قوله: "وإذا قيلَ لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن" ومنه قوله: "الرحمن علَّم القرآن". ومنه قوله: "قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا" فقيل هلم: لَئِن اجتَمَعَتِ الإنسُ والجِنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأْتونَ بمثله". ومنه "وانْطَلَق الْمَلأُ منهم أنِ امشوا واصبروا على آلهتكم" فقيل لهم في الجواب "فإن يصبروا فالنار مَثْوىً لهم". ومنه "أم يقولونَ نحن جميعٌ مُنتَصِر" فقيل لهم: "ما لَكم لا تَناصَرْونَ". ومنه قوله جل ثناؤه في قَصّة من قال: "لَوْ أطاعونا ما قُتِلوا" فردَّ عليهم بقوله: "لو كنتم في بيوتكم لَبرَزَ الذين كُتِبَ عليهم القَتلُ إلى مَضاجِعهم". "تَقَوَّلَه: فردَ عليهم: "ولو تَقوَّلَ علينا بعضَ الأقاويل لأخَذْنا منه باليمين". ومنه قوله جل ثناؤه حكاية عنهم: "ما لِهذا الرّسول يَأُكل" ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: "أمْ يقولونَ تَقَوَّلَه" فردّ عليهم: "ولو تَقوَّلَ علينا بعضَ الأقاويل لأخَذْنا منه باليمين". ومنه قوله جلّ ثناؤه حكاية عنهم" "ما لِهذا الرّسول يَأُكل الطَّعامَ ويَمشي في الأسواق" قيل لهم: "وما أرسلنا قبلَك من المرْسَلين إلاَّ أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" ومنه قوله جل ثناؤه: "وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَ عليه القرآن جُملةً واحدة" فقيل في سورة أخرى: "وقرآناً فَرَقْناه". ومنه: "ولقد أرسلْنا إلى ثَمْود أخاهم صالحاً أنِ اعبدوا الله فإذا هم فَرِيقان يَخْتَصِمون" فتفسير هذا الاختصام ما قيل في سورة أخرى: "قال الملأُ الذين اسْتَكْبَروا من قومه للذينَ اسْتُضْعِفوا لِمَن آمَنَ منه أتَعلمون أنَ صالحاً مرسَل من ربّه" إلى آخر القصّة. وقال في قصّة قوم: "لَهم البشرى في الحياة الدنيا" فالبشرى قوله جلّ ثناؤه في موضع آخر: "تنزَّلُ عليهم الملائكةُ ألاّ تخافوا ولا تَحزنوا وأبْشِروا بالجنة".ومنه حكايةً عن فِرعون أنه قال: "وما أهْدِيكم إلى سبيل الرَّشاد" فردّ الله عليه في قوله جلّ ثناؤه: "وما أمرُ فرعون برشيد". ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: "يومَ يَبعثهم الله جميعاً فيحلفون له" وذِكْرُ هذا الحَلِف في قوله جلّ ثناؤه: "والله ربِّنا ما كنا مشركين". ومنه قَوله جلّ وعزّ في قصة نوح عليه السلام: "إنّي مغلوبٌ فانْتَصِرْ" فقيل في موضع آخر: "ونَصرناه مِن القوم الذين كذَّبوا بآياتنا". ومنه قوله جلّ ثناؤه: "وقالوا قلوبنا غلْفٌ" أي أوْعِيةَ للعلم فقيل لهم: "وما أوتِيتُم من العلم إلا قليلاً" وهذا في القرآن كثير أفْرَدْنا له كتاباً وهو الذي يسمّى "الجوابات". باب آخر من نظوم القرآن وذلك أن تجيءَ الكلمة إلى جنب الكلمة كأنها في الظاهر معها، وهي في الحقيقة غير متصلة بها: قال الله جلّ ثناؤه: "إنّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعِزَّةَ أهلها أذلةً. وكذلك يفعلون" فقوله: "وكذلك يفعلون" ومن قولِ الله جلّ اسمه لا قول المرأة ومنه: "الآنَ حَصْحَصَ الحقّ أنا راودتُه عن نفسه وإنه لمن الصادقين" - انتهى قول المرأة ثم قال يوسف - "ذلك ليعلم المَلِكُ أني لم أخنْه بالغيب". ومنه "يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا من مَرْقَدِنا" - وتمَّ الكلام فقالت الملائكة - "هذا ما وَعَدَ الرحمن" ومنه قوله جلّ ثناؤه: "إن الذين اتَّقَوْا إذا مسَّهم طائفٌ من الشيطان تَذَكَّروا فإذا هم مُبْصِرون" - فهذه صفة الأتقياء المؤمنين ثم قال - "وإخوانُهم يُمِدُّونهم في الغَيّ" فهذا رَجّع على كفّار مكة أنّ كفارَ يُمِدُّهم إخوانُهم من الشياطين في الغّيِّ. باب إضافة الشيء إلى من ليس له لكن أضِيفَ إليه لاتِّصاله به وذلك قوله: سَرْجُ الفَرَس وثَمَرةُ الشجرة وغَنَمُ الرّاعي قال الشاعر: فَروّحَهنَّ يَحْدُوهنَّ قَصْـدا
كما يَحْدُو قَلائِصَهُ الأجِيرُ باب آخر من الإضافة ومن ذلك إضافَةُ الشيء إلى نفسه وإلى نعته. فالإضافة الأولى قول النَّمِر: سقيَّةُ بين أنـهـارٍ ودُورٍ
وزَرْعٍ نابٍ وكرُومِ جَفْنِ والجَفْن هو الكَرْم. فأمّا إضافته إلى نعته فقولهم: بارِحةُ الأولى. ويومُ الخَميس. ويوم الجمعة. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "ولَدَار الآخرة" و"وحَقُّ اليقين" باب جمع شيئين في الابتداء بهما وجمع خَبَريهما، ثم يُرَدَّ إلى كل مبْتَدَأ به خبرُهُ من ذلك قول القائل: إني وإيّاكَ على عَدْل أو على جَوْر فجَمَعَ شيئين في الابتداء وجمع الخَبَرين. ومراده: إني على عدلٍ وإيَّاكَ على جَوْر. وهذا في كلامهم وأشعارهم كثير. قال امرؤ القيس: كانّ قلوبَ الطَّيْر رَطْبَـاً ويابـسـاً
لَدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي أراد: كأنّ قلوبَ الطير رَطباً العنَّاب ويابساً الحَشفُ. ومن هذا في القرآن: "وإنَّا وإيّاكم لعلى هدىً أو في ضَلال مِبين" معناه: وإنَّا على هدى وإيَّاكم في ضلال. ومنه قوله جلّ ثناؤه: "قل أرأيتم إن كان من عند اللهِ وكفرتم به وشَهدَ شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستْتَكبَرْتم" ومثله "وزُلْزِلوا حتّى يقول الرسول والذين أمنوا معه مَتىَ نصرُ الله ألا إنّ نَصرَ اللهِ قريب" قَالوا: لَمّا لم يَصْلح أني قول الرسول متى نصر الله كان التأويل: وزُلزلوا حتى قال المؤمنون متى نصر الله فقال الرسول ألا إنّ نصرَ الله قريب. رُدَّ كلّ كلام إلى من صَلَح أن يكون له. ومن الباب قوله ذي الرُّمّة: ما بالُ عينِكَ منها الماءُ يَنٍسكِبُ
كأنّه من كُلَى مَفرِيَّة سَـرَبُ وَفْرَاءَ غَرْفِيَّه أثْأى خَوَارِزُها
مُشَلْشِلٌ ضَيعتْه بينها الكُتـبُ فمعنى البيتين: كأنه من كلى مَفرّيَةٍ وَفْراءَ غَرْفِيَّة أثأى خَوَارِزُها سَرَبٌ مُشَلشِلٌ ضَيَّعَتْه بينها الكتب. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "ومن رحمتهِ جعل لكم الليلَ لتَسْكنوا فيه والنهارَ لتَبْتَغوا من فضله" المعنى: جَعَلَ لكم الليلَ لتَسْكنوا فيه والنهارَ لتَبْتَغوا من فضله. ومن قوله عزّ وجلّ: "ولا تَطْرُدِ الذينَ يَدعونَ ربَّهم بالغداةِ والعشِيّ يريدونَ وَجهُهُ، ما عليكَ من حِسابِهم من شيء، وما حسابكَ عليهم من شيء فتطرُدَهم فتكون من الظالمين" تأويله والله أعلم: ولا تطرد الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي فتكون من الظالمين، ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطرُدهم فتكون من الظالمين. قال ومن هذا الباب قول امرئ القيس: فلا وأبيكِ ابنةَ العامـريّ
لا يدَّعي القومُ أنّي أفِـرْ تَمِيمُ بنُ مُرٍّ وأشياعُـهـا
وكِنْدةُ حَوْلي جميعاً صُبُرْ معناه: لا يدَّعي القوم تميمٌ وأشياعها أنّي أفِرْ وكِندةُ حولي. باب التقديم والتأخير من سُنن العرب تقديمُ الكلام وهو في المعنى مُؤخّر، وتَأخِيرُهُ وهو في المعنى مُقَدَّم. كقول ذي الرُّمة: ما بالُ عينِيكَ منها الماءُ يَنْسكبُ أراد: ما بالك عينك ينسكب منها الماء. وقد جاء مثلُ ذلك في القرآن قال الله جلّ ثناؤه: "ولو ترى إذ فَزِعوا فلا فَوْتَ وأُخِذوا من مكان قريب" تأويله والله أعلم: ولو ترى إذ فزعوا وأخِذوا من مكان قريب فلا فوتَ. لأنّ لا فوت يكون بعد الأخذ. ومن ذلك قوله جلّ ثناؤه: "هل أتاك حديثُ الغاشِيَة" - يعني القيامَة - "وجوهُ يومئذ خاشعة" وذلك يوم القيامَة ثم قال: "عامِلَةٌ ناصِبَةٌ" والنَّصَبُ والعملُ يكونان في الدنيا، فكأنه إذاً على التقديم والتأخير معناه: وجوهٌ عاملة ناصبَةٌ في الدنيا، يومئذ - أي يومَ القيامة - خاشِعة. والدليل على هذا قوله جلّ اسمه: "وجوهٌ يومئذ ناعِمَة". ومنه قوله جلّ ثناؤه: "فلا تُعْجِبْكَ أموالُهمُ ولا أولادُهم، إنما يُريد الله ليُعَذّبَهم بها في الحياة الدُّنيا" المعنى: لا تُعجبْك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا. وكذلك قوله جلّ ثناؤه: "فألْقِه إليهم ثم تَوَلَّ عنهم فانْظُرْ ماذا يَرْجِعون" معناه: فأَلقِهِ إليهم فانْظُرْ ماذا يرجعون ثم تَوَلَّ عنهم. ومن ذلك قوله جلّ ثناؤه: "إنّ الذين كفروا يُنادَوْن لَمَقْتُ اللهِ أكْبَرُ من مقتكم أنفُسكم إذ تُدعَوْن إلى الإيمان فتكفرون" تأويله: لَمَقْتُ الله إياكم في الدنيا حينَ دُعيتم إلى الإيمان فكفرتم، ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم إذا دعيتم إلى الحساب وعند ندمِكم على ما كان منكم. ومنه قوله جلّ ثناؤه: "ولولا كلمة سَبَقَتْ من رَبّك لَكانَ لِزَاماً وأجَلٌ مسمى" فأجَلٌ معطوف على كلمةٌ، التأويل: ولولا كلمة سبقت من ربّك وأجَلٌ مسمّىً - أرادَ الأجَل المضروبَ لهم وهي الساعة - لكان العذاب لازماً لهم. باب الاعتراض ومن سُنن العرب أن يعترِضَ بين الكلام وتمامِهِ كلامٌ، ولا يكون هذا المعترِضُ إلا مُفيداً. ومثال ذلك أن يقولَ القائِل: اعْمَلْ - واللهُ ناصري - ما شيئتَ إنما أراد: اعمَل ما شيئتَ. واعتَرَضَ بينَ الكلامين ما اعترضَ قال الشّمّاخ: لولا ابنُ عفّانَ والسلطان مُرْتَقبٌ
أوردتُ فجّاً من اللَّعْباءِ جُلْمُودي قوله: والسلطان مرتقب معتَرِض بين قوله: لولا ابنُ عفّانَ وقلوه: أوردتُ. ومن ذلك في كتاب الله جلّ ثناؤه: "واتلُ عليهم نبأ نُوح إذا قالَ لقومه يا قومِ إن كانَ كَبُر عليكم مُقامِي وتَذْكِيري بآيات الله" - فعلى الله توكلتُ- "فأجمِعوا أمْرَكم" إنما أراد: إن كانَ كبر عليكم مَقامي وتذكيري بآيات الله فاجمِعوا أمركم. واعترَضَ بينهما قول: فعلى الله توكلت. ومثله قول الأعشى: فإنْ يُمْسِ عندي الهَمُّ والسيبُ والعَشا
فقد بِنَّ مِنّي والسِّـلام تَـفَـلَّـقُ بأشجع أخَّاذٍ عل الدَّهر حُـكـمَـهُ
فَمِنْ أيّ ما تَجْني الحوادثُ أفْـرَقُ أرادَ: بِنَّ مني بأشجَعَ. والسِّلام تَفَلَّقُ اعتراض. ومثل هذا في كتاب الله جل ثناؤه وإشعارِ العرب كثير، وإنما نذكر من الباب رَسْماً. باب الإيماء العرب تُشيرُ إلى المعنى إشارة وتوميءُ إيماءً دون التصريح، فيقول القائل: لو انَّ لي مَن يَقبَل مَشْورتي لأشرْتُ وإنما يَحثُّ السّامع على قبولِ المَشُورَة. وهو في أشعارهم كثير قال الشاعر: إذا غَرَّدَ المُكَّاءُ في غيرِ رَوْضَةٍ
فوَيْلٌ لأهل الشَّاءِ والحمُـراتِ أومَأ إلى الجدْب، وذلك أن المُكَّاء يَأْلَفُ الريَاضَ، فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة. ومنه قول الأفْوَهِ: إنّ بـنـي أوْدٍ هُـمُ مـا هُـمُ
للحَرْب أو للجَدْب عامَ الشُّموسْ أومأ بقوله: الشموس إلى الجدب وقلة المطر والغيم، أي إنّ كلَّ أيّامهم شموس بلا غيم. ويقولون: هو طويلُ نِجادِ السيّف إنما يريدون طولَ الرَّجُل. وغَمْرُ الرّداء يومِئون إلى الجواد. وفِداً له ثَوْبي و هو واسع جَيبِ الكُمّ إيماءً إلى البَذْل. وطَرِبُ العِنان يومئون إلى الخِفَّة والرَّشاقة. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "وقُل رَّبِّ أعُوذُ بكَ من هَمَزاتِ الشياطين وأعوذُ بكَ ربِّ أن يَحْضُرون" هذا إيماؤٌ إلى "أن يُصيبوني بسؤ" وذلك أن العرب تقول: اللَّبَن محضور أي: تُصيبه الآفات. باب إضافة الفعل إلى من وقع به ذلك الفعل ومن سُنن العرب إضافةُ الفعل إلى من يقع به ذلك الفعل. يقولون: ضربُ زيداً وأعطيتُه بعدَ ضَرْبِهِ - كذا فينسب الضربَ إلى زيد وهو واقع به. قال الله جلّ ثناؤه: "ألم. غُلبتِ الرومُ" - فالغَلَبة واقعة بهم من غيرهم ثم قال - "وهم من بعد غَلَبِهم سَيَغْلِبون" فأضافَ الغَلبَ إليهم، وإنما كان كذا لأن الغَلبَ وإن كان لغيرهم فهو متصل بهم لوقوعه بهم. ومثله: "وآتى المالَ على حُبِّه" ويُطعِمون الطّعامَ على حُبّه" فالحب في الظاهر مضاف إلى الطعام والمال، وهو في الحقيقة لصاحب الطعام وصاحب المال. ومثله "ولِمنْ خاف مقامَ رَبّه" و"ذلك لمن خاف مقامي" أي مَقامَه بين يَديَّ.و مثله قول طَرَفَة: وبَرْكٍ هُجودٍ قد أثارَتْ مُخَافتي فأضاف المخافة إلى نفسه وإنما المخافة للبَرْك. باب ما يجري من غير ابن آدم مجرى بني آدم في الإخبار عنه من سنن العرب أن تُجْري المَواتَ وما لا يَعْقِل في بعض الكلام مجرى بني آدم. فيقولون في جمع أرض "أرضون" وفي جمع كره كُرون" وفي جمع إرة إرون وفي جمع ظُبَةِ السيفِ ظبُون وينشدون: يَرَى الرّاؤنَ بالشَّفَرات منها
كنارِ أبي حُباحبَ والظُّبينا ويقولون: لِقِيتُ منه الأقْوَرِينَ وأصابتْني منه الأمَرُّون ومضتْ له سِنون ويتعدَّون هذا إلى أكثر منه فيقول الجَعْدِي: تَمَزَّزْتُها والدّيكُ يدعو صَباحهُ
إذا ما بنو نَعْشٍ دَنَوْا فتصوَّبوا وقال الله جل ذكره: "في فَلَك يَسْبَحون" و"ولقد علمتَ ما هؤلاسء ينطِقون" و"إني رأيت أحدَ عشر كوكباً والشمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين" و"يا أيُّها النملُ ادخُلوا مساكِنَكُم" و"ولو كان هؤلاءِ آلهةً وَرَدُوها" ويقولون في جمع بُرَة بُرِين. وأكثر من قول النابغة قول القائل: إذا أشرفَ الديكُ يدعو بعضَ أُسْرَتِهِ
إلى الصَّباح وهم قومٌ مَـعـازِيلٌ فجعل له أسرة وسماهم قوماً. باب اقتصارهم على ذكر بعض الشيء وهم يريدونه كلُّه من سنن العرب الاقتصارُ على ذكر بعض الشيء وهم يُريدونه كلهن فيقولون: قعد على صَدْر راحلته ومضى. ويقول قائلهم الواطِئينَ على صُدورِ نعالهم وذكر بعضُ أهل اللغة في هذا الباب قولَ لَبِيد: أو يرْتَبِطْ بعضَ النفوسِ حمامُها وإنه أراد كلاُّ وذكروا في هذا الباب قوله جلّ ثناؤه: "قل للمؤمنين يغُضُّوا من أبصارهم" وقال آخرون مِن هذه للتبعيض لأنهم أمِروا بالغَضِّ عما يحرُم النَّظرُ إليه. ومن الباب "يحَذِّرُكم الله نفسَه" إي إيّاه. ومنه "تَعلَم ما في نفسي" ومنه قوله: يوماً بِأجُوَدَ نائلاً مـنـه إذا
نَفْسُ البخيل تجَهَّمَتْ سُؤالَها ومنه "ويَبْقى وجهُ ربِّكَ". و: تواضَعَتْ سورُ المدينة و: رأت مَرّ السنين أخّذْنَ مِنّي و: طُولُ الليالي أسرعَتْ في نقضي و: صَرف المَنايا بالرّجال تقلَّبُ وقال الجَعْدي: جَزِعتَ وقد نالَتْكَ حَدُّ رماحـنـا
بِقوهاءَ يُثِني ذِكْرها في المحافِلِ باب الاثنين يعبر عنهما بهما مرّة وبأحدهما مرة قال أبو زكرياء الفرّاء: العرب تقول: رأيته بعيني. وبعينَيَّ والدارُ في يدِي وفي يدَيَّ. وكل اثنين لا يكاد أحدُهما ينفرد فهو على هذا المثال مثل: اليدين. والرِّجلين قال الفرزدقِ: فلو بَخِلَتْ يدايَ بهاو ضنَّتْ
لكان عليَّ للقدَر الخِـيارُ فقال: ضَنْت بعد قوله يداي. وقال: وكأنّ بالعينَيْن حَبّ قَرنْفُل
أو سُنْبلاً كُحِلَتْ به فانْهلُّتِ وقال: إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى
بصحراءِ فَلْجٍ ظلَّـتـا تَـكِـفـانِ باب الحمل هذا باب يترك حكم ظاهر لفظه لأنه محمول على معناه. ويقولون: ثلاثة أنْفُس والنفس مؤنّثة لأنّهم حملوه على الإنسان. ويقولون: ثلاث شخوص لأنهم يحملون ذلك على أنهنّ نساء و: فإن كلاباً هذه عَشْرُ أبْطنٍ يذهبون إلى القبائل. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "السماءُ منْفطرٌ" حُمِل على السَّقْف. وهذا يتَّسِع جداً. وقد ذُكر في هذا الباب ما تقدم ذكره من قوله جلّ ثناؤه: "مستهزئون، الله يستهزئ بهم" وهذا في باب المحاذاة أحسن. ومن الحَمْل قوله: "أنا رسولُ ربِّ العالمينَ" قال أبو عبْيدَة أرادَ الرّسالة. ومن الباب قوله جلّ وعزّ: "سعيراً" - والسعير مذكّر ثم قال - "إذا رأتْهم" فحمله على النار. وقوله جلّ ثناؤه "فأحيينا به بلدة مَيْتاً" حمله على المكان. ولهذا نظائِرُ كثيرة. باب من ألفاظ الجمع والواحد والاثنين من الجمع الذي لا واحدَ له من لفْظه العالَمُ. والأنامُ. والرّهط. والنّفَر. والمَعْشر. والجنْد. والجْيش. والنّاس. الغَنَم. والنَّعَم. والإبل. وربّما كان للواحد لفظ ولا يجيء الجمع بذلك اللفظ نحو قولنا: امُرُؤُ. وامْرَءان. وقوم وامْرَأة. وامْرَأتان. ونسوة. ومن الاثنين اللذِيْن لا واحد لهما لفظاً قولهم كِلا وكِلْتا. واثنان. والْمِذْرَوان. وعَقَله بِثَنايَيْن. وجاء يضرب أصْدرَيْه. وازْدَرَيْه. ودَوالَيْه مِن التَّداول ولَبَّيْكَ. وسَعْدَيْكَ. وحنَانَيْك وقد قيل: إن واحدِ حنانيك حَنانٌ وينشد: فقالت حَنانٌ ما أتى بِكَ ها هنا
أذو نَسبٍ أمْ أنتَ بالحيِّ عارف باب ما يجري من كلامهم مجرى التهكم والهزء يقولون الرجل يُسْتَجهَل يا عاقل! ويقول شاعرهم: فقلتُ لِسَيِّدنـا يا حَـلِـي
مُ إنكَ لم تَأْسَ أسْواً رَفِيقا ومن الباب أتاني فَقَرَيْته جفَاءً وأعْطَيتُهُ حرماناً قوله: ولم يكونوا كأقوامٍ علمتـهـم
يَقْرونَ ضيفَهمُ الْملويَّةَ الجُدُدا يعني: السِّياط. ويقول الفرزدقِ: قَريْنَاهم المأثورَةَ الْبِيضَ وقال عمرو: قَرَيْناكمْ فعجَّلْنا قِـراكـمْ
قبَيْلَ الصُّبح مِرْداةً طَحونا ومن الباب حكايةً عنهم: "إنّك لأنت الحليم الرشيد" باب الكف ومن سنن العرب الكفُّ. وهو أن يكفَّ عن ذِكْر الخَبر اكتفاءً بما يدلّ عليه الكلام. كقول القائل: وَجدِّكَ لو شيءٌ أتانا رسولـه
سِواكَ ولكِن لم نَجِدْ لك مَدْفَعا المعنى: لو أتانا رسولُ سِواكَ لدفَعناه. وقال آخر: إذا قلتُ سِيري نحوَ ليلى لعـلَّـهـا
جرى دونَ ليلى مائلُ القَرْن أعضبُ وترك خبر لعلّها. وقال: فمَن لَه في الطَّعْنِ والضِّرابِ
يلمع في كفيَّ كالشِّـهـاب أي: مَن له في سيف. ومنه قوله جلّ وعزّ في قِصة فرعون: "أفلا تبصرون أم" أراد: أم تبصرون. وما يقرب من هذا الباب قوله: تضِيءُ الظلامَ بالعِشاءِ كأنها
مَنارَةُ مُمْسَى رَاهبٍ متَبَتِّلِ أراد: سُرُج منارة. باب الإعارة العرب تُعير الشيء ما ليس له. فيقولن: مَرَّ بينَ سمعِ الأرض وبَصَرِها ويقول قائلهم: كذلك فعلهُ والناسُ طُـرّاً
بكفِّ الدهر تقتلُهم ضُروباً فجعل للدهر كفّاً. ويقولون: ثأَرتُ المِسْمَعَيْن وقلت بوّأ
بقتلِ أخي فزَارةَ والخِيارِ قال الأصمعي: لم يكن واحد منهما مِسَمعاً وإنما كان عامراً وعبدَ الملك ابني مالك بن مِسْمع فأعارهما اسمَ جدّهما. ومثله الشَّعْثمان لم يكن اسم أحدهما شَعْثما وإنما أُعيرا اسم أبيهما شعثم ومثله المهَالِبَة والأشعرون. باب أفعل في الأوصاف لا يراد به التفضيل يقولون: جَرَى له طائرٌ أشأم ويقول شاعرهم: هي الهَمُّ لو أنّ ا لنوى أصْقبَتْ بها
ولكنّ كَرّاً في رَكوبَةَ أعْـسَـرُ وقال الفرزدق: إن الذي سمكَ السماءَ بني لنا
عِزّاً دعائمهُ أعزُّ وأطـولُ وقال أبو ذُؤَيْبِ: ما لي أحِنّ إذا جِمالُك قرِّبَتْ
وأصدُّ عنكِ وأنتِ مني أقرب وقال: بُثَيْنَةُ من آل النساء وإنـمـا
يكنّ لأدنى لا وِصالَ لغائب ويقولون: إن من هذا الباب قولَه جلّ ثناؤه: "وهو أهْونُ عليه". باب نفي الشيء جملة من أجل عدمه كمال صفته قال الله جلّ وعزّ في صفة أهل النار: "لا يموت فيها ولا يحيى" فنفى عنه الموتَ لأنه ليس بموت مُرِيح ونفى عنه الحياةَ لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة. وهذا في كلام العرب كثير، قال أبو النَّجْم: يُلْقِينَ بالخَبارِ والأجـارعِ
كلَّ جَهيضٍ لَيِن الأكارِعِ ليسَ بِمِحْفوظ ولا بضائع
فقال: ليس بمحفوظ؛ لأنه ألقي في صحراء. ولا بضائع؛ لأنه موجود في ذلك المكان وإن لم يوجد فيه.
ومنه قوله:
بلهاء لم تحفظ ولم تضيع
وقال:
وقد أجُوبُ البَلـد الْـبَـرَاحـا
الْمَرْمَرِيسَ القَفْرةَ الصَحْصَاحا بالقوم لا مرْضَى ولا صِحاحا
ومن هذا الباب أو قريبٌ منه قوله جلّ ثناؤه: "لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، ولهم أعينٌ لا يُبْصرون" ومنه "ولقد علموا لَمَن اشْتَراهُ ما له في الآخرة من خَلاق" فأثبت علماً ثم قال - "ولِبْئسَ ما شَرَوا به أنفُسَهُم لو كانوا يَعلمون" لما كان علماً لم يعملوا به كانوا كأنهم لا يعلمون. ومن الباب قول مسكين"
أعُمى إذا ما جارتي خرجَتْ
حتى يواري جارتي السِّتْرُ وأصَمّ عما كان بينـهـمـا
سمعي وما بالسمع من وَقْرُ جعل نفسَه أعمى أصَمَّ لمّا لم ينظر ولم يسمع. وقال آخر: وكلامٌ بسـيِّئ قـد وُقِـرَتْ
أذنيَ عنه وما بي من صَمَمِ وقريب من هذا الباب قوله جلّ وعزّ: "وتَرى الناسَ سُكارى وما هو بسُكارى" أي ما هم بسُكارى مشروبٍ وكلن سُكارى فَزَع وَوَلهٍ. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: "لا يَنطِقون، ولا يؤذَن لهم فيعتَذِرون" وهم قد نطقوا بقولهم: "يا لَيْتَنا نُرَدُّ" لكنهم نطقوا بما لم يَنفع فكأنهم لم ينطِقوا. باب الشرط الشرط على ضربين: شرطٌ واجبٌ إعماله كقول القائل: إن خرج زيدٌ خرجتُ. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: "فإن طِبنَ لكن عن شيء منه نفساً فكُلُوه هَنِيئاً مريئاً" والشرط الآخر مذكور إلا أنه غيرُ مَعْزوم عليه ولا محتوم، مثل قوله: "فال جُناحَ عليهم أن يَتَراجعا إن ظَنّا أن يقيما حدودَ الله" فقوله: "إن ظَنّا" شرط لإطلاق المراجعة. فلو كان محتوماً مفروضاً لما جاز لهما أن يتراجعا إلاّ بعد الظنّ أن يقيما حدود الله. فالشرط ها هنا كالمَجاز غير المعزوم. ومثله قوله جلّ ثناؤه: "فذَكِّرْ إن نَفَعَتِ الذِّكْرى" لأن الأمر بالتذكير واقع في كلّ وقت. وللتذكير واجب نفع أو لم ينفع، فقد يكون بعض الشروط مَجازاً. باب الكناية الكناية لها بابان: الباب الأول من الكناية أن يُكنى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسيناً للفظ أو إكراماً للمذكور، وذلك كقوله جلّ ثناؤه: "وقالوا لجلودهم: لِمَ شَهدْتم علينا?" قالوا: إن الجلود في هذا الموضع كناية عن آراب الإنسان. وكذلك قوله جلّ ثناؤه: "ولكن لا تواعِدُوهنَّ سِرّاً" إنه النكاح. كذلك: "أو جاء أحد منكم من الغائِط" والغائط: مطمَئِن من الأرض. كل هذا تحسين اللفظ والله جلّ ثناؤه كريم يكُنِي كما قال في قصة عيسى وأمه عليهما السلام: "ما المسيح بنُ مريمَ إلا رسولٌ قد خَلَت من قبله الرُّسلُ، وأُمّه صِدّيِقة، كانا يأكلان الطّعامَ" كنايةٌ عما لا بدّ لآكل الطعام منه. الكنايةُ التي للتبجيل قولهم: أبو فلان صيانة لاسمه عن الابتذال. والكُنى مما كان للعرب خصوصاً. ثم تشبَّه غيرهم بهم في ذَلِكَ. الباب الثاني من الكناية الاسم يكون ظاهراً مثل: زيد. وعمرْو. ويكون مَكْنّياً وبعض النحويين يسميه مضمَراً، وذلك مثل هو. وهي. وهما. وهنَّ. وزعم بعضُ أهل العربية أن أول أحوال الاسم الكناية، ثم يكون ظاهراً. قال: وذلك أن أوّل حال المتكلم أن يخبر عن نفسه ومخاطَبِهِ فيقول: أنا. وأنت وهذان لا ظاهر لهما. وسائر الأسماء تظهر مرة ويكنْى عنها مرة. والكناية متصلة منفصلة ومسْتجِنَّة. فالمتصلة التاء في حملتُ. وقمتُ" والمنفصلة قولنا: إياهُ أردْتُ. والمستجنَّة قولنا: قام زيدٌ فإذا كَنَيْنا عنه قلنا قام فَتَسَتَّر الاسم في الفعل. وربما كني عن الشيء لم يجر له ذكر، في مثل قوله جلّ ثناؤه: "يؤفَك عنه" أي يؤفك عن الدين أو عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. قال أهل العلم: وإنما جاز هذا لأنه قد جرى الذّكر في القرآن. قال حاتم: أمَاويَّ ما يُغني الثَّراءُ عن الفـتـى
إذا حَشرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدْرُ فكنى عن النفس فقال حشرجت. ويقولون: إذا اغُبرَّ أُفْقٌ وهَبَّتْ شَمالاً أضمرَ الريح ولم يجرِ لها ذكر. ويكنى عن الشيئين والثالثة بكناية الواحد. فيقولون: هو أنْتَنُ الناس وأخْبَثُه وهذا لا يكون إلا فيما يقال هو أفعل، قال الشاعر: شَرُّ يومَيها وأشقاهُ لهـا
رَكِبتْ عَنزٌ بِحمْلٍ جَملا ولم يقل: أشقاهما وتكون الكناية متصلة باسم وهي لغيره، كقوله جلّ ثناؤه: "ولقد خلقنا الإنسان من سُلالَة من طين" - فهذا آدم عليه السلام ثم قال - "جعلناه نُطْفة" فهذا لِوَلده لأن آدم لم يُخلق من نُطفة. ومن هذا الباب قوله جلّ ثناؤه: "لا تَسْأَلوا عن أشياءَ إنْ تُبدَ لكم تَسؤْكم" قيل: إنها نزلت في ابن حُذَافَة حين قال للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: من أبي? فقال: حُذافة. وكان يَسبُّ به فساؤَهُ ذلك، فنزلت: "لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكُم". وقيل: نزلت في الحج حين قال القائل: أفي كلّ عام مرةً? ثم قال: "وإن تَسألوا عنها" يريد أن تسألوا عن أشياء أُخرَ من أمر دينكم وديناكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ثم قال: "قد سألها" فهذه الهاء من غير الكنايتين لأن معناها: قد طلبها، والسؤال ها هنا طلب، وكذلك كقول عيسى عليه السلام حين سألوه المائدةَ، وكقول موسى عليه السلام حين قالوا: "أرِنا الله جَهرَة" فالسؤال ها هنا طلب والكناية مُبتدأةٌ. وربما كُني عن الجَماعة كناية والحد كقوله جلّ ثناؤه: "قُلْ أرأيْتم إنْ أخذَ اللهُ سمعَكم وأبصاركم وخَتَم على قلوبكم مَنْ إله غيرُ الله يَأيتكم به?" أراد والله أعلم: بهذا الذي تقدّم ذكره. باب الشيء يأتي مرة بلفظ المفعول ومرة بلفظ الفاعل والمعنى واحد تقول العرب: هو مُدَجِّج. ومدَجَّج وعبدٌ مكاتِب.و مكاتَب وشَأوٌ مُغرِّب. ومُعرَّب وسجن مُخيِّس ومُخيَّس ومكان عامِر. ومَعْمور ومَنزِل آهِل. ومَأهول ونُفِستِ المرأةَ ونَفِسَتْ ولا يَنْبَغي لك. ولا يُنْبَغي لك وعنيتُ به وعَنيتُ. قال عانٍ بأُخراها طويلُ الشُّغْلِ ورْهِصَتِ الدّابة. ورَهِصَتْ وسُعِدوا. وسعَدوا وزُهي علينا. وزَهَى. باب الزيادة في حروف الفعل للمبالغة وقد مضى في الأسماء مثله العرب تَزيد في حروف الفعل مبالغة، فيقولون: حلا الشيء فإذا انتهى قالوا: احُلّوْلَى ويقولون اقْلوْلَى على فراشه وينشدون واقْلَوْلَيْنَ فوقَ المضاجِع وقرأ ابنُ عباس: إلا أنه تَثْنَوْنِي صدورُهم على هذا الذي قلناه من المبالغة. باب الخصائص للعرب كلام بألفاظ تختص به مَعانٍ لا يجوز نقلها إلى غيرها، يكون في الخير والشرّ والحَسَن وغيره وفي الليل والنهار وغير ذلك. ومن ذلك قولهم: مَكانَكَ قال أهلُ العلم: هي كلمة وُضِعتْ على الوعيد، قال الله جل ثناؤه: مَكانَكم أنتم وشرَكاؤكم" كأنّه قيل لهم انتظِروا مكانَكم حتى يُفْصَل بينكم. ومن ذلك قول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَا حَمَلَكم على أن تَتابعوا في الكذِب كما يَتَتَابُع الفَراشُ في النار" قال أبو عبيدة: هو التهافت، وم نسمعه إلا في الشرّ. ومن ذلك أولى له وقد فسّرناه. ومن ذلك: ظَلَّ فلان يفعل كذا إذا فعله نهاراً. وبات يفعل كذا إذا فعله ليلاً. ومن ذلك ما أخبرني به أبو الحسن علي بن إبراهيم قال سمعت أبا العباس المبرّد يقول: التَّأويب سيرُ النهار لا تعريج فيه والإسآد سيرُ الليل لا تعريس فيه. ومن الباب جُعلوا أحاديث أي: مُثِلَ بهم، ولا يقال في الخير. ومنه: "لا عدوانَ إلا على الظالمين" ومن الخصائص في الأفعال قولهم: ظننتني وحسِبتُني. وخِلْتني لا يقال إلا فيما فيه أدنى شك، ولا يقال ضَرَبتني. ولا يكون التَّأْبين إلا مدحَ الرجل ميتاً. ويقال غضبتُ به إذا كان ميتاً. والمسَاعاة الزِّنا بالإماء خاصة. والراكب راكب البعير خاصة. وألَجَّ الجملُ وخَلأَت الناقة وحزَنَ الفرس ونَفَشَتِ الغنم ليلاً وهَمَلتْ نهاراً. وقال الخيلي: اليَعْمَلَه من الإبل اسم اشتق من العَمَل ولا يقال غلا للإناث قال: والنعتُ وصف الشيء بما فيه من حَسَن إلاّ أن يتكلّف متكلف فيقول هذا نعتُ سوءٍ فأما العرب العاربة فإنها تقول: للشيء نعت يريدون به التتمة. قال أبو حاتم: ليلةٌ ذات أزِيز أي قُرّ شديد. ولا يقال يومٌ ذو أزيز. قال ابنُ دُرَيْد أشَّ القومُ وتأسَّسُوا إذا قام بعضهم إلى بعض للشر لا للخير. ومن ذلك جَزَزْتُ الشاةُ وحَلَقْتُ العَنزَ لا يكون الحَلق في الضَّأن ولا الجّزّ في المِعزَى وخفضت الجارية ولا يقال في الظلام وحقب البعد إذا لم يَستقم بولُه لقصد، ولا يَحْقب إلا الجمل. قال أبو زيد: أبْلَمَتِ البَكْرة إذا وَرِمَ حياؤُها لا يكون إلا للبَكرة. وعَدَنتِ الإبل في الحمض لا تَعْدُن إلا فيه. ويقال: غَطَّ البعيرُ هَدَرَ ولا يقال في الناقة. ويقال: ما أطيبَ قداوةَ هذا الطعام أي: ريحَهُ ولا يقال ذلك غلا في الطبيخِ والشِّواء. ولَقَعَه بِبَعْرَة ولا يقال بغيرها. وفعلتُ ذاك قبل عَيْرٍ وما جَرَى لا يتُكلَّم به إلا في الواجب، لا يقال: سأفعله قبلَ عير وما جرى. ومن الباب ما لا يقال إلا في النفي كقولهم: ما بها أرِمٌ أي ما بها أحد. وهذا كثير فيه أبواب قد صنّفها العلماء. باب نظم للجرب لا يقوله غيرهم يقولون: عاد فلانٌ شيخاً وهو لم يكن شيخاً قط. وعادَ الماءُ آجناً وهو لم يكن آجناً فيعود. ويقول الهُذّلِي: قد عادَ رَهْباً رَذّياً طائِشّ القَدَمِ وقال: قطعتُ الدَهرَ في الشَّهَوات حتّى
أعادتني عَسِيفاً عـبـدَ عـبـدِ ومن هذا في كتاب الله جلّ ثناؤه: "يُخرِجونَهم من النّور إلى الظلمات" وهم لم يكونا في نور قط. ومثله: "يُرَدّ إلى أرْذَلِ العُمُر" وهو لم يَكن في ذلك قط. وقال الله جلّ ثناؤه: "حتّى عادَ كالعُرْجُونَ القديم" فقال: "عاد" ولم يكن عُرْجوناً قبلُ باب إخراجهم الشيء المحمود بلفظ يوهم غير ذلك يقولون: "فلانٌ كريم غير أنه شريف" و "كريم غير أن له حَسَباً" وهو شيء تنفَرِدُ فيه العرب. قال. ولا عيبَ فيهم غيرَ أنّ سُيوفَهم
بهن فُلُول من قِراع الكتائِبِ وقال: فتىً كَمَلَتْ أخلاقُه غير أنُـه
جوادٌ فما يُبقيِ من المال باقيا وهو كثير. باب الإفراط العرب تُفرِط في صفة الشيء مُجاوَزَةً للقَدْر اقتداراً على الكلام كقوله: بِخَيْلٍ تَضِلّ البُلْقُ فِي حَجَراته
ترى الأُكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحوافِرِ ويقولون: لما أتى خبَرَ الزُّبيْر تواضَعَتْ
سور المدينة والجبال الخشع و: بكى حارِثُ الجولان من هُلْكِ ربّه ويقولون: لَوْ انَّك تُلْقِي حَنْظَلاًُ فَوْقَ بَيْضِنـا
تَحَدْرَجَ ........................ ويقولون: ضَرَبتُه فِي الملتقى ضَرْبةً
فزال عن مَنْكِبِهِ الكاهـلُ فَصارما بَيْنَهمـا رَهْـوةً
يمشي بِهَا الرَّامِح والنّابِلُ باب نفي في ضمنه إثبات تقول العرب: "لَيْسَ بحُلو ولا حامضٍ" يريدون أنه جَمَعَ من ذا وذا. وَفِي كتاب الله جلّ ثناؤه: "لا شرقِيَّة ولا غَرْبيّة" قال أبو عبيدة: لا شرقيّة تضحى للشرق ولا غربية لا تضحى للشرق لكنها شرقية غربيّة يصيبها ذا وذا: الشرق والغرب. باب الاشتراك معنى الاشتراك: أن تكون اللفظة محتملة لمعنيين أَوْ أكثر، كقوله جلّ ثناؤه: "فاقْذِفيه فِي اليمّ، فَلْيُلْقِهِ اليمّ بالساحل" فقوله: "فَلْيُلْقِهِ" مشترك بَيْنَ الخبر وبين الأمر، كَأَنَّه قال: فاقذفيه فِي اليم يُلْقِهِ اليم. ومحتمل أن يكون اليمُّ أمر بإلقائه. ومنه قولهم: "أرأيت" فهو مرّةً للاستفتاء كقولك: "أرأيت إن صلى الإمام قاعداً كيْفَ يُصَلّي مَن خلفه?". ويَكون مرّةً للتنبيه ولا يقتضي مفعولاً، قال الله جلّ ثناؤه: "أَراَيتَ إن كذَّب وتولّى، ألم يعلم بأنّ اللهَ يرى". ومن الباب قوله: "ذَرْنِي ومَنْ خَلَقْتُ وحيداً" فهذا مشترك محتمل أن يكون لله جلّ ثناؤه لأنه انفرد بخَلْقِهِ، ومحتمل أن يكون: خَلقتُه وحيداً فريداً من ماله وولَده. باب ما يسميه بعض المحدّثين الاستطراد وذلك أن يشبّه شيء ثُمَّ يمرّ المتكلم فِي وصف المشبّه، كقول الشاعر حين شبّه ناقتَه فقال: كَأَنِّي ورَحْلِيَ إذَا رُعْتُـهـا
عَلَى جَمْزَى جازِئٍ بالرِّمالِ فشبّه ناقته بثور ومضى فِي وصف الثّور، ثُمَّ نقل الشبه إِلَى الحمار فقال: أَوْ أصْحَمٍ حامٍ جَرامِيزَه
حَزَابِيَةٍ حَيدَى بالدِّحالِ ومر فِي صفة العَيْر إِلَى آخر كلمته. وَقَدْ قيل: فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من هَذَا النظم قوله: "إن الذين كفروا بالذِّكر لما جاءهم" وَلَمْ يجر للذِّكر خبر، ثُمَّ قال: "وإنّه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بَيْن يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" وجواب: "إن الَّذِين كفروا" قوله جلّ ثناؤه: "أولئك يُنادَوْنَ من مكان بعيد". باب الإتباع للعرب الأتْباع - وهو أن تُبْبَعَ الكلمةُ الكلمةَ عَلَى وزنها أَوْ روِيّا إشباعاً وتأكيداً. ورُوي أن بعض العرب سُئِل عن ذَلِكَ فقال: هو شيءٌ نَتدبر بِهِ كلامنا. وذلك قولهم: "ساغِبٌ لاغِب" و "هو خَبٌّ ضَبّ" و "خَرابٌ يَباب". وَقَدْ شاركَتْ العَجَمُ العربَ فِي هَذَا الباب. باب الأوصاف الَّتِي لَمْ يسمع لَهَا بأفعال والأفعالِ الَّتِي لَمْ يُوصف بِهَا قال الخليل: "ظَبيٌ عَنَبَانٌ" أي نشيط، قال: وَلَمْ نسمع للعنبان فعلاً، قال: "يَشُدُّ شد العَنَبان البارح" قال: و "الخَضِيعَةُ" صوت يخرج من قُنبِ الدّابّة ولا فعل لَهَا. ويقولون فِي التحقير: "هو دُونٌ" ولا فعل لَهُ. قال أبو زَيْد: يقال للجبان: "إنه لَمَفْؤدٌ" ولا فعل لَهُ. قال: و "الخَبِطة" مثل الرَّفَض من اللبن والماء ولا فعل لَهَا. وقال: "أمجَدْتُ الإِبلَ إمجاداً" إذَا أنت أشبعْتَها ولا فعل لَهَا فِي هذا. و "المَزِيّةُ" الفضل ولا فعل لَهَا. قال أبو زيد: يقال: "مَا ساءه وناءه" تأكيدٌ للأول ولم يعرفوا من "ناءه" فعلاً، لا يقولون: "يَنُؤُهُ" كما يقال: "يَسُؤُهُ". ومن الأفعال الَّتِي لَمْ يُوصَف بِهَا قولُنا: "ذَرأ الله الخَلْق" قال الله عزّ وجلّ: "يَذْرَؤُكم فِيهِ" وَلَمْ يُسمع فِي صفاته جل ثناؤه: "الذّارِيء". باب النحت العرب تَنْحَتُ من كلمتين كلمةً واحدة، وهو جنس من الاختصار، وذلك: "رجل عَبْشَميّ" منسوب إِلَى اسمين، وأنشد الخليل: أقول لَهَا ودمعُ العين جارٍ
ألَمْ تَحْزُنْكِ حَيْعَلةُ المنادي مكن قوله: "حَيَّ علي". وهذا مذهبنا فِي أنّ الأشياء الزائدة عَلَى ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت، مثل قول العرب للرجل الشديد "ضَبَطرٌ" وَفِي "الصِّلِّدْم" إنه من "الصَّلد" و "الصَّدْم". وَقَدْ ذكرنا ذَلِكَ بوجوهه فِي كتاب مقاييس اللغة. باب الإشباع والتأكيد تقول العرب: "عَشَرةٌ وعَشَرة فتلك عشرون" وذلك زيادة فِي التأكيد ومنه قوله جلّ ثناؤه: "فصيام ثلاثة أيام فِي الحج وسبعة إذَا رجعتم، تِلْكَ عَشَرة كاملة" وإنما قال هَذَا لنفي الاحتمال ان يكون أحدهما واجباً إما ثلاثة وغما سبعة فأُكّد وأزيل التوهّمِ بأن جُمِعَ بَيْنَهما. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: "ولا طائر يَطيرُ بِجَنَاحَيْه" إنما ذكر الجَناحين لأن العرب قَدْ تُسمّي الإِسراعَ طيرَاناً، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "كلَّما سَمعَ هَيْعة طار إليها أخرى". وكذلك قوله: "يقولون بألسِنَتهم" فذلك الألسنة لأن الناس يقولون: "قال فِي نفسه كذا" قال الله جلّ ثناؤه: "ويقولون فِي أنفسهم لولا يعذّبنا الله بما نقول" فاعلم أن ذَلِكَ باللسان دون كلام النفس. باب الفصل بَيْنَ الفعل والنعت النعت يؤخذ عن الفعل نحو: "قامَ فهو قائم" وهذا الَّذِي يسمّيه بعض النحويين الدائمَ وبعض يسميه اسمَ الفاعل. وتكون لَهُ رتبة زائدة عَلَى الفاعل. قال الله جلّ ثناؤه: "ولا تجعلْ يدَكَ مَغلولة إِلَى عُنثقِكَ" وَلَمْ يقل: لا تغلَّ يدك، وذلك أن النعت ألزَمُ، ألا ترى أنا نقول: "وعصى آدم ربَّه فغوى" ولا نقول: آدمُ عاصٍ غاوٍ، لأن النعوت لازمة وآدم وإن كَانَ عصى فِي شيء فإنه لَكَ يكن شأنه العصيان فيُسمى بِهِ، فقوله جلّ ثناؤه: "لا تجعل يدَكَ مغلولة" أي لا تكونَنّ عادَتُك فتكون يدك مغلولةً. ومنه قوله جلّ ثناؤه: "وقال الرسول: يَا ربّ إن قومي اتخذوا هَذَا القرآن مهجوراً" وَلَمْ يقل هَجَرُوا لأن شأنَ القوم كَانَ هجران القرآن وشأنُ القرآن عندَهم أن يُهجَر أبداً فلذلك قال والله أعلم: "اتَّخَذوا هَذَا القرآن مهجوراً" وهذا قياسُ الباب كله. باب الشعر الشِّعرْ - كلام مَوْزونٌ مُقفّى دَالٌّ عَلَى معنىً. ويكون أكثرَ من بيت. وإنما قلنا هَذَا لأنّ جائزاً اتِّفاقُ سَطرٍ واحد بوزن يُشبه وزنَ الشِّعر عن غير قصد، فقد قيل: إن بعض الناس كتب فِي عنوانه كتاب "للأمير المُسَيَّب بن زهير - من عِقالِ بن شبَّةَ بن عِقالِ" فاستوى هَذَا فِي الوزن الَّذِي يُسمّى "الخفيف". ولعلّ الكاتب لَمْ يقصد بِهِ شِعْراً. وقد ذكر ناس فِي هَذَا كلمات من كتاب الله جلّ ثناؤه كَرِهْنا ذكرَها، وَقَدْ نزّه الله جلّ ثناؤه كتابه عن شَبه الشِّعر كما نزّه نبيَّه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن قوله. فإن قال قائل: فما الحِكمةُ فِي تنزيه الله جلّ ثناؤه نبيَّه عن الشعر? قيل لَهُ: أوّل مَا فِي ذَلِكَ حكم الله جلّ ثناؤه بأنّ: "الشعراء يتَّبِعُهم الغاوون، وأنهم فِي كل واد يَهيمُون، وأنَّهم يقولون مَا لا يَفْعلون" ثُمَّ قال: "إِلاَّ الَّذِين أمنوا وعملوا الصالحات" ورسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وإن كَانَ أفضل المؤمنين إيماناً وأكثر الصالحين عَمَلاً للصالحات فلم يكن ينبغي لَهُ الشعر بحال، لأن للشعر شرائِط لا يُسمى الإنسان بغيرها شاعراً، وذلك أن إنساناً لَوْ عَمِلَ كلاماً مستقيماً موزوناً يتحرّى فِيهِ الصدق من غير أن يُفْرِط أَوْ يتعدَّى أَوْ َضمينَ أَوْ يأتي فِيهِ بأشياء لا يمكن كونها بتَّةً لما سمّاهُ الناسُ شاعراً ولكان مَا يقوله مَخْسولاً ساقطاً. وَقَدْ قال بعض العقلاء وسُئِل عن الشعر فقال: "إن هَزَلَ أضحكَ، وإن جَدَّ كَذَبَ" فالشاعر بين كَذِب وإِضحاك، فإذ كَانَ كذا فقد نزّه الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن هاتين الخِصْلتين وعن كل أمر دنيء. وبعد فإنّا لا نكاد نرى شاعراً إِلاَّ مادِحاً ضارعاً أَوْ هاجياً ذا قدع، وهذه أوصاف لا تصلُح لنبي. فإن قال: فقد يكون من الشِّعر الحُكْمُ كما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إن من البيان لسِحْراً"، وإن من الشِّعر لحِكمة" أَوْ قال: "حُكماً" - قيل لَهُ: إنما نزّه الله جلّ ثناؤه نبيه عن قِيل الشعرِ لما ذكرناه، فأمّا الحِكمة فقد آتاه الله جلّ ثناؤه من ذَلِكَ القِسْم الأجزَلَ والنَّصيبَ الأوفى الأزكى: قال الله جلّ ثناؤه فِي صفة نبيّه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ويُزكِّيهم ويعلِّمهم الكتابِ والحِكمة" وقال: "واذكُرْنَ مَا يُتلى بيوتكنّ من آيات الله والحكمة" فآيات الله القرآن، والحكمةُ سُنَّته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. ومعنىً آخر فِي تنزيه الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن قيل الشعر أن أهل العَروض مُجْمِعون عَلَى أنه لا فَرْقَ بَيْنَ صِناعة العروضِ وصناعَة الإيقاع. إِلاَّ أن صِناعة الإيقاع تَقسِم الزمانَ بالنَّغَم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة. فلما كَانَ الشعر ذا مِيزَان يناسبُ الإيقاعَ، والإيقاعُ ضربٌ من الملاهي لَمْ يصلُح ذَلِكَ لرسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وآله وسلم. وَقَدْ قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَا أنا من دَدٍ ولا دَدٌ ولا دَدٌ مني". والشِّعر ديوانُ العرب، وبه حُفِظت الأنساب، وعُرِفت المآثر، ومنه تُعلِّمت اللغة. وهو حُجَّةٌ فيما أشْكَلَ من غريب كتاب الله جلّ ثناؤه وغريب حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وحديث صحابته والتابعين. وَقَدْ يكون شاعرٌ أشْعَرَ، وشِعْرٌ أحلى أَوْ أظرف. فأمّا أن يتَفاوَتَ الأشعار القديمة حَتَّى يتباعد ما بينها فِي الجودة فلا. وبشكُلٍّ يُحْتَجّ وإلى كلٍّ يُحتاج. فأما الاختيار الَّذِي يراه الناسُ للناس فشَهَوات، كلٌّ مستحسِنٌ شيئاً. والشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ولا يمدُّون المقصور، ويقدّمون ويؤخرون، ويؤمنون ويشيرون، ويختلسون ويُعيرون ويستعيرون. فأما لحنٌ فِي إعراب أَوْ إزالةُ كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذَلِكَ. ولا معنى لفول من يقول: إن للشاعر عند الضرورة أن يأتيَ فِي شِعره بما لا يجوز. ولا معنى لقول من قال: ألم يأتيكَ والأنباء تَنْمي وهذا وإن صحّ وَمَا أشبهه من قوله: لما جَفا إخوانُه مصْعَباً وقوله: قِفا عند مِمّا تعرِفان رُبوعُ فكلُّه غلط وخطأ، وَمَا جعل الله الشعراء معصومين يُوَقَّوْن الخطأ والغلط، فما صحَّ من شعرهم فمقبول، وَمَا أبَتْهُ العربية وأصولها فَمَرْدُودُ. بَلَى للشاعر إذَا لَمْ يَطَّرِدْ لَهُ الَّذِي يُريده فِي وزن شعره أن يأتي بما يقوم مقامه بَسْطاً واختِصاراً وإبْدالاً بعد أن لا يكون فيما يأتيه مُخْطِئاً أَوْ لاحناً، فله أن يقول: كالنَّحْلِ فِي ماءِ رُضابِ العَذْبِ وهو يُريد العسَل، وله أن يقول: مثل الفَنِيق هَنَأتَهُ بعَصيمِ و "العصيم" أثر الهِناء. وإنما أراد هَنَأتَه بهِناء. وله أن يبسُط فيقول كما قال الأعشى: إن تَرْكَبوا فركوب الخيل عادَتُنا
أَوْ تَنْزِلونَ فإنَّا مَعْشَـرٌ نُـزُل معناه: إن تركبوا رَكِبنا وإن تنزلوا نزلنا، لكن لَمْ يستقم لَهُ إِلاَّ بالبسط وكذلك قوله: وإن تسكُني نجداً فيا حَبَّذا نَجْدُ أراد: أن تسكني نجداً،سكناه فبَسط لما أراد إقامة الشِّعر، أنشدنيها أبي فارس بن زكريّاء قال أنشدني أبو عبد الله محمد بن سعدان النحوي الهمذاني قال أنشدني أبو نَصْر صاحب الأصمعي: لمن دمعَتان لَيسَ لي بِهما عَـهـدُ
بِحَيثُ التقى الدَّاراتُ والجَرَعُ الكُبدُ قَضَيْت الغوانـي غـير أنَّ مَـوَدَّةً
لِذَلْفاءَ ما قضيت أخِرَهـا بـعـدُ فيا رَبْوَةَ الرَّبْعَـيْن حُـيّيتِ ربـوةً
عَلَى النأْي مني، واسْتَهَلَّ بكِ الرَّغْدُ فإن تَدَعي نَجْداً نَدَعْـهُ ومـن بِـهِ
وإن تَسكُنِي نجداً فيا حَبَّـذا نـجْـدُ وما سوى هَذَا مما ذَكِرَتِ الرُّواةُ أن الشُّعراء غلطوا فِيهِ فقد ذكرناه فِي "كتاب خُضارة" وهو "كتاب نعت الشِّعر" وهذا تمام الكتاب الصاحبي أتم الله عَلَى "الصاحب" الجليل النِّعَم، وأسْبغَ لَهُ المواهِبَ، وسَنَّى لَهُ المَزِيدَ من فضلِهِ، إنه وليُّ ذَلِكَ والقادِرُ عَلَيْهِ. وصلى الله تعالى عَلَى نبيه محمد وآله أجمعين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.