الفصل في الملل والأهواء والنحل/الجزء الثالث

الفصل في الملل والأهواء والنحل

الجزء الثالث

عدل

الكلام في الرؤية

عدل

قال أبو محمد: ذهبت المعتزلة وجهم بن صفوان إلى أن الله تعالى لا يرى في الآخرة وقد روينا هذا القول عن مجاهد وعذره في ذلك أن الخبر لم يبلغ إليه وروينا هذا القول أيضاً عن الحسن البصري وعكرمة وقد روي عن عكرمة والحسن إيجاب الرؤية له تعالى.

وذهبت المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا و الآخرة.

وذهب جمهور أهل السنة والمرجئة وضرار بن عمرو من المعتزلة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا أصلاً.

وقال الحسن بن محمد النجار: هو جائز ولم يقطع به.

قال أبو محمد: أما قول المجسمة ففاسد بما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب والحمد لله رب العالمين وعمدة من أنكر أن الرؤية المعهودة عندنا لا تقع إلا على الألوان لا على ما عداها البتة وهذا مبعد عن الباري عز وجل.

وقد احتج من أنكر الرؤية علينا بهذه الحجة بعينها وهذا سوء وضع منهم لأننا لم نقل قط بتجويز هذه الرؤية على الباري عز وجل و إنما قلنا أنه تعالى يرى في الآخرة بقوة غير هذه القوة الموضوعة في العين الآن لكن بقوة موهوبة من الله تعالى وقد سماها بعض القائلين بهذا القول الحاسة السادسة وبيان ذلك أننا نعلم الله عز وجل بقلوبنا علماً صحيحاً هذا ما لا شك فيه فيضع الله في الأبصار قوة تشاهد بها الله وترى بها كالتي وضع في الدنيا في القلب و كالتي وضعها الله عز وجل في أذن موسى حتى شاهد الله وسمعه مكلماً له واحتجت المعتزلة بقول الله عز وجل: " لا تدركه الأبصار ".

قال أبو محمد: هذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك و الإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية وهو معنى الإحاطة ليس هذا المعنى في النظر والرؤية فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة برهان ذلك قول تعالى عز وجل: " فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ " ففرق الله عز وجل بين الإدراك والرؤية فرقاً جلياً لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله فلما ترآى الجمعان وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضاً فصمت منهم الرؤية لبني إسرائيل ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم كلا إن معي ربي سيهدين فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ولا في أن ما نفاه الله تعالى عز وجل فهو غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو قول الله تعالى: " وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة " واعترض بعض المعتزلة وهو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الحبائي فقال: إن إلى هاهنا ليست حرف جر لكنها اسم وهي واحدة الآلاء وهي النعم فهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة.

قال أبو محمد: وهذا بعيد لوجهين أحدهما أن الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت له النضرة وهي النعمة والنعمة نعمة فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن ينتظر ما قد حصل لها وإنما ينتظر ما لم يقع بعد والثاني تواتر الأخبار عن النبي ببيان أن المراد بالنظر هو الرؤية لا ما تأوله المتأولون وقال بعضهم: إن معناها إلى ثواب ربها أي منتظرة ناظرة.

قال أبو محمد: هذا فاسد جداً لأنه لا يقال نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته.

قال أبو محمد: وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع لأن من فعل غير ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله فإن قال قائل: إن حمل اللفظ على المعهود أولى من حمله على غير المعهود قيل له الأولى في ذلك حمل الأمور على معهودها في اللغة ما لم يمنع من ذلك نص أو إجماع أو ضررة ولم يأت نص ولا إجماع ولا ضررة تمنع ما ذكرنا في معنى النظر وقد وافقتنا المعتزلة على أنه لا عالم عندنا إلا بضمير وأنه لا فعال إلا بمعاناة ولا رحيم إلا برقة قلب ثم أجمعوا معنا على أن الله تعالى عالم بكل ما يكون بلا ضمير وأنه عز وجل فعال بلا معاناة ورحيم بلا رقة فأي فرق بين تجويزهم ما ذكرناه وبين تجويزهم رؤية و نظراً بقوة غير القوة المعهودة لولا الخذلان ومخالفة القرآن والسنن نعوذ بالله من ذلك.

وقد قال بعض المعتزلة: أخبرونا إذا رؤي الباري أكله يرى أم بعضه.

قال أبو محمد: وهذا سؤال تعلموه من الملحدين إذا سألونا نحن و المعتزلة فقالوا: إذا علمتم الباري تعالى أكله تعلمونه أم بعضه.

قال أبو محمد: وهذا سؤال فاسد مغالط به لأنهم أثبتوا كلاً وبعضاً حيث لا كل ولا بعض و الكل والبعض لا يقعان إلا في ذي نهاية والباري تعالى خالق النهاية والمتناهى فهو عز وجل لا متناه ولا نهاية فلا كل له ولا بعض.

قال أبو محمد: والآية المذكورة والأحاديث الصحاح المأثورة في رؤية الله تعالى يوم القيامة موجبة القبول لتظاهرها وتباعد ديار الناقلين لها ورؤية الله عز وجل يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا الله ذلك بفضله ومحال أن تكون هذه الرؤية رؤية القلب لأن جميع العارفين به تعالى يرونه في الدنيا بقلوبهم وكذلك الكفار في الآخرة بلا شك فإن قال قائل: إنما أخبر تعالى بالرؤية عن الوجه قيل وبالله تعالى التوفيق: معروف في اللغة التي بها خوطبنا أن تنسب الرؤية إلى قال بعض الأعراب: أنافس من ناجاك مقدار لفظة وتعتاد نفسي أن نأت عنك معينها وإن وجوهاً يصطبحن بنظرة إليك لمحسود عليك عيونها

الكلام في القرآن وهو القول في كلام الله تعالى

عدل

قال أبو محمد: واختلفوا في كلام الله عز وجل بعد أن أجمع أهل الإسلام كلهم أن لله تعالى كلاماً وعلى أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام وكذلك سائر الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف فكل هذا لا اختلاف فيه بين أحد من أهل الإسلام ثم قالت المعتزلة إن كلام الله تعالى صفة فعل مخلوق وقالوا أن الله عز وجل كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة وقال أهل السنة أن كلام الله عز وجل هو علمه لم يزل وأنه غير مخلوق وهو قول الإمام أحمد بن حنبل وغيره رحمهم الله وقالت الأشعرية كلام الله تعالى صفة ذات لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله تعالى وخلاف الله تعالى وهو غير علم الله تعالى وأنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد.

قال أبو محمد: واحتج أهل السنة بحجج منها أن قالوا أن كلام الله تعالى لو كان غير الله لكان لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضا فلو كان جسماً لكان في مكان واحد ولو كان ذلك لكنا ولو كان عرضاً لاقتضى حاملاً ولكان كلام الله تعالى الذي هو عندنا هو غير كلامه الذي عند غيرنا وهذا محال ولكان أيضاً يغنى بغناء حامله وهذا لا يقولونه وبالله تعالى التوفيق.

قالوا: ولو سمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى من غير الله تعالى لما كان له عليه السلام في ذلك فضل علينا لأننا نسمع كلام الله عز وجل من غيره فصح أن لموسى عليه السلام مزية على من سواه وهو أنه عليه السلام سمع كلام الله بخلاف من سواه وأيضاً فقد قامت الدلائل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا بمعنى من المعاني فلما كان كلامنا غيرنا وكان مخلوقاً وجب ضرورة أن يكون كلام الله تعالى ليس مخلوقاً وليس غير الله تعالى - كما قلنا - في العلم سواء بسواء.

قال أبو محمد: وأما الأشعرية فيلزمهم في قولهم أن كلام الله غير الله ما ألزمناهم في العلم وفي القدرة سواء بسواء مما قد تقصيناه قبل هذا والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ليس لله تعالى إلا كلام واحد فخلاف مجرد لله تعالى ولجميع أهل الإسلام لأن الله عز وجل يقول: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " ويقول تعالى: " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ".

قال أبو محمد: ولا ضلال أضل ولا حياء أعدم ولا مجاهرة أطم ولا تكذيب لله أعظم ممن سمع هذا الكلام الذي لا يشك مسلم أنه خبر الله تعالى الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه بأن لله كلمات لا تنفذ ثم يقول هو من رأيه الخسيس أنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد فإن ادعوا أنهم فروا من أن يكثروا مع الله أكذبهم قولهم أن هاهنا خمسة عشرة شيئاً كلها متغايرة وكلها غير الله وخلاف الله وكلها لم تزل مع الله تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

قال أبو محمد: وقالت أيضاً هذه الطائفة المنتمية إلى الأشعرية أن كلام الله تعالى عز وجل لم ينزل به جبريل عليه السلام على قلب محمد وإنما نزل عليه بشيء آخر هو عبارة عن كلام الله تعالى وأن الذي نقرأ في المصاحف ويكتب فيها ليس شيء منها كلام الله وأن كلام الله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله تعالى لا يزايل الباري ولا يقوم بغيره ولا يحل في الأماكن ولا ينتقل ولا هو حروف موصولة ولا بعضه خير من بعض ولا أفضل ولا أعظم من بعض وقالوا لم يزل الله تعالى قائلاً لجهنم: " هل امتلأت " وقائلاً للكفار " اخسؤوا فيها ولا تكلمون " ولم يزل تعالى قائلاً لكل ما أراد تكوينه كن.

قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد بلا تأويل وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله أم لا فإن قالوا ليس هو كلام الله كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا بل هو كلام الله سألناهم عن القرآن أهو الذي يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويحفظ في الصدور أم لا! فإن قالوا لا كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد وأقروا أن كلام الله تعالى في المصاحف ومسموع من القراء ومحفوظ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام.

قال أبو محمد: وقال قوم في اللفظ بالقرآن ونسبوا إلى أهل السنة أنهم يقولون أن الصوت غير مخلوق والخط غير مخلوق.

قال أبو محمد: وهذا باطل وما قال قط مسلم أن الصوت الذي هو الهواء غير مخلوق وأن الخط غير مخلوق.

قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق هو ما قاله الله عز و جل ونبينا محمد لا نزيد على ذلك شيئاً وهو أن قول القائل القرآن وقوله كلام الله كلاهما معنى واحد واللفظان مختلفان والقرآن هو كلام الله عز وجل على الحقيقة بلا مجاز ونكفر من لم يقل ذلك ونقول أن جبريل عليه السلام نزل بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى على الحقيقة على قلب محمد كما قال تعالى " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " ثم نقول أن قولنا القرآن وقولنا كلام الله لفظ مشترك يعبر به عن خمسة أشياء فنسمي الصوت المسموع الملفوظ به قرآناً ونقول أنه كلام الله تعالى على الحقيقة وبرهان ذلك هو قول الله عز وجل: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وقوله تعالى: " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه " وقوله تعالى: " فاقرؤوا ما تيسر من القرآن " وأنكر على الكفار وصدق مؤمني الجن في قولهم: " إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد " فصح أن المسموع وهو الصوت الملفوظ به هو القرآن حقيقة وهو كلام الله تعالى حقيقة من خالف هذا فقد عاند القرآن ويسمى المفهوم من ذلك الصوت قرآناً وكلام الله على الحقيقة فإذا فسرنا الزكاة المذكورة في القرآن والصلاة والحج وغير ذلك قلنا في كل هذا كلام الله وهو القرآن ونسمي المصحف كله قرآناً وكلام الله وبرهاننا على ذلك قول الله عز وجل: " إنه لقرآن كريم في كتابٍ مكنون " وقول رسول الله إذ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض الحرب لئلا يناله العدو وقوله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة " وكتاب الله تعالى هو القرآن بإجماع الأمة فقد سمى رسول الله المصحف قرآناً والقرآن كلام الله تعالى بإجماع الأمة فالمصحف كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ونسمي المستقر في الصدور قرآناً ونقول أنه كلام الله تعالى برهاننا على ذلك قول رسول الله إذ أمر بتعاهد القرآن وقال عليه السلام: " إنه أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقلها " وقال الله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " فالذي في الصدور هو القرآن وهو كلام الله على الحقيقة لا مجازاً ونقول كما قال رسول الله أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن وأن أم القرآن فاتحة الكتاب لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل مثلها وأن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وقال الله عز وجل: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " فإن قالوا إنما يتفاضل الأجر على قراءة ذلك قلنا لهم نعم ولا شك في ذلك ولا يكون التفاضل في شيء مما يكون فيه التفاضل إلا في الصفات التي هي أعراض في الموصوف بها وأما في الذوات فلا ونقول أيضا ًأن القرآن هو كلام الله تعالى وهو علمه وليس شيئاً غير الباري تعالى برهان ذلك قول الله عز وجل: " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم " وقال تعالى: " وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته " وباليقين يدري كل ذي فهم أنه تعالى إنما عني سابق علمه الذي سلف بما ينفذه ويقضيه.

قال أبو محمد: فهذه خمسة معان يعبر عن كل معنى منها بأنه قرآن وأنه كلام الله ويخبر عن كل واحد منها إخباراً صحيحاً بأنه القرآن وانه كلام الله تعالى بنص القرآن والسنة للذين أجمع عليهما جميع الأمة وأما الصوت فهو هواء مندفع من الحلق والصدر والحنك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامعين وهو حروف الهجاء والهواء. وحروف الهجاء والهواء كل ذلك مخلوق بلا خلاف قال الله عز وجل: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " وقال تعالى: " بلسان عربي مبين " واللسان العربي ولسان كل قوم هي لغتهم واللسان واللغات كل ذلك مخلوق بلا شك والمعاني المعبر عنها بالكلام المؤلف من الحروف المؤلفة إنما هي الله تعالى والملائكة والنبيون وسموات وأرضون وما فيهما من الأشياء وصلاة وزكاة وذكر أمم خالية والجنة والنار وسائر الطاعات وسائر أعمال الدين وكل ذلك مخلوق حاشا الله وحده لا شريك له خالق كلما دونه وأما المصحف فإنما هو ورق من جلود الحيوان ومركب منها ومن مداد مؤلف من صمغ وزاج وعفص وماء وكل ذلك مخلوق وكذلك حركة اليد في خطه وحركة اللسان في قراءته واستقرار كل ذلك في النفوس هذه كلها أعراض مخلوقة وكذلك عيسى عليه السلام هو كلمة الله وهو مخلوق بلا شك قال الله تعالى: " بكلمة منه اسمه المسيح " وأما علم الله تعالى فلم يزل وهو كلام الله تعالى وهو القرآن وهو غير مخلوق وليس هو غير الله تعالى أصلاً ومن قال أن شيئاً غير الله تعالى لم يزل مع الله عز وجل فقد جعل لله عز وجل شريكاً ونقول أن لله عز وجل كلاماً حقيقة وأنه تعالى كلم موسى ومن كلم من الأنبياء والملائكة عليهم السلام تكليماً حقيقة لا مجازاً ولا يجوز أن يقال البتة أن الله تعالى متكلم لأنه لم يسم بذلك نفسه ومن قال أن الله تعالى مكلم موسى لم ننكره لأنه يخبر عن فعله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله كلاماً لنفي الخرس عنه لما ذكرنا قبل من أنه إن كان يعني الخرس المعهود فإنه لا ينتفي إلا بالكلام المعهود الذي هو حركة اللسان والشفتين وإن كان إنما ينفي خرساً غير معهود فهذا لا يعقل أصلاً ولا يفهم وأيضاً فيلزمه أن يسميه تعالى شماماً لنفي الخشم عنه ومتحركاً لنفي الخدر وهذا كله إلحاد في أسمائه عز وجل لكن لما قال الله تعالى أن له كلاماً قلناه وأقررنا به ولو لم يقله عز وجل لم يحل لأحد أن يقوله وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: ولما كان اسم القرآن يقع على خمسة أشياء وقوعاً مستوياً صحيحاً منها أربعة مخلوقة وواحد غير مخلوق لم يجز البتة لأحد أن يقول أن القرآن مخلوق ولا أن يقال أن كلام الله مخلوق لأن قائل هذا كاذب إذا أوقع صفة الخلق على ما لا يقع عليه مما يقع عليه اسم قرآن واسم كلام الله عز وجل ووجب ضرورة أن يقال أن القرآن لا خالق له ولا مخلوق وأن كلام الله تعالى لا خالق ولا مخلوق لأن الأربعة المسميات منه ليست خالقة ولا يجوز أن تطلق على القرآن ولا على كلام الله تعالى اسم خالق ولأن المعنى الخامس غير مخلوق ولا يجوز أن توضع صفة البعض على الكل الذي لا تعمه تلك الصفة بل واجب أن يطلق نفي تلك الصفة التي للبعض على الكل وكذاك لو قال قائل أن الأشياء كلها مخلوقة أو قال للحق مخلوق أو قال كل موجود مخلوق لقال الباطل لإن الله تعالى شيء موجود حق ليس مخلوقاً لكن إذا قال الله تعالى خالق كل شيء جاز ذلك لأنه قد أخرج بذكر الله تعالى أن المخلوق في كلامه الأشكال ومثال ذلك في ما بيننا أن ثياباً خمسة الأربعة منها حمر والخامس غير أحمر لكان من قال هذه الثياب حمر كاذباً ولكان من قال هذه الثياب ليست حمراً صادقاً وكذلك من قال الإنسان طبيب يعني كل إنسان لكان كاذباً ولو قال ليس الإنسان طبيباً يعني كل إنسان لكان صادقاً وكذلك لا يجوز أن يطلق أن الحق مخلوق ولا أن العلم مخلوق لأن اسم الحق يقع على الله تعالى وعلى كل موجود واسم العلم يقع على كل علم وعلى علم الله عز وجل وهو غير مخلوق لكن يقال الحق غير مخلوق والعلم غير مخلوق هكذا جملة فإذا بين فقيل كل حق دون الله تعالى فهو مخلوق وكل علم دون الله تعالى فهو مخلوق فهو كلام صحيح وهكذا لا يجوز أن يقال أن كلام الله مخلوق ولا أن القرآن مخلوق ولكن يقال علم الله غير مخلوق وكلام الله غير مخلوق والقرآن غير مخلوق ولو أن قائلاً قال أن الله مخلوق وهو يعني صوته المسموع أو الألف واللام والهاء أو الحبر التي كتبت هذه الكلمة به لكان في ظاهر قوله عند جميع الأمة كافراً ما لم يبين فيقول صوتي أو هذا الخط مخلوق.

قال أبو محمد: فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة الذي لم نتعد فيه ما قاله الله عز وجل ورسوله وأجمعت الأمة كلها على جملته وأوجبته الضرورة والحمد لله رب العالمين فإن سأل سائل عن اللفظ بالقرآن قلنا له سؤالك هذا يقتضي أن اللفظ المسموع هو غير القرآن وهذا باطل بل اللفظ المسموع هو القرآن نفسه وهو كلام الله عز وجل نفسه كما قال تعالى: " حتى يسمع كلام الله " وكلام الله تعالى غير مخلوق لما ذكرنا وأما من أفرد السؤال عن الصوت وحروف الهجا والحبر فكل ذلك مخلوق بلا شك.

قال أبو محمد: ونقول أن الله تعالى قد قال ما أخبرنا أنه قاله وأنه تعالى لم يقل بعدما أخبرنا أنه سيقول في المستأنف ولكن سيقوله ومن تعد هذا فقد كذب الله جهلاً وأما من قال أن الله تعالى لم يزل قائلاً كن لكل ما كونه أو يريد تكوينه فإن هذا قول فاحش موجب أن العالم لم يزل لأن الله تعالى أخبرنا أنه تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئاً إن يقول له كن فيكون " فصح أن كل مكون فهو كائن إثر قول الله تعالى له كن بلا مهلة فلو كان الله تعالى لم يزل قائلاً كن لكان كل مكون لم يزل وهذا قول من قال أن العالم لم يزل وله مدبر خالق لم يزل وهكذا كفر مجرد نعوذ بالله منه وقول الله تعالى هو غير تكليمه لأن تكليم الله تعالى من كلم فضيلة عظيمة.

قال أبو محمد: قال الله تعالى: " منهم من كلم الله " وأما قوله فقد يكون سخطاً قال تعالى أنه قال لأهل النار: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال لإبليس: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " قال اخرج منها ولا يجوز أن يقال إبليس كليم الله ولا أن أهل النار كلماء الله فقول الله عز وجل محدث بالنص وبرهان ذلك أيضاً قول الله تعالى: " إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " ثم قال تعالى أنه قال لهم: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال تعالى أنهم قالوا: " ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " فنص تعالى على أنه لا يكلمهم وأنه يقول لهم فثبت يقيناً أن قول الله تعالى هو غير كلامه وغير تكليمه لكن يقول كل كلام وتكليم فهما قول وليس كل قول منه تعالى كلاماً ولا تكليماً بنص القرآن ثم نقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى أخبرنا أنه كلم موسى وكلم الملائكة عليهم السلام وثبت يقيناً أنه كلم محمداً ليلة الإسراء وقال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله " فخص الله تعالى بتكليمه بعضهم دون بعض كما ترى وقال تعالى: " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء " ففي هذه الآيات والحمد لله أكبر نص على تصحيح كل ما قلناه في هذه المسئلة وما توفيقنا إلا بالله وأخبرنا تعالى في هذه الآية أنه لا يكلم بشراً إلا بأحد هذه الوجوه الثلاثة فقط فنظرنا فيها فوجدناه تعالى قد سمى ما تأتينا به الرسل عليهم السلام تكليماً انتقل منه للبشر فصح بذلك أن الذي أتتنا به رسله عليهم السلام هو كلام الله وأنه تعالى قد كلمنا بوحيه الذي أتتنا به رسله عليهم السلام وأننا قد سمعنا كلام الله عز وجل الذي هو القرآن الموحى إلى النبي بلا شك والحمد لله رب العالمين.

ووجدناه تعالى قد سمى وحيه إلى أنبياءه عليهم السلام تكليماً لهم ووجدناه عز وجل قد ذكر وجهاً ثالثاً وهو التكليم الذي يكون من وراء حجاب وهو الذي فضل به بعض النبيين على بعض وهو الذي يطلق عليه تكليم الله عز وجل دون صلة كما كلم موسى عليه السلام " من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة " وأما القسمان الأولان فإنما يطلق عليهما تكليم الله عز وجل بصلة لا مجرداً فنقول: كلم الله جميع الأنبياء بالوحي إليهم ونقول: في القسم الثاني كلمنا الله تعالى في القرآن على لسان نبيه عليه السلام بوحيه إليه ونقول: قال لنا الله عز وجل " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " ونقول: أخبرنا الله تعالى عن موسى وعيسى وعن الجنة والنار في القرآن وفيما أوحى الله إلى رسوله ولو قال قائل: حدثنا الله تعالى عن الأمم السالفة وعن الجنة والنار في القرآن على لسان رسوله لكان قولاً صحيحاً لا مدفع له لأن الله تعالى يقول: " ومن أصدق من الله حديثاً " وكذلك يقول قص الله علينا أخبار الأمم في القرآن قال تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " ونقول: سمعنا كلام الله تعالى في القرآن على التحقيق لا مجازاً وفضل علينا الملائكة والأنبياء عليهم السلام في هذا بالوجه الثاني الذي هو تكليمهم بالوحي إليهم في النوم واليقظة دون وسيطة ملك لكن بكلام مسموع بالآذان معلوم بالقلب زائد على الوحي الذي هو معلوم بالقلب فقط أو مسموع من الملك عن الله تعالى وهذا هو الوجه الذي خص به موسى عليه السلام من الشجرة ومحمد ليلة الإسراء من المستوا الذي سمع فيه صريف الأقلام وسائر من كلم الله تعالى كذلك من النبيين والملائكة عليهم السلام قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل " ولا يجوز أن يكون شيء من هذا بصوت أصلاً لأنه كان يكون حينئذ يفيد بوسيطة مكلم غير الله تعالى وكان ذلك الصوت بمنزلة الرعد الحادث بالجو والقزع الحادث في الأجسام والوحي أعلى من هذه منزلة والتكليم من وراء حجاب أعلى من سائر الوحي بنص القرآن لأن الله تعالى سمى ذلك تفضيلاً كما تلونا وكل ما ذكرنا وإن كان يسمى تكليماً فالتكليم المطلق أعلى في الفضيلة من التكليم الموصول كما أن كل روح فهو روح الله تعالى على الملك لكن إذا قلنا روح الله على الإطلاق يعني بذلك جبريل أو عيسى عليهم السلام كان ذلك فضيلة عظيمة لهما.

قال أبو محمد: وإذا قرأنا القرآن قلنا كلامنا هذا هو كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ولا يحل حينئذ لأحد أن يقول ليس كلامي هذا كلام الله تعالى وقد أنكر الله عز وجل هذا على من قاله إذ يقول تعالى: " سأرهقه صعوداً أنه فكر وقدر فقتل كيف قدر " إلى قوله تعالى فقال: " إن هذا إلا سحر يؤثر أن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر ".

قال أبو محمد: وكذلك يقول أحدنا ديني دين محمد وإذا عمل عملاً أوجبته سنة قال عملي هذا عمل رسول الله ولا يحل لأحد من المسلمين أن يقول: ديني غير دين رسول الله ولو قال ذلك لوجب قتله بالردة وكذلك ليس له أن يقول إذا عمل عملاً جاءت به السنة عن رسول الله هذا غير عمل رسول الله ولو قاله لأدب ولكان كاذباً وكذلك يقول أحدنا ديني هو دين الله عز وجل يريد الذي أمر به عز وجل ولو قال ديني غير دين الله عز وجل لوجب قتله بالردة وكذلك يقول إذا حدث أحدنا حديثاً عن رسول الله صحيحا ًكلامي هذا هو نفس كلام رسول الله ولو قال إن كلامي هذا هو غير كلام رسول الله لكان كاذباً وهذه أسماء أوجبتها ملة الله عز وجل وأجمع عليها أهل الإسلام ولم يخف علينا ولا على من سلف من المسلمين أن حركة لسان رسول الله غير حركة ألسنتنا وكذلك حركة أجسامنا في العمل وكذلك ما توصف به النفوس من العلم ولكن التسمية في الشريعة ليست إلينا إنما هي لله تعالى ولرسوله فمن خالف هذا كان كمن قال فرعون وأبو جهل مؤمنان وموسى ومحمد كافران فإذا قيل له في ذلك قال أو ليس أبو جهل وفرعون مؤمنين بالكفر ومحمد وموسى كافران بالطاغوت فهذا وإن كان لكلامه مخرج فهو عند أهل الإسلام كافر لتعديه ما أوجبته الشريعة من التسمية وقد شهدت العقول بوجوب الوقوف عند ما أوجبه الله تعالى في دينه فمن عد عن ذلك وزعم أنه اتبع دليل عقله في خلاف ذلك فليعلم أنه فارق قضية العقل الصادقة الموجبة للوقوف عند حكم الشريعة وخالف المؤمنين واتبع غير سبيلهم قال تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " نعوذ بالله من ذلك.

قال أبو محمد: قال بعضهم فإذا سمعنا نحن كلام الله تعالى وسمعه موسى عليه السلام فأي فرق بينه وبيننا قلنا أعظم الفرق وهو أن موسى والملائكة عليهم السلام سمعوا الله تعالى يكلمهم ونحن سمعنا كلام الله تعالى من غيره وقد قال رسول الله لإبن مسعود إذ أمره أن يقرأ عليه القرآن فقال له ابن مسعود: يا رسول الله أقرأه عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري فصح يقيناً أن القرآن الذي أنزله الله تعالى نفسه فسمعه من غيره وقالوا فكلام الله تعالى إذاً يحل فينا قلنا هذا تهويل بارد ونعم إذا سمى الله تعالى كلامنا إذا قرأنا كلاماً له تعالى فنحن نقول بذلك ونقول أن كلام الله في صدورنا وجار على ألسنتنا ومستقر في مصاحفنا ونبرأ ممن أنكر ذلك بقوله الفاسد المخرج له عن الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان.

الكلام في إعجاز القرآن

عدل

قال أبو محمد: قد ذكرنا قيام البرهان عن أن القرآن معجز قد أعجز الله عن مثل نظمه جميع العرب وغيرهم من الإنس والجن بتعجيز رسول الله كل من ذكرنا عن أن يأتوا بمثله وتبكيتهم بذلك في محافلهم وهذا أمر لا ينكره أحد مؤمن ولا كافر وأجمع المسلمون على ذلك ثم اختلف أهل الكلام في خمسة أنحاء من هذه المسالة فالنحو الأول قول روي عن الأشعري وهو أن المعجز الذي تحدى الناس بالمجيء بمثله هو الذي لم يزل مع الله تعالى ولم يفارقه قط ولا نزل إلينا ولا سمعناه وهذا كلام في غاية النقصان والبطلان إذ من المحال أن يكلف أحد أن يجيء بمثل لما لم يعرفه قط ولا سمعه وأيضا ًفيلزمه ولا بد بل هو نفس قوله أنه إذا لم يكن المعجز إلا ذلك فإن المسموع المتلو عندنا ليس معجزاً بل مقدوراً على مثله وهذا كفر مجرد لا خلاف فيه لأحد فإنه خلاف للقرآن لأن الله تعالى ألزمهم بسورة أو عشر سور منه وذلك الكلام الذي هو عند الأشعري هو المعجز ليس له سوراً ولا كثيراً بل هو واحد فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين.

وله قول آخر كقول جميع المسلمين إن هذا المتلو هو المعجز والنحو الثاني هل الإعجاز متماد أم قد ارتفع بتمام الحجة به في حياة رسول الله فقال بعض أهل الكلام أن الحجة قد قامت بعجز جميع العرب عن معارضته ولو عورض الآن لم تبطل بذلك الحجة التي قد صحت كما أن عصا موسى إذ قامت حجته بانقلابها حية لم يضره ولا أسقط حجته عودها عصا كما كانت وكذلك خروج يده بيضاء من جيبه ثم عودها كما كانت وكذلك سائر الآيات وقال جمهور أهل الإسلام أن الإعجاز باق إلى يوم القيامة والآية بذلك باقية أبداً كما كانت.

قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره لأنه نص قول الله تعالى إذ يقول: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ".

قال أبو محمد: فهذا نص جرى على أنه لا يأتون بمثله بلفظ الاستقبال فصح يقيناً أن ذلك على التأبيد وفي المستأنف أبداً ومن ادعى أن المراد بذلك الماضي فقد كذب لأنه لا يجوز أن تحال اللغة فينقل لفظ المستقبل إلى معنى الماضي إلا بنص أخر جلي وارد بذلك أو بإجماع متيقن أن المراد به غير ظاهره أو ضرورة ولاسبيل في هذه المسألة إلى شيء من هذه الوجوه وكذلك قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا " عموم لكل إنس وجن أبداً لا يجوز تخصيص شيء من ذلك أصلاً بغير ضرورة ولا إجماع.

قال أبو محمد: ومن قال بالوقف وأنه ليس للعموم صيغة ولا للظاهر فلا حجة هاهنا تقوم له على الطائفة المذكورة فصح أن إعجاز القرآن باق إلى يوم القيامة والحمد لله رب العالمين.

والنحو الثالث ما المعجز منه أنظمه أم في نصه من الإنذار بالغيوب فقال بعض أهل الكلام أن نظمه ليس معجزاً وإنما إعجازه ما فيه من الأخبار بالغيوب وقال سائر أهل الإسلام بل كلا الأمرين معجز نظمه وما فيه من الأخبار بالغيوب وهذا هو الحق الذي ما خالفه فهو ضلال وبرهان ذلك قول الله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " فنص تعالى على أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره واكثر سوره ليس فيها أخبار بغيب فكأن من جعل المعجز الأخبار الذي فيه بالغيوب مخالفاً لما نص الله تعالى على أنه معجز من القرآن فسقطت والنحو الرابع ما وجه إعجازه فقالت طائفة وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة وقالت طوائف إنما وجه إعجازه أن الله منع الخلق من القدرة على معارضته فقط فأما الطائفة التي قالت إنما إعجازه لأنه في أعلى درج البلاغة فإنهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " ونحو هذا وموه بعضهم بأن قال لو كان كما تقولون من أن الله تعالى منع من معارضته فقط لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ.

قال أبو محمد: ما نعلم لهم شغباً غير هذين وكلاهما لا حجة لهم فيه أما قولهم لو كان كما قلنا لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة أبلغ فهذا هو الكلام الغث حقاً لوجوه أحدها أنه قول بلا برهان لأنه يعكس عليه قوله بنفسه فيقال له بل لو كان إعجازه لكونه في أعلى درج البلاغة لكان لا حجة فيه لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة وأما آيات الأنبياء فخارجة عن المعهود فهذا أقوى من شغبهم.

وثانيها أنه لا يسأل الله تعالى عما يفعل ولا يقال له لم عجزت بهذا النظم دون غيره ولم أرسلت هذا الرسول دون غيره ولم قلبت عصا موسى حية دون أن تقلبها أسداً وهذا كله حمق ممن جاء به لم يوجبه قط عقل وحسب الآية أن تكون خارجة عن المعهود فقط.

وثالثها أنه حين طردوا سؤالهم ربهم بهذا السؤال الفاسد لزمهم أن يقولوا هلا كان هذا الإعجاز في كلام بجمع اللغات فيستوي في معرفة إعجازه العرب والعجم لأن العجم لا يعرفون إعجاز القرآن إلا بأخبار العرب فقط فبطل هذا الشغب الغث والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد: وأما ذكرهم " ولكم في القصاص حياة " وما كان نحوها من الآيات فلا حجة لهم فيها ويقال لهم: إن كان كما تقولون ومعاذ الله من ذلك فإنما المعجز منه على قولكم هذه الآيات خاصة وأما سائره فلا وهذا كفر لا يقوله مسلم فإن قالوا جميع القرآن مثل هذه الآيات في الإعجاز قيل لهم فلم خصصتم بالذكر هذه الآيات دون غيرها إذاً وهل هذا منكم إلا إيهام لأهل الجهل أن من القرآن معجزاً وغير معجز ثم نقول لهم قول الله تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " أمعجز هو على شروطكم في كونه في أعلى درج البلاغة أم ليس معجزاً فإن قالوا ليس معجزاً كفروا وإن قالوا أنه معجز صدقوا وسألوا هل على شروطكم في أعلى درج البلاغة فإن قالوا نعم كابروا وكفوا مؤنتهم لأنها أسماء رجال فقط ليس على شروطكم في البلاغة فلو كان إعجاز القرآن لأنه في درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هرون والجاحظ وشعر أمرئ القيس ومعاذ الله من هذا لأن كل ما يسبق في طبقته لم يؤمن إن يأتي من يماثله ضروة فلا بد لهم من هذه الخطة أو من المصير إلى قولنا أن الله تعالى منع من معارضته فقط وأيضاً فلو كان إعجازه من أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك الآية ولما هو أقل من آية وهذا ينقض قولهم أن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل فإن قالوا فقولوا أنتم هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا قلنا وبالله تعالى التوفيق إن كنتم تريدون أن الله قد بلغ به ما أراد فنعم هو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها وإن كنتم تريدون هل هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين فلا لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه وبرهان هذا أن إنساناً لو أدخل في رسالة له أو خطبة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجاً عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلاً وأن الله تعالى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع كلام الخلق برهان ذلك أن الله حكى عن قوم من أهل النار أنهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار " لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين " وحكى تعالى عن كافر قال: " إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر " وحكى عن آخرين أنهم قالوا: " لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ " فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز وجل معجز بلا خلاف إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاماً له أصاره معجزاً ومنع من مماثلته وهذا برهان كافٍ لا يحتاج إلى غيره والحمد لله.

والنحو الخامس ما مقدار المعجز منه فقالت الأشعرية ومن وافقهم أن المعجز إنما هو مقدار أقل سورة منه وهو إنا أعطيناك الكوثر فصاعداً وإن ما دون ذلك ليس معجزاً واحتجوا في ذلك بقول الله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " قالوا ولم يتحد تعالى بأقل من ذلك وذهب سائر أهل الإسلام إلى أن القرآن كله قليله وكثيره معجز وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا حجة لهم في قوله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " لأنه تعالى لم يقل إن ما دون السورة ليس معجزاً بل قد قال تعالى على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولا يختلف اثنان في أن كل شيء من القرآن قرآن فكل شيء من القرآن معجز ثم تعارضهم في تحديدهم المعجز بسورة فصاعدا فنقول أخبرونا ماذا تعنون بقولكم أن المعجز مقدار سورة أسورة كاملة لا أقل أم مقدار كوثر في الآيات أم مقدارها في الكلمات أم مقدارها في الحروف ولا سبيل إلى وجه خامس فإن قالوا المعجز سورة تامة لا أقل لزمهم أن سورة البقرة حاشا آية واحدة أو كلمة واحدة من آخرها أو من أولها ليست معجزة وهكذا كل سورة وهذا كفر مجرد لا خفاء به إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو من وسطها من آخرها فمقدور على مثلها وإن قالوا بل مقدارها من الآيات لزمهم أن آية الدين ليست معجزة لأنها ليست ثلاث آيات ولزمهم مع ذلك أن والفجر وليال عشر والشفع والوتر معجز كآية الكرسي وآيتان إليها لأنها ثلاث آيات وهذا غير قولهم ومكابرة أيضاً أن تكون هذه الكلمات معجزة حاشا كله غير معجزة ولزمهم أيضاً أن والضحى والفجر والعصر هذه الكلمات الثلاث فقط معجزات لأنهن ثلاث آيات فإن قالوا هن متفرقات غير متصلات لزمهم إسقاط الإعجاز عن ألف آية متفرقة وإمكان المجيء بمثلها ومن جعل هذا ممكناً فقد كابر العيان وخرج عن الإسلام وأبطل الإعجاز عن القرآن وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه ولزمهم أيضاً أن " ولكم في القصاص حياة " ليس معجزاً وهذا نقض لقولهم في أنه في أعلى درج البلاغة وكذلك كل ثلاث آيات غير كلمة وهذا خروج عن الإسلام وعن المعقول وإن قالوا بل في عدد الكلمات أو قالوا عدد الحروف لزمهم شيئان مسقطان لقولهم أحدهم إبطال احتجاجهم بقوله تعالى: " بسورة من مثله " لأنهم جعلوا معجزاً ما ليس سورة ولم يقل تعالى بمقدار سورة فلاح تمويههم والثاني أن سورة الكوثر عشر كلمات اثنان وأربعون حرفاً وقد قال تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " اثنتا عشرة كلمة اثنان وسبعون حرفاً وإن اقتصرنا على الأسماء فقط كانت عشر كلمات اثنين وستين حرفاً فهذا أكثر كلمات وحروفاً من سورة الكوثر فينبغي أن يكون هذا معجزاً عندكم ويكون " ولكم في القصاص حياة " غير معجز فإن قالوا إن هذا غير معجز تركوا قولهم في إعجاز مقدار أقل سورة في عدد الكلمات وعدد الحروف وإن قالوا بل هو معجز تركوا قولهم في أنه في أعلى درج البلاغة ويلزمهم أيضاً أننا إن أسقطنا من هذه الأسماء اسمين ومن سورة الكوثر كلمات أن لا يكون شيء من ذلك معجز فظهر سقوط كلامهم وتخليطه وفساده وأيضاً فإذا كانت الآية منه أو الآيتان غير معجزة وكانت مقدوراً على مثلها وإذا كان ذلك فكله مقدور على مثله وهذا كفر فإن قالوا إذا اجتمعت ثلاث آيات صارت غير مقدور عليها قيل لهم هذا غير قولكم إن إعجازه إنما هو من طريق البلاغة لأن طريق البلاغة في الآية كهو في الثلاث ولا فرق والحق من هذا هو ما قاله الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " وإن كل كلمة قائمة المعنى يعلم إذا تليت أنها من القرآن فإنها معجزة لا يقدر أحد على المجيء بمثلها أبداً لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك كمن قال إن آية النبوة إن الله تعالى يطلقني على المشي في هذا الطريق الواضحة ثم لا يمشي فيها أحد غيري أبداً أو مدة يسميها فهذا أعظم ما يكون من الآيات وإن الكلمة المذكورة أنها متى ذكرت في خبر على أنها ليست قرآناً فهي غير معجزة وهذا هو الذي جاء به النص والذي عجز عنه أهل الأرض مذ أربعمائة عام وأربعين عاماً ونحن نجد في القرآن إدخال معنى بين معنيين ليس بينهما كقوله تعالى " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " وليس هذا من بلاغة الناس في ورد ولا في صدر ومثل هذا في القرآن كثير والحمد لله رب العالمين.

===الكلام في القدر ===

قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن الإنسان مجبر على أفعاله وأنه لا استطاعة له أصلاً وهو قول جهم بن صفوان وطائفة من الأزارقة وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإنسان ليس مجبراً وأثبتوا له قوة واستطاعة بها يفعل ما اختار فعله ثم افترقت هذه الطائفة على فرقتين فقالت إحداهما الاستطاعة التي يكون بها الفعل لا تكون إلا مع الفعل ولا يتقدمه البتة وهذا قول طوائف من أهل الكلام ومن وافقهم كالنجار والأشعري ومحمد بن عيسى برعوت الكاتب وبشر بن غياث المريسي وأبي عبد الله العطوي وجماعة من المرجئة والخوارج وهشام بن الحكم وسليمان بن جرير وأصحابهما وقالت الأخرى أن الاستطاعة التي يكون بها الفعل هي قبل الفعل موجودة في الإنسان وهو قول المعتزلة وطوائف من المرجئة كمحمد بن شيد ومؤنس بن عمران وصالح قية والناسي وجماعة من الخوارج والشيعة ثم افترق هؤلاء على فرق فقالت طائفة إن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل أيضاً للفعل ولتركه وهو قول بشر بن المعتمر البغدادي وضرار بن عمرو الكوفي وعبد الله بن غطفان ومعمر بن عمرو العطار البصري وغيرهم من المعتزلة وقال أبو الهذيل محمد بن الهذيل العبدي البصري العلاف لا تكون الاستطاعة مع الفعل البتة ولا تكون إلا قبله ولا بد وتفنى مع أول وجود الفعل وقال أبو اسحق بن إبراهيم بن سيار النظام وعلي الإسواري وأبو بكر بن عبد الرحمن بن كيسان الأصم ليست الاستطاعة شيئاً غير نفس المستطيع وكذلك أيضاً قالوا في العجز أنه ليس شيئاً غير العاجز إلا النظام فإنه قال هو آفة دخلت على المستطيع.

قال أبو محمد: فأما من قال بالإجبار فإنهم احتجوا فقالوا لما كان الله تعالى فعالاً وكان لا يشبهه شيء من خلقه وجب أن لا يكون أحد فعالاً غيره وقالوا أيضاً معنى إضافة الفعل إلى الإنسان إنما هو كما تقول مات زيد وإنما أماته الله تعالى وقام البناء وإنما أقامه الله تعالى.

قال أبو محمد: وخطأ هذه المقالة ظاهر بالحس والنص وباللغة التي بها خاطبنا الله تعالى وبها نتفاهم فأما النص فإن الله عز وجل قال في غير موضع من القرآن " جزاء بما كانوا يعملون لم تقولون ما لا تفعلون وعملوا الصالحات " فنص تعالى على أننا نعمل ونفعل ونصنع وأما الحس فإن بالحواس وبضرورة العقل وببديهية علمنا يقيناً علماً لا يخالج فيه الشك أن بين الصحيح الجوارح وبين من لا صحة بجوارحه فرقاً لائحاً لجوارحه لأن الصحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختاراً لها دون مانع والذي لا صحة لجوارحه لو رام ذلك جهده لم يفعله أصلاً ولا بيان أبين من هذا الفرق والمجبر في اللغة هو الذي يقع الفعل منه بخلاف اختياره وقصده فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبراً وإجماع الأمة كلها على لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة ووجب أن لنا حولاً وقوة ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى ولو كان ما ذهب إليه الجهمية لكان القول لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له وكذلك قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " فنص تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منا إلا أن يشاء الله كونها وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد: ومن عرف عناصر الأشياء من الواجب والممتنع والممكن أيقن بالفرق بين صحيح الجوارح وغير صحيحها لأن الحركة الاختيارية بأول الحس هي غير الاضطرارية وإن الفعل الاختياري من ذي الجوارح المؤوفة وهو من ذي الجوارح الصحيحة ممكن وإننا بالضرورة نعلم أن المقعد لو رام القيام جهده لما أمكنه ونقطع يقيناً أنه لا يقوم وأن الصحيح الجوارح لا ندري إذا رأيناه قاعداً يقوم أم يتكئ أم يتمادى على قعوده وكل ذلك منه ممكناً وأما من طريق اللغة فإن الإجبار والاضطرار والغلبة أسماء مترادفة وكلها واقع على معنى واحد لا يختلف وقوع الفعل ممن لا يؤثره ولا يختاره ولا يتوهم منه خلاف البتة وأما من آثر ما يظهر منه من الحركات والاعتقاد ويختاره ويميل إليه هواه فلا يقع عليه اسم إجبار ولا اضطرار لكنه مختار والفعل منه مراد متعمد مقصود ونحو هذه العبارات عن هذا المعنى في اللغة العربية التي نتفاهم بها فإن قال قائل فلم أبيتم ها هنا من إطلاق لفظة الاضطرار و أطلقتموها في المعارف فقلتم أنها باضطرار وكل ذلك عندكم خلق الله تعالى في الإنسان فالجواب أن بين الأمرين فرقاً بيناً وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله وممكن ذلك منه وليس ذلك ما عرفه يقيناً ببرهان لأنه لا يتوهم البتة انصرافه عنه ولا يمكنه ذلك أصلاً فصح أنه مضطر إليها وأيضاً فقد أثنى الله عز وجل على قوم دعوه فقالوا: " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " وقد علمنا أن الطاقة والاستطاعة والقدرة والقوة في اللغة العربية ألفاظ مترادفة كلها واقع على معنى واحد وهذه صفة من يمكن عنه الفعل باختياره أو تركه باختياره ولا شك في أن هؤلاء القوم الذين دعوا هذا الدعاء قد كلفوا شيئاً من الطاعات والأعمال واجتناب المعاصي فلولا أن ها هنا أشياء لهم بها طاقة لكان هذا الدعاء حمقاً لأنهم كانوا يصيرون داعين الله عز وجل في أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به وهم لا طاقة لهم بشيء من الأشياء فيصير دعاءهم في أن لا يكلفوا ما قد كلفوه وهذا محال من الكلام وأما احتجاجهم بأن الله تعالى لما كان فعالاً وجب أن لا يكون فعال غيره فخطأ من القول لوجوه أحدها أن النص قد ورد بأن للإنسان أفعالاً وأعمالاً قال تعالى: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " فأثبت الله لهم الفعل وكذلك نقول أن الإنسان يصنع لأن النص قد جاء بذلك ولولا النص ما أطلقنا شيئاً من هذا وكذلك لما قال الله تعالى: " وفاكهة مما يتخيرون " علمنا أن للإنسان اختياراً لأن أهل الدنيا وأهل الجنة سواء في أنه تعالى خالق أعمال الجميع على أن الله تبارك وتعالى قال " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " فعلمنا أن الاختيار الذي هو فعل الله تعالى وهو منفي عن سواه وهو غير الاختيار الذي أضافه إلى خلقه ووصفهم به ووجدنا هذا أيضاً حساً لأن الاختيار الذي توحد الله تعالى به هو أن يفعل ما شاء كيف شاء وإذا شاء وليست هذه صفة شيء من خلقه وأما الاختيار الذي أضافه الله تعالى إلى خلقه فهو ما خلق فيهم من الميل إلى شيء ما و الإيثار له على غيره فقط وهنا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق.

ومنها أن الاشتراك في الأسماء لا يقع من أجله التشابه ألا ترى انك تقول الله الحي والإنسان حي والإنسان حليم كريم عليم والله تعالى حليم كريم عليم فليس هذا يوجب اشتباهاً بلا خلاف وإنما يقع الاشتباه بالصفات الموجودة في الموصوفين والفرق بين الفعل الواقع من الله عز وجل والفعل الواقع منا هو أن الله تعالى اخترعه وجعله جسماً أو عرضاً أو حركة أو سكوناً أو معرفة أو إرادة أو كراهية وفعل عز وجل كل ذلك فينا بغير معاناة منه وفعل تعالى لغير علة وأما نحن فإنما كان فعلاً لنا لأنه عز وجل خلقه فينا وخلق اختيارنا له وأظهره عز وجل فينا محمولاً لاكتساب منفعة أو لدفع مضرة ولم نخترعه نحن وأما من قال بالاستطاعة قبل الفعل فعمدة حجتهم إن قالوا لا يخلو الكافر من أحد أمرين إما أن يكمن مأموراً بالإيمان أو لا يكون مأموراً به فإن قلتم أنه غير مأمور بالإيمان فهذا كفر مجرد وخلاف للقرآن والإجماع وإن قلتم هو مأمور بإيمان وهكذا تقولون فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون أمر وهو يستطيع ما أمر به فهذا قولنا لا قولكم أو يكون أمر وهو لا يستطيع ما أمر به فقد نسبتم إلى الله عز وجل تكليف ما لا يستطاع ولزمكم أن تجيزوا تكليف الأعمى أن يرى والمقعد أن يجري أو يطلع إلى السماء وهذا كله جور وظلم والجور والظلم منفيان عن الله عز وجل ولا تخلو تلك الاستطاعة من أن يكون المرء أعطيها والفعل موجود أو أعطيها والفعل غير موجود فإن كان أعطيها والفعل موجود فلا حاجة به إليها إذ قد وجد الفعل منه الذي يحتاج إلى الاستطاعة ليكون ذلك الفعل بها وإن كان أعطيها والفعل غير موجود فهذا قولنا أن الاستطاعة قبل الفعل قالوا والله تعالى يقول: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " قالوا فلو لم تتقدم الاستطاعة الفعل لكان الحج لا يلزم أحداً قبل ان يحج وقال تعالى: " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " وقال تعالى: " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً " فلو كانت الاستطاعة للصوم لا تتقدم للصوم ما لزمت أحداً الكفارة به وقال تعالى: " يحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " فصح أن استطاعة الخروج موجودة مع عدم الخروج وقال تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " ولهم أيضاً في خلق الأفعال اعتراض نذكره إنشاء الله تعالى وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين.

باب الاستطاعة

عدل

قال أبو محمد: إن الكلام على حكم لفظة قبل تحقيق معناها ومعرفة المراد بها وعن أي شيء يعبر بذكرها طمس للوقوف على حقيقتها فينبغي أولاً أن نقف على معنى الاستطاعة فإذا تكلمنا عليه وقررنا بحول الله تعالى وقوته سهل الإشراف على صواب هذه الأقوال من خطئها بعون الله تعالى وتأييده فنقول وبالله تعالى نتأيد.

إن من قال أن الاستطاعة هي المستطيع قول في غاية الفساد ولو كان لقائله أقل علم باللغة العربية ثم بحقائق الأسماء والمسميات ثم بماهية الجواهر والأعراض لم يقل هذا السخف أما اللغة فإن الاستطاعة إنما هي مصدر استطاع يستطيع استطاعة والمصدر هو فعل الفاعل وصفته كالضرب الذي هو فعل الضارب والحمرة التي هي صفة الأحمر والاحمرار الذي هو صفة المحمر وما أشبه هذا والصفة والفعل عرضان بلا شك في الفاعل منا وفي الموصوف والمصادر هي أحداث المسمين بالأسماء بإجماع من أهل كل لسان فإذا كانت الاستطاعة في اللغة التي بها نتكلم نحن وهم إنما هي صفة في المستطيع فبالضرورة نعلم أن الصفة هي غير الموصوف لأن الصفات تتعاقب عليه فتمضي صفة وتأتي أخرى فلو كانت الصفة هي الموصوف لكان الماضي من هذه الصفات هو الموصوف الباقي ولا سبيل إلى غير هذا البتة فإذ لا شك في أن الماضي هو غير الباقي فالصفات هي غير الموصوف بها وما عدا هذا فهو من المحال والتخليط فإن قالوا أن الاستطاعة ليست مصدر استطاع ولا صفة المستطيع كابروا وأتوا بلغة جديدة غير اللغة التي نزل بها القرآن والتي لفظة الاستطاعة التي فيها نتنازع إنما هي كلمة من تلك اللغة ومن أحال شيئاً من الألفاظ اللغوية عن موضوعها في اللغة بغير نص محيل لها ولا بإجماع من أهل الشريعة فقد فارق حكم أهل العقول والحياء وصار في نصاب من لا يتكلم معه ولا يعجز أحد أن يقول الصلاة ليست ما تعنون بها وإنما هي أمر كذا والماء هو الخمر وفي هذا بطلان الحقائق كلها وأيضاً فإننا نجد المرء مستطيعاً ثم نراه غير مستطيع لخدر عرض في أعضائه أو لتكتيف وضبط أو لإغماء وهو بعينه قائم لم ينتقص منه شيء فصح بالضرورة أن الذي عدم من الاستطاعة هو غير المستطيع الذي كان ولم يعدم هذا أمر يعرف بالمشاهدة والحس وبهذا أيقنا أن الاستطاعة عرض من الأعراض تقبل الأشد الأضعف فنقول استطاعة أشد من استطاعة واستطاعة أضعف من استطاعة وأيضاً فأن الاستطاعة لها ضد وهو العجز والأضداد لا تكون إلا أعراضاً تقتسم طرفي البعد كالخضرة والبياض والعلم والجهل والذكر والنسيان وما أشبه هذا وهذا كله أمر يعرف بالمشاهدة ولا ينكره إلا أعمى القلب والحواس ومعاند مكابر للضرورة والمستطيع جوهر والجوهر لا ضد له فصح بالضرورة إن الاستطاعة هي غير المستطيع بلا شك وأيضاً فلو كانت الاستطاعة هي المستطيع لكان العجز أيضاً هو العاجز والعاجز هو المستطيع بالأمس فعلى هذا يجب أن العجز هو المستطيع فإن تمادوا على هذا لزمهم أن العجز عن الأمر هو الاستطاعة عليه وهذا محال ظاهر فإن قالوا أن العجز غير المستطيع هو آفة دخلت على المستطيع سئلوا عن الفرق الذي من أجله قالوا أن الاستطاعة هي المستطيع ومنعوا أن يكون العجز هو العاجز ولا سبيل لوجود فرق في ذلك وبهذا نفسه يبطل قول من قال أن الاستطاعة هي بعض المستطيع سواء بسواء لأن العرض لا يكون بعضاً للجسم وأما من قال أن الاستطاعة كل ما توصل به إلى الفعل كالإبرة والدلو والحبل وما أشبه ذلك فقول فاسد تبطله المشاهدة لأنه قد توجد هذه الآلات وتعدم صحة الجوارح فلا يمكن الفعل فإن قالوا قد تعدم هذه الآلات وتوجد صحة الجوارح ولا يمكن الفعل قلنا صدقتم وبوجود هذه الآلات تم الفعل إلا أن لفظة الاستطاعة التي في معناها نتنازع هي لفظة قد وضعت في اللغة التي بها نتفاهم ونعبر عن مرادنا على عرض في المستطيع فليس لأحد أن يصرف هذه اللفظة عن موضوعها في اللغة برأيه من غير نص ولا إجماع ولو جاز هذا لبطلت الحقائق ولم يصح تفاهم أبداً وقد علمنا يقيناً أن لفظة الاستطاعة لم تقع قط في اللغة التي بها نتفاهم على حبل ولا على مهماز ولا على إبرة فإن قالوا قد صح عن أئمة اللسان كابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهما إن الاستطاعة زاد وراحلة قيل لهم نعم قد صح هذا ولا خلاف بين أحد له فهم باللغة أنهما عنيا بذلك القوة على وجود زاد وراحلة وبرهان على ذلك أن الزاد والراحلة كثير في العالم وليس كونهما في العالم موجباً عندهما فرض الحج على ما لا يجدهما فصح ضرورة أنهما عنيا بذلك القوة على إحضار الزاد والراحلة والقوة على ذلك عرض كما قلنا وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول أيضاً أن ذكروا قول الله عز وجل: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " لأن هذا هو نص قولنا أن القوة عرض ورباط الخيل عرض فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين فإذا قد سقطت هذه الأقوال كلها وصح أن الاستطاعة عرض من الأعراض فواجب علينا معرفة ما تلك الأعراض فنظرنا ذلك بعون الله عز وجل وتأييده فوجدنا بالضرورة الفعل لا يقع باختيار الأمن صحيح الجوارح التي يكون بها ذلك الفعل يقيناً أن سلامة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة ثم نظرنا سالم الجوارح لا يفعل مختاراً إلا حتى يستضيف إلى ذلك إرادة الفعل فعلمنا أن الإرادة أيضاً محركة للاستطاعة ولا نقول أن الإرادة استطاعة لأن كل عاجز عن الحركة فهو مريد لها وهو غير مستطيع وقد علمنا ضرورة أن العاجز عن الفعل فليس فيه استطاعة للفعل لأنهما ضدان والضدان لا يجتمعان معاً ولا يمكن أيضاً أن تكون الإرادة بعض الاستطاعة لأنه كان يلزم من ذلك أن في تعاجز المريد استطاعة ما لأن بعض الاستطاعة استطاعة وبعض العجز عجز ومحال أن يكون في العاجز عن الفعل استطاعة له البتة فالاستطاعة ليست عجزاً فمن استطاع على شيء وعجز عن أكثر من ففيه استطاعة على ما يستطيع عليه هي غير استطاعة التي فيه على ما استطاع عليه وبالله تعالى التوفيق ثم نظرنا فوجدنا السالم الجوارح المريد للفعل قد يعترضه دون الفعل مانع لا يقدر معه على الفعل أصلاً فعلمنا أن هاهنا شيئاً آخر به تتم الاستطاعة ولابد وبه يوجد الفعل فعلمنا ضرورة هذا الشيء إذ هو تمام الاستطاعة ولا تصح الاستطاعة إلا به فهو باليقين قوة إذ الاستطاعة قوة وأن ذلك الشيء قوة بلا شك فقد علمنا أنه ما أتى به من عند الله تعالى لأنه تعالى مؤتي القوى إذ لا يمكن ذلك لأحد دونه عز وجل فصح ضرورة أن الاستطاعة صحة الجوارح مع ارتفاع الموانع وهذان الوجهان قبل الفعل وقوة أخرى من عند الله عز وجل وهذا الوجه مع الفعل باجتماعهما يكون الفعل وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان على صحة هذا القول إجماع الأمة كلها على سؤال الله تعالى التوفيق والاستعاذة به من الخذلان فالقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها الخير تسمى بالإجماع توفيقاً وعصمة وتأييداً والقوة التي ترد من الله تعالى فيفعل العبد بها الشر تسمى بالإجماع خذلاناً والقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها ما ليس طاعة ولا معصية تسمى عوناً أو قوة أو حولاً وتبين من صحة هذا صحة قول المسلمين لا حول ولا قوة إلا بالله والقوة لا تكون لأحد البتة فعل إلا بها فصح أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكذلك يسمى تيسيراً قال رسول الله كل ميسر لما خلق له وقد وافقنا جميع المعتزلة على أن الاستطاعة فعل الله عز وجل وأنه لا يفعل أحد خيراً ولا شراً إلا بقوة أعطاه الله تعالى إياها إلا أنهم قالوا يصلحوا بها الخير والشر معاً قال أبو محمد: فجملة القول في هذا بأن عناصر الأخبار ثلاثة وهو ممتنع أو واجب أو ممكن بينهما هذا أمرٌ بضرورة الحس والتمييز فإذا الأمر كذلك فإن عدمت صحة الجوارح كان له مانع إلى الفعل وأما الصحيح الجوارح المرتفع الموانع فقد يكون منه الفعل وقد لا يكون فهذه هي الاستطاعة الموجودة قبل الفعل برهان ذلك قول الله عز وجل حكاية عن القائلين: " لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " فأكذبهم الله في إنكارهم استطاعة الخروج قبل الخروج وقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " فلو لم تكن هنا استطاعة قبل فعل المرء الحج لما لزم الحج إلا من حج فقط ولما كان أحد عاصياً بترك الحج لأنه لم يكن مستطيعاً للحج حتى يحج فلا حج عليه ولا هو مخاطب بالحج وقوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً " فلو لم يكن على المظاهر العائد لقوله استطاعته على الصيام قبل أن يصوم لما كان مخاطباً بوجوب الصوم عليه إذا لم يجد الرقبة أصلاً ولكان حكمه مع عدم الرقبة وجوب الإطعام فقط وهذا باطل وقول رسول الله لمن بايعه فمن لم يستطع فقاعداً فمن لم يستطع فعلى جنب وهذا إجماع متيقن لاشك فيه فلو لم يكن الناس مستطيعين للقيام قبل القيام لما كان أحد مأموراً بالصلاة قبل أن يصليها كذلك ولكان معذوراً أن صلى قاعداً وعلى جنب بكل وجه لأنه إذا صلى كذلك لم يكن مستطيعاً للقيام وهذا باطل وقوله : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا به ما استطعتم " فلو لم يكن هاهنا استطاعة لشيء مما أمرنا به أن نفعله لما لزمنا شيء مما أمرنا به مما لم نفعله ولكنا غير عصاة بالترك لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا.


وقوله أتستطيع أن تصوم شهرين قال فلو لم يكن أحد مستطيعاً للصوم إلا حتى يصوم لكان هذا السؤال منه عليه السلام محالاً وحاشى له من ذلك ومما يتبين صحة هذا وأن المراد في كل ما ذكر ناصحة الجوارح وارتفاع الموانع قول الله تعالى: " خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ " فنص تعالى على أن في عدم السلامة بطلان الاستطاعة وأن وجود السلامة بخلاف ذلك فصح ان سلامة الجوارح استطاعة وإذا صح هذا فبيقين ندري أن سلامة الجوارح يكون بها الفعل وضده والعمل وتركه والطاعة والمعصية لأن كل هذا يكون بصحة الجوارح فإن قال قائل فإن سلامة الجوارح عرض والعرض لا يبقى وقتين قيل له هذه دعوى بلا برهان والآيات المذكورات مبطلة لهذه الدعوى وموجبة أن هذه الاستطاعة من سلامة الجوارح وارتفاع الموانع موجودة قبل الفعل ثم لو كان ما ذكرتم ما كان فيه دفع لما قاله عز وجل من ذلك ثم وجدنا الله تعالى قد قال: " وكانوا لا يستطيعون سمعاً " وقال تعالى حاكيا قول الخضر لموسى عليه السلام: " إنك لن تستطيع معي صبراً " وقال: " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً " وعلمنا أنه كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فيقنا أن الاستطاعة التي أثبتها الله تعالى قبل الفعل هي غير الاستطاعة التي نفاها مع الفعل ولا يجوز غير ذلك البتة فإذ ذلك كذلك فالاستطاعة كما قلنا شيئان أحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني لا يكون إلا مع الفعل وهو القوة الواردة من الله تعالى بالعون والخذلان وهو خلق الله تعالى للفعل في من ظهر منه وسمي من أجل ذلك فاعلاً لما ظهر منه إذ لا سبيل إلى وجوه معنى غير هذا البتة فهذا هو حقيقة الكلام في الاستطاعة بما جاءت به نصوص القرآن والسنن والإجماع وضرورة الحس وبديهة العقل فعلى هذا التقسيم بين الكلام في هذا الباب فإذا نفينا وجود الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بذلك الاستطاعة التي بها يقع الفعل ويوجد واجباً ولا بد وهي خلق الله تعالى للفعل في فاعله وإذا أثبتنا الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بها صحة الجوارح وارتفاع الموانع التي يكون الفعل بها ممكناً متوهماً لا واجباً ولا ممتنعاً وبها يكون المرء مخاطباً مكلفاً مأموراً منهياً وبعد مهما يسقط عنه الخطاب والتكليف و يصير الفعل منه ممتنعاً ويكون عاجزا عن الفعل.

قال أبو محمد: فإذ قد تبين ما الاستطاعة فنقول بعون الله عز وجل فيما اعترضت به المعتزلة الموجبة للاستطاعة جملة قبل الفعل ولا بد فنقول وبالله تعالى التوفيق أنهم قالوا أخبرونا عن الكافر المأمور بالإيمان أهو مأمور بما لا يستطيع أم بما يستطيع فجوابنا وبالله تعالى نتأيد إننا قد بينا آنفاً أن صحة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة وحامل هذه الصفة مستطيع بظاهر حاله من هذا الوجه وغير مستطيع ما لم يفعل الله عز وجل فيه ما به يكون تمام استطاعته ووجود الفعل فهو مستطيع من وجه غير مستطيع من وجه آخر وهذا مع أنه نص القرآن كما أوردنا فهو أيضاً مشاهد كالبناء المجيد فهو مستطيع بظاهر حاله ومعرفته بالبناء غير مستطيع للآلات التي لا يوجد البناء إلا بها وهكذا في جميع الأعمال وأيضاً فقد يكون المرء عاصياً لله تعالى في وجه مطيعاً له في آخر مؤمناً بالله كافراً بالطاغوت فإن قالوا فقد نسبتم لله تكليف ما لا يستطاع قلنا هذا باطل ما نسبنا إليه تعالى إلا ما أخبر به عن نفسه أنه لا يكلف أحد إلا ما يستطيع بسلامة جوارحه وقد يكلفه ما لا يستطيع في علم الله تعالى لان الاستطاعة التي بها يكون الفعل ليست فيه بعد ولا يجوز أن يطلق على الله تعالى أحد القسمين دون الآخر وأما قولهم أن هذا كتكليف المقعد الجري والأعمى النظر وإدراك الألوان والارتفاع إلى السماء فإن هذا باطل لأن هؤلاء ليس فيهم شيء من قسمى الاستطاعة فلا استطاعة لهم أصلاً وأما الصحيح الجوارح ففيه أحد قسمى الاستطاعة وهو سلامة الجوارح ولولا أن الله عز وجل آمننا بقوله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " لكان غير منكر ان يكلف الله تعالى الأعمى إدراك الألوان والمقعد الجري والطلوع إلى السماء ثم يعذبهم عند عدم ذلك منهم ولله تعالى أن يعذب من شاء دون ان يكلفه وأن ينعم من شاء دون أن يكلفه كما رزق من شاء العقل وحرمه الجماد والحجارة وسائر الحيوان وجعل عيسى بن مريم نبياً في المهد حين ولادته وشد على قلب فرعون فلم يؤمن قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " وليس في بداية العقول حسن ولا قبيح لعينه البتة وقالت المعتزلة متى أعطي الإنسان الاستطاعة أقبل وجود الفعل فإن كان قبل وجود الفعل قالوا فهذا قولنا وإن كان حين وجود الفعل فما حاجتنا إليها فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن الاستطاعة قسمان كما قلنا فأحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني مع الفعل وهو خلق الله للفعل في فاعله ولولاهما لم يقع الفعل كما قال الله عز وجل ولو كانت الاستطاعة لا تكون قبل الفعل ولا بد ولا تكون مع الفعل أصلاً كما زعم أبو الهذيل لكان الفاعل إذا فعل عديم الاستطاعة وفاعلاً فعلاً لا استطاعة له على فعله حين فعله وإذ لا استطاعة له عليه فهو عاجز عنه فهو فاعل عاجز عما يفعل معاً وهذا تناقض ومحال ظاهر.

قال أبو محمد: ولهم الزامات سخيفة هي لازمة لهم كما تلزم غيرهم سواء بسواء منها قولهم متى أحرقت النار العود أفي حال سلامته أم وهو غير محترق فإن كانت أحرقته في حال سلامته فهو إذاً محرق غير محرق فإن كانت أحرقته وهو محرق فما الذي فعلت فيه وكسؤالهم متى كسر المرء العود أكسره وهو صحيح فهو إذاً مكسور صحيح أو كسره وهو مكسور فما الذي أحدث فيه وكسؤالهم متى أعتق المرء عبده أفي حال رقه فهو حر عبد أو في حال عتقه فأي معنى لعتقه إياه ومتى طلق المرء زوجته أطلقها وهي غير مطلقة فهي مطلقة لا مطلقة معاً أم طلقها وهي مطلقة فما الذي أثر فيها طلاقه ومتى مات المرء في حياته مات أم وهو ميت ومثل هذا كثير.

قال أبو محمد: وكل هذه سفسطة وسؤالات سخيفة مموهة والحق فيها أن تفريق النار أجزاء ما عملت فيه هو المسمى إحراق وليس للإحراق شيء غير ذلك فقولهم هل أحرقت وهو محرق تخليط لأن فيه إيهاماً أن الإحراق غير الإحراق وهذه سخافة وكذلك كسر العود إنما هو إخراجه عن حال الصحة والكسر نفسه هو حال العود حينئذ وكذلك إخراج العبد من الرق إلى عتقه هو عتقه و لا مزيد ليست له حال أخرى وكذلك خروج المرأة من الزوجية إلى الطلاق هو تطليقها نفسه وكذلك فراق الروح للجسد وهو الإماتة والموت نفسه ولا مزيد وليست ها هنا حال أخرى وقع الفعل فيها وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في أن إتمام الاستطاعة لا يكون إلا مع الفعل لا قبله

عدل

قال أبو محمد: يقال لمن قال أن الاستطاعة كلها ليست إلا قبل الفعل وأنها قبل الفعل بتمامها وتكون أيضاً مع الفعل أخبرونا عن الكافر هل يقدر قبل أن يؤمن في حال كفره على الإيمان قدرة تامة أم لا وعن تارك الصلاة هل يقدر قدرة تامة على الصلاة في حال تركه وعن الزاني هل يقدر في حال زناه على ترك الزنى بأن لا يكون منه زنى أصلاً أم لا وبالجملة فالأوامر كلها إنما هي أمر بحركة أو أمر بسكون أو أمر باعتقاد إثبات شيء ما أو أمر باعتقاد إبطال شيء ما وهذا كله يجمعه فعل أو ترك فأخبرونا هل يقدر الساكن المأمور بالحركة على الحركة حال السكون أو يقدر المتحرك المأمور بالسكون على السكون في حال الحركة وعن معتقد إ بطال شيء ما وهو مأمور باعتقاد إثباته هل يقدر في حال اعتقاده إبطاله على اعتقاد إثباته أم لا وعن معتقد إثبات شيء ما وهو مأمور باعتقاد إبطاله هل يقدر في حال اعتقاده إثباته على اعتقاد إبطاله أم لا وعن المأمور بالترك وهو فاعل ما أمر بتركه أيقدر على تركه في حال فعله فيكون فاعلاً لشيء تاركاً لذلك الشيء معاً أم لا فإن قالوا نعم هو قادر على ذلك كابروا العيان وخالفوا المعقول والحس وأجازوا كل طامة من كون المرء قاعداً قائماً معاً ومؤمناً بالله كافراً به معاً وهذا أعظم ما يكون من المحال الممتنع وإن قالوا أنه لا يقدر قدرة تامة يكون بها الفاعل لشيء هو فاعل لخلافه قالوا الحق ورجعوا إلى أنه لا يستطيع أحد استطاعة تامة يقع بها الفعل إلا حتى يفعله وكل جواب أجابوا به ها هنا فإنما هو إيهام ولواذ ومدافعة بالراح لأنه إلزام ضروري حسي متيقن لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا لسنا نقول أنه يقدر أن يجمع بين الفعلين المتضادين معا ولكننا قلنا أنه قادر على أن يترك ما هو فيه ويفعل ما أمر به قيل لهم هذا هو نفسه الذي أردنا منكم وهو أنه لا يقدر قدرة تامة ولا يستطيع استطاعة تامة على فعل ما دام فاعلاً لما يمانعه فإذا ترك كل ذلك وشرع فيما أمر به فحينئذ تمت قدرته واستطاعته لابد من ذلك وهذا هو نفس ما موهوا به في سؤالهم لنا هل أمر الله تعالى العبد بما يستطيع قبل أن يفعله أم بما لا يستطيع حتى يفعله وهذا لهم لازم لأنهم شنعوه وعظموه وأنكروه ونحن لا ننكره ولا نرى ذلك إلزاماً صحيحاً فقبحه عائد عليهم وإنما يلزم الشيء من يصححه وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: وقد أجاب في هذه المسألة عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي أحد رؤساء الأصلح من المعتزلة بأن قال إننا لا نختلف في أن الله عز وجل قادر على تسكين المتحرك وتحريك الساكن وليس يوصف بالقدرة على أن يجعله ساكناً متحركاً معاً.

قال أبو محمد: وليس كما قال الجاهل الملحد فيما وصف الله تعالى به بل الله تعالى قادر على أن يجعل الشيء ساكناً متحركاً معاً في وقت واحد من وجه واحد ولكن كلام البلخي هذا لازم لمن التزم هذه الكفرة الصلعاء من أن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحال ويقال لهم لم لا يوصف بالقدرة على ذلك ألأن له قدرة على ذلك ولا يوصف بها أم لأنه لا قدرة له على ذلك ولا محيد لهم عن هذا وهذه طائفة جعلت قدرة الله تعالى متناهية بل قطعوا قطعاً بأنه تعالى لا يقدر على الشيء حتى يفعله وهذا كفر مجرد لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان .

قال أبو محمد: ويقال للمعتزلة أيضا أنتم تقرون أيضاً معنا بأن الله تعالى لم يزل عليماً بأن كل كائن فإنه سيكون على ما هو عليه إذا كان ولم يزل الله تعالى يعلم أن فلاناً سيطاء فلانة في وقت كهذا فتحمل منه بولد يخلقه الله تعالى من منيهما الخارج منهما عند جماعه إياها وأنه يعيش ثمانين سنة ويملك ويفعل ويصنع فإذا قلتم أن ذلك الفلان يقدر قدرة تامة على ترك ذلك الوطأ الذي لم يزل الله تعالى يعلم أنه سيكون وأنه يخلق ذلك الولد منه فقد قطعتم بأنه قادر على أن يمنع الله من خلق ما قد علم أنه سيخلقه وأنه قادر قدرة تامة على إبطال علم الله عز وجل وهذا كفر ممن أجازه فإن قال قائل فإنكم أنتم تطلقون أن المرء مستطيع قبل الفعل لصحة جوارحه فهذا يلزمكم قلنا هذا لا يلزمنا لأننا لم نطلق أن له قدرة تامة على ذلك أصلاً بل قلنا أنه لا يقدر على ذلك قدرة تامة البتة ومعنى قولنا أنه مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهم منه ذلك لو كان ونحن لم نطلق الاستطاعة إلا على هذا الوجه حيث أطلقها الله عز وجل فإن قالوا أن الله تعالى قادر على كل ذلك ولا يوصف بالقدرة على فسخ علمه الذي لم يزل قلنا وهذا أيضاً مما تكلمنا فيه آنفاً بل الله تعالى قادر على كل ذلك بخلاف خلقه على ما قد مضى كلامنا فيه وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: وقد نص الله تعالى على ما قلنا بقوله عز وجل: " سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " إلى قوله: " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين " فأكذبهم الله تعالى في نفيهم عن أنفسهم الاستطاعة التي هي صحة الجوارح وارتفاع الموانع ثم نص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا أمر تكوين لا أمر بالقعود لأنه تعالى ساخط عليهم لقعودهم وقد نص تعالى على أنه: " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فقد ثبت يقيناً أنهم مستطيعون بظاهر الأمر بالصحة في الجوارح وارتفاع الموانع وإن الله تعالى كون فيهم قعودهم فبطل أن يتم استطاعتهم لخلاف فعلهم الذي ظهر منهم وقال عز وجل: " مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا " فبين عز وجل بياناً جلياً أن من أعطاه الهدى اهتدى ومن أضله فلا يهتدي فصح يقيناً أن بوقوع الهدى له من الله تعالى وهو التوفيق يفعل العبد ما يكون به مهتدياً وأن بوقوع الأضلال من الله تعالى وهو الخذلان وخلق ضلال العبد يفعل المرء ما يكون به ضالاً فإن قال قائل معنى هذا من سماه الله مهتدياً ومن سماه ضالاً قيل له هذا باطل لأن الله تعالى نص على أن من أضله الله فلن تجد له ولياً مرشداً فلو أراد الله تسميته كما زعمتم لكان هذا القول منه عز وجل كذباً لأن كل ضال فله أولياء على ضلاله يسمونه مهتدياً وراشداً وحاشا لله من الكذب فبطل تأويلهم الفاسد وصح قولنا والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد: وقال الله تعالى مخبراً عن الخضر الذي آتاه الله تعالى العلم والحكمة والنبوة حاكياً عن موسى عليه السلام وفتاه: " فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمه من عندنا وعلمناه من لدنا علماً " وقال تعالى مخبراً عنه ومصدقاً عنه وما فعلته عن أمري فصح أن كل ما قال الخضر عليه السلام فمن وحي الله عز وجل ثم أخبر عز وجل بأن الخضر قال لموسى عليه السلام: " أنك لن تستطيع معي صبراً " فلم ينكر الله تعالى كلامه ذلك ولا أنكره موسى عليه السلام لكن أجابه بقوله: " ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً " فلم يقل له موسى عليه السلام إني مستطيع للصبر بل صدق قوله في ذلك إذا أقره ولم ينكره ورجا أن يجد الله له استطاعه على الصبر فيصبر ولم يوجبه موسى عليه السلام أيضاً لنفسه إلا أن يشاء الله تعالى ثم كرر عليه الخضر بعد ذلك مرات أنه غير مستطيع للصبر إذ لم يصبر فلم ينكر ذلك موسى عليه السلام فهذه شهادة ثلاثة أنبياء محمد وموسى والخضر وأكبر من شهادتهم شهادة الله عز وجل بتصديقهم في ذلك إذ قد نصه الله تعالى علينا غير منكر له بل مصدقاً لهم وهذا لا يرده إلا مخذول وقال عز وجل: " وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً " فنص تعالى نصاً جلياً على أنهم كانوا لا يستطيعون السمع الذي أمروا به وأنهم مع ذلك كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله عز وجل ومع ذلك استحقوا على ذلك جهنم وكانوا في ظاهر الأمر مستطيعين بصحة جوارحهم وهذا نص قولنا بلا تكلف والحمد لله رب العالمين على هداه لنا وتوفيقه إيانا لا إله إلا هو وقال تعالى ": إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " فنفى الله عز وجل استطاعة شيء من السبل غير سبيل الضلال وحده وفي هذا كفاية لمن عقل وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " فنص تعالى على إن من لم يأذن له في الإيمان لم يؤمن وإن من أذن له في الإيمان آمن وهذا الأذن هو التوفيق الذي ذكرنا فيكون به الإيمان ولا بد وعدم الأذن هو الخذلان الذي ذكرنا نعوذ بالله منه وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام ومصدقاً له إذ يقول: " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " فنص تعالى على أن رسوله إن لم يعنه بصرف الكيد صبا وجهل وأنه تعالى صرف الكيد عنه فسلم وهذا نص جلي على أنه إذا وفقه اعتصم واهتدى وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم خليله ورسوله ومصدقاً له: " لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " فهذا نص على أن من أعطاه الله عز وجل قوة الإيمان آمن واهتدى وأن من منعه تلك القوة كان من الضالين وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وقال تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " فنص تعالى على أنه أمره بالصبر ثم اخبره أنه لا صبر له إلا بعون الله تعالى فإذا أعانه بالصبر صبر وقال تعالى: " إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهذا نص جلي على أن من أضله الله تعالى بالخذلان له فلا يكون مهتدياً وقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً " فهذا نص لا إشكال فيه على أن الله عز وجل منعهم أن يفقهوه فإن قال قائل إنما قال تعالى أنه يفعل ذلك بالذين لا يؤمنون ولذلك قال تعالى: " وما يضل به إلا الفاسقين " وكذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " قيل له وبالله تعالى التوفيق لو صح لك هذا التأويل لكان حجة عليك لأنه تعالى قد منعهم للتوفيق وسلط عليهم الخذلان وأضلهم وطبع على قلوبهم فاجعله كيف شئت فكيف وليس ذلك على ما تأولت ولكن الآيات ظواهرها وعلى ما يقتضيه لفظها دون تكلف هو أن الله تعالى لما أضلهم صاروا ضالين فاسقين حين أضلهم لا قبل أن يضلهم وكذلك إنما صاروا لا يؤمنون حين جعل بينهم وبينه حجاباً وحين جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم الوقر لا قبل ذلك وإنما صاروا كافرين حين طبع على قلوبهم لا قبل ذلك وقال تعالى: " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً " فنص تعالى على أنه لولا أن ثبت نبيه بالتوفيق لركن إليهم فإنما يثبت رسول الله حين ثبته الله عز وجل لا قبل ذلك ولو لم يعطه التثبيت وخذله لركن إليهم وضل واستحق العذاب على ذلك ضعف الحياة وضعف الممات فتباً لكل مخذول يظن في نفسه الخسيسة أنه مستغن عما افتقر إليه محمد من توفيق الله وتثبيته وإنه قد استوفى من الهدى ما لا مزيد عليه وإنه ليس عند ربه أفضل مما أعطاه بعد ولا أثر وقد أمرنا عز وجل أن نقول: " إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " فنص الله تعالى على أمرنا بطلب العون منه وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين فلو لم يكن ها هنا عون خاص من آتاه الله إياه اهتدى ومن حرمه إياه وخذله ضل لما كان لهذا الدعاء معنى لأن الناس كلهم كانو يكونون معانين منعماً عليهم مهديين وهذا بخلاف النص المذكور وقال تعالى: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم " فنص تعالى على أنه ختم على قلوب الكافرين وإن على سمعهم وأبصارهم غشاوة حائلة بينهم وبين قول الحق فمن هو الجاعل هذه الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم إلا الذي ختم على قلوبهم عز وجل وهذا هو الخذلان الذي ذكرنا ونعوذ بالله منه وهذا نص على أنهم لا يستطيعون الإيمان ما دام ذلك الختم وعلى قلوبهم والغشاوة على أبصارهم وأسماعهم فلو أزالها تعالى لآمنوا ألا أن يعجزوا ربهم عز وجل على إزالة ذلك فهذا خروج عن الإسلام وقال تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " فنص تعالى كما ترى على أنه من لم يتفضل عليه ولم يرحمه اتبع الشيطان ضرورة فصح ان التوفيق به يكون الإيمان وإن الخذلان به يكون الكفر والعصيان وهو اتباع الشيطان ومعنى قوله تعالى ألا قليلاً على ظاهره وهو استثناء من المنعم عليهم المرحومين الذين لم يتبعوا الشيطان برحمة الله تعالى لهم أي لاتبعتم الشيطان إلا قليلا لم يرحمهم الله فاتبعوا الشيطان إذ رحمكم أنتم فلم تتبعوه وهذا نص قولنا ولله تعالى الحمد وقال تعالى: " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً وهذا نص مت قلناه أن من أضله الله تعالى لا سبيل له إلى الهدى وأن الضلال وقع مع الإضلال من الله تعالى للكافر والفاسق وقال تعالى: " ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده " فأخبر تعالى أن عنده هدى يهدي به من يشاء من عباده فيكون مهتدياً وهذا تخصيص ظاهر كما ترى وقال تعالى: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " فهذا نص ما قلنا وإن الله تعالى قد نص قائلاً لنا أن من أراد هداه شرح صدره للإسلام فآمن بلا شك وإن من أراد ضلاله ولم يرد هداه ضيق صدره وأحرجه حتى يكون كمريد الصعود إلى السماء فهذا لا يؤمن البتة ولا يستطيع وهو في ظاهره مستطيع بصحة جوارحه.

قال أبو محمد: إن الضال لمن ضل بعد ما ذكرنا من النصوص التي لا تحتمل تأويلاً ومن شهادة خمسة من الأنبياء إبراهيم وموسى ويوسف والخضر ومحمد عليهم السلام بأنهم لا يستطيعون فعلاً لشيء من الخير إلا بتوفيق الله تعالى لهم وإنهم إن لم يوفقهم ضلوا جميعاً مع ما أوردنا من البراهين الضرورية المعروفة بالحس وبديهة العقل.

قال أبو محمد: ومن عرف تراكيب الأخلاق المحمودة والمذمومة علم أنه لا يستطيع أحد غير ما يفعل مما خلقه الله عز وجل فيه فتجد الحافظ لا يقدر على تأخر الحفظ والبليد لا يقدر على الحفظ والفهيم لا يقدر على الغباوة والغبي لا يستطيع ذكاء الفهم والحسود لا يقدر على ترك الجسد والنزيه النفس لا يقدر على الحسد والحريص لا يقدر على ترك الحرص والبخيل لا يقدر على البذل والجبان لا يقدر على الشجاعة والكذاب لا يقدر على ضبط نفسه عن الكذب كذلك يوجدون من طفولتهم والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحي لا يقدر على القحة والوقح لا يقدر على الحياة والعي لا يقدر على البيان والطيوش لا يقدر على الصبر والغضوب لا يقدر على الحلم والصبور لا يقدر على الطيش والحليم لا يقدر على الغضب والعزيز النفس لا يقدر على المهانة والمهين لا يقدر على عزة النفس وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقدر أحد إلا على ما يفعل بما يتم الله تعالى فيهم القوة على فعله وإن كان خلاف ذلك متوهماً منهم بصمة البنية وعدم المانع.

قال أبو محمد: والملائكة والحوار العين والجن وجميع الحيوان كله في الاستطاعة سواء كما ذكرنا ولا فرق بين شيء في ذلك كله وكلهم قد خلق الله عز وجل فيهم الاستطاعة الظاهرة بصحة الجوارح ولا يكون منهم فعل إلا بعون وارد من الله تعالى إذا ورد كان الفعل معه ولا بد قد خلق الله عز وجل فيهم اختياراً وإرادة وحركة وسكوناً هم أفعالهم على غيرها والملائكة وحور العين معصومون لم يخلق الله تعالى فيهم معصية أصلاً لا طاعة ولا معصية وأما الذي يقدر على كل ما يفعل وما لا يفعل ولم يزل قادراً على كل ما يخطر بالقلب فهو واحد لا شريك له وهو الله عز وجل ليس كمثله شيء ولم يكن له كفواً أحد وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في الهدى والتوفيق

عدل

قال أبو محمد: احتجت المعتزلة بقول الله عز وجل " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " وبقوله تعالى: " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً ".

قال أبو محمد: وهذا حق وقد قال تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " فأخبر تعالى أن الذين هدى بعض الناس لا كلهم وقال تعالى: " إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل " وهي قراة مشهورة عن عاصم بفتح الياء من يهدي وكسر الدال فأخبر تعالى أن في الناس من لم يهده وقال تعالى: " من يضلل الله فلا هادي له " فأخبر تعالى أن الذين أضل فلم يهدهم وقال تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " فأخبر تعالى أن الذين هدى غير الذي أضل ومثل هذا كثير وكل ذلك كلام الله عز وجل وكله حق لا يتعارض ولا يبطل بعضه بعضاً قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح يقيناً أن كل ما أوردنا من الآيات فكلها متفق لا مختلف فنظرنا في الآيات المذكورة فوجدناها ظاهرة لائحة وهو أن الله تعالى أخبر أنه هدى ثمود فلم يهتدوا وهدى الناس كلهم السبيل ثم هم بعد إما شاكر وإما كفور وأخبر تعالى في الآيات الأخر أنه هدى قوماً فاهتدوا ولم يهد آخرين فلم يهتدوا فعلمنا ضرورة أن الهدى الذي أعطاه الله عز وجل جميع الناس هو غير الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم يعطهم إياه هذا أمر معلوم بضرورة العقل وبديهته فإذ لا شك في ذلك فقد لاح الأمر وهو أن الهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة وهي التي يقع الاسم منها على مسميين مختلفين بنوعهما فصاعداً فالهدى يكون بمعنى الدلالة تقول هديت فلاناً الطريق بمعنى أريته إياه ووقفته عليه وأعلمته إياه سواء سلكه أو تركه وتقول فلان هاد بالطريق أي دليل فيه فهذا الهدى الذي هداه الله ثمود وجميع الجن والملائكة وجميع الأنس كافرهم ومؤمنهم لأنه تعالى دلهم على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضي فهذا معنى ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير والتيسير له وخلقه لقبول الخير في النفوس فهذا هو الذي أعطاه الله عز وجل الملائكة كلهم والمهتدين من الأنس والجن ومنعه الكفار من الطائفتين والفاسقين فيما فسقوا فيه ولو أعطاهم إياه تعالى لما كفروا ولا فسقوا وبالله تعالى التوفيق ومما يبين هذا قوله تعالى في الآيات المذكورة: " إنا هديناه السبيل " فبين تعالى أن الذي هداهم له فهو الطريق فقط وكذلك أيضاً قوله تعالى: " ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين " فهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وكذلك قوله تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " وقوله تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " وهذا بلا شك غير ما هدى جميعهم عليه من الدلالة والتبيين للحق من الباطل.

قال أبو محمد: وقوله تعالى أن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم.

قال أبو محمد: فهذا نص جلي على ما قلنا وبيان أن الدلالة لهم على طريق جهنم يحملون فيه إليها هدى لهم إلى تلك الطريق ونفى عنهم تعالى في الآخرة كل هدى إلى شيء من الطرق إلا طريق جهنم ونعوذ بالله من الضلال.

قال أبو محمد: وقال بعض من يتعسف القول بلا علم أن قول الله عز وجل " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " وقوله تعالى: " إنا هديناه السبيل " وقوله تعالى: " وهديناه النجدين " إنما أراد تعالى بكل ذلك المؤمنين خاصة.

قال أبو محمد: وهذا باطل لوجهين أحدهما تخصيص الآيات بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل والثاني أن نص الآيات يمنع من التخصيص ولا بد وهو أن الله تعالى قال: " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " فرد تعالى الضمير في فاستحبوا العمى على الهدى إلى المهديين أنفسهم فصح أن الذين هدوا لم يهتدوا وأيضاً فإن الله تعالى قال لرسوله : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " وقال له تعالى: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " فصح يقيناً أن الهدى الواجب على النبي هو الدلالة وتعليم الدين وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه وإنما هو لله تعالى وحده فإن ذكر ذاكر قول الله عز وجل: " ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " فليس هذا على ما ظنه من لا ينعم النظر من أن الله وحده لو أسمعهم لم يسمعوا بذلك بل ظاهر الآية مبطل لهذا الظن لأنه تعالى قال: " ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم " فصح يقيناً أن من علم الله تعالى فيه خيراً أسمعه وثبت أن فيه خيراً ثم قال تعالى: " لتولوا وهم معرضون " لو أسمعهم لم يسمعوا فصح يقيناً أنه أراد بلا شك أنه لو أسمعهم لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا أصلاً لأنه تعالى قد نص على أن إسماعه لا يكون إلا لمن علم فيه خيراً ومن المحال الباطل أن يكون من علم الله تعالى فيه خيراً يتولى عن الخير ويعرض عنه فبطل ما حرفوه بظنونهم من كلام الله عز وجل وكذلك قوله تعالى: " إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً " فإنه تعالى قسم من هدى السبيل قسمين كفوراً وشاكراً فصح ان الكفور أيضاً هدى السبيل فبطل ما توهموه من الباطل ولله تعالى الحمد وصح ما قلنا.

قال أبو محمد: وقد تلونا من كلام الله تعالى في الباب الذي قبل هذا والباب الذي قبله متصلاً به نصوص كثيرة بأن الله تعالى أضل من شاء من خلقه وجعل صدورهم ضيقة حرجة فإن اعترضوا بقول الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: " وما أضلنا إلا المجرمون " فلا حجة لهم في هذه الوجوه أحدها أنه قول كفار قد قالوا الكذب وحكى الله تعالى حينئذ " والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " فإن أبوا إلا الاحتجاج بقول الكفار فليجعلوه إلى جنب قول إبليس: " رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض " والوجه الثاني أننا لا ننكر إضلال المجرمين وإضلال إبليس لهم ولكنه إضلال آخر ليس إضلال الله تعالى لهم والثالث أنه لا عذر لأحد في أن الله تعالى أضله ولا لوم على الخالق تعالى في ذلك وأما من أضل آخر من دون الله تعالى فهو ملوم وقد فسر الله تعالى إضلاله لمن يضل كيف هو وفسر تعالى ذلك الإضلال تفسيراً أغنانا به عن تفسير الخلعاء العيارين كالنظام والعلاف وثمامة وبشر بن المعتمر والجاحظ والناشي وما هنالك من الأحزاب ومن تبعهم من الجهال فبين تعالى في نص القرآن أن إضلاله لمن أضل من عباده إنما هو أن يضيق صدره عن قبول الإيمان وأن يحرجه حتى لا يرغب في تفهمه والجنوح إليه ولا يصبر عليه ويوعر عليه الرجوع إلى الحق حتى يكون كأنه يتكلف في ذلك الصعود إلى السماء وفسر ذلك أيضاً عز وجل في آيه أخرى قد تلوناها آنفاً بأنه يجعل أكنه على قلوب الكافرين يحول بين قلوبهم وبين تفهم القرآن والإصاخة لبيانه وهداه وإن يفقهوه وإنه جعل تعالى بينهم وبين قول الرسول حجاباً مانعاً لهم من الهدى وفسره أيضاً تعالى بأنه ختم على قلوبهم وطبع عليها فامتنعوا بذلك من وصول الهدى إليها وفسر تعالى إضلال من دونه فقال تعالى أنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار وفسر تعالى أيضاً القوة التي أعطاها المؤمنين وحرمها الكافرين بأنها تثبيت على قبول الحق وأنه تعالى يشرح صدورهم لفهم الحق واعتقاده والعمل به وأنه صرف لكيد الشيطان ولفتنته عنهم نسأل الله أن يمدنا بهذه العطية وأن يصرف عنا الإضلال بمنه وإن لا يكلنا إلى أنفسنا فقد خاب وخسر من ظن في نفسه أنه قد استكمل القوى حتى استغنى عن أن يزيده الله تعالى توفيقاً وعصمة ولم يحتج إلى خالقه في ان يصرف عنه فتنته ولا كيده لاسيما من جعل نفسه أقوى على ذلك من خالقه تعالى ولم يجعل عند خالقه قوه يصرف بها عنه كيد الشيطان نعوذ بالله مما امتحنهم به ونبرأ إلى الله خالقنا تعالى من الحول والقوة كلها إلا ما أتانا منها متفضلاً علينا وأما كل ما جاء في القرآن من إضلال الشياطين للناس وإنسائهم إياهم ذكر الله تعالى وتزيينهم لهم ووسوستهم وفعل بعض الناس ذلك ببعض فصحيح كما جاء في القرآن دون تكلف وهذا كله إلقاء لما ذكرنا في قلوب الناس وهو من الله تعالى خلق لكل ذلك في القلوب وخالق لأفعال هؤلاء المضلين من الجن والإنس وكذلك قوله تعالى: " حسداً من عند أنفسهم " لأنه فعل أضيف إلى النفس لظهوره منها وهو خلق الله تعالى فيها فإن ذكروا قول الله تعالى: " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون فهو كما قال لك عز وجل وهو حجة على المعتزلة لأن الله تعالى أخبر أنه لا يضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون وما يلزمهم " وصدق الله عز وجل لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضال بشيء مما يفعل اصلاً فإنما سمى الله تعالى فعله في العبد إضلالاً بعد بلوغ البيان إليه لا قبل ذلك وبالله التوفيق فصح بهذه الآية أنه تعالى يضلهم بعد ان يبين لهم وقد فسر بعضهم الإضلال بأنه منع اللطف الذي يقع به الإيمان فقط.

قال أبو محمد: ونصوص القرآن تزيد على هذا المعنى زيادة لا شك فيها وتوجب أن الإضلال معنى زايد أعطاه الله للكفار والعصاة وهو ما ذكرنا من تضييق الصدور وتحريجها والختم على القلوب والطبع عليها وأكنانها عن أن يفقهوا الحق فإن قالوا إن هذا فعل النفوس كلها إن لم يمدها الله تعالى بتوفيق قلنا لهم من خلقها هذه الخلقة المفسدة إن لم يؤيدها بالتوفيق فإن قالوا الله تعالى هو خلقها كذلك أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه البلية وركب فيها هذه الصفة المهلكة فإن فروا إلى قول معمر والجاحظ أن هذا كله فعل الطبيعة لم يتخلصوا من سؤالنا وقلنا لهم فمن خلق النفس وخلق فيها هذه الطبيعة الموجبة لهذه الأفاعيل فإن قالوا الله سبحانه وتعالى أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه الصفة المهلكة لها إن لم يمدها بلطف وتوفيق وكذلك إن قالوا أن النفس هي فعلت الطبيعة الموجبة لهذه المهالك كانوا مع خروجهم من الإسلام بهذا القول محيلين أيضاً محالاً ظاهراً لأن النفس لو فعلت هي طبيعتها لكانت إما مختارة لفعلها وإما مضطرة إلى فعلها على ما هي عليها فإن كانت مختارة فقد يجب أن تقع طبيعتها مراراً بخلاف مالا توجد إلا عليه وإن كانت مضطرة فمن خلقها مضطرة إلى هذا الفعل فلا بد من انه الله تعالى فرجعوا ضرورة إلى أن الله تعالى هو الذي أعطاها هذه الصفة المهلكة التي بها كانت المعصية مع أنه لم يقل أحد من المسلمين أن النفس أحدثت طبيعتها مع أنه أيضاً قول يبطله الحس والمشاهدة وضرورة العقل.

قال أبو محمد: وأما القائلون بالأصلح من المعتزلة فإنهم انقطعوا هاهنا وقالوا لا ندري ما معنى الإضلال ولا معنى الختم على قلوبهم ولا الطبع عليها وقال بعضهم معنى ذلك أن الله تعالى سماهم ضالين وحكم انهم ضالون وقال بعضهم معنى أضلهم أتلفهم كما تقول ضللت بعيري وهذه كلها دعاوي بلا برهان.

قال أبو محمد: لم نجد لهم تأويلاً أصلاً في قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال: " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء ".

قال أبو محمد: وهذا هو الإضلال حقاً وهو أن يحملهم اللجاج والعمى في لزوم أصل قد ظهر فساده وتقليد من لا خير فيه من أسلافهم على أن يدعوا أنهم لا يعرفون ما معنى الضلال والختم والطبع والأكنة على القلوب وقد فسر الله كل ذلك تفسيراً جلياً وأيضاً فإنها ألفاظ عربية معروفة المعاني في اللغة التي نزل بها القرآن فلا يحل لأحد صرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها التي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن إلى معنى غير ما وضعت له إلا أن يأتي نص قرآن أو كلام عن رسول الله أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنها مصروفة عن ذلك المعنى إلى غيره أو يوجب صرفها ضرورة حس أو بديهة عقل فيوقف حينئذ عند ما جاء من ذلك ولم يأت في هذه الألفاظ التي أضلهم الله تعالى فيها وخيرهم الشيطان عن فهمها نص ولا إجماع ولا ضرورة بأنها مصروفة عن موضعها في اللغة بل قد قال رسول الله : " كل ميسر لما خلق له " فبين عليه السلام أن الهدى والتوفيق هو تيسير الله تعالى المؤمن للخير الذي له خلقه وأن الخذلان تيسرة الفاسق للشر الذي له خلقه وهذا موافق للغة والقرآن والبراهين الضرورية العقلية ولما عليه الفقهاء والأئمة المحدثون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وعامة المسلمين حاشا من أضله الله على علم من أتباع العيارين الخلعاء كالنظام وثمامة والعلاف والجاحظ.

قال أبو محمد: ونبين هذا أيضاً بياناً طبيعياً ضرورياً لا خفاء به بعون الله تعالى وتأييده على من له أدنى بصر بالنفس وأخلاقها وقدرة الله تعالى في اختراعها فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الله عز وجل خلق نفس الإنسان مميزة عاقلة عارفة بالأشياء على ما هي عليه فهمه بما تخاطب به وجعلها مأمورة منهية فعالة منعمة معذبة ملتذة آلمة حساسة وخلق فيها قوتين متعاديتين متضادتين في التأثير وهما التمييز والهوى كل واحدة منهما تريد الغلبة على آثار النفس فالتمييز هو الذي خص به نفس الإنسان والجن والملائكة دون الحيوان الذي لا يكلف والذي ليس ناطقاً و الهوى هو الذي يشاركها فيه نفوس الجن والحيوان الذي ليس ناطقاً من حب اللذات والغلبة.

قال أبو محمد: وهذه القوة في كل الحيوان حاشا الملائكة فإنما فيها قوة التمييز فقط ولذلك لم يقع منها معصية أصلاً بوجه من الوجوه فإذا عصم الله النفس غلب التمييز بقوة من عنده هي له مدد وعون فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز وجل في تمييزها من فعل الطاعات وهذا هو الذي يسمى العقل وإذا خذل جل وعز النفس أمد الهوى بالقوة هي الإضلال فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز وجل في هواها من الشهوات وحب الغلبة والحرص والبغي والحسد وسائر الأخلاق الرذلة والمعاصي وقد قامت البراهين على أن النفس مخلوقة وكذلك جميع قواها المنتجة عن قوتيها الأولتين التمييز والهوى كل ذلك مخلوق مركب في النفس مرتب على ما هو عليه فيها كل جار على طبيعته المخلوقة لجري كيفياته بها على ما هي عليه فإذا قد صح أن كل ذلك خلق الله تعالى فلا مغلب لبعض ذلك على بعض إلا خالق الكل وحده لا شريك له وقد نص الله تعالى على ذم النفس جملة إلا من رحمها الله تعالى وعصمها قال عز وجل: " إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي " فأخبر عز وجل بنص ما قلنا فصح أن المرحومة المستثناة لا تأمر بالسوء وبالله تعالى التوفيق قال الله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " وذم الله تعالى الهوى في غير ما موضع من كتابه وهذا نص ما قلنا وحسبنا الله ونعم الوكيل.

الكلام في القضاء والقدر

عدل

قال أبو محمد: ذهب بعض الناس لكثرة استعمال المسلمين هاتين اللفظتين إلى أن ظنوا أن فيهما معنى الإكراه والإجبار وليس كما ظنوا وإنما معنى القضاء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى ورسوله وبها نتخاطب ونتفاهم مرادنا أنه الحكم فقط ولذلك يقولون القاضي بمعنى الحاكم وقضى الله عز وجل بكذا أي حكم به ويكون أيضاً بمعنى أمر قال تعالى: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " إنما معناه بلا خلاف أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ويكون أيضاً بمعنى أخبر قال الله تعالى: " وقضينا إليه ذلك الأمر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " بمعنى أخبرناه أن دابرهم مقطوع بالصباح وقال تعالى: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنا في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً " أي أخبرناهم بذلك ويكون أيضاً بمعنى أراد وهو قريب من معنى حكم قال الله تعالى: " إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون " ومعنى ذلك حكم بكونه فكونه ومعنى القدر في اللغة العربية الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء تقول قدرت البناء تقديراً إذا رتبته وحددته قال تعالى: " وقدر فيها أقواتها " بمعنى رتب أقواتها وحددها وقال تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " يريد تعالى برتبة وحد فمعنى قضى وقدر حكم ورتب ومعنى القضاء والقدر حكم الله تعالى في شيء بحمده أو ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كذا وإلى وقت كذا فقط وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في البدل

عدل

قال أبو محمد: قال بعض القائلين بالاستطاعة مع الفعل إذا سئل هل يستطيع الكافر ما أمر به من الإيمان أم لا يستطيع فأجاب أن الكافر مستطيع للإيمان على البدل بمعنى أن لا يتمادى في الكفر لكن يقطعه ويبدل منه الإيمان.

قال أبو محمد: والذي يجب أن يجيب به هو الجواب الذي بينا صحته بحول الله تعالى وقوته في كلامنا في الاستطاعة وهو ان تقول هو مستطيع في ظاهر الأمر بسلامة جوارحه وارتفاع موانعه غير مستطيع للجمع بين الإيمان والكفر ما دام كافراً وما دام لا يؤتيه الله عز وجل العون فإذا آتاه إياه تمت استطاعته وفعل ولا بد فإن قيل فهو مكلف مأمور قلنا نعم فإن قيل أهو عاجز عن ما هو مأمور به ومكلف أن يفعله قلنا وبالله التوفيق هو غير عاجز بظاهر بنيته لسلامة جوارحه وارتفاع الموانع وهو عاجز عن الجمع بين الفعل وضده ما لم ينزل الله تعالى له العون فيتم ارتفاع العجز عنه ويوجد الفعل ولا بد وتقول أن العجز في اللغة إنما يقع على الممنوع بآفة على الجوارح أو بمانع ظاهر إلى الحواس والمأمور بالفعل ليس بظاهر أمره عاجزاً إذ لا آفة في جوارحه ولا مانع له ظاهراً وهو في الحقيقة عاجز عن الجمع بين الفعل وضده وبين الفعل وتركه وعن فعل ما لم يؤته الله تعالى عوناً عليه وعن تكذيب علم الله تعالى الذي لم يزل بأنه لا يفعل إلا ما سبق علمه تعالى في هذه حقيقة الجواب في هذا الباب والحمد لله رب العالمين فإن قيل فهو مختار لما يفعل قلنا نعم اختياراً صحيحاً لا مجازاً لأنه مريد لكونه منه محب له مؤثر على تركه وهذا معنى لفظة الاختيار على الحقيقة وليس مضطراً ولا مجبراً ولا مكروهاً لأن في هذه ألفاظ في اللغة لا تقع إلا على الكاره لما يكون منه في هذه الحال وقد يكون المرء مضطراً مختاراً مكرهاً في حالة واحدة كإنسان في رجله أكلة لا دواء له إلا بقطعها فيأمر أعوانه مختاراً لأمره إياهم بقطعها وبحسمها بالنار بعد القطع ويأمرهم بإمساكه وضبطه وأن لا يلتفتوا إلى صياحه ولا إلى أمره لهم بتركه إذا أحس الألم ويتوعدهم على التقصير في ذلك الضرب والنكال الشديد فيفعلون به ذلك فهو مختار لقطع رجله إذ لو كره ذلك كراهة تامة لم يكرهه أحد على ذلك وهو بلا شك كاره لقطعها مضطر إليه إذ لو وجد سبيلاً بوجه من الوجوه دون الموت إلى ترك قطعها لم يقطعها وهو مجبر مكره بالضبط من أعوانه حتى يتم القطع والحسم إذ لو لم يضبطوه ويعسروه ويقهروه ويكرهوه ويجبروه لم يمكن من قطعها البتة إنما أتينا بهذا لئلا ينكر الجاهلون أن يكون أحد يوجد مختاراً من وجه مكرهاً من وجه آخر عاجزاً من وجه مستطيع من آخر قادر من وجه ممنوعاً من آخر وبالله تعالى نتأيد.

الكلام في خلق الله عز وجل لأفعال خلقه

عدل

قال أبو محمد: اختلفوا في خلق الله تعالى لأفعال عباده فذهب أهل السنة كلهم وكل من قال بالاستطاعة مع الفعل كالمريسي وابن عون والنجارية والأشعرية والجهمية وطوائف من الخوارج والمرجئة والشيعة إلى ان جميع أفعال العباد مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها ووافقهم على هذا موافقة صحيحة من المعتزلة ضرار بن عمرو وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد وذهب سائر المعتزلة ومن وافقهم على ذلك من المرجئة والخوارج والشيعة إلى أن أفعال العباد محدثة فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله عز وجل على تخليط منهم في مائية أفعال النفس إلا بشر بن معتمر عطف فقال إلا أنه ليس شيء من أفعال العباد إلا ولله تعالى فيه فعل من طريق الاسم والحكم يريد بذلك أنه ليس للناس فعل إلا ولله تعالى فيه حكم بأنه صواب أو خطأ ونسميه بأنه حسن أو قبيح طاعة أو معصية.

قال أبو محمد: وقد أدى هذا القول الفاحش الملعون رجلاً من كبار المعتزلة وهو عباد بن سلمان تلميذ هشام بن عمرو الفوطي إلى ان قال أن الله تعالى لم يخلق الكفار لأنهم ناس وكفر معاً لكن خلق أجسامهم دون كفرهم.

قال أبو محمد: ويلزمه مثل هذا نفسه في المؤمنين وفي جميع الملائكة والجن لأنه ليس إلا مؤمن وكافر والمؤمن إنسان وإيمانه أو ملك وإيمانه أو جني وإيمانه وكفره فعلى قول هذا البائس السخيف لا يجوز أن يقال أن الله تعالى خلق من الناس ولا الجن ولا الملائكة سعيد بل يكون القول بهذا كذباً وحسبك بهذا القول خلافاً للقرآن وللمسلمين وقال معمر والجاحظ أن أفعال العباد كلها إلا فعل لهم فيها وإنما نسب إليهم مجازاً لظهورها منهم وإنها فعل الطبيعة حاشا الإرادة قال أبو محمد: ومن تدبر هذا القول علم أنه أقبح من قول جهم وجميع المجبرة لأنهم جعلوا أفعال العباد طبيعة اضطرارية كفعل النار للإحراق بطبعها وفعل الثلج للتبريد بطبعه وفعل السقمونيا في إحدارها الصفراء بطبعها وهذه صفة الأموات لا صفة الأحياء المختارين وإذا لم يبق على قول هذين الرجلين للإنسان فعل إلا الإرادة فقد وجدنا الإرادة لا يقدر الإنسان على صرفها ولا إحالتها ولا على تبديلها بوجه من الوجوه وإنما يظهر من المرء تبديل حركاته وسكونه وأما إرادته فلا حيلة له فيها ونحن نجد كل قوي الآلة من الرجال يحب وطيء كل جميلة يستمتع بها لولا التقوى ويحب النوم عن الصلاة في الليالي القارة والهواجر الحارة ويحب الأكل في أيام الصوم ويحب إمساك ماله عن الزكاة وإنما يأتي خلاف ما يريد مغالبة لإرادته وقهراً لها وأما صرفاً لها فلا سبيل له إليه فقد تم الإخبار صحيحاً على قول هذين الرجلين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قال أبو محمد: والبرهان على صحة قول من قال أن الله تعالى خلق أعمال العباد كلها نصوص من القرآن وبراهين ضرورية منتجة من بديهة العقل والحس لا يغيب عنها إلا جاهل وبالله تعالى التوفيق فمن النصوص قول الله عز وجل: " هل من خالق غير الله ".

قال أبو محمد: هذا كاف لمن عقل واتقى الله وقد قال لي بعضهم إنما أنكر الله تعالى أن يكون ها هنا خالق غيره يرزقنا كما في نص الآية.

قال أبو محمد: وجواب هذا أنه ليس كما ظن هذا القائل بل القضية قد تمت في قوله غير الله ثم ابتدأ عز وجل بتعديد نعمه علينا فأخبرنا أنه يرزقنا من السماء والأرض وقال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " وهذا برهان جلي على أن الدين مخلوق لله عز وجل وقال تعالى: " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا ".

قال أبو محمد: ومنهم من يعبد المسيح وقالت الملائكة وصدقوا بل كانوا قوماً يعبدون الجن فصح أن كل من عبدوه منهم المسيح والجن لا يخلقون شيئاً ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فثبت يقيناً أنهم مسرفون مديرون وأن أفعالهم مخلوقة لغيرهم وقال تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ".

قال أبو محمد: وهذا نص جلي على إبطال أن يخلق أحد دون الله تعالى شيئاً لأنه لو كان هاهنا أحد غيره تعالى يخلق لكان من يخلق موجوداً جنساً في حيز ومن لا يخلق جنساً آخر وكان الشبه بين من يخلق موجوداً وكان من لا يخلق لا يشبه من يخلق وهذا إلحاد عظيم فصح بنص هذه الآية أن الله تعالى هو يخلق وحده وكل من عداه لا يخلق شيئاً فليس أحد مثله تعالى فليس من يخلق وهو الله تعالى كمن لا يخلق وهو كل من سواه وقال تعالى: " ولكل وجهة هو موليها " وهذا نص جلي من كذبه كفر وقد علمنا أنه تعالى لم يأمر بتلك الوجهات كلها بل فيها كفر قد نهى الله عز وجل عنه فلم يبقى إذ هو مولي كل وجهة إلا أنه خالق كل وجهة لا أحداً من الناس وهذا كاف لمن عقل ونصح نفسه منه ومنها قول الله عز وجل: " هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه " وهذا إيجاب لأن الله تعالى خلق كل ما في العالم وإن كل من دونه لا يخلق شيئاً أصلاً ولو كان هاهنا خالق لشيء من الأشياء غير الله تعالى لكان جواب هؤلاء المقررين جواباً قاطعاً ولقالوا له نعم نريك أفعالنا خلقها من دونك ونعم هاهنا خالقون كثير وهم نحن لأفعالنا وقوله عز وجل: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء " وهذا بيان واضح لا خفاء به لأن الخلق كله جواهر وإعراض ولا شك في أنه لا يفعل الجواهر أحد دون الله تعالى وإنما يفعله الله عز وجل وحده فلم تبق إلا الأعراض فلو كان الله عز وجل خالقا ًلبعض الأعراض ويكون الناس خالقين لبعضها لكانوا شركاء في الخلق ولكانوا قد خلقوا كخلقة خلق إعراضاً وخلقوا إعراضاً وهذا تكذيب لله تعالى ورد للقرآن مجرد فصح أنه لا يخلق شيئاً غير الله عز وجل وحده والخلق هو الاختراع فالله مخترع أفعالنا كسائر الأعراض ولا فرق فإن نفوا خلق الله تعالى لجميع الأعراض لزمهم أن يقولوا أنها أفعال لغير فاعل أو أنها فعل لمن ظهرت منه من الأجرام الجمادية وغيرها فإن فالوا هي أفعال لغير فاعل فهذا قول أهل الدهر نصاً ويكلمون حينئذ بما يكلم به أهل الدهر وإن قالوا أنها أفعال الإجرام كانوا قد جعلوا الجمادات فاعلة مخترعة وهذا باطل محال وهو أيضاً غير قولهم فالطبيعة لا تفعل شيئاً مخترعة له وإنما الفاعل لما ظهر منها خالق الطبيعة المظهر منها ما ظهر فهو خالق الكل ولابد ولله الحمد ومنها قوله تعالى: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " وهذا نص جلي على أنه تعالى خلق أعمالنا وقد فسر بعضهم قوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " أنه خلقنا وخلق العيدان والمعادن التي تعمل منها الأوثان.

قال أبو محمد: وهذا كلام سخيف دل على جهل قائله وعناده وانقطاعه لأنه لا يقول أحد في اللغة التي بها خوطبنا في القرآن وبها نتفاهم فيما بيننا أن الإنسان يعمل العود أو الحجر هذا ما لا يجوز في اللغة أصلاً ولا في المعقول وإنما يستعمل ذلك موصولاً فنقول عملت هذا العود صنماً وهذا الحجر وثناً فإنما بين تعالى خلقه الصنمية التي هي شكل الصنم ونص تعالى على ذلك بقوله تعالى: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " فإنما عملنا النحت بنص الآية وبضرورة المشاهدة فهي التي علمنا وهي التي أخبر تعالى انه خلقها.

قال أبو محمد: وقد ذكر عن كبير منهم وهو محمد بن عبد الله الإسكافي أنه كان يقول أن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا الطنابير ولا المزامير ولقد يلزم المعتزلة أن توافقه على هذا لأن الخشبة لا تسمى عوداً ولاطنبوراً لو حلف إنسان لا يشتري طنبوراً فاشترى خشباً لم يحنث وكذلك لو حلف أن لا يشتري خشباً فاشترى طنبوراً لم يحنث ولا يقع في اللغة على الطنبور اسم خشبة وقال تعالى: " خلق السماوات والأرض " فهي مخلوقة بنص القرآن وقد قال بعضهم إنما قال تعالى: " خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام " فكانت أعمال الناس مخلوقة في تلك الأيام.

قال أبو محمد: لم ينف الله عز وجل ان يخلق شيئاً بعد الستة أيام بل قد قال عز وجل: " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق " وقال تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقا ًآخر فتبارك الله أحسن الخالقين " فكان هذا كله في غير تلك الستة الأيام فإذ قد جاء النص بأن الله تعالى يخلق بعد تلك الأيام أبداً ولا يزال يخلق بعد ناشئة الدنيا ثم لا يزال يخلق نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أبداً بلا نهاية إلا أن عموم خلقه تعالى للسموات والأرض وما بينهما باق على كل موجود وقال بعضهم لا نقول أن أعمالنا بين السماء والأرض لأنها غير مماسة للسماء والأرض.

قال أبو محمد: وهذا عين التخليط لأن الله تعالى لم يشترط المماسة في ذلك وقد قال تعالى: " والسحاب المسخر بين السماء والأرض " فصح ان السحاب ليست مماسة لسماء ولا للأرض فهي إذاً على قول هذا الجاهل غير مخلوقة ويلزمه أيضاً أن يقول بقول معمر والجاحظ في أن الله تعالى لم يخلق الألوان ولا الطعوم ولا الروائح ولا الموت ولا الحياة لان كل هذا غير مماس للسماء ولا للأرض.

قال أبو محمد: وأما قول معمر والجاحظ أن كل هذا فعل الطبيعة فغباوة شديدة وجهل بالطبيعة ومعنى لفظ البيعة إنما هي قوة الشيء تجري بها كيفياته على ما هي عليه وبالضرورة نعلم أن تلك القوة عرض لا يعقل وكل ما كان مما لا اختيار له من جسم أو عرض كالحجارة وسائر الجمادات فمن نسب إلى ما يظهر منها أنها أفعالها مخترعه لها فهو في غاية الجهل وبالضرورة نعلم ان تلك الأفعال خلق غيرها فيها ولا خالق هاهنا إلا خالق الكل وهو الله لا إله إلا هو.

قال أبو محمد: ومن بلغ ههنا فقد كفانا الله تعالى شأنه لمجاهرته بالجهل العظيم والكفر المجرد في موافقته أهل الدهر وتكذيبه القرآن إذ يقول الله تبارك وتعالى: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً " وقوله تعالى: " يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل " فأخبر تعالى أن تفاضلها في الطعوم من فعله عز وجل نعوذ بالله مما ابتلاهم به وأقحمهم فيه وقال معمر معنى قوله تعالى: " خلق الموت والحياة " إنما معناه الإماتة والإحياء.

قال أبو محمد: فما زاد على أنه أبدى تمام جهله بوجهين بينين أحدهما إحالته النص من كلام ربه تعالى بلا دليل والثاني أنه لم يزل عما لزمه لأن الموت والحياة هما الإماتة والإحياء بلا شك لأن الحياة والإحياء هو جمع النفس مع الجسد المركب الأرضي والموت والإماتة شيء واحد وهو التفريق بين النفس والجسد المذكور فقط فإذا كان جمع النفس والجسد وتفريقهما مخلوقين لله تعالى فقد صح ان الموت والحياة مخلوقان له تعالى يقيناً وبطل تمويه هذا المجنون.

قال أبو محمد: ومن النصوص القاطعة في هذا قول الله تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " فلجأ بعضهم إلى دعوى الخصوص وذكر قول الله تعالى: " تدمر كل شيء بأمر ربها فاصبحوا لا يرى إلا مساكنهم " وقوله تعالى: " وأوتيت من كل شيء " وقوله: " فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا ".

قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قوله تعالى تدمر كل شيء بأمر ربها بيان جلي على أنها إنما دمرت كل شيء أمرها الله تعالى بتدميره لا ما لم يأمرها فهو عموم لكل شيء أمرها به وقوله تعالى وأوتيت من كل شيء فمن للتعبيط فمن آتاه الله شيئاً من الأشياء فقد آتاه من كل شيء لأنه قد آتاه بعض الأشياء وأما قوله تعالى ففتحنا عليهم أبواب كل شيء فحق ونحن لا ندري كيفية ذلك الفتح إلا أننا ندري أن الله تعالى صدق فيما قال وأنه تعالى إنما آتاهم بعض الأشياء التي فتح عليهم أبوابها ثم لو صح برهان في بعض هذا العموم أنه ليس على ظاهره وإنما أريد به الخصوص لما وجب من ذلك أن يحمل كل عموم على خلاف ظاهره بل كل عموم فعلى ظاهره حتى يقوم برهان بأنه مخصوص أو أنه منسوخ فيوقف عنده ولا يتعدى بالتخصيص وبالنسخ إلى ما لم يقم برهان بأنه منسوخ أو مخصوص ولو كان غير هذا لما صحت حقيقة في شيء من أخبار الله تعالى ولا صحت شريعة أبداً لأنه لا يعجز أحد في أمر من أوامر الله تعالى وفي كل خبر من أخباره عز وجل أن يحمله على غير ظاهره وعلى بعض ما يقتضيه عمومه وهذا عين السفسطة والكفر والحماقة ونعوذ بالله من الخذلان ولم يقم برهان على تخصيص قوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر.

قال أبو محمد: ومن ذلك قوله تعالى: " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ .

قال أبو محمد: فنص الله على أنه برأ المصائب كلها فهو بارئ لها والبارئ هو الخالق نفسه بلا شك فصح يقيناً أن الله تعالى خالق كل شيء إذ هو خالق كل ما أصاب في الأرض وفي النفوس ثم زاد تعالى بياناً برفع الأشكال جملة بقوله تعالى " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " فبين تعالى أن ما أصاب الأموال والنفوس من المصائب فهو خالقها وقد تكون تلك المصائب أفعال الظالمين بإتلاف الأموال وأذى النفوس فنص تعالى على أن كل ذلك خلق له تعالى وبه عز وجل التوفيق وأما من طريق النظر فإن الحركة نوع واحد وكما يقال على جملة النوع فهو يقال مقول على أشخاص ذلك النوع ولا بد فإن كان النوع مخلوقاً فأشخاصه مخلوقة وأيضاً فلو كان في العالم شيء غير مخلوق لله عز وجل لكان من قال العالم مخلوق والأشياء مخلوقة وما دون الله تعالى مخلوق كاذب لأن في كل ذلك عندهم ما ليس بمخلوق ولكان من قال العالم غير مخلوق ولم يخلق الله تعالى الأشياء صادقاً ونعوذ بالله تعالى من كل قول أدى إلى هذا ونسألهم هل الله تعالى إله العالم ورب كل شيء أم لا فإن قالوا نعم سئلوا أعموماً أو خصوصاً فإن قالوا بل عموماً صدقوا ولزمهم ترك قولهم إذ من المحال أن يكون تعالى إلهاً لما لم يخلق وإن قالوا بل خصوصاً قيل لهم ففي العالم إذاً ما ليس الله إلهاً وما لا رب له وإن كان هذا فإن من قال أن الله تعالى رب العالمين كاذب وكان من قال ليس الله إلهاً للعالمين ولا برب العالمين صادقاً وهذا خروج عن الإسلام وتكذيب لله تعالى في قوله أنه رب العالمين وخالق كل شيء وقد وافقونا على أن الله تعالى خالق حركات المختارين من سائر الحيوان غير الملائكة والإنس والجن وبالضرورة ندري الحركات الاختيارية كلها نوع واحد فمن المحال الباطل أن يكون بعض النوع مخلوقاً وبعضه غير مخلوق.

قال أبو محمد: واعترضوا بأشياء من القرآن وهي أنهم قالوا قال الله عز وجل: " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا " وقال تعالى: " لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " وقال تعالى " فتبارك الله أحسن الخالقين " وقوله تعالى: " وتخلقون أفكا وقوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء " وقوله: " الذي أحسن كل شيء خلقه " وقوله: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " واعترضوا بأشياء من طريق النظر وهي إن قالوا إن كان الله تعالى خلق أعمال العباد فهو إذاً يغضب مما خلق ويكره ما فعل ويسخط فعله ولا يرضى ما فعل ولا ما دبر وقالوا أيضاً كل من فعل شيئاً فهو مسمى به ومنسوب إليه لا يعقل غير ذلك فلو خلق الله الخطاء والكذاب والظلم والكفر لنسب كل ذلك إليه تعالى الله عن ذلك وقالوا أيضاً لا يعقل فعل واحد من فاعلين هذا فعله كله أو هذا فعله كله وقالوا أيضاً أنتم تقولون عن الله تعالى خلق الفعل وإن العبد اكتسبه فأخبرونا عن هذا الاكتساب الذي انفرد به العبد أهو خلق أم هو غيره فإن قلتم هو خلق الله لزمكم أنه تعالى اكتسبه وأنه مكتسب له إذ الكسب هو الخلق وإن قلتم أن الكسب هو غير الخلق وليس خلقاً لله تعالى تركتم قولكم ورجعتم إلى قولنا وقالوا أيضاً إذا كانت أفعالكم مخلوقه لله تعالى وأنتم تقولون أنكم مستطيعون على فعلها وعلى تركها فقد أوجبتم أنكم مستطيعون على أن لا يخلق الله تعالى بعض خلقه وقالوا أيضاً إذا كان فعلكم خلقاَ لله تعالى وعذبكم على فعلكم فقد عذبكم على ما خلق وقالوا أيضاَ قد فرض الله علينا الرضا بما خلق فإن كان الظلم والكفر والكذب مما خلق ففرض علينا الرضا بالكفر والظلم والكذب.

قال أبو محمد: هذه عمدة اعتراضاتكم التي لا يشذ عنها شيء من تفريعاتهم وكل ما ذكروا لا حجة لهم فيه على ما نبين إن شاء الله تعالى بعونه وتأييده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فنقول وبالله تعالى نستعين أما قول الله تعالى: " ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " فلا حجة لهم في هذا لأن أول الآية في قوم كتبوا كتاباً وقالوا هذا من عند الله فأكذبهم الله تعالى في ذلك واخبر أنه ليس منزلاً من عنده ولا مما أمر به عز وجل ولم يقل هؤلاء القوم إن هذا الكتاب مخلوق فأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال تعالى إن ذلك الكتاب ليس مخلوقاً لله تعالى فبطل تعلقهم بهذه الآية جملة ولا شك عند المعتزلة وعندنا في أن ذلك الكتاب مخلوق لله تعالى لأنه قرطاس أو أديم ومداد وكل مخلوق بلا شك وأما قوله: " تبارك الله أحسن الخالقين " فقد علمنا أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يتدافع وقال تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فإذ لا شك في هذا فقد وجدناه تعالى أنكر على الكافرين فقال تعالى: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار " فهذه الآية بينت ما تعلق به المعتزلة وذلك أن قوماً جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فجعلوهم خالقين فأنكر والله تعالى ذلك فعلى هذا خرج قوله تعالى: " تبارك الله أحسن الخالقين " كما قال تعالى: " يكيدون كيداً وأكيد كيداً " وقال: " ومكروا ومكر الله " ويبين بطلان ظنون المعتزلة في هذه الآية قول الله تعالى: " ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد " أفيكون مسلماً من أوجب لله تعالى شركاً من أجل قول الله تعالى للكفار الذين جعلوا له شركاء أين شركائي ولا شك في أن هذا الخطاب إنما خرج جواباً عن إيجابهم له الشركاء تعالى الله عن ذلك وكذلك قوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " وقد علمنا أن كلام الله تعالى كله هو على حكم ذلك المعذب لنفسه في الدنيا إنه العزيز الكريم وقد علمنا بضرورة العقل والنص أنه ليس لله تعالى شركاء وأنه لا خالق غيره عز وجل وأنه خالق كل شيء في العالم من عرض أو جوهر وبهذا خرج قوله تعالى: " أحسن الخالقين " مع قوله تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق " فلو أمكن أن يكون في العالم خالق غير الله تعالى يخلق شيئاً لما أنكر ذلك عز وجل إذ هو عز وجل لا ينكر وجود الموجودات وإنما ينكر الباطل فصح ضرورة لا شك فيها أنه لا خالق غير الله تعالى فإذ لا شك في هذا فليس في قول الله تعالى: " أحسن الخالقين " إثبات لأن في العالم خالقاً غير الله تعالى يخلق شيئاً وبالله تعالى التوفيق وأما قوله: " وتخلقون إفكاً " وقوله تعالى عن المسيح عليه السلام أنه قال: " إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير " وقول زهير بن أبي سلمى المزني: وأراك تخلق ما فريت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري فقد قلنا ان كلام الله تعالى لا يختلف وقد قال تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق " وقال تعالى: " وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا " وبيقين علم كل ذي عقل أن من جملة أولئك الآلهة الذين اتخذهم الكفار الملائكة والجن والمسيح عليه السلام قال تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " وقال الله تعالى حاكياً عن الملائكة أنهم قالوا عن الكفار: " بل كانوا يعبدون الجن " فقد صح يقيناً بنص هذه الآية أن الملائكة والجن والمسيح عليه السلام لا يخلقون شيئاً أصلاً ولا يختلف اثنان في أن جميع الإنس في فعلهم كمن ذكرنا إن كانوا هؤلاء يخلقون أفعالهم فسائر الناس يخلقون أفعالهم وإن كان هؤلاء لا يخلقون شيئاً من أفعالهم فسائر الناس لا يخلقون شيئاً من أفعالهم فإن ذلك كذلك وكلام الله عز وجل لا يختلف فإذ لا شك في هذا فإن الخلق الذي أثبته الله عز وجل للمسيح عليه السلام في الطير وللكفار في الإفك هو غير الخلق الذي نفاه عنهم وعن جميع الخلق لا يجوز البتة غير هذا فإن هذا هو الحق بيقين فالخلق الذي أوجبه الله تعالى لنفيه ونفاه عن غيره هو الاختراع والإبداع وإحداث الشيء من لا شيء بمعنى من عدم إلى وجود وأما الخلق الذي أوجبه الله تعالى فإنما هو ظهور الفعل منهم فقط وانفرادهم به والله تعالى خالقه فيهم برهان ذلك أن العرب تسمي الكذب اختلاقاً والقول الكاذب مختلقاً وذلك القول بلا شك إنما هو لفظ ومعنى واللفظ مركب من حروف الهجاء وقد كان كل ذلك موجود النوع قبل وجود أشخاص هؤلاء المختلقين وهذا لقوله عز وجل: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " وكقوله تعالى: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " " فبيقين يدري كل ذي حس يؤمن بالله تعالى وبالقرآن " إن الزرع والقتل والرمي الذي نفاه عن الناس وعن المؤمنين وعن رسول الله هو غير الزرع والقتل والرمي الذي أضافه إليهم لا يمكنه البتة غير ذلك لأنه تعالى لا يقول إلا الحق فإذ ذلك كذلك فإن الذي نفاه عمن ذكرنا هو خلق كل شيء واختراعه وإبداعه وتكوينه وإخراجه من عدم إلى وجود والذي أوجب لهم منه ظهوره فيهم ونسبة ذلك كله إليهم كذلك نقط وبالله تعالى التوفيق وقول زهير: " وأراك تخلق ما فريت " لا يشك من له أقل فهم بالعربية أنه لم يعن الإبداع ولا إخراج الخلق من عدم إلى وجود وإنما أراد النفاذ في الأمور فقط فقد وضح أن لفظة الخلق مشتركة تقع على معنيين أحدهما لله تعالى لا لأحد دونه وهو الإبداع من عدم إلى وجود والثاني الكذب فيما لم يكن أو ظهور فعل لم يتقدم لغيره أو نفاذ فيما حاول وهذا كله موجود من الحيوان والله تعالى خالق كل ذلك وبالله تعالى التوفيق وبهذا تتألف النصوص كلها وأما قوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء " فهو عليهم لا لهم لأن الله تعالى أخبر أن بصنعه أتقن كل شيء وهذا على عمومه وطاهره فالله تعالى صانع كل شيء وإتقانه له أن خلقه جوهراً أو عرضاً جاريين على رتبة واحدة أبداً وهذا عين الإتقان وأما قوله تعالى: " أحسن كل شيء خلقه " فإنهما قراءتان مشهورتان من قراءات المسلمين إحداهما احسن كل شيء خلقه بإسكان اللام فيكون خلقه بدلاً من كل شيء بدل البيان فهذه القراءة حجة عليهم لأن معناها أن الله تعالى أحسن خلقه لكل شيء وصدق الله عز وجل وهكذا نقول أن خلق الله تعالى لكل شيء حسن والله تعالى محسن في كل شيء والقراءة الأخرى خلقه بفتح اللام وهذه أيضاً لا حجة لهم فيها لأنه ليس فيها إيجاب لأن هاهنا شيئاً لم يخلق الله عز وجل ومن ادعى أن هذا في اقتضاء الآية فقد كذب وإنما يقتضي لفظة الآية أن كل شيء فالله خلقه كما في سائر الآيات والله تعالى أحسنه إذ خلقه وهذا قولنا وكذا نقول أن الإنسان لا يفعل شيئاً إلا الحركة أو السكون والاعتقاد والإرادة والفكر وكل هذه كيفيات وأعراض حسن خلقها من الله عز وجل قد أحسن رتبتها وإيقاعها في النفوس والأجساد وإنما قبح ما قبح من ذلك من الإنسان لأن الله تعالى سمى وقوع ذلك أو بعضها ممن وقعت منه قبيحاً وسمى بعض ذلك حسناً كما كانت الصلاة إلى بيت المقدس حركة حسن إيماناً ثم سماها تعالى قبيحة كفراً وهذه تلك الحركة نفسها فصح أنه ليس في العالم شيء حسن لعينه ولا شيء قبيح لعينه لكن ما سماه الله تعالى حسناً فهو حسن وفاعله محسن قال الله تعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم " وقال الله تعالى: " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " وما سماه الله تعالى قبيحاً فهو حركة قبيحة وقد سمى الله تعالى خلقه لكل شيء في العالم حسناً فهو كله من الله تعالى حسن وسمى ما وقع من ذلك من عباده كما شاء فبعض ذلك قبحه فهو قبيح وبعض ذلك حسنه فهو حسن وبعض ذلك قبحه ثم حسنه فكان قبيحاً ثم حسن وبعض ذلك حسنه ثم قبحه فكان حسناً ثم قبح كما صارت الصلاة إلى الكعبة حسنة بعد ان كانت قبيحة وكذلك جميع أفعال الناس التي خلقها الله تعالى فيهم كالوطء قبل النكاح وبعده وكسبي من نقض الذمة وسائر الشريعة كلها وقد اتفقت المعتزلة معنا على أن خلق الله تعالى للخمر والخنازير والأحجار المعبودة من دونه حسن بلا شك وهو سماه قبائح وأرجاساً وحراماً ونجساً وسيئاً وخبيثاً وهكذا القول في خلقه للأعراض في عباده ولا فرق وكذلك وافقنا أكثرهم على أنه تعالى خلق فساد الدماغ والجنون والمتولد منه والجذام والعمى والصمم والفالج والحدبة والأدرة كل ذلك من خلق الله تعالى له حسن وكله فيما قبيح رديء جداً يستعاذ بالله منه وقد نص الله تعالى على أنه خلق المصائب كلها فقال عز وجل: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير " فنص تعالى على أنه برأ المصايب كلها وبرأ هو خلق بلا خلاف من أحد ولا فرق بين إلزامهم إيانا أن الله تعالى أحسن الكفر والظلم والجور والكذب والقبائح إذ خلق كل ذلك وبين إقرارهم معنى أن الله تعالى قد أحسن الخمر والخنازير والدم والميتة والعذرة وإبليس وكل ما قال أن إله من دون الله تعالى والأوثان المعبودة من دون الله تعالى والمصايب كلها والأمراض والعاهات إذ خلق كل ذلك فأي شيء قالوه في هذه الأشياء فهو قولنا في خلق الله تعالى للكفر به ولشتمه والظلم والكذب ولا فرق كل ذلك وقد أحسن الله خلقه إذ حركة أو سكوناً أو ضميراً في النفس وسمى ظهوره من العبد قبيحاً موصوفاً به الإنسان وأما قوله تعالى: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " فلا حجة لهم في هذا أيضاً لأن التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس أو خرج عن المعهود فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتاً فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه فإن ليس هو هذا الذي يسميه الناس تفاوتاً فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى تفاوت لكذب قول الله عز وجل: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " ولا يكذب الله تعالى إلا كافر فبطل ظن المعتزلة إن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز وجل مرئي فيه مشاهد بالعين فيه فبطل احتجاجهم والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يرى في خلقه قيل لهم نعم وبالله التوفيق وهو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلاً بل هو معدوم جملة إذ لو كان شيئاً موجوداً في العالم لوجد التفاوت في خلق الله تعالى والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يرى في خلقه ثم نقول وبالله تعالى التوفيق أن العالم كله ما دون الله تعالى وهو كله مخلوق لله تعالى أجسامه وأعراضه كلها لا نحاشي شيئاً منها ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه وأنواع أجسامه جرت القسمة جرياً مستوياً في تفصيل أجناسه وأنواعه بحدودها المميزة لها وفصولها المفرقة بينها على رتبة واحدة وهيئة واحدة إلى أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه ولا تخالف في شيء منه أصلاً ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا والصورة المستحسنة عندنا واقعتان معاً تحت نوع الشكل والتخطيط ثم تحت نوع الكيفية ثم تحت اسم العرض وقعاً مستوياً لا تفاضل فيه ولا تفاوت في هذا بوجه من التقسيم وكذلك أيضاً نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ثم تحت فعل النفس ثم تحت الكيفية والعرض وقوعاً مستوياً لا تفاضل فيه ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم وكذلك أيضاً نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية وتحت اسم العرض وقوعاً حقاً مستوياً لا تفاوت فيه ولا اختلاف وهكذا القول في الظلم والإنصاف وفي العدل والجور وفي الصدق والكذب وفي الزنا والوطء الحلال وكذلك كل ما في العالم حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرأس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة على ما بينا في كتاب التقريب والحمد لله رب العالمين فانتفى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة ضرورة لا منفك لهم عنها وهي أنه لو كان وجود الكفر والظلم تفاوتاً كما زعموا لكان التفاوت موجوداً في خلق الرحمن وقد كذب الله تعالى ذلك ونفى أن يرى في خلقه تفاوت وأما اعتراضهم من طريق النظر بأن قالوا أنه تعالى إن كان خلق الكفر والمعاصي فهو إذاً يغضب مما فعل ويغضب مما خلق ولا يرضى ما صنع ويسخط ما فعل ويكره ما يفعل وإنه يغضب ويسخط من تدبيره وتقديره فهذا تمويه ضعيف ونحن لا ننكر ذلك إذ أخبرنا الله عز وجل بذلك وهو تعالى قد أخبرنا أن يسخط الكفر والظلم والكذب ولا يرضاه وأنه يكره كل ذلك ويغضب منه فليس إلا التسليم لقول الله تعالى نعم نعكس عليهم هذا السؤال نفسه فنقول لهم أليس الله خلق إبليس وفرعون والخمر والكفار فلا بد من نعم فنقول لهم أيرضى عز وجل عن هؤلاء كلهم أم هو ساخط لهم كاره لهم غضبان عليهم غير راض عنهم فنقول لهم هذا نفس ما أنكرتم من انه تعالى سخط تدبيره وغضب من فعله وكره ما خلق ولعنه فإن قالوا لم يكره عين الكافر ولا سخط شخص إبليس ولا كره عين الخمر لم نسلم لهم ذلك لأنه تعالى قد نص على أنه تعالى لعن إبليس والكفار وإنهم مسخوطون ملعونون مكروهون من الله تعالى مغضوب عليهم وكذا الخمر والأوثان وقال: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " وقال تعالى: " أو لحم خنزير فإنه رجس " وقد سمى الله تعالى كل ذلك رجس ثم أمر بعد ذلك باجتنابه وأضاف كل ذلك إلى عمل الشيطان ولا خلاف في أنه عز وجل خالق كل ذلك فهو خالق الرجس بالنص ولا فرق في المعقول بين خلق الرجس وخلق الكفر والظلم والكذب وقوله تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " فعلى قول هؤلاء المخاذيل أنه تعالى يغضب مما ألهم ويكرهه وإلهامه فعله بلا شك ضرورة فقد صح عليهم ما شنعوا به من أنه يغضب من فعله أيضاً فيقال لهم هل الله تعالى قادر على منع الظالم من المظلوم وعلى منع الذين قتلوا رسل الله صلى الله عليهم وسلم وعلى أن يحول بين الكافر وكفره وأن يميته قبل أن يبلغ وبين الزاني وزناه بإضعاف جارحته أو بشيء يشغله به أو تيسير إنسان يطل عليهما أم هو عاجز عن ذلك كله قادر على شيء منه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا هو غير قادر على شيء من ذلك عجزوا ربهم وكفروا وبطلت أدلتهم على إحداث العالم إذ أضعفوا قدرته عن هذا اليسير السهل وإن قالوا بل هو قادر على ذلك كله فقد أقروا أيضاً على أنه تعالى رأى المنكر والكفر والزنى والظلم فأقره ولم يغيره وأطلق أيدي الكفار على قتل رسله ضربهم ومع إقراره لكل ذلك فلم يكتف بكل ذلك إلا حتى قواهم بجوارحهم وآلاتهم وكف كل مانع وهذا على قولهم أنه رضا منه تعالى بالكفر واختياراً منه تعالى لكل ذلك وهذا كفر مجرد وأما أنه يغضب مما أقر ويسخط مما أعان عليه ويكره ما فعل من إقرارهم على كل ذلك وهذا هو الذي شنعوا به لا بد من أحد الوجهين ضرورة وكلاهما خلاف قولهم إلا ان هذا لازم لهم على أصولهم ولا يلزمنا نحن شيء منه لأننا لا نقبح إلا ما قبح الله تعالى ولا نحسن إلا ما حسن الله تعالى فإن قالوا إنما أقره لينتقم منه وإنما يكون سفهاً وعبثاً لو أقره أبداً قيل لهم أي فرق بين إقراره تعالى الكفر والظلم والكذب ساعة وبين إبقائه إياه ساعة بعد ساعة وهكذا أبداً بلا نهاية أو بنهاية في الحسن والقبح وإلا فعرفونا الأمد الذي يكون إقرار الكفر والكذب والظلم إليه حكمة وحسناً وإذا تجاوزه صار عبثاً وعيباً وسفهاً فإن تكلفوا أن يحدوا في ذلك حداً أتوا بالجنون والسخف والكذب والدعوى التي لا يعجز عنها أحد وإن قالوا لا ندري وردوا الأمر في ذلك إلى الله عز وجل صدقوا وهذا هو قولنا أن كل ما فعله الله تعالى من تكليف ما لا يطاق وتعذيبه عليها وخلقه الكفر والظلم في الكافر والظالم وإقراره كل ذلك ثم تعذيبها عليه وخلقه الكفر وغضبه منه وسخطه إياه كل ذلك من الله تعالى حكمة وعدل وحق وممن دونه تعالى سفه وظلم وباطل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وأما قولهم أن من فعل شيئاً أن ينسب إليه ويسمي به نفسه وأنه لا يعقل ولا يوجد غير هذا إيجابهم بهذا الاستدلال أن يسمى الله تعالى ظالماً لأنه خلق الظلم وكذلك من الكفر والكذب فهذا ينتقض عليهم من وجهين أحدهما أن هذا تشبيه محض لأنهم يريدون أن يحكموا على الباري تعالى بالحكم الموجود الجاري على خلقه ويقال لهم إذ لم تجدوا فاعلاً في الشاهد إلا جسماً ولا عالماً إلا بعلم هو غيره ولا حياً إلا بحياة هي عرض فيه ولا مخبراً عنه إلا جسماً أو عرضاً وما لم يكن كذلك فهو معدوم ولا يتوهم ولا يعقل ثم رأيتم الباري تعالى بخلاف ذلك كله ولم تحكموا عليه بالحكم فيما وجدتم فقد وجب ضرورة أن لا يحكم عليه تعالى بالحكم علينا في أن يسمى من أفعاله ولا في أن ينسب إليه كما ينسب إلينا بلا خلاف ذلك بالبرهان الضروري هو أن الله عز وجل خلق كل ما خلق من ذلك مخترعاً له كيفية مركبة في غيره فهكذا هو فعل الله تعالى فيما خلق وأما فعل عباده لما فعلوا فإنما معناه أنه ظهر ذلك الفعل عرضاً محمولاً في فاعله لأنه إما حركة في متحرك وأما سكون في ساكن أو اعتقاد في معتقد أو فكر في مفتكر أو إرادة في مريد ولا مزيد فبين الأمرين بون بائن لا يخفى على من له أقل فهم وأما المدح والذم واشتقاق اسم الفعل من فعله فليس كما ظنوا لكن الحق هو أنه لا يستحق أحد مدحاً ولا ذماً إلا من مدحه الله تعالى أو ذمه وقد أمرنا الله تعالى بحمده والثناء عليه فهو عز وجل محمود على كل ما فعل محبوب لذلك وأما من دونه تعالى فمن حمد الله تعالى فعله الذي أظهره فيه فهو ممدوح محمود ومن ذم عز وجل فعله الذي أظهره فيه فهو مذموم ولا مزيد وبرهان هذا إجماع أهل الإسلام على أنه لا يستحق الحمد والمدح إلا من أطاع الله عز وجل ولا يستحق الذم إلا من عصا وقد يكون المرء مطيعاً محموداً اليوم ممدوحاً بفعله إن فعله اليوم وكافراً مذموماً به إن فعله غداً كالحج في أشهر الحج وفي غير أشهر الحج ولصوم يوم الفطر والأضحى وصوم رمضان وكالصلاة في الوقت وقبل الوقت وبعد الوقت وكسائر الشرائع كلها وقد وجدنا فاعلاً للكذب قائلاً له وفاعلاً للكفر قائلاً به وهما غير مذمومين ولا يسمى واحد منهما كاذباً ولا كافراً وهما الحاكي والمكره فبطل ما ظنت المعتزلة من انه كل من فعل الكذب فهو كاذب ومن فعل الكفر فهو كافر ومن فعل الظلم فهو ظالم وصح أنه لا يكون كاذباً ولا كافراً ولا ظالماً إلا من سماه الله تعالى كافراً وكاذباً وظالماً وإنه لا كفر ولا ظلم ولا كذب إلا ما سماه الله كفراً وكذباً وظلماً وصح بالضرورة التي لا محيد عنها أنه ليس في العالم شيء محمود ممدوح لعينه ولا مذموم لعينه ولا كفر لعينه ولا ظلم لعينه وأما ما لا يقع عليه اسم طاعة ولا معصية ولا حكمها هو الله تعالى فلا يجوز أن يوقع عليه مدح ولا حمد ولا ذم إلا بنص من قبله فنحمده كما امرنا أن نقول الحمد لله رب العالمين وأما من دونه ممن لا طاعة تلزمه ولا معصية كالحيوان من غير الملائكة وكالحور العين والإنس والجن وكالجمادات فلا يستحق حمداً ولا ذماً لأن الله تعالى لم يأمر بذلك فيها فإن وجد له تعالى أمر بمدح شيء منها أو ذمه وجب الوقوف عند أمره تعالى كأمره تعالى بمدح الكعبة والمدينة والحجر الأسود وشهر رمضان والصلاة وغير ذلك وكأمره تعالى بذم الخمر والخنزير والميتة والكنيسة والكفر والكذب وما أشبه ذلك وأما ما عدا هذين القسمين فلا حمد ولا ذم واما اشتقاق اسم الفاعل من فعله فكذلك أيضاً ولا فرق وليس لأحد أن يسمي شيئاً إلا بما أباحه الله تعالى في الشريعة أو في اللغة التي أمرنا بالتخاطب بها وقد وجدناه تعالى أخبرنا بأن له كيداً ومكراً ويمكر ويكيد ويستهزئ وينسى من نسيه وهذا لا تدفعه المعتزلة ولو دفعته لكفرت لردها نص القرآن وهم مجمعون معنا على أنه لا يسمى باسم مشتق من ذلك فلا يقال ماكر من أجل أن له مكراً ولا أنه كياد من أجل أنه يكيد وأن له كيداً ولا يسمى مستهزئاً من أجل أنه يستهزئ بهم فقد أبطل ما أصلوه من أن كل فعل فعلاً فإنه يسمى منه وينسب إليه ولا يشغب هاهنا مشغب مع من لا يحسن المناظرة فيقول إنما قلنا أنه يكيد ويستهزئ ويمكر وينسى على المعارضة بذلك فإنا نقول له صدقت ولم نخالفك في هذا لكن ألزمناك أن تسميه تعالى كياداً وماكراً ومستهزئاً وناسياً على معنى المعارضة كما تقول فإن أبى من ذلك وقال أن الله تعالى لم يسم بشيء من ذلك نفسه فقد رجع إلى الحق ووافقنا في أن الله تعالى لا يسمى ظالماً ولا كافراً ولا كاذباً من أجل خلقه الظلم والكفر والكذب لأنه تعالى لم يسم بذلك نفسه وإن أنكر ذلك تناقض وظهر بطلان مذهبه.

قال أبو محمد: وقد وافقونا على ان الله تعالى خلق الخمر وحبل النساء ولا يجوز ان يسمى خماراً ولا محبلاً وأنه تعالى خلق أصباغ القمارى والهداهد والحجل وسائر الألوان ولا يسمى صباغاً وأنه تعالى بنى السماء والأرض ولا يسمى بناء وأنه تعالى سقانا الغيث ومياه الأرض ولا يسمى سقاء ولا ساقياً وأنه تعالى خلق الخمر والخنازير وإبليس ومردة الشياطين وكذلك كل سوء وسيء وخبيث ورجس وشر ولا يسمى من أجل ذلك مسيئاً ولا شريراً فأي فرق بين هذا كله وبين أن يخلق الشر والظلم والكفر والكذب ومعاصي عباده ولا يسمى بذلك مسيئاً ولا ظالماً ولا كافراً ولا كاذباً ولا شريراً ولا فاحشاً والحمد لله على ما من به من الهدى والتوفيق وهو المستزاد من فضله لا إله إلا هو ويقال لهم أيضاً أنتم تقرون بأنه خلق القوة التي بها يكون الكفر والظلم والكذب وهيأها لعباده ولا يسمونه من أجل ذلك مغوياً على الكفر ولا معيناً للكافر في كفره ولا مسبباً للكفر ولا واهباً للكفر وهذا بعينه هو الذي عبتم وأنكرتم ويقال لهم أيضاً أخبرونا عن تعذيبه أهل جهنم في النيران أمحسن هو بذلك إليهم أم مسيء فإن قالوا بل محسن إليهم قالوا الباطل وخالفوا أصلهم وسألناهم أن يسألوا الله عز وجل بأنفسهم ذلك الإحسان نفسه وإن قالوا أنه مسيء إليهم كفروا به وإن قالوا ليس نسيء إليهم قلنا لهم فهم في إساءة أو في إحسان فإن قالوا ليسوا في إساءة كابروا العيان وإن قالوا بل هم في إساءة قلنا لهم هذا الذي أنكرتم أن يكون منه تعالى إليهم حال هي غاية الإساءة ولا يسمى بذلك مسيئاً وأما نحن فنقول لهم إنهم في غاية المساءة والإساءة والسخط إليهم وعليهم وليس السخط إحساناً إلى المسخوط عليه وكذلك اللعنة للملعون وإنه تعالى محسن على الإطلاق ولا نقول أنه مسيء أصلاً وبالله تعالى التوفيق و الأصل في ذلك ما قلناه من انه لا يجوز أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه ولا يخبر عنه إلا بما أخبر به عن نفسه ولا مزيد فإن قالوا إذا جوزتم أن يفعل الله تعالى فعلاً ما هو ظلم بيننا ولا يكون بذلك ظالماً فجوزنا أن نخبره بالشيء على خلاف ما هو ولا يكون بذلك كاذباً وإن لا يعلم ما يكون ولا يكون بذلك جاهلاً وإن لا يقدر على شيء ولا يكون بذلك عاجزاً قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا محال من وجهين أحدهما أننا قد أوضحنا أنه ليس في العالم ظلم لعينه ولا بذاته البتة وإنما الظلم بالإضافة فيكون قتل زيد إذ نهي الله عنه ظلماً وقتله إذا أمر الله بقتله عدلاً وأما الكذب فهو كذب لعينه وبذاته فكل من اخبر بخبر بخلاف ما هو فهو كاذب إلا أنه لا يكون ذلك إثماً ولا مذموماً إلا حيث أوجب الله تعالى فيه الإثم والذم فقط وكذلك القول في الجهل والعجز أنهما جعل لعينه وعجز لعينه فكل من لم يعلم شيئاً فهو جاهل به ولا بد وكل من لم يقدر على شيء فهو عاجز عنه ولا بد والوجه الثاني ان بالضرورة التي بها علمنا من نواة التمر لا يخرج منها زيتونة وإن الفرس لا ينتج جملاً بها عرفنا ان الله تعالى لا يكذب ولا يعجز ولا يجهل لأن كل هذه من صفات المخلوقين عنه تعالى منفية إلا ما جاء نص بأن يطلق الاسم خاصة من أسمائها عليه تعالى فيقف عنده وأيضا فإن أكثر المعتزلة يحقق قدرة الباري تعالى على الظلم والكذب ولا يجيزون وقوعهما منه تعالى وليس وصفهم إياه عز وجل بالقدرة على ذلك بموجب إمكان وقوعه منه تعالى فلا ينكروا علينا أن نقول أن الله عز وجل فعل أفعالاً هي منه تعالى عدل وحكمة وهي منا ظلم وعبث وليس يلزمنا مع ذلك أن نقول انه يقول الكذب ويجهل فبطل هذا إلا لزام والحمد لله رب العالمين وأيضاً فإننا لم نقل أنه تعالى يظلم ولا يكون ظالماً ولا قلنا أنه يكفر ولا يسمى كافراً ولا قلنا أنه يكذب ولا يسمى كاذباً فيلزمنا ما أرادوا وإلزامنا إياه وإنما قلنا أنه خلق الظلم والكذب والكفر والشر والحركة والطول والعرض والسكون إعراضاً في خلقه فوجب أن يسمى خالقاً لكل ذلك كما خلق الجوع والعطش والشبع والري والسمن والهزال واللغات ولم يجز أن يسمى ظالماً ولا كاذباً ولا كافراً ولا شريراً كما لم يجز عندنا وعندهم أن يسمى من أجل خلقه لكل ما ذكرناه متحركاً ولا ساكناً ولا طويلاً ولا عريضاً ولا عطشان ولا ريان ولا جائعاً ولا شابعاً ولا سميناً ولا هزيلاً ولا لغوياً وهكذا كل ما خلق الله تبارك وتعالى فإنما يخبر عنه بأنه تعالى خالق له فقط ولا يوصف بشيء مما ذكرنا إلا من خلقه الله عرضاً فيه واما قولهم لا يفعل فعل من فاعلين هذا فعله كله وهذا فعله فإن هذا تحكم ونقصان من القسمة أوقعهم فيها جهلهم وتناقضهم وقولهم إنما يستدل بالشاهد على الغايب وهذا قول قد أفسدناه في كتابنا في الأحكام في أصول الأحكام بحمد الله تعالى ونبين هاهنا فساده بإيجاز فنقول وبالله تعالى التوفيق أنه ليس عن العقل الذي هو التمييز شيء غائب أصلاً وإنما يغيب بعض الأشياء من الحواس وكل ما في العالم فهو مشاهده في العقل المذكور لأن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول فيه وكلاهما يقتضي خالقاً أولاً واحداً لا يشبهه شيء من خلقه في وجه من الوجوه فإن كانوا يعنون بالغائب الباري عز وجل فقد لزمه بالحاضر وفي هذا كفاية بل ما دل الشاهد كله إلا ان الله تعالى بخلاف كل من خلق من جميع الوجوه وحاشا لله أن يكون جل وعز غائباً عنا بل هو شاهد بالعقل كما نشاهد بالحواس كل حاضر ولا فرق بين صحة معرفتنا به عز وجل بالمشاهدة بضرورة العقل وبين صحة معرفتنا لسائر ما نشاهده ثم نرجع إن شاء الله تعالى إلى إنكارهم فعلاً واحداً من فاعلين فنقول وبالله تعالى التوفيق إنما امتنع ذلك فيما بيننا في الأكثر لا على العموم لما شاهدناه من أنه لا تكون حركة واحدة في الأغلب لمتحركين ولا اعتقاد واحد لمعتقدين ولا إرادة واحدة لمريدين ولا فكرة واحدة لمفتكرين ولكن لو أخذ اثنان سفاً واحداً أو رمحاً واحداً فضربا به إنساناً فقطعاه أو طعناه به لكانت حركة واحدة غير منقسمة لمتحركين بها وفعلاً واحداً غير منقسم لفاعلين هذا أمر يشاهد بالحس والضرورة وهذا منصوص في القرآن من أنكره كفر وهو أن القراءة المشهورة عند المسلمين " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " وليهب لك غلاما زكيا كلا القراءتين بنقل الكواف عن رسول الله عن جبريل فإذا قرئت بالهمز فهو إخبار جبريل رسول الله الروح الأمين إنه هو الواهب لها عيسى عليه السلام وإذا قرئت بالياء فهو من إخبار جبريل عن الله عز وجل لأن الله تعالى هو الواهب لها عيسى عليه السلام فهذا فعل من فاعلين نسب إلى الله عز وجل الهبة لأنه تعالى هو الخالق لتلك الهبة ونسبت الهبة أيضاً إلى جبريل لأنه منه ظهرت إذ أتى بها وكذلك قوله عز وجل: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " فأخبر الله تعالى أنه رمى وأن نبيه رمى فأثبت تعالى لنبيه الرمي ونفاه عنه معاً وبالضرورة ندري أن كلام الله عز وجل لا يتناقض فعلمنا أن الرمي الذي نفاه الله عز وجل عن نبيه هو غير الرمي الذي أثبته له لا يظن غير هذا مسلم البتة فصح ضرورة أن نسبة الرمي إلى الله عز وجل لأنه خلقه وهو تعالى خالق الحركة التي هي الرمي و ممضي الرمية وخالق مسير الرمي وهذا هو المنفي عن الرامي وهو النبي وصح أن الرمي للذي أثبته الله عز وجل لنبيه هو ظهور حركة الرمي منه فقط وهذا هو نص قولنا دون تكلف وكذلك قوله تعالى: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " والقول في هذا كالقول في الرمي ولا فرق وكذلك قوله تعالى: " زينا لكل أمة عملهم " وقوله تعالى: " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " ضرورة أن تزيين الله لكل أمة عملها إنما هو خلقه لمحبة أعمالهم في نفوسهم وأن تزيين الشيطان لهم أعمالهم إنما هو بظهور الدعاء إليها وبوسوسته وقال تعالى حاكياً عن عيسى عليه السلام أنه قال: " أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله " أفليس هذا فعلاً من فاعلين من الله تعالى ومن المسيح عليه السلام بنص الآية وهل خالق الطير ومبرئ الأكمه والأبرص إلا الله وقد أخبر عيسى إذ يخلق ويبرئ فهو فعل من فاعلين بلا شك وقال عز وجل مخبراً عن نفسه أنه يحيي ويميت وقال عيسى عليه السلام عن نفسه وأحيي الموتى بإذن الله فبالضرورة نعلم أن الميت الذي أحياه عليه السلام والطير الذي خلق بنص القرآن فإن الله تعالى أحياه وخلقه وعيسى عليه الصلاة والسلام أحياه وخلقه بنص القرآن فهذا كله فعل من فاعلين بلا شك وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول في قوله تعالى: " وأحلوا قومهم دار البوار جهنم " وقد علمنا يقيناً أن الله تعالى هو الذي أحلهم فيها بلا شك لكن لما ظهر منهم السبب الذي حلوا به دار البوار أضيف ذلك إليهم كما قال تعالى عن إبليس: " كما أخرج أبويكم من الجنة " وقد علمنا يقيناً أن الله تعالى هو أخرجهما وأخرج إبليس معهما لكن لما ظهر من إبليس السبب في خروجهما أضيف ذلك إليه وكما قال تعالى: " لتخرج الناس من الظلمات إلى النور " فنقول أن محمداً أخرجنا من الظلمات إلى النور وقد علمنا أن المخرج له عليه السلام ولنا هو الله تعالى لكن لما ظهر السبب في ذلك منه عليه السلام أضيف الفعل إليه فهذا كله لا يوجب الشرك بينهم وبين الله تعالى كما تموه المعتزلة وكل هذا فعل من فاعلين وكذلك سائر الأفعال الظاهرة من الناس ولا فرق وقال تعالى: " إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " وقال تعالى: " وأملي لهم إن كيدي متين " وقال تعالى: " الشيطان سول لهم وأملى لهم " فعلمنا ضرورة أن إملاء الله تعالى إنما هو تركه إياهم دون تعجيل عقاب بل بسط لهم من الدنيا ومد لهم من العمر ما كان لهم عوناً على الكفر والمعاصي وعلمنا أن إملاء الشيطان إنما هو بالوسوسة وإنساء العقاب والحض لهم على المعاصي وقال تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " فهذا فعل من فاعلين ضرورة نسب إلى الله تعالى لأنه اخترعه وخلقه وأنماه ونسب إلينا لأننا تحركنا في زرعه فظهرت الحركة المخلوقة فينا فهذه كلها أفعال خلقها الله تعالى وأظهرها في عباده فقط وبالله تعالى نتأيد.

قال أبو محمد: وتحقيق هذا القول في الأفعال هو أن الله سبحانه وتعالى خلق كل ما خلق قسمين فقط جوهراً حاملاً وعرضاً محمولاً ناطقاً وغير ناطق فغير الحي هو الجماد كله والناطق هو الملائكة وحور العين والجن والإنس فقط وغير الناطق هو كل ما عدا ذلك من الحيوان ثم خلق تعالى في الجمادات وفي الحي غير الناطق وفي الحي الناطق حركة وسكوناً وتأثيراً قد ذكرناه آنفاً فالفلك يتحرك والمطر ينزل والوادي يسيل والجبل يسكن والنار تحرق والثلج يبرد وهكذا في كل شيء بهذا جاء القرآن وجميع اللغات قال تعالى: " تلفح وجوههم النار " وقال تعالى: " فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً وقال تعالى: " فإما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقال تعالى: " والفلك تجري في البحر بأمره والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " ومثل هذا كثير جداً وبهذا جاءت اللغات في نسبة الأفعال الظاهرة في الجمادات إليها لظهورها فيها فقط لا يختلف لغة في ذلك وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: " أجنبني ونبي أن نعبد الأصنام رب أنهن أضللن كثيراً من الناس " فأخبر أن الأصنام تضل وقال تعالى: " تذروه الرياح وهذا أكثر من أن يحصى والأعراض أيضاً تفعل كما ذكرنا قال عز وجل: " والعمل الصالح يرفعه وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " فالظن يردى والعمل يرفع ولم تختلف أمة في صحة القول أعجبني عمل فلان وسرني خلق فلان ومثل هذا كثير جداً وقد وجدنا الحر يحلل ويصعد والبرد يجمد ومثل هذا كثير جداً وقد بيناه والكل خلق الله عز وجل وأما حركة الحي غير الناطق والحي الناطق وسكونهما وتأثيرهما فظاهر أيضاً ثم خلق سبحانه وتعالى في الحي غير الناطق وفي الحي الناطق قصداً ومشيئة لم يخلق ذلك في الجماد كإرادة الحيوان الرعي وتركه والمشي وتركه والأكل وتركه وما أشبه هذا ثم خلق تعالى في الحي الناطق تمييزاً لم يخلقه في الحي غير الناطق ولا في الجماد وهو التصرف في العلوم والمعارف هذا كله أمر مشاهد وكل ذلك خلق الله تعالى فيما خلقه فيه ونسب الفعل في كل ذلك إلى من أظهره الله تعالى منه فقط فخلق تعالى كما ذكرنا في الحي الناطق الفعل والاختيار والتمييز وخلق في الحي غير الناطق الفعل والاختيار فقط وخلق في الجمال الفعل فقط وهو الحركة والسكون والتأثير كما ذكرنا وبالجملة فلا فرق بين من كابر وجاهر فأنكر فعل المطبوع بطبعه وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله تعالى فيه فقط وبين آخر جاهر وكابر فأنكر فعل المختار باختياره وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله تعالى فيه فقط وكلا الأمرين محسوس بالحس معلوم بأول العقل وضرورته أنه فعل لما ظهر منه ومعلوم كل ذلك بالبرهان الضروري أنه خلق الله تعالى في المطبوع وفي المختار فإن فروا إلى القول بأن الله تعالى لم يخلق فعل المختار وأنه فعل المختار فقد قلنا قد بينا بطلان هذا قبل ولكن نعارضكم هاهنا بأن منكم من يقول بأن الله تعالى أيضاً لم يخلق فعل المطبوع وأنه فعل المطبوع فقط كمعمر وغيره من كبار المعتزلة فإن قالوا أخطأ من قال هذا وكفر قلنا لهم وأخطأ أيضاً وكفر من قال أن أفعال المختار لم يخلقها الله تعالى ولا فرق فإن قالوا أن الله تعالى هو خالق الطبيعة والمطبوع الذين ينسبون الفعل إليهما فهو خالق ذلك الفعل قلنا لهم والله عز وجل هو خالق المختار وخالق اختياره وخالق قوته وهم الذين ينسبون الفعل إليهم فهو عز وجل خالق ذلك الفعل ولا فرق.

قال أبو محمد: وهذا الذي ذكرنا من إضافة التأثير وجميع الأفعال إلى كل من ظهرت منه من جماد أو عرض أوحي أو ناطق أو غير ناطق فهو الذي تشهد به الشريعة وبه جاء القرآن والسنن كلها وبه تشهد البينة لأنه أمر محسوس مشاهد وبه تشهد جميع اللغات من جميع أهل الأرض قاطبة لا نقول لغة العرب فقط بل كل لغة لا نحاشي شيئاً منها وما كان هكذا فلا شيء أصح منه فإن قالوا تسمون الجماد والعرض كاسباً قلنا لا لأنا لا نتعدى ما جاءت به اللغة من أحال اللغة التي بها نزل القرآن برأيه فقد دخل في جملة من قال الله تعالى فيه: " يحرفون الكلم عن مواضعه " ولحق بالسوفسطائية في أبطالهم التفاهم ولو جاءت اللغة بذلك لقلناه كما نقول أن الله عز وجل فاعل ذلك ولا نسميه كاسباً فإن قيل أتقولون أن الجمادات والعرض عامل قلنا نعم لأن اللغة جاءت بذلك وبه نقول الحديد يعمل والحر يعمل في الأجسام وهكذا في غير ذلك فإن قيل أتقولون للجماد والعرض استطاعة وقوة وطاقة وقدرة قلنا إنما نتبع اللغة فقط فنقول إن الجمادات والأعراض قوى يظهر بها ما خلق الله تعالى فيها من الأفعال وفيها طاقة لها ولا نقول فيها قدرة ولا نمنع من أن نقول فيها طاقة قال الله تعالى: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " فنقول الحديد ذو بأس شديد وذو قوة عظيمة وذو طاقة وقد قلنا لكم لا نتعدى في التسمية والعبارة جملة ما جاءت به اللغة ولا نتعدى في تسمية الله تعالى والخبر عنه ما جاء به القرآن ونص عليه رسول الله وهذا هو الذي صح به البرهان وما عداه فباطل وضلال وبالله تعالى التوفيق وأما اعتراضهم بهل الخلق هو الكسب أو غيره فنعم كسبنا لما ظهر منا وبطن وكل صنعنا وجميع أعمالنا وأفعالنا لذلك هو خلق لله عز وجل فينا كما ذكرنا لأن كل ذلك شيء وقال تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " ولكننا لا نتعدى باسم الكسب حيث أوقعه الله تعالى مخبراً لنا بأننا نجزي بما كسبت أيدينا وبما كسبنا في غير موضع من كتابه ولا يحل أن يقال أنه كسب لله تعالى لم يقله ولا أذن في قوله ولا يحل ان يقال أنها خلق لنا لأن الله تعالى لم يقله ولا أذن في قوله لكن نقول هي خلق لله كما نص على أنه خالق كل شيء ونقول هي كسب لنا كما قال تعالى: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ولا نسميه في الشريعة ولا فيما يخبر به عن الله عز وجل لأن الله خالق الألسنة الناطقة بالأسماء وخالق الأسماء وخالق المسميات حاشاه تعالى وخالق الهواء الذي ينقسم على حروف الهجاء فتتركب منها الأسماء فإذا كانت الأسماء مخلوقة لله والمسميات دونه تعالى مخلوقة لله عز وجل والمسمون الناطقون بآلاتهم مخلوقين لله عز وجل فليس لأحد إيقاع اسم على مسمى لم يوقعه الله تعالى عليه في الشريعة أو أباح إيقاعه عليه بإباحته الكلام باللغة التي أمرنا الله عز وجل بالتفاهم بها وبأن نتعلم بها ديننا ونعلمه بها وقد نص تعالى على هذا القول وقال منكراً على قوم أوقعوا اسماً على مسميات لم يأذن الله تعالى بها ولا بإيقاعها عليها: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى " فأخبر عز وجل ان من أوقع اسماً على مسمى لم يأت به نص بإيجابه أو بالإذن فيه بالشريعة أو بجملة اللغة فإنما يتبع الظن والظن أكذب الحديث وإنما يتبع هواه وقد حرم الله تعالى اتباع الهوى وأخبر تعالى أن الهدى قد جاء من عنده وقال تعالى: " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " فليس لأحد أن يتعدى القرآن والسنة اللذين هما هدى الله عز وجل وبه التوفيق فصح ضرورة أنه ليس لأحد ان يقول أن أفعالنا خلق لنا ولا أن ها كسب لله عز وجل ولكن الحق الذي لا يجوز خلافه هو أنها خلق لله تعالى كسب لنا كما جاء في هدى الله الذي هو القرآن وقد بينا أيضاً أن الخلق هو الإبداع والاختراع وليس هذا لنا أصلاً فأفعالنا ليست خلقاً لنا والكسب إنما هو استضافة الشيء إلى جاعله أو جامعه بمشيئة الله وليس يوصف الله تعالى بهذا في أفعالنا فلا يجوز أن يقال هي كسب له تعالى وبه نتأيد وأيضاً فقد وافقونا كلهم على تسمية الباري تعالى بأنه خالق للأجسام وكلهم حاشا معمراً وعمرو بن بحر الجاحظ موافقون لنا على تسمية الباري تعالى بأنه خالق للأعراض كلها حاشا أفعال المختارين وكلهم ومعمر والجاحظ أيضاً موافقون لنا على تسمية الباري تعالى بأنه خالق الأمانة والأحياء وكلهم موافقون لنا على أنه تعالى إنما سمي خالقاً لكل ما خلق لإبداعه إياه وكم يكن قبل ذلك فإذا ثبت بالبرهان اختراعه تعالى لسائر الأعراض التي خالفونا فيها وجب أن يسمى خلقاً له عز وجل ويسمى هو تعالى خالقاً لها وأما اعتراضهم بأنه إذا كانت أفعالنا خلقاً لله تعالى وكان متوهماً منا ومستطاعاً عليه في ظاهر امرنا بسلامة جوارحنا ان لا تكون تلك الأفعال فقد ادعينا أننا مستطيعون في ظاهر الأمر بسلامة الجوارح وأنه متوهم منا منع الله من أن يخلقها وهذا كفر مجرد ممن أجازه.

قال أبو محمد: وهذا لازم للمعتزلة على الحقيقة لا لنا لأنهم القائلون أنهم يقدرون ويستطيعون على الحقيقة على ترك أفعالهم وعلى ترك الوطء الذي قد علم الله تعالى أنه لا بد أن يكون وأن يخلق منه الولد وعلى ترك الضرب الذي قد علم الله أنه لا بد ان يكون وأنه يكون منه الموت وانقضاء الأجل المسمى عنده وعلى ترك الحرث والزرع الذي قد علم الله تعالى أنه لا بد أن يكون وأن يكون منه النبات الذي تكون منه الأقوات والمعاش فيلزمهم ولا بد أهم قادرون على منع الله تعالى مما قد علم وقال أنه سيفعل.

قال أبو محمد: ومن بلغ هاهنا فلا بد أن يرجع إما تائباً محسناً إلى نفسه أو خاسئاً غاوياً مقلداً منقطعاً أو يتمادى على طرد قوله فيكفر ولا بد مع خلافه لضرورة الحس والمشاهدة وضرورة العقل والقرآن وبالله تعالى التوفيق وأما نحن فجوابنا ها هنا أننا لم نستطع قط على فعل ما لم يعلم الله أننا سنفعله ولا على ترك ما علم أننا نفعله ولا على فسخ علم الله تعالى أصلاً ولا على تكذيبه عز وجل في فعل ما أمر تعالى به وإن كنا في ظاهر الأمر نطلق ما أطلق الله تعالى من الاستطاعة التي لا يكون بها إلا ما علم الله تعالى أنه يكون ولا مزيد وهي استطاعة بإضافة لا استطاعة على الإطلاق لكن نقول هو مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهم كون الفعل منه فقط فإن قالوا فأمركم الله تعالى بأن تكذبوا قوله وتبطلوا علمه إذ أمركم بفعل ما علم أنه لا تفعلونه قلنا عند تحقيق الأمر فإن أمره عز وجل لمن علم أنه لا يفعل ما أمر به أمر تعجيز كقوله: " قل كونوا حجارة أو حديداً " وكقوله: " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ".

قال أبو محمد: وقد تحيرت المعتزلة هاهنا حتى قال بعضهم لو لم يقتل زيد لعاش وقال أبو الهذيل لو لم يقتل لمات وشغب القائلون بأنه لو لم يقتل لعاش بقول الله عز وجل " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " وبقول رسول الله " من سره أن ينسأ في أجله فليصل رحمه ".

قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه بل هو بظاهره حجة عليهم لأن النقص في اللغة التي بها نزل القرآن إنما هو من باب الإضافة وبالضرورة علمنا أن من عمر ماية عام وعمر آخر ثمانين سنة فإن الذي عمر ثمانين نقص من عدد عمر الآخر عشرين عاماً فهذا هو ظاهر الآية ومقتضاها على الحقيقة لا ما يظنه من لا عقل له من أن الله تعالى جار تحت أحكام عباده إن ضربوا زيداً أماته وإن لم يضربوه لم يمته من أن علمه غير محقق فربما أعاش زيداً ماية سنة وربما أعاشه أقل وهذا هو البداء بعينه ومعاذ الله تعالى من هذا القول بل الخلق كله مصرف تحت أمر الله عز وجل وعلمه فلا يقدر أحد على تعدي ما علم الله تعالى أن يكون ولا يكون البتة إلا ما سبق في علمه أن يكون والقتل نوع من أنواع الموت فمن سأل عن المقتول لو لم يقتل لكان يموت أو ليعيش فسؤاله سخيف لأن إنما يسأل لو لم يمت هذا الميت أكان يموت أو كان لا يموت وهذه حماقة جداً لأن القتل علة لموت المقتول كما أن الحمى القاتلة والبطن القاتل وسائر الأمراض القاتلة علل للموت الحادث عنها ولا فرق وأما قول رسول الله " من سره أن ينسأ في أجله فليصل رحمه " فصحيح موافق للقرآن ولما توجبه المشاهدة وإنما معناه أن الله عز وجل لم يزل يعلم أن زيداً سيصل رحمه وأن ذلك سبب إلى أن يبلغ من العمر كذا وكذا وكذا كل حي في الدنيا لأن من علم الله تعالى أنه سيعمره كذا وكذا من الدهر فإنه تعالى قد علم وقدر أنه سيتغدى بالطعام والشراب ويتنفس بالهواء ويسلم من الآفات القاتلة تلك المدة التي لابد من استيفائها والمسبب والسبب كل ذلك قد سبق في علم الله عز وجل كما هو لا يبدل قال تعالى: " ما يبدل القول لدي " ولو كان على غير هذا لوجب البداء ضرورة ولكان غير عليم بما يكون متشككاً فيه لا يكون أم لا يكون وجاهلا به جملة وهذه صفة المخلوقين لا صفة الخالق وهذا كفر ممن قال به وهم لا يقولون بهذا.

قال أبو محمد: ونص القرآن يشهد بصحة ما قلنا قال الله تعالى عز وجل: " لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " وقال تعالى: " قل لن ينفعكم الفرار أن فررتم من الموت أو القتل " وقال تعالى: " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " وقال تعالى منكر القول قوم جرت المعتزلة في ميدانهم: " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت " وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ".

قال أبو محمد: وهذه نصوص لا يبعد من ردها بعد ان سمعها عن الكفر نعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد: وموه بعضهم بأن ذكر قول الله تعالى " ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ".

قال أبو محمد: وهذه الآية حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه قضى أجلاً ولم يقل لشيء دون شيء لكن على الجملة ثم قال تعالى " وأجل مسمى عنده " فهذا الأجل المسمى عنده هو الذي قضى بلا شك إذ لو كان غيره لكان أحدهما ليس أجلاً إذا أمكن التقصير عنه أو مجاوزته ولكان الباري تعالى مبطلاً إذ سماه أجلاً وهذا كفر لا يقوله مسلم وأجل الشيء هو ميعاده الذي لا يتعداه وإلا فليس يسمى أجلاً البتة ولم يقل تعالى أن الأجل المسمى عنده هو غير الأجل الذي قضى فأجل كل شيء منقضى أمره بالضرورة نعلم ذلك ويبين ذلك قوله تعالى: " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " وقال: " ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها " وقد أخبرنا تعالى بذلك أيضاً فقال: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا " فتظاهرت الآيات كلها بالحق الذي هو قولنا وبتكذيب من قال غير ذلك وبالله تعالى التوفيق وأما الأرزاق فإن الله تعالى أخبرنا فقال: " الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وقال تعالى: " وخلقناكم أزواجاً " فكل مال حلال فإنما نقول أنه تعالى رزقنا إياه وكل امرأة حلال فإننا نقول أن الله تعالى زوجنا إياها أو ملكنا إياها وأما من أخذ مالاً بغير حق أو امرأة بغير حق فلا يجوز أن يقول أنه تعالى رزقنا إياه ولا أن الله تعالى ملكنا إياه ولا أن الله أعطانا إياه ولا أن الله تعالى زوجنا إياها ولا أن الله تعالى ملكنا إياها ولا أنكحنا إياها لأن الله تعالى لم يطلق لنا أن نقول ذلك وقد قلنا أن الله تعالى له التسمية لا لنا لكن نقول أن الله ابتلانا بهذا المال وبهذه المرأة وامتحنا بهما وأضلنا بهما وخلق تملكنا إياهما ونكاحها لنا واستعمالنا إياهما ولا نقول أنه أطعمنا الحرام ولا أباح لنا الحرام ولا وهب لنا الحرام ولا آتانا الحرام كما ذكرنا من التسمية وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: وأما قولهم أليس إذا كانت أفعالكم لكم ولله تعالى فقد وجب أنكم شركاؤه فيها فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا من أبرد ما موهوا به وهو عائد عليهم لأنهم يقولون أنهم يخترعون أفعالهم ويخلقونها وهي بعض الأعراض وأن الله تعالى يفعل سائر الأعراض ويخلقها ويخترعها فهذا هو عين الإشراك والتشبيه في حقيقة المعنى وهو الاختراع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وأما نحن فلا يلزمنا إيجاب الشركة لله تعالى فيما قلنا لأن الإشراك لا يجب بين المشتركين إلا باتفاقهما فيما اشتركا فيه وبرهان ذلك أن أموالنا ملك لنا وملك لله عز وجل بإجماع منا ومنهم وليس ذلك بموجب أن تكون شركاؤه فيها لاختلاف جهات الملك لأن الله تعالى إنما هو مالك لها لأنها مخلوقة له تعالى وهو مصرفنا فيها وناقلها عنا وناقلنا عنها كيف شاء الله تعالى وهي ملكنا لأنها كسب لنا وملزمون إحكامها ومباح لنا التصرف فيها بالوجوه التي أباحها الله تعالى لنا وأيضاً فنحن عالمون بأن محمداً رسول الله والله تعالى عالم بذلك وليس ذلك موجباً لأن نكون شركاؤه في ذلك العلم لاختلاف الأمر في ذلك لأن علمنا عرض محمول فينا وهو غيرنا وعلم الله تعالى ليس هو غيره ومثل هذا كثير جداً لا يحصى في دهر طويل بل لا يحصيه مفصلاً إلا الله وحده لا شريك له فكيف لم يجب الاشتراك البتة بين الله تعالى وبيننا عندهم في هذه الوجوه كلها ووجب أن يكون شركاؤه في شيء ليس للاشتراك البتة فيه مدخل وهو خلقه تعالى لا فعال لنا هو فاعل لها بمعنى مخترع لها ونحن فاعلون لها بمعنى ظهورها محمولة فينا وهذا خلاف فعل الله تعالى لها وقد قال بعض أصحابنا بأن الأفعال لله تعالى من جهة الخلق وهي لنا من جهة الكسب. قال أبو محمد: وقد تذاكرت هذا مع شيخ طرابلسي يكنى أبا الحسن معتزلي فقال لي وللأفعال جهات وزاد بعضهم فقال أو ليست أعراضاً والعرض لا يحمل العرض والصفة لا الصفة.

قال أبو محمد: وهذا جهل من قائله وقضية فاسدة من أهذار المتكلمين ومشاغلهم وقول يرده القرآن والمعقول والإجماع من جميع اللغات والمشاهدة فأما القرآن فإن الله تعالى يقول: " عذاب عظيم وعذاب أليم ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر " وقال تعالى: " وأنبتها نباتاً حسناً " وقال تعالى: " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " وقال تعالى: " ومكروا مكراً كبارا " وقال تعالى: " إن كيدكن عظيم " وقال تعالى: " وجاؤوا بسحر عظيم " وقال تعالى: " صفراء فاقع لونها " وقال تعالى: " قد بدت البغضاء من أفواههم " وقال تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقال تعالى: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " وقال تعالى: " اتبعوا ما أسخط الله " وقال تعالى: " فلما أضاءت ما حوله " وقال تعالى: " تلفح وجوههم النار " وقال تعالى: " فأخذتكم الصاعقة " وقال تعالى: " مما تنبت الأرض " وقال تعالى: " لما يتفجر منه الأنهار " وقال تعالى: " فيخرج منه الماء " وقال تعالى: " فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقال تعالى: " والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ".

قال أبو محمد: فوصف الله تعالى العذاب بالعظم وبالإيلام وبأن فيه أكبر وأدنى ووصف النبات بالحسن وكيد الشيطان بالضعف وكيد النساء بالعظم والمكر بالكبر والسحر بالعظم واللون بالفقوع وذكر أن البغضاء تبدو وأن الكلام الطيب يصعد إليه تعالى وأن الأعمال الصالحة ترفع الكلام الطيب وأن الظن يردي وأن الردي يسخط الله تعالى ومثل هذا في القرآن وسنن رسول الله أكثر من أن يجمع إلا في جزء ضخم فكيف يساعد امرأ مسلما لسانه على إنكار شيء من هذا بعد شهادة الله عز وجل بما ذكرنا وأما إجماع اللغات فكل لغة لا ينكر أحد فيها القول بصورة حسنة وصورة قبيحة وحمرة مشرقة وحمرة مضيئة وحمرة كدرة ولا يختلف أحد من أهل الأرض في أن يقول لي صف عمل فلان وهذا عمل موصوف وصفة عمل كذا وكذا وهذا هو الذي أنكروا بعينه وهو أكثر من أن يحصى وأما الحس والعقل والمعقول فبيقين يدري كل ذي فهم أن الكيفيات تقبل الأشد والأضعف هذه خاصة الكيفية التي توجد في غيرها وكل هذا عرض يحمل عرضاً وصفة تحمل صفة.

قال أبو محمد: وقد عارضني بعضهم في هذا فقال لو أن العرض يحمل العرض لحمل ذلك العرض عرضاً آخر وهكذا أبداً وهذا يوجب وجود أعراض لا نهاية لها وهذا باطل.

قال أبو محمد: فقلت أن المشاهدات لا تدفع بهذه الدعوة الفاسدة وهذا الذي ذكرت لا يلزم لأننا لم نقل أن كل عرض فواجب أن يحمل أبداً لكنا نقول أن من الأعراض ما يحمل الأعراض كالذي ذكرنا ومنها ما لا يحمل الأعراض وكل ذلك جار على ما رتبه الله عز وجل وعلى ما خلقه وكل ذلك له نهاية تقف عندها ولا يزيد ونحن إذا وجد فيما بيننا جسم يزيد على جسم آخر زيادة ما في طوله أو عرضه فليس يجب من ذلك أن الزيادة موجودة إلى ما لا نهاية له لكن تنتهي الزيادة إلى حيث رتبها الله عز وجل وتقف وإنما العلم كله معرفة الأشياء على ما هي عليه فقط ونقول لهم أتخالف حمرة التفاحة حمرة الخوخة أم لا فلا بد لهم من أن يقروا بأنها قد تخالفها في صفة ما إلا ان ينكروا العيان فنقول لهم أتخالف الحمرة الصفرة أم لا فلا بد أيضاً من نعم فنقول لهم أخلاف الحمرة للحمرة هو خلاف الحمرة للصفرة أم لا فلا بد من لا ولو قالوا نعم للزمهم أن الصفرة هي الحمرة إذا كانت الصفرة لا تخالفها الحمرة إلا بما تخالف فيه الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة فإذاً في الحمرة والصفرة صفتان بهما يختلفان غير الصفة التي بها تخالف الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة فقد صح يقيناً أن الصفة قد تحمل الصفة وأن العرض قد يحمل العرض لضرورة المشاهدة على حسب ما رتبه الله تعالى وكل ذلك ذو نهاية ولا بد وتحقيق الكلام في هذه المعاني وتناهيها هو أن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد والجوهر أجناس وأنواع والعرض أجناس وأنواع والأجناس محصورة ببراهين قد ذكرناها في كتاب التقريب عمدتها أن الأجناس أقل عدداً من الأنواع المنقسمة تحتها بلا شك والأنواع أكثر عدداً من الأجناس إذ لا بد من ان يكون تحت كل جنس نوعان أو أكثر من نوعين والكثرة والقلة لا يقعان ضرورة إلا في ذي نهاية من مبدأه ومنتهاه لأن ما لا نهاية له فلا يمكن أن يكون شيء أكثر منه ولا أقل منه ولا مساوياً له لأن هذا يوجب النهاية ولا بد فالعالم إذاً ذو نهاية لأنه ليس شيئاً غير الأجناس والأنواع التي للجواهر والأعراض فقط والمعاني إنما هي للأشياء المعبر عنها بالألفاظ فقط فإذ هذا كما ذكرنا فإنما نقيس الأشياء بصفاتها التي تقوم منها حدودها مثل أن نقول ما الإنسان فنقول جسم ملون ونفس فيه تمكن أن تكون متصرفة في العلوم والصناعات يقبل الحياة والموت فيقال ما الجسم وما النفس وما اللون وما الصناعات وما العلوم وما الحياة وما الموت فإذا فسرت جميع هذه الألفاظ ورسمت كل ما يقع عليه وفعلت كذلك في جميع الأجناس والأنواع فقد انتهت المعاني وانقطعت ولا سبيل إلى التمادي بلا نهاية أصلاً لأن كل ما ينطق به أو يعقل فإنه لا يعدو الأجناس والأنواع البتة والأنواع والأجناس محصورة كما بينا وكل ما خرج من الأشخاص إلى حد الفعل فقد حصره العدد لأنه ذو مبدأ وكل ما حصره العدد فمتناه ضرورة فجميع المعاني من الأعراض وغيرها محصورة بما ذكرنا من البرهان الصحيح الذي ذكرنا أن كل ما في العلم مما خرج إلى الوجود في الدهر مذ كان العالم من جنس أو عرض فهو كله محصور عدده متناه أمده ذو غاية في ذاته في مبدأه ومنتهاه وعدده وبالله التوفيق وقد نعجز نحن عن عد شعور أجسامنا ونوقن أنها ذات عدد متناه بلا شك فليس قصور قولنا عن إحصاء عدد ما في العالم بمعترض على وجوب وجود النهاية في جميع أشخاص جواهره وأعراضه وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: وأما قولهم إذا كان فعلنا خلقاً لله عز وجل ثم عذبنا عليه فإنما عذبنا على خلقه فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا لا يلزم ولو لزمنا للزمهم إذا كان تعالى يعذبنا على إرادتنا وحركتنا الواقعتين منا أن يعذبنا على حركة لنا أو على كل إرادة لنا بل على كل حركة في العالم وعلى كل إرادة فإن قالوا لا يعذبنا إلا على حركتنا وإرادتنا الواقعين منا بخلاف أمره عز وجل وكذلك نقول نحن أنه لا يعذبنا إلا على خلقه فينا الذي هو ظاهر منا بخلاف أمره وهو منسوب إلينا ومكتسب لنا لإيثارنا إياه المخلوق فينا فقط لا على كل ما خلق فينا أو في غيرنا ولا فرق ولو أخبرنا تعالى أنه يعذبنا على ما خلق في غيرنا لقلنا به ولصدقناه كما نقر أنه يعذب أقواماً على ما لم يفعلوه قط ولا أمروا به لكن على ما يفعله غيرهم ممن جاء بعدهم بألف عام لأن أولئك كانوا أول من فعل مثل ذلك الفعل قال الله تعالى: " وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم " وقال تعالى حاكياً عن أحد ابني آدم عليه السلام أنه قال: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار " وقال تعالى: " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون " وليس هذا معارضاً لقوله تعالى: " وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء " بل كلا الآيتين متفقة مع الأخرى لأن الخطايا التي نفى الله عز وجل أن يحملها أحد عن أحد بمعنى أن يحط حمل هذا لها من عذاب العامل بها شيئاً فهذا لا يكون لأن الله عز وجل نفاه وأما الحمل لمثل عقاب العامل للخطيئة مضاعفاً زائداً إلى عقابه غير حاط من عقاب الآخر شيئاً فهو واجب موجود وكذلك أخبرنا رسول الله أن من سن سنة في الإسلام سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها أبداً لا يحط ذلك من أوزارهم العاملين لها شيئاً ولو أن الله تعالى أخبرنا أنه يعذبنا على فعل غيرنا دون أن نسنه وإنه يعذبنا على غير فعل فعلناه أو على الطاعة لكان كل ذلك حقاً وعدلاً ولوجب التسليم له ولكن الله تعالى وله الحمد قد آمننا من ذلك بقوله تعالى: " لا يضركم من ضل إذا أهتديتم " ولحكمه تعالى أننا لا نجزي إلا بما عملنا أو كنا مبتدئين له فآمنا ذلك ولله تعالى الحمد وقد أيقنا أيضاً أنه تعالى يأجرنا على ما خلق فينا من المرض والمصائب وعلى فعل غيرنا الذي لا أثر لنا فيه كضرب غيرنا لنا ظلماً وتعذيبهم لنا وعلى قتل القاتل لمن قتل ظلماً وليس هاهنا من المقتول صبر ولا عمل أصلاً فإنما أجر على فعل غير مجرداً إذا أحدثه فيه وكذلك من أخذ غيره ماله والمأخوذ ماله لا يعلم بذلك إلى أن مات فأي فرق بين أن يأجرنا على فعل غيرنا وعلى فعله تعالى في إحراق مال من لم يعلم باحتراق ماله وبين أن يعذبنا على ذلك لو شاء عز وجل وأما قولهم فرض الله عز وجل الرضى بما قضى وبما خلق فإن كان الكفر والزنا والظلم مما خلق ففرض علينا الرضى بذلك فجوابنا إن الله عز وجل لم يلزمنا قط الرضا بما خلق وقضى بكل ما ذكر بل فرض الرضى بما قضى علينا من مصيبة في نفس أو في مال مظهر تمويههم بهذه الشبهة.

قال أبو محمد: فإن احتجوا بقول الله عز وجل: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " فالجواب أن يقال لهم وبالله تعالى التوفيق إن هذه الآية أعظم حجة على أصحاب الأصلح وهم جمهور المعتزلة في ثلاثة أوجه وهي حجة على جميع المعتزلة في وجهين لأن في هذه الآية إن ما أصاب الإنسان من حسنة فمن الله وما أصابه من سيئة فمن نفسه وهم كلهم لا يفرقون بين الأمرين بل الحسن والقبيح من أفعال المرء كل ذلك عنده من نفس المرء لا خلق لله تعالى في شيء من فعله لا حسنة ولا قبيحة فهذه الآية مبطلة لقول جميعهم في هذا الباب والوجه الثاني إنهم كلهم قائلون إنه لا يفعل المرء حسنة ولا قبيحة البتة إلا بقوة موهوبة من الله تعالى مكنة بها من فعل الخير والشر والطاعة والمعصية تمكيناً مستوياً وهي الاستطاعة على اختلافهم فيها فهم متفقون على أن الباري تعالى خالقها وواهبها كانت نفي المستطيع أو بعضها أوعرضا فيه وفي هذه الآية فرق بين الحسن والسيء كما ترى وأما الوجه الثالث الذي خالف فيه القائلون بالأصلح خاصة هذه الآية فإنهم يقولون أن الله تعالى لم يؤيد فاعل الحسنة بشيء من عنده تعالى لم يؤيد به فاعل السيئة والآية مخبرة بخلاف ذلك فصارت الآية حجة عليهم ظاهرة مبطلة لقولهم وأما قولنا نحن فيها فهو ما قاله الله عز وجل إذ يقول متصلاً بهذه الآية دون فصل: " قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ثم قال تعالى بأثر ذلك بعد كلام يسير: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح بما ذكرنا أن كل هذا الكلام متفق لا مختلف فقدم الله تعالى أن كل شيء من عنده فصح بالنص أنه تعالى خالق الخير والشر وخالق كل ما أصاب الإنسان ثم أخبر تعالى ما أصابنا من حسنة فمن عنده وهذا هو الحق لأنه لا يجب لنا تعالى عليه شيء فالحسنات الواقعة منا فضل مجرد منه لاشيء لنا فيه وإحسان منه إلينا لن نستحقه قط عليه وأخبر عز وجل أن ما أصابنا من مصيبة فمن أنفسنا بعد أن قال إن الكل من عند الله تعالى فصح أننا مستحقون بالنكال لظهور السيئة منا وإننا عاصون بذلك كما حكم علينا تعالى فحكمه الحق والعدل ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا فإذا كان الله خالقكم وخالق أفعالكم فأنتم والجمادات سواء قلنا كلا لأن الله تعالى خلق فينا علماً تعرف به أنفسنا الأشياء على ما هي عليه وخلق فينا مشيئة لكل ما خلق فينا مما يسمى فعلاً لنا فخلق فيه استحسان ما يستحسنه واستقباح ما يستقبحه وخلق تصرفاً في الصناعات والعلوم ولم يخلق في الجمادات شيئاً من ذلك فنحن مختارون قاصدون مريدون مستحسنون أو كارهون متصرفون علماً بخلاف الجمادات فإن قيل فأنتم مالكون لأموركم مفوض إليكم أعمالكم مخترعون لأفعالكم قلنا لا لأن الملك والاختراع ليس هو لأحد غير الله تعالى إذ الكل مما في العالم مخترع له وملك له عز وجل والتفويض فيه معنى من الاستغناء ولا غني بأحد عن الله عز وجل وبه نتأيد.

قال أبو محمد: فإذ قد أبطلنا بحول الله تعالى وقوته كل ما شغب به المعتزلة في أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى فلنأت ببرهان ضروري إن شاء الله تعالى على صحة القول بأنها مخلوقة لله تعالى فنقول وبه عز وجل نتأيد أن العالم كله مادون الله تعالى ينقسم قسمين جوهر وعرض لا ثالث لهما ثم ينقسم الجوهر إلى أجناس وأنواع ولكل نوع منها فصل يتميز به مما سواه من الأنواع التي يجمعها وإياه جنس واحد وبالضرورة نعلم أن ما لزم كل ما تحته إذ محال أن تكون نار غير حارة أو هواء راسب بطبعهأو إنسان جهال بطبعه وما أشبه هذا ثم بالضرورة نعلم أن الإنسان لا يفعل شيئاً إلا الحركة والسكون والفكر والإرادة وهذه كلها كيفيات يجمعها مع اللون والطعم والمجسة والأشكال جنس الكيفية فمن المحال الممتنع أن يكون بعض ما تحت النوع الواحد والجنس الواحد مخلوقاً وبعضه غير مخلوق وهذا أمر يعلمه باطلاً من له أدنى علم بحدود العالم وانقسامه وحركتنا وسكوننا يجمع كل ذلك مع كل حركة في العالم وكل سكون في العالم نوع من الحركة ونوع من السكون ثم ينقسم كل ذلك قسمين ولا مزيد حركة اضطرارية وحركة اختيارية وسكوناً اختيارياً وسكوناً اضطرارياً وكل ذلك حركة تحد بحد الحركة وسكون يحد بحد السكون ومن المحال أن يكون بعض الحركات مخلوقاً لله تعالى وبعضها غير مخلوق وكذلك السكون أيضاً فإن لجؤوا إلى قول معمر في أن هذه الأعراض كلها فعل ما ظهرت فيه بطباع ذلك الشيء سهل أمرهم بعون الله تعالى وذلك أنهم إن أقروا أن الله تعالى خالق المطبوعات ومرتب الطبيعة على ما هي عليه فهو تعالى خالق بل ظهر منها لأنه تعالى هو رتب كونه وظهوره على ما هو عليه رتبة لا يوجد بخلافها وهذا هو الخلق بعينه ولكنهم قوم لا يعلمون كالمتكسع في الظلمات وكما قال تعالى: " كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " نعوذ بالله من الخذلان وأيضاً فإن نوع الحركات موجود قبل خلق الناس فمن المحال البين أن يخلق المرء ما قد كان نوعه موجوداً قبله وأيضاً فإن عمدتهم في الاحتجاج على القائلين بأن العالم لم يزل إنما هي مقارنة الأعراض للجواهر وظهور الحركات ملازمة للمتحرك بها فإذا كان ذلك دليلاً باهراً على حدوث الجواهر وأن الله تعالى خلقها فما المانع أن يكون ذلك دليلاً باهراً أيضاً على حدوث الأعراض وأن الله تعالى خلقها لولا ضعف عقول القدرية وقلة علمهم نعوذ بالله مما امتحنهم به ونسأله التوفيق لا إله إلا هو وأيضاً فإن الله تعالى قال: " إذاً لذهب كل إله بما خلق " فأثبت تعالى من خلق شيئاً فهو له إله فيلزمهم بالضرورة إنهم آلهة لأفعالهم التي خلقوها وهذا كفر مجرد إن طردوه وإلا لزمهم الانقطاع وترك قولهم الفاسد وأيضاً فإن من خلق شيئاً لم يعنه غيره عليه لكن انفرد بخلقه فبالضرورة يعلم أنه يصرف ما خلق كما يفعله إذا شاء ويتركه إذا شاء ويفعله حسناً إذا شاء وقبيحاً إذا شاء فإذ هم خلقوا حركاتهم وإرادتهم منفردين بخلقها فليظهروها إلى أبصارنا حتى نراها أو نلمسها أو ليزيدوا في قدرها وليخالفوها عن رتبتها فإن قالوا لا نقدر على ذلك فليعلموا انهم كاذبون في دعاويهم خلقها لأنفسهم فإن قالوا: إنما نفعلها كما قوانا الله على فعلها فليعلموا أن الله تعالى إذاً هو المقوي على فعل الخير والشر فإن به عز وجل كان الخير والشر وإذ لولا هو لم يكن خير ولا شر وبه كانا فهو كونهما وأعان عليهما وأظهرهما واخترعهما وهذا معنى خلقه تعالى لهما وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان أن الله تعالى خالق أفعال خلقه قوله تعالى حاكياً عن سحرة فرعون مصدقاً لهم مثنياً عليهم في قلوهم: " ربنا أفرغ علينا صبراً " فصح أنه خالق ما يفرغه من الصبر الذي لو لم يفرغه على الصابر لم يكن له صبر وأيضاً فإن جنس الحركات كلها والسكون كله والمعارف كلها جنس واحد وكل ما قيل عن الكل قيل على جميع أجزائه وعلى كل بعض من أبعاضه فنسألهم عن حركات الحيوان غير الناطق وسكونه ومعرفته بما يعرف من مضاره ومنافعه في أكله وشربه وغير ذلك أكل ذلك مخلوق لله تعالى أم هو غير مخلوق فإن قالوا كل ذلك مخلوق كانوا قد نقضوا هذه المقدمات التي يشهد العقل والحس بتصديقها وظهر فساد قولهم في التفريق بين معرفتنا ومعرفة سائر الحيوان وبين حركاتنا وبين حركات سائر الحيوان وبين سكوننا وسكونهم وهذه مكابرة ظاهرة ودعوة بلا برهان وإن قالوا بل كل ذلك غير مخلوق ألزمناهم مثل ذلك في سائر الأعضاء كلها فإن تناقضوا كفونا أنفسهم وإن تمادوا لزمهم أنه تعالى لم يخلق شيئاً من الأعراض وهذا إلحاد ظاهر وإبطال للخلق وكفى بهذا إضلالاً ونعوذ بالله من الخذلان ويكفي من هذا أن الأعراض تجري على صفات الفاعل ونحن نجد الحكيم لا يقدر على الطيش والبذاء وإن الطياش البذيء لا يقدر على الحياء والصبر والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحليم لا يقدر على النزق والسخي لا يقدر على المنع والشحيح لا يقدر على الجود وقال تعالى: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " فصح أن من الناس موقى شح نفسه مفلحاً وغير موقي ولا مفلح وكذلك الزكي لا يقدر على البلادة والبليد لا يقدر على الزكا والحافظ لا يقدر على النسيان والناسي لا يقدر على ثبات الحفظ والشجاع لا يقدر على الجبن والجبان لا يقدر على الشجاعة هكذا في جميع الأخلاق التي عنها تكون الأفعال فصح ان ذلك خلق لله تعالى لا يقدر المرء على إحالة شيء من ذلك أصلاً حتى أن مخرج صوت أحدنا وصفة كلامه لا يقدر البتة على صرفه كما خلق عليه من الجهارة والخفاء أو الطيب والسماحة وكذلك خطه لا يمكنه صرفه عما رتبه الله تعالى عليه ولو جهد وهكذا جميع حركات المرء حتى وقع قدميه ومشيه فلو كان هو خالق كل ذلك لصرفه كما يشاء فإذا ليس فيه قوة على صرف شيء من ذلك عن هيئته فقد ثبت ضرورة أنه خلق الله تعالى فيمن نسب في اللغة على أنه فاعله وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: وأكثرت المعتزلة في التولد وتحيرت فيه حيرة شديدة فقالت طائفة ما يتولد عن فعل المرء مثل القتل و الألم المتولد عن رمي السهم وما أشبه ذلك فإنه فعل الله عز وجل وقال بعضهم بل هو فعل الطبيعة وقال بعضهم بل هو فعل الذي فعل الفعل الذي عنه تولد وقال بعضهم فعل لا فاعل له وقال جميع أهل الحق أنه فعل الله عز وجل وخلقه فالبرهان في ذلك هو البرهان الذي ذكرنا في خلق الأفعال من أن الله تعالى خالق كل شيء وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في التعديل والتجوير

عدل

قال أبو محمد رحمه الله: هذا الباب هو أصل ضلالة المعتزلة نعوذ بالله من ذلك على أننا رأينا منهم من لا يرضى عن قولهم فيه.

قال أبو محمد: وذلك أن جمهورهم قالوا وجدنا من فعل الجور في الشاهد كان جائراً ومن فعل الظلم كان ظالماً ومن أعان فاعلاً على فعله ثم عاقبه عليه كان جائراً عابثاً قالوا والعدل من صفات الله تعالى والظلم والجور منفيان عنه قال تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وقال تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وقال تعالى: " وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " وقال تعالى فما كان الله ليظلمهم " وقال تعالى " لا ظلم اليوم ".

قال أبو محمد: وقد علم المسلمون أن الله تعالى عدل لا يجور ولا يظلم ومن وصفه عز وجل بالظلم والجور فهو كافر ولكن ليس هذا على ما ظنه الجهال من أن عقولهم حاكمة على الله تعالى في أن لا يحسن منه إلا ما حسنت عقولهم وأنه يقبح منه تعالى ما قبحت عقولهم وهذا هو تشبيه مجرد لله تعالى بخلقه إذ حكموا عليه بأنه تعالى يحسن منه ما حسن منا ويقبح منه ما قبح منا ويحكم عليه في العقل بما يحكم علينا.

قال أبو محمد: وهذا مذهب يلزم كل من قال لما كان الحي في الشاهد لا يكون إلا بحياة وجب أن يكون الباري تعالى حياً بحياة وليس بين القولين فرق وكلاهما لازم لمن التزم أحدهما وكلاهما ضلال وخطأ وإنما الحق هو أن كل ما فعله الله عز وجل أي شيء كان فهو منه عز وجل حق وعدل وحكمة وإن كان بعض ذلك منا جوراً وسفهاً وكل ما لم يفعله الله عز وجل فهو الظلم والباطل والعبث والتفاوت وأما أجراؤهم الحكم على البارئ تعالى بمثل ما يحكم به بعضنا على بعض فضلال بين وقول سبق له أصل عند الدهرية وعند المنانية وعند البراهمة وهو أن الدهرية قالت لما وجدنا الحليم فيما بينا لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة ووجدنا من فعله ما لا فائدة فيه فهو عابث هذا الشيء لا يعقل غيره قالوا ولما وجدنا في العالم ضراً وشراً وعبثاً وأقذاراً ودوداً وذباباً ومفسدين انتفى بذلك أن يكون له فاعل حكيم وقالت طائفة منهم مثل هذا سواء بسواء إلا أنهم زادوا فقالوا علمنا بذلك أن للعالم فاعلاً سفيهاً غير الباري تعالى وهو النفس وأن الباري الحكيم خلاها تفعل ذلك ليريها فساد ما تخيلته فإذا استبان ذلك لها أفسده الباري الحكيم تعالى حينئذ وأبطله ولم تعد النفس إلى فعل شيء بعدها.

قال أبو محمد: وأبطال هذا القول يثبت ما يبطل به قول المعتزلة سواء بسواء ولا فرق وقالت المنانية بمثل ما قالت الدهرية سواء بسواء إلا أنها قالت ومن خلق خلقاً ثم خلق من يضل ذلك فهو ظالم عابث ومن خلق خلقاً ثم سلط بعضهم على بعض وأغرى بين طائع خلقه فهو ظالم عابث قالوا فعلمنا أن خالق الشر وفاعله هو غير خالق الخير.

قال أبو محمد: وهذا نص قول المعتزلة إلا أنها زادت قبحاً بأن قالت أن الله تعالى لم يخلق من أفعال لا خيراً ولا شراً وأن خالق الأفعال الحسنة والقبيحة هو غير الله تعالى لكن كل أحد يخلق فعل نفسه ثم زادت تناقضاً فقالت أن خالق عنصر الشر هو إبليس ومردة الشياطين وفعله كل شر وخالق طباعهم على تضادها هو الله تعالى وقالت البراهمة أن من العبث وخلاف الحكمة ومن الجور البين أن يعرض الله تعالى لما يعلم انهم يعطبون عنده ويستحقون العذاب أن وقعوا فيه يريدون بذلك إبطال الرسالة والنبوات كلها.

قال أبو محمد: وبالضرورة تعلم أنه لا فرق بين خلق الشر وبين خلق القوة التي لا يكون الشر إلا بها ولا بين ذلك وبين خلق من علم الله عز وجل أنه لا يفعل إلا الشر وبين خلق إبليس وأنظاره إلى يوم القيامة وتسليطه على إغواء العباد وإضلالهم وتقويته على ذلك وتركهم يضلهم إلا من عصم الله منهم فإن قالوا أن خلق الله تعالى إبليس وقوى الشر وفاعل الشر خير وعدل وحسن صدقوا وتركوا أصلهم الفاسد ولزمهم الرجوع إلى الحق في أن خلقه تعالى للشر والخير ولجميع أفعال عباده وتعذيبه من شاء منهم ممن لم يهده وإضلاله من أضله وهداه من هدى كل ذلك حق وعدل وحسن وإن أحكامنا غير جارية عليه لكن أحكامه جارية علينا وهذا هو الحق الذي لا يخفى إلا على من أضله الله تعالى نعوذ بالله من إضلاله لنا ولا فرق بين شيء مما ذكرناه في العقل البتة وبرهان ضروري.

قال أبو محمد: يقال لمن قال لا يجوز أن يفعل الله تعالى إلا ما هو حسن في العقل منا ولا أن يخلق ويفعل ما هو قبيح في العقل في ما بينا منا يا هؤلاء إنكم أخذتم الأمر من عند أنفسكم ثم عكستموه فمعظم غلطكم وإنما الواجب إذ أنتم مقرون بأن الله تعالى لم يزل واحداً وحده ليس معه خلق أصلاً ولا شيء موجود لا جسم ولا عرض ولا جوهر ولا عقل ولا معقول ولا سفه ولا غير ذلك ثم أقررتم بلا خلاف منكم انه خلق النفوس وأحدثها بعد ان لم تكن وخلق لها العقول وركبها في النفوس بعد ان لم تكن العقول البتة أن لا تحدثوا على الباري تعالى حكماً لازماً له من قبل بعض خلقه فليس في الجنون أفحش من هذا البتة ثم أخبرونا إذا كان الله وحده لا شيء موجود معه ففي أي شيء كانت صورة الحسن حسنة وصورة القبيح قبيحة وليس هنالك عقل أصلاً يكون فيه الحسن حسناً والقبيح قبيحاً ولا كانت هنالك نفس عاقلة أو غير عاقلة فيقبح عندها القبيح ويحسن الحسن فبأي شيء قام تحسين الحسن وتقبيح القبيح وهما عرضان لا بد لهما من حامل ولا حمل أصلاً ولا محمول ولا شيء حسن ولا شيء قبيح حتى أحدث الله تعالى النفوس وركب فيها العقول المخلوقة وقبح فيها على قولكم ما قبح وحسن فيها على قولكم ما حسن فإذ لا سبيل إلى أن يكون مع الباري تعالى في الأزل شيء موجود أصلاً قبيح ولا حسن ولا عقل يقبح فيه شيء أو يحسن فقد وجب يقيناً ألا يمتنع من قدرة الله تعالى وفعله شيء يحدثه لقبح فيه ووجب ألا يلزمه تعالى شيء لحسنه إذ لا قبح ولا حسن البتة فيما لم يزل فبالضرورة وجب أن ما هو الآن عندنا قبيح فإنه لم يقبح بلا أول بل كان لقبحه أول لم يكن موجوداً قبله فكيف أن يكون قبيحاً قبله وكذلك القول في الحسن ولا فرق ومن المحال الممتنع جملة أن يكون ممكناً أن يفعل الباري تعالى حينئذ شيئاً ثم يمتنع منه فعله بعد ذلك لأن هذا يوجب إما تبدل طبيعة والله تعالى منزه عن ذلك وأما حدوث حكم عليه فيكون تعالى متعبداً وهذا هو الكفر السخيف نعوذ بالله منه فإن قالوا لم يزل القبيح قبيحاً في علم الله عز وجل ولم يزل الحسن حسناً في علمه تعالى قلنا لهم هبكم أن هذا كما قلتم فعليكم في هذا حكمان مبطلان لقولكم الفاسد أحدهما أنكم جعلتم الحكم في ذلك لما في المعقول لا لما سبق في علم الله عز وجل فلم تجعلوا المنع من فعل ما هو قبيح عندكم ألا لأن العقول قبحته فأخطأتم في هذا والثاني أنه تعالى أيضاً لم يزل يعلم أن الذي يموت مؤمناً فإنه لا يكفر ولم يزل تعالى يعلم أن الذي يموت كافراً لا يؤمن فلم جوزتم قدرته على إحالة ما علم من ذلك وتبديله ولم تجوزوا قدرته تعالى على إحالة ما علم حسناً إلى القبح وإحالة ما علم قبيحاً إلى الحسن ولا فرق بين الأمرين أصلاً فإذا ثبت ضرورة أنه لا قبح لعينه ولا حسن لعينه البتة وانه لا قبيح إلا ما حكم الله تعالى بأنه قبيح ولا حسن إلا ما حكم بأنه حسن ولا مزيد وأيضاً فإن دعواكم أن القبيح لم يزل قبيحاً في علم الله تعالى ما دليلكم على هذا بل لعله تعالى لم يزل عليماً بأن أمر كذا يكون حسناً برهة من الدهر ثم يقبحه فيصير قبيحاً إذا قبحه لا قبل ذلك كما فعل تعالى بجميع الملل المنسوخة وهذا أصح من قولكم لظهور براهين هذا القول وبالله التوفيق ولم يزل سبحانه وتعالى عليماً أن عقد الكفر والقول به قبيح من العبد إذاً فعلهما معتقداً لهما لأن الله قبحهما لا لأنهما حركة أو عرض في النفس وهذا هو الحق لظهور براهين هذا أيضاً لا لأن ذلك قبيح لعينه ويقال لهم أيضاً أخبرونا من حسن الحسن في العقول ومن قبح القبح في العقول فإن قالوا الله عز وجل قلنا لهم أفكان الله تعالى قادر على عكس تلك الرتبة إذ رتبها على أن يرتبها بخلاف ما رتبها عليه فيحسن فيها القبيح ويقبح فيها الحسن فإن قالوا نعم أوجبوا أنه لم يقبح شيء إلا بعد ان حكم الله تعالى بقبحه ولم يحسن شيء إلا بعد ان حكم الله تعالى بحسنه وأنه كان له تعالى أن يفعل بخلاف ما فعل وله ذلك الآن وأبداً وبطل أن يكون تعالى متعبداً لنفسه وموجباً عليه ما يكون ظالماً مذموماً إن خالفه وإن قالوا لا يوصف تعالى بالقدرة على ذلك عجزوا ربهم تعالى ولزمهم القول بمثل قول علي الأسواري من أنه تعالى لا يقدر على غير ما فعل فحكم هذا الردي الدين والعقل بأنه أقدر من ربه تعالى وأقوى لأنه عند نفسه الخسيسة يقدر على ما فعل وعلى ما لم يفعل وربه تعالى لا يقدر إلا على ما فعل ولو علم المجنون أنه جعل ربه من الجمادات المضطرة إلى ما يبدو منها ولا يمكن أن يظهر منها غير ما يظهر لسخنت عينه ولطال عويله على عظيم مصيبته نعوذ بالله من الخذلان ومن عظم ما حل بالقدرية المتنطعين بالجهل والعمى والحمد لله على توفيقه إيانا حمداً كثيراً كما هو أهله.

قال أبو محمد: ويقال لهم هبكم شنعتم في القبيح بأنه قبيح فلم نفيتم عن الله عز وجل خلق الخير كله وخلق الحسن كله فقلتم لم يخلق الله تعالى الإيمان ولا الإسلام ولا الصلاة ولا الزكاة ولا النية الحسنة ولا اعتقاد الخير ولا إيتاء الزكاة ولا الصدقة ولا البر لأن خلق هذا قبيح أم كيف الأمر فبأن تمويهكم بذكر خلق الشر وأنتم قد استوى عندكم الخير والشر في أن الله تعالى لم قال أبو محمد: وقرأت في مسائل لأبي هشام عبد السلام ابن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي رئيس المعتزلة وابن رئيسهم كلاماً له يردد فيه كثيراً دون حياء ولا رقبة يجب على الله أن يفعل كذا كأنه المجنون يخبر عن نفسه أو عن رجل من عرض الناس فليت شعري أما كان له عقل أو حس يسائل به نفسه فيقول ليت شعري من أوجب على الله تعالى هذا الذي قضى بوجوبه عليه ولا بد لكل وجوب وإيجاب من موجب ضرورة وإلا كان يكون فعلاً لا فاعل له وهذا أكفر مما أجازه فمن هذا الموجب على الله تعالى حكماً ما وهذا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون أوجبه الله عليه بعض خلقه أما العقل وأما العاقل فإن كان هذا فقد رفع القلم عنه وأف لكل عقل يقوم فيه أنه حاكم على خالقه ومحدثه بعد أن لم يكن ومرتبه على ما هو عليه ومصرفه على ما يشاء وإما أن يكون تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يزل غير موجب له على نفسه فإن قال بهذا قيل له فقد كان غير واجب عليه حتى أوجبه فإذ هو كذلك فقد كان مباحاً له أن يعذب من لم يقدره على ترك ما عذبه عليه وعلى خلاف سائر ما ذكرت أنه أوجبه على نفسه وإذا أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن واجباً عليه فممكن له أن يسقط ذلك الوجوب عن نفسه وإما أن يكون تعالى لم يزل موجباً ذلك على نفسه فإن قال بهذا لزمته عظيمتان مخرجتان له عن الإسلام وعن جميع الشرائع وهما أن الباري تعالى لم يزل فاعلاً ولم يزل فعله معه لأن الإيجاب فعل ومن لم يزل موجباً فلم يزل فاعلاً وهذا قول أهل الدهر نفسه.

قال أبو محمد: ولا بمانع بين جميع المعتزلة في إطلاق هذا الجنون من أنه يجب على الله أن يفعل كذا ويلزمه ان يفعل كذا فأعجبوا لهذا الكفر المحض وبهذا يلوح بطلان ما يتأولونه في قول الله تعالى: " وكان حقاً علينا نصر المؤمنين " وقوله تعالى: " كتب على نفسه الرحمة " وقوله علي السلام حق العباد على الله أن لا يعذبهم يعني إذا قالوا لا إله إلا الله وحق على الله أن يسقيه من طينة الخبال يعني عن شارب الخمر وإن كل هذا إنما هو أن الله تعالى قضى بذلك وجعله حتماً واجباً وكونه حقاً فوجب ذلك منه تعالى لا عليه فأبدلت من منَ على وحروف الجر يبدل بعضها من بعض ثم نقول لهم من خلق إبليس ومردة الشياطين والخمر والخنازير والحجارة المعقودة والميسر والأصنام والأزلام وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب فمن قولهم وقول كل مسلم أن الله تعالى خالق هذا كله فلنسألهم أشيء حسن هو كل ذلك أم رجس وقبيح وشر فإن قالوا بل رجس وقبيح ونجس وشر وفسق صدقوا وأقروا أنه تعالى خلق الأنجاس والرجس والشر والفسق وما ليس حسناً فإن قالوا بل هي حسان في إضافة خلقها إلى الله تعالى وهي رجس ونجس وشر وفسق تسمية الله تعالى لها بذلك قلنا صدقتم وهكذا نقول أن الكفر والمعاصي هي في أنها أعراض وحركات خلق لله تعالى حسن من خلق الله تعالى كل ذلك وهي من العصاة بإضافتها إليهم قبائح ورجس وقال عز وجل: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان " وقال تعالى: " أو لحم خنزير فإنه رجس " فليخبرونا بأي ذنب كان من هذه الأشياء وجب أن يسخطها الله تعالى وأن يرجسها ويجعل غيرها طيبات هل هاهنا إلا أنه تعالى فعل ما يشاء وأي فرق بين أن يسخط ما شاء فيلعنه مما لا يعقل ويرضى عما شاء من ذلك فيعلي قدره ويأمر بتعظيمه كناقة صالح والبيت الحرام وبين أن يفعل ذلك أيضاً فيمن يعقل فيقرب بعضاً كما شاء ويبعد بعضاً كما شاء وهذا ما لا سبيل إلى وجود الفرق فيه أبداً ثم نسألهم هل حابى الله تعالى من خلقه في أرض الإسلام بحيث لا يلفي إلا داعياً إلى الدين محسناً له على من خلقه في أرض الزنج والصين والروم بحيث لا يسمع إلا ذاماً لدين المسلمين مبطلاً له وصاداً عنه وهل رأوا فظ وسمعوا بمن خرج من هذه البلاد طالباً لصحة البرهان على الدين فمن أنكر هذا كابر العيان والحس ومن أذعن لها ترك قول المعتزلة الفاسد.

قال أبو محمد: والقول الصحيح هو أن العقل الصحيح يعرف بصحته ضرورة أن الله تعالى حاكم على كل ما دونه وأنه تعالى غير محكوم عليه وأن كل ما سواه تعالى فمخلوق له عز وجل كان جوهراً حاملاً أو عرضاً محمولاً لا خالق سواه وأنه يعذب من يشاء أن يعذبه ويرحم من يشاء أن يرحمه وأنه لا يلزم أحداً إلا ما ألزمه الله عز وجل ولا قبيح إلا ما قبح الله ولا حسن إلا ما حسن الله وأنه لا يلزم لأحد على الله تعالى حق ولا حجة ولله تعالى على كل من دونه وما دونه الحق الواجب والحجة البالغة لو عذب المطيعين والملائكة والأنبياء في النار مخلدين لكان ذلك له ولكان عدلاً وحقاً منه ولو نعم إبليس والكفار في الجنة مخلدين كان ذلك له وكان حقاً وعدلاً منه وإن كل ذلك إذ أباه الله تعالى وأخبر أنه لا يفعله صار باطلاً وجوراً وظلماً وأنه لا يهتدي أحد إلا من هداه الله عز وجل ولا يضل أحد إلا أضله الله عز وجل ولا يكون في العالم إلا ما أراده الله عز وجل كونه من خير أو شر وغير ذلك وما لم يرد عز وجل كونه فلا يكون البتة وبالله تعالى التوفيق ونحن نجد الحيوان لا يسمى عدوان بعضها على بعض قبيحاً ولا ظلماً ولا يلام على ذلك ولا يلام على من ربى شيئاً منها على العدوان عليها فلو كان هذا النوع قبيحاً لعينه وظلماً لعينه لقبح متى وجد فلما لم يكن كذلك صح أنه لا يقبح شيء لعينه البتة لكن إذا قبحه الله عز وجل فقط فإذا قد بطل قولهم بالبرهان الكلي الجامع لأصلهم الفاسد فلنقل بحول الله تعالى وقوته في إبطال أجزاء مسائلهم وبالله تعالى نستعين فأول ذلك أن نسألهم فنقول عرفونا ما هذا القبيح في العقل أعلى الإطلاق فقال قائلون من زعمائهم منهم الحارث بن علي الوراق البغدادي وعبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي وغيرهما أن كل شيء حسن بوجه ما قلت يمتنع وقوع مثله من الله تعالى لأنه حينئذ يكون حسناً إذ ليس قبيحاً البتة على كل حال وأما ما كان قبيحاً على كل حال فلا يحسن البتة فهذا منفي عن الله عز وجل أبداً قالوا ومن القبيح على كل حال أن تفعل بغيرك وما لا تريد أن يفعل بك وتكليف ما لا يطاق ثم التعذيب عليه.

قال أبو محمد: وظن هؤلاء المبطلون إذ أتوا بهذه الحماقة أنهم أغربوا وقرطسوا وهم بالحقيقة وقد هذوا وهدروا وهذا عين الخطاء وإنما قبح بعض هذا النوع إذ قبحه الله عز وجل وحسن بعضه إذ حسنه الله عز وجل والعجب من مباهتتهم في دعواهم ان المحاباة ظلم ولا ندري في أي شريعة أم في أي عقل وجدوا أن المحاباة ظلم وأن الله تعالى قد أباحها إلا حيث شاء وذلك أن للرجل أن ينكح امرأتين وثلاثاً وأربعاً من الزوجات وذلك له مباح حسن وأن يطأ من إمائه أي عدد أحب وذلك له مباح حسن ولا يحل للمرأة أن تنكح غير واحد ولا يكون عبدها وهذا منه حسن وبالضرورة ندري أن في قلوبهن من الغيرة كما في قلوبنا وهذا محظور في شريعة غيرنا والنفار منه موجود في بعض الحيوان بالطبع والحر المسلم ملكه أن يستعبد أخاه المسلم ولعله عند الله تعالى خير من سيده في دينه وفي أخلاقه وقنوته ويبيعه ويهبه ويستخدمه ولا يجوز ان يستعبده هو أحد لا عبده ذلك ولا غيره وهذا منه حسن وقد أحب رسول الله لنفسه المقدسة ما أكرمه الله تعالى به من أن لا ينكح أحد من بعده من نسائه أمهاتنا رضوان الله عليهن وأحب هو عليه السلام نكاح من نكح من النساء بعد أزواجهن وكل ذلك حسن جميل الصواب ولو أحب ذلك غيره كان مخطي الإرادة قبيحاً ظالماً ومثل هذا أن تتبع كثير جداً إذ هو فاش في العالم وفي أكثر الشريعة فبطل هذا القول الفاسد منهم وقد نص الله تعالى على إباحة ما ليس عدلاً عند المعتزلة بل على الإطلاق وعلى المحاباة حيث شاء وكل ذلك عدل منه قال عز وجل: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل " وقال تعالى: " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " فأباح تعالى لنا أن لا نعدل بين ما ملكت أيماننا وأباح لنا محاباة من شئنا منهن فصح أن لا عدل إلا ما سماه الله عدلاً فقط وإن كل شيء فعله الله فهو العدل فقط لا عدل سوى ذلك وكذلك وجدنا الله تعالى قد أعطى الابن الذكر من الميراث حظين وإن كان غنياً مكتسباً وأعطى البنت حظاً واحداً وإن كانت صغيرة فقيرة فبطل قول المعتزلة وصح أن الله تعالى يحابي من يشاء ويمنع من يشاء وإن هذا هو العدل لا ما تظنه المعتزلة عدلاً بجهلها وضعف عقولها وأما تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه فإنما قبح ذلك فيما بيننا لأن الله تعالى حرم ذلك علينا فقط وقد علمت المعتزلة كثرة عدد من يخالفهم في أن هذا لا يقبح من الله تعالى الذي لا أمر فوقه ولا يلزمه حكم عقولنا وما دعواهم على مخالفيهم في هذه المسألة أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إلا كدعوى المجسم عليهم أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إذ أجازوا وجود الفعل ممن ليس جسماً وإذ أجازوا حياً بلا حياة وعالماً لا بعلم.

قال أبو محمد: وكلتا الدعويين على العقول كاذبة وقد بينا في ما سلف من كتابنا هذا غلط من ادعى في العقل ما ليس فيه وبينا أن العقل لا يحكم به على الله الذي خلق العقل ورتبه على ما هو به ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق وقال بعض المعتزلة أن من القبيح بكل حال والمحظور في العقل بكل وجه كفر نعمة المنعم وعقوق الأب.

قال أبو محمد: وهذا غاية الخطأ لأن العاقل المميز بالأمور إذا تدبرها علم يقيناً أنه لا منعم على أحد إلا الله وحده لا شريك له الذي أوجده من عدم ثم جعل له الحواس والتمييز وسخر له ما في الأرض و كثيراً مما في السماء وخوله المال وإن كل منعم دون الله عز وجل فإن كان منعماً بمال فإنما أعطى من مال الله عز وجل فالنعمة لله عز وجل دونه وإن كان ممرضاً أو معتقاً أو خائفاً من مكروه فإنما صرف في ذلك كلما وهبه الله عز وجل من الكلام والقوة والحواس والأعضاء وإنما تصرف بكل ذلك في ملك الله عز وجل وفيما هو تعالى أولى به منه فالنعمة لله عز وجل دونه فالله تعالى هو ولي كل نعمة فإذ لا شك في ذلك فلا منعم إلا من سماه الله تعالى منعماً ولا يجب شكر منعم إلا بعد أن يوجب لله تعالى شكره فحينئذ يجب وإلا فلا ويكون حينئذ من لم يشكره عاصياً فاسقاً أتى كبيرة لخلاف أمر الله تعالى بذلك فقط ولا فرق بين تولدنا من مني أبوينا وبين تولدنا من التراب الأرضي ولا خلاف في أنه لا يلزمنا بر التراب ولا له علينا حق ليس ذلك إلا لأن الله تعالى لم يجعل له علينا حقاً وقد يرضع الصغير شاة فلا يجب لها عليه حق لأن الله تعالى لم يجعله لها وجعله للأبوين وإن كانا كافرين مجنونين ولم يتوليا تربيتنا بل اشتغلا عنا بلذاتهما ليس هاهنا إلا أمر الله تعالى فقط وبرهان آخر أن امرأ لو زنى بامرأة عالماً بتحريم ذلك أو غير عالم إلا أنه ممل لا يلحق به الولد المخلوق من نطفته النزلة من ذلك الوطء فإن بره لا يلزم ذلك الولد أصلاً ويلزمه بر أمه لان الله تعالى أمره بذلك لها ولم يأمره بذلك في الذي تولد من نطفته فقط ولا فرق في العقل بين الرجل والمرأة في ذلك ولا فرق في المعقول وفي الولادة تولد الجنين من نطفة الواطئ لأمه بين أولاد الزنا وأولاد الرشدة لكن لما ألزم الله تعالى أولاد الرشدة المتولدين عن عقد نكاح أو ملك يمين فاسدين أو صحيحين بر آمائهم وشكرهم وجعل عقوقهم من الكبائر لزمنا ذلك ولما لم يلزم ذلك أولاد الزنية لم يلزمهم وقد علمنا نحن وهم يقيناً أن رجلين مسلمين لو خرجا في سفر فأغار أحدهما على قرية من قرى دار الحرب فقتل كل رجل بالغ فيها وأخذ جميع أموالهم وسبى ذراريهم ثم خمسن ذلك بحكم الإمام العدل ووقع في حظه أطفال قد تولى هو قتل آبائهم وسبى أمهاتهم ووقعن أيضاً بالقسمة الصحيحة في حصته فنكحهن وصرف أولادهن في كنس حشوشه وخدمة دوابه وحرثه وحصاده ولم يكلفهم من ذلك إلا ما يطيقون وكساهم وأنفق عليهم بالمعروف كما أمر الله تعالى فإن حقه واجب عليهم بلا خلاف ولو أعتقهم فإنه منعماً عليهم وشكره فرض عليهم وكذلك لو فعل ذلك بمن اشتراه هو مسلم بعد وأغار الثاني على قرية للمسلمين فأخذ صبياناً من صبيانهم فاسترقهم فقط ولم يقتل أحداً ولا سبى لهم حرمة فربى الصبيان أحسن تربية وكانوا في قرية شقاء وجهد وتعب وشظف عيش وسوء حال فرفه معايشهم وعلمهم العلم والإسلام وخولهم المال ثم أعتقهم فلا خلاف في أنه لا حق له عليهم وإن دمه وعداوته فرض عليهم وإنه لو وطئ امرأة منهن وهو محصن وكان أحدهم قد ولي حكماً للزمه شدخ رأسه بالحجارة حتى يموت أفلا يتبين لكل ذي عقل من أهل الإسلام إنه لا محسن ولا منعم إلا الله تعالى وحده لا شريك له إلا من سماه الله تعالى محسناً أو منعماً ولا شكر لازماً لأحد على أحد إلا من ألزمه الله تعالى شكره ولا حق لأحد على أحد إلا من جعل الله تعالى له حقاً فيجب كل ذلك إذ أوجبه الله تعالى وإلا فلا وقد أجمعوا معنا على أن من أفاض إحسان الدنيا على إنسان أفاضه بوجه حرمه الله تعالى فإنه لا يلزمه شكره و إن من أحسن إلى آخر غاية الإحسان فشكره بأن أعناه في دنياه بما لا يجوز في الدين فإنه مسيء إليه ظالم فصح يقيناً أنه لا يجب شيء ولا يحسن شيء ولا يقبح شيء إلا ما أوجبه الله تعالى في الدين أو حسنه الله تعالى في الدين أو قبحه الله في الدين فقط وبالله تعالى نتأيد وقال بعضهم الكذب قبيح على كل حال.

قال أبو محمد: وهذا كالأول وقد أجمعوا معنا على بطلان هذا القول وعلى تحسين الكذب في مواضع خمسة إذ حسنه الله تعالى وذلك نحو إنسان مسلم مستتر من أمام ظالم يظلمه ويطلبه فسأل ذلك الظالم هذا الذي استتر عنده المطلوب وسأل أيضاً كل من عنده خبره وعن ماله فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه أن صدقه ودله على موضعه وعلى ماله فإنه عاص لله عز وجل فاسق ظالم فاعل فعلاً قبيحاً وإنه لو كذبه وقال له لا أدري وكان مكانه ولا مكان ماله فإنه مأجور محسن فاعل فعلاً حسناً وكذلك كذب الرجل لامرأته فيما يستجر به مودتها وحسن صحبتها والكذب في حرب المشركين فيما يوجد به السبيل إلى إهلاكهم وتخليص المسلمين منهم فصح أنه قبح الكذب حيث قبحه الله عز وجل ولولا ذلك ما كان قبيحاً بالعقل أصلاً إذ ما وجب بضرورة العقل فمحال أن يستحيل في هذا العالم البتة عما رتبه الله عز وجل في وجود العقل إياه كذلك فصح كذبهم على العقول وقال بعضهم الظلم قبيح.

قال أبو محمد: وهذا كالأول ونسألهم ما معنى الظلم فلا يجدون إلا أن يقولوا أنه قتل الناس وأخذ أموالهم وآذاهم وقتل المرء نفسه أو التشويه بها أو إباحة حرمه للناس ينكحونهن وكل هذا فليس شيء منه قبيحاً لعينه وقد أباح الله عز وجل أخذ أموال قوم بخراسان من أجل ابن عمهم قتل بالأندلس رجلاً خطأ لم يرد قتله لكن رمى صيداً مباحاً له أو رمى كافراً في الحرب فصادف المسلم السهم وهو خارج من خلف جبل فمات ووجدناه تعالى قد أباح دم من زنى وهو محصن ولم يطئ امرأة قط إلا زوجة له عجوزاً شعرها سوداء وطئها مرة ثم ماتت ولا يجد من أن ينكح ولا من أن يتسرى وهو شاب محتاج إلى النساء وحرم دم شيخ زنى وله ماية جارية كالنجوم حسناً إلا أنه لم يكن له قط زوجة وأما قتل المرء نفسه فقد حسن الله تعالى تعريض المرء نفسه للقتل في سبيل الله عز وجل وصدمة الجموع التي يوقن أنه مقتول في فعله ذلك وقد أمر عز وجل من قبلنا بقتل نفسه قال تعالى: " فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم " ولو أمرنا عز وجل بمثل ذلك لكان حسناً كما كان حسناً أمره عز وجل بذلك بني إسرائيل وأما التشويه بالنفس فإن الختان والإحرام والركوع والسجود لولا أمر الله تعالى بذلك وتحسينه إياه لكان لا معنى له ولكان على أصولهم تشويهاً ودليل ذلك أن امرأ من الناس لو قام ثم وضع رأسه في الأرض في غير صلاة بحضرة الناس لكان عابثاً بلا شك مقطوعاً عليه بالهوس وكذلك لو تجرد المرء من ثيابه أمام الجموع في غير حج ولا عمرة وكشف رأسه ورمى بالحصى وطاف ببيت مهرولاً مستديراً به لكان مجنوناً بلا شك لاسيما أن امتنع من قتل قملة ومن فلا رأسه ومن قص أظافره وشاربه لكن لما أمر الله عز وجل بما أمر به من ذلك كان فرضاً واجباً وحسناً وكان تركه قبيحاً وأنكره كفراً وأما أباح المرء حرمه للنكاح فهذا أعجب ما أتوا به أما علموا أن الله تعالى خلى بين عبده وإمائه يفجر بعضه ببعض وهو قادر على منعهم من ذلك فلم يفعل بل قوى آلاتهم وقوى شهواتهم على ذلك بإقرار المعتزلة فهذا من الله حسن ومن عباده قبيح لأن الله قبحه ولا مزيد ولو حسنه تعالى لحسن أما شاهدوا إنكاح الرجال بناتهم من رجال ثم يطلق الرجل منهم المرأة فمن آخر ثم آخر وهكذا ما أمكنهم وكذلك إن مات عنها فأي فرق في المعقول بين إباحة وطئها بلفظ زوجتك وأو أنكحتك وبين حظر وطئها بألا طلاق عليه بلفظة قم فطاها فهل هاهنا قبيح إلا ما قبحه الله عز وجل أو حسن إلا ما حسن الله عز وجل وقال بعضهم الكفر قبيح على كل حال.

قال أبو محمد: وهذا كالأول وما قبح الكفر إلا لأن الله قبحه ونهى عنه ولولا ذلك ما قبح وقد أباح الله عز وجل كلمة الكفر عند التقية وأباح بها الدم في غير التقية ولو أن أمرؤ اعتقد أن الخمر حرام قبل أن ينزل تحريمها لكان كافراً ولكان ذلك منه كفراً إن كان عالماً بإباحة الرسول صلى الله عليه ويلم ثم صار ذلك الكفر إيمان وصار الآن من اعتقد تحليلها كافراً وصار اعتقاد تحليلها كفراً فصح أن لا كفر إلا ما سماه الله تعالى كفراً ولا إيماناً إلا ما سماه إيماناً وأن الكفر لا يقبح إلا بعد أن قبحه الله عز وجل ولا يحسن الإيمان إلا بعد أن حسنه الله عز وجل فبطل كل ما قالوه في الجور والكفر والظلم وصح أنه لا ظالم إلا ما نهى الله عنه ولا جور إلا ما كان كذلك ولا عدل إلا ما أمر الله تعالى به أو إباحة أي شيء كان وبالله تعالى التوفيق فإذ هذا كما ذكرنا فقد صح أنه لا ظلم في شيء من فعل الباري تعالى ولو أنه تعالى عذب من لم يقدره على ما أمر به من طاعته لما كان ذلك ظلماً إذ لم يسميه تعالى ظلماً وكذلك ليس ظلماٍ خلقه تعالى للأفعال التي هي من عباده عز وجل وكفر وظلم وجور لأنه لا آمر عليه تعالى ولا ناهياً بل الأمر أمره والملك ملكه وقالوا تكليف ما لا يطاق ثم التعذيب عليه قبيح في العقول جملة لا يحسن بوجه من الوجوه فيما بيننا فلا يحسن من الباري تعالى أصلاً.

قال أبو محمد: نسي هؤلاء القوم مالا يجب أن ينسى ويقال لهم أليس قول القائل فيما بيننا اعبدوني اسجدوا لي قبحاً لا يحسن بوجه من الوجوه ولا حال من الأحوال فلا بد من نعم فيقال لهم أوليس هذا القول من الله تعالى حسناً وحقاً فلا بد من نعم فإن قالوا إنما قبح ذلك منا لأننا لا نستحقه قيل لهم وكذلك إنما قبح منا تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه لأننا لا نستحق هذه الصفة وأي شيء أتوا به من الفرق فهو راجع عليهم في تكليف ما لا يطاق ولا فرق وكذلك الممتن بإحسانه الجبار المتكبر ذو الكبرياء قبيح في ما بيننا على كل حال هو من الله تعالى حسن وحق وقد سمى نفسه الجبار المتكبر وأخبر أن له كبرياء وهو تعالى يمن بإحسانه فإن قالوا حسن ذلك منه لأن كل خلقه قيل لهم وكذلك حسن منه تكليف ما لا يستطيع ثم تعذيبه لأن كل خلقه وكذلك في ما بينا من عذب حيواناً بالنتف والضرب ثم أحسن علفه ورفهه فهو قبيح على كل وجه وفاعله عابث وهم يقولون أن الباري تعالى أباح ذلك الحيوان من أكلها وذبحها ثم يعوضها على ذلك وهذا منه عز وجل حسن ألا أن يلجؤا إلى أنه تعالى لا يقدر على تعويض الحيوان إلا بعد إيلامها وتعذيبها فهذا أقبح قول وأبينه كذباً وأوضحه نخبة وأتمه كفراً وأذمه للباري تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل فإن قالوا إن إيلام الحيوان قد يحسن فيما بيننا مثل أن يسقي الإنسان من يحب ماء الأدوية الكريهة ويحجمه ويكويه ليوصله بذلك إلى منافع لولا هذا المكروه لم يكن ليصل إليها.

قال أبو محمد: وهذا تمويه لم ينفكوا به مما سألهم عنه أصحابنا في هذه المسألة ونحن لم نسألهم عمن لا يقدر على نفعه إلا بعد الأذى الذي هو أقل من النفع الذي يصل إليه بعد ذلك الأذى وإنما سألناهم عمن يقدر على نفعه دون أن يبتديه بالأذى ثم لا ينفعه إلا حتى يؤذيه.

قال أبو محمد: وكذلك تكليف من يدري المرء أنه لا يطيقه وأنه إذا لم يطقه عذبه قبيح فيما بيننا فقال قائل منهم إن هذا قد يحسن فيما بيننا وذلك أن يكون المرء يريد أن يقرر عند صديقه معصية عبده له فيأمره وهو يدري انه لا يطيعه فإن نهيه له حسن.

قال أبو محمد: وهذا كالأول ولا فرق ولم نسألهم عمن لم يقدر على تعريف صديقه معصية غلامه له إلا بتكليفه أمامه مالا يطيعه فيه ولا عمن لا يقدر على منع العاصي له بأكثر من النهي وإنما نسألهم عمن لا منفعة له في أن يعلم زيد معصية غلامه له وعمن يقدر على أن يعرف زيداً بذلك ويقرره عنده بغير أن يأمر من لا يطيعه وعمن يقدر على منعه من المعصية فلا يفعل ذلك إلا أن يعجزوا ربهم كما ذكرنا فهذا مع أنه كفر فهو أيضاً كذب ظاهر لأنه تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم لوردوا لعادوا لما نهوا عنه فتقرر هذا عندنا تقرراً لو رأينا ذلك عياناً ما زادنا علماً بصحته وكذلك ما شاهدنا قوماً آخرين أرادوا ضروباً من المعاصي فحال الله تعالى بينهم وبينها بضروب من ألحوايل وأطلق آخرين ولم يحل بينهم وبينها بل قوي الدواعي لها ورفع الموانع عنها جملة حتى ارتكبوها فلاح كذب المعتزلة وعظيم إقدامهم على الافتراء على الله تعالى وشدة مكابرتهم العيان ومخالفتهم للمعقول وقوة جهلهم وتناقضهم نعوذ بالله من الخذلان ثم بعد هذا كله فأي منفعة لنا في تعريفنا أن فرعون يعصي ولا يؤمن وما الذي ضر الأطفال إذا ماتوا قبل أن يعرفوا من أطاع ومن عصى ونسألهم عمن أعطى آخر سيوفاً وخناجر وعتلاً للنقب وكل ذلك يصلح للجهاد ولقطع الطريق والتلصص وهو يدري أنه لا يستعمل شيئاً من ذلك في الجهاد إلا في قطع الطريق والتلصص وعمن مكن آخر من خمر وامرأة عاهرة وبغاء وأخلى له منزلاً مع كل ذلك أليس عابثاً ظالماً بلا خلاف فلا بد من نعم ونحن وهم نعلم أن الله عز وجل وهب لجميع الناس القوة التي بها عصوا وهو يدري أنهم يعصونه بها وخلق الخمر وبثها بين أيديهم ولم يحل بينهم وبينها وليس ظالماً ولا عابثاً فإن عجزوه تعالى عن المنع من ذلك بلغوا الغاية من الكفر فإن من عجز نفسه منا عن منع الخمر من شاربها وهو يقدر على ذلك لفي غاية الضعف والمهانة أو مريداً لكون ذلك كما شاء لا معقب لحكمه وهذا قولنا لا قولهم.

قال أبو محمد: فانقطعوا عند هذه ولم يكن لهم جواب إلا أن بعضهم قال إنما قبح ذلك منا لجهلنا بالمصالح ولعجزنا عن التعويض ولأن ذلك محظور وهذا محظور علينا ولو أن امرءاً له منا عبيد وقد صح عنده بأخبار النبي عليه الصلاة والسلام أنهم لا يؤمنون أبداً فإن كسوتهم وإطعامهم مباح له.

قال أبو محمد: وهذا عليهم لا لهم وإقراراً منهم بأنه إنما قبح ذلك منا لنه محرم علينا وكذلك كسوة العبيد الذين يوقن أنهم لا يؤمنون وإنما حسن ذلك لأننا مأمورون بالإحسان إلى العبيد وإن كانوا كفاراً ولو فعلنا بأهل دار الحرب لكنا عصاة لأننا نهينا عن ذلك ليس ها هنا شيء يقبح ولا يحسن إلا ما أمر الله تعالى فقط وأما قولهم أن ذلك قبح منا لجهلنا بالمصالح فليقنعوا بهذا فمن أجابهم بهذا بعينه في الفرق بين حسن تكليف الله تعالى ما لا يطاق وتعذيبه عليه منه وقبح ذلك منا وإنه إنما قبح منا لجهلنا بالمصالح.

قال أبو محمد: وأما نحن فكلا الجوابين عندنا فاسد ولا مصلحة فيما أدى إلى النار والخلود فيها بلا نهاية ولكنا نقول قبح منا ما نهانا الله عنه وحسن منا ما أمرنا به وكل ما فعله ربنا تعالى الذي لا آمر فوقه فهو عدل وحسن وبالله تعالى التوفيق.

وسألهم أصحابنا فقالوا إن المعهود بيننا أن الحكيم لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو دفع مضرة ومن فعل لغير ذلك فهو سفيه والباري تعالى يفعل لغير اجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة وهو حكيم.

فقالت طائفة من المعتزلة أن الباري تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم وقالت طائفة منهم لم يكن الحكيم في ما بيننا حكيماً لأنه يفعل لاجتلاب المنافع ودفع المضار لأنه قد يفعل ذلك كل ملتذ وكل متشف وإن لم يكن حكيما وإنما سمي الحكيم حكيما لإحكامه عمله.

قال أبو محمد: وكل هذا ليس بشيء لأن من الحيوان ما يحكم عمله مثل الخطاف والعنكبوت والنحل ودود القز ولا يسمى شيء من ذلك حكيما ولكن إنما سمي الحكيم حكيما على الحقيقة لالتزامه الفضائل واجتنابه الرذائل فهذا هو العقل والحكمة المسمى فاعله حكيماً عاقلاً وهكذا هو في الشريعة لأن جميع الفضائل إنما هي طاعات الله عز وجل والرذائل إنما هي معاصيه فلا حكيم إلا من أطاع الله عز وجل واجتنب معاصيه وعمل ما أمره ربه عز وجل وليس من أجل هذا يسمى الباري حكيماً إنما سمي حكيماً لأنه سمى نفسه حكيماً فقط ولو لم يسمي نفسه حكيماً ما سميناه حكيماً كما لم نسمه عاقلاً إذ لم يسم بذلك ثم نقول لهم وأما قولكم إنما سمي الله حكيماً لفعله الحكمة فأنتم مقرون أنه أعطى الكفار قوة الكفر ولا يسمى مع ذلك مقوياً على الكفر وأما من قال منهم أنه تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم فكلام فاسد إذا قيل على عمومه لأن كل مستضر يفعله في دنياه وأخراه لم يصرف الله تعالى عنه تلك المضرة وقد كان قادراً على صرفها عنه إلا أن يعجزوه عن ذلك فيكفروا وسألهم أصحابنا فقالوا إذا كان الله عز وجل لا يفعل إلا ما هو عدل بيننا فلم خلق من يدري أنه يكفر به وأنه سيخلده بين أطباق النيران أبداً فأجابوا عن هذا بأجوبة فمن أظرفها أن كثيراً منهم قالوا لو لم يخلق من يكفر به ويخلده في نار جهنم لما استحق العذاب أحد ولا دخل النار أحد.

قال أبو محمد: وتكفي من الدلالة على ضعف عقل هذا الجاهل هذا الجواب ونقول له ذلك ما كنا نبغي وهل الخير كله على ما بيننا إلا أن لا يعذب أحد بالنار وهل الحكمة المعهودة بيننا والعدل الذي لا عدل عندنا سواه إلا نجاة الناس كلهم من الأذى واجتماعهم في النعيم الدائم ولكن المعتزلة قوم لا يعقلون وأجاب بعضهم في هذا بأن قال لو كان هذا لسلم الجميع من اللوم ولكان لا شيء أوضع ولا أخس من العقل لأن الذي لا عقل له سالم من العذاب واللوم والأمم كلها مجمعة على فضل العقل.

قال أبو محمد: لو عرف هذا الجاهل معنى العقل لم يجب بهذا السخف لأن العقل على الحقيقة إنما هو استعمال الطاعات واجتناب المعاصي وما عدا هذا فليس عقلاً بل هو سخف وحمق قال الله عز وجل حكاية عن الكفار أنهم قالوا: " لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " ثم صدقهم الله عز وجل في هذا فقال: " فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير " فصدق الله من عصاه أنه لا يعقل ثم نقول لهم نعم لا منزلة أخس ولا أوضع ولا أسقط من منزلة وموهبة أدت إلى الخلود في النيران عقلاً كانت أو غير عقل على قولكم في العقل لو كان كون الإنسان حشرة أو دودة أو كلباً كان أحظى له وأسلم وأفضل عاجلاً وآجلاً وأحب إلى كل ذي عقل صحيح وتمييز غير مدخول وإذا كان عند هؤلاء القوم العقل الموهوب وبالاً على صاحبه وسبباً إلى تكليفه أموراً لم يأت بها فاستحق النار فلا شك عند كل ذي حس سليم في أن عدمه خير من وجوده فإن قالوا أن التكليف لم يوجب عليه دخول النار قلنا نعم ولكنه كان سبباً إلى ذلك ولولا التكليف لم يدخل النار أصلاً وقد شهد الله عز وجل بصحة هذا القول شهادة لا تخفى على مسلم وهي قوله تعالى: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا: " فحمد الله تعالى إباءة الجمادات من قبول التمييز الذي به وقع التكليف وتحمل أمانة الشرائع وذم عز وجل اختيار الإنسان لتحملها وسمي ذلك منه ظلماً وجهلاً وجوراً وهذا معروف في بنية العقل والتمييز أن السلامة المضمونة لا يعدل بها التغرير المؤدي إلى الهلاك أو إلى الغنم وقال بعضهم خلق الله عز وجل من يكفر ومن يعلم أنه يخلده في النار ليعظ بذلك الملائكة وحور العين.

قال أبو محمد: وهذا خبط لا عهد لنا بمثله وهذا غاية السخف والعبث والظلم فأما العبث فإن في العقول منا أن من عذب واحداً ليعظ به الآخر فغاية العبث والسخف وأما الجور فأي جور أعظم فيما بيننا من أن يخلق قوماً قد علم أنه يعذبهم ليعظ بهم آخرين من خلقه مخلدين في النعيم فهلا عذب الملائكة وحور العين ليعظ بهم الجن والإنس وهل هذا على أصولهم إلا غاية المحاباة والظلم والعبث تعالى الله عن ذلك يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وسألهم أصحابنا عن إيلام الله عز وجل الصغار والحيوان وإباحته تعالى ذبحها فوجموا عند هذه وقال بعضهم لأن الله تعالى يعوضهم على ذلك.

قال أبو محمد: وهذا غاية العبث فيما بيننا ولا شيء أتم في العبث والظلم ممن يعذب صغيراً ليحسن بعد ذلك إليه فقالوا أن تعويضه بعد العذاب بالجدري و الأمراض أتم ألذ من تنعيمه دون تعذيب.

قال أبو محمد: وفي هذا عليهم جوابان أحدهما أن يقول لهم أكان الله تعالى قادراً على أن يوفي الأطفال والحيوان ذلك النعيم دون إيلام أو كان غير قادر على ذلك فإن قالوا كان غير قادر جمعوا مع الكفر الجنون لان ضرورة العقل يعلم بها انه إذا قدر على أن يعطيهم مقداراً ما من النعيم بعد الإيلام فلا شك في أنه قادر على ذلك المقدار نفسه دون إيلام يتقدمه ليس في العقل غير هذا أصلاً إذ ليس ها هنا منزلة زائدة في القدرة ولا فعلان مختلفان وإنما هو عطاء واحد لشيء واحد في كلا الوجهين وإن قالوا أنه قادر على ذلك فقد وجب العبث على أصولهم إذ كان قادراً على أن يعطيهم دون إيلام ما لم يعطهم إلا بعد غاية الإيلام والجواب الثاني أن نريهم صبياناً وحيواناً أماتهم في خير دون إيلام وهذه محاباة وظلم للمؤلم منهم فقالوا إن المؤلم لم يزداد في نعيمه لأجل إيلامه فقلنا لهم فهذه محاباة بزيادة النعيم للمؤلم فهلا ألم الجميع ليستوي بينهم في النعيم أو هلا تستوي بينهم في النعيم بأن لا يؤلم منهم أحداً وهذا ما لا انفكاك منه البتة وقال بعضهم فعل ذلك ليعظ بهم غيرهم.

قال أبو محمد: وهذا غاية الجور بيننا ولا عبث أعظم من أن يعذب إنساناً لا ذنب له ليوعظ بذلك آخرون مذنبون وغير مذنبين والله تعالى قد أنكر هذا بقوله تعالى: " ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى " فقد انتفى الله عز وجل عن هذا الظلم حقاً ولقد كان على أصولهم الفاسدة تعذيبه الطغاة وإيلامه البغاة ليعظ بذلك غيرهم أدخل في العدل والحكمة من أن يؤلم طفلاً أو حيوان لا ذنب لهما ليعظ بذلك آخرين بل لعل هذا الوجه قد صار سبباً إلى كفر كثير من الناس وأجاب بعضهم في ذلك بأن قال إنما فعل ذلك عز وجل بالأطفال ليؤجر آباءهم.

قال أبو محمد: وهذا كالذي قبله في الجور بسواء ان يؤذى من لا ذنب له ليأجر بذلك مذنباً أو غير مذنب حاشا لله من هذا إلا ان في هذا مزية من التناقض لأن هذا التعليل ينقض عليهم في أولاد الكفار وأولاد الزنى ممن قد ماتت أمه وفي اليتامى من آبائهم وأمهاتهم ورب طفل قد قتل الكفار أو الفساق أباه وأمه وترك هو بدار مضيعة حتى مات هزلاً أو أكلته السباع فليت شعري من وعظ بهذا أو من أوجر به مع أن هذا مما لم يجدوه يحسن بيننا البتة بوجه من الوجوه يعني أن نؤذي إنساناً لا ذنب له لينتفع بذلك آخرون وهم يقولون أن الله تعالى فعل هذا فكان حسناً وحكمة ولجأ بعضهم إلى أن قال أن لله عز وجل في هذا سراً من الحكمة والعدل يوقن به وإن كنا لا نعلم لما هو ولا كيف هو.

قال أبو محمد: وإذ قد بلغوا ها هنا فقد قرب أمرهم بعون الله تعالى وهو أن يلزمهم تصديق من يقول لهم ولله تعالى في تكليف من لا يستطيع ثم تعذيبه عليه سر من الحكمة يوقن به ولا نعلمه.

قال أبو محمد: وأما نحن فلا نقول بهذا بل نقول أنه لا سر ها هنا أصلاً بل كل ذلك كما هو عدل من الله عز وجل لا من غيره ولله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

قال أبو محمد: ولجأت طائفتان منهم إلى أمرين أحدهما قول بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد فإنه قال أن الأطفال لا يألمون البتة.

قال أبو محمد: ولا ندري لعله يقول مثل ذلك في الحيوان.

قال أبو محمد: وهذا انقطاع سمج ولجاج في الباطل قبيح ودفع للعيان والحس وكل واحد منا قد كان صغيراً ويوقن أننا كنا نألم الألم الشديد الذي لا طاقة لنا بالصبر عليه والثانية عليه أحمد بن حابظ البصري والفضل الحربي وكلاهما من تلاميذ النظام فإنهما قالا أن أرواح الأطفال وأرواح الحيوان كانت في أجساد قوم عصاة فعوقبت بأن ركبت في أجساد الأطفال والحيوان لتؤلم عقوبة لها.

قال أبو محمد: ومن هرب عن الإذعان للحق أو عن الإقرار بالانقطاع إلى الكفر والخروج عن الإسلام فقد بلغ إلى حالة ما كنا نريد ان يبلغها لكن إذا آثر الكفر فإلى لعنة الله وحر سعيره ونعوذ بالله من الخذلان وإنما كلامنا هذا مع من يتقي مخالفة الإسلام فأما أهل الكفرفقد تم ولله الحمد إبطالنا لقولهم وقد أبطلنا قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله فأغنى عن إعادته وإذا بلغ خصمنا إلى مكابرة الحس أو إلى مفارقة الإسلام فقد انقطع وظهر باطل قوله ولله تعالى الحمد.

قال أبو محمد: فإن لجؤوا إلى قول معمر والجاحظ وقالوا أن آلام الأطفال هي فعل الطبيعة لا فعل الله تعالى لم يتخلصوا بذلك من الانقطاع بل نقول لهم هل الله عز وجل قادر على معارضة هذه الطبيعة المقطعة لحم هذا الصبي بالجدري والآكلة والخنازير المعدية له ووجع الحصاة واحتبس البول أو الغائط أو انطلاق البطن حتى يموت والعدو القاسي القلب يرحمه ويتقطع له لعظيم ما يرى به من التضور والأوجاع بقوة من عنده تعالى يفرجوا بها عن هذا الطفل المسكين المعذب أم هو تعالى غير قادر على ذلك فإن قالوا هو غير قادر على ذلك فما في العالم أعجز ممن تغلبه طبيعة هو خلقها وطبعها ووضعها فيمن هي فيه وربما غلبها طبيب ضعيف من خلقه بعقار ضعيف من خلقه فهل في الجنون والكفر أكثر من هذا القول أن يكون هو خلق الطبيعة ووضعها فيمن هي فيه ثم لا يقدر على كف عملها الذي هو وضعه فيها وإن قالوا بل هو قادر على صرف الطبيعة وكفها ولم يفعل دخل في نفس ما أنكر وأقر على ربه على أصله الفاسد بالظلم والعبث وبالضرورة ندري أن من رأى طفلاً في نار أو ماء وهو قادر على استنقاذه بلا مؤونة ولم يفعل فهو عابث ظالم ولكن الله تعالى يفعل ذلك وهو الحكم العدل في حكمه لا العابث ولا الظالم وهذا هو الذي أعظموا من ان يكون قادراً على هدي الكفار ولا يفعل ولجأ بعضهم إلى أن قال لو عاش هذا الطفل لكان طاغياً قلنا لهم لم نسألكم بعد عمن مات طفلاً إنما سألناكم عن إيلامه قبل بلوغه ثم نجيبهم عن قولهم فيمن مات من الأطفال أنه لو عاش لكان طاغياً فنقول لهم هذا أشد في الظلم أن يعذبه على ما لم يفعل بعد.

قال أبو محمد: قد وجدنا الله عز وجل قد حرم ذبح بعض الحيوان وأكله وأباح ذبح بعضه وأوجب ذبح بعضه إذا نذر الناذر ذبحه قرباناً فنقول للمعتزلة اخبرونا ما كان ذنب الذي أبيح ذبحه وسلخه وطبخه بالنار وأكله وما كان ذنب الذي حرم كل ذلك فيه حتى حرم العوض الذي تدعونه وما كان بخت الذي حرم إيلامه ووجدناه عز وجل قد أباح ذبح صغار الحيوان مع ما يحدث لأمهاتها من الحنين والوله كالإبل والبقر فأي فرق بين ذبحنا لمصالحنا أو لتعوض هي وبين ما حرم من ذبح أطفالنا وصغار أولاد أعدائنا لمصالحنا أو ليعوضوا فإن طردوا دعواهم في المصلحة لربهم أن كل من له مصلحة في قتل غيره كان له قتله فإن قالوا لا يجوز ذلك إلا حيث أباحه الله عز وجل تركوا قولهم ووقفوا للحق.

قال أبو محمد: وجدناه تعالى قد حرم قتل قوم مشركين يجعلون له الصاحبة والولد ويهود ومجوس إذا أعطونا ديناراً أو أربعة دنانير في العام وهم يكفرون بالله تعالى وأباح قتل مسلم فاضل قد تاب وأصلح لزنى سلف منه وهو محصن ولم يبح لنا من استبقاء مشركي العرب من عباد الأوثان إلا بأن يسلموا ولا بد فأي فرق بين هؤلاء الكفار وبين الكفار الذين افترض علينا إبقاؤهم لذهب نأخذه منهم في العام.

قال أبو محمد: وقالوا لنا هل في أفعال الله تعالى عبث وضلال ونقص ومذموم فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أما أن يكون في أفعاله تعالى عبث يوصف به أو عيب مضاف إليه أو ضلال يوصف به أو نقص ينسب إليه أو جور منه أو ظلم منه أو مذموم منه فلا يكون ذلك أصلاً بل كل أفعاله عدل وحكمة وخير وصواب وكلها حسن منه تعالى ومحمود منه ولكن فيها على من ظهر منه ذلك الفعل وعبث منه وضلال منه وظلم منه ومذموم منه ثم نسألهم فنقول لهم هل في أفعاله تعالى سخف وجنون وفضائح ومصائب وقبح وسخام وأقذار وإنتان ونجس وسخنه للعين وسواد للوجه فإن قالوا لا أكذبهم الله عز وجل بقوله تعالى: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " وموت الأنبياء وفرعون وإبليس وكل ذلك مخلوق وإن قالوا أن الله تعالى خالق كل ذلك ولكن لا يضاف شيء منه إلى الله عز وجل على الوجه المذموم ولكن على الوجه المحمود قلنا هذا قولنا فيما سألتمونا عنه ولا فرق فإن قالوا أترضون بأفعال الله عز وجل وقضائه قلنا نعم بمعنى أننا مسلمون لفعله وقضائه ومن الرضى بفعله وقضائه أن نكره ما كره إلينا قال تعالى: " وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان " ثم نسألهم عن هذا بعينه فنقول لهم أترضون بفعل الله تعالى وقضائه فإن قالوا نعم لزمهم الرضى بقتل من قتل من الأنبياء وبالخمور والأنصاب والآلام وبإبليس ويلزمهم أن يرضى منهم بالخلود في النار من خلد فيها وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: وسأل بعض أصحابنا بعض المعتزلة فقال إذا كان عندكم إنما خلق الله تعالى الكفار وهو يعلم انهم لا يؤمنون وأنه سيعذبهم بين أطباق النيران أبداً ليعظ بهم الملائكة وحور العين فقد كان يكفي من ذلك خلق واحد منهم فقال له المعتزلة ان المؤمنين الذين يدخلون الجنة والملائكة وحور العين وجميع من لا عذاب عليه من الأطفال أكثر من الكفار بكثير جداً.

قال أبو محمد: ولم يخرج بهذا الجواب مما ألزمه السائل لأن الموعظة كانت تتم بخلق واحد هذا لو كان يخلق من يعذب ليوعظ به آخر وجه في الحكمة بيننا وأيضاً فلولا ذكره الملائكة لكان كاذباً في ظنه إن عدد الداخلين في الجنة من الناس أكثر من الداخلين النار لأن الأمر بخلاف ذلك لأن الله عز وجل يقول: " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " وقال تعالى: " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقال تعالى: " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " وقال تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " فليت شعري في أي حكمة وجدوا فيما بينهم أو بيننا أو في أي عدل خلق من يكون أكثرهم مخلدين في جهنم على أصول هؤلاء الجهال وأما نحن فإنه لو عذب أهل السماوات كلهم وجميع من عمر الأرض لكان عدلاً منه وحقاً له وحكمة منه ولو لم يخلق النار وأدخل كل من خلق الجنة لكان حقاً منه وعدلاً وحكمة منه لا عدل ولا حكمة ولا حق إلا ما فعل وما أمر به.

قال أبو محمد: ولجأ قوم منهم إلى أن قالوا أن الله تعالى لم يعلم من يكفر ولا من يؤمن وأقروا أنه لو علم من يموت كافراً لكان خلقه له جوراً وظلماً.

قال أبو محمد: وهؤلاء أيضاً مع عظيم ما أتوا به من الكفر في تجهيل ربهم تعالى فلم يتخلصوا مما ألزمهم أصحابنا لأنه ليس من الحكمة خلق من لا يدري أيموت كافراً فيعذبه أم لا وهذا هو التغرير بمن خلق وتعريضهم للهلكة على جهالة وهذا ليس من الحكمة ولا من العدل فيما بيننا لمن يمكنه أن لا يغرر وقد كان الباري تعالى قادراً على أن لا يخلق كما قد كان لم يزل لا يخلق ثم خلق إلا أن يلجأ إلى أنه تعالى لا يقدر على أن لا يخلق فيجعلوه مضطراً ذا طبيعة غالبة وهذا كفر مجرد محض ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد: وإذا أقرت المعتزلة أن أطفال بني آدم كلهم أولاد المشركين وأولاد المسلمين في الجنة دون عذاب ولا تقرير تكليف فقد نسوا قولهم الفاسد أن العقل أفضل من عدمه بل ما نرى السلامة على قولهم وضمانها والحصول على النعيم الدائم في الآخرة بلا تقرير إلا في عدم العقل فكيف فارقوا هذا الاستدلال وأما نحن فنقول إن من أسعده الله تعالى من الملائكة فلم يعرضهم لشيء من الفتن أعلى حالاً من كل خلق غيرهم ثم بعدهم الذين عصم الله تعالى من النبيين عليهم الصلاة والسلام وأمنهم من المعاصي ثم من سبقت لهم من الله تعالى الحسنى من مؤمني الجن والإنس الذين لا يدخلون النار والحور العين اللاتي خلقن لأهل الجنة على أن لهؤلاء المذكورين حاشا الحور العين حالة من الخوف طول بقائهم في الدنيا ثم يوم الحشر في هول المطلع وشنعة ذلك الموقف الذي لا يقي به شيء إلا السلامة منه ولا يهنأ معه عيش حتى يخلص منه وقد تمنى كثير من الصالحين العقلاء الفضلاء أن لو كانوا نسياً منسياً في الدنيا ولا يعرضوا لما عرضوا له على أنهم قد آمنوا بالضمان التام الذي لا ينجس ولقد أصابوا في ذلك إذ السلامة لا يعد لها شيء إلا عند عقول المعتزلة القائلين بأن الثواب والنعيم بعد الضرب بالسياط والضغط بأنواع العذاب والتعريض بكل بلية أطيب وألذ وأفضل من النعيم السالم من أن يتقدمه بلاء ثم الأطفال الذين يدخلون الجنة دون تكليف ولا عذاب ومن بلغ ولا تمييز له ثم منزلة من دخل النار ثم أخرج منها بعد أن دخل فيها على ما فيها من البلاء نعوذ بالله منه وأما من يخلد في النار فكل ذي حس سليم توقن نفسه يقين ضرورة أن الكلب والدود والقرد وجميع الحشرات أحسن حالاً في الدنيا والآخرة منه وأعلى مرتبة وأتم سعداً وأفضل صفة وأكرم عناية من عند الباري تعالى منه ويكفي من هذا إخبار الله تعالى إذ يقول: " ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً " فنص تعالى على أن حال الجمادية أحسن منه حالة فاعجبوا للمعتزلة القائلين أن الله تعالى أعطى من يتمنى يوم القيامة أن يكون تراباً أفضل عطية عنده ولم يترك في قدرته أصلح مما عمل به وأن خلقه له كان خيراً له من أن لا يخلقه ونحن نعوذ بالله لأنفسنا من أن يعمل بنا ما عمل بهم.

قال أبو محمد: ومن عجائبهم قولهم أن الله تعالى لم يخلق شيئاً لا يعتبر به أحد من المكلفين.

قال أبو محمد: فنقول لهم ما دليلكم على هذا وقد علمنا بضرورة الحس أن لله تعالى في قعور البحار وأعماق الأرض أشياء كثيرة لم يرها إنسان قط فلم يبق إلا أن يدعو عوض الملائكة والجن في عمق الجبال وقعور البحور فهذه دعوة مفتقرة إلى دليل وإلا فهي باطلة قال عز وجل: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " وأيضاً فما تبطل به دعوى هؤلاء القائلين بغير علم على الله. إن الله تعالى إذا خلق زيداً وله من الطول كذا وكذا فإنه لو خلقه على أقل من ذلك الطول بإصبع لكان الاعتبار بخلقه سواء كما هو الآن ولا مزيد وهكذا كل مقدار من المقادير فإن ادعوا أن الزيادة في العدد زيادة في العبرة لزمهم أن يلزموا ربهم تعالى أن يزيد في مقدار طول كل ما خلق لأنه كان يكون زيادة في الاعتبار وإلا فقد قصر وبالجملة فهو سهم لا يحصيه إلا الذي خلقهم نعوذ بالله مما ابتلاهم به.

قال أبو محمد: وهم مقرون أن العقول معطاة من عند الله عز وجل فنسألهم أفاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقول أم لا فإن قالوا لا كابروا الحس ولزمهم مع ذلك أن عقل النبي وتمييزه وعقل عيسى وإبراهيم وموسى وأيوب وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتمييزهم عقل مريم بنت عمران وتمييزها بل تمييز جبريل وميكائيل وسائر الملائكة ثم تمييز أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعقولهم وتمييز أمهات المؤمنين وبنات النبي رضوان الله على جميع من ذكرنا وعقولهن ثم تمييز سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وعقولهم ليس شيء من ذلك أفضل من العقل والتمييز المعطيين لهذا المخنث البغاء الزقان ولهذه الزانية الخليقة المتبرجة السحاقة ولهذا الشيخ الذي يلعب مع الصبيان بالكعاب في الخانات ويعجفهم إذا قدر ومن بلغ هذا المبلغ وساوى بين من أعطى الله عز وجل كل من ذكرنا من العقل والتمييز فقد كفى خصمه مؤونته وإن قالوا بل الله تعالى فاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقل والتمييز قيل لهم صدقتم وهذا هو المحاباة والجور على أصولكم ولا محاباة على الحقيقة أكثر من هذا وهي عندنا حق وعدل منه تعالى لا يسأل عما يفعل ولعمري أن فيهم لا عجباً إذ يقولون أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه إلا ما أعطى سائرهم فهلا إن كانوا صادقين ساوى جميعهم إبراهيم النظام وأبا الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر والجبائي في دقة نظرهم وقوتهم على الجدال إذ كلهم فيما منحهم الله عز وجل من ذلك سواء فإذ لا شك في عجزهم عن بلوغ ذلك فلا شك في أن كل أحد لا يقدر أن يزيد فيما منحه الله تعالى به وليس يمكنهم أصلاً أن يدعوا ها هنا أنهم كلهم قادرون على ذكاء الذهن وحدة النظر وقوة الفطنة وجودة الحفظ و البتة لدقيق الحجة وإن لم يظهروا كما ادعوا ذلك في الأعمال الصالحة فصحت المحاباة من الله تعالى يقيناً عياناً لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قروا أن العقول والذكاء وقبول العلم وذكاء الخاطر ودقة الفهم غير موهوبة من الله تعالى عز وجل قلنا لهم فمن خلقها فإن قالوا هي فعل الطبيعة قلنا لهم ومن خلق الطبيعة التي فعلت العقول وكل ذلك بذاتها متفاضلة فمن قولهم ان الله تعالى خلقها فيقال لهم فهو موجب المحاباة إذ رتب الطبيعة رتبة المحاباة ولا بد وإن قالوا لم تخلق الطبيعة ولا العقول لحقوا بالدهرية وصاروا إلى ما لم يرد لهم المصير إليه وهذا لا مخلص لهم منه أصلاً وبالله تعالى التوفيق وبالضرورة ندري أن من كان تمييزه أتم كان اهتداؤه واعتصامه أتم على أصولهم وهذا هو المحاباة التي أنكروها وسموها ظلماً وجوراً.

قال أبو محمد: ومهما أمكنهم من الدفاع والقحة في شيء ما فإنه لا يمكنهم اعتراض أصلاً في أن فضل الله تعالى على المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام وعلى يحيى بن زكريا إذ جعل عيسى نبياً ناطقاً عاقلاً في المهد رسولاً حين سقوطه من بطن أمه وإذ أتى يحيى الحكم صبياً أتم وأعلا وأكثر من فضله على ولد في أقاصي بلاد الخزر والزنج حيث لم يسمع قط ذكر محمد إلا متبعاً أقبح الذكر من التكذيب وانه كان متخيلاً وأكثر من فضله بلا شك على فرعون إذ دعا موسى عليه الصلاة والسلام فقال: " وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ".

قال أبو محمد: إن من ضل بعد هذا لضال وإن من قال أن فضل الله عز وجل وعطاءه لموسى وعيسى ويحيى ومحمد وعصمته لهم كفضله وعطائه على فرعون وملئه وعصمته لهم الذين نص عز وجل على أنه شد على قلوبهم شداً منعهم الإيمان حتى يروا العذاب الأليم فلا ينفعهم إيمانهم حينئذ لضعيف العقل قليل العلم مهلهل اليقين ولا بيان أبين من هذه الآية في تفضيل الله عز وجل بعض خلقه على بعض واختصاص بعضهم بالهدى والرحمة دون بعض ومحاباته من شاء منهم وإضلاله من ضل منهم وأيضاً فإنهم لا يستطيعون ان الله عز وجل فضل بني آدم على كثير ممن خلق قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض " وقال تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " وهي المحاباة بعينها التي هي عند المعتزلة جور وظلم فيقال لهم على أصلكم الفاسد هل لا رزق الله العقل سائر الحيوان فيعرضهم بذلك للمراتب السني التي عرض لها بني آدم وهلا ساوى بين الحيوان وبيننا في أن لا يعرضنا كلنا للمهالك والفتن فهل هذا إلا محاباة مجردة وفعل لما يشاء لا معقب لحكمه لا يسأل عما يفعل.

قال أبو محمد: وقد ذكر بعضهم أن الله تعالى قبح في عقول بني آدم أكل ما يعطيهم وأكل أموال غيرهم ولم يقبح ذلك في عقول الحيوان.

قال أبو محمد: فأقر هذا الجاهل بأن الله تعالى هو المقبح والمحسن فإذ ذلك كذلك فلا قبيح إلا ما قبح الله ولا محسن إلا ما حسن وهذا قولنا ولم يقبح الله تعالى قط خلقه لما خلق وإنما قبح منا كون ذلك الذي خلق من المعاصي فينا فقط وبالله تعالى التوفيق وإن الأمر لأبين من ذلك ألم تروا أن الله خلق الحيوان فجعل بعضهم أفضل من بعض بلا عمل أصلاً ففضل ناقة صالح عليه السلام على سائر النوق نعم وعلى نوق الأنبياء الذين هم أفضل من صالح وإنما أتينا بهذا لئلا يقولوا أنه تعالى إنما فضلها تفضيلاً لصالح عليه السلام وجعل تعالى الكلب مضروباً به المثل بالخساسة والرذالة وجعل القردة والخنازير معذباً بعضه من عصاه بتصويره في صورتها فلولا أن صورتها عذاب ونكال ما جعل القلب في صورتها أشد ما يكون من عذاب الدنيا ونكالها وجعل بعض الحيوان متقرباً إلى الله عز وجل بذبحه وبعضه محرم ذبحه وبعضه مأواه الرياض والأشجار والخضر وبعضه مأواه الحشوش والرداع والدبر وبعضه قوياً وبعضه ضعيفاً وبعضه منتفعاً به في الأودية وبعضه سماً قاتلاً وبعضه قوياً على الخلاص ممن أراد بطيرانه وعدوه أو قوته وبعضه لا مهيناً مخلص عنده وبعضه خيلاً في نواصيها الخير يجاهد عليها العدو وبعضه سباعاً ضارية مسلطة على سائر الحيوان ذاعرة لها قاتلة لها آكلة لها وجعل سائر الحيوان لا ينقصر منها وبعضها حيات عادية مهلكة وبعضها مأكولاً على كل حال فأي ذم كان لبعضه حتى سلط عليه غيره فأكله وقتله وأبيح ذبحه وقتله وإن لم يؤكل كالقمل والبراغيث والبق والوزغ وسائر الهوام ونها عن قتل النحل وعن قتل الصيد في الحرمين والأحرام وأباحه في غير الحرمين والأحرام فإن قالوا أن الله تعالى يعوض ما أباح ذبحه وقتله منها قيل له فهلا أباح ذلك فيما حرم قتله ليعوضه أيضاً وهذه محاباة لا شك فيها مع أنه في المعهود من المعقول عين العبث إلا أن يقولوا أنه تعالى لا يقدر على نعيمها إلا بتقديم الأذى فإنهم لا ينفكون بهذا من المحاباة لها على من لم يبح ذلك فيها من سائر الحيوان مع أنه تعجيز لله عز وجل ولو ويقال لهم ما لذي عجزه عن ذلك وأقدره على تنعيم من تقدم له الأذى في الدنيا أطبيعة فيه جارية على بنيتها أم فوقه وأهب له تلك القدرة ولا بد من أحد هذين القولين وكلاهما كفر مجرد وأيضاً فإن قولهم يبطل بتنعيم الله عز وجل الأطفال الذين ولدوا أحياء وماتوا من وقتهم دون ألم سلف لهم ولا تعذيب فهلا فعل بجميع الحيوان كذلك على أصولكم فقد كان عز وجل قادراً على ان يجعل غذاءنا في غير الحيوان لكن في النبات والثمار كعيش كثير من الناس في الدنيا لا يأكلون لحماً فما ضرهم ذلك في عيشهم شيئاً فهل ها هنا إلا أن الله تعالى لا يجوز الحكم على أفعاله بما يحكم به على أفعالنا لأننا مأمورون منهيون وهو تعالى آمرنا لا مأمور ولا منهي فكل ما فعله عدل وحكمة وحق وكل ما فعلناه فإنه إن وافق أمره عز وجل كان عدلاً وحقاً وإن خالف أمره عز وجل كان جوراً وظلماً.

قال أبو محمد: وأما الحيوان فإن قولنا فيه هو نص ما قاله الله عز وجل ورسوله إذ يقول عز وجل: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون " وقال عز وجل: " وإذا الوحوش حشرت " فنحن موقنون الوحوش كلها وجميع الدواب والطير تحشر كلها يوم القيامة كما شاء الله تعالى ولما شاء عز وجل و أما نحن فلا ندري لماذا والله أعلم بكل شيء وقال رسول الله أنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء فنحن نقر بهذا وبأنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء ولا ندري ما يفعل الله بهما بعد ذلك إلا أنا ندري يقيناً أنها لا تعذب بالنار لأن الله تعالى قال: " لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وبيقين ندري أن هذه الصفة ليست إلا في الجن والإنس خاصة ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى وقد أيقنا ان سائر الحيوان الذي في هذا العالم ما عدا الملائكة والحور والإنس والجن فإنه غير متعبد بشريعته وأما الجنة فإن رسول الله قال: " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة " والحيوان حاشا من ذكرنا لا يقع عليهم اسم مسلمين لأن المسلم هو المتعبد بالإسلام والحيوان المذكور غير متعبد بشرع فإن قال قائل أنكم تقولون أن أطفال المسلمين وأطفال المشركين كلهم بالجنة فهل يقع على هؤلاء اسم مسلمين فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن نقول نعم كلهم مسلمون بلا شك لقول الله تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى " وقوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " ولقول رسول الله : " كل مولود يولد على الفطرة " وروي على الملة " فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه " ولقوله عن الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاحتالتهم الشياطين عن دينهم فصح لهم كلهم اسم الإسلام والحمد لله رب العالمين وقد نص عليه السلام على أنه رأى كل من مات طفلاً من أولاد المشركين وغيرهم في روضة مع إبراهيم خليل الله وأما المجانين ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة نبي وقد هرم أو أصم لا يسمع فقد صح عن رسول الله أنه تبعث لهم يوم القيامة نار موقدة ويأمرون بدخولها فمن دخلها كانت عليه برداً ودخل الجنة أو كلاماً هذا معناه فنحن نؤمن بهذا ونقر به ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى على لسان رسوله .

قال أبو محمد: وإذا قد بلغ الكلام هاهنا فلنصله إن شاء الله تعالى راغبين في الأجر من الله عز وجل على بيان الحق فنقول وبالله تعالى نتأيد أن الله تعالى قد نص كما ذكرنا أنه آخذ من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وهذا نص جلي على أنه عز وجل خلق أنفسنا كلها من عهد آدم عليه السلام لأن الأجساد حينئذ بلا شك كانت تراباً وماء وأيضاً فإن المكلف المخاطب إنما هو النفس لا الجسد فصح يقيناً أن نفوس كل من يكون من بني آدم إلى يوم القيامة كانت موجودة مخلوقة حين خلق آدم بلا شك ولم يقل الله عز وجل أنه أفنانا بعد ذلك ونص تعالى على انه خلق الأرض والماء حينئذ بقوله تعالى إنه جعل من الماء كل شيء حي وقوله تعالى: " خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " وأخبر عز وجل أنه خلقنا من طين والطين هو التراب والماء وإنما خلق تعالى من ذلك أجسامنا فصح أن عنصر أجسامنا مخلوق منذ أول خلقه تعالى السماوات وأن أرواحنا وهي أنفسنا مخلوقة منذ أخذ الله تعالى عليها العهد وهكذا قال تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وثم توجب في اللغة التي بها نزل القرآن التعقيب بمهلة ثم يصور الله تعالى من الطين أجسامنا من اللحم والدم والعظام بأن يحيل أعراض التراب والماء وصفاتهما فتصير نباتاً وحباً وثماراً يتغذى بها فتستحيل فينا لحماً وعظماً ودماً وعصباً وجلداً وغضاريف وشعراً ودماغاً ونخاعاً وعروقاً وعضلاً وشحماً ومنياً ولبناً فقط وكذلك تعود أجسامنا بعد الموت تراباً ولا بد وتصعد رطوباتها المائية وأما جمع الله تعالى الأنفس إلى الأجساد فهي الحياة الأولى بعد افتراقها الذي هو الموت الأول فتبقى كذلك في عالم الدنيا الذي هو عالم الابتلاء ما شاء الله تعالى ثم ينقلنا بالموت الثاني الذي هو فراق الأنفس للأجساد ثانية إلى البرزخ الذي تقيم فيه الأنفس إلى يوم القيامة وتعود أجسامنا تراباً كما قلنا ثم يجمع الله عز وجل يوم القيامة بين أنفسنا وأجسادنا التي كانت بعد أن يعيدها وينشرها من القبور وهي المواضع التي استقرت أجزاؤها فيها لا يعلمها غيره ولا يحصيها سواه عز وجل لا إله إلا هو فهذه الحياة الثانية التي لا تبيد أبداً ويخلد الإنس والجن مؤمنهم في الجنة بلا نهاية وكافرهم بالنار بلا نهاية وأما الملائكة وحور العين فكلهم في الجنة فيها خلقوا من النور وفيها يبقون أبداً بلا نهاية ولم ينقلوا عنها قط ولا ينقلون هذا كله نص قول الله عز وجل إذ يقول: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وإذ يقول تعالى مصدقاً للقائلين: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" فلا يشذ عن هذا أحد إلا من أبانه الله تعالى بمعجزة ظهرت فيه كمن أحياه الله عز وجل آية لنبي كالمسيح عليه السلام وكالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذرروت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم فهؤلاء والذي أماته الله مائة عام ثم أحياه كلهم ماتوا ثلاث موتات وحيوا ثلاث مرات وأما من ظن أن الصعقة التي تكون يوم القيامة موت فقد أخطأ بنص القرآن الذي ذكرنا لأنها كانت تكون حينئذ لكل أحد ثلاث موتات وثلاث إحياءات وهذا كذب وباطل وخلاف للقرآن وقد بين عز وجل هذا نصاً فقال تعالى: " وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ " فبين تعالى أن تلك الصعقة إنما هي فزع لا موت وبين ذلك بقوله تعالى في سورة الزمر: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء " الآية فبين تعالى أن تلك الصعقة مستثنى منها من شاء الله عز وجل وفسر بها الآية التي ذكرنا قبل وبينت أنها فزعة لا موتة وكذلك فسرها النبي غليه الصلاة والسلام بأنه أول من يقوم فيرى موسى عليه السلام قائماً فلا يدري أكان ممن صعق فأفاق أم جوزي بصعقة الطور فسماها إفاقة ولو كانت موتة ما سماها إفاقة بل إحياء فكذلك كانت صعقة موسى عليه الصلاة والسلام يوم الطور فزعة لا موتة قال تعالى " وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك " وهذا ما لا خلاف فيه.

قال أبو محمد: فصح بما ذكرنا ان الدور سبع وهي عالمون كل علم منها قائم بذاته فأولها دار الابتداء وعالمه وهو الذي خلق عز وجل فيه الأنفس جملة واحدة وأخذ عليها العهد هكذا نص تعالى على أنها الأنفس بقوله عز وجل: " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم " وهي دار واحدة لأنهم كلهم فيها مسلمون وهي دار طويلة على آخر النفوس جداً إلا على أول المخلوقين فهي قصيرة عليهم جداً وثانيها وهي دار الابتلاء وعالمه وهي التي نحن فيها وهي التي يرسل الله تعالى النفوس إليها من عالم الابتداء فتقيم فيه في أجسادها متعبدة ما أقامت حتى تفارقه جيلاً بعد جيل حتى تستوفي جميع الأنفس المخلوقة بسكناها الموفق لها فيه ثم ينقضي هذا العالم وهي دار قصيرة جداً على كل نفس في ذاتها لأن مدة عمر الإنسان فيها قليل ولو عمر ألف عام فكيف بأعمار جمهور الناس التي هي من ساعة إلى حدود المائة عام ثم داران اثنان للبرزخ وهما اللتان ترجع إليهما النفوس عند خروجها من هذا العالم وفراقها أجسادها وهما عند سماء الدنيا نص على ذلك رسول الله وذكر أنه رأى ليلة أسرى به عليه الصلاة والسلام آدم في سماء الدنيا وعن يمينه أسوده وعن يساره أسوده فسأل عنها فأخبر أنها نسم بنيه وأن الذين على يمينه أرواح أهل السعادة والذين عن يساره أرواح أهل الشقاء وقد نص الله تعالى على هذا نصاً فقال تعالى: " وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " وقال تعالى: " فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ " وقال تعالى: " ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ".

قال أبو محمد رضي الله عنه: هكذا نص رسول الله على أن أرواح الشهداء في الجنة وكذلك الأنبياء بلا شك فمن الباطل أن يفوز الشهداء بفضل يحرمه الأنبياء وهم المقربون الذين ذكر الله تعالى أنهم في الجنة إذ يقول تعالى: " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم " فهاتان داران قائمان لم يدخل أهلهما بعد لا الجنة ولا ناراً بنص القرآن والسنة وقال تعالى: " النار يعرضون عليها غدواً وعشي ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " وقال تعالى حاكياً عن الكفار أنهم يقولون يوم البعث: " يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا " فصح أنهم لم يعذبوا في النار بعد وهكذا جاءت الأخبار كلها بأن الجميع يوم القيامة يصيرون إلى الجنة وإلى النار لا قبل ذلك حاشا الأنبياء والشهداء فقط ولا ينكر خروجهم من الجنة لحضور الحساب فقد دخل رسول الله الجنة ثم خرج عنها قال تعالى: " ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى " وهما داران طويلتان على أول النفوس جداً حاشا آخر المخلوقين فهي قصيرة عليهم جداً وإنما ستقصرها الكفار كما قال عز وجل في القرآن لأنهم انتقلوا عنها إلى عذاب النار نعوذ بالله منها فاستقلوا تلك المدة وإن كانت طويلة حتى ظنها بعضهم لشدة ما صاروا إليه يوماً أو بعض يوم وقال بعضهم إن لبثتم إلا عشرا ثم الدار الخامسة هي عالم البعث وهو يوم القيامة وهو عالم الحساب ومقداره خمسون ألف سنة قال تعالى: " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبراً جميلاً إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه " فصح أنه يوم القيامة وبهذا أيضاً جاءت الأخبار الثابتة عن رسول الله وأما الأيام التي قال الله تعالى فيها أن اليوم منها ألف سنة فهي آخر قال تعالى: " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " وقال تعالى: " وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون " فهي أيام أخر بنص القرآن ولا يحل إحالة نص عن ظاهره بغير نص آخر أو إجماع بيقين أو ضرورة حس ثم الدار السادسة والسابعة داران للجزاء وهما الجنة والنار وهما داران لا آخر لهما ولا فناء لهما ولا لمن فيهما نعوذ بالله من سخطه الموجب للنار ونسأله الرضى منه الموجب للجنة وما توفيقنا إلا بالله الرحيم الكريم وأما من قال أن قوله تعالى في يوم القيامة إنما هو مقداره خمسين ألف سنة لو تولى ذلك الحساب غيره فهو مكذب لربه تعالى مخالف للقرآن ولقول رسول الله في طول ذلك اليوم وبضرورة العقل ندري أنه لو كلف جميع أهل الأرض محاسبة أهل حصر واحد فيما أضمروه وفعلوه وموازنة كل ذلك ما قاموا به في ألف ألف عام فبطل هذا القول الكاذب بيقين لا شك فيه وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: وإذ قد بينا بطلان قول المعتزلة في تحكمهم على ربهم و إيجابهم عليه ما أوجبوا بآرائهم السخيفة وتشبيههم إياه بأنفسهم فيما يحسن منهم ويقبح و تجويزهم إياه فيما فعل وقضى وقدر فلنبين بحول الله وقوته أنهم المجورون له على الحقيقة لا نحن ثم نذكر ما نص الله تعالى عليه مصدقاً لقولنا ومكذباً لقولهم وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله عز وجل نتأيد أن من المحال البين أن يقول المعتزلة أننا نجور الله تعالى ونحن نقول أنه لا يجوز البتة ولا جار قط وإن كل ما فعل أو يفعل أي شيء كان فهو العدل والحق والحكمة على الحقيقة لا شك في ذلك وأنه لا جور إلا ما سماه الله عز وجل جوراً وهو ما ظهر في عصاة عباده من الجنوالإنس مما خالف أمره تعالى وهو خالقه فيهم كما شاء فكيف يكون مجور إليه عز وجل من هذه هي مقالته وإنما المجور لربه تعالى من يقول فيما أخبر الله عز وجل أنه خلقه هذا جور وظلم فإن قائل هذا القول لا يخلو ضرورة من أحد الوجهين لا ثالث لهما إما أنه مكذب لربه عز وجل في إخباره في القرآن أنه برأ المصائب كلها وخلقها وأنه تعالى خلقنا وما نعمل وأنه خلق كل شيء بقدر محرف لكلام ربه تعالى الذي هو غاية البيان عن مواضعه مبدل له بعد ما سمعه وقد نص الله تعالى فيمن يحرف الكلم عن مواضعه ويبدله بعدما سمعه ما نص فهذا خطة كفر إن التزمها والثانية وهي تصديق الله عز وجل في إخباره بذلك وتجويزه في فعله لا بد له من ذلك وهذه أيضاً خطة كفر إن التزمها أو الانقطاع والتناقض والثبات على اعتقاد الباطل بلا حجة تقليداً للعيارين الشطار الفساق كالنظام والعلاف و بشر نخاس الرقيق ومعمر المتهم عندهم في دينه وثمامة الخليع المشهور بالقبائح والجاحظ وهو من عرف هذلاً وعيارة وانهمالاً وهذه أسلم الوجوه لهم ونعوذ بالله من مثلها ثم هم بعد هذا صنفان أصحاب اللطف وأصحاب اللطف فأما أصحاب الأصلح فإن أصحاب الأصلح يصفونهم بأنهم مجورون لله مجهولون له وأصحاب الأصلح يصفهم أصحاب اللطف بأنهم معجزون لله تعالى مشبهون له بخلقه فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون وقد نص الله تعالى على أنه يفعل ما يشاء بخلاف ما قالت المعتزلة فقال عز وجل: " كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء " وأمرنا عز وجل أن ندعوه فنقول: " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ".

قال أبو محمد: وهذا غاية البيان في أنه عز وجل له أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وأنه لو شاء ذلك لكان من حقه ولو لم يكن له ذلك لما أمرنا بالدعاء في أن لا يحملنا ذلك ولكان الدعاء بذلك كالدعاء في أن يكون إلهاً خالقاً على أصولهم ونص تعالى كما تلونا على أنه قد حمل من كان قبلنا الإصر وهو الثقل الذي لا يطاق وأمرنا أن ندعوه بأن لا يحمل ذلك علينا وأيضاً فقد أمرنا تعالى في هذه الآية أن ندعوه في أن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وهذا تكليف ما لا يطاق نفسه لأن النسيان لا يقدر أحد على الخلاص منه ولا يتوهم التحفظ منه ولا يمكن أحداً دفعه عن نفسه فلولا أن له تعالى أن يؤاخذنا بالنسيان من شاء من عباده لما أمرنا بالدعاء في النجاة منه وقد وجدنا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مؤاخذين بالنسيان منهم أبونا آدم قال الله تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي " يريد نسيانه عداوة إبليس له الذي حذره الله تعالى منها ثم وآخذه على ذلك وأخرجه من الجنة ثم تاب عليه وهذا كله على أصول المعتزلة جور وظلم تعالى الله عن ذلك وقال عز وجل: " لو شاء الله ما أشركوا " ولو في اللغة التي بها نزل القرآن حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح يقيناً أن ترك الشرك من المشركين ممتنع لامتناع مشيئة الله تعالى لتركه وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " ومشيئة الله هي تفسير إذن الله وقال تعالى: " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا إن يشاء الله " فهذا نص جلي على انه لا يمكن أحداً أن يؤمن إلا بإذن الله عز وجل له في الإيمان فصح يقيناً أن كل من آمن فلم يؤمن إلا بإذن الله عز وجل وإنه تعالى شاء أن يؤمن وإن كل من لم يؤمن فلم يأذن الله تعالى له في الإيمان ولا شاء ان يكون منه الإيمان هذا نص هاتين الآيتين اللتين لا يحتملان تأويلاً غيره أصلاً وليس لأحد أن يقول أنه تعالى عنى الإكراه على الإيمان لأن نص الآيتين مانع من هذا التأويل الفاسد لأنه تعالى أخبر أن كل من آمن فإنما آمن بإذن الله عز وجل وإن من لم يؤمن فإن الله تعالى لم يشاء أن يؤمن فيلزمهم على هذا أن كل مؤمن في العالم فمكره على الإيمان وهذا شر من قول الجهمية وأشد فإن قالوا أن إذن الله تعالى ها هنا إنما أمره لزمهم ضرورة أحد وجهين لا بد منهما إما ان يقولوا أن الله تعالى لم يأمر الكفار بالإيمان لأن النص قد جاء بأنه تعالى لو أذن لهم لآمنوا وأما ان يقولوا أن كل من في العالم فهم مؤمنون لأنهم عندهم مأذون لهم في الإيمان إذا كان الإذن هو الأمر وكلا القولين كفر مجرد ومكابرة للعيان ونعوذ بالله من الضلال.

قال أبو محمد: الإذن هاهنا ومشيئته تعالى هو خلق الله تعالى للإيمان فيمن آمن وقوله لإيمانه كن فيكون وعدم إذنه تعالى وعدم مشيئته للإيمان هو أن لا يخلق في المرء الإيمان فلا يؤمن لا يجوز غير هذا البتة إذ قد صح أن الإذن ها هنا ليس هو الأمر وقال عز وجل " ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " فأخبر تعالى أنه هدى بعضهم دون بعض وهذا عند المعتزلة جور وقال تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس " فنص على انه خلقهم ليدخلهم النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء " وأمر تعالى أن ندعوه فنقول: " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " فنص تعالى على بزيغ قلوب من لم يهدهم من الذين زاغوا إذ أزاغ الله قلوبهم وقال تعالى: " كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون " فقطع تعالى على ان كلماته قد حقت على الفاسقين انهم لا يؤمنون فمن الذي حقق عليهم أن لا يؤمنوا إلا هو عز وجل وهذا جور عند المعتزلة.

قال أبو محمد: وكل آية ذكرناها في باب الاستطاعة منهن حجة عليهم في هذا الباب وكل آية نتلوها إن شاء الله عز وجل في باب إثبات أن الله عز وجل أراد كون الكفر والفسق بعد هذا الباب منهي أيضاً حجة عليهم في هذا الباب وكذلك كل آية نتلوها إن شاء الله عز وجل في إبطال قول من قال ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه الله أبا جهل وفرعون وأبا لهب مما يستدعي إلى الإيمان فإنها حجة عليهم في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: واحتجت المعتزلة بقول الله تعالى: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق " وبقوله تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وبقوله تعالى: " وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " وبقوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " وبقوله تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وبقوله تعالى: " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ".

قال أبو محمد: وهذه حجة لنا عليهم لأنه تعالى أخبر أنه قادر على أن يسمعهم والإسماع ها هنا الهد بلا شك لأن آذانهم كانت صحاحاً ومعنى قوله تعالى: " ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " إنما معناه بلا شك لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا لأنه محال أن يهديهم الله وقد علم من قلوبهم خيراً فلا يهتدوا هذا تناقض قد تنزه كلامه عز وجل فصح أنه كما ذكرنا يقيناً.

قال أبو محمد: وسائرها لا حجة لهم في شيء منه بل هو حجة لنا عليهم وهو نص قولنا أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق وأفعال العباد بين السماء والأرض بلا شك فالله تعالى خلقها بالحق الذي هو اختراعه لها وكل ما فعل تعالى حق وإضلاله من أضل حق له ومنه تعالى وهداه من هدى حق منه تعالى ومحاباته من حابى بالنبوة وبالطاعة حق منه ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال أن الله تعالى خلق شيئاً بغير الحق أو أنه تعالى خلق شيئاً لاعباً أو أنه تعالى ظلم أحداً بل فعله عدل وصلاح ولقد ظهر لكل ذي فهم أننا قائلون بهذه الآيات على نصها وظاهرها فأي حجة لهم علينا في هذه النصوص لو عقلوا وأما المعتزلة فيقولون أنه تعالى لم يخلق كثيراً مما بين السماوات والأرض لا سيما عباد بن سليمان منهم تلميذ هشام بن عمرو الفوطي القائل أن الله تعالى لم يخلق الجدب ولا الجوع ولا الأمراض ولا الكفار ولا الفساق ومحمد بن عبد الله الإسكافي تلميذ جعفر بن حرب القائل أن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا المزامير ولا الطنابير وكل ذلك ليس بخلق من خلق الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وهم يقولون أن الله عز وجل لو حابى أحداً لكان ظالماً لغيره وقد صح أن الله تعالى حابى موسى وإبراهيم ويحيى ومحمداً صلوات الله عليهم دون غيرهم ودون أبي لهب وأبي جهل وفرعون والذي حاج إبراهيم في ربه فعلى قول المعتزلة يجب أن الله تعالى ظلم هؤلاء الذين حابى غيرهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم منه إلا بترك قولهم الفاسد وأما قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " فهكذا نقول ما خلقهم الله تعالى إلا ليكونوا له عباداً مصرفين بحكمه فيهم منقادين لتدبيره إياهم وهذه حقيقة العبادة والطاعة أيضاً عبادة وقال تعالى حاكياً عن القائلين " أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون " وقد علم كل أحد ان قوم موسى عليه السلام لم يعبدوا قط فرعون عبادة تدين لكن عبدوه عبادة تذلل فكانوا له عبيداً فهم له عابدون وكذلك قول الملائكة عليهم السلام بل كانوا يعبدون الجن وقد علم كل أحد أنهم لم يعبدوا الجن عبادة تدين لكنهم عبدوهم عبادة تصرف لأمرهم وإغوائهم فكانوا لهم بذلك عبيداً فصح القول بأنهم يعبدونهم وهذا بين وقال بعض أصحابنا معنى هذه الآية أنه تعالى خلقهم ليأمرهم بعبادته ولسنا نقول بهذا لأن فيهم من لم يأمره الله تعالى قط بعبادته كالأطفال والمجانين فصار تخصيصاً للآية بلا برهان والذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه لأنه المشاهد المتيقن العام لكل واحد منهم واما ظن المعتزلة في هذه الآية فباطل يكذبه إجماعهم معنا أن الله تعالى لم يزل يعلم أن كثيراً منهم لا يعبدونه فكيف يجوز أن يخبر أنه خلقهم لأمر قد علم أنه لا يكون منهم إلا أن يصيروا إلى قول من يقول انه تعالى لا يعلم الشيء حتى يكون فيتم كفر من لجأ إلى هذا ولا يخلصون مع ذلك من نسبة العبث إلى الخالق تعالى إذ غرر من خلق فيما لا يدري أيعطبون فيه أم يفوزون وتحيرت المعتزلة القائلون بالأصلح وبإبطال المحاباة في وجه العدل في ستة عشر باباً وهي العدل في إدامة العذاب العدل في إيلام الحيوان العدل في تبليغ من في المعلوم أنه يكفر العدل في المخلوق العدل في إعطاء الاستطاعة العدل في الإرادة العدل في البدل العدل في الأمر العدل في عذاب الأطفال العدل في استحقاق العذاب في إخلاف أحوال المخلوقين العدل في المعرفة العدل في اللطف العدل في الأصلح العدل في نسخ الشرائع العدل في النبوة. واراده من الكافر والفاسق أم لم يشأ ذلك ولا أراد كونه

قال أبو محمد: قالت المعتزلة أن الله تعالى لم يشأ أن يكفر الكافر ولا أن يفسق الفاسق ولا ان يشتم تعالى ولا أن يقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحتجوا بقول الله عز وجل: " ولا يرضى لعباده الكفر " وبقوله تعالى: " اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم " وقالوا من فعل ما أراد الله فهو مأجور محسن فإن كان الله تعالى أراد ان يكفر الكافر وأن يفسق الفاسق فقد فعلا جميعاً ما أراد الله منهما فهما محسنان مأجوران وذهب أهل السنة أن لفظة شاء وأراد لفظة مشتركة تقع إلى معنيين أحدهما الرضى والاستحسان فهذا منهي عن الله تعالى انه أراده أو شاءه في كل ما نهى عنه والثاني أن يقال أراد وشاء بمعنى أراد كونه وشاء وجوده فهذا هو الذي نخبر به عن الله عز وجل في كل موجود في العالم من خير أو شر فسلكت المعتزلة سبيل السفسطة في التعلق في الألفاظ المشتركة الواقعة على معنيين فصاعداً أو التمويه الذي يضمحل إذا فتش ويفتضح إذا بحث عنه وهذا سبيل الجهال الذي لا حيلة بأيديهم إلا المخرفة وقال أهل السنة ليس من فعل ما أراد الله تعالى وما شاء الله كان محسناً وإنما المحسن من فعل بأمر الله تعالى به ورضيه منه.

قال أبو محمد: ونسألهم فنقول لهم اخبرونا كان الله تعالى قادراً على منع الكافر من الكفر والفاسق من الفسق وعلى منع من شتمه من النطق ومن إمراره على خاطره وعلى منع من قتل من قتل من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أم كان عاجزاً عن المنع من ذلك فإن قالوا لم يكن قادراً على المنع من شيء من ذلك فقد أثبتوا له معنى العجز ضرورة وهذا كفر مجرد وإبطال لإلاهيته تعالى وقطع عليه بالضعف والنقص وتناهي القوة وانقطاع القدرة مع التناقض الفاحش لأنهم مقرون أنه تعالى هو أعطاهم القوة التي بها كان الكفر والفسق وشتمه تعالى وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن المحال المحض أن يكون تعالى لا يقدر على أن لا يعطيهم الذي أعطاهم وهذه صفة المضطر المجبر وإن قالوا بل هو قادر على منعهم من ذلك أقروا ضرورة أنهم مريد لبقائهم على الكفر وأنه المبقي للكافر والكفر وحالف الزمان الذي امتد فيه الكافر على كفره والفاسق على فسقه وهذا نفسه هو قولنا أنه أراد كون الكفر والفسق والشتم له وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يرض عن شيء من ذلك بل سخطه تعالى وغضب على فعله وقالت المعتزلة إن كان الله تعالى أراد كون كل ذلك فهو إذاً يغضب مما أراد.

قال أبو محمد: ونحن نقر أنه تعالى يغضب على فاعل ما أراد كونه منه ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم فإذا هذا عندكم منكر وأنتم مقرون به بأنه قادر على المنع منه فهو عندكم يغضب مما أقر ويسخط ما يقره ولا يغيره ويثبت ما لا يرضى وهذا هو الذي شنعوا فيه ولا يقدرون على دفعه والشناعة عليهم راجعة لأنهم أنكروا ما لزمهم وبالضرورة ندري أن من قدر على المنع من شيء فلم يفعل ولا منع منه فقد أراد وجود كونه ولو لم يرد كونه لغيره ولمنع منه ولما تركه يفعل فإن قالوا أنه حكيم وخلاهم دون منع لسر من الحكمة له في ذلك قيل له فاقنعوا بمثل هذا الجواب ممن قال لكم أنه أراد كونه لأنه حكيم كريم عزيز وله في ذلك سر من الحكمة.

قال أبو محمد: وأما نحن فنقول أنه تعالى أراد كون كل ذلك ولا سر ها هنا وأن كل ما فعل فهو حكمة وحق وأن قولهم هذا هادم لمقدمتهم الفاسدة أنه يقبح من الباري تعالى ما يقبح منا وفيما بيننا وما علم قط ذو عقل أن عن خلى منا عدوه منطلق اليد على وليه وأحب الناس إليه يقتله ويعذبه ويلطمه ويهينه ويتركه ينطلق على عبيده وإمائه يفجر بهم وبهن طوعاً وكرهاً والسيد حاضر يرى ويسمع وهو قادر على المنع من ذلك فلا يفعل بل لا يقنع بتركهم إلا حتى يعطي عدوه القوة على كل ذلك والآلات المعينة له ويمده بالقوى شيئاً بعد شيء فليس حكيماً ولا حليماً ولكنه عابث ظالم جائر فيلزمهم على أصلهم الفاسد أن يحكموا على الله تعالى بكل هذا لأنهم معترفون بأنه تعالى فعل كل هذا وهذا لا يلزمنا لأننا نقول أن الله تعالى بفعل ما يشاء وأن كل ما فعل مما ذكرنا وغيره فهو كله منه تعالى حكمة وحق وعدل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فبطل بضرورة المشاهدة قولهم أن الله تعالى لم يرد كون الكفر أو كون الفسق أو كون شتمه تعالى وقتل أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولو لم يرد كونه لمنع من ذلك كما منع من كون كل ما لم يرد أن يكون.

قال أبو محمد: ويكفي من هذا كله اجتماع الأمة على قول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهذا على عمومه موجب أن كل ما في العالم كان أو يكون أي شيء كان فقد شاء الله تعالى وكل ما لم يكن ولا يكون فلم يشأه الله تعالى وقد نص الله تعالى نصاً لا يحتمل تأويلاً على أنه تعالى أراد كون كل ذلك فمن ذلك قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " فنص تعالى نصاً جلياً على أنه لا يشاء أحد استقامة على طاعته تعالى إلا أن شاء الله تعالى أن يستقيم فلو صح قول المعتزلة أن الله تعالى شاء أن يستقيم كل مكلف لكان بنص القرآن كل مكلف مستقيم لأن الله تعالى عندهم قد شاء ذلك وهذا تكذيب مجرد لله تعالى نعوذ بالله من مثله فصح يقيناً لا مدخل للشك في صحته أنه تعالى شاء خلاف الاستقامة منهم ولم يشأ أن يستقيموا بنص القرآن وقال تعالى: " وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ".

قال أبو محمد: وهذه الآية غاية في البيان لأن الله تعالى جعل عدة ملائكة النار فتنة للذين كفروا وليقولوا ماذا أراد الله بهذا مثلاً فأخبر تعالى أراد أن يفتن الذين كفروا وأن يضلهم فيضلوا وأنه تعالى قصد إضلالهم وحكم بذلك كما قصد هدى المؤمنين وأراده وكذلك قال تعالى: " وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ".

قال أبو محمد: فنص تعالى على أنه نزل القرآن هدى للمؤمنين وعمي للكفار و بيقين ندري أنه تعالى إذا نزل القرآن أراد أن يكون كما قال تعالى عمي للكفار وهدى للمؤمنين وقال تعالى: " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " هكذا هي الآية كلها موصولة بعضها ببعض فنص تعالى على أنه لو شاء لأمن الناس والجن وهم أهل الأرض كلهم ولو في لغة العرب التي بها خاطبنا الله عز وجل ليفهمنا حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح يقيناً أن الله لم يشأ أن يؤمن كل من في الأرض وإذ لا شك في ذلك فباليقين أنه شاء منهم خلاف الإيمان وهو الكفر والفسق لا بد ولو كان الله تعالى أذن للكافرين في الإيمان على قول المعتزلة لكان كل من في الأرض قد آمن لأنه تعالى قد نص على أنه لا يؤمن أحد إلا بإذنه وهذا أمر من المعتزلة يكذبه العيان فصح أن المعتزلة كذبت وأن الله تعالى صدق وأنه لم يأذن قط لمن مات كافراً في الإيمان وأن من عمي عن هذه لأعمى القلب وكيف لا يكون أعمى القلب من أعمى الله قلبه عن الهدى وبالضرورة ندري أن قول الله تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " حق وإن من لم يأذن الله تعالى إلا في الإيمان فإنه تعالى لم يشأ أن يؤمن وإذ لم يشأ أن يؤمن فبلا شك أنه تعالى شاء أن يكفر هذا مالا انفكاك منه وقال تعالى: " ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا إن يشاء الله " فبين الله تعالى أتم بيان على أن الآيات لا تغني شيئاً ولا النذر وهم الرسل وإنه لا يؤمن من شيء من ذلك إلا من شاء الله عز وجل أن يؤمن فصح يقيناً أنه لا يؤمن إلا من شاء الله إيمانه ولا يكفر إلا من شاء الله كفره فقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام أنه قال: " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " فبالضرورة نعلم أن من صبا و جهل فإن الله تعالى لم يصرف عنه الكيد الذي صرفه برحمته عمن لم يصب ولم يجهل وإذا صرفه تعالى عن بعض ولم يصرفه عن بعض فقد أراد تعالى إضلال من صبا وجهل وقال تعالى: " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً " فليت شعري إذ قال تعالى أنه جعل قلوب الكافرين في أكنة ان يفقهوا القرآن وجعل الوقر في آذانهم أتراه أراد أن يفقهوه و أراد أن لا يفقهوه وكيف يسوغ في عقل أحد أن يخبر تعالى أنه فعل عز وجل شيئاً لم يرد أن يفعله ولا أراد كونه ولا شاء إيجاده وهذا تخليط لا يتشكل في عقل كل ذي مسكة من عقل فصح يقيناً أن الله تعال أراد كون الوقر في آذانهم وكون الأكنة على قلوبهم وقال تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء " فنص تعالى على أنه لم يرد أن يجعلنا أمة واحدة ولكن شاء أن يضل قوماً ويهدي قوماً فصح يقيناً أنه تعالى شاء إضلال من ضل وقال تعالى مثنياً على قوم ومصدقاً لهم في قولهم " قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " فقال النبيون عليهم الصلاة والسلام واتباعهم قول الحق الذي شهد الله عز وجل بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأن الله تعالى نجاهم منه ولم ينج الكافرين منه وأن الله تعالى إن شاء ان يعودوا في الكفر عادوا فيه فصح يقيناً أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر وقد قالت المعتزلة في هذه الآية معنى إلا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة.

قال أبو محمد: هذا في غاية الفساد لأن الله تعالى لو أمرنا بذلك لم يكن عوداً في ملة الكفر بل كان يكون ثباتاً على الإيمان وتزايداً فيها وقال تعالى: " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً " فليت شعري إذ زاد لهم الله مرضاً أتراه لم يشأ ولا أراد ما فعل من زيادة المرض في قلوبهم وهو الشرك والكفر وكيف يفعل الله ما لا يريد أن يفعل وهل هذا إلا إلحاد مجرد ممن قاله وقال تعالى: " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد " فنص تعالى على أنه لو شاء لم يقتتلوا فوجب ضرورة أنه شاء وأراد أن يقتتلوا وفي اقتتال المقتتلين ضلال بلا شك فقد شاء الله تعالى كون الضلال ووجوده بنص كلامه تعالى وقال عز وجل: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا " فنص تعالى على انه أراد فتنة المفتتنين وهم الكفار وكفرهم الذين لم يملك لهم رسول الله من الله شيئاً فهذا نص على أن الله تعالى أراد كون الكفر من الكفار وقال تعالى: " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ".

قال أبو محمد: وهذا غاية البيان في أنه تعالى لم يرد ان يطهر قلوبهم وبالضرورة ندري أن من يرد الله أن يطهر قلبه فقد أراد فساد دينه الذي هو ضد طهارة القلب وقال تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " وهذا غاية البيان في أن الله تعالى لم يرد هدى الجميع وإذا لم يرد هداهم فقد أراد كون كفرهم الذي هو ضد الهدى وقال تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ".

قال أبو محمد: هذا غاية البيان في أنه تعالى لم يشأ هدى الكفار لكن حق قوله بأنهم لا بد من أن يكفروا فيكونوا من أهل جهنم وقال تعالى: " من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم فأخبر تعالى أنه شاء أن يضل من أضله وشاء ان يهدي من جعله على صراط مستقيم وهم بلا شك غير الذين لم يجعلهم على صراط مستقيم " وأراد فتنتهم وأن لا يطهر قلوبهم وأن يكونوا من أصحاب النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: " لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " فشهد الخليل عليه السلام أن من لم يهده الله تعالى ضل وصح أن من ضل فلم يهده الله عز وجل ومن لم يهده الله وهو قادر على هداه فقد أراد ضلاله وإضلاله ولم يرد هداه وقال تعالى: " ولو شاء الله ما أشركوا " فصح يقيناً لا إشكال فيه ان الله تعالى شاء أن يشركوا إذ نص على أنه لو شاء أن لا يشركوا ما أشركوا وقال تعالى: " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه " وهذا نص على انه تعالى شاء أن يفعلوه إذ أخبر أنه لو شاء أن لا يفعلوه ما فعلوه وقال تعالى: " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فنص تعالى على أنه لو لم يشاء أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ما أوحوه ولو شاء أن لا يلبس بعضهم دين بعض وأن لا يقتلوا أولا دهم ما لبس عليهم دينهم ولا قتلوا أولا دهم فصح ضرورة أنه تعالى شاء أن يلبس دين من التبس دينه وأراد كون قتلهم أولادهم وأن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وقال تعالى: " ولو شاء الله لسلطهم عليكم " فصح يقيناً أنه تعالى سلط أيدي الكفار على من قتلوه من الأنبياء والصالحين وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء فنص على أنه يريد هدى قوم فيهديهم ويشرح صدورهم للإيمان ويريد ضلال آخرين فيضلهم بأن يضيق صدورهم ويحرجها فكأنما كلفوا الصعود إلى السماء فيكفروا وقال تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " فنص تعالى على أن من صبر فصبره ليس إلا بالله فصح أن من صبر فإن الله أتاه الصبر ومن لم يصبر فإن الله عز وجل لم يؤته الصبر وقال تعالى: " ولا تنازعوا " فنهانا عن الاختلاف وقال تعالى: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " فنص تعالى أنه خلقهم للاختلاف إلا من رحم الله منهم ولو شاء لم يختلفوا فصح يقيناً أن الله خلقهم لما نهاهم عنه من الاختلاف وأراد كون الاختلاف منهم وقال عز وجل: " تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " وقال تعالى: " بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا " إلى قوله تعالى وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة فنص تعالى على أنه أغرى الكفار وسلب المؤمنين في الملك وأنه بعث أولئك الذين دخلوا المسجد ودخلوه مسخط لله تعالى بلا شك فصح يقيناً أنه تعالى خلق كل ذلك و أراد كونه وقال عز وجل: " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك " فهذا نص جلي على ان الله أتى الملك ذلك الكافر فصح يقيناً أن الله تعالى فعل تمليكه وملكه على أهل الإيمان ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن ذلك يسخط الله عز وجل ويغضبه ولا يرضاه وهو نفس الذي أنكرته المعتزلة وشنعت به.

قال أبو محمد: ونسألهم عما مضت الدنيا عليه منذ كانت من أولها إلى يومنا هذا من النصر النازل على ملوك أهل الشرك والملوك الجورة والظلم والغلبة المعطاة لهم على من ناوأهم من أهل الإسلام وأهل الفضل واحترام من أرادهم بالموت أو باضطراب الكلمة ويأت النصر لهم بوجوه الظفر الذي لا شك في أن الله تعالى فاعله من أماته أعدائهم من أهل الفضل وتأييدهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم في أن الله تعالى فاعله من أماته من أهل الفضل وتأييدهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم في أن الله تعالى أراد كونه وقال عز وجل: " ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين " فنص تعالى نصاً جلياً لا يحتمل تأويلاً على أنه كره أن يخرجوا في الجهاد الذي افترض عليهم الخروج فيه مع رسول الله فقد كره تعالى كون ما أراد ونص على أنه ثبطهم عن الخروج في الجهاد ثم عذبهم على التثبيط الذي أخبر تعالى أنه فعله ونص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا يقين ليس بأمر إلزام لأن الله تعالى لم يأمرهم بالقعود عن الجهاد مع رسوله بل لعنهم وسخط عليهم إذ قعدوا فإذ لا شك في هذا فهو ضرورة أمر تكوين فصح ان الله تعالى خلق قعودهم المغضب له الموجب لسخطه وإذا نص تعالى على أمر فلا اعتراض لأحد عليه وقال عز وجل: " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " وهذا نص جلي على أنه عز وجل أراد أن يموتوا وهم كافرون وأنه تعالى أراد كفرهم والقاف من تزهق مفتوحة بلا خلاف من أحد من القراء معطوفة على ما أراد الله عز وجل من أن يعذبهم بها في الدنيا والواو تدخل المعطوف في حكم المعطوف عليه بلا خلاف من أحد في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى.

قال أبو محمد: فإن قال قائل فإن الله عز وجل قال في الذين قعدوا عن الخروج مع رسول الله : " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم " فلهذا ثبطهم قلنا لا عليكم أكانوا مأمورين بالخروج معه عليه السلام متوعدين بالنار إن قعدوا لغير عذر أم كانوا غير مأمورين بذلك فإذ لا شك في أنهم كانوا مأمورين فقد ثبطهم الله عز وجل عما أمرهم به وعذبهم على ذلك وخلق قعودهم عما أمرهم به ثم نقول لهم أكان تعالى قادراً على ان يكف عن أهل الإسلام خبالهم وفتنتهم لو خرجوا معهم أم لا فإن قالوا لم يكن قادراً على ذلك عجزوا ربهم تعالى وإن قالوا أنه تعالى كان قادراً على ذلك رجعوا إلى الحق وأقروا أن الله تعالى ثبطهم وكره كون ما افترض عليهم وخلق قعودهم الذي عذبهم عليه ولامهم عليه كما شاء لا معقب لحكمه وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: فإذ جاءت النصوص كما ذكرنا متظاهرة لا تحتمل تأويلاً بأنه عز وجل أراد ضلال من ضل وشاء كفر من كفر فقد علمنا ضرورة أن كلام الله تعالى لا يتعارض فلما اخبر عز وجل أنه لا يرضى لعباده الكفر فبالضرورة علمنا أن الذي نفا عز وجل هو غير الذي اثبت فإذ لا شك في ذلك فالذي نفى تعالى هو الرضى بالكفر والذي أثبت هو الإرادة لكونه والمشيئة لوجوده وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة فإن أبت المعتزلة من قبول كلام ربهم وكلام نبيهم وكلام إبراهيم ويوسف وشعيب وسائر الأنبياء صلى الله عليهم وسلم وأبت أيضاً من قبول اللغة وما أوجبته البراهين الضرورية مما شهدت به الحواس والعقول من الله تعالى لو لم يرد كون ما هو موجود كائن لمنع منه وقد قال تعالى " الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين " فشهد الله تعالى بتكذيبهم واستعاضته من ذلك بأصول المنانية أن الحكيم لا يريد كون الظلم ولا يخلقه فلبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولقد لجأ بعضهم إلى أن قال أن الله تعالى في هذه الآيات معنى ومراداً لا نعلمه.

قال أبو محمد: وهذا تجاهل ظاهر وراجع لنا عليهم سواء بسواء في خلق الله تعالى أفعال عباده ثم يعذبهم عليها ولا فرق فكيف وهذا كله لا معنى له بل الآيات كلها حق على ظاهرها لا يحل صرفها عنه لأن الله تعالى قال: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " وقال تعالى: " قرآناً عربياً " وقال تعالى: " تبياناً لكل شيء " وقال تعالى: " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " وقال تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " فأخبر تعالى أن القرآن تبيان لكل شيء فقالت المعتزلة أنه لا يفهمه أحد وأنه ليس بياناً نعوذ بالله من مخالفة الله عز وجل ومخالفة رسول الله .

قال أبو محمد: ولا فرق بين ما تلونا من الآيات في أن الله تعالى شاء كون الكفر والضلال وبين قوله تعالى " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير " وقوله تعالى: " إن الله يفعل ما يشاء " وقال تعالى: " يجتبي من رسله من يشاء " وقوله: " يرزق من يشاء " وقوله تعالى: " يختص برحمته من يشاء " وقوله تعالى: " فعال لما يريد " فهذا العموم جامع المعاني هذه الآيات ونص القرآن وإجماع الأمة على ان الله عز وجل حكم بأن من حلف فقال إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله على أي شيء حلف فإنه إن فعل ما حلف عليه أن لا يفعله فلا حنث عليه ولا كفارة تلزمه لأن الله تعالى لو شاء لأنفذه وقال عز وجل: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ".

قال أبو محمد: فإن اعترضوا بقول الله عز وجل وقالوا: " لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون " فلا حجة لهم في هذه الآية لأن الله عز وجل لا يتناقض كلامه بل يصدق بعضهم بعضاً وقد أخبر تعالى أنه لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وأنه لو لم يشاء أن يشركوا ما أشركوا وأنه شاء إضلالهم وأنه لا يريد أن يطهر قلوبهم فمن المحال الممتنع أن يكذب الله عز وجل قوله الذي أخبر به وصدقه فإذ لا شك في هذا فإن في الآية التي ذكروا بيان نقض اعتراضهم بها بأوضح برهان وهو أنه لم يقل تعالى أنهم كذبوا في قولهم: " لو شاء الرحمن ما عبدناهم " فكان يكون لهم حينئذ في الآية متعلق وإنما أخبر تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم عندهم لكن تخرصاً ليس في هذه الآية معنى غير هذا أصلاً وهذا حق وهو قولنا أن الله تعالى لم ينكر قط فيها ولا في غيرها معنى قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم بل صدقه في الآيات الأخر وإنما أنكر عز وجل أن قالوا ذلك بغير علم لكن بالتخرص وقد أكذب الله عز وجل من قال الحق الذي لا حق أحق منه إذ قاله غير معتقد له قال عز وجل: " إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ".

قال أبو محمد: فلما قالوا أصدق الكلام وهو الشهادة لمحمد بأنه رسول غير معتقدين لذلك سماهم الله تعالى كاذبين وهكذا فعل عز وجل في قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم قالوا هذا الكلام الذي هو الحق غير عالمين بصحته أنكر تعالى عليهم أن يقولوه متخرصين وبرهان هذا قول الله تعالى أثر هذه الآية نفسها: " أم أتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون " " بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون " فبين تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم من كتاب أتاهم وأن الذين قالوا معتقدين له إنما هو أنهم اهتدوا باتباع آثار آبائهم فهذا هو الذي عقدوا عليه وهذا أنكر تعالى عليهم لا قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم فبطل أن يكون لهم في الآية متعلق أصلاً والحمد لله رب العالمين فإن اعترضوا بقول الله عز وجل: " وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ".

قال أبو محمد: فإن سكتوا ها هنا لم يهنهم التمويه وقلنا لهم صلوا القراءة وأتموا معنى الآية فإن بعد قوله تعالى: " فهل على الرسل إلا البلاغ المبين " متصلاً به: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ".

قال أبو محمد: فآخر هذه الآية يبين أولها وذلك أن الله تعالى أيضاً لم يكذبهم فيما قالوه من ذلك بل حكى عز وجل انهم قالوا: " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء " ولم يكذبهم في ذلك أصلاً بل حكى هذا القول عنهم كما حكى تعالى أيضاً قولهم: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " ولو أنكر عز وجل قولهم ذلك لأكذبهم فإذ لم يكذبهم فلقد صدقهم في ذلك والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد: فإن اعترضوا بقول الله عز وجل: " سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ".


قال أبو محمد: إنما تلونا جميع الآيات على نسقها في القرآن واتصالها خوف أن يعترضوا بالآية ويسكتوا عند قوله يخرصون فكثيراً ما احتجنا إلى بيان مثل هذا من الاقتصار على بعض الآية دون بعضها من تمويه من لا يتقي الله عز وجل.

قال أبو محمد: وهذه الآية من أعظم حجة على القدرية لأنه تعالى لم ينكر عليهم قولهم: " ولو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء " ولو أنكره لكذبهم فيه وإنما أنكر تعالى قولهم ذلك بغير علم وإن وافقوا الصدق والحق كما قدمنا آنفاً وقد بين تعالى أنه إنما أنكر عليهم ذلك بقوله عز وجل في الآية نفسها " إن تتبعون إلا الظن وإن انتم إلا تخرصون " ثم لم يدعنا تعالى في لبس من ذلك بل واتبع ذلك نسقاً واحداً بأن قال: " فلله الحجة البالغة فلو شاء لهديكم أجمعين " فصدقهم عز وجل في قولهم إنه لو شاء ما أشركوا ولا آباؤهم ولا حرموا ما حرموا وأخبر تعالى أنه لو شاء لهداهم فاهتدوا وبين تعالى أن له الحجة عليهم في ذلك ولا حجة لأحد عليه تعالى وأنكر عز وجل أن اخرجوا ذلك فخرج العذر لأنفسهم أو فخرج الاحتجاج على الرسل عليهم السلام كما تفعل المعتزلة ثم بين تعالى أنه إنما أنكر أيضاً تكذيبهم رسله بقوله تعالى: " كذلك كذب الذين من قبلهم " بالذال المشددة بلا خلاف من القراء ودعواهم أن الله تعالى حرم ما ادعوا تحريمه وهم كاذبون بقوله تعالى: " قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا " فوضح بكل ما ذكرنا بطلان قول المعتزلة الجهال وبأن صحة قولنا أن الله تعالى شاء كون كل ما في العالم من إيمان وشرك وهدى وضلال وإن الله تعالى أراد كون ذلك كله وكيف يمكن أن ينكر تعالى قولهم لو شاء الله ما أشركنا وقد أخبرنا عز وجل بهذا نصاً في قوله في السورة نفسها: " اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو واعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا " فلا ح يقيناً صدق ما قلنا من انه تعالى لم يكذبهم في قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وهذا مثل ما ذكر الله تعالى من قولهم: " أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " فلم يورد الله عز وجل قولهم هذا تكذيباً بل صدقوا في ذلك بلا شك ولو شاء الله لأطعم الفقراء والمجاويع وما أرى المعتزلة تنكر هذا وإنما أورد الله تعالى قولهم هذا لاحتجاجهم به في الامتناع من الصدقة وإطعام الجائع وبهذا نفسه احتجت المعتزلة على ربها إذ قالت يكلفنا ما لا يقدرنا عليه ثم يعذبنا بعد ذلك على ما أراد كونه منا فسلكوا مسلك القائلين لم كلفنا الله عز وجل إطعام هذا الجائع ولو أراد إطعامه لأطعمه.

قال أبو محمد: تباً لمن عارض أمر ربه تعالى واحتج عليه بل لله الحجة البالغة ولو شاء لأطعم من ألزمنا إطعامه ولو شاء لهدى الكافرين فآمنوا ولكنه تعالى لم يرد ذلك بل أراد أن يعذب من لا يطعم المسكين ومن أضله من الكافرين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وحسبنا الله ونعم الوكيل وقالت المعتزلة معنى قوله تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض " وسائر الآيات التي تلوتهم إنما هو لو شاء عز وجل لاضطرهم إلى الإيمان فآمنوا مضطرين فكانوا لا يستحقون الجزاء بالجنة.

قال أبو محمد: وهذا تأويل جمعوا فيه بلايا جمة أولها أنه قول بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو ساقط ويقال لهم ما صفة الإيمان الضروري الذي لا يستحق عليه الثواب عندكم وما صفة الإيمان غير الضروري الذي يستحق به الثواب عندكم فإنهم لا يقدرون على فرق أصلاً إلا أن يقولوا هو مثل ما قال الله عز وجل إذ يقول تعالى: " يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا " ومثل قوله تعالى: " ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون " ومثل حالة المحتضر عند المعاينة التي لا يقبل فيها إيمانه وكما قيل لفرعون: " الآن وقد عصيت قبل ".

قال أبو محمد: فيقال لهم كل هذه الآيات حق وقد شاهدت الملائكة تلك الآيات وتلك الأحوال ولم يبطل بذلك قبول إيمانهم فهلا على أصولكم صار إيمانهم إيمان اضطرار لا يستحقون عليه جزاء في الجنة أما صار جزاؤهم عليه أفضل من جزاء كل مؤمن دونهم وهذا لا مخلص لهم منه أصلاً ثم نقول لهم أخبرونا عن إيمان المؤمنين إذ صح عندهم صدق النبي بمشاهدة المعجزات من شق القمر وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير ونبعان الماء الغزير من بين الأصابع وشق البحر وإحياء الموتى وأوضح كل ذلك بنقل التواتر الذي به صح ما كان قبلنا من الوقائع والملوك وغير ذلك مما يصير فيه من بلغه كمن شاهده ولا فرق في صحة اليقين لكونهم هل إيمانهم إلا إيمان يقين قد صح عندهم وأنه حق ولم يتخالجهم فيه شك فإن علمهم به كعلمهم أن ثلاثة أكثر من اثنين وكعلمهم ما شاهدوه بحواسهم في أنه كله حق وعلموه ضرورة أم إيمانهم ذلك ليس يقيناً مقطعوعاً بصحة ما آمنوا به عنده كقطعهم على صحة ما علموه بحواسهم ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا بل هو الآن يقين قد صح علمهم بأنه حق لا مدخل للشك فيه عندهم كتيقنهم صحة ما علموه بمشاهدة حواسهم قلنا لهم نعم هذا هو الإيمان الاضطراري بعينه وإلا ففرقوا وهذا الذي موهتم بأنه لا يستحق عليه من الجزاء كالذي يستحق على غيره وبكل تمويهكم بحمد الله تعالى إذ قلتم ان معنى قوله تعالى لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض إنه كان يضطرهم إلى الإيمان فإن قالوا بل ليس إيمان المؤمنين هكذا ولا علمهم بصحة التوحيد والنبوة على يقين وضرورة قيل لهم قد أوجبتم أن المؤمنين على شك في إيمانهم وعلى عدم يقين في اعتقادهم وليس هذا إيماناً بل كفر مجرد ممن كان دينه هكذا فإن كان هذا صفة إيمان المعتزلة فهم أعلم بأنفسهم وأما نحن فإيمانناولله الحمد إيمان ضروري لا مدخل للشك فيه كعلمنا أن ثلاثة أكبر من اثنين وأن كل بناء فمبني وكل من أتى بمعجزة فمحق في نبوته ولا نبالي إن كان ابتداء علمنا استدلالاً أم مدركاً بالحواس إذ كانت نتيجة كل ذلك سواء في تيقن صحة الشيء المعتقد وبالله تعالى التوفيق ثم نسألهم عن الذين يرون بعض آيات ربنا يوم لا ينفع نفساً إيمانها أكان الله تعالى قادراً على أن ينفعهم بذلك الإيمان ويجزيهم عليه جزاءه لسائر المؤمنين أم هو تعالى غير قادر على ذلك فإن قالوا بل هو قادر على ذلك رجعوا إلى الحق والتسليم لله عز وجل وأنه تعالى منع من شاء وأعطى من شاء وأنه تعالى أبطل إيمان بعض من آمن عند رؤية آية من آياته ولم يبطل إيمان من آمن عند رؤية آية أخرى وكلها سواء في باب الإعجاز وهذا هو المحاباة المحضة والجور البين عند المعتزلة فإن عجزوا ربهم تعالى عن ذلك أحالوا وكفروا وجعلوه تعالى مضطراً مطبوعاً محكوماً عليه تعالى الله عن ذلك.

قال أبو محمد: وقد قال عز وجل: " فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ " فهؤلاء قوم يونس لما رأوا العذاب آمنوا فقبل الله عز وجل إيمانهم وآمن فرعون وسائر الأمم المعذبة لما رأوا العذاب فلم يقبل الله عز وجل منهم ففعل الله تعالى ما شاء لا معقب لحكمه فظهر فساد قولهم في أن الإيمان الاضطراري لا يستحق عليه جزاء جملة وصح أن الله تعالى يقبل إيمان من شاء ولا يقبل إيمان من شاء ولا مزيد ثم يقال لهم وبالله تعالى التوفيق هبكم لو صح لكم هذا الباطل الغث الذي هديتم به من أن معنى قوله تعالى لجمعهم على الهدى إنما هو لاضطرهم إلى الإيمان فأخبرونا لو كان ذلك فأي ضرر كان يكون في ذلك على الناس والجن بل كان يكون في ذلك الخير كله وماذا ضر الأطفال إذ لم يكن لهم إيمان اختياري كما تزعمون وقد حصلوا على أفضل المواهب من السلامة من النار بالجملة ومن هول المطلع وصعوبة الحساب وفظاعة تلك المواقف كلها ودخل الجنة جميعهم بسلام آمنين منعمين لم يروا فزعاً رآه غيرهم وأيضاً فإن دعواهم هذه التي كذبوا فيها على الله عز وجل إذ وصفوا عن مراد الله تعالى ما لم يقله تعالى فقد خالفوا فيها القرآن واللغة لأن اسم الهدى والإيمان لا يقعان البتة على معنى غير المعنى المعهود في القرآن واللغة وهما طاعات الله عز وجل والعمل بها والقول بها والتصديق بجميعها الموجب كل ذلك بنص القرآن رضي الله عز وجل وجنته ولا يسمى الجماد والحيوان غير الناطق ولا المجنون ولا الطفل مؤمناً ولا مهتدياً إلا على معنى جرى أحكام الإيمان على المجنون والطفل خاصة وبرهان ما قلنا قول الله تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فصح أن الهدى الذي لو أراد الله تعالى جمع الناس عليه وهو المنقذ من النار والذي لا يملأ جهنم من أهله وكذلك قوله تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " فصح أن الإيمان جملة شيء واحد هو المنقذ من النار الموجب للجنة وأيضاً فإن الله عز وجل يقول: " مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا " ويقول: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " ويقول تعالى: " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " فهذه الآيات مبنية أن الهدى المذكور هو الاختياري عند المعتزلة لأنه تعالى يقول لنبيه : " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " وقال تعالى: " لا إكراه في الدين " فصح يقيناً أن الله تعالى لم يرد قط بقوله لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض إيماناً فيه إكراه فبطل هذرهم والحمد لله رب العالمين فإن قالوا لنا فإذا أراد الله تعالى كون الكفر والضلال فأريدوا ما أراد الله تعالى من ذلك قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق ليس لنا أن نفعل ما لم نؤمر به ولا يحل لنا أن نريد ما لم يأمرنا الله تعالى بإرادته وإنما علينا ما أمرنا به فنكره ما أمرنا بكراهيته ونحب ما أمرنا بمحبته ونريد ما أمرنا بإرادته ثم نسألهم هل أراد الله تعالى إمراض النبي إذ أمرضه وموته إذ أماته وموت إبراهيم ابنه إذ أماته أولم يرد الله تعالى شيئاً من ذلك فلا بد من أن الله تعالى أراد كون كل ذلك فيلزم أن يريدوا موت النبي ومرضه وموت ابنه إبراهيم لأن الله تعالى أراد كل ذلك فإن أجابوا إلى ذلك ألحدوا بلا خلاف وعصوا الله ورسوله وإن أبوا من ذلك بطل ما أرادوا إلزامنا إياه إلا أنه لازم لهم على أصولهم الفاسدة لا لنا لأنهم صححوا هذه المسألة ونحن لم نصححها ومن صحح شيئاً لزمه ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق لسنا ننكر في حال ما يباح لنا فيه إرادة الكفر من بعض الناس فقد أثنى الله عز وجل على ابن آدم في قوله لأخيه: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " فهذا ابن آدم الفاضل فقد أراد أن يكون أخوه من أصحاب النار وأن يبوء بإثمه مع إثم نفسه وقد صوب الله عز وجل قول موسى وهارون عليهما السلام: " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما " فهذا موسى وهارون عليهما السلام قد أرادا وأحبا أن لا يؤمن فرعون وأن يموت كافراً إلى النار وقد جاء عن رسول الله إنه دعا على عتبة بن أبي وقاص أن يموت كافراً إلى النار فكان كذلك.

قال أبو محمد: وأصدق الله عز وجل أنا عن نفسي التي هو أعلم بما فيها مني أن الله تعالى يعلم أني لأسر بموت عقبة بن أبي معيط كافراً وكذلك أمر أبي لهب لأذاهما رسول الله ولتتم كلمة العذاب عليهما وأن المرء ليسر بموت من استبلغ في أذاه ظلماً بأن يموت على أقبح طريقة وقد روينا هذا عن بعض الصالحين في بعض الظلمة ولا حرج على من ائتسى بمحمد وبموسى وبأفضل ابني آدم وليت شعري أي فرق بين لعن الكافر والظالم والدعاء عليه بالعذاب في النار وبين الدعاء عليه بأن يموت غير متوب عليه والمسرة بكلا الأمرين وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال عز وجل: " ولو شاء الله لسلطهم عليكم " وقال تعالى: " وما النصر إلا من عند الله " وقال تعالى: " إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم " وقال تعالى: " هو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " فصح يقيناً أن الله تعالى سلط الكفار على من سلطهم عليهم من الأنبياء وعلى أهل بئر معونة ويوم أحد ونصرهم إملاء لهم وابتلاء للمؤمنين وإلا فيقال لمن أنكر هذا أتراه تعالى كان عاجزاً عن منعهم فإن قالوا نعم كفروا وناقضوا لأن الله تعالى قد نص على أنه كف أيدي الكفار عن المؤمنين إذ شاء وسلط أيديهم على المؤمنين ولم يكفها إذ شاء.

قال أبو محمد: وقال بعض شيوخ المعتزلة أن إسلام الله تعالى من أسلم من الأنبياء إلى أعدائه فقتلوهم وجرحوهم وإسلام من أسلم من الصبيان إلى أعدائه يحضونهم ويغلبونهم على أنفسهم بركوب الفاحشة إذا كان ليعوضهم أفضل الثواب فليس خذلاناً فقلنا دعونا من لفظة الخذلان فلسنا نجيزها لأن الله تعالى لم يذكرها في هذا الباب لكنا نقول لكم إذا كان قتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم ما يكون من الكفر وكان الله عز وجل بقولكم قد أسلم أنبياؤه صلوات الله عليهم إلى أعدائه ليعوضهم أجل عوض فقد أقررتم بزعمكم أن الله عز وجل أراد إسلامهم إلى أعدائهم وإذا أراد الله عز وجل ذلك بإقراركم فقد أراد بإقراركم كون أعظم ما يكون من الكفر وشاء وقوع أعظم الضلال ورضي ذلك لأنبيائه عليهم السلام على الوجه الذي تقولونه كائناً ما كان وهذا لا مخلص لهم منه وأيضاً فنقول لهذا القائل إذا كان إسلام الأنبياء إلى أعداء الله عز وجل يقتلونهم ليس ظلماً أو عبثاً على توجيهكم المناقض لأصولكم في أنه أدى إلى أجزل الجزاء فليس خذلاناً وكذلك إسلام المسلم إلى عدوه يحضه ويرتكب فيه الفاحشة فهو على أصولكم خير وعدل فيلزمكم أن تتمنوا ذلك وأن تسروا بما نيل من الأنبياء عليهم السلام في ذلك وأن تدعوا فيه إلى الله تعالى وهذا خلاف قولكم وخلاف إجماع أهل الإسلام وهذا لا مخلص لهم منه ولا يلزمنا نحن ذلك لأننا لا نسر إلا بما أمرنا الله تعالى بالسرور به ولا نتمنى إلا ما قد أباح لنا تعالى أن ندعوه فيه وكل فعله عز وجل وإن كان عدلاً منه وخيراً فقد افترض تعالى علينا أن ننكر من ذلك ما سماه من غيره ظلماً وأن نبرأ منه ولا نتمناه لمسلم فإنما نتبع ما جاءت به النصوص فقط وبالله تعالى التوفيق وقال قائل من المعتزلة إذا حملتم قول تعالى: " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى " فما يدريكم لعله عليكم عمى.

قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الله تعالى قد نص على انه لا يكون عمى إلا على الذين لا يؤمنون ونحن مؤمنون ولله تعالى الحمد فقد أمنا ذلك وقد ذم الله تعالى قوماً حملوا القرآن على غير ظاهره فقال تعالى: " يحرفون الكلم عن مواضعه " فهذه صفتكم على الحقيقة الموجودة فيكم حساً فمن حمل القرآن على ما خوطب به من اللغة العربية واتبع بيان الرسول فالقرآن له هدى وشفاء ومن بدل كلنه عن مواضعه وادعى فيه دعاوى برأيه وكهانات بطنه وأسراراً وأعرض عن بيان الرسول المبين عن الله تعالى بأمره ومال إلى قول المنانية فهو الذي عليه القرآن عمى وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: ومن نوادر المعتزلة وعظيم جهلها وحماقتها وإقدامها أنهم قالوا أن الشهادة التي غبط الله تعالى بها الشهداء وأوجب لهم بها أفضل الجزاء وتمناها رسول الله وأصحابه وفضلاء المسلمين ليس هي قتل الكافر للمؤمن ولا قتل الظالم للمسلم البريء. قال أبو محمد: وجنون المعتزلة وجهلهم و إهذارهم ووساوسهم لا قياس عليها وحق لمن استغنى عن الله عز وجل وقال أنه يقدر على ما لا يقدر عليه ربه تعالى وقال أن عقله كعقول الأنبياء عليهم السلام سواء بسواء أن يخذله الله عز وجل مثل هذا الخذلان نعوذ بالله من خذلانه ونسأله العصمة فلا عاصم سواء أما سمعوا قول الله عز وجل: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً " وقوله تعالى: " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ثم إنهم فسروا الشهادة بعقولهم فقالوا إنما الشهادة الصبر على الجراح المؤدي إلى القتل والعزم على التقدم إلى الحرب.

قال أبو محمد: وفي هذا الكلام من الجنون ثلاثة أضرب أحدها أنه كلام مبتدع لم يقبله أحد قبل متأخريهم المنسلخين من الخير جملة والثاني أنه لو وضح ما ذكروا لكانت الشهادة في الحياة لا بالموت لأن الصبر على الجراح والعزم على التقدم لا يكونان إلا في الحياة والشهادة في سبيل الله لا تكون بنص القرآن وصحيح الأخبار وإجماع الأمة إلا بالقتل والثالث أن الذي منه هربوا فيه وقعوا بعينيه وهو أن الشهادة التي تمنى المسلمون بها أن كانت العزم على التقدم إلى الحرب والصبر على الجراح المؤدية إلى القتل فقد حصل تمني قتل الكفار للمسلمين وتمني أن يجرحوا المسلمين جراحاً تؤدي إلى القتل وتمني ثبات الكفار على الكفر حتى يجرحوا أهل الإسلام جراحاً قاتلة وحرب الكفار للمسلمين للمسلمين وثباتهم لهم وجراحهم إياهم معاص وكفر بلا شك فقد حصلوا على تمني المعاصي وهو الذي به شنعوا وبالله تعالى التوفيق فبطل كل ما شنعت به المعتزلة والحمد لله رب العالمين كثيراً.

قال أبو محمد: وضل جمهور المعتزلة في فصل من القدر ضلالاً بعيداً فقالوا بأجمعهم حاشا ضرار بن عمرو وحفصاً الفرد وبشر بن المعتمر ويسيراً ممن اتبعهم أنه ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه جميع الناس كافرهم ومؤمنهم ولا عنده هدي أهدى مما قد هدى به الكافر والمؤمن هداً مستويا وأنه ليس يقدر على شيء هو أصلح مما فعل بالكفار والمؤمنين ثم اختلف هؤلاء فقال جمهورهم أنه تعالى قادر على أمثال ما فعل من الصلاح بلا نهاية وقال الأقل منهم وهم عباد ومن وافقه هذا باطل لأنه لا يجوز أن يترك الله تعالى شيئاً يقدر عليه من الصلاح من أجل فعله لصلاح ما وحجتهم في هذا الكفر الذي أتوا به أنه لو كان عنده أصلح أو أفضل مما فعل بالناس ومنعهم إياه لكان بخيلاً ظالماً لهم ولو أعطى شيئاً من فضله بعض الناس دون بعض لكان محابياً ظالماً والمحاباة جور ولو كان عنده ما يؤمن به الكفار إذاً أعطاهم إياه ثم منعهم إياه لكان ظالماً لهم غاية الظلم قالوا وقد علمنا أن إنساناً لو ملك أموالاً عظيمة تفضل عنه ولا يحتاج إليها فقصده جار فقير له تحل له الصدقة فسأله درهماً يحيي به نفسه وهو يعلم فقره إليه ويعلم أنه يتدارك به رمقه فمنعه لا لمعنى فإنه بخيل قالوا فلو علم أنه إذا أعطاه الدرهم سهلت عليه أفعال كلفه إياها فمنعه من ذلك لكان بخيلاً ظالماً فلو علم أنه لا يصل إلى ما كلفه إلا بذلك الدرهم فمنعه لكان بخيلاً ظالماً سفيهاً فهذا كل ما احتجوا به لا حجة لهم غير هذه البتة وذهب ضرار بن عمرو وحفص الفرد وبشر بن المعتمر ومن وافقهم وهم قليل منهم إلى أن عند الله عز وجل ألطافاً كثيرة لا نهاية لها لو أعطاها الكفار لآمنوا إيماناً اختياريا يستحقون به الثواب بالجنة وقد أشار إلى نحو هذا ولم يحققه أبو علي الجباي وابنه أبو هاشم وكان بشر بن المعتمر يكفر من قال بالأصلح والمعتزلة اليوم تدعي أن بشراً تاب عن القول باللطف ورجع إلى القول بالأصلح.

قال أبو محمد: وحجة هؤلاء أنه تعالى قد فعل بهم ما يؤمنون عنده لو شاؤوا فليس لهم عليه غير ذلك ولا يلزمه أكثر من ذلك فعارضهم أصحاب الأصلح بأن قالوا أن الاختيار هو ما يمكن فعله ويمكن تركه فلو كان الكفار عند إتيان الله تعالى بتلك الألطاف يختارون الإيمان لأمكن أن يفعلوه وأن لا يفعلوه أيضاً فعادت الحال إلى ما هي عليه إلا أن يقولوا أنهم كانوا يؤمنون ولا بد فهذا اضطرار من الله تعالى لهم إلى الإيمان لا اختيار قالوا ونحن لا ننكر هذا بل الله تعالى قادر على أن يضطرهم إلى الإيمان كما قال تعالى: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل " قالوا فالذي فعل الله تعالى بهم أفضل وأصلح.

قال أبو محمد: هذا لازم لمن لم يقل أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لزوماً لا ينفكون عنه وأما نحن فلا يلزمنا وإنما سألناهم هل الله تعالى قادر على أن يأتي الكفار بألطاف يكون منهم قال أبو محمد: كأن أصحاب الأصلح غيب عن هذا العالم أو كأنهم إذا حضروا فيه سلبت عقولهم وطمست حواسهم وصدق الله فقد نبه على مثل هذا إذ يقول تعالى: " وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ " أترى هؤلاء القوم ما شاهدوا أن الله عز وجل منع الأموال قوماً وأعطاها آخرين ونبأ قوماً وأرسلهم إلى عباده وخلق قوماً آخرين في أقاصي أرض الزنج يعبدون الأوثان وأمات قوماً من أوليائه ومن أعدائه عطشاً وعنده مجادح السماوات وسقى آخرين الماء العذب أما هذه محاباة ظاهرة فإن قالوا أن كل ما فعل من ذلك فهو أصلح بمن فعله به سألناهم عن إماتته تعالى الكفار وهم يصيرون إلى النار وإعطائه تعالى قوماً مالاً ورياسة فبطروا وهلكوا وكانوا مع القلة والخمول صالحين وأفقر أقواماً فسرقوا وقتلوا وكانوا في حال الغنى صالحين وأصح أقواماً وجمل صورهم فكان ذلك سبباً لكون المعاصي منهم وتركوها إذ أسنوا وأمرض أقواماً فتركوا الصلاة عمداً وضجروا وثربوا وتكلموا بما هو الكفر أو قريب منه وكانوا في صحتهم شاكرين لله يصلون ويصومون أهذا الذي فعل الله بهم كان أصلح لهم فإن قالوا نعم كابروا المحسوس وإن قالوا لو عاشوا لزادوا قلنا لهم فإنما كان أصلح لهم أن يخترمهم الله عز وجل قبل البلوغ أو يطيل أعمارهم في الكفر ويملكهم الجيوش فيهلك بها أرض الإسلام ويقوي أجسادهم وأذهانهم فيضل بهم جماعة كما فعل لسعيد الفيومي اليهودي وأباريطا اليعقوبي النصراني والمتحققين بالكلام من اليهودي والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية أما كان أصلح لهم ولمن ضل منهم أن يميتهم صغاراً.

قال أبو محمد: فانقطعوا فلجأ بعضهم إلى أن قال لعله قد سبق في علم الله تعالى أنه لو أماتهم صغاراً لكفر خلق من المؤمنين.

قال أبو محمد: وفي هذا الجواب من السخافة وجوه جمة أولها أنه دعوى بالدليل والثاني أنهم لا ينفكون به مما ألزمناهم ونقول لهم كان الله عز وجل قادراً على أن يميتهم ولا يوجب موتهم كفر أحد فإن قالوا لا عجزوا ربهم تعالى وإن قالوا بل كان قادراً على ذلك ألزموه الجور والظلم على أصولهم ولا بد من أحد الأمرين والثالث أنه ما يسمع في العالم بأسخف من قول من قال أن إنساناً مؤمناً يكفر من أجل صغير مات فهذا أمر ما شوهد قط في العالم ولا توهم ولا يدخل في الإمكان ولا في العقل وكم طفل يموت كل يوم منذ خلق الله تعالى الدنيا إلى يوم القيامة فهل كفر أحد قط من أجل موت ذلك الطفل وإنما عهدنا الناس يكفرون عندما يقع لهم من الغضب الذي يخلقه الله عز وجل في طبائعهم وبالعصبية التي آتاهم الله عز وجل أسبابها وبالملك الذي أتاهم الله إياه إذا عارضهم فيه عارض والرابع أنه ليس في الجور ولا في العبث ولا في الظلم ولا في المحاباة أعظم من أن يبقي طفلاً حتى يكفر فيستحق الخلود في النار ولا يميته طفلاً فينجو من النار من أجل صلاح قوم لولا كفر هذا المنحوس لكفر أولئك وما في الظلم والمحاباة أقبح من هذا وهل هذا إلا كمن وقف إنساناً للقتل فأخذ هو آخر من عرض الطريق فقتله مكانه فظهر فساد هذا القول السخيف الملعون.

قال أبو محمد: وقال بعضهم قد يخرج من صلبه مؤمنون.

قال أبو محمد: وقد يموت الكافر عن غير عقب وقد يلد الكافر كفاراً أضر على الإسلام منه ومع هذا فكل ما ذكرنا يلزم أيضاً في هذا الجواب السخيف وأيضاً فقد يخرج من صلب المؤمن كافر طاغ وظالم باغ يفسد الحرث والنسل ويثير الظلم ويميت الحق ويؤسس القتالات والمنكرات حتى يضل بها خلق كثير حتى يظنوا أنها حق وسنة فأي وجه لخلق هؤلاء على أصول المعتزلة الضلال نعم وأي معنى وأي إصلاح في خلق إبليس ومردة الشياطين وإعطائهم القوة على إضلال الناس من الحكمة المعهودة بيننا وبالضرورة نعلم أن من نصب المصائد للناس في الطرقات وطرح الشوك في ممشاهم فإنه عائب سفيه فيما بيننا والله تعالى خلق كل ما ذكرنا بإقرارهم وهم الحكيم العليم ثم وجدناه تعالى قد شهد للذين بايعوا تحت الشجرة بأنه علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ثم أمات منهم من ولي منهم أمور المسلمين سريعاً ووهن قوي بعضهم وملك عليهم زياداً والحجاج وبغاة الخوارج فأي مصلحة في هذا للحجاج ولقطري أو لسائر المسلمين لو عقلت المعتزلة ولكن الحق هو قولنا وهو أن كل ذلك عدل من الله وحق وحكمة وهلاك ودمار وإضلال للحجاج المسلط ولقطري ونظايرهما أراد الله تعالى بذلك هلاكهم في الآخرة ونعوذ بالله من الخذلان ثم نسألهم ماذا تقولون إذا أمر الله عز وجل بجلد الحرة في الزنا ماية جلدة ويجلد الأمة نصف ذلك أليس هذا محاباة للأمة وإذا خول الله عز وجل قوماً أموالاً جمة فعاثوا فيها وحرم آخرين أما هذا عين المحاباة والجور على أصلهم الفاسد فيمن منع جاره الفقير إلا أن يطردوا قولهم فيصير إلى قول من ذكر أن الواجب يواسي الناس في الأموال والنساء على السوا وبالجملة فإن القوم يدعون نفي التشبيه ويكفرون من شبه الله تعالى بخلقه ثم لا نعلم أحداً أشد تشبيهاً لله تعالى بخلقه منه فيلزمونه الحكم ويحرون عليه لأمر والنهي ويشبهونه بخلقه تعالى فيما يحسن منه ويقبح ثم نقضوا أصولهم إذ من قولهم أن ما صلح بيننا بوجه من الوجوه فلسنا نبعده عن الباري تعالى ونحن نجد فيما بيننا يحابي أحد عبيده على الآخر فيجعل أحدهم مشرفاً على ماله وعياله وحاضناً لولده ويرتضيه لذلك من صغره بأن يعلمه الكتاب والحساب ويجعل الآخر رائضاً لدابته وجامعاً للزبل لبستانه ومنقياً لحشه ويرتضيه لذلك من صغره وكذلك الإماء فيجعل إحداهن محل إزاره ومطلباً لولده ويجعل الثانية خادماً لهذه في الطبخ والغسل وهذا عدل بإجماع المسلمين كلهم فلم أنكروا أن يحابى الباري من شاء من عباده بما أحب من التفضيل ووجدوا في الشاهد من يعطي المحاويج من ماله فيعطي أحدهم ما يغنيه ويخرجه عن الفقر وذلك نحو ألف دينار ثم يعطي آخر مثله ألف دينار ويزيد هألف دينار فإنه وإن حابى فمحسن غير ملوم فلم منعوا ربهم من ذلك وجوروه إذا فعله وهو تعالى بلا شك أتم ملكاً لكل ما في العالم من أحدنا لما خوله عز وجل من الأملاك ونقضوا أصلهم في أن ما حسن في الشاهد بوجه من الوجوه لم يمنعوا وقوعه من الباري جل وعز ووجدوا في الشاهد من يدخر أموالاً عظيمة فيؤدي جميع الحقوق اللازمة له حتى لا يبقى بحضرته محتاج ثم يمنع سائر ذلك فلا يسمى بخيلاً فلأي شيء منعوا ربهم جل وعز من مثل ذلك وجوروه وبخلوه إذا لم يعط أفضل ما عنده وهذا كله بين لا إشكال فيه.

قال أبو محمد: ونسألهم عن قول لهم عجيب وهو أنهم أجازوا أن يخلق الله عز وجل أضعف الأشياء ثم لا يكون قادراً على أضعف منه فهكذا هو قادر فاعل أصلح الأشياء ثم لا يكون قادر على أصلح منه وعلى أصغر الأشياء وهو الجزء الذي لا يتجزأ ولا يقدر على أصغر منه.

قال أبو محمد: هذا إيجاب منهم لتناهي قدرة الله عز وجل وتعجيز له تعالى وإيجاب لحدوثه وإبطال إلاهيته إذ التناهي في القوة صفة المحدث المخلوق لا صفة الخالق الذي لم يزل وهذا خلاف القرآن وإجماع المسلمين وتشبيه الله تعالى بخلقه في تناهي قدرتهم. قال أبو محمد: ولكنه لازم لكل من قال بالجزء الذي لا يتجزأ وبالقياس لزوماً صحيحاً لا انفكاك لهم منه ونعوذ بالله من هذه المقالات المهلكة بل نقول أن الله تعالى كل ما خلق شيئاً صغيراً أو ضعيفاً أو كبيراً أو قوياً أو مصلحة فإنه أبداً بلا نهاية قادر على خلق أصغر منه وأضعف وأقوى وأصلح.

قال أبو محمد: ونسألهم أيقدر الله تعالى على ما لو فعله لكفر الناس كلهم فإن قالوا لا لحقوا بعلي الأسواري وهم لا يقولون بهذا ولو قالوه لأكذبهم الله تعالى إذ يقول: " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " وبقوله تعالى: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة " وإن قالوا نعم هو قادر على ذلك قلنا لهم فقد قطعتم بأنه تعالى يقدر على الشر ولا يقدر على الخير هذه مصيبة على أصولهم ولزمهم أيضاً فساد أصلهم في قولهم أن من قدر على شيء قدر على ضده لأنهم يقولون أن الله تعالى يقدر على ما يكفر الناس كلهم عنده ولا يقدر على مل يؤمن جميعهم عنده.

قال أبو محمد: ونسأل من قال منهم أنه تعالى يقدر على مثل ما فعل من الصلاح بلا نهاية لا على أكثر من ذلك فنقول لهم أن على أصولكم لم تنفكوا من تجوير الباري جل وعز لأن بضرورة الحس ندري إذا استضافت المصالح بعضها إلى بعض كانت أصلح من انفراد كل مصلحة على الأخرى فإذا هو قادر عندكم على ذلك ولم يفعله بعباده فقد لزمه ما ألزمتموه لو كان قادراً على أصلح مما فعل ولم يفعله فقالوا هذا كالدواء والطعام والشراب لكل ذلك مقدار يصلح به من أعطيه فإذا استضافت إليه أمثاله كان ضرراً قال علي رضي الله عنه ولم يقل قط ذو عقل ومعرفة بحقايق الأمور إن غفار كذا مصلحة جملة وعلى كل حال ولا أن الأكل مصلحة أبداً وعلى الجملة ولا أن الشراب مصلحة بكل وجه أبداً وإنما الحق أن مقداراً من الدواء مصلحة لعلة كذا فقط فإن زاد أو نقص أو تعدى به تلك لعلة كان ضرراً وكذلك الطعام والشراب هما مصلحة في حال ما وبقدر ما فما زاد أو تعدى به وقته كان ضرراً ليس إطلاق اسم الصلاح في شيء من ذلك أولى من إطلاق اسم الضرر لأن كلا الأمرين موجود في ذلك كما ذكرنا وليس الصلاح من الله عز وجل للعبد والهدى له والخير من قبله عز وجل كذلك بل على الإطلاق والجملة وعلى كل حال بل كلما زاد الصلاح وكثر الهدى وكبر وزاد الخير وكبر فهو أفضل فإن قالوا نجد الصلاة والصيام إثماً في وقت ما وأجراً في آخر قلنا ما كان من هذا منهياً عنه فليس صلاحاً البتة ولا هو هدى ولا خير بل هو إثم وخذلان وضلال وليس في هذا كلمنا كم لكن فيما هو صلاح حقيقة وهدى حقيقة وخير حقيقة وهذا ما لا مخلص منه.

قال أبو محمد: وقال أصحاب الأصلح منهم أن من علم الله تعالى أنه يؤمن من الأطفال إن عاش أو يسلم من الكفار إن عاش أو يتوب من الفساق إن عاش فإنه لا يجوز البتة أن يميته الله قبل ذلك قالوا وكذلك من علم الله تعالى أنه إن عاش فعل خيرا فلا يجوز البتة أن يميته الله قبل فعله قالوا ولا يميت الله تعالى أحداً إلا وهو يدري أنه إن أبقاه طرفة عين فما زاد فإنه لا شيئاً من الخير أصلاً بل يكفر أو يفسق ولا بد.

قال أبو محمد: وهذا من طوامهم التي جمعت الكفر والسحق ولم ينفكوا بها فما فروا عنه من تجوير الباري تعالى بزعمهم وأما الكفر فإنه يلزمهم أن إبراهيم بن رسول الله لو بلغ لكفر أو فسق وليت شعري إذ هذا عندهم كما زعموا فلم أمات بعضهم أثر ولادته ثم آخر بعد ساعة ثم يوم ثم يومين وهكذا شهراً بعد شهر وعاماً بعد عام إلى أن أمات بعضهم قبل بلوغه بيسير وكلهم عندهم سواء في أنهم لو عاشوا لكفروا أو فسقوا كلهم وإذ عنى بهم هذه العناية فلم أبقى من الأطفال من درى أنه يكفر ويفسق نعم ويؤتيهم القوى والتدقيق في الفهم كالفيومي سعيد بن يوسف والمعمس داود بن قزوان وإبراهيم البغدادي وأبي كثير الطبراني متكلمي اليهود وأبي ربطه اليعقوبي ومقرونيش الملكي من متكلمي النصارى وقردان بخت المثاني حتى أضلوا كثيراً يشبههم وتمويهاتهم ومخارفتهم ولا سبيل إلى وجود فرق أصلاً وهذا محاباة وجور على أصولهم ثم نجده تعالى قد عذب بعض هؤلاء الأطفال باليتم والقمل والعرى والبرد والجوع وسوء المرقد والعمى والبطلان والأوجاع حتى يموتوا كذلك وبعضهم مرفه مخدوم منعم حتى يموت كذلك ولعلهما لأب وأم وكذلك يلزمهم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسائر الصحابة رضي الله عنهم نعم ومحمد وموسى وعيسى وإبراهيم وسائر الرسل عليهم الصلوة والسلام أن كل واحد منهم لو عاش طرفة عين على الوقت الذي مات فيه لكفر أو فسق ولزمهم مثل هذا في جبريل وميكائيل وحملة العرش عليهم السلام إن كانوا يقولون بأنهم يموتون فإن تمادوا على هذا كفروا وقد صرح بعضهم بذلك جهارا وإن أبوا تناقضوا ولزمهم أن الله تعالى يميت من يدري أنه يزداد خيراً ويبقي من يدري أنه يكفر وهذا عندهم على أصولهم عين الظلم والعبث.

قال أبو محمد: وأجاب بعضهم في هذا السؤال بأن قال أن النبي امتحنه الله عز وجل قبل موته بما بلغ ثوابه على طاعته فيه مبلغ ثوابه على كل طاعة تكون منه لو عاش إلى يوم القيامة.

قال أبو محمد: وهذا جنون ناهيك به لوجوده أولها أنه محاباة مجردة له عليه السلام على غيره وهلا فعل ذلك بغيره وعجل راحتهم من الدنيا ونكدها وثانيها أن هذا القول كذب بحت وذلك أن المحن في العالم معروفة وهي إما في الجسم بالعلل وأما في المال بالإتلاف وأمل في النفوس بالخوف والهوان والهم بالأهل والأحبة والقطع دون الأمل لا محنة في العالم تخرج عن هذه الوجوه إلا المحنة في الدين فقط نعوذ بالله من ذلك فأما المحنة في الجسم فكذبوا وما مات عليه السلام إلا سليم الأعضاء سويها معافى من مثل محنة أيوب عليه السلام وسائر أهل البلاء نعوذ بالله منه وأما في المال فما شغله الله عز وجل منه بما يقتضي محنته في فضوله ولا أحوجه إلى أحد بل أقامه على حد الغنى بالقوت ووفقه لتنفيذ الفضل فيما يقر به من ربه عز وجل له: " وأما النفس فأي محنة لمن قال الله عز وجل له والله يعصمك من الناس " ولمن رفع له ذكره وضمن له إظهار دينه على الدين كله ولو كره أعداؤه وجعل شانئه الأبتر وأعزه بالنصر على كل عدو فأي خوف وأي هوان يتوقعه عليه السلام وأما أهله وأحبته فاخترم بعضهم فأجره فيهم كإبراهيم ابنه وخديجة وحمزة وجعفر وزينب وأم كلثوم ورقية بناته رضي الله عنهم وأقر عينه ببقاء بعضهم وصلاحه كعائشة وسائر أمهات المؤمنين وفاطمة ابنته وعلي والعباس والحسن والحسين وأولاد العباس وعبد الله بن جعفر وأبي سفيان بن الحارث رضي الله عن جميعهم فأي محنة ها هنا أليس قد أعاد الله تعالى من مثل محنة حبيب بن عدي سمية أم عمار رضي الله عنهم أليس من قتل من الأنبياء عليهم السلام ومن أنشر بالمنشار وأحرق بالنيران أعظم محنة ومن خالفه قومه فلم يتبعه منهم إلا اليسير وعذب الجمهور كهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم اعظم محنة وهل هذه إلا مكابرة وحماقة وقحة وأي محنة تكون لمن أوجب الله عز وجل على الجن والإنس طاعته وأكرمه برسالته وأمنه من كل الناس و أكب عدوه لوجهه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهل هذه إلا نعم وخصائص وفضائل وكرامات ومحاباة مجردة له على جميع الإنس والجن وهل استحق عليه السلام هذا قط على ربه تعالى حتى ابتدأه بهذه النعمة الجليلة وقد تحنث قبله زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي العدوي وقيس بن ساعدة الأبادي وغيرهما فما أكرموا بشيء من هذا ولكن نوك المعتزلة ليس عليه قياس.

قال أبو محمد: ومما سئلوا عنه أن قيل لهم أليس قد علم الله تعالى أن فرعون والكفار إن أعاشهم كفروا فمن قولهم نعم فيقال لهم فلم أبقاهم حتى كفروا واخترم على قولكم من علم أنه إن عاش كفر وهذا تخليط لا يعقل ونقول لهم أيضاً أيما كان أصلح للجميع لا سيما لأهل النار خاصة أن يخترعنا الله تعالى كلنا في الجنة كما فعل بالملائكة وحور العين أم ما فعل بنا من خلقنا في الدنيا والتعريض للبلاء فيها وللخلود في النار.

قال أبو محمد: فلحوا عند هذه فقال بعضهم لم يخلق الجنة بعد فقلنا لهم هبكم أن الأمر كما قلتم فإنما كان أصلح للجميع أن يجعل الله عز وجل خلقها ثم يخلقنا فيها أو يؤخر خلقنا حتى يخلقها ثم يخلقنا منها أما خلقه لنا حيث خلقنا فإن عجزوا ربهم جعلوه ذا طبيعة متناهي القدرة وشبهاً لخلقه وأبطلوا إلاهيته وجعلوه محيزاً ضعيفاً وهذا كفر مجرد ونفي السؤال أيضاً مع ذلك بحسبه أن يجعلنا كالملائكة وأن يجعلنا كلنا أنبياء كما فعل بعيسى ويحيى عليهما السلام وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقال بعضهم ليس جهلنا بوجه المصلحة في ذلك مما يخرج هذا الأمر عن الحكمة فقلنا لهم فاقنعوا بمثل هذا بعينه فمن قال لكم ليس جهلنا بوجه المصلحة والحكمة في خلق الله تعالى لأفعال عباده وفي تكليفه الكافر والفاسق ما لا يطيق ثم يعذبهما على ذلك مما يخرجه عن الحكمة وهذا لا مخلص لهم منه.

قال أبو محمد: وأما نحن فلا نرضى بهذا بل ما جهلنا ذلك لكن نقطع على أن كل ما فعله الله تعالى فهو عين الحكمة والعدل وأن من أراد إجراء أفعاله تعالى على الحكمة المعهودة بيننا فقد ألحدوا حظاً وضل وشبه الله عز وجل بخلقه لأن الحكمة والعدل بيننا إنما هما طاعة الله عز وجل فقط لا حكمة ولا عدل غير ذلك إلا ما امرنا به أي شيء كان فقط وأما الله تعالى فلا طاعة لأحد عليه فبطل أن تكون أفعاله جارية على أحكام العبيد المأمورين المربويين المسؤولين ما يفعلون لكن أفعاله تعالى جارية على العزة والقوة والجبروت والكبرياء والتسليم له وأن لا يسأل عما يفعل ولا مزيد كما قال تعالى وقد خاب من خالف ما قال الله عز وجل ومع هذا كله فلم يتخلصوا من رجوع وجوب التجوير والعبث على أصولهم على ربهم تعالى عن ذلك وقال متكلموهم لو خلقنا في الجنة لم نعلن مقدار النعمة علينا عن ذلك وقال متكلموهم لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك وكنا أيضاً نكون غير مستحقين لذلك النعيم بعمل عملناه وإدخالنا الجنة بعد استحقاقنا لها أتم في النعمة وأبلغ في اللذة وأيضاً فلو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد على ما حظر علينا وليست الجنة دار توعد وأيضاً فإن الله تعالى قد علم أن بعضهم كان يكفر فيجب عليه الخروج من الجنة.

قال أبو محمد: هذا كل ما قدروا عليه من السخف وهذا كله عائد عليهم بحول الله تعالى وقوته وعونه لنا فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قولهم لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك فإننا نقول وبالله تعالى نتأيد أكان الله تعالى قادراً على أن يخلقنا فيها ويخلق فينا قوة وطبيعة نعلم بها قدرة النعمة علينا في ذلك أكثر من علمنا بذلك بعد دخولنا فيها يوم القيامة أو كعلمنا ذلك أم كان غير قادر على ذلك فإن قالوا أكان غير قادر على ذلك عجزوا ربهم تعالى وجعلوا قوته متناهية يقدر على أمرنا ولا يقدر على غيره وهذا لا يكون إلا لعرض داخل أو لبنية متناهية القوة وهذا كفر مجرد وإن قالوا كان الله قادراً على ذلك أقروا بأنه عز وجل لم يفعل بهم أصلح ما عنده وأن عنده أصلح مما فعل بهم وأيضاً فإن كانوا أرادوا بذلك أن اللذة تعقب البلاء و التعب أشد سروراً وأبلغ لزمهم أن يبطلوا نعم الجنة جملة لأنه ليس نعيمها البتة كان الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ولم يفتقر يوماً إذا ما تمولا فلزم على هذا الأصل أن يحدد الله عز وجل لأهل الجنة آلاماً فيها ليتجدد لهم بذاك وجود اللذة وهذا خروج عن الإسلام ويلزمهم أيضاً أن يدخل النبيين والصالحين النار ثم يخرجهم منها إلى الجنة فتضاعف اللذة والسرور أضعافاً بذلك ويقال لهم كنا نكون كالملائكة والحور العين فإن كانوا عالمين بمقدار ما هم فيه من نعيم ولذة فكنا نحن كذلك وإن كانوا غير عالمين بمقدار ما هم فيه من اللذة والنعيم فهلا أعطاهم هذه المصلحة ولأي شيء منعهم هذه الفضيلة التي أعطاها لنا وهم أهل طاعته التي لم تشب بمعصية فإن قالوا أإن الملائكة وحور العين قد شاهدوا عذاب الكفار في النار فقام لهم مقام الترهيب قلنا لهم هل المحاباة والجور إلا أن يعرض قوماً للمعطب ويبقيهم حتى يكفروا فيخلدوا في النار ليوعظ بهم قوم آخرون خلقوا في الجنة والرفاهية سرمداً أبداً لا بد وهل عين الظلم إلا هذا فيما بيننا على أصول المعتزلة وكمن يقول من الطغاة قتل الثلث في صلاح الثلثين صلاح وهل في الشاهد عبث وسفه أعظم من عبث من يقول لآخر هات أضربك بالسياط وأردك من جبل وأصفع في قفاك وأنتف سبالك وأمشيك في طريق ذات شوك دون راحة في ذلك ولا منفعة ولكن لا أعطيك بعد ذلك ملكاً عظيماً ولعلك في خلال ضربي إياك أن تتضرر فتقع في بئر منتنة لا خرج منها أبداً فأي مصلحة عند ذي عقل في هذا الحال لا سيما وهو قادر على أن يعطيه ذلك الملك دون أن يعرضه لشيء من هذا البلاء فهذه صفة الله عز وجل عند المعتزلة لا يستحقون من أن يصفوا أنفسهم بأن يصفوا الله تعالى بالعدل والحكمة.

قال أبو محمد: وأما نحن فنقول لو أن الله تعالى أخبرنا أنه يفعل هذا كان بعينه ما أنكرناه ولعلمنا أنه منه تعالى حق وعدل وحكمة.

قال أبو محمد: ومن العجب أن يكون الله تعالى يخلقنا يوم القيامة خلقاً لا نجوع فيه أبداً ولا نعطش ولا نبول ولا نمرض ولا نموت وينزع ما في صدورنا من غل ثم لا يقدر على أن يخلقنا فيها ولا على أن يخلقنا خلقاً نلتذ معه بابتدائنا كالتذاذنا بدخولها بعد طول النكد فهل يفرق بين شيء من هذا إلا من لا عقل له أو مستخف بالباري تعالى وبالدين وأما قولهم لو خلقنا الله تعالى في الجنة لكنا غير مستحقين لذلك النعيم فإنا نقول لهم أخبرونا عن الأعمال التي استحققتم بها الجنة عند أنفسكم أفبضرورة العقل علمتم أن من عملها فقد استحق الجنة ديناً واجباً على ربه تعالى أم لم تعلموا ذلك ولا وجب ذلك إلا حتى أعلمنا الله عز وجل أنه يفعل وجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال فإن قالوا بالعقل عرفنا استحقاق الجنة على هذه الأعمال كابروا وكذبوا على العقل وكفروا لأنهم بهذا القول يوجبون الاستغناء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام ولزمهم أن الله تعالى لم يجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال لكن وجب ذلك عليه حتماً لا باختياره ولا بأنه لو شاء غير ذلك لكان له وهذا كفر مجرد وأيضاً فإن شريعة موسى عليه السلام في السبت وتحريم الشحوم وغير ذلك فقد كان الجنة جزاء على العمل بها ثم صارت الآن جهنم جزاء على العمل بها فهل ها هنا إلا أن الله تعالى أراد ذلك فقط ولو لم يرد ذلك لم يجب من ذلك شيء فإن قالوا بل ما علمنا استحقاق الجنة بذلك إلا بخبر الله تعالى أنه حكم بذلك فقط قيل لهم فقد كان الله تعالى قادراً على أن يخبرنا أنه جعل الجنة حقاً لنا يخترعنا فيها كما فعل بالملائكة وحور العين و أيضاً فقد كذبوا في دعواهم استحقاق الجنة بأعمالهم فإن رسول الله قال ما من أحد ينجيه عمله أو يدخله الجنة عمله ولا أنت يا رسول الله ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه أو كلاماً هذا معناه و أيضاً فبضرورة العقل ندري أن ما زاد على المماثلة في الجزاء فيما بيننا فإنه تفضل مجرد في الإحسان وجور في الإساءة هذا حكم المعهود في العقل فعل أصول المعتزلة يلزمهم أن بقاء أحدنا في الجنة أو في النار أكثر من مثل مدة إحسانه أو إساءته جزاء على ما سلف منه فضل مجرد وعقاب زايد على مقدار الجرم وقد فعله الله عز وجل بلا شك وهو عدل منه وحكمة وحق.

قال أبو محمد: وأما قولهم أن دخول الجنة على وجه الجزاء على العمل أعلى درجة وأسنى رتبة من دخولها بالتفضل المجرد فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق هذا خطأ محض لأننا قد علمنا أن هذا الحكم إنما يقع بين الأكفاء والمتماثلين وأما الله فليس له كفواً أحد ومن كان عبداً لآخر فإن إقبال السيد عليه بالتفضل عليه المجرد والاختصاص والمحاباة أسنى له وأعلى وأشرف لرتبته وأرفع لدرجته من أن لا يعطيه شيئاً بمقدار ما يستحقه لخدمته ويستخبره إياه هذا ما لا ينكره إلا معاند فكيف وليس لأحد على الله حق وحينئذ كل ما وهبه الله تعالى لأحد من أنبيائه وملائكته عليهم السلام وكل ما أخبر تعالى أنه أوجبه وكتبه على نفسه وجعله حقاً لعباده فكل ذلك تفضل مجرد من الله عز وجل واختصاص مبتدأ لو لم ينعم به عز وجل لم يجب عليه شيء منه لا يقول غير هذا إلا مدخول الدين فاسد العقل.

قال أبو محمد: وهم يقرون أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم جميعهم السلام وصدقوا في هذا ثم نقضوا هذا الأصل بأصلهم هذا السخيف من قولهم أن من دخل الجنة بعد التعريض للبلاء فهو أفضل من ابتداء النعمة والتقريب فنحن على قولهم أفضل من الملائكة على جميعهم السلام وقد قالوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء فعلى هذا التقرير يجب أن يكون نحن أفضل من الملائكة بدرجة وأفضل من النبيين بدرجتين وهذا كفر مجرد وتناقض ظاهر وأما قولهم أننا لو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد والتحذر فإننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق حتى لو كان ما يقولون لما منع من ذلك أن يخلقوا في الجنة ثم يطلعوا منها فيروا النار ويعاينوا وحشتها وهولها وقبحها ونفار النفوس عنها كالذي يعرض لنا عند الاطلاع على الغير أن العميقة المظلمة وإن كنا قط لم نقع فيها ولا شاهدنا من وقع فيها بل ذلك كان يكون أبلغ في التحذير من وصفها دون رؤية لكن كما فعل بالملائكة وحور العين فيكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر والحمد والاغتباط بمكانهم واجتناب ما نهوا عنه خوف مفارقة ما قد حصلوا عليه ثم نقول لهم أيضاً قولوا هذا فهم بعد دخولهم الجنة أمباح لهم الكفر والشتم والضرب فيما بينهم أم محظور عليهم لزمهم تمادي التوعد والتحذير هنالك قلنا نكون لو اخترعنا فيها على الحال التي تكون فيها يوم القيامة ولا فرق وكان يكون أصلح لجميعنا بلا شك فإن قالوا قد سبقت الطاعة في الدنيا قيل لهم وكذلك كانت تسبق منهم في الجنة كالملائكة سواء بسواء وهم لا يقولون أن المعاصي والتضارب والتلاطم والتراكض والتشاتم مباح لهم في الجنة ولا يقولون هذا أحد فيحتاج إلى كسر هذا القول فإن لجؤوا إلى قول أبي الهذيل أن أهل الجنة مضطرون لا مختارون قيل لهم وكنا نكون فيها كذلك أيضاً كما نكون يوم القيامة فيها فهذا كان أصلح للجميع بلا شك وهذا ما لا انفكاك لهم منه.

قال أبو محمد: وأما قولهم أن الله علم أن بعضهم يكفر ولا بد فيجب عليه الخروج من الجنة قلنا لهم أيقدر الله على خلاف ما علم أم لا فإن قالوا نعم يقدر ولكن لا يفعل أقروا أنه فعل من ترك ابتداءنا في الجنة إمضاء لما سبق في علمه غير ما كان أصلح لنا بلا شك ورجعوا إلى الحق الذي هو قولنا أنه تعالى فعل ما سبق في علمه من تكليف ما لا يطاق ومن خلقه تعالى الكفر والظلم وإنعامه على من شاء وحده لا شريك له وتركوا قولهم في الأصلح وإن قالوا لا يقدر على غير ما علم أن يفعله جعلوه محيراً مضطراً عاجزاً متناهي القوة ضعيف القدرة محدثاً في أسوأ حالة منهم وهذا كفر وخلاف للقرآن ولإجماع المسلمين ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد: ونسألهم أي مصلحة للحشرات والكلاب والبق والدود في خلقها حشرات ولم يخلقها ناساً مكلفين معرضين لدخول الجنة فإن قالوا لو جعلنا ناساً لكفروا قيل لهم فقد جعل الكفار ناساً فكفروا فهلا نظر لهم كما نظر للدود والحشرات فجعلهم حشرات لئلا يكفروا فكان أصلح لهم على قولكم وهذا ما لا مخلص منه.

قال أبو محمد: ونسألهم فنقول لهم إذا قلتم أن الله تعالى لا يقدر على لطف لو أتى به الكفار لآمنوا إيماناً يستحقون معه الجنة لكنه قادر على أن لا يضطرهم إلى الإيمان أخبرونا عن إيمانكم تستحقون به الثواب هل يشوبه عندكم شك أم يمكن بوجه من الوجوه أن يكون عندكم باطلاً فإن قالوا نعم يشوبه شك ويمكن أن يكون باطلاً أقروا على أنفسهم بالكفر وكفونا مؤنتهم وإن قالوا لا يشوبه شك ولا يمكن البتة أن يكون باطلاً قلنا لهم هذا هو الاضطرار بعينه ليست الضرورة في العلم شيئاً غير هذا إنما هو معرفة لا يشوبها شك لا يمكن اختلاف ما عرف بها فهذا هو علم الضرورة نفسه وما عدا هذا فهو ظن وشك فإن قالوا أن الاضطرار ما علم بالحواس أو بأول العقل وما عداه فهو ما عرف بالاستدلال قلنا هذه دعوى فاسدة لأنها بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل وتقسيمنا هو الحق الذي يعرف ضرورة وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: ونسألهم أيما كان أصلح للعالم أن يكون برياً من السباع والأفاعي والدواب العادية أو أن يكون فيه كما هي مسلطة على الناس وعلى سائر الحيوان وعلى الأطفال فإن قالوا خلق الله الأفاعي والسباع كخلق الحفر والحرث ومزجرة للكفار.

قال أبو محمد: وهذا من ظريف الجنون ولقد ضل بخلقتها جموع من المخذولين ممن جرى مجرى المعتزلة في أن يتعقبوا على الله عز وجل فعله كالمنانية والمجوس اللذين جعلوا إلهاً خالقاً غير الحكيم العدل ثم نقول للمعتزلة إن كانت كما تقولون مصلحة فكان الاستكثار من المصلحة أصلح وأبلغ في الزجر والتحريف وكل هذه الدعاوي منهم حماقات ومكابرات بلا برهان ليست أجوبتهم فيها بأصح من أجوبة المنانية والمجوس وأصحاب التناسخ بل كلها جارية في ميدان واحد من أنها كلها دعاوى فاسدة بلا برهان ينقضها وكلها راجعة إلى أصل واحد وهو تعليل أفعال الله عز وجل الذي لا علة لها أصلاً والحكم عليه بمثل الحكم على خلقه فيم يحسن منه ويقبح تعالى الله عن ذلك.

قال أبو محمد: ويقال لأصحاب الأصلح خاصة ما معنى دعائكم في العصمة وأنتم تقولون أن الله تعالى قد عصم الكفار كما عصم المؤمنين فلم يعتصموا وما معنى دعائكم في الإعادة من الخذلان وفي الرغبة في التوفيق وأنتم تقولون أنه ليس عنده أفضل مما قد أعطاكموه ولا في قدرته زيادة على ما قد فعله بكم وأي معنى لدعائكم في التوبة وأنتم تقطعون على أنه لا يقدر على أن يعينكم في ذلك بمقدار شعرة زائدة على ما قد أعطاكموه فهل دعاؤكم في ذلك الإضلال وهزل وهزء كمن دعا إلى الله أن يجعله من بني آدم أو أن يجعل النبي نبياً والحجر حجراً وهل بين الأمرين فرق فإن قالوا أن الدعا عمل أمرنا الله تعالى به فقيل لهم إن أوامره تعالى من جملة أفعاله بلا شك وأفعاله عندكم تجري على ما يحسن في العقل ويقبح فيه في المعهود وفيما بيننا وعلى الحكمة عندكم وقد علمنا أنه لا يحسن في الشاهد بوجه من الوجوه أن يأمر أحداً يرغب إليه فيما ليس بيده ولا فيما قد أعطاه إياه وكلا هذين الوجهين عبث وسفه وهم مقرون بأجمعهم أن الله تعالى حكم بهذا وفعله وهو أمره لهم بالدعاء إليه أما فيما لا يوصف عندهم بالقدرة عليه وأما فيما قد أعطاهم إياه وهو عندهم عدل وحكمة فنقضوا أصلهم الفاسد بلا شك وأما نحن فإننا نقول أن الدعاء عمل أمرنا الله عز وجل به فيما يقدر عليه ثم إن شاء أعطانا ما سألناه وإن شاء منعنا إياه لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل.

قال أبو محمد: وإن في ابتداء الله عز وجل كتابه المنزل إلينا بقوله تعالى آمراً لنا أن نقوله راضياً منا أن نقوله: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " ثم ختمه تعالى كتابه آمراً لنا أن نقوله راضياً بقوله: " قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس " لا بين بيان في تكذيب القائلين بأن ليس عند الله تعالى أصلح مما فعل وإنه غير قادر على كف وسوسة الشيطان ولا على هدى الكفار هدى يستحقون به الثواب كما وعد المهتدين لأنه عز وجل نص على أنه هو المطلوب منه العون لنا والهدى على صراط من خصه بالنعمة عليه لا إلى الصراط من غضب عليه تعالى وضل ولولا أنه تعالى قادر على الهدى المذكور وإن عنده عنواناً على ذلك لا يؤتيه إلا من شاء دون من لم يشأ وإنه تعالى أنعم على قوم بالهدى ولم ينعم به على آخرين لما أمرنا أن نسأله من ذلك ما ليس بقدر عليه أو ما قد أعطاه إياه ونص تعال على أنه قادر على صرف وسوسة الشيطان فلولا أنه تعالى يصرفها عمن يشاء لما أمرنا عز وجل أن نستعيذ مما لا يقدر على الإعاذة منه أو مما قد أعاذنا بعد منه.

قال أبو محمد: ولا مخلص لهم من هذا أصلاً ثم نسألهم أي مصلحة للعصاة في أن جعل بعض حركاتهم وسكونها كبائر يستحقون عليها النار وبعض حركاتهم وسكونهم صغائر مغفورة ولقد كان أصلح من أن يجعلها كلها صغائر مغفورة فإن قالوا هذا أزجر عن المعاصي وأصلح قيل لهم فهلا إذ هو كما تقولون جعلها جميعها كبائر زاجرة فهو أبلغ في الزجر.

قال أبو محمد: وقد نص الله تعالى في القرآن آيات كثيرة لا يحتمل تأويلاً بتكذيب المعجزين لربهم تعالى وليس يمكنهم وجود أي آية ولا سنة يتعلقون بها أصلاً فمنها قوله تعالى: " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " أفلم يكن عنده أصلح من فتنة يضل بها بعض خلقه حاشا لله من هذا الكفر والتعجيز وقال تعالى حاكياً عن الذين أثنى عليهم من مؤمني الجن انهم قالوا: " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ".

قال أبو محمد: وصدقهم الله عز وجل في ذلك إذ لو أنكره لما أورده مثنياً عليهم بذلك وهذا في غاية البيان الذي قد هلك من خالفه وبطل به قول الضلال الملحدين القائلين أن الله تعالى أراد رشد فرعون وإبليس وأنه ليس عنده أصلح ولا يقدر لهما على هدى أصلاً وقال تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس " فليت شعري أي مصلحة لهم في أن يذرأهم لجهنم نعوذ بالله من هذه المصلحة وقال تعالى: " وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته " فصح أنه تعالى هو الذي يقي السيئات وأن الذي رحمه هو الذي وقاه السيئات لأن من لم يقه السيئات فلم يرحمه وبلا شك أن من وقاه السيئات فقد فعل به أصلح بمن لم يقه إياه هذا مع قوله تعالى: " ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً " ولا يشك من لدماغه أقل سلامة أو في وجهه من برد الحياء شيء في أن هذا كان أصلح بالكفار من إدخالهم النار بأن لا يؤتهم ذلك الهدى وإن كانوا كما يقولون من دخولهم الجنة بغير استحقاق وقال تعالى: " وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ " فليت شعري أين فعله تعالى بهؤلاء - نسأل الله أن يجعلنا منهم - من فعله بالذين قال فيهم أنه ختم على قلوبهم وزين لهم سوء أعمالهم وجعل صدورهم ضيقة حرجة إن من ساوى بين الأمرين وقال أن الله تعالى لم يعط هؤلاء إلا ما أعطى هؤلاء ولا أعطى من الهدى والاختصاص محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى والملائكة عليهم السلام إلا ما أعطى إبليس وفرعون وأبا جهل وأبا لهب والذي حاج إبراهيم في ربه واليهود والنصارى والمجوس والمتقيلين والشرط والبغائين والعواهر وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد بل سوى في التوفيق بين جميعهم ولم يقدر لهم على مزيد من الصلاح لقليل من الحياء عديم الدين وما جوابه إلا قوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " وقال عز وجل: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ".

قال أبو محمد: فأيما كان أصلح للكفار المخلدين في النار أن يكونوا مع المؤمنين أمة واحدة لا عذاب عليهم أم بعثة الرسل إليهم وهو عز وجل يدري أنهم لا يؤمنون فيكون ذلك سبباً إلى تخليدهم في جهنم وقال تعالى: " وأملي لهم أن كيدي متين " وقال تعالى: " وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ " وقال تعالى: " أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " وقال تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ".

قال أبو محمد: وهذا غاية البيان في أن الله عز وجل أراد بهم وفعل بهم ما فيه فساد أديانهم وهلاكهم الذي هو ضد الصلاح وإلا فأي مصلحة لهم في أن يستدرجوا إلى البلاد من حيث لا يعلمون وفي الإملاء لهم ليزدادوا إثماً ونص تعالى أن كل ذلك الذي فعله ليس مسارعة لهم في الخير فبطل قول هؤلاء الهلكى جملة والحمد لله رب العالمين وقال تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً فهل بعد هذا بيان عن الله عز وجل أراد هلاكهم ودمارهم ولم يرد صلاحهم فأمر مترفيها بأوامر خالفوها ففسقوا فدمروا تدميراً " فأيما كان أصلح لهم أن لا يؤمروا فيسلموا أو أن يؤمروا وهو تعالى يدري أنهم لا يأتمرون فيدخلون النار فإن قالوا فاحملوا قوله تعالى أمرنا مترفيها على ظاهره قلنا نعم هكذا نقول ولم يقل تعالى أنه أمرهم بالفسق وإنما قال تعالى أمرناهم فقط وقد نص تعالى على انه لا يأمر بالفحشاء فصح قولنا أيضاً وقال عز وجل: " وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ " فنص تعالى على أن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لو تولوا لا يدل قوماً غيرهم لا يكونون أمثالهم وبالضرورة نعلم انه عز وجل إنما أراد خيراً منهم فقد صح أنه عز وجل قادر على أن يخلق أصلح منهم وقال تعالى: " إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم " وفي هذا كفاية وقال تعالى: " عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن " فهل في البيان في أن الله تعالى قادر على أن يفعل أصلح مما فعل وإن عنده تعالى أصلح مما أعطى خلقه أبين أو أوضح أو أصح من إخباره تعالى أنه قادر على أن يبدل نبيه الذي هو أحب الناس إليه خيراً من الأزواج اللواتي أعطاه واللواتي هن خير الناس بعد الأنبياء عليهم السلام.

قال أبو محمد: فبطل قول البقر الشاذة أصحاب الأصلح في أنه تعالى لا يقدر على أصلح مما فعل بعباده.

قال أبو محمد: نسأل الله العافية مما ابتلاهم به ونسأله الهدى الذي حرمهم إياه وكان قادراً قال أبو محمد: كل من منع قدرة الله عز وجل عن شيء مما ذكرنا فلا شك في كفره لأنه عجز ربه تعالى وخالف جميع أهل الإسلام.

قال أبو محمد: وقالوا إذا كان عنده أصلح مما فعل بنا ولم يؤتنا إياه وليس بخيلاً وخلق أفعال عباده وعذبهم عليها ولم يكن ظالماً فلا تنكروا على من قال أنه جسم ولا يشبه خلقه وأنه يقول غير الحق ولا يكون كاذباً. قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه تعالى لم يقل أنه جسم ولو قاله لقلناه ولم يكن ذلك تشبيهاً له بخلقه ولم يقل تعالى أن يقول غير الحق بل قد أبطل ذلك وقطع بأن قوله الحق فمن قال على الله ما لم يقله فهو ملحد كاذب على الله عز وجل وقد قال تعالى أنه خلق كل شيء وخلقنا وما نعمل وأنه لو شاء لهدى كل كافر وأنه غير ظالم ولا بخيل ولا ممسك فقلنا ما قال من كل ذلك ولم نقل ما لم يقل وقلنا ما قام به البرهان العقلي من أنه تعالى خالق كل موجود دونه وأنه تعالى قادر على كل ما يسأل عنه وأنه لا يوصف بشيء من صفات العباد لا ظلم ولا بخل ولا غير ذلك ولم نقل ما قد قام البرهان العقلي على أنه باطل من أنه جسم أو أنه يقول غير الحق وقال بعض أصحاب الأصلح وهو ابن بدد الغزال تلميذ محمد بن شبيب تلميذ النظام بلى إن عند الله ألطافاً لو أتى بها الكفار لآمنوا إيماناً يستحقون معه الثواب إلا أن الثواب قال أبو محمد: وهذا تمويه ضعيف لأننا إنما سألناهم هل يقدر الله تعالى على ألطاف إذا أتى بها أهل الكفر آمنوا إيماناً يستحقون به مثل هذا الثواب الذي يؤتيهم على الإيمان اليوم أو أكثر من ذلك الثواب فلا بد لهم من ترك قوله أو يعجز ربه تعالى.

قال أبو محمد: ونسأل جميع أصحاب الأصلح فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن كل من شاهد براهين الأنبياء عليهم السلام ممن لم يؤمن به وصحت عنده بنقل التواتر هل صح ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها أنها شواهد موجبة صدق نبوتهم أم لم يصح ذلك عندهم إلا بغالب الظن وبصفة أنها مما يمكن أن يكون تخييلاً أو سحراً أو نقلاً مدخولاً ولا بد من أحد الوجهين فإن قالوا بل صح ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها وثبت ذلك في عقولهم بلا شك قلنا لهم هذا هو الاضطرار نفسه الذي لا اضطرار في العالم غيره وهذه صفة كل من ثبت عنده شيء ثباتاً متيقناً كمن يتيقن بالخبر الموجب للعلم موت فلان وكون صفين والجمل وكسائر ما لم يشاهد المرء بحواسه فالكل على هذا مضطرون إلى الإيمان لا مختارون له وإن قالوا لم يصح عندهم شيء من ذلك هذه الصحة قلنا لهم فما قامت عليهم حجة النبوة قط ولا صحت لله تعالى عليهم حجة ومن كان هكذا فاختياره للإيمان إنما هو استحباب وتقليد واتباع لما مالت إليه نفسه وغلب في ظنه فقط وفي هذا بطلان جميع الشرائع وسقوط حجة الله تعالى

الكلام في هل لله تعالى نعمة على الكفار أم لا

عدل

قال أبو محمد: اختلف المتكلمون في هذه المسألة فقالت المعتزلة أن نعم الله تعالى على الكفار في الدين والدنيا كنعمه على المؤمنين ولا فرق وهذا قول فاسد قد نقضناه آنفاً ولله الحمد وقالت طائفة أخرى إن الله تعالى لا نعمة له على كافر أصلاً لا في دين ولا دنيا وقالت طائفة له تعالى عليهم نعم في الدنيا فأم في الدين فلا نعمة له عليهم فيه أصلاً.

قال أبو محمد: قال الله عز وجل: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " قال أبو محمد: فوجدنا الله عز وجل يقول: " الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " وقال تعالى: " الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم ".

قال أبو محمد: فهذا عموم بالخطاب بإنعام الله تعالى على كل من خلق الله تعالى وعموم لمن يشكر من الناس والكفار من جملة ما خلق الله تعالى بلا شك وأما أهل الإسلام فكلهم شاكر لله تعالى بالإقرار به ثم يتفاضلون في الشكر وليس أحد من الخلق يبلغ كل ما عليه من شكر الله تعالى فصح أن نعم الله تعالى في الدنيا على الكفار كهي على المؤمنين وربما أكثر في بعضهم في بعض الأوقات قال تعالى: " بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وهذا نص جلي على نعم الله تعالى على الكفار وأنهم بدلوها كفراً فلا يحل لأحد أن يعارض كلام ربه تعالى برأيه الفاسد وأما نعمة الله في الدين فإن الله تعالى أرسل إليهم الرسل هادين لهم إلى ما يرضى الله تعالى وهذه نعمة عامة بلا شك فلما كفروا وجحدوا نعم الله تعالى في ذلك أعقبهم البلاء وزوال النعمة كما قال عز وجل: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وبالله تعالى نتأيد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد

عدل

قال أبو محمد: اختلف الناس في ماهية الإيمان فذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط وإن أظهر اليهودية والنصرانية وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز الجهم بن صفوان وأبي الحسن الأشعري البصري و أصحابهما وذهب قوم إلى أن الإيمان هو إقرار باللسان بالله تعالى وإن اعتقد الكفر بقلبه فإذا فعل ذلك فهو مؤمن من أهل الجنة وهذا هو قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه وذهب قوم إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار باللسان معاً فإذا عرف المرء الدين بقلبه وأقر بلسانه فهو مسلم كامل الإيمان والإسلام وإن الأعمال لا تسمى إيماناً ولكنها شرائع الإيمان وهذا قول أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه وجماعة من الفقهاء وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح وأن كل طاعة وعمل خير فرضاً كان أو نافلة فهي إيمان وكلما ازداد الإنسان خيراً ازداد إيمانه وكلما عصى نقص إيمانه وقال محمد بن زياد الحريري الكوفي من آمن بالله عز وجل وكذب برسول الله فليس مؤمناً على الإطلاق ولا كافراً على الإطلاق ولكنه مؤمن كافراً معاً لأنه آمن بالله تعالى فهو مؤمن وكافر بالرسول فهو كافر.

قال أبو محمد: فحجة الجهمية والكرامية والأشعرية ومن ذهب مذهب أبي حنيفة حجة واحدة وهي أنهم قالوا إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين وبلغة العرب خاطبنا الله تعالى ورسول الله والإيمان في اللغة هو التصديق فقط والعمل بالجوارح لا يسمى في اللغة تصديقاً فليس إيماناً قالوا والإيمان هو التوحيد والأعمال لا تسمى توحيداً فليست إيماناً قالوا ولو كانت الأعمال توحيداً وإيماناً لكان من ضيع شيئاً منها قد ضيع الإيمان وفارق الإيمان فوجب أن لا يكون مؤمناً قالوا وهذه الحجة إنما تلزم أصحاب الحديث خاصة لا تلزم الخوارج ولا المعتزلة لأنهم يقولون بذهاب الإيمان جملة بإضاعة الأعمال.

قال أبو محمد: ما لهم حجة غير ما ذكرنا وكل ما ذكروا فلا حجة لهم فيه أصلاً لما نذكره إن شاء الله عز وجل.

قال أبو محمد: إن الإيمان هو التصديق في اللغة فهذا حجة على الأشعرية والجهمية والكرامية مبطلة لأقوالهم إبطالاً تاماً كافياً لا يحتاج معه إلى غيره وذلك قولهم أن الإيمان في اللغة التي بها نزل القرآن هو التصديق فليس كما قالوا على الإطلاق وما سمي فقط التصديق بالقلب دون التصديق باللسان إيماناً في لغة العرب وما قال قط عربي أن من صدق شيئاً قلبه فأعلن التكذيب به بقلبه وبلسانه فإنه يسمى مصدقاً به أصلاً ولا مؤمناً به البتة وكذلك ما سمي قط التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلاً على الإطلاق ولا يسمى تصديقاً في لغة العرب ولا إيماناً مطلقاً إلا من صدق بالشيء بقلبه ولسانه معاً فبطل تعلق الجهمية والأشعرية باللغة جملة ثم نقول لمن ذهب مذهب أبي حنيفة في أن الإيمان إنما هو التصديق باللسان والقلب معاً وتعلق في ذلك باللغة إن تعلقكم باللغة لا حجة لكم فيه أصلاً لأن اللغة يجب فيها ضرورة أن كل من صدق بشيء فإنه مؤمن به وأنتم والأشعرية والجهمية والكرامية كلكم توقعون اسم الإيمان ولا تطلقونه إلا على صفة محدودة دون سائر الصفات وهي من صدق بالله عز وجل وبرسوله وبكل ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة والزكاة وغير ذلك مما قد أجمعت الأمة على انه لا يكون مؤمناً من لم يصدق به وهذا خلاف اللغة مجرد فإن قالوا أن الشريعة أوجبت علينا هذا قلنا صدقتم فلا تتعلقوا باللغة حيث جاءت الشريعة بنقل اسم منها عن موضوعه في اللغة كما فعلتم آنفاً سواء بسواء ولا فرق.

قال أبو محمد: ولو كان ما قالوه صحيحاً لوجب أن يطلق اسم الإيمان لكل من صدق بشيء ما ولكان من صدق بإلاهية الحلاج وبإلاهية المسيح وبإلاهية الأوثان مؤمنين لأنهم مصدقون بما صدقوا به وهذا لا يقوله أحد مما ينتمي إلى الإسلام بل قائله كافر عند جميعهم ونص القرآن بكفر من قال بهذا قال تعالى: " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً " فهذا الله عز وجل شهد بأن قوماً يؤمنون ببعض الرسل وبالله تعالى ويكفرون ببعض فلم يجز مع ذلك أن يطلق عليهم اسم قال أبو محمد: وقول محمد بن زياد الحريري لازم لهذه الطوائف كلها لا ينفكون عنه على مقتضى اللغة وموجبها وهو قول لم يختلف مسلمان في أنه كفر مجرد وأنه خلاف للقرآن كما ذكرنا.

قال أبو محمد: فبطل تعلق هذه الطوائف باللغة جملة وأما قولهم أنه لو كان العمل يسمى إيماناً لكان من ضيع منه شيئاً فقد أضاع الإيمان ووجب أن لا يكون مؤمناً فإني قلت لبعضهم وقد ألزمني هذا الإلزام كلاماً تفسيره وبسطه إننا لا نسمي في الشريعة اسماً إلا بأن يأمرنا الله تعالى أن نسميه أو يبيح لنا الله بالنص أن نسميه لأننا لا ندري مراد الله عز وجل منا إلا بوحي وارد من عنده علينا ومع هذا فإن الله عز وجل يقول منكراً لمن سمي في الشريعة شيئاً بغير إذنه عز وجل: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى " وقال تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " فصح أنه لا تسمية مباحة لملك ولا لأنس دون الله تعالى ومن خالف هذا فقد افترى على الله عز وجل الكذب وخالف القرآن فنحن لا نسمي مؤمناً إلا من سماه الله مؤمناً ولا نسقط الإيمان بعد وجوبه إلا عمن أسقطه الله عز وجل عنه ووجدنا بعض الأعمال التي سماها الله عز وجل إيماناً لم يسقط الله عز وجل اسم الإيمان عن تاركها فلم يجز لنا أن نسقطه عنه لذلك لكن نقول انه ضيع بعض الإيمان ولم يضيع كله كما جاء النص على ما نبين إن شاء الله تعالى.

قال أبو محمد: فإذا سقط كل ما موهت به هذه الطوائف كلها ولم يبق لهم حجة أصلاً فلنقل بعون الله عز وجل وتأييده في بسط حجة القول الصحيح الذي هو قول جمهور أهل الإسلام ومذهب الجماعة وأهل السنة وأصحاب الآثار من أن الإيمان عقد وقول وعمل وفي بسط ما أجملناه مما نقدنا به قول المرجئة وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: أصل الإيمان كما قلنا في اللغة التصديق بالقلب وباللسان معاً بأي شيء صدق المصدق لا شيء دون شيء البتة إلا أن الله عز وجل على لسان رسول الله أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة لا على العقد لكل شيء وأوقعها أيضاً تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها وأوقعها أيضاً على أعمال الجوارح بكل ما هو طاعة له تعالى فقط فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به وهو تعالى خالق اللغة وأهلها فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على ما يشاء ولا عجب أعجب ممن أن وجد لامرئ القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أو الطرماح أو لأعرابي أسدي أو سلمي أو تميمي أو من سائر أبناء العرب بوال على عقبيه لفظاً في شعر أو نثر جعله في اللغة وقطع به ولم يعترض فيه ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاماً لم يلتفت إليه ولا جعله حجة وجعل يصرفه عن وجهه ويحرفه عن مواضعه ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه وإذا وجد لرسول الله كلاما فعل به مثل ذلك وتالله لقد كان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قبل أن يكرمه الله تعالى بالنبوة وأيام كونه فتى بمكة بلا شك عند كل ذي مسكة من عقل أعلم بلغة قومه وأفصح فيها وأولى بأن يكون ما نطق به من ذلك حجة من كل خندفي وقيسي وربيعي وإيادي وتميمي وقضاعي وحميري فكيف بعد أن اختصه الله تعالى للنذارة واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه وأجرى على لسانه كلامه وضمن حفظه وحفظ ما يأتي به فأي ضلال أضل ممن يسمع لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب يقول: فعلت فروع الأيهقان وأطفلت لجلهتين ظباؤها ونعامها فجعله حجة وأبو زياد الكلابي يقول ما عرفت العرب قط الأيهقان وإنما هو اللهق بيت معروف ويسمع قول بن أحمر كناه نقلق عن مأموسة الحجر وعلماء اللغة يقولون أنه لم يعرف قط لأحد من العرب أنه سمى النار مأموسة إلا ابن أحمر فيجعله حجة ويجيز قول من قال من الأعراب هذا حجر من خرب وسائر الشواذ عن معهود اللغة مما يكثر لو تكلفنا ذكره ونحتج بكل ذلك ثم يمتنع من إيقاع اسم الإيمان على ما أوقعه عليه الله تعالى ورسوله محمد بن عبد الله القرشي المسترضع في بني سعد بن بكر ويكابر في ذلك بكل باطل وبكل حماقة وبكل دفع للمشاهدة ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد: فمن الأيات التي أوقع الله تعالى فيها اسم الإيمان على أعمال الديانة قوله عز وجل: " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ".

قال أبو محمد: والتصديق بالشيء أي شيء كان لا يمكن البتة أن يقع فيه زيادة ولا نقص وكذلك التصديق بالتوحيد والنبوة لا يمكن البتة أن يكون فيه زيادة ولا نقص لأنه لا يخلو كل معتقد بقلبه أو مقر بلسانه بأي شيء أقر أو أي شيء اعتقد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها أما أن يصدق بما اعتقد وأقر وأما أن يكذب بما اعتقد وأما منزلة بينهما فهي الشك فمن المحال أن يكون إنساناً مكذباً بما يصدق به ومن المحال أن يشك أحد فيما يصدق به فلم يبق إلا أنه مصدق بما اعتقد بلا شك ولا يجوز أن يكون تصديق واحد أكثر من تصديق آخر لأن أحد التصديقين إذا دخلته داخلة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه قد خرج عن التصديق ولا بد وحصل في الشك في أن معنى التصديق إنما هو أن يقطع ويوقن بصحة وجود ما صدق به ولا سبيل إلى التفاضل في هذه الصفة فإن لم يقطع ولا أيقن بصحته فقد شك فيه فليس مصدقاً به وإن لم يكن مصدقاً به فليس مؤمناً به فصح أن الزيادة التي ذكر الله عز وجل في الإيمان ليست في التصديق أصلاً ولا في الاعتقاد البتة فهي ضرورة في غير التصديق وليس ها هنا إلا الأعمال فصح يقيناً أن أعمال البر إيمان بنص القرآن وكذلك قول الله عز وجل: " فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً " وقوله تعالى: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً " فإن قال قائل معنى زيادة الإيمان ها هنا إنما هو لما نزلت تلك الآية صدقوا بها فزادهم بنزولها إيماناً تصديقاً بشيء وارد لم يكن عندهم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا محال لأنه قد اعتقد المسلمون في أول إسلامهم أنهم مصدقون بكل ما يأتيهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام في المستأنف فلا يزدهم نزول الآية تصديقاً لم يكونوا اعتقدوه فصح أن الإيمان الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل بها الذي لم يكونوا عملوه ولا عرفوه ولا صدقوا به قط ولا كان جائزاً لهم أن يعتقدوه ويعملوا به بل كان فرضاً عليهم تركه والتكذيب بوجوبه والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا في ما سواه ولا عدد للاعتقاد ولا كمية وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال فقط فإن قالوا أن تلاوتهم لها زيادة إيمان قلنا صدقتم وهذا هو قولنا والتلاوة عمل بجارحة اللسان ليس إقراراً بالمعتقد ولكنه من نوع الذكر بالتسبيح والتهليل وقال تعالى: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " ولم يزل أهل الإسلام قبل الجهمية والأشعرية والكرامية وسائر المرجئة مجمعين على أنه تعالى إنما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالصلاة إلى الكعبة وقال عز وجل: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " وقال عز وجل: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة " فنص تعالى على أن عبادة الله تعالى في حال إخلاص الدين له تعالى وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة الواردتين في الشريعة كله دين القيمة وقال تعالى: " إن الدين عند الله الإسلام " وقال تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " فنص تعالى أن الدين هو الإسلام ونص قبل على أن العبادات كلها والصلاة والزكاة هي الدين فأنتج ذلك يقيناً أن العبادات هي الدين والدين هو الإسلام فالعبادات هن الإسلام وقال عز وجل: " يمنون عليك أن أسلموا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " وفال تعالى: " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " فهذا نص جلي على أن الإسلام هو الإيمان وقد وجب قبل بما ذكرنا أن أعمال البر كلها هي الإسلام والإسلام هو الإيمان فأعمال البر كلها إيمان وهذا برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " فنص تعالى وأقسم بنفسه أن لا يكون مؤمناً إلا بتحكيم النبي في كل ما عن ثم يسلم بقلبه ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى فصح أن التحكيم شيء غير التسليم بالقلب وأنه هو الإيمان الذي لا إيمان لمن لم يأت به فصح يقيناً أن الإيمان اسم واقع على الأعمال في كل ما في الشريعة وقال تعالى: " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً فصح أن لا يكون التصديق مطلقاً إيماناً إلا حتى يستضيف إليه ما نص الله تعالى عليه ومما يتبين أن الكفر يكون بالكلام قول الله عز وجل: " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً " إلى قوله " يا ليتني لم أشرك بربي أحداً " فأثبت الله الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى إذ شك في البعث وقال تعالى: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " فصح أن من آمن ببعض الدين وكفر بشيء منه فهو كافر مع صحة تصديقه لما صدق من ذلك.

قال أبو محمد: وأكثر الأسماء الشرعية فإنها موضوعة من عند الله تعالى على مسميات لم يعرفها العرب قط هذا أمر لا يجهله أحد من أهل الأرض ممن يدري اللغة العربية ويدري الأسماء الشرعية كالصلاة فإن موضوع هذه اللفظة في لغة العرب الدعاء فقط فأوقعها الله عز وجل على حركات محدودة معدودة من قيام موصوف إلى جهة موصوفة لا تتعدى وركوع كذلك وسجود كذلك وقعود كذلك وقراءة وذكر كذلك في أوقات محدودة وبطهارة محدودة وبلباس محدود متى لم تكن على ذلك بطلت ولم تكن صلاة وما عرفت العرب قط شيئاً من هذا كله فضلاً على أن تسميه حتى أتانا بهذا كله رسول الله وقد قال بعضهم أن في الصلاة دعاء فلم يخرج الاسم بذلك عن موضوعه في اللغة.

قال أبو محمد: وهذا باطل لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من أتى بعدد الركعات وقرأ أم القرآن وقرآناً معها في كل ركعة وأتى بعد الركوع والسجود والجلوس والقيام والتشهد وصلى على النبي وسلم بتسليمتين فقد صلى كما أمر وإن لم يدع بشيء أصلاً وفي الفقهاء من يقول أن من صلى خلف الإمام فلم يقرأ أصلاً ولا تشهد ولا دعا أصلاً فقد صلى كما أمر وأيضاً فإن ذلك الدعاء في الصلاة لا يختلف أحد من الأمة في أنه ليس شيئاً ولا يسمى صلاة أصلاً عند أحد من أهل الإسلام فعلى كل قد أوقع الله عز وجل اسم الصلاة على أعمال غير الدعاء ولا بد وعلى دعاء محدود لم تعرفه العرب قط ولا عرفت إيقاع الصلاة على دعاء بعينه دون سائر الدعاء ومنها الزكاة وهي موضوع في اللغة للنماء والزيادة فأوقعها الله تعالى إعطاء مال محدود معدود من جملة أموال ما موصوفة محدودة معدودة معينة دون سائر الأموال لقوم محدودين في أوقات محدودة فإن هو تعدى شيئاً من ذلك لم يقع على فعله ذلك اسم زكاة ولم تعرف العرب قط هذه الصفات والصيام في لغة العرب الوقوف تقول صام النهار إذا طال حتى صار كأنه واقف بطوله قال امرئ القيس: إذا صام النهار وهجرا وقال آخر وهو النابغة الذبياني: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما فأوقع الله تعالى اسم الصيام على الامتناع من الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء من وقت محدود تبين الفجر الثاني إلى غروب الشمس في أوقات من السنة محدودة فإن تعدى ذلك لم يسم صياماً وهذا أمر لم تعرفه العرب قط فظهر فساد قول من قال أن الأسماء لا تنقل في الشريعة عن موضعها في اللغة وصح أن قولهم هذا مجاهرة سمجة قبيحة.

قال أبو محمد: فإذا قد وضح وجود الزيادة في الإيمان بخلاف قول من قال أنه التصديق فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورة ولا بد لأن معنى الزيادة إنما هو عدد مضاف إلى عدد وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقص عند عدم الزيادة فيه وقد جاء النص بذكر النقص وهو قول رسول الله المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن " قلن يا رسول الله وما نقصان ديننا قال عليه السلام أليس تقيم المرأة العدد من الأيام والليالي لا تصوم ولا تصلي فهذا نقصان دينها.

قال أبو محمد: ولو نقص من التصديق شيء لبطل عن أن يكون تصديقاً لأن التصديق لا يتبعض أصلاً ولصار شكاً وبالله تعالى التوفيق وهم مقرون بأن امرأ لو لم يصدق بآية من القرآن أو بسورة منه وصدق بسائره لبطل إيمانه فصح أن التصديق لا يتبعض أصلاً.

قال أبو محمد: وقد نص الله عز وجل على أن اليهود يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم وأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وقال تعالى: " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " واخبر تعالى عن الكفار فقال: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " فأخبر تعالى أنهم يعرفون صدقه ولا يكذبونه وهم اليهود والنصارى وهم كفار بلا خلاف من أحد من الأمة ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحد من الأمة في كفره وخروجه عن الإسلام ونص تعالى عن إبليس أنه عارف بالله تعالى وبملائكته وبرسله وبالبعث وأنه قال: " رب فأنظرني إلى يوم يبعثون " وقال: " قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ " وقال: " خلقتني من نار وخلقته من طين " وكيف لا يكون مصدقاً بكل ذلك وهو قد شاهد ابتداء خلق الله تعالى لآدم وخاطبه الله تعالى خطاباً كثيرا وسأله ما منعك أن تسجد وأمره بالخروج من الجنة وأخبره أنه منظر إلى يوم الدين وأنه ممنوع من إغواء من سبقت له الهداية وهو مع ذلك كله كافر بلا خلاف أما بقوله عن آدم أنا خير منه وأما بامتناعه للسجود لا يشك أحد في ذلك ولو كان الإيمان هو بالتصديق والإقرار فقط لكان جميع المخلدين في النار من اليهود والنصارى وسائر الكفار مؤمنين لأنهم كلهم مصدقون بكل ما كذبوا به في الدنيا مقرون بكل ذلك ولكان إبليس واليهود والنصارى في الدنيا مؤمنين ضرورة وهذا كفر مجرد ممن أجازه وإنما كفر أهل النار بمنعهم من الأعمال قال تعالى: " ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ".

قال أبو محمد: فلجأ هؤلاء المخاذيل إلى أن قالوا إن اليهود والنصارى لم يعرفوا قط أن محمداً رسول الله ومعنى قول الله تعالى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أي أنهم يميزون صورته ويعرفون أن هذا الرجل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي فقط وأن معنى قوله تعالى يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل إنما هو انهم يجدون سواداً في بياض لا يدرون ما هو ولا يفهمون معناه وإن إبليس لم يقل شيئاً مما ذكر الله عز وجل عنه انه قال مجداً بل قاله هاذلاً وقال هؤلاء أيضاً أنه ليس على ظهر الأرض ولا كان قط كافر يدري أن الله حق وأن فرعون قط لم يتبين له أن موسى نبي بالآيات التي عمل.

قال أبو محمد: وقالوا إذا كان الكافر يصدق أن الله حق والتصديق إيمان في اللغة فهو مؤمن إذا أوفيه إيمان ليس به مؤمناً وكلا القولين محال.

قال أبو محمد: هذه نصوص أقوالهم التي رأيناها في كتبهم وسمعناها فهم وكان مما احتجوا به لهذا الكفر المجرد أن قالوا أن الله عز وجل سمى كل من ذكرنا كفاراً ومشركين فدل ذلك على أنه علم أن في قلوبهم كفراً وشركاً وجحداً وقال هؤلاء أن شتم الله عز وجل وشتم رسول الله ليس كفراً لكنه دليل على أن في قلبه كفراً.

قال أبو محمد: وأما قولهم في أخبار الله تعالى عن اليهود أنهم يعرفون رسول الله كما يعرفون أبناءهم وعن اليهود والنصارى أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل فباطل بحت ومجاهرة لا حياء معها لأنه لو كان كما ذكروا لما كان في ذلك حجة لله تعالى عليهم وأي معنى أو أي فائدة في أن يجيزوا صورته ويعرفوا انه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقط أو في أن يجدوا كتابا لا يفقهون معناه فكيف ونص الآية نفسها مكذبة لهم لأنه تعالى يقول الذين آتيناهم الكتابة يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقاً منهم يكتمون الحق وهم يعلمون فنص تعالى أنهم يعلمون الحق في نبوته وقال في الآية الأخرى: " يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " وإنما أورد تعالى معرفتهم لرسول الله محتجاً عليهم بذلك لا أنه أتى من ذلك بكلام لا فائدة فيه وأما قولهم في إبليس فكلام داخل في الاستخفاف بالله عز وجل وبالقرآن لا وجه له غير هذا إذ من المحال الممتنع في العقل وفي الإمكان غاية الامتناع أن يكون إبليس يوافق في هزله عين الحقيقة في الله تعالى كرم آدم عليه السلام عليه وأنه تعالى أمره بالسجود فامتنع وفي أن الله تعالى خلق آدم من طين وخلقه من نار وفي أخباره آدم أن الله تعالى نهاه عن الشجرة وفي دخوله الجنة وخروجه عنها إذ أخرجه الله تعالى وفي سؤاله الله تعالى النظرة وفي ذكره يوم يبعث العباد وفي أخباره أن الله تعالى أغواه وفي تهديده ذرية آدم قبل أن يكونوا وقد شاهد الملائكة والجنة وابتداء خلق آدم ولا سبيل إلى موافقة هازل معنيين صحيحين لا يعلمها فكيف بهذه الأمور العظيمة وأخرى أن الله تعالى حاشا له من أن يجب هازلاً بما يقتضيه معنى هزله فإنه تعالى أمره بالسجود ثم سأله عما منعه من السجود ثم أجابه إلى النظرة التي سأل ثم أخرجه عن الجنة وأخبره أنه يعصم منه من شاء من ذرية آدم وهذه كلها معان من دافعها خرج عن الإسلام لتكذيبه القرآن وفارق المعقول لتجويزه هذه المحالات ولحق بالمجانين الوقحاء وأما قولهم أن أخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليلاً على أن في قلوبهم كفراً وأن شتم الله تعالى ليس كفر ولكنه دليل على أن في القلب كفراً وإن كان كافراً لم يعرف الله تعالى قط فهذه منهم دعاوي كاذبة مفتراة لا دليل لهم عليها ولا برهان لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من حجة عقل أصلاً ولا من إجماع ولا من قياس ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم ابن صفوان وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور فسقط قولهم هذا من قرب ولله الحمد رب العالمين فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول والحس والمشاهدة الضرورية فأما القرآن فإن الله عز وجل يقول: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله " وقال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " فأخبر تعالى بأنهم يصدقون بالله تعالى وهم مع ذلك مشركون قال تعالى: " وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ".

قال أبو محمد: هذه شهادة من الله مكذبة بقول هؤلاء الضلال لا يردها مسلم أصلاً.

قال أبو محمد: وبلغنا عن بعضهم انه قال في قول الله تعالى: " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " إن هذا إنكار من الله تعالى لصحة معرفتهم بنبوة رسول الله قال وذلك لأن الرجال لا يعرفون صحة أبنائهم على الحقيقة وإنما هو ظن منهم. قال أبو محمد: وهذا كفر وتحريف للكلم عن مواضعه ويرد ما شئت منه.

قال أبو محمد: فأول ذلك أن هذا الخطاب من الله تعالى عموم للرجال و النساء من الذين أوتوا الكتاب لا يجوز أن يخص به الرجال دون النساء فيكون من فعل ذلك مفترياً على الله تعالى وبيقين يدري كل مسلم أن رسول الله بعث إلى النساء كما بعث إلى الرجال والخطاب بلفظ الجمع المذكر يدخل فيه بلا خلاف من أهل اللغة النساء والرجال وقد علمنا أن النساء يعرفن أبناءهن على الحقيقة بيقين والوجه الثاني هو أن الله تعالى لم يقل كما يعرفون من خلقنا من نطفتهم فكان يسوغ لهذا الجاهل حينئذ هذا التمويه البارد باستكراه أيضاً وإنما قال تعالى كما يعرفون أبناءهم فأضاف تعالى البنوة إليهم فمن لم يقل أنهم أبناءهم بعد أن جعلهم الله أبناءهم فقد كذب الله تعالى وقد علمنا أنه ليس كل من خلق من نطفة رجل يكون ابنه فولد الزنا مخلوق من نطفة الإنسان ليس هو أباه في حكم الديانة أصلاً وإنما أبناؤنا من جعلهم الله أبناؤنا فقط كما أن الله تعالى جعل أزواج رسول الله أمهات المؤمنين منهن أمهاتنا وإن لم يلدننا ونحن أبناءهن وإن لم نخرج من بطونهن فمن أنكر هذا فنحن نصدقه لأنه حينئذ ليس مؤمناً فلسن أمهاته ولا هو ابن لهن والوجه الثالث هو أن الله تعالى إنما أورد الآية مبكتاً للذين أوتوا الكتاب لا معتذراً عنه لكن مخبراً بأنهم يعرفون صحة نبوة النبي بآياته وبما وجدوا في التوراة والإنجيل معرفة قاطعة لا شك فيها كما يعرفون أبناءهم ثم أتبع ذلك تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم عالمون به فبطل هذر هذا الجاهل المخذول والحمد لله رب العالمين وقال عز وجل: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " فنص تعالى على أن الرشد قد تبين من الغي عموماً وقال تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى " وقال تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " وهذا نص جلي من خالفه كفر في أن الكفار قد تبين لهم الحق والهدى في التوحيد والنبوة وقد تبين له الحق فبيقين يدري أن كل ذي حس سليم مصدق بلا شك بقلبه وقال تعالى: " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ".

قال أبو محمد: وهذا أيضاً نص جلي لا يحتمل تأويلاً على أن الكفار جحدوا بألسنتهم الآيات التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واستيقنوا بقلوبهم أنها حق ولم يجحدوا قط أنها كانت وإنما جحدوا أنها من عند الله فصح أن الذي استيقنوا منها هو الذي جحدوا وهذا يبطل قول من قال من هذه الطائفة أنهم إنما استيقنوا كونها زهي عندهم حيل لا حقائق إذ لو كان ذلك لكان هذا القول من الله تعالى كذباً تعالى الله عن ذلك لأنهم لم يجحدوا كونها وإنما جحدوا أنها من عند الله وهذا الذي جحدوا هو الذي استيقنوا بنص الآية وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام انه قال لفرعون: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر " فمن قال أن فرعون لم يعلم أن الله تعالى حق ولا علم أن معجزات موسى حق من عند الله تعالى فقد كذب ربه تعالى وهذا كفر مجرد وقد شغب بعضهم بأن هذه الآية قرأت لقد علمت بضم التاء.

قال أبو محمد: وكلا القراءتين حق من عند الله تعالى لا يجوز أن يرد منهما شيء فنعم موسى عليه السلام علم ذلك وفرعون علم ذلك فهذه نصوص القرآن وأما من طريق المعقول والمشاهدة والنظر فإنا نقول لهم هل قامت حجة الله تعالى على الكفار كما قامت على المؤمنين بتبين براهينه عز وجل لهم أم لم تقم حجة لله تعالى عليهم قط إذ لم يتبين الحق قط لكافر فإن قالوا أن حجة الله تعالى لم تقم قط على كافر إذ لم يتبين الحق للكفار كفروا بلا خلاف من أحد وعذروا الكفار وخالفوا الإجماع وإن أقروا أن حجة الله تعالى قد قامت على الكفار بأن الحق تبين لهم صدقوا ورجعوا إلى الحق وإلى قول أهل الإسلام وبرهان آخر أن كل أحد مذ عقلنا لم نزل نشاهد اليهود والنصارى فما سمعهم أحد إلا مقرين بالله تعالى وبنبوة موسى عليه السلام وأن الله تعالى حرم على اليهود العمل في السبت والتحوم فمن الباطل أن يتواطؤوا كلهم في شرق الأرض و غربها على إعلان ما يعتقدون خلافه بلا سبب داع إلى ذلك وبرهان آخر وهو أننا قد شاهدنا من النصارى واليهود طوائف لا يحصى عددهم أسلموا وحسن إسلامهم وكلهم أولهم عن آخرهم يخبر من استخبره متى بقوا أنهم في إسلامهم يعرفون أن الله تعالى حق وأن نبوة موسى وهارون حق كما كانوا يعرفون ذلك في أيام كفرهم ولا فرق ومن أنكر هذا قد كابر عقله وحسه ولحق بمن لا يستحق أن يكلم وبرهان آخر وهو انهم لا يختلفون في أن نقل التواتر يوجب العلم الضروري فوجب من هذين الحكمين أن اليهود والنصارى الذين نقل إليهم ما أتى به عليه السلام من المعجزات نقل التواتر قد وقع لهم به العلم الضروري بصحة نبوته من أجلها وهذا لا محيد لهم عنه وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن شتم الله تعالى ليس كفراً وكذلك شتم رسول الله فهو دعوى لأن الله تعالى قال: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر وقال تعالى: " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم " فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع وقال تعالى: " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر فخرج عن الإيمان ولم يفعل تعالى في ذلك أني علمت أن في قلوبكم كفراً بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء ومن ادعى غير هذا فقد قول الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى وقال عز وجل: " إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ".

قال أبو محمد: وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من غيره فصح أن النسيء كفر وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله تعالى فمن أحل ما حرم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه وكل من حرم ما أحل الله تعالى فقد أحل ما حرم الله عز وجل لأن الله تعالى حرم على الناس أن يحرموا ما أحل الله وأما خلاف الإجماع فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن أعلن جحد الله تعالى أو جحد رسوله الله فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعاً وإما القتل أخذ الجزية وسائر أحكام الكفر وما شك قط أحد في هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا فكروا في هذا لا رسول الله ولا أحد من أصحابه ولا أحد ممن بعدهم وأما قولهم إذا الكفار إذا كانوا مصدقين بالله تعالى وبنبيه بقلوبهم والتصديق في اللغة التي نزل القرآن هو الإيمان ففيهم بلا شك إيمان فالواجب أن يكونوا بإيمانهم ذلك مؤمنين أو أن يكون فيهم إيمان ليسوا بكونهم فيهم مؤمنين ولا بد من أحد الأمرين.

قال أبو محمد: وهذا تمويه فاسد لأن التسمية كما قدمنا لله تعالى لا لأحد دونه وقد أوضحنا البراهين على أن الله تعالى نقل اسم إيمان في الشريعة عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وحرم في الديانة إيقاع اسم الإيمان على التصديق المطلق ولولا نقل الله تعالى للفظة الإيمان كما ذكرنا لوجب أن يسمى كل كافر على وجه الأرض مؤمناً وأن يخبر عنهم بأن فيهم إيماناً لأنهم مؤمنون ولا بد بأشياء كثيرة مما في العالم يصدقون بها هذا لا ينكره ذو مسكة من عقل فلو صح إجماعنا وإجماعهم وإجماع كل من ينتمي إلى الإسلام على انهم وإن صدقوا بأشياء كثيرة فإنه لا يحل لأحد أن يسميهم مؤمنين على الإطلاق ولا أن يقول أن لهم إيماناً مطلقاً أصلاً لم يجز لأحد أن يقول في الكافر المصدق بقلبه ولسانه بأن الله تعالى حق والمصدق بقلبه أن محمد رسول الله أنه مؤمن ولا أن فيه إيماناً أصلاً إلا حتى يأتي بما نقل الله تعالى إليه اسم الإيمان من التصديق بقلبه ولسانه بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دينه ثم يتمادى بإقراره على ما لا يتم إيمان إلا بالإقرار به حتى يموت لكنا نقول أن في الكافر تصديقاً بالله تعالى هو به مصدق بالله تعالى وليس بذلك مؤمناً ولا فيه إيمان كما أمرنا الله تعالى لا كما أمر جهم والأشعري.

قال أبو محمد: فبطل هذا القول المتفق على تكفير قائله وقد نص على تكفيرهم أبو عبيد القاسم في كتابه المعروف برسالة الإيمان وغيره ولنا كتاب كبير نقضنا فيه شبه أهل هذه المقالة الفاسدة كتبناه على رجل منهم يسمى عطاف بن دوناس من أهل قيروان إفريقية وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: وأما من قال أن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان فإنهم احتجوا بأن النبي وجميع أصحابه رضي الله عنهم وكل من بعدهم قد صح إجماعهم على أن من أعلن بلسانه بشهادة الإسلام فإنه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام وبقول رسول الله في السوداء أعتقها فإنها مؤمنة وبقوله لعمه أبي طالب قل كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل.

قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه أما الإجماع المذكور فصحيح وإنما حكمنا لهم بحكم الإيمان في الظاهر ولم نقطع على أنه عند الله تعالى مؤمن وهكذا قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما أرسلت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وبحسابهم على الله وقال عليه السلام من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه وأما قوله عليه السلام في السوداء أنها مؤمنة فظاهر الأمر كما قال عليه السلام إذ قال له خالد بن الوليد رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال عليه السلام إني لم أبعث لأشق عن قلوب الناس وأما قوله لعمه أحاج لك بها عند الله فنعم يحاج بها على ظاهر الأمر وحسابه على الله تعالى فبطل كل ما موهوا به ثم نبين بطلان قولهم إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى نتأيد أنه يبين بطلان قول هؤلاء قول الله عز وجل: " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " وقوله عز وجل: " وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " وقال تعالى: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً ".

قال أبو محمد: فإن قالوا إنما هذه الآية بمعنى أن هذه الأفعال تدل على أن في القلب إيماناً قلنا لهم لو كان ما قلتم لوجب ولا بد أن يكون ترك من ترك شيئاً من هذه الأفعال دليلاً على أنه ليس في قلبه إيمان وأنتم لا تقولون هذا أصلاً مع أن هذا صرف للآية عن وجهها وهذا لا يجوز إلا ببرهان وقولهم هذا دعوى بلا برهان وقال تعالى: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وأولئك هم الصادقون " وقال تعالى: " والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا " فأثبت عز وجل لهم الإيمان الذي هو التصديق ثم أسقط عنا ولايتهم إذ لم يهاجروا فأبطل بذلك إيمانهم المطلق ثم قال تعالى: " والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً " فصح يقيناً أن هذه الأعمال إيمان حق وعدمها ليس إيماناً وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " فنص عز وجل في هذه الآية على من آمن بلسانه ولم يعتقد الإيمان بقلبه فإنه كافر ثم أخبرنا تعالى بالمؤمنين من هم وأنهم الذين آمنوا وأيقنوا بألسنتهم وقلوبهم معاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وأخبر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون.

قال أبو محمد: ويلزمهم أن المنافقين مؤمنون لإقرارهم بالإيمان بألسنتهم وهذا قول مخرج عن الإسلام وقد قال تعالى: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً " وقال تعالى: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم " فقطع الله تعالى عليهم بالكفر كما ترى لأنهم أبطنوا الكفر.

قال أبو محمد: وبرهان آخر وهو أن الإقرار باللسان دون عقد القلب لا حكم له عند الله عز وجل لأن أحدنا يلفظ بالكفر حاكياً وقارئاً له في القرآن فلا يكون بذلك كافراً حتى يقرأنه عقده.

قال أبو محمد: فإن احتج بهذا أهل المقالة وقالوا هذا يشهد بأن الإعلان بالكفر ليس كفراً قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد قلنا أن التسمية ليست لنا وإنما لله تعالى فلما أمرنا تعالى بتلاوة القرآن وقد حكى لنا فيه قول أهل الكفر وأخبرنا تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عز وجل و الإيمان بحكايته ما نص الله تعالى بأداء الشهادة بالحق قال تعالى: " إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره عن أن يكون بذلك كافراً إلى رضى الله عز وجل والإيمان ولما قال تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً أخرج من ثبت إكراهه عن أن يكون بإظهار الكفر كافراً إلى رخصة الله تعالى على الإيمان وبقي من أظهر الكفر لا قارياً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله بذلك وبنص القرآن على من قال كلمة الكفر أنه كافر وليس قول الله عز وجل ولكن من شرح بالكفر صدراً على ما ظنوه من اعتقاد الكفر فقط بل كان من نطق بالكلام الذي يحكم لقائل عند أهل الإسلام بحكم الكفر لا قارياً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً فقد شرح بالكفر صدراً بمعنى أنه أن يقولوه وسواء اعتقده أو لم يعتقده لأن هذا العمل من إعلان الكفر على غير الوجوه المباحة في إيراده وهو شرح الصدر به فبطل تمويههم بهذه الآية وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو قول الله تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " فنص الله تعالى على الإيمان أنه شيء قبل نفي الارتياب ونفي الارتياب لا يكون ضرورة إلا بالقلب وحده فصح أن الإيمان إذ هو قبل نفي الارتياب شيء آخر غير نفي الارتياب والذي قبل نفي الارتياب هو القول باللسان ثم التصديق بالقلب والجهاد مع ذلك بالبدن والنفس والمال فلا يتم الإيمان بنص كلام الله عز وجل إلا بهذه الأقسام كلها فبطل بهذا النص قول من زعم أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده أو القول باللسان وحده أو كلاهما فقط دون العمل بالبدن وبرها آخر وهو أن نقول لهم أخبرونا عن أهل النار المخلدين فيها الذين ماتوا على الكفر أهم حين كونهم في النار عارفون بقلوبهم صحة التوحيد والنبوة الذي بجحدهم لكل ذلك ادخلوا النار وهل هم حينئذ مقرون بذلك بألسنتهم أم لا ولابد من أحدهما فإن قالوا هم عارفون بكل ذلك مقرون به بألسنتهم وقلوبهم قلنا أنهم مؤمنون أم غير مؤمنين فإن قالوا هم غير مؤمنين قلنا قد تركتم قولكم أن الإيمان هو المعرفة بالقلب أو الإقرار باللسان فقط أو كلاهما فقط فإن قالوا هذا حكم الآخرة قلنا لهم فإذ جوزتم نقل الأسماء عن موضوعها في اللغة في الآخرة فمن أين منعتم من ذلك في الدنيا ولم تجوزوه لله عز وجل فيها وليس في الحماقة أكثر من هذا وإن قالوا بل هم مؤمنون قلنا لهم فالنار إذاً أعدت للمؤمنين لا للكافرين وهي دار المؤمنين وهذا خلاف القرآن والسنن وإجماع أهل الإسلام المتقين وإن قالوا بل هم غير عارفين بالتوحيد ولا بصحة النبوة في حال كمنهم في النار أكذبهم نصوص القرآن وكذبوا ربهم عز وجل في إخبار أنهم عارفون بكل ذلك هاتفون به بألسنتهم راغبون في الرجعة والإقالة نادمون على ما سلف منهم وكذبوا نصوص المعقول وجاهروا بالمحال إذ جعلوا من شاهد القيمة والحساب والجزاء غير عارف بصحة ذلك فصح بهذا أنه لا إيمان ولا كفر إلا ما سماه الله تعالى إيماناً وكفراً وشركاً فقط ولا مؤمن ولا كافر ولا مشرك إلا من سماه الله تعالى بشيء من ذلك أما في القرآن وأما على لسان النبي .

قال أبو محمد: وأما من قال أن الإيمان هو العقد بالقلب والإقرار باللسان دون العمل بالجوارح فلا نكفر من قال بهذه المقالة وإن كانت خطأ وبدعة واحتجوا بأن قالوا أخبرونا عمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وبريء من كل دين حاشا الإسلام وصدق بكل ما جاء به النبي واعتقد ذلك لقلبه ومات إثر ذلك أمؤمن هو أم لا فإن جوابنا أنه مؤمن بلا شك عند الله عز وجل وعندنا قالوا فأخبرونا أناقص الإيمان هو أم كامل الإيمان قالوا فإن قلتم أنه كامل الإيمان فهذا قولنا وإن قلتم أنه ناقص الإيمان سألناكم ماذا نقصه من الإيمان وماذا مع الإيمان.

قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه مؤمن ناقص الإيمان بالإضافة إلى من له إيمان زائد بأعمال لم يعملها هذا وكل واحد فهو ناقص الإيمان بالإضافة إلى من هو أفضل أعمالاً منه حتى يبلغ الأمر إلى رسول الله الذي لا أحد أتم إيماناً منه بمعنى أحسن أعمالاً منه وأما قولهم ما الذي نقصه من الإيمان فإنه نقصه الأعمال التي عملها غيره والتي ربنا عز وجل أعلم بمقاديرها.

قال أبو محمد: ومما يبين أن اسم الإيمان في الشريعة منقول عن موضوعه في اللغة وإن الكفر أيضاً كذلك فإن الكفر في اللغة التغطية وسمي الزراع كافراً لتغطيته الحب وسمي الليل كافراً لتغطيته كل شيء قال الله عز وجل: " فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع " وقال تعالى: " كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ " يعني الزراع وقال لبيد بن ربيعة: يمينها ألقت زكاة في كافر يعني الليل ثم نقل الله تعالى اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحت نبوته في القرآن أو جحد شيء مما أتى به رسول الله مما صح عند جاحده بنقل الكافة أو عمل شيء قام البرهان بأن العمل به كفر مما قد بيناه في كتاب الإيصال والحمد لله رب العالمين فلو أن إنساناً قال أن محمداً عليه الصلاة والسلام كافر وكل من تبعه كافر وسكت وهو يريد كافرون بالطاغوت كما قال تعالى: " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وكذلك لو قال أن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وهو يريد مؤمنون بدين الكفر فصح عند كل ذي مسكة من يتحيز أن اسم الإيمان والكفر منقولان في الشريعة عن موضوعهما في اللغة بيقين لا شك فيه وأنه لا يجوز إيقاع اسم الإيمان المطلق على معنى التصديق بأي شيء صدق به المرء ولا يجوز إيقاع اسم الكفر على معنى التغطية لأي شيء غطاه المرء لكن على ما أوقع الله تعالى عليه اسم الإيمان واسم الكفر ولا مزيد وثبت يقيناً أن ما عدا هذا ضلال مخالف للقرآن وللسنن ولإجماع أهل الإسلام أولهم عن آخرهم وبالله تعالى التوفيق وبقي حكم التصديق على حاله في اللغة لا يختلف في ذلك إنسي ولا جني ولا كافر ولا مؤمن فكل من صدق بشيء فهو مصدق به فمن صدق بالله تعالى وبرسوله ولم يصدق بما لا يتم الإيمان إلا به فهو مصدق وبالله تعالى وبرسوله وليس مؤمناً ولا مسلماً لكنه كافر مشرك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين.

الطبقات الثلاث المذكورة

عدل

قال أبو محمد: إن قال قائل أليس الكفر ضد الإيمان قلنا وبالله تعالى التوفيق إطلاق هذا القول خطأ لأن الإيمان اسم مشترك يقع على معان شتى كما ذكرنا فمن تلك المعاني شيء يكون الكفر ضداً له ومنها ما يكون الفسق ضداً له لا الكفر ومنها ما يكون الترك ضداً له لا الكفر ولا الفسق فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضد لهذا الإيمان وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضد له لا الكفر فهو ما كان من الأعمال فرضاً فإن تركه ضد للعمل وهو فسق لا كفر وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضداً فهو كل ما كان من الأعمال تطوعاً فإن تركه ضد العمل به وليس فسقاً ولا كفراً برهان ذلك ما ذكرناه من ورود النصوص بتسمية الله عز وجل أعمال البر كلها إيماناً وتسميته تعالى ما سمي كفراً وما سمي فسقاً وما سمي معصية وما سمي إباحة لا معصية ولا كفراً ولا إيماناً وقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لأحد غيره فإن قال قائل منهم أليس جحد الله عز وجل بالقلب فقط لا باللسان كفراً فلا بد من نعم قال فيجب على هذا أن يكون التصديق باللسان وحده إيماناً فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا كان يصح لكم لو كان التصديق بالقلب وحده أو باللسان وحده إيماناً وقد أوضحنا آنفاً أنه ليس شيء من ذلك على انفراده إيماناً وأنه ليس إيماناً إلا ما سماه الله عز وجل إيماناً وليس الكفر إلا ما سماه الله عز وجل كفراً فقط فإن قال قائل من أهل الطائفة الثالثة أليس جحد الله تعالى بالقلب وباللسان هو الكفر كله فكذلك يجب أن يكون الإقرار بالله تعالى باللسان والقلب هو الإيمان كله قلنا وبالله تعالى نتأيد ليس شيء مما قلتم بل الجحد بشيء مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أن النطق به كفر كفر والعمل بشيء مما قام البراهين بأنه كفر كفر فالكفر يزيد وكلما زاد فيه فهو كفر والكفر ينقص وكله مع ذلك ما بقي منه وما نقص فكله كفر وبعض الكفر أعظم وأشد وأشنع من بعض وكله كفر وقد أخبر تعالى عن بعض الكفر أنه تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً وقال عز وجل: " هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " ثم قال: " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " وقال تعالى: " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " فأخبر تعالى أن قوماً يضاعف له العذاب فإذا كل هذا قول الله عز وجل وقوله الحق فالجزاء على قدر الكفر بالنص وبعض الجزاء أشد من بعض بالنصوص ضرورة والإيمان يتفاضل بنصوص صحاح وردت عن رسول الله والجزاء عليه في الجنة يتفاضل بلا خلاف فإن قال من الطبقتين الأولتين أليس من قولكم من عرف الله عز وجل والنبي وأقر بهما بقلبه فقط إلا أنه منكر بلسانه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر وكذلك من قولكم أن من أقر بالله عز وجل وبرسوله بلسانه فقط إلا أنه منكر بقلبه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر.

قال أبو محمد: فجوابنا نعم هكذا نقول قالوا فقد وجب من قولكم إذا كان بما ذكرنا كافراً أن يكون فعله ذلك كفراً ولا بد إذ لا يكون كافراً إلا بكفره فيجب على قولكم أن الإقرار بالله تعالى وبرسوله بالقلب كفر ولا بد ويكون الإقرار بالله تعالى أيضاً وبرسوله باللسان أيضاً كفر ولا بد أنكم تقولون أنهما إيمان فقد وجب على قولكم أن يكونا كفراً إيماناً معاً وفاعلهما كافراً مؤمناً معاً وهذا كما ترون.

قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا شغب ضعيف وإلزام كاذب سموه لأننا لم نقل قط أن من اعتقد وصدق بقلبه فقط بالله تعالى وبرسوله وأنكر بلسانه ذلك أو بعضه فإن اعتقاده لتصديق ذلك كفر ولا أنه كان بذلك كافراً وإنما قلنا أنه كفر بترك إقراره بذلك بلسانه فهذا هو الكفر وبه صار كافراً وبه أباح الله تعالى دمه أو أخذ الجزية منه بإجماعكم معنا وإجماع جميع أهل الإسلام وكان تصديقه بقلبه فقط بكل ذلك لغواً محيطاً كأنه لم يكن ليس إيماناً ولا كفراً ولا طاعة ولا معصية قال تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك " وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " وبالضرورة يدري كل مسلم أن من حبط عمله وبطل فقد سقط حكمه وتأثيره ولم يبق له رسم وكذلك لم نقل أن من أقر بلسانه وحده بالله تعالى وبرسوله وجحد بقلبه أن إقراره بذلك بلسانه كفر ولا أنه كان به كافراً لكنه كان كافراً بجحده بقلبه لما جحد من ذلك وجحده لذلك هو الكفر وكان إقراره بكل ذلك لغواً محبطاً كما ذكرنا لا إيماناً ولا كفراً ولا طاعة ولا معصية وبالله تعالى التوفيق فسقط هذا الإيهام الفاسد فإن قال قائل منهم أليس بعض الإيمان إيماناً وبعض الكفر كفراً وأراد أن يلزمنا من هذا أن العقد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح إذا كان ذلك إيماناً فإبعاضه إذا انفردت إيمان أو أن نقول أن إبعاض الإيمان ليست إيماناً فيموه بهذا.

قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا نقول ونصرح أنه ليس بعض الإيمان إيماناً أصلاً بل الإيمان متركب من أشياء إذا اجتمعت صارت إيماناً كالبلق ليس السواد وحده بلقاً ولا البياض وحده بلقاً فإذا اجتمعا صارا بلقاً وكالباب ليس الخشب وحده باباً ولا المسامير وحدها باباً فإذا اجتمعا على شكل سمي حينئذ باباً وكالصلاة فإن القيام وحده ليس صلاة ولا الركوع وحده صلاة ولا الجلوس وحده صلاة ولا القراءة وحدها صلاة ولا الذكر وحده صلاة ولا استقبال القبلة وحده صلاة أصلاً فإذا اجتمع كل ذلك سمي المجتمع حينئذ صلاة وكذلك الصيام المفترض والمندوب إليه ليس صيام كل ساعة من النهار على انفرادها صياماً فإذا اجتمع صيامها كلها يسمى صياماً وقد يقع في اليوم الأكل والجماع والشراب سهواً فلا يمنع ذلك من أن يكون صيامه صحيحاً والتسمية لله عز وجل كما قدمنا لا لأحد دونه بل من الإيمان شيء إذا انفرد كان كفراً كمن قال مصدقاً بقلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله فهذا إيمان فلو أفرد لا إله وسكت سكوتاً قطع كفر بلا خلاف من أحد ثم نسألهم فنقول لهم فإذا انفرد صيامه أو صلاته دون إيمان أهي طاعة فمن قولهم لا فقد صاروا فيما أرادوا أن يموهوا به علينا من أن إبعاض الطاعات إذا انفردت لم تكن طاعة بل كانت معصية وإذا اجتمعت كانت طاعة.

قال أبو محمد: فإن قالوا إذا كان النطق باللسان عندكم إيماناً فيجب إذاً عدم النطق بأن يسكت الإنسان بعد إقراره أن يكون سكوته كفراً فيكون بسكوته كافراً قلنا إن هذا يلزمنا عندكم فما تقولون إن سألكم أصحاب محمد من كرام فقالوا لكم إذا كان الاعتقاد بالقلب هو الإيمان عندكم فيجب إذا سها عن الاعتقاد وإحضاره ذكره أما في حال حديثه مع من يتحدث أو في حال فكره أو نومه أن يكون كافراً وأن يكون ذلك السهو كفراً فجوابهم أنه محمول على ما صح منه من الإقرار باللسان.

قال أبو محمد: ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم أن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفراً لكنه دليل على أن في القلب كفراً أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم أتقطعون به فتثبتونه يقيناً ولا تشكون في أن في قلبه جحداً للربوبية وللنبوة أم هو دليل يجوز ويدخله الشك ويمكن أن لا يكون في قلبه كفر ولا بد من أحدهما فإن قالوا أنه دليل لا نقطع به قطعاً ولا نثبته يقيناً قلنا لهم فما بالكم تحتجون بالظن الذي قال تعالى فيه: " إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " وأعجب من هذا أنكم إنما قلتم أن إعلان الكفر إنما قلنا أنه دليل على أن في القلب كفراً لأن الله تعالى سماهم كفاراً فلا يمكننا رد شهادة الله تعالى فعاد هذا البلاء عليكم لأنكم قطعتم أنها شهادة الله عز وجل ثم لم تصدقوا شهادته ولا قطعتم بها بل شككتم فيها وهذا تكذيب من لا خفاء به وأما نحن فمعاذ الله من أن نقول أو نعتقد أن الله تعالى شهد بهذا قط بل من أدعى أن الله شهد بأن من أعلن الكفر فإنه جاحد بقلبه فقد كذب على الله عز وجل وافترى عليه بل هذه شهادة الشيطان الذي أضل بها أولياءه وما شهد الله تعالى إلا بضد هذا وبأنهم يعرفون الحق ويكتمونه ويعرفون أن الله تعالى حق وأن محمد رسول الله حقاً ويظهرون بألسنتهم خلاف ذلك وما سماهم الله عز وجل قط كفاراً إلا بما ظهر منهم بألسنتهم وأفعالهم كما فعل بإبليس وأهل الكتاب وغيرهم وإن قالوا بل يثبت بهذا الدليل ونقطع به ونوقن أن كل من أعلن بما يوجب إطلاق اسم الكفر عليه في الشريعة فإنه جاحد بقلبه لهم وبالله تعالى التوفيق هذا باطل من وجوه - أولها - أنه دعوى بلا برهان - وثانيها - أنه علم غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل والذي يضمره وقد قال رسول الله أني لم أبعث لأشق على قلوب الناس فمدعى هذا مدعى علم غيب ومدعي علم الغيب كاذب - وثالثها - أن القرآن والسنن كما ذكرنا قد جاءت النصوص فيهما بخلاف هذا كما تلونا قبل - ورابعها - إن كان الأمر كما تقولون فمن أين اقتصرتم بالإيمان على عقد القلب ولم تراعوا إقرار اللسان وكلاهما عندكم مرتبط بالآخر لا يمكن انفرادهما وهذا يبطل قولكم أنه إذا اعتقد الإيمان بقلبه لم يكن كافراً بإعلانه الكفر فجوزتم أن يكون يعلن الكفر من يبطن الإيمان فظهر تناقض مذهبهم وعظيم فساده - وخامسها - أنه كان يلزمهم إذا كان إعلان الكفر باللسان دليلاً على الجحد بالقلب والكفر به ولا بد فإن إعلان الإيمان باللسان يجب أيضاً أن يكون دليلاً قاطعاً باتاً ولا بد على أن في القلب إيماناً وتصديقاً لا شك فيه لأن الله تعالى سمى هؤلاء مؤمنين كما سمى أولئك كفاراً ولا فرق بين الشهادتين فإن قالوا أن الله تعالى قد أخبر عن المنافقين المعلنين بالإيمان المبطنين للكفر والجحد قيل لهم وكذلك أعلمنا الله تعالى وأخبرنا أن إبليس وأهل الكتاب والكفار بالنبوة إنهم يعلنون الكفر ويبطنون التصديق ويؤمنون بأن الله تعالى حق وأن رسوله حق يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ولا فرق وكل ما موهتم به من الباطل والكذب في هؤلاء أمكن للكرامية مثله سواء بسواء في المنافقين وقالوا لم يكفروا قط بإبطانهم الكفر لما سماهم الله بأنهم آمنوا ثم كفروا علمنا أنهم نطقوا بعد ذلك بالكفر والجحد بشهادة الله تعالى بذلك كما أدعيتم أنتم شهادته تعالى على ما في نفوس الكفار ولا فرق.

قال أبو محمد: وكلتا الشاهدتين من هاتين الطائفتين كذب على الله عز وجل وما شهد الله عز وجل قط على إبليس وأولى الكتاب بالكفر إلا بما أعلنوه من الاستخفاف بالنبوة وبآدم وبالنبي فقط ولا شهد تعالى قط على المنافقين بالكفر إلا بما أبطنوه من الكفر فقط وأما هذا فتحريف للكلم عن مواضعه وأفك مفتري ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد: وانظروا قولهم قالوا مثل هذا أن يقول رسول الله لا يدخل هذه الدار اليوم إلا كافر أو يقول كل من دخل هذه الدار اليوم فهو كافر قالوا فدخول تلك الدار دليل على أنه يعتقد الكفر لا أن دخول الدار كفر.

قال أبو محمد: وهذا كذب وتمويه ضعيف بأن دخول تلك الدار في ذلك اليوم كفر محض مجرد وقد يمكن أن يكون الداخل فيها مصدقاً بالله تعالى وبرسوله إلا أن تصديقه ذلك قد حبط بدخوله الدار برهان ذلك أنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن دخول تلك الدار لا يحل البتة لعائشة ولا لأبي بكر ولا لعلي ولا لأحد من أزواج النبي ولا لأحد من أصحابه رضي الله عنهم كما أن الله تعالى قد نص على أنه علم ما في قلوبهم وأنزل السكينة عليهم وإذ ذلك كذلك فقد وجب ضرورة أن هؤلاء رضي الله عنهم لو دخلوا تلك الدار لكانوا كفاراً بلا شك بنفس دخولهم فيها ولحبط إيمانهم فإن قالوا لو دخلها هؤلاء لم يكفروا كانوا هم قد كفروا لأنهم بهذا القول قاطعون بأن كلامه كذب في قوله لا يدخلها إلا كافر واحتج بعضهم في هذا المكان بقول الأخطل النصراني لعنه الله إذ يقول: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً قال أبو محمد: فجوابنا على هذا الاحتجاج أن نقول ملعون ملعون قائل هذا البيت وملعون ملعون من جعل قول هذا النصراني حجة في دين الله عز وجل وليس هذا من باب اللغة التي يحتج فيها بالعربي وإن كان كافراً وإنما هي قضية عقلية فالعقل والحس يكذبان هذا البيت وقضية شرعية فالله عز وجل أصدق من النصراني اللعين إذ يقول عز وجل: " يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم " فقد أخبر عز وجل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس في فؤاده بخلاف قول الأخطل لعنه الله أن الكلام لفي الفؤاد واللسان دليل على الفؤاد فأما نحن فنصدق الله عز وجل ونكذب الأخطل ولعن الله من يجعل الأخطل حجة في دينه وحسبنا الله ونعم الوكيل فإن قالوا أن الله عز وجل قال: " ولتعرفنهم في لحن القول " قلنا لولا أن الله عز وجل عرفه بهم ودله عليهم بلحن القول ما كان لحن قولهم دليلاً عليهم ولم يطلق الله تعالى هذا على كل أحد بل على أولئك خاصة بل قد نص تعالى على آخرين بخلاف ذلك إذ يقول: " وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " فهؤلاء من أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق لم يعلمهم قط رسول الله بلحن قولهم ولو أن الناس لم يضربوا قط كلام ربهم تعالى بعضه ببعض وأخذوه كله على مقتضاه لاهتدوا لكن " من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " وقد قال عز وجل: " إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " فجعلهم تعالى مرتدين كفاراً بعد علمهم الحق وبعد أن تبين لهم الهدى بقوله للكفار ما قالوا فقط وأخبرنا تعالى أنه يعرف أسرارهم ولم يقل تعالى أنها جحد أو تصديق بل قد صح أن في سرهم التصديق لأن الهدى قد تبين لهم ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلاً وأخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم باتباعهم ما أسخطه وكراهيتهم رضوانه وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي دون جحد كان منهم أصلاً ولو كان منهم جحد لشعروا له والله تعالى أخبرنا لأن ذلك يكون وهم لا يشعرون فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفراً مبطلاً لإيمان فاعله جملة ومنه ما لا يكون كفراً لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد.

قال أبو محمد: فإن قال قائل من أين قلتم أن التصديق لا يتفاضل ونحن نجد خضرة أشد من خضرة وشجاعة أشد من شجاعة لا سيما والشجاعة والتصديق كيفيات من صفات النفس معاً فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن كل ما قبل من الكيفيات الأشد والأضعف فإنما يقبلهما بمزاج يداخله من كيفية أخرى ولا يكون ذلك إلا فيما بينه وبين ضده منها وسائط قد تمازج كل واحد من الضدين أو في ما جاز امتزاج الضدين فيه كما نجد بين الخضرة والبياض وسائط من حمرة وصفرة تمازجهما فتولد حينئذ بالممازجة الشدة والضعف وكالصحة التي هي اعتدال مزاج العضو فإذا مازج ذلك الاعتدال فضل ما كان مرضه بحسب ما مازجه في الشدة والضعف والشجاعة إنما هي استسهلال النفس والثبات والإقدام عند المعارضة في اللقاء فإذا ثبت الاثنان فإثباتاً واحداً وأقدما إقداماً مستوياً فهما في الشجاعة سواء وإذا ثبت أحدهما أو أقدم فوق ثبات الآخر وإقدامه كان أشجع منه وكان الآخر قد مازج ثباته أو إقدامه جبن وأما ما كان من الكيفيات لا يقبل المزاج أصلاً فلا سبيل إلى وجود التفاضل فيه وكل ذلك على حسب ما خلقه الله عز وجل من كل ذلك ولا مزيد كاللون فإنه لا سبيل إلى أن يكون لون أشد دخولاً في أنه لون من لون آخر إذ لو مازج الصدق غيره لصار كذباً في الوقت ولو مازج تصديق شيء غيره لصار شكاً في الوقت وبطل التصديق جملة وبالله تعالى التوفيق والإيمان قد قلنا أنه ليس هو التصديق وحده بل أشياء مع التصديق كثيرة فإنما دخل التفاضل في كثرة تلك الأشياء وقلتها وفي كيفية إيرادها وبالله تعالى التوفيق وهكذا قال رسول الله أنه يخرج من النار من في قلبه إذ قالوا شعيرة من إيمان ثم من في قلبه مثقال برة من أيمان ثم من في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى أدنى أدنى من ذلك إنما أراد عليه السلام من قصد إلى عمل شيء من الخير أو هم به ولم يعمله بعد أيكون مصدقاً بقلبه بالإسلام مقراً بلسانه كما في الحديث قال أبو محمد: ومن النصوص على أن الأعمال إيمان قول الله تعالى: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " فنص تعالى نصاً جلياً لا يحتمل تأويلاً وأقسم تعالى بنفسه أنه لا يؤمن أحد إلا من حكم رسوله فيما شجر بينه وبين غيره ثم يسلم لما حكم به عليه السلام ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى وهذه كلها أعمال باللسان وبالجوارح غير التصديق بلا شك وفي هذا كفاية لمن عقل.

قال أبو محمد: ومن العجب قولهم أن الصلاة والصيام والزكاة ليست إيماناً لكنها شرائع الإيمان.

قال أبو محمد: هذه تسمية لم يأذن الله تعالى بها ولا رسوله ولا أحداً من الصحابة رضي الله عنهم بل الإسلام هو الإيمان وهو الشرائع والشرائع هي الإيمان والإسلام وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: واختلف الناس في الكفر والشرك فقالت طائفة هي اسمان واقعان على معنيين وإن كل شرك كفر وليس كل كفر شركاً وقال هؤلاء لا شرك الأقوال من جعل لله شريكاً قال هؤلاء اليهود والنصارى كفاراً لا مشركون وسائر الملل كفار مشركون وهو قول أبي حنيفة وغيره وقال آخرون الكفر والشرك سواء وكل كافر فهو مشرك وكل مشرك فهو كافر وهو قول الشافعي قال أبو محمد: واحتجت الطائفة الأولى بقول الله عز وجل: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين " قالوا ففرق الله تعالى بين الكفار والمشركين وقالوا لفظة الشرك مأخوذة من الشريك فمن لم يجعل الله تعالى شريكاً فليس مشركاً.

قال أبو محمد: هذه عمدة حجتهم ما نعلم لهم حجة غير هاتين.

قال أبو محمد: أما احتجاجهم بقول الله عز وجل: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " فلو لم يأت في هذا المعنى غير هذا المعنى غير هذه الآية لكانت حجتهم ظاهرة لكن الذي أنزل هذه الآية هو القائل: " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " وقال تعالى: " وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ " وقال تعالى عنهم أنهم قالوا أن الله ثالث ثلاثة وهذا كله تشريك ظاهر لإخفائه فإذ قد صح الشرك والتشريك في القرآن من اليهود والنصارى فقد صح أنهم مشركون وأن الشرك والكفر اسمان لمعنى واحد وقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لنا فإذ ذلك كذلك فقد صح أن قوله تعالى: " الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " كقوله تعالى: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً " ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن المنافقين كفار وكقوله تعالى: " قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " ولا خلاف في أن جبريل وميكائيل من جملة الملائكة وكقوله تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ " والرمان الرمان من الفاكهة والقرآن نزل بلغة العرب والعرب تعيد الشيء باسمه وإن كانت قد أجملت ذكره تأكيداً لأمره فبطل تعلق من تعلق بتفريق الله تعالى بين الكفار والمشركين في اللفظ وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بأن لفظ الشرك مأخوذ من الشريك فقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لأحد دونه وله تعالى أن يوقع أي أسم شاء على أي مسمى شاء برهان ذلك أن من أشرك بين عبدين له في عمل ما أو بين اثنين في هبة وهبها لهما فإنه لا يطلق عليه اسم مشرك ولا يحل أن يقال أن فلاناً أشرك ولا أن عمله شرك فصح أنها لفظة منقولة أيضاً عن موضوعها في اللغة كما أن الكفر لفظة منقولة أيضاً عن موضوعها إلى ما أوقعها الله تعالى عليه والتعجب من أهل هذه المقالة وقولهم أن النصارى ليسوا مشركين وشركهم أظهر وأشهر من أن يجهله أحد لأنهم يقولون كلهم بعبادة الأب والابن وروح القدس وأن المسيح إله حق ثم يجعلون البراهمة مشركين وهم لا يقرون إلا بالله وحده ولقد كان يلزم أهل هذه المقالة أن لا يجعلوا كافراً إلا من جحد الله تعالى فقط فإن قال قائل كيف اتخذ اليهود والنصارى أرباباً من دون الله وهم ينكرون هذا قلنا وبالله تعالى التوفيق أن التسمية لله عز وجل فما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم ويحلون ما أحلوا كانت هذه ربوبية صحيحة وعبادة صحيحة قد دانوا بها وسمى الله تعالى هذا العمل باتخاذ أرباب من دون الله وعبادة وهذا هو الشرك بلا خلاف كما سمي كفرهم بأن رسول الله نبي ناسخ لما هم عليه كفر بالله عز وجل وإن كانوا مصدقين به تعالى لكن لما أحبط الله تعالى تصديقهم سقط حكمه جملة فإن قالوا كيف تقولون أن الكفار مصدقون بالله تعالى والله تعالى يقول: " لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " ويقول تعالى: " وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم " قلنا وبالله تعالى نتأيد إن كل من خرج إلى الكفر بوجه من الوجوه فلا بد له من أن يكون مكذباً بشيء مما لا يصح الإسلام إلا به أورد أمراً من أمور الله عز وجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب بذلك الشيء الذي رده أو كذب به ولم يقل الله تعالى الذي كذب بالله عز وجل لكن قال كذب وتولى ولا قال تعالى و أما إن كان من المكذبين بالله وإنما قال تعالى من المكذبين الضالين فقط فمن كذب بأمر من أمور الله عز وجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب على الإطلاق كما سماه الله تعالى وإن كان مصدقاً لله تعالى وبمن صدق به.

قال أبو محمد: فإن قالوا كيف تقولون أن اليهود عارفون بالله تعالى والنصارى والله تعالى يقول " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب قلنا وبالله تعالى التوفيق قد قلنا أن التسمية إلى الله عز وجل لا لأحد دونه وقلنا أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة عن التصديق المجرد إلى معنى آخر زائد مع التصديق فلما لم يستوفوا تلك المعاني بطل تصديقهم جملة واستحقوا ببطلانه أن يسموا غير مؤمنين بالله ولا باليوم الآخر فإن قيل فهل هم مصدقون بالله وباليوم الآخر قلنا نعم فإن قيل ففيهم موحدون لله تعالى قلنا نعم قيل فيهم مؤمنون بالله وبالرسول وباليوم الآخر قلنا لا لأن الله تعالى نص على كل ما قلنا فأخبر تعالى أنهم يعرفونه ويقرون به ويعرفون نبيه وأنه نبي فأقررنا بذلك وأسقط الله عنهم اسم الإيمان فأسقطناه عنهم ومن تعدى هذه الطريقة فقد كذب ربه تعالى وخالف القرآن وعاند الرسول وخرق إجماع أهل الإسلام وكابر حسه وعقله مع ذلك وبالله تعالى التوفيق وهكذا نقول فيمن كان مسلماً ثم أطلق واعتقد ما يوجب الخروج عن الإسلام كالقول بنبوة إنسان بعد النبي أو تحليل الخمر أو غير ذلك فإنه مصدق بالله عز وجل وبرسوله موحد عالم بكل ذلك وليس مؤمناً مطلقاً ولا مؤمناً بالله تعالى ولا بالرسول ولا باليوم الآخر لما ذكرنا آنفاً ولا فرق لإجماع الأمة كلها على استحقاق اسم الكفر على من ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً والحمد لله رب العالمين.

وهل الإيمان والإسلام اسمان لمسمى واحد ومعنى واحد أو لمسميين ومعنيين

عدل

قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الإسلام والإيمان اسمان واقعان على معنيين وأنه قد يكون مسلم غير مؤمن واحتجوا بقول الله عز وجل: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " وبالحديث المأثور عن رسول الله إذ قال له سعد هل لك يا رسول الله في فلان فإنه مؤمن فقال له رسول الله : أو مسلم.

وبالحديث المأثور عن رسول الله إذ أتاه جبريل في صورة فتى غير معروف العين فسأله عن الإسلام فأجابه بأشياء في جملتها إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأعمال أخر مذكورة في ذلك الحديث فسأله عن الًسلام فأجابه بأشياء من جملتها أن تؤمن بالله وملائكته وبحديث لا يصح من أن المرء يخرج عن الإيمان إلى الإسلام وذهب آخرون إلى أن الإيمان والإسلام لفظان مترادفان على معنى واحد واحتجوا بقول الله عز وجل: " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " وبقوله تعالى: " يمنون عليك أن أسلموا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ".

قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن الإيمان أصله في اللغة التصديق على الصفة التي ذكرنا قبل ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على جميع الطاعات واجتناب المعاصي إذا قصد بكل ذلك من عمل أو ترك وجه الله عز وجل وإن الإسلام أصله في اللغة التبرؤ تقول أسلمت أمر كذا إلى فلان إذا تبرأت منه إليه فسمي المسلم مسلماً لأنه تبرأ من كل شيء إلى الله عز وجل ثم نقل الله تعالى اسم الإسلام أيضاً إلى جميع الطاعات وأيضاً فإن التبرؤ إلى الله من كل شيء هو معنى التصديق فإنه لا يبرأ إلا الله تعالى من كل شيء حتى يصدق به فإذا أريد بالإسلام المعنى الذي هو خلاف الكفر خلاف الفسق فهو والإيمان شيء واحد كما قال تعالى: " يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " وقد يكون الإسلام أيضاً بمعنى الاستسلام أي أنه استسلم للعلة خوف القتل هو غير معتقد لها فإذا أريد بالإسلام هذا المعنى فهو غير الإيمان وهو الذي أراد الله تعالى بقوله: " لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " وبهذا تتألف النصوص المذكورة من القرآن والسنن وقد قال تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " وقال رسول الله لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة فهذا هو الإسلام الذي هو الإيمان فصح أن الإسلام لفظة مشتركة كما ذكرنا ومن البرهان على أنها لفظة منقولة عن موضوعها في اللغة أن الإسلام في اللغة هو التبرؤ فأي شيء تبرأ منه المرء فقد أسلم من ذلك الشيء وهو مسلم كما أن من صدق بشيء فقد آمن به وهو مؤمن به وبيقين لا شك فيه يدري كل واحد أن كل كافر على وجه الأرض فإنه مصدق بأشياء كثيرة من أمور دنياه ومتبرئ من أشياء كثيرة ولا يختلف اثنين من أهل الإسلام في أنه لا يحل لأحد أن يطلق على الكفار من أجل ذلك أنه مؤمن ولا أنه مسلم فصح يقيناً أن لفظة الإسلام والإيمان منقولة عن موضوعها في اللغة إلى معان محددة معروفة لم تعرفه العرب قط حتى أنزل الله عز وجل بها الوحي على رسوله أنه من أتى بها استحق اسم الإيمان والإسلام وسمي مؤمناً مسلماً ومن لم يأت بها لم يسم مؤمناً ولا مسلماً وإن صدق بكل شيء غيرها أو تبرأ من كل شيء حاشى ما أوجبت الشريعة التبرأ منه وكذلك الكفر والشرك لفظتان منقولتان عن موضوعهما في اللغة لأن الكفر في اللغة التغطية والشرك أن تشرك شيئاً مع آخر في أي معنى جمع بينهما ولا خلاف بين أحد من أهل التمييز في أن كل مؤمن في الأرض في أنه يغطي أشياء كثيرة ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز أن يطلق عليه من أجل ذلك الكفر ولا الشرك ولا أن يسمى كافراً ولا مشركاً وصح يقيناً أن الله تعالى نقل اسم الكفر والشرك إلى إنكار أشياء لم تعرفها العرب وإلى أعمال لم تعرفها العرب قط كمن جحد الصلاة أو صوم رمضان أو غير ذلك من الشرائع التي لم تعرفها العرب قط حتى أنزل الله تعالى بها وحيه أو كمن عمد وثناً فمن أتى بشيء من تلك الأشياء سمي كافراً لا مشركاً ومن لم يأت بشيء من تلك الأشياء لم يسم كافراً أو مشركاً ومن خالف هذا فقد كابر الحس وجحد العيان وخالف الله تعالى ورسوله والقرآن والسنن وإجماع المسلمين وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: واختلف الناس في قول المسلم أنا مؤمن فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل ومن بعده من الفقهاء أنه كره ذلك وكان يقول أنا مؤمن إن شاء الله وقال بعضهم آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وكانوا يقولون من قال أنا مؤمن فليقل إنه من أهل الجنة.

قال أبو محمد: فهذا ابن مسعود وأصحابه حجج في اللغة فإن جهال المرجئة الموهومون في نصر بدعتهم.

قال أبو محمد: والقول عندنا في هذه المسألة أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل وبمحمد وبكل ما أتى به عليه السلام وأنه يقر بلسانه بكل ذلك فواجب عليه أن يعترف بذلك كما أمر تعالى إذ قال تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " ولا نعمة أوكد ولا أفضل ولا أولى بالشكر من نعمة الإسلام فواجب عليه أن يقول أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى في وقتي هذا ولا فرق بين قوله أنا مؤمن مسلم وبين قوله أنا أسود أو أنا أبيض وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد قال تعالى: " قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " وقول بن مسعود عندنا صحيح لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة إلى جميع البر والطاعات فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه مسلم مؤمن على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات وهذا صحيح ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب ولا شك بلا شك وما منع رضي الله عنه من أن يقول المرء أني مؤمن بمعنى مصدق كيف وهو يقول قل آمنت بالله ورسله أي صدقت وأما من قال فقل أنك في الجنة فالجواب أننا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن فلا بد لنا من الجنة بلا شك وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع من آمن بالله ورسوله وبكل ما جاء به ولم يأت بما هو كفر فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ولا نأمن مكر الله تعالى ولا إضلاله ولا كيد الشيطان ولا ندري ماذا نكسب غداً ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد: اختلف الناس في تسمية المذنب من أهل ملتنا فقالت المرجئة هو مؤمن كامل الإيمان وإن لم يعمل خيراً قط ولا كف عن شر قط وقال بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد هو كافر مشرك كعابد الوثن بأي ذنب كان منه صغيراً أو كبيراً ولو فعله على سبيل المزاح وقالت الصغرية إن كان الذنب من الكباير فهو مشرك كعابد الوثن وإن كان الذنب صغيراً فليس كافراً وقالت الأباضية إن كان الذنب من الكبائر فهو كافر نعمة تحل موارثته ومناكحته وأكل ذبيحته وليس مؤمناً ولا كافراً على الإطلاق وروي عن الحسن البصري وقتادة رضي الله عنهما أن صاحب الكبيرة منافق وقالت المعتزلة إن كان الذنب من الكبائر فهو فاسق ليس مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً وأجازوا مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته قالوا وإن كان من الصغاير فهو مؤمن لا شيء عليه فيها وذهب أهل السنة من أصحاب الحديث والفقهاء إلى أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان وقالوا الإيمان اسم معتقده وإقراره وعمله الصالح والفسق اسم عمله السيء إلا أن بين السلف منهم والخلف اختلافاً في تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها وتارك الصوم لو مضى كذلك وتارك الزكاة وتارك الحج كذلك وفي قاتل المسلم عمداً وفي شارب الخمر وفيمن سب نبياً من الأنبياء عليهم السلام وفيمن رد حديثاً قد صح عنده عن النبي فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن المبارك وأحمد بن حنبل واسحق ابن راهوية رحمة الله عليهم وعن تمام سبعة عشرة رجلاً من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها فإنه كافر مرتد وبهذا يقول عبد الله ابن الماجشون صاحب مالك وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره وروينا عن عمر رضي الله عنه مثل ذلك في تارك الحج وعن ابن عباس وغيره مثل ذلك في تارك الزكاة والصيام وفي قاتل المسلم عمداً وعن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمرو بن العاص في شارب الخمر وعن اسحق بن راهوية أن من رد حديثاً صحيحاً عنده عن النبي فقد كفر.

قال أبو محمد: واحتج من كفر المذنبين بقول الله عز وجل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وبقوله تعالى: " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " فهؤلاء كلهم ممن كذب وتولى والمكذب المتولي كافر فهؤلاء كفار.

قال أبو محمد: والعجب أن المرجئة المسقطة للوعيد جملة عن المسلمين قد احتجوا بهذه الآية نفسها فقالوا قد أخبرنا أن الله عز وجل أن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى فصح أن من لم يكذب ولا تولى لا يصلاها قالوا ووجدنا هؤلاء كلهم لم يكذبوا ولا تولوا بل هم مصدقون معترفون بالإيمان فصح أنهم لا يصلونها وأن المراد بالوعيد المذكور في الآيات المنصوصة إنما هو فعل تلك الأفاعيل من الكفار خاصة.

قال أبو محمد: واحتج أيضاً من كفر من ذكرنا بأحاديث كثيرة منها سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينهب نهبة ذات شرو حين ينهبها وهو مؤمن وترك الصلاة شرك وإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ومثل هذا كثير.

قال أبو محمد: وما نعلم لمن قال هو منافق حجة أصلاً ولا لمن قال أنه كافر نعمة إلا أنهم نزعوا بقول الله عز وجل: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ".

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن كفر النعمة عمل يقع من المؤمن والكافر وليس هو ملة ولا اسم دين فمن ادعى اسم دين وملة غير الإيمان المطلق والكفر المطلق فقد أتى بما لا دليل عليه وأما من قال هو فاسق لا مؤمن ولا كافر فما لهم حجة أصلاً إلا أنهم قالوا قد صح الإجماع على انه فاسق لأن الخوارج قالوا هو كافر فاسق وقال غيرهم هو مؤمن فاسق فاتفقوا قال أبو محمد: وهذا خلاف لإجماع من ذكر لأنه ليس منهم أحد جعل الفسق اسم دينه وإنما سموا بذلك عملهم والإجماع والنصوص قد صح كل ذلك على أنه لا دين إلا الإسلام أو الكفر من خرج من أحدهما دخل في الآخر ولا بد إذ ليس بينهما وسيطة وكذلك قال رسول الله : " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " وهذا حديث قد أطبق جميع الفرق المنتمية إلى الإسلام على صحته وعلى القول به فلم يجعل عليه السلام ديناً غير الكفر والإسلام ولم يجعل هاهنا ديناً ثالثاً أصلاً.

قال أبو محمد: واحتجت المعتزلة أيضاً بأن قالت قال الله تعالى: " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ".

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى قال: " أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون " فصح أن هؤلاء الذين سماهم الله تعالى مجرمين و فساقاً وأخرجهم عن المؤمنين نصاً فإنهم ليسوا على دين الإسلام وإذا لم يكونوا على دين الإسلام فهم كفار بلا شك إذ لا دين ها هنا غيرهما أصلاً برهان هذا قوله تعالى: " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وقد علمنا ضرورة أنه لا دار إلا الجنة والنار وأن الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون المسلمون فقط ونص الله تعالى على أن النار لا يدخلها إلا المكذب المتولي والمتولي المكذب كافر بلا خلاف فلا يخلد في النار إلا كافر ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فصح أنه لا دين إلا الإيمان والكفر فقط وإذ ذلك كذلك فهؤلاء الذين سماهم الله عز وجل مجرمين وفاسقين وأخرجهم عن المؤمنين فهم كفار مشركون لا يجوز غير ذلك وقال المؤمن محمود محسن ولي لله عز وجل والمذنب مذموم مسيء عدو لله قالوا ومن المحال أن يكون إنسان واحد محموداً مذموماً محسناً مسيئاً عدواً لله ولياً له معاً.

قال أبو محمد: وهذا الذي أنكروه لا نكرة فيه بل هو أمر موجود مشاهد فمن أحسن من وجه وأساء من وجه آخر كمن صلى ثم زنى فهو محسن محمود ولي لله فيما أحسن فيه من صلاة وهو مسيء مذموم عدو لله فيما أساء فيه من الزنا قال عز وجل: " وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " فبالضرورة ندري أن العمل الذي شهد الله عز وجل أنه سيء فإن عامله فيه مذموم مسيء عاص لله تعالى ثم يقال لهم ما تقولون إن عارضتكم المرجئة بكلامكم نفسه فقالوا من المحال أن يكون إنساناً واحداً محموداً مذموماً محسناً مسيئاً عدواً لله ولياً له معاً ثم أرادوا تغليب الحمد والإحسان والولاية وإسقاط الذم والإساءة والعداوة كما أردتم أنتم بهذه القضية نفسها تغليب الذم والإساءة والعداوة وإسقاط الحمد والإحسان والولاية بما ينفصلون عنهم فإن قالت المعتزلة أن الشرط في حمده وإحسانه وولايته أن تجتنب الكبائر قلنا لهم فإن عارضتكم المرجئة فقالت أن الشرط في ذمه وإساءته ولعنه وعداوته ترك شهادة التوحيد فإن قالت المعتزلة أن الله قد ذم المعاصي وتوعد عليها قيل لهم فإن المرجئة تقول لكم أن الله تعالى قد حمد الحسنات ووعد عليها وأراد بذلك تغليب الحمد كما أردتم تغليب الذم فإن ذكرتم آيات الوعيد ذكروا آيات الرحمة.

قال أبو محمد: وهذا ما لا مخلص للمعتزلة منه ولا للمرجئة أيضاً فوضح بهذا أن كلا الطائفتين مخطئة وأن الحق هو جمع كل ما تعلقت به كلتا الطائفتين من النصوص التي في القرآن والسنن ويكفر من هذا كله قول الله عز وجل: " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " وقوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقال تعالى: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " وقال تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " فصح بهذا كله أنه لا يخرجه عن اسم الإيمان إلا الكفر ولا يخرجه عن اسم الكفر إلا الإيمان وأن الأعمال حسنها حسن إيمان وقبيحها قبيح ليس إيماناً والموازنة تقضي على كل ذلك ولا يحبط الأعمال إلا الشرك قال تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك " وقالوا إذا أقررتم أن أعمال البر كلها إيمان وأن المعاصي ليست أيماناً فهو عندكم مؤمن غير مؤمن قلنا نعم ولا نكرة في ذلك وهو مؤمن بالعمل الصالح غير مؤمن بالعمل السيء كما نقول محسن بما أحسن فيه مسيء غير محسن معاً بما أساء فيه وليس الإيمان عندنا التصديق وحده فيلزمنا التناقض وهذا هو معنى قول النبي لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أي ليس مطيعاً في زناه ذلك وهو مؤمن بسائر حسناته واحتجوا بقول الله تعالى: " وكذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون " ففرق تعالى بين الفسق والإيمان.

قال أبو محمد: نعم وقد أوضحنا أن الإيمان هو كل عمل صالح فبيقين ندري أن الفسق ليس إيماناً فمن فسق فلم يؤمن بذلك العمل الذي هو الفسق ولم يقل عز وجل أنه لا يؤمن في شيء من سائر أعماله وقد قال تعالى: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم " فهؤلاء قد شهد الله تعالى لهم بالإيمان فإذا وقع منهم فسق ليس إيماناً فمن المحال أن يبطل فسقه إيمانه في سائر أعماله وأن يبطل إيمانه في سائر الأعمال فسقه بل شهادة الله تعالى له بالإيمان في جهاده حق وبأنه لم يؤمن في فسقه حق أيضاً فإن الله عز وجل قال: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " فيلزم المعتزلة أن يصرحوا بكفر كل عاص قال أبو محمد: وأما نحن فنقول أن كل من كفر فهو فاسق ظالم عاص وليس كل فاسق ظالم عاص كافراً بل قد يكون مؤمناً وبالله تعالى التوفيق وقد قال تعالى: " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " فبعض الظلم مغفور بنص القرآن.

قال أبو محمد: وقالوا قد وجب لعن الفساق والظالمين وقال تعالى: " ألا لعنة الله على الظالمين " والمؤمن يجب ولايته والدعاء له بالرحمة وقد لعن رسول الله السارق ومن لعن أباه ومن غير منار الأرض فيلزمكم أن تدعوا على المرء الواحد باللعنة والمغفرة معاً.

قال أبو محمد: فنقول أن المؤمن الفاسق يتولى دينه وملته وعقده وإقراره ويتبرأ من عمله الذي هو الفسق والبراءة والولاية ليست من عين الإنسان مجردة فقط وإنما هي له أو منه بعمله الصالح أو الفاسد فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن المحسن في بعض أفعاله من المؤمنين نتولاه من أجل ما أحسن فيه ونبرأ من عمله السيء فقط وأما الله تعالى فإنه يتولى عمله الصالح عنده ويعادي عمله الفاسد وأما الدعاء باللعنة والرحمة معاً فلسنا ننكره بل هو معنى صحيح وما جاء عن الله قط ولا عن رسول الله نهي أن يلعن العاصي على معصيته ويترحم عليه لإحسانه ولو أن امرأ زنى أو سرق وحال الحول على ماله وجاهد لوجب أن يحد للزنا والسرقة ولو لعن لأحسن لاعنه ويعطي نصيبه من المغنم ونقبض زكاة ماله ونصلي عليه عند ذلك لقول الله: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " وبيقين ندري أن قد كان في أولئك الذين كان عليهم السلام يقبض صدقاتهم ويصلي عليهم مذنبون عصاة لا يمكن البتة أن يخلوا جميع جزيرة العرب من عاص وكذلك كل من مات في عصره عليه السلام وصلى عليه هو عليه السلام والمسلمون معه وبعده فبيقين ندري أنه قد كان فيهم مذنب بلا شك وإذا صلى عليه ودعا له بالرحمة وإن ذكر عمله القبيح لعن وذم.

قال أبو محمد: ونعكس عليهم هذا السؤال نفسه في أصحاب الصغاير الذين يوقع عليهم المعتزلة اسم الإيمان فهذه السؤالات كلها لازمة لهم إذ الصغاير ذنوب ومعاص بلا شك إلا أننا لا نوقع عليها اسم فسق ولا ظلم إذا انفردت عن الكباير لأن الله تعالى ضمن غفرانها لمن اجتنب الكباير ومن غفر له ذنبه فمن المحال أن يوقع عليه اسم فاسق أو اسم ظالم لأن هذين اسمان يسقطان قبول الشهادة ومجتنب الكباير وإن تستر بالصغاير فشهادته مقبولة لأنه لا ذنب له وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: ولنا على المعتزلة الزامات أيضاً تعمهم والخوارج المكفرة ننبه عليها عند نقضنا أقوال المكفرة إن شاء الله تعالى وبه نتأيد.

قال أبو محمد: ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة كافر قال الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فأتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " فابتدأ الله عز وجل بخطاب أهل الإيمان من كان فيهم من قاتل أو مقتول ونص تعالى على أن القاتل عمداً وولي المقتول أخوان وقد قال تعالى: " إنما المؤمنون أخوة " فصح أن القاتل عمداً مؤمن بنص القرآن وحكم له بأخوة الإيمان ولا يكون للكافر مع المؤمن بتلك الأخوة وقال تعالى: " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " فهذه الآية رافعة للشك جملة في قوله تعالى أن الطائفة الباغية على الطائفة الأخرى من المؤمنين المأمور سائر المؤمنين بقتالها حتى تفيء إلى أمر الله تعالى أخوة للمؤمنين المقاتلين وهذا أمر لا يضل عنه إلاضال وهذه الآيتان حجة قاطعة أيضاً على المعتزلة أيضاً المسقطة اسم الإيمان عن القاتل وعن كل من أسقط عن صاحب الكباير اسم الإيمان وليس لأحد أن يقول أنه تعالى إنما جعلهم إخواننا إذا تابوا لأن نص الآية أنهم إخوان في حالة البغي وقبل الفئة إلى الحق.

قال أبو محمد: وقال بعضهم أن هذا الاقتتال إنما هو التضارب.

قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش لوجهين أحدهما أنه دعوى بلا برهان وتخصيص الآية بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل بلا شك والثاني أن ضرب المسلم للمسلم ظلماً وبغياً فسق ومعصية ووجه ثالث وهو أن الله تعالى لو لم يرد القتال المعهود لما أمرنا بقتال من لا يزيد على الملاطمة وقد عم تعالى فيها باسم البغي فكل بغي فهو داخل تحت هذا الحكم.

قال أبو محمد: وقد ذكروا قول الله عز وجل: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ".

قال أبو محمد: فهذه الآية بظاهرها دون تأويل حجة لنا عليهم لأنه ليس فيها أن القاتل العامل ليس مؤمناً وإنما فيها نهي المؤمن عن قتل المؤمن عمداً فقط لأنه تعالى قال: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا " وهكذا نقول ليس للمؤمن قتل المؤمن عمداً ثم قال تعالى: " إلا خطأ " فاستثنى الله عز وجل الخطاء في القتل من جملة ما حرم من قتل المؤمن للمؤمن لأنه لا يجوز النهي عما لا يمكن الانتهاء عنه ولا يقدر عليه لأن الله تعالى أمننا من أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وكل فعل خطأ فلم ننه عنه بل قد قال تعالى: " وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ " فبطل تعلقهم بهذه الآية وكذلك قول رسول الله : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " فهو أيضاً على ظاهره وإنما في هذا اللفظ النهي عن أن يرتدوا بعده إلى الكفر فيقتتلوا في ذلك فقط وليس في هذا اللفظ أن القاتل كافر ولا فيه أيضاً النهي عن القتل المجرد أصلاً وإنما نهى عنه في نصوص أخر من القرآن والسنن كما ليس في هذا اللفظ أيضاً نهي عن الزنا ولا عن السرقة وليس في كل حديث حكم كل شريعة فبطل تعلقهم بهذا الخبر وكذلك قوله عليه السلام: " سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر " فهو أيضاً على عمومه لأن قوله عليه السلام المسلم هاهنا عموم للجنس ولا خلاف في أن من نابذ جميع المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر برهان هذا هو ما ذكرنا قبل من نص القرآن في أن القاتل عمداً والمقاتل مؤمنان وكلامه عليه السلام لا يتعارض ولا يختلف وكذلك قوله عليه السلام: " لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر لكم أن ترغبوا عن آبائكم " فإنه عليه السلام لم يقل كفر منكم ولم يقل أنه كفر بالله تعالى نعم ونحن نقر أن من رغب عن أبيه فقد كفر بأبيه وجحده ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً ولكنه كافر أو فاسق ألم يقل الله عز وجل: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم " وقال تعالى: " فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " وقال تعالى: " وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ " وقال تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين " وفي سورة النساء محصنات غير مسافحات فهذه آيات في غاية البيان في أنه ليس في الأرض إلا مؤمن أو كافر أو مؤمنة أو كافرة ولا يوجد دين ثالث وأن المؤمنة حلال نكاحها للمؤمن وحرام نكاحها على الكافر وأن الكتابية حلال للمؤمن بالزواج وللكافر فخبرونا إذا زنت المرأة وهي غير محصنة أو وهي محصنة أو إذا سرقت أو شربت الخمر أو قذفت أو أكلت مال يتيم أو تعمدت ترك الغسل حتى خرج وقت الصلاة وهي عالمة بذلك أو لم تخرج زكاة مالها فكانت عندكم بذلك كافرة أو بريئة من الإسلام خارجة عن الإيمان وخارجة من جملة المؤمنين أيحل للمؤمن الفاضل ابتداء نكاحها والبقاء معها على الزوجية إن كان قد تزوجها قبل ذلك أو يحرم على أبيها الفاضل أو أخيها البر أن يكونا لها وليين في تزويجها وأخبرونا إذا زنا الرجل أو سرق أو قذف أو أكل مال يتيم أو فر من الزحف أو سحر أو ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها أو لم يخرج زكاة ماله فصار بذلك عندكم كافراً أو بريء من الإسلام وخرج عن الإيمان وعن جملة المؤمنين أيحرم عليه ابتداء نكاح امرأة مؤمنة أو وطؤها بملك اليمين أو تحرم عليه امرأته المؤمنة التي في عصمته فينفسخ نكاحها منه أو يحرم عليه أن يكون ولياً لابنته المؤمنة أو أخته المؤمنة في تزويجها وهل يحرم على التي ذكرنا والرجل الذي ذكرنا ميراث وليه المؤمن أو يحرم على وليهما المؤمن ميراثهما أو يحرم أكل ذبيحته لأنه قد فارق الإسلام في زعمكم وخرج عن جملة المؤمنين فإنهم كلهم لا يقولون بشيء من هذا فمن الخلاف المجرد منهم لله تعالى أن يحرم الله تعالى المؤمنة على من ليس بمؤمن فيحلونها هم ويحرم الله تعالى التي ليست مؤمنة على المؤمن ألا تكون كتابية فيحلونها هم ويقطع الله تعالى الولاية بين المؤمن ومن ليس مؤمناً فيبقونها هم في الإنكاح ويحرم الله تعالى ذبائح من ليس مؤمناً إلا أن يكون كتابياً فيحلونها هم ويقطع عز وجل الموارثة بين المؤمن ومن ليس مؤمناً فيثبتونها هم ومن خالف القرآن وثبت على ذلك بعد قيام الحجة عليه فنحن نبرأ إلى الله تعالى منه.

قال أبو محمد: وأكثر هذه الأمور التي ذكرنا فإنه لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيها ولا بين فرقة من الفرق المنتمية إلى الإسلام وفي بعضها خلاف نشير إليه لئلا يظن ظان أننا أغفلناه فمن ذلك الخلاف في الزاني والزانية فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفسخ النكاح قبل الدخول بوقوعه من أحدهما والحسن البصري وغيره من السلف لا يجيزون للزاني ابتداء النكاح مع مسلمة البتة ولا للزانية أيضاً إلا أن يتوبا وبهذا نقول نحن ليس لأنهما ليسا مسلمين بل هما مسلمان ولكنها شريعة من الله تعالى واردة في القرآن في ذلك كما يحرم على المحرم النكاح مادام محرماً وبالله تعالى التوفيق وذلك قوله تعالى: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ". قال أبو محمد: وفي هذه الآية أيضاً نص جلي على أن الزاني والزانية ليسا مشركين لأن الله تعالى فرق بينهما فرقاً لا يحتمل البتة أن يكون على سبيل التأكيد بل على أنهما صفتان مختلفان وإذا لم يكونا مشركين فهما ضرورة مسلمان بما قد بينا قبل من أن كل كافر فهو مشرك وكل مشرك فهو كافر ومن لم يكن كافراً مشركاً فهو مؤمن إذ لا سبيل إلى دين ثالث وبالله تعالى التوفيق ومن الخلاف في بعض ما ذكرنا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإبراهيم النخعي أن المسلم إذا ارتد والمسلمة إذا لم يسلم زوجها فهي امرأته كما كانت إلا أنه لا يطؤها وروي عن عمر أيضاً أنها تخير في البقاء معه أو فراقه وكل هذا لا حجة فيه ولا حجة إلا في نص قرآن أو سنة واردة عن رسول الله .

قال أبو محمد: وأيضاً فإن الله عز وجل قد أمر بقتل المشركين ولم يستثن منهم أحداً إلا كتابياً يغرم الجزية مع الصغار أو رسولاً حتى يؤدي رسالته ويرجع إلى مأمنه أو مستجيراً ليسمع كلام الله تعالى ثم يبلغ إلى مأمنه وأمر رسول الله بقتل من بدل دينه فنسأل كل من قال بأن صاحب الكبيرة قد خرج من الإيمان وبطل إسلامه وصار في دين آخر إما الكفر وإما الفسق إذا كان الزاني والقاتل والسارق والشارب للخمر والقاذف والفار من الزحف وآكل مال اليتيم قد خرج عن الإسلام وترك دينه أيقتلونه كما أمر رسول الله عن الله أم لا يقتلونه فيخالفون الله تعالى ورسوله ومن قولهم كلهم خوارجهم ومعتزليهم أنهم لا يقتلونه وأما في بعض ذلك حدود معروفة من قطع يد أو جلد مائة أو ثمانين وفي بعض ذلك أدب فقط وأنه لا يحل الدم بشيء من ذلك وهذا انقطاع ظاهر وبطلان لقولهم لا خفاء به.

قال أبو محمد: وبعض شاذة الخوارج جسر فقال تقام الحدود عليهم ثم يستتابون فيقتلون.

قال أبو محمد: وهذا خلاف الإجماع المتيقن وخلاف للقرآن مجرد لأن الله تعالى يقول: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا " فقد حرم الله تعالى قتلهم وافترض استبقاءهم مع إصرارهم ولم يجعل فيهم إلا رد شهادتهم فقط ولو جاز قتلهم فطيف كانوا يؤدون شهادة لا تقبل بعد قتلهم.

قال أبو محمد: وقال الله عز وجل: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ".

قال أبو محمد: لا خلاف بيننا وبينهم ولا بين أحد من الأمة في أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله واستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فإنه مؤمن مسلم فلو كان الفاسق غير مؤمن لكان كافراً ولا بد ولو كان كافراً لكان مرتداً يجب قتله وبالله تعالى التوفيق قال الله عز وجل: " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم " وقال تعالى: " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " فوجب يقيناً بأمر الله عز وجل ألا يترك يعمر مساجد الله بالصلاة فيها إلا المؤمنون وكلهم متفق معنا على أن الفاسق صاحب الكبائر مدعو ملزم عمارة المساجد للصلاة مجبر على ذلك وفي إجماع الأمة كلها على ذلك وعلى تركهم يصلون معنا وإلزامهم أداء الزكاة وأخذها منهم وإلزامهم صيام رمضان وحج البيت برهان واضح لا إشكال فيه على أنه لم يخرج عن دين المؤمنين وأنه مسلم مؤمن وقال عز وجل: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ " إلى قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " فخاطب تعالى المؤمنين باياس الكافرين عن دينهم ولا سبيل إلى قسم ثالث وقال تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " فصح أن لا دين إلا دين الإسلام وما عداه شيء غير مقبول وصاحبه يوم القيامة خاسر وبالله تعالى التوفيق وقال عز وجل " المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " وقال تعالى: " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض " وقال تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " وقال تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير " فصح يقيناً أنه ليس في الناس ولا في الجن إلا مؤمن أو كافر فمن خرج عن أحدهما دخل في الآخر فنسألهم عن رجل من المسلمين فسق وجاهر بالكباير وله أختان إحداهما نصرانية والثانية مسلمة فاضلة لأيتهما يكون هذا الفاسق ولياً في النكاح ووارثاً وعن امرأة سرقت وزنت ولها ابنا عم أحدهما يهودي والآخر مسلم فاضل أيهما يحل له نكاحها وهذا ما لا خلاف فيه ولا خفاء به فصح أن صاحب الكباير مؤمن وقال الله تعالى: " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا " وقال تعالى: " إنما يتقبل الله من المتقين " فأخبرونا أتأمرون الزاني والسارق والقاذف والقاتل بالصلاة وتؤدبونه أن لم يصل أم لا فمن قولهم نعم ولو قالوا لا لخالفوا الإجماع المتيقن فنقول لهم أفتأمرونه بما هو عليه أم بما ليس عليه وربما يمكن أن يقبله الله تعالى أم بما يوقن أنه لا يقبله فإن قالوا نأمره بما ليس عليه ظهر تناقضهم إذ لا يجوز أن يلزم أحد ما لا يلزمه وإن قالوا بل بما عليه قطعوا بأنه مؤمن لأن الله تعالى أخبر أن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً وإن قالوا نأمره بما لا يمكن أن يقبل منه أحالوا إذ من المحال أن يؤمر أحد بعمل هو على يقين بأنه لا يقبل منه وإن قالوا بل نأمره بما نرجو أن يقبل منه قلنا صدقتم وقد صح بهذا أن الفاسق من المتقين فيما عمل من عمل صالح فقط ومن الفاسقين فيما عمل من عمل صالح فقط ومن الفاسقين فيما عمل من المعاصي ونسألهم أيأمرون صاحب الكبيرة بتمتيع المطلقة إن طلقها أم لا فإن قالوا نأمره بذلك لزمهم أنه من المحسنين المتقين لأن الله تعالى يقول في المتعة حقاً على المحسنين وحقاً على المتقين فصح أن الفاسق محسن فيما عمل من صالح ومسيء فيما عمل من سيء فإن قالوا أن الصلاة عليه كما هي عندكم على الكفار أجمعين قلنا لا سواء لأنها وإن كان الكافر وغير المتوضئ والجنب مأمورين بالصلاة معذبين على تركها فإنا لا نتركهم يقيمونها أصلاً بل نمنعهم منها حتى يسلم الكافر ويتوضأ المحدث ويغتسل الجنب ويتوضأ أو يتيمم وليس كذلك الفاسق بل نجبره على إقامتها.

قال أبو محمد: وهذا لا خلاف فيه من أحد إلا أن الجبائي المعتزلي ومحمد بن الطيب الباقلاني ذهبا من بين جميع الأمة إلى إن كانت له ذنوب فإنه لا تقبل له توبة من شيء منها حتى يتوب من الجميع واتبعهما على ذلك قوم وقد ناظرنا بعضهم في ذلك وألزمناهم أن يوجبوا على كل من أذنب ذنباً واحداً أن يترك الصلاة الفرض والزكاة وصوم رمضان والجمعة والحج والجهاد لأن إقامة كل ذلك توبة إلى الله من تركها فإذا كانت توبته لا تقبل من شيء حتى يتوب من كل ذنب له فإنه لا يقبل له توبة من ترك صلاة ولا من ترك صوم ولا من ترك زكاة إلا حتى يتوب من كل ذنب له وهذا خلاف لجميع الأمة إن قالوه أو تناقض إن لم يقولوه مع أنه قول لا دليل لهم على تصحيحه أصلاً وما كان هكذا فهو باطل قال الله تعالى: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " وقال تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " وقال تعالى: " وصالح المؤمنين " فصح يقيناً بهذا اللفظ أن فينا غير عدل وغير صالح وهما منا ونحن المؤمنون فهو مؤمن بلا شك وقال تعالى: " فإن تابوا " يعني من الشرك " وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " وهذا نص جلي على أن من صلى من أهل شهادة الإسلام وزكى فهو أخونا في الدين ولم يقل تعالى ما لم يأت بكبيرة فصح أنه منا وإن أتى بالكباير.

قال أبو محمد: فإن ذكروا قول الله تعالى: " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " وقوله تعالى: " ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم " وراموا بذلك إثبات أنه لا مؤمن ولا كافر فهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما وصف بذلك المنافقين المبطنين للكفر المظهرين للإسلام فهم لا مع الكفار ولا منهم ولا إليهم لأن هؤلاء يظهرون الإسلام وأولئك لا يظهرونه ولا هم مع المسلمين ولا منهم ولا إليهم لإبطانهم الكفر وليس في هاتين الآيتين أنهم ليسوا كفاراً وقد قال عز وجل: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " فصح يقيناً أنهم كفار لا مؤمنون أصلاً وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة منافق ما معنى هذه الكلمة فجوابهم الذي لا جواب لأحد في هذه المسألة غيره هو أن المنافق من كان النفاق صفته ومعنى النفاق في الشريعة هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر فيقال له وبالله تعالى التوفيق لا يعلم ما في النفوس إلا الله تعالى ثم تلك النفس التي ذلك الشيء فيها فقط ولا يجوز أن نقطع على اعتقاد أحد الكفر إلا بإقراره بلسانه بالكفر وبوحي من عند الله تعالى ومن تعاطى علم ما في النفوس فقد تعاطى علم الغيب وهذا خطأ متيقن يعلم بالضرورة وحسبك من القول سقوطاً أن يؤدي إلى المحال المتيقن وقد قيل لرسول الله : " رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه " فقال عليه السلام: " إني لم أبعث لأشق على قلوب الناس " وقد ذكر الله تعالى المنافقين فقال لرسول الله : " وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " فإذا كان رسول الله لا يعرف المنافقين وهم معه وهو يراهم ويشاهد أفعالهم فمن بعده أحرى أن لا يعلمهم ولقد كان الزناة على عهده والسرقة والشراب ومضيعوا فرض الصلاة في الجماعة والقاتلون عمداً والقذفة فما سمى عليه السلام قط أحداً منهم منافقين بل أقام الحدود في ذلك وتوعد بحرق المنازل وأمر بالدية والعفو وأبقاهم في جملة المؤمنين وأبقى عليهم حكم الإيمان واسمه وقد قلنا أن التسمية في الشريعة لله عز وجل لا لأحد دونه ولم يأت قط عن الله عز وجل تسمية صاحب الكبيرة منافقاً فإن قالوا قد صح عن النبي أنه قال وقد ذكر خصالاً من كن فيه كان منافقاً خالصاً وإن صام وصلى وقال إني مسلم وذكر عليه السلام تلك الخصال فمنها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وذكر عليه السلام أن من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها قلنا له وبالله تعالى التوفيق صدق رسول الله وقد أخبرناك أن المنافق هو من أظهر شيئاً وأبطن خلافه مأخوذ في أصل اللغة من نافقاء اليربوع وهو باب في جانب جحره مفتوح قد غطاه بشيء من تراب وهذه الخلال كلها التي ذكرها رسول الله كلها باطن صاحبها بخلاف ما يظهر فهو منافق هذا النوع من النفاق وليس هو النفاق الذي يظن صاحبه الكفر بالله برهان ذلك ما ذكرناه آنفاً من إجماع الأمة على أخذ زكاة مال كل من وصف رسول الله بالنفاق وعلى إنكاحه ونكاحها إن كانت امرأة وموارثته وأكل ذبيحته وتركه يصلي مع المسلمين وعلى تحريم دمه وماله ولو تيقنا أنه يبطن الكفر لوجب قتله وحرم نكاحه ونكاحها وموارثته وأكل ذبيحته ولم نتركه يصلي مع المسلمين ولكن تسمية النبي من ذكر منافقاً كتسمية الله عز وجل الذراع كفاراً إذ يقول الله تعالى: " كمثل غيث أعجب الكفار نباته " لأن أصل الكفر في اللغة التغطية فمن ستر شيئاً فهو كافر له وأصل النفاق في اللغة ستر شيء وإظهار خلافه فمن ستر شيئاً وأظهر خلافه فهو منافق فيه وليس هذان من الكفر الديني ولا من النفاق الشرعي في شيء وبهذا تتألف الآيات والأحاديث كلها وبالله تعالى التوفيق ثم نقول لمن قال بهذا القول هل أتيت بكبيرة قط فإن قال لا قيل له هذا القول كبيرة لأنه تذكية وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فقال تعالى: " فلا تزكوا أنفسكم " وقد علمنا أنه لا يعرى أحد من ذنب إلا الملائكة والنبيين صلى الله عليهم وسلم وأما من دونهم فغير معصوم بل قد اختلف الناس في عصمة الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام وإن كنا قاطعين على خطأ من جوز على أحد من الملائكة ذنباً صغيراً أو كبيراً بعمد أو خطأ وعلى خطأ من جوز على أحد من النبيين ذنباً بعمد صغيراً أو كبيراً لكنا أعلمنا أنه لم يتفق على ذلك قط وإن قال بلى قد كان لي كبيرة قيل هل كنت في حال مواقعتك الكبيرة شاكاً في الله عز وجل أو في رسوله أو كافراً بهما أم كنت موقناً بالله تعالى وبالرسول وبما أتى به موقناً بأنك مسيء مخطئ في ذنبك فإن قال كنت كافراً أو شاكاً فهو أعلم بنفسه ويلزمه أن يفارق وأمته المسلمتين ولا يرث من مات له من المسلمين ثم بعد ذلك لا يجوز له أن يقطع على غيره من المذنبين بمثل اعتقاده في الجحد ونحن نعلم بالضرورة كذب دعواه وندري أننا في حين ما كان منا ذنب مؤمنون بالله تعالى وبرسوله وإن قال بل كنت مؤمناً بالله تعالى وبرسوله في حال ذنبي قيل له هذا إبطال منك للقول بالنفاق والقطع به على المذنبين.

قال أبو محمد: ففي إجماع الأمة كلها دون مختلف من أحد منهم على أن صاحب الكبيرة مأمور بالصلاة مع المسلمين وبصوم شهر رمضان والحج وبأخذ زكاة ماله وإباحة مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته وبتركه يتزوج المرأة المسلمة الفاضلة ويبتاع الأمة المسلمة الفاضلة ويطأها وتحريم دمه وماله وأن لا يؤخذ منه جزية ولا يصغر برهان صحيح على أنه مسلم مؤمن وفي إجماع الأمة كلها دون مخالف على تحريم قبول شهادته وخبره برهان على أنه فاسق فصح يقيناً أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان عن المؤمن الذي ليس بفاسق قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " فأما من قال أنه كافر نعمة فما لهم حجة أصلاً إلا أن بعضهم نزغ بقول الله تعالى: " الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ".

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن نص الآية مبطل لقولهم لأن الله تعالى يقول متصلاً بقوله: " وبئس القرار وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله " فصح أن الآية في المشركين بلا شك وأيضاً فقد يكفر المرء نعمة الله ولا يكون كافراً بل مؤمناً بالله تعالى كافراً لأنعمه بمعاصيه لا كافراً على الإطلاق وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد أو في شيء من مسائل الفتيا فهو كافر وذهبت طائفة إلى أنه كافر في بعض ذلك فاسق غير كافر في بعضه على حسب ما أدتهم إليه عقولهم وظنونهم وذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في مسائل الاعتقاد فهو كافر وأن من خالفهم في مسائل الأحكام والعبادات فليس كافراً ولا فاسقاً ولكنه مجتهد معذور أن الخطأ مأجور بنيته وقالت طائفة بمثل هذا فيمن خالفهم في مسائل العبادات وقالوا فيمن خالفهم في مسائل الاعتقادات أن كان الخلاف في صفات الله عز وجل فهو كافر وإن كان فيما دون ذلك فهو فاسق وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على حال إن أصاب الحق فأجران وإن أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلي وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي رضي الله عن جميعهم وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم لا نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً إلا من ذكرنا من اختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمداً حتى خرج وقتها أو ترك أداء الزكاة أو ترك الحج أو ترك صيام رمضان أو شرب الخمر واحتج من كفر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء الله عز وجل.

قال أبو محمد: ذكروا حديثاً عن رسول الله أن القدرية والمرجئية مجوس بهذه الأمة وحديثاً آخر تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة حاشا واحدة فهي في الجنة.

قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الإسناد وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد فكيف من لا يقول به واحتجوا بالخبر الثابت عن رسول الله : " من قال لأخيه فقد باء بالكفر أحدهما ".

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن لفظه يقتضي أنه يأثم برميه للكفر ولم يقل عليه السلام أنه بذلك كافر. قال أبو محمد: و الجمهور من المحتجين بهذا الخبر لا يكفرون من قال لمسلم يا كافر في مشاتمة تجري بينهما وبهذا خالفوا الخبر الذي احتجوا به.

قال أبو محمد: والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع وأما بالدعوة والافتراء فلا فوجب أن لا يكفر أحد بقول قاله إلا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله قاله فستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة والسلام وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة أو في فتيا وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله منقولاً نقل إجماع تواتر أو نقل آحاد إلا أن من خالف الإجماع المتقين المقطوع على صحته فهو أظهر في قطع حجته ووجوب تكفيره لا تفاق الجميع على معرفة الإجماع وعلى تكفير مخالفته برهان صحة قولنا قول الله تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ".

قال أبو محمد: هذه الآية نص بتكفير من فعل ذلك فإن قال قائل أن من اتبع غير سبيل المؤمنين فليس من المؤمنين قلنا له وبالله تعالى التوفيق ليس كل من اتبع غير سبيل المؤمنين كافراً لأن الزنا وشرب الخمر وأكل أموال الناس بالباطل ليست من سبيل المؤمنين وقد علمنا أن من اتبعها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين وليس مع ذلك كافراً ولكن البرهان في هذا قول الله عز وجل: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " قال أبو محمد: فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلاً ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلاً ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان.

قال أبو محمد: وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان فلا يكون كافراً إلا أن يأتي نص بتكفيره فيوقف عنده كمن بلغه وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي فقط فيمسك عن البحث عن خبره فإنه كافر فإن قال قائل فما تقولون فيمن قال أنا أشهد أن محمداً رسول الله ولا أدري أهو قرشي أم تميمي أم فارسي ولا هل كان بالحجاز أو بخرسان ولا أدري أحي هو أو ميت ولا أدري لعله هذا الرجل الحاضر أم غيره قيل له إن كان جاهلاً لا علم عنده بشيء من الأخبار والسير لم يضره ذلك شيئاً ووجب تعليمه ووجب تعليمه فإذا علم وصح عنده الحق فإن عاند فهو كافر حلال دمه وماله محكوم عليه حكم المرتد وقد علمنا أن كثيراً ممن يتعاطى الفتيا في دين الله عز وجل نعم وكثيراً من الصالحين لا يدري كم لموت النبي ولا أين كان ولا في أي بلد كان ويكفيه من كل ذلك إقراره بقلبه ولسانه أن رجلاً اسمه محمد أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدين.

قال أبو محمد: وكذلك من قال أن ربه جسم فإنه إن كان جاهلاً أو متأولاً فهو معذور لا شيء عليه ويجب تعليمه فإذا قامت الحجة عليه من القرآن والسنن فخالف ما فيهما عناداً فهو كافر يحكم عليه بحكم المرتد وأم من قال أن الله عز وجل هو فلان لإنسان بعينه أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه أو أن بعد محمد نبياً غير عيسى بن مريم فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد ولو أمكن أن قال أبو محمد: وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفراً بل قد أحسن إذا فر من الكفر وأيضاً فإنه ليس للناس قول إلا ومخالف ذلك القول يلزم خصمه الكفر في فساد قوله وطرده فالمعتزلة تنسب إلينا تجوير الله عز وجل وتشبيهه بخلقه ونحن ننسب إليهم مثل ذلك سواء بسواء ونلزمهم أيضاً تعجيز الله عز وجل وأنهم يزعمون أنهم يخلقون كخلقه وأن له شركاء في الخلق وأنهم مستغنون عن الله عز وجل ومن أثبت الصفات يسمي من نفاها باقية لأنهم قالوا تعبدون غير الله تعالى لأن الله تعالى له صفات وأنتم تعبدون من لا صفة له ومن نفى الصفات يقول لمن أثبتها أنتم تجعلون مع الله عز وجل لم تزل وتشركون به غيره وتعبدون غير الله لأن الله تعالى لا أحد معه ولا شيء معه في الأزل وأنتم تعبدون شيئاً من جملة أشياء لم تزل وهكذا في كل ما اختلف فيه حتى في الكون والجزء وحتى في مسائل الأحكام والعبادات فأصحاب القياس يدعون علينا خلاف الإجماع وأصحابنا يثبتون عليهم خلاف الإجماع وإحداث شرائع لم يأذن الله عز وجل بها وكل فرقة فهي تنتفي بما تسميها به الأخرى وتكفر من قال شيئاً من ذلك فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله ونص معتقده ولا ينتفع أحد بأن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط وأما الأحاديث الواردة في أن ترك الصلاة شرك فلا تصح من طريق الإسناد وأما الأخبار التي فيها من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقد جاءت أحاديث أخر بزيادة على هذا الخبر لا يجوز ترك تلك الزيادة وهي قوله عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وأني رسول الله ويؤمنوا بما أرسلت به فهذا هو الذي لا إيمان لأحد بدونه.

قال أبو محمد: واحتج بعض من يكفر من سب الصحابة رضي الله عنهم بقول الله عز وجل: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " إلى قوله: " ليغيظ بهم الكفار " قال فكل من أغاظه أحد من أصحاب رسول الله فهو كافر.

قال أبو محمد: وقد أخطأ من حمل الآية على هذا لأن الله عز وجل لم يقل قط أن كل من غاظه واحد منهم فهو كافر وإنما أخبر تعالى أنه يغيظ بهم الكفار فقط ونعم هذا حق لا ينكره مسلم وكل مسلم فهو يغيظ الكفار وأيضاً فإنه لا يشك أحد ذو حس سليم في أن علياً قد غاظ معاوية وأن معاوية وعمرو بن العاص غاظا علياً وأن عماراً غاظ أبا العادية وكلهم أصحاب رسول الله فقد غاظ بعضهم بعضاً فيلزم على هذا تكفير من ذكرنا وحاشا لله من هذا.

قال أبو محمد: ونقول لمن كفر إنساناً بنفس مقالته دون أن تقوم عليه الحجة فيعاند رسول الله ويجد في نفسه الحرج مما أتى به أخبرنا هل ترك رسول الله شيئاً من الإسلام الذي يكفر من لم يقل به إلا وقد بينه ودعا إليه الناس كافة فلا بد من نعم ومن أنكر هذا فهو كافر بلا خلاف فإذا أقر بذلك سئل هل جاء قط عن النبي أنه لم يقبل إيمان أهل قرية أو أهل محلة أو إنسان أتاه من حر أو عبداً أو امرأة إلا حتى يقران الاستطاعة قبل الفعل أو مع الفعل أو أن القرآن مخلوق أو أن الله تعالى يرى أو لا يرى أو أن له سمعاً وبصراً وحياة أو غير ذلك من فضول المتكلمين التي أوقعها الشيطان بينهم ليوقع بينهم العداوة والبغضاء فإن ادعى أن النبي لم يدع أحداً يسلم إلا حتى يوقفه على هذه المعاني كان قد كذب بإجماع المسلمين من أهل الأرض وقال ما يدري أنه فيه كاذب وادعى أن جميع الصحابة رضي الله عنهم تواطئوا على كتمان ذلك من فعله عليه السلام وهذا محال ممتنع في الطبيعة ثم فيه نسبة الكفر إليهم إذ كتموا ما لا يتم إسلام أحد إلا به وإن قالوا أنه لم يدع قط أحداً إلى شيء من هذا ولكنه مودع في القرآن وفي كلامه قيل له صدقت وقد صح بهذا أنه لو كان جهل شيء من هذا كله كفراً لما ضيع رسول الله بيان ذلك للحر والعبد والحرة والأمة ومن جوز هذا فقد قال أن رسول الله لم يبلغ كما أمر وهذا كفر مجرد ممن أجازه فصح ضرورة أن الجهل بكل ذلك لا يضر شيئاً وإنما يلزم الكلام منها إذا خاض فيها الناس فيلزم حينئذ بيان الحق من القرآن والسنة لقول الله عز وجل: " كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " ولقول الله عز وجل: " لتبيننه للناس ولا تكتمونه " فمن عند حينئذ بعد بيان الحق فهو كافر لأنه لم يحكم رسول الله ولا سلم لما قضى به وقد صح عن رسول الله أن رجلاً لم يعمل خيراً قط فلما حضره الموت قال لأهله إذا مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح نصفه في البحر ونصفه في البر فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحد من خلقه وأن الله عز وجل جمع رماده فأحياه وسأله ما حملك على ذلك قال خوفك يا رب وأن الله تعالى غفر له لهذا القول.

قال أبو محمد: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله علي إنما هو لئن ضيق الله علي كما قال تعالى: " وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ".

قال أبو محمد: وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى ولا شك في أنه إنما قال أبو محمد: وأبين شيء من هذا قول الله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " إلى قوله: " ونعلم إن قد صدقتنا " فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا ما لا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبيينهم لها.

قال أبو محمد: وبرهان ضروري لا خلاف فيه وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك وأسقط كلمة عمداً كذلك أو زاد فيها كلمة عامداً فإنه كافر بإجماع الأمة كلها ثم أن المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى ويبدل كلامه جاهلاً مقدراً أنه مصيب ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافراً ولا فاسقاً ولا آثماً فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره فإن تمادى على خطاه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة.

قال أبو محمد: واحتج بعضهم بأن قال الله تعالى: " قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ".

قال أبو محمد: وآخر هذه الآية مبطل لتأويلهم لأن الله عز وجل وصل قوله يحسنون صنعاً بقوله: " أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا " فهذا يبين أن أول الآية في الكفار المخالفين لديانة الإسلام جملة ثم نقول لهم لو نزلت هذه الآية في المتأولين من جملة أهل الإسلام كما تزعمون لدخل في جملتها كل متأول مخطئ في تأويل في فتيا لزمه تكفير جميع الصحابة رضي الله عنهم لأنهم قد اختلفوا وبيقين ندري أن كل امرأ منهم فقد يصيب ويخطأ بل يلزمه تكفير جميع الأمة لأنهم كلهم لا بد من أن يصيب كل امرئ منهم ويخطئ بل يلزمه تكفير نفسه لأنه لا بد لكل من تكلم في شيء من الديانة من أن يرجع عن قول قاله إلى قول آخر يتبين له أنه أصح إلا أن يكون مقلداً فهذه أسوأ لأن التقليد خطأ كله لا يصح ومن بلغ إلى هاهنا فقد لاح غوامر قوله وبالله تعالى التوفيق وقد أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه أنه لم يفهم آية الكلالة فما كفره بذلك ولا فسقه ولا أخبره أنه آثم بذلك لكن أغلظ له في كثرة تكراره السؤال عنها فقط وكذلك أخطأ جماعة من صحابة رضي الله عنهم في حياة رسول الله في الفتيا فبلغه عليه السلام ذلك فما كفر بذلك أحد منهم ولا فسقه ولا جعله بذلك إثماً لأنه لم يعانده عليه السلام أحد منهم وهذا كفتيا أبي السنابل بعكك في آخر الأجلين والذين أفتوا على الزاني غير المحصن الرجم وقد تقصينا هذا في كتابنا المرسوم بكتاب الأحكام في أصول الأحكام هذا وأيضاً فإن الآية المذكورة لا تخرج على قول أحد ممن خالفنا إلا بحذف وذلك أنهم يقولون أن الذين في قوله تعالى الذين ضل سعيهم في الحيلة الدنيا هو خبراً ابتداء مضمر ولا يكون ذلك إلا بحذف الابتداء كأنه قال هم الذين لا يجوز لأحد أن يقول في القرآن حذفاً إلا بنص آخر جلي يوجب ذلك أو إجماع على ذلك أو ضرورة حس فبطل قولهم وصار دعوى بلا دليل وأما نحن فإن لفظة الدين عندنا على موضوعها دون حذف وهو نعت للأخسرين ويكون خبراً لابتداء قوله تعالى: " أولئك الذين كفروا " وكذلك قوله تعالى: " فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ " فنعم هذه صفة القول الذين وصفهم الله تعالى بهذا في أول الآية ورد الضمير إليهم وهم الكفار بنص أول الآية وقال قائلهم أيضاً فإذا عذرتم للمجتهدين إذا أخطأوا فأعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل فإنهم أيضاً مجتهدون قاصدون الخير فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا ولا كفرنا من كفرنا بظننا وهوانا وهذه خطة لم يؤتها الله عز وجل أحداً دونه ولا يدخل الجنة والنار أحد بل الله تعالى يدخلها من شاء فنحن لا نسمي بالإيمان إلا من سماه الله تعالى به كل ذلك على لسان رسول الله ولا يختلف اثنان من أهل الأرض لا نقول من المسلمين بل من كل ملة في أن رسول الله قطع بالكفر على أهل كل ملة غير الإسلام الذين تبرأ أهله من كل ملة حاشى التي أتاهم بها عليه السلام فقط فوقفنا عند ذلك ولا يختلف أيضاً اثنان في أنه عليه السلام قنع باسم الإيمان على كل من اتبعه وصدق بكل ما جاء به وتبرأ من كل دين سوى ذلك فوقفنا أيضاً عند ذلك ولا مزيد فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه سواء أجمع على خروجه منه أو لا يجمع وكذلك من أجمع من أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام فواجب اتباع الإجماع في ذلك وأما من لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له ولا إجماع في خروجه أيضاً عنه فلا يجوز إخراجه عما قد صح يقيناً حصوله فيه وقد نص الله تعالى على ما قلنا فقال: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " وقال تعالى: " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً " وقال تعالى: " قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " فهؤلاء كلهم كفار بالنص وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئاً صح عندنا بالإجماع أن رسول الله أتى به فقد كفر وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى أو بملك من الملائكة أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام أو بآية من القرآن أو بفريضة من فرائض الدين فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر ومن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام أو جحد شيئاً صح عنده بأن النبي قال فهو كافر لأنه لم يحكم النبي فيما شجر بينه وبين خصمه.

قال أبو محمد: وقد شقق أصحاب الكلام فقالوا ما تقولون فيمن قال له النبي قم صل فقال لا أفعل أو قال له النبي ناولني ذلك السيف أدفع به عن نفسي فقال له لا أفعل.

قال أبو محمد: وهذا أمر قد كفوا وقوعه ولا فضول أعظم من فضول من اشتغل بشيء قد أيقن أنه لا يكون أبداً ولكن الذي كان ووقع فإننا نتكلم فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال أبو محمد: قد أمر النبي أفضل أهل الأرض وهم أهل الحديبية بأن يحلقوا وينحروا فتوقفوا حتى أمرهم ثلاثاً وغضب عليه السلام وشكا ذلك إلى أم سلمة فما كفروا بذلك ولكن كانت معصية تداركهم الله بالتوبة منها وما قال مسلم قط أنهم كفروا بذلك لأنهم لم يعاندوه ولا كذبوه وقد قال سعد بن عبادة والله يا رسول الله لئن وجدت لكاع يتفخذها رجل ادعهما حتى آتى بأربعة شهداء قال نعم قال إذاً والله يقضي إربه والله لا تجللنهما بالسيف فلم يكن بذلك كافراً إذ لم يكن عانداً ولا مكذباً بل أقر أنه يدري أن الله تعالى أمر بخلاف ذلك وسألوا أيضاً عمن قال أنا أدري أن الحج إلى مكة فرض ولكن لا أدري أهي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس وأنا أدري أن الخنزير حرام ولكن لا أدري أهو هذا الموصوف الأقرن أم الذي يحرث به.

قال أبو محمد: وجوابنا هو أن من قال هذا فإن كان جاهلاً علم ولا شيء عليه فإن المشببين لا يعرفون هذا إذا أسلموا حتى يعلموا وإن كان عالماً فهو عابث مستهزئ بآيات الله تعالى فهو كافر مرتد حلال الدم والمال ومن قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر لتكذيبه القرآن وقد قذفها مسطح وحمنة فلم يكفرا لأنهما لم يكونا حينئذ مكذبين لله تعالى ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفر وأم ما سب أحد من الصحابة رضي الله عنهم فإن كان جاهلاً فمعذور وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق كمن زنى وسرق وإن عاند الله تعالى في ذلك ورسوله فهو كافر وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي عن حاطب وحاطب مهاجر بدرى دعني أضرب عنق هذا المنافق فما كان عمر بتكفيره حاطباً كافراً بل كان مخطئاً متأولاً وقد قال رسول الله آية النفاق بغض قال أبو محمد: ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي فهو كافر لأنه وجد الحرج في نفسه مما قد قضى الله تعالى ورسوله من إظهار الإيمان بأيديهم ومن عاد علياً لمثل ذلك فهو أيضاً كافر وكذلك من عادى من ينصر الإسلام لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك وقد فرق بعضهم في الاختلاف في الفتيا والاختلاف في الاعتقاد بأن قال قد اختلف أصحاب رسول الله في الفتيا فلم يكفر بعضهم بعضاً ولا فسق بعضهم بعضاً.

قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء فقد حدث إنكار القدر في أيامهم فما كفرهم أكثر الصحابة رضي الله عنهم وقد اختلفوا في الفتيا واقتتلوا على ذلك وسفكت الدماء كاختلافهم في تقديم بيعة علي على النظر في قتلة عثمان رضي الله عنهم وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: من شاء بأهلته عند الحجر الأسود أن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في فريضة واحدة نصفاً ونصفاً وثلثاً.

قال أبو محمد: وهنا أقوال غريبة جداً فاسدة منها أن أقواماً من الخوارج قالوا كل معصية فيها حد فليست كفراً وكل معصية لا حد فيها فهي كفر.

قال أبو محمد: وهذا تحكم بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل قال تعالى: " قال أبو محمد: فصح بما قلنا أن كل من كان على غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام فهو كافر ومن تأول من أهل الإسلام فأخطأ فإن كان لم تقم عليه الحجة ولا تبين له الحق فهو معذور مأجور آجراً واحداً لطلبه الحق وقصده إليه مغفور له خطؤه إذ لم يعتمده لقول الله تعالى: " وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ " وإن كان مصيباً فله أجران أجر لإصابته وأجر آخر لطلبه إياه وإن كان قد قامت الحجة عليه وتبين له الحق فعند عن الحق غير معارض له تعالى ولا لرسوله فهو فاسق لجراءته على الله تعالى بإصراره على الأمر الحرام فإن عند عن الحق معارضاً لله تعالى ولرسوله فهو كافر مرتد حلال الدم والمال لا فرق في هذه الأحكام بين الخطأ في الاعتقاد في أي شيء كان من الشريعة وبين الخطأ في الفتيا في أي شيء كان على ما بينا قبل.

قال أبو محمد: ونحن نختصرها هنا أن شاء الله تعالى ونوضح كل ما أطلنا فيه قال تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " وقال تعالى: " لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ " وقال تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلم تسليماً " فهذه الآيات فيها بيان جميع هذا الباب فصح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عمل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي حكم بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل فلا شيء عليه أصلاً حتى يبلغه فإن بلغه وصح عنه فإن خالفه مجتهداً فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة كما قال عليه السلام: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر " وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء وإن خالفه بعمله معانداً للحق معتقداً بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق وإن خالفه معانداً بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردنا وهو قول اسحق بن راهوية وغيره وبه نقول وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في تعبد الملائكة وتعبد الحور العين

عدل

والخلق المستأنف وهل يعصي ملك أم لا قال أبو محمد: قد نص الله عز وجل على أن الملائكة متعبون قال تعالى: " ويفعلون ما يؤمرون " ونص تعالى على أنه أمرهم بالسجود لآدم وقال تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " إلى قوله: " ومن يقل منهم أني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " وقال تعالى: " وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ويفعلون ما يؤمرون ".

قال أبو محمد: فنص الله تعالى على أنهم مأمورون منهيون متوعدون مكرومون موعودون بإيصال الكرامة أبداً مصرفون في كتاب الأعمال وقبض الأرواح وأداء الرسالة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والتوكل بما في العالم الأعلى والأدنى وغير ذلك كما خالقهم عز وجل به عليم وقوله تعالى: " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " فأخبر عز وجل أن جبريل عليه السلام مطاع في السموات أمين هنالك فصح أن هنالك أوامر وتدبير وأمانات وطاعة ومراتب ونص تعالى على أنهم كلهم معصومون بقوله عز وجل: " عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " وبقوله: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون " وبقوله: " فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ " فنص تعالى على أنهم كلهم لا يسأمون من العبادة ولا يفترون من التسبيح والطاعة لا ساعة ولا وقتاً ولا يستحسرون من ذلك وهذا خبر عن التأييد لا يستحيل أبداً ووجب أنهم متنعمون بذلك مكرمون به مفضلون بتلك الحال وبالتذاذهم بذلك ونص تعالى على أنهم كلهم معصومون قد حقت لهم ولاية ربهم عز وجل أبد الأبد بلا نهاية فقال تعالى " قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " فكفر تعالى من عادى أحد منهم فإن قال قائل كيف لا يعصون والله تعالى يقول: " ومن يقل منهم أني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم " قلنا نعم هم متوعدون هم متوعدون على المعاصي كما توعد رسول الله إذ يقول له ربه عز وجل: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " وقد علم عز وجل أنه عليه السلام لا يشرك أبداً وإن الملائكة لا يقول أحد منهم أبداً إني إله من دون الله وكذلك قوله تعالى: " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين " وهو تعالى قد برأهن وعلم أنه لا يأتي أحد منهن بفاحشة أبداً بقوله تعالى: " الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " لكن الله تعالى يقول مل شاء ويشرع ما شاء ويفعل ما يشاء ولا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فأخبر عز وجل بحكم هذه الأمور لو كانت وقد علم أنها لا تكون كما قال تعالى: " لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين " وكما قال: " لو أراد الله أن يتخذ ولداً لأصطفى مما يخلق ما يشاء " وكما قال تعالى: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " وكما قال تعالى: " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً " وكل هذا قد علم الله تعالى أنه لا يكون أبداً وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أن الملائكة مأمورون ولا منهيون قلنا هذا باطل لأن كل مأمور بشيء فهو منهي عن تركه وقوله تعالى: " يخافون ربهم من فوقهم " يدل على أنهم منهيون عن أشياء يخافون من فعلها وقال عز وجل: " وما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين ". قال أبو محمد: وهذا مبطل ظن من ظن أن هاروت وماروت كانا ملكين فعصيا بشرب الخمر والزنا والقتل وقد أعاذ الله عز وجل الملائكة من مثل هذه الصفة بما ذكرنا آنفاً أنهم لا يعصون الله ويفعلون ما يؤمرون وبإخباره تعالى أنهم لا يسأمون ولا يفترون ولا يستحسرون عن طاعته عز وجل فوجب يقيناً أنه ليس في الملائكة البتة عاص لا بعمد ولا بخطأ ولا بنسيان وقال عز وجل: " جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " فكل الملائكة رسل الله عز وجل بنص القرآن والرسل معصومون فصح أن هاروت وماروت المذكورين في القرآن لا يخلو أمرهما من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أنم يكونا جنين من أحياء الجن كما روينا عن خالد بن أبي عمران وغيره وموضعهما حينئذ في الجو بدل من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين كفروا هاروت وماروت ويكون الوقوف على قوله ما أنزل على الملكين ببابل ويتم الكلام هنا وأما أن يكونا ملكين أنزل الله عز وجل عليهما شريعة حق ثم مسخها فصارت كفراً كما فعل بشريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فتمادى الشياطين على تعليمها وهي بعد كفر كأنه قال تعالى: " ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت " ثم ذكر عز وجل ما كان يفعله ذلك الملكان فقال تعالى: " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ".

قال أبو محمد: فقول الملكين إنما نحن فتنة فلا تكفر قولاً صحيح ونهي عن المنكر وأما الفتنة فقد تكون ضلالاً وتكون هدى قال الله عز وجل حاكياً عن موسى عليه السلام أنه قال لربه: " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا أن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " فصدق الله عز وجل قوله وصح أن يهدي بالفتنة من يشاء ويضل بها من يشاء وقال تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " وليس كل أحد يضل بماله وولده فقد كان للنبي أولاد ومال وكذلك لكثير من الرسل عليهم السلام وقال تعالى " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتو الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً " وقال تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً لنفتنهم فيه " فهذا سقياً الماء التي هي جزاء عن الاستقامة قد سماها الله تعالى فتنة فصح أن من الفتنة خيراً وهدى ومنها ضلالاً وكفراً والملكان المذكوران كذلك كانا فتنة يهتدي من اتبع أمرها في أن لا يكفر ويضل عصاهما في ذلك وقوله تعالى: " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه " حق لأن اتباع رسل الله عليهم الصلاة والسلام هذه صفتهم يؤمن الزوج فيفرق إيمانه بينه وبين امرأته التي لم تؤمن وتؤمن فيفرق إيمانها بينها وبين زوج الذي لم يؤمن في الدنيا والآخرة وفي الولاية ثم رجع تعالى إلى الخبر عن الشياطين فقال عز وجل: " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " وهذا حق لأن الشياطين في تعليمهم ما قد نسخه الله عز وجل وأبطله ضارون من لإذن الله تعالى باستضراره به وهكذا إلى آخر الآية وما قال عز وجل قط أن هاروت وماروت علما سحراً ولا كفراً ولا أنهما عصيا وإنما ذكر ذلك في خرافة موضوعة لا تصح من طريق الإسناد أصلاً ولا هي أيضاً مع ذلك عن رسول الله وإنما هي موقوفة على من دونه عليه السلام فسقط التعلق بها وصح ما قلناه والحمد لله رب العالمين وهذا التفسير الأخير هو نص الآية دون تكلف تأويل ولا تقديم ولا تأخير ولا زيادة في الآية ولا نقص منها بل هو ظاهرها والحق المقطوع به عند الله تعالى يقيناً وبالله تعالى التوفيق فإن قيل كيف تصح هذه الترجمة أو الأخرى وأنتم تقولون أن الملائكة لا يمكن أن يراهم إلا نبي وكذلك الشيطان ولا فرق فكيف تعلم الملائكة الناس أو كيف تعلم الجن الناس قلنا وبالله تعالى التوفيق أما الملائكة فيعلمون من أرسلوا إليه من الأنبياء خاصة وينهونهم عن الكفر كما نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الكفر في نص القرآن وأما الشياطين فتعلم الناس بالوسوسة في الصدور وتزيين البطل أو يتمثل في صورة إنسان كما تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم قال تعالى: " وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ " وأما الحور العين فنسوا أن مكرمات مخلوقات في الجنة لأولياء الله عز وجل عاقلات مميزات مطيعات لله تعالى في النعيم خلقن فيه ويخلدن بلا نهاية لا يعصين البتة والجنة إذا دخلها أهلها المخلدون فليست دار معصية وكذلك أهل الجنة لا يعصون فيها أصلاً بل هم في نعيم وحمد لله تعالى وذكر له والتذاذ بأكل وشراب ولباس ووطء لا يختلف في ذلك من أهل الإسلام اثنان وبذلك جاء القرآن والحمد لله رب العالمين وأما الولدان المخلدون فهم أولاد الناس الذين ماتوا قبل البلوغ كما جاء عن النبي وقد صح عن رسول الله أن الله تعالى يخلق خلقاً يملأ بهم الجنة فنحن نقر بهذا ولا ندري أمتعبدون مطيعون أم مبتدئون في الجنة والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة وأما الجن فإن رسول الله بعث إليهم بدين الإسلام هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة فكافرهم في النار مع كافرنا وأما مؤمنهم فقد اختلف الناس فيهم فقال أبو حنيفة لا ثواب لهم وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وجمهور الناس إنهم في الجنة وبهذا نقول لقول الله عز وجل: " أعدت للمتقين " لقوله تعالى حاكياً عنهم ومصدقاً لمن قال ذلك منهم " و وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا " وقوله تعالى حاكياً عنه: " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به " وقوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ " إلى السورة وهذه صفة تعم الجن والإنس عموماً لا يجوز البتة أن يخص منها أحد النوعين فيكون فاعل ذلك قائلاً على الله ما لا يعلم وهذا حرام ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يخبرنا بخبر عام وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يبين ذلك لنا هذا هو ضد البيان الذي ضمنه الله عز وجل لنا فكيف وقد نص عز وجل على أنهم آمنوا فوجب أهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة ولا بد.

قال أبو محمد: وإذا الجن متعبدون فقد قال رسول الله فضلت على الأنبياء بست فذكرنا فيها أن عليه السلام بعث إلى الأحمر والأسود وكان من قبله من الأنبياء إنما يبعث إلى قومه خاصة وقد نص عليه السلام على أنه بعث إلى الجن وقال عز وجل: " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ " إلى قوله تعالى: " وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا " وإذ الأمر كما ذكرنا في يبعث إلى الجن نبي من الإنس البتة قبل محمد لأنه ليس الجن من قوم أنسي وباليقين ندري أنهم قد أنذروا فصح أنهم جاءهم أنبياء منهم قال تعالى: " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " وبالله تعالى التوفيق.