العاشق المخدوع

العاشق المخدوع

​العاشق المخدوع​ المؤلف إيليا أبو ماضي


أبصرتها في الخمس و العشر
فرأيت أخت الرئم و البدر
عذراء ليس الفجر والدها
و كأنّها مولودة الفجر
بسّامة في ثغرها درر
يهفو إليها الشاعر العصري
و لها قوام لو أشبّهه
بالغصن باء الغصن بالفخر
مثل الحمامة في وداعتها
و كزهرة انّسرين في الطهر
مثل الحمامة غير أنّ لها
صوت الهزار و لفتة الصقر
شاهدتها يوما وقد جلست
في الرّوض بين الماء و الزهر
ويد الفتى " هنري " تطوّقها
فحسدت ذاك الطّوق في الخصر
و حسدت مقلته و مسمعه
لجمالها و كلامها الدرّي
أغمضت أجفاني على مضض
و طويت أحشائي على الجمر
و خشيت أنّ الوجد يسلبني
حلمي، و يغلبني على أمري
فرجعت أدراجي أغالبه
باليأس آونة و بالصّبر
ثمّ انقضى عام و أعقبه
ثان و ذاك السرّ في صدري
فعجبت، منّي كيف أذكرها
و قد انقضى حولان من عمري
خلت اللّيالي في تتابعها
تزري بها عندي فلم تزر
زادت ملاحتها فزدت بها
كلفا، و موجدة على " هنري "
و سئمت داري و هي واسعة
فتركتها و خرجت في أمر
فرأيت فتيان الحمى انتظموا
كالعقد، أو كالعسكر المجر
يتفكّهون بكلّ نادرة
و على الوجوه علائم البشر
ساروا فأعجبني تدفّقهم
فتبعتهم أدري و لا أدري
ما بالهم؟ و لأية وقفوا؟
لمن البناء يلوح كالقصر
أوّاه! هذي دار فاتنتي
من قال ما للشمس من خدر
و عرفت من " فرجين " جارتها
ما زادني ضرّا على ضرّ
قد كان هذا يوم خطبتها
يا أرض ميدي! يا سما خرّي
و رأيت ساعدها بساعده
فوددت لو غيّبت في قبر
و شعرت أن الأرض واجفة
تحتى، و أنّ النار في صدري
و خشيت أنّ الوجد يسلبني
حلمي و يغلبني على أمري
فرجعت أدراجي أغالبه
اليأس آونة و بالصّبر
قالوا: الكنيسة خير تعزية
لمن ابتلي في الحبّ بالهجر
فنذرت أن أقضي الحياة بها
و قصدتها كيما أفي نذري
لازمتها بدرين ما التفتت
عيني إلى شمس و لا بدر
أتلو أناشيد النبيّ ضحى
و أطالع الإنجيل في العصر
حينا مع الرهبان، آونة
وحدي، و أحيانا مع الحبر
في الغاب فوق العشب مضطجعا
في السّفح مستندا إلى الصّخر
في غرفتي، و الريح راكدة
بين المغارس، و الصّبا تسري
حتى إذا ما القلب زايلة
تبريحه، و صحوت من سكري
و سلوتها و سلوت خاطبها
و ألفت عيش الضنك و العسر
عاد القضاء إلى محاربتي
ورجعت للشكوى من الدهر
في ضحوة وقف النسيم بها
متردّدا في صفحة النهر
كالشاعر الباكي على طلل
أو قاريء حيران في سفر
و الشمس ساطعة و لامعة
تكسو حواشي النهر بالتبر
و الأرض حالية جوانبها
بالزّهر من قان و مصفرّ
فكأنّها بالعشب كاسية
حسناء في أثوابها الخضر
و علا هتاف الطير إذ أمنت
بأس العقاب و صوله النسر
تتلو على أهل الهوى سورا
ليست بمنظوم و لا نثر
يحنو الهزار على أليفته
و يداعب القمريّة القمري
و انساب كلّ مصفّق عذب
و اهتزّ كلّ مهفهف نضر
فتذكّرت نفسي صبابتها
ما أولع المهجور بالذّكر
أرسلت طرفي رائد فجرى
و جرى على آثاره فكري
حتى دوى صوت الرئيس بنا
فهرعت و الرهبان في إثري
و إذا بنا نلقى كنيستنا
بالوافدين تموج كالبحر
و إذا " بها " و إذا الفتى هنري
في حلّة بيضاء كالفجر
تمشي بين ذي أدب
حلو، و بين مليحة بكر
رفع الرئيس عليها يده
و أنا أرى و يدي على صدري
يا قلب ذب! يا مهجتي انفطري
يا طرف فض بالأدمع الحمر
أغمضت أجفاني على مضض
و طويت أحشائي على الجمر
و خشيت أنّ الوجد يسلبني
حلمي، و يغلبني على أمري
فرجعت أدراجي أغالبه
باليأس آونة و بالصبر
و خرجت لا ألوي على أحد
و رضيت بعد الزّهد بالكفر
أشفقت من همّي على كبدي
و خشيت من دمعي على نحري
فكلفت بالصهباء أشربها
في منزلي، في الحان، في القفر
أبغي الشفاء من الهموم بها
فتزيدني وقرا على وقر
و تزيدني و لعا بها و هوى
و تزيدني حقدا على هنري
قال الطبيب و قد رأى سقمي:
لله من فعل الهوى العذري
ما لي بدائك يا فتى قبل
السحر محتاج إلى سحر
و مضى يقلّب كفّه أسفا
و لبثت كالمقتول في الوكر
ما أبصرت عيناي غانية
إلاّ ذكرت إلى الدمى فقري
و سئمت داري و هي واسعة
فتركتها و خرجت في أمر
فرأيتها في السوق واقفة
و دموعها تنهلّ كالقطر
في بردة كاللّيل حالكة
لهفي على أثوابها الحمر
فدنوت أسألها وقد جزعت
نفسي، وزلزل حزنها ظهري
قالت: قضى هنري! فقلت: قضى
من كاد لي كيدا و لم يدر
لا تكرهوا شرّا يصيبكم
فلربّ خير جاء من شرّ
رهفا هواها بي فقلت لها:
قد حلّ هذا الموت من أسري
قالت: و من أسري! فقلت: إذن
لي أنت؟ قالت: أنت ذو الأمر
فأدرت زندي حول منكبها
و لثمتها في النحر و الثّغر
و شفيت نفسي من لواعجها
و تأرت بالتصريح من سرّي
ثمّ انثنيت بها على عجل
باب الكنيسة جاعلا شطري
و هناك باركني و هنّأني
من هنّأوا قبلي الفتى هنري
من بعد شهر مرّ لي معها
أبصرت وضح الشيب في شعري
ما كنت أدري قبل صحبتها
أنّ المشيب يكون في شهر
فكرت في هنري و كيف قضى
فوجدت هنري واضح العذر
يا طالما قد كنت أحسده
و اليوم أحسده على القبر