العقيدة الحموية الكبرى/الصفحة الخامسة



ومن متأخريهم الشيخ الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني قال في كتاب الغنية : أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد. إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستو على العرش محتو على الملك محيط علمه بالأشياء { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان؛ بل يقال إنه في السماء على العرش كما قال: { الرحمن على العرش استوى }. وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنه استواء الذات على العرش « قال: وكونه على العرش: مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف وذكر كلاما طويلا لا يحتمله هذا الموضع وذكر في سائر الصفات نحو هذا.

ولو ذكرت ما قاله العلماء في هذا لطال الكتاب جدا.

قال أبو عمر بن عبد البر: روينا عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت.

قال أبو عمر: ما جاء عن النبي من نقل الثقات أو جاء عن أصحابه رضي الله عنهم فهو علم يدان به؛ وما أحدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم فهو بدعة وضلالة.

وقال في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال:

هذا حديث ثابت النقل صحيح من جهة الإسناد ولا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق - سوى هذه - من أخبار العدول عن النبي وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش استوى من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله تعالى في كل مكان بذاته المقدسة.

قال: والدليل على صحة ما قال أهل الحق قول الله - وذكر بعض الآيات - إلى أن قال: وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم. وقال أبو عمر بن عبد البر أيضا: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله وقال أبو عمر أيضا: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة؛ لا على المجاز إلا إنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج: فكلهم ينكرونها ولا يحملون شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود والحق فيما قاله القائلون: بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله وهم أئمة الجماعة. هذا كلام ابن عبد البر إمام أهل المغرب.

وفي عصره الحافظ أبو بكر البيهقي مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري وذبه عنهم قال: في كتابه الأسماء والصفات :

باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين - لا من حيث الجارحة - لورود خبر الصادق به قال الله تعالى: { يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } وقال: { بل يداه مبسوطتان }. وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب مثل قوله في غير حديث في حديث الشفاعة: { يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده » ومثل قوله في الحديث المتفق عليه: « أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده » وفي لفظ: « وكتب لك التوراة بيده » ومثل ما في صحيح مسلم « أنه سبحانه غرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده » ومثل قوله : « تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر؛ نزلا لأهل الجنة ». وذكر أحاديث مثل قوله: « بيدي الأمر » « والخير في يديك » « والذي نفس محمد بيده » و « أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل » وقوله: « المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين » وقوله: « يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ». وقوله: « يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع » وكل هذه الأحاديث في الصحاح. وذكر أيضا قوله: « إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان اختر أيهما شئت. قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة » وحديث « إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيده » إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع.

ثم قال البيهقي :

أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب؛ وكذلك قال في الاستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية؛ مع أنه يحكي قول بعض المتأخرين.

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل :

لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها والواجب حملها على ظاهرها وأنها صفات الله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق؛ ولا يعتقد التشبيه فيها؛ لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة. وذكر بعض كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري والأوزاعي والليث وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة والفضيل بن عياض ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي والأسود بن سالم وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم في هذا الباب. وفي حكاية ألفاظهم طول. إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها؛ ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها؛ فلو كان التأويل سائغا لكانوا أسبق إليه؛ لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة.

وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين وذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم. ثم قال: مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث، جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله تعالى؛ وما رواه الثقات عن رسول الله لا يردون شيئا من ذلك وأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } وأن له يدين بلا كيف كما قال: { خلقت بيدي } وكما قال: { بل يداه مبسوطتان } وأن له عينين بلا كيف كما قال { تجري بأعيننا } وأن له وجها كما قال: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }. وأن أسماء الله تعالى لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا أن لله علما كما قال: { أنزله بعلمه } وكما قال: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } وأثبتوا له السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } وذكر مذهبهم في القدر. إلى أن قال: ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقرون أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن الله محجوبون قال عز وجل: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء. إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار. إلى أن قال: وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم ويسلمون الروايات الصحيحة كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله ؛ لا يقولون كيف ولا لم؟ لأن ذلك بدعة عندهم. إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: { وجاء ربك والملك صفا صفا } وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء؛ كما قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الآثار؛ والنظر في الفقه مع الاستكانة والتواضع؛ وحسن الخلق مع بذل المعروف؛ وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والشكاية وتفقد المآكل والمشارب. قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب؛ وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان.

وقال الأشعري أيضا في اختلاف أهل القبلة في العرش فقال:

قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم؛ ولا يشبه الأشياء وإنه استوى على العرش؛ كما قال: { الرحمن على العرش استوى } ولا نتقدم بين يدي الله في القول؛ بل نقول استوى بلا كيف وإن له وجها كما قال: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }. وأن له يدين كما قال { خلقت بيدي } وأن له عينين كما قال: { تجري بأعيننا } وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: { وجاء ربك والملك صفا صفا }. وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله . وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى وذكر مقالات أخرى.

وقال أيضا أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه الإبانة في أصول الديانة وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه - فقال: -

فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة

فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة؛ فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له:

قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل؛ والرئيس الكامل؛ الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال؛ وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين؛ فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهم. وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاءوا به من عند الله وبما رواه الثقات عن رسول الله لا نرد من ذلك شيئا؛ وأن الله واحد لا إله إلا هو فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا؛ وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله مستو على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } وأن له وجها كما قال: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وأن له يدين بلا كيف كما قال: { خلقت بيدي } وكما قال: { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } وأن له عينين بلا كيف كما قال: { تجري بأعيننا } - وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا وذكر نحوا مما ذكر في الفرق

إلى أن قال: ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله . إلى أن قال:

وإن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي إلى رسول الله - إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول « هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ } وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل: ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: { وجاء ربك والملك صفا صفا } وإن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وكما قال: { ثم دنا فتدلى } { فكان قاب قوسين أو أدنى }. إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره بابا بابا. ثم تكلم على أن الله يرى واستدل على ذلك؛ ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال لا أقول: إنه مخلوق ولا غير مخلوق ورد عليه.

ثم قال: باب ذكر الاستواء على العرش فقال إن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله مستو على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } وقال تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال تعالى { بل رفعه الله إليه } وقال تعالى: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } وقال تعالى حكاية عن فرعون { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات وقال تعالى: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال { أأمنتم من في السماء } لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال { أأمنتم من في السماء } يعني جميع السموات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال تعالى: { وجعل القمر فيهن نورا } ولم يرد أن القمر يملؤهن وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء: لأن الله على عرشه الذي هو فوق السموات فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. ثم قال:

فصل

وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله { الرحمن على العرش استوى } أنه استولى وقهر وملك وأن الله عز وجل في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء - وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها - لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار؛ لأنه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها. وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل.

ثم قال باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين، وذكر الآيات في ذلك، ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته، مثل قوله: فإن سئلنا أتقولون لله يدان؟ قيل: نقول ذلك وقد دل عليه قوله تعالى: { يد الله فوق أيديهم } وقوله تعالى: { لما خلقت بيدي } وروي عن النبي أنه قال « إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده » وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي : « أن الله خلق آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده » وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا بيدي ويريد بها النعمة وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل: فعلت كذا بيدي ويعني بها النعمة: بطل أن يكون معنى قوله تعالى { بيدي } النعمة. وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه.

وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم - وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري؛ ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده - قال في كتاب الإبانة تصنيفه:

فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قيل له قوله: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وقوله تعالى: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } فأثبت لنفسه وجها ويدا. فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إن كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلا جارحة؟ قلنا لا يجب هذا كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا؛ لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك وكذلك الجواب لهم إن قالوا: يجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضا واعتلوا بالوجود. وقال: فإن قال فهل تقولون إنه في كل مكان ؟. قيل له: معاذ الله بل مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: { الرحمن على العرش استوى } وقال الله تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وقال: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور }. قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها؛ ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان؛ ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. وقال أيضا في هذا الكتاب: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها: هي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان والغضب والرضا.

وقال في كتاب التمهيد كلاما أكثر من هذا - لكن ليست النسخة حاضرة عندي - وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في مثل هذا الباب كثير لمن يطلبه وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام.

وملاك الأمر أن يهب الله للعبد حكمة وإيمانا بحيث يكون له عقل ودين حتى يفهم ويدين ثم نور الكتاب والسنة يغنيه عن كل شيء؛ ولكن كثيرا من الناس قد صار منتسبا إلى بعض طوائف المتكلمين ومحسنا للظن بهم دون غيرهم ومتوهما أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم؛ فلو أتى بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم. ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم؛ فلو أنهم أخذوا بالهدى: الذي يجدونه في كلام أسلافهم لرجي لهم مع الصدق في طلب الحق أن يزدادوا هدى ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة؛ ثم لا يتمسك بما جاءت به من الحق: ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم: { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } فإن اليهود قالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا. قال الله تعالى لهم { فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } أي إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم يقول سبحانه وتعالى لا لما جاءتكم به أنبياؤكم تتبعون ولا لما جاءتكم به سائر الأنبياء تتبعون ولكن إنما تتبعون أهواءكم فهذا حال من لم يقبل الحق لا من طائفته ولا من غيرها مع كونه يتعصب لطائفته بلا برهان من الله ولا بيان.


العقيدة الحموية الكبرى لابن تيمية
الصفحة الأولى | الصفحة الثانية | الصفحة الثالثة | الصفحة الرابعة | الصفحة الخامسة | الصفحة السادسة