الفصل في الملل والأهواء والنحل/المجلد الأول


بسم الله الرحمن الرحيم


المقدمة

قال الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه

الحمد لله كثيراً وصلى الله على عبده ورسوله خاتم أنبيائه بكرةً وأصيلاً وسلم تسليماً أما بعد فإن كثيراً من الناس كتبوا في افتراق الناس في دياناتهم ومقالاتهم كتباً كثيرة جداً فبعض أطال وأسهب وأكثر وهجر واستعمل الأغاليط والشغب فكان ذلك شاغلاً عن الفهم قاطعاً دون العلم وبعض حذف وقصر وقلل واختصر واضرب عن كثير من قوي معارضات أصحاب المقالات فكان في ذلك غير منصف لنفسه في أن يرضى لها بالغبن في الإبانة وظالماً لخصمه في أن لم يوفه حق اعتراضه وباخساً حق من قرأ كتابه إذ لم يغنه عن غيره وكلهم إلا تحلة القسم عقد كلامه تعقيداً يتعذر فهمه على كثير من أهل الفهم وحلق على المعاني من بعد حتى صار ينسي آخر كلامه أوله وأكثر هذا منهم ستائر دون فساد معانيهم فكان هذا منهم غير محمود في عاجله وآجله.

قال أبو محمد رضي الله عنه : فجمعنا كتابنا هذا مع استخارتنا الله عز وجل في جمعه وقصدنا به قصد إيراد البراهين المنتجة عن المقدمات الحسية أو الراجعة إلى الحس من قرب أو من بعد على حسب قيام البراهين التي لا تخون أصلاً مخرجها إلى ما أخرجت له وأن لا يصح منه إلا ما صححت البراهين المذكورة فقط.

إذ ليس الحق إلا ذلك وبالغنا في بيان اللفظ وترك التعقيد راجين من الله تعالى على ذلك الأجر الجزيل وهو تعالى ولي من تولاه ومعطي من استعطاه لا إله إلا هو وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قال أبو محمد رضي الله عنه : فنقول وبالله التوفيق رؤس الفرق المخالفة لدين الإسلام ست ثم تتفرق كل فرقة من هذه الفرق الست على فرق وسأذكر جماهيرها إن شاء الله عز وجل.

فالفرق الست التي ذكرناها على مراتبها في البعد عنا أولها مبطلو الحقائق وهم الذين يسميهم المتكلمون السوفسطائية ثم القائلون بإثبات الحقائق إلا أنهم قالوا إن العالم لم يزل وأنه لا محدث له ولا مدبر ثم القائلون بإثبات الحقائق وإن العالم لم يزل وإن له مدبراً لم يزل ثم القائلون بإثبات الحقائق فبعضهم قال إن العالم لم يزل وبعضهم قال هو محدث واتفقوا على أنه له مدبرين لم يزالوا وأنهم أكثر من واحد واختلفوا في عددهم ثم القائلون بإثبات الحقائق وأن العالم محدث وأن له خالقاً واحداً لم يزل وأبطلوا النبوات كلها ثم القائلون بإثبات الحقائق وأن العالم محدث وأن له خالقاً واحداً لم يزل وأثبتوا النبوات إلا أنهم خالفوا في عبضها فأقروا ببعض الأنبياء عليهم السلام وأنكروا بعضهم.

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد تحدث في خلال هذه الأقوال آراء هي منتجة من هذه الرؤس مركبة منها فمنها ما قد قالت به طوائف من الناس.

مثل ما ذهبت إليه فرق من الأمم من القول بتناسخ الأرواح أو القول بتواتر النبوات في كل وقت أو إن في كل نوع من أنواع الحيوان أنبياء.

ومثل ما قد ذهب إليه جماعة من القائلين به وناظرتهم عليه من القول بأن العالم محدث وأن له مدبراً لم يزل إلا أن النفس ولامكان المطلق وهو الخلاء والزمان المطلق لم يزل معه.

قال أبو محمد وهذا قول قد ناظرني عليه عبد الله بن خلف ابن مروان الأنصاري وعبد الله بن محمد السلمي الكاتب ومحمد بن علي بن أبي الحسين الأصبحي الطبيب وهو قول يؤثر عن محمد بن زكريا الرازي الطبيب ولنا عليه فيه كتاب مفرد في نقض كتابه في ذلك وهو المعروف بالعلم الإلهي.

ومثل ما ذهب إليه قوم من أن الفلك لم يزل وأنه غير الله تعالى وأنه هو المدبر للعالم الفاعل له إجلالاً بزعمهم لله عن أن يوصف بأنه فعل شيئاً من الأشثياء وقد كنى بعضهم عن ذلك بالعرش

ومنا ما لا نعلم أن أحداً قال به إلا أنه مما لا يؤمن أن يقول به قائل من المخالفين عند تضييق الحجيج عليهم فيلجئون إليها فلا بد إن شاء الله تعالى من ذكر ما يقتضيه مساق الكلام منها وذلك مثل القول بأن العالم محدث ولا محدث له فلا بد بحول الله تعالى من إثبات المحدث بعد الكلام في إثبات الحدوث وبالله تعالى التوفيق والعون لا إله إلا هو.

باب مختصر جامع في ماهية البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق

في كل ما اختلف فيه الناس وكيفية إقامتها

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا باب قد أحكمناه في كتابنا الموسوم بالتقريب في حدود الكلام وتقصيناه هنالك غاية التقصي والحمد لله رب العالمين إلا أننا نذكر ههنا جملة كافية فيه لتكون مقدمة لما يأتي بعده مما اختلف الناس فيه يرجع إليها إن شاء الله تعالى.

فنقول وبالله التوفيق إن الإنسان يخرج إلى هذا العالم ونفسه قد ذهب ذكرها جملة في قول من يقول أنها كانت قبل ذلك ذاكرة أولاً ذكر لها البتة في قول من يقول أنها حدثت حينئذ أو أنها مزاج عرض إلا أنه قد حصل أنه لا ذكر للطفل حين ولادته ولا تمييز إلا ما لسائر الحيوان من الحس والحركة الإرادية فقط فتراه يقبض رجليه ويمدهما ويقلب أعضاءه حسب طاقته ويألم إذا أحس البرد أو الحر أو الجوع وإذا ضرب أو قرص وله سوى ذلك مما يشاركه فيه الحيوان والنوامي مما ليس حيواناً من طلب الغذاء لبقاء جسمه على ما هو عليه ولنمائه فيأخذ الثدي ويميزه بطبعه من سائر الأعضاء بفمه دون سائر أعضائه كما تأخذ عروق الشجر والنبات رطوبات الأرض والماء لبقاء أجسامها على ما هي عليه ولنمائها.

فإذا قويت النفس على قول من يقول أنها مزاج أو أنها حدثت حينئذ أو أخذت يعاودها ذكرها وتمييزها في قول من يقول أنها كانت ذاكرة قبل ذلك وأنها كالمفيق من مرض فأول ما يحدث لها من التمييز الذي ينفرد به الناطق من الحيوان فهم ما أدركت بحواسها الخمس.

كعلمها أن الرائحة الطيبة مقبولة من طبعها والرائحة الرديئة منافرة لطبعها.

وكعلمها أن الأحمر مخالف للأخضر والأصفر والأبيض والأسود.

وكالفرق بين الخشن والأملس المكتنز والمتهيل واللزج والحار والبارد والدفي.

وكالفرق بين الحلو والحامض والمر والمالح والعفص والزاعق والتفه والعذب والحريف.

وكالفرق بين الصوت الحاد والغليظ والرقيق والمطرب والمفزع.

قال أبو محمد فهذه إدراكات الحواس لمحسوساتها والإدراك السادس علمها بالبديهيات.

فمن ذلك علمها بأن الجزء أقل من الكل فإن الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى وإذا زدته ثالثة سر وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء وإن كان لا ينتبه لتحديد ما يعرف من ذلك ومن ذلك علمه بأن لا يجتمع المتضادان فإنك إذا وقفته قسراً بكى ونزع إلى القعود علماً منه بأنه لا يكون قائماً قاعداً معاً.

ومن ذلك علمه بأن لا يكون جسم واحد في مكانين فإنه إذا أراد الذهاب إلى مكان ما فأمسكته قسراً بكى وقال كلاماً معناه دعني أذهب علماً منه بأنه لا يكون في المكان الذي يريد أن يذهب إليه ما دام في مكان واحد.

ومن ذلك علمه بأنه لا يكون الجسمان في مكان واحد فإنك تراه ينازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه علماً منه بأنه لا يسعه ذلك المكان مع ما فيه فيدفع من في ذلك المكان الذي يريد أن يقعد فيه إذ يعلم أن مادام في المكان ما يشغله فإنه لا يسعه وهو فيه.

وإذا قلت له ناولني ما في هذا الحائط وكان لا يدركه قال لست أدركه وهذا علم منه بأن الطويل زائد على مقدار ما هو أقصر منه وتراه يمشي إلى الشيء الذي يريد ليصل إليه وهذا علم منه بأن ذا النهاية يحصر ويقطع بالعدو وإن لم يحسن العبارة بتحديد ما يدري من ذلك.

ومنها علمه بأنه لا يعلم الغيب أحد وذلك أنه إذا سألته عن شيءٍ لا يعرفه أنكر ذلك وقال لا أدري.

ومنها فرقة بين الحق والباطل فإنه إذا أخبر بخبر تجده في بعض الأوقات لا يصدقه حتى إذا تظاهر عنده بمخبر آخر وآخر صدقه وسكن إلى ذلك.

ومنها علمه بأنه لا يكون شيءٌ إلا في زمان فإنك إذا ذكرت له أمراً ما قال متى كان وإذا قلت له لم تفعل كذا وكذا قال ما كنت أفعله وهذا علم منه بأنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في زمان.

ويعرف أن للأشياء طبائع وماهية تقف عندها ولا تتجاوزها فتراه إذا رأى شيئاً لا يعرفه قال أي شيء هذا فإذا شرح له سكت.

ومنها علمه بأنه لا يكون فعل إلا لفاعل فإنه إذا رأى شيئاً قال من عمل هذا ولا يقنع البتة بأنه انعمل دون عامل وإذا رأى بيد آخر شيئاً قال من أعطاك هذا.

ومنها معرفته بأنه في الخبر صدقاً وكذباً فتراه يكذب بعض ما يخبر به ويصدق بعضه ويتوقف في بعضه هذا كله مشاهد من جميع الناس في مبدأ نشأتهم.

قال أبو محمد فهذه أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل وههنا أيضاً أشياء غير ما ذكرنا إذا فتشت وجدت وميزها كل ذي عقل من نفسه ومن غيره وليس يدري أحد كيف وقع العلم بهذه الأشياء كلها بوجه من الوجوه ولا يشك ذو تمييز صحيح في أن هذه الأشياء كلها صحيحة لا امتراء فيها وإنما يشك فيها بعد صحة علمه بها من دخلت عقله آفة وفسد تمييزه أو مال إلى بعض الآراء الفاسدة فكان ذلك أيضاً آفة دخلت على تمييزه.

كالآفة الداخلة على من به هيجان الصفراء فيجد العسل مراً.

ومن في عينه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها.

وكسائر الآفات الداخلة على الحواس.

قال أبو محمد فهذه المقدمات التي ذكرناها هي الصحيحة التي لاشك فيها ولا سبيل إلى أن يطلب عليها دليلاً إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء ومن الطفل أهدى منه.

وهذا أمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم وصغارهم في أقطار الأرض إلا من غالط حسه وكابر عقله فيلحق بالمجانين لأن الاستدلال على الشيء لا يكون إلا في زمان ولابد ضرورة يعلم ذلك بأول العقل لأنه قد علم بضرورة العقل أنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في وقت وليس بين أول أوقات تمييز النفس في هذا العالم وبين إدراكها لكل ما ذكرنا مهلة البتة لا دقيقة ولا جليلة ولا سبيل على ذلك فصح أنها ضرورات أوقعها الله في النفس ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات ولا يصح شيءٌ إلا بالرد إليها فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقن وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط.

إلا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب ومن بعد فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس وأمكن للفهم وكلما بعدت المقدمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفهم القوي الفهم والتمييز.

وليس ذلك مما يقدح في أن ما رجع إلى مقدمة من المقدمات التي ذكرنا حق كما أن تلك المقدمة حق لا فرق بينهما في أنهما حق وهذا مثل الأعداد فكلما قلت الأعداد سهل جمعها ولم يقع فيها غلط حتى إذا كثرت الأعداد وكثر العمل في جمعها صعب ذلك حتى يقع فيها الغلط إلا مع الحاسب الكافي المجيد وكلما قرب من ذلك وبعد فهو كله حق ولا تفاضل في شيء من ذلك ولا تعارض مقدمة مما ذكرنا مقدمة أخرى منها ولا يعارض ما يرجع إلى مقدمة أخرى منها رجوعاً صحيحاً وهذا كله يعلم بالضرورة.

ومن علم النفس بأن علم الغيب لا يعارض صح ضرورة أنه لا يمكن أن يحكي أحد خبراً كاذباً طويلاً فيأتي من لم يسمعه فيحكي ذلك الخبر بعينه كما هو لا يزيد فيه ولا ينقص إذ لو أمكن ذلك لكان الحاكي لمثل ذلك الخبر عالماً بالغيب لأن هذا هو علم الغيب نفسه وهو الإخبار عما لا يعلم المخبر عنه بما هو عليه وذلك كذلك بلا شك فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعداً مفترقان قد أيقنا أنهما لم يجتمعا ولا تشاعرا فلم يختلفا فيه فبالضرورة يعلم أنه حق متيقن مقطوع به على غيبه وبهذا علمنا صحة موت من مات وولادة من ولد وعزل من عزل وولاية من ولي مرض من مرض وأفاق من أفاق ونكبة من نكب والبلاد الغائبة عنا والوقائع والملوك والأنبياء عليهم السلام ودياناتهم والعلماء وأقوالهم والفلاسفة وحكمهم لاشك عند أحمد يوفي عقله حقه في شيء مما نقل من ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.

باب الكلام على أهل القسم الأول وهم مبطلوا الحقائق وهم السوفسطائية

قال أبو محمد ذكر من سلف من المتكلمين أنهم ثلاثة أصناف.

فصنف منهم نفى الحقائق جملة.

وصنف منهم شكوا فيها.

وصنف منهم قالوا هي حق عند من هي عنده حق وهي باطل عند من هي عنده باطل وعمدة ما ذكر من اعتراضهم فهو اختلاف الحواس في المحسوسات كإدراك البصر من بعدٍ عنه صغيراً ومن قربٍ منه كبيراً وكوجود من به حمى صفراء حلو المطاعم مراً وما يرى في الرؤيا مما لا يشك فيه رائيه أنه حق من أنه في البلاد البعيدة.

قال أبو محمد وكل هذا لا معنى له لأن الخطاب وتعاطي المعرفة إنما يكون مع أهل المعرفة وحسن العقل شاهد بالفرق بين ما يخيل إلى النائم وبين ما يدركه المستيقظ إذ ليس في الرؤيا من استعمال الجري على الحدود المستقرة في الأشياء المعروفة وكونها ابداً على صفة واحدة ما في اليقظة وكذلك يشهد الحس أيضاً بأن تبدل المحسوس عن صفته اللازمة له تحت الحس إنما هو لآفة في حس الحاس له لا في المحسوس عن صفته اللازمة له تحت الحس إنما هو لآفة في حس الحاس له لا في المحسوس جار كل ذلك على رتبة واحدة لا تتحول وهذه هي البداية والمشاهدات التي لا يجوز أن يطلب عليها برهان إذ لو طلب على كل برهان برهان لاقتضى ذلك وجود موجودات لا نهاية لها ووجود أشياء لا نهاية لها محال لا سبيل إليه على ما سنبينه إن شاء الله تعالى والذي يطلب على البرهان برهاناً فهو ناطق بالمحال لأنه لا يفعل ذلك إلا وهو مثبت لبرهان ما فإذا وقفنا عند البرهان الذي ثبت لزمه الإذعان له فإن كان لا يثبت برهاناً فلا وجه لطلبه ما لا يثبته لو وجده والقول بنفي الحقائق مكابرة للعقل والحس.

ويكفي من الرد عليهم أن يقال لهم قولكم أنه لا حقيقة للأشياء حق هو أم باطل فإن قالوا هو حق أثبتوا حقيقة ما وإن قالوا ليس هو حقاً أقروا ببطلان قولهم وكفوا خصمهم أمرهم ويقال للشكاك منهم وبالله تعالى التوفيق أشككم موجود صحيح منكم أم غير صحيح ولا موجود فإن قالوا هو موجود صحيح منا أثبتوا أيضاً حقيقة ما وإن قالوا هو غير موجود نفوا الشك وأبطلوه وفي إبطال الشك إثبات الحقائق أو القطع على إبطالها وقد قدمنا بعون الله تعالى إبطال قول من أبطلها فلم يبق إلا الإثبات.

ويقال وبالله التوفيق لمن قال هي حق عند من هي عنده حق وهي باطل عند من هي عنده باطل أن الشيء لا يكون حقاً باعتقاد من اعتقد أنه حق كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل وإنما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً سواءً اعتقد أنه حق أو اعتقد أنه باطل ولو كان غير هذا لكان الشيء معدوماً موجوداً في حال واحدة في ذاته وهذا عين المحال وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق فمن جملة تلك الأشياء التي تعتقد أنها حق من يعتقد أن الأشياء حق بطلان قول من قال أن الحقائق باطل وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة إذ حسه يشهد بخلافها وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المنقطعين على سبيل الشغب وبالله تعالى التوفيق.

باب الكلام على من قال بأن العالم لم يزل وأنه لا مدبر له

قال أبو محمد رضي الله عنه : لا يخلو العالم من أحد وجهين إما أن يكون لم يزل أو أن يكون محدثاً لم يكن ثم كان فذهبت طائفة إلى أنه لم يزل وهم الدهرية وذهب سائر الناس إلى أنه محدث فنبتدىء بحول الله تعالى وقوته بإيراد كل حجة شغب بها القائلون بأن العالم لم يزل وتوفية اعتراضهم بها ثم نبين بحوله تعالى نقضها وفسادها فإذا بطل القول بأن العالم لم يزل وجب القول بالحدوث وصح إذ لا سبيل إلى وجه ثالث لكنا لا نقنع بذلك حتى نأتي بالبراهين الظاهرة والنتائج الموجبة والقضايا الضرورية على إثبات حدوث العالم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فمما اعترضوا به أن قالوا لم نر شيئاً حدث إلا من شيء أو في شيء فمن ادعى غير ذلك فقد ادعى ما لا يشاهد ولم يشاهد وقالوا أيضاً لا يخلو محدث الأجسام الجواهر والأعراض وهي كل ما في العالم إن كان العالم محدثاً من أن يكون إحداثه لأنه أو إحداثه لعلة.

فإن كان لأنه فالعالم لم يزل لأن محدثه لم يزل وإذ هو علة خلقه فالعلة لا تفارق المعلول وما لم يفارق من لم يزل فهو أيضاً لم يزل إذ هو مثله بلا شك فالعالم لم يزل.

وإن كان أحدثه لعلة فتلك العلة لا تخلو من أحد وجهين إما أن تكون لم تزل وإما أن تكون محدثة فإن كانت لم تزل فمعلولها لم يزل فالعالم لم يزل وإن كانت تلك العلة محدثة لزم في حدوثها ما لزم في حدوث سائر الأشياء من أنه أحدثها لأنه أو لعلة فإن كان لعلة لزم ذلك أيضاً علة العلة وهكذا أبداً وهذا يوجب وجود محدثات لا أوائل لها قالوا وهذا قولنا قالوا وإن كان أحدثها لأنه فهذا يوجب أن العلة لم تزل كما بينا آنفاً.

وقالوا أيضاً إن كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه وإما أن يكون خلافها من جميع الوجوه وإما أن يكون مثلها من بعض الوجوه وخلافها من بعض الوجوه.

قالوا فإن كان مثلها من جميع الوجوه لزم أن يكون محدثاً مثلها وهكذا في محدثة أيضاً ابداً.

وإن كان مثلها في بعض الوجوه لزمه أيضاً من مماثلتها في ذلك البعض ما يلزمه من مماثلته لها في جميع الوجوه من الحدوث إذ الحدوث اللازم للبعض كلزومه للكل ولا فرق.

وإن كان خلافها من جميع الوجوه فمحال أن يفعلها لأن هذا هو حقيقة الضد والمناقض إذ لا سبيل إلى أن يفعل الشيء خلافه من جميع الوجوه كما لا تفعل النار التبريد وقالوا أيضاً لا يخلو إن كان للعالم فاعل من أن يكون فعله لإحراز منفعة أو لدفع مضرة أو طباعاً أو لا لشيء من ذلك.

قالوا فإن كان فعله لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فهو محل للمنافع والمضار وهذه صفة المحدثات عندكم فهو محدث مثلها.

قالوا وإن كان فعله طباعاً فالطباع موجبة لما حدث بها ففعله لم يزل معه.

قالوا وإن كان فعله لا لشيء من ذلك فهذا لا يعقل وما خرج عن المعقول فمحال وقالوا أيضاً لو كانت الأجسام محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلاً لتركها قالوا وتركها لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضاً وهذا يوجب أن الأجسام والأعراض لم تزل موجودة.

قال أبو محمد رضي الله عنه : فهذه المشاغب الخمس هي كل ما عول عليه القائلون بالدهر قد تقصيناها لهم ونحن إن شاء الله نبدأ بحول الله وقوته في مناظرتهم فننقضها واحداً واحداً.

إفساد الاعتراض الأول

قال أبو محمد رضي الله عنه : يقال وبالله التوفيق والعون لمن قال لم نر شيئاً حدث إلا من شيء أو في شيء هل تدرك حقيقة شيء عندكم من غير طريق الرؤية والمشاهدة أو لا يدرك شيء من الحقائق إلا من طريق الرؤية فقط فإن قالوا إنه قد تدرك الحقائق من غير طريق الرؤية والمشاهدة تركوا استدلالهم وأفسدوه إذ قد أوجبوا وجود أشياء من غير طريق الرؤية والمشاهدة وقد نفوا ذلك قبل هذا فإذا صاروا إلى الاستدلال نوظروا في ذلك إلا أن دليلهم هذا على كل حال قد بطل بحمد الله تعالى.

فإن قالوا لا بل لا يدرك شيء إلا من طريق المشاهدة قيل لهم فهل شاهدتم شيئاً قط لم يزل فلابد من نعم أو لا فإن قالوا لا صدقوا وأبطلوا استدلالهم وإن قالوا نعم كابروا وادعوا ما لا سبيل إلى مشاهدته إذ مشاهدة قائل هذا القول للأشياء هي ذات أول بلا شك وذو الأول هو غير الذي لم يزل لأن الذي لم يزل هو الذي لا أول له ولا سبيل إلى أن يشاهد ما له أول ما لا أول له مشاهدة متصلة فبطل هذا الاستدلال على كل وجه والحمد لله رب العالمين.

إفساد الاعتراض الثاني

قال أبو محمد رضي الله عنه : ويقال لمن قال لا يخلو من أن يفعل لأنه أو لعلة هذه قسمة ناقصة وينقص منها القسم الثالث وهو لأنه فعل لا لأنه ولا لعلة أصلاً لكن كما شاء لأن كلا القسمين المذكورين أولاً وهما أنه فعل لأنه أو لعلة قد بطلا بما قدمنا هنالك إذ العلة توجب إما الفعل أو الترك وهو تعالى يفعل ولا يفعل فصح بذلك أنه لا علة لفعله أصلاً ولا لتركه البتة فبطل هذا الشغب والحمد لله رب العالمين.

فإن قالوا إن ترك الباري تعالى في الأزل فعل منه للترك ففعله الذي هو الترك لم يزل قلنا وبالله تعالى التوفيق إن ترك الباري تعالى الفعل ليس فعلاً أصلاً على ما نبين في فساد الاعتراض الخامس إن شاء الله تعالى.

إفساد الاعتراض الثالث

قال أبو محمد رضي الله عنه : يقال لمن قال لو كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه أو من بعض الوجوه لا من كلها أو خلافها من جميع الوجوه إلى انقضاء كلامهم بل هو تعالى خلافها من جميع الوجوه وإدخالكم على هذا الوجه أنه حقيقة الضد والنقيض والضد لا يفعل ضده كما لا تفعل النار التبريد إدخال فاسد لأن الباري تعالى لا يوصف بأنه ضد لخلقه لأن الضد هو ما حمل حمل التضاد والتضاد هو اقتسام الشيئين طرفي البعد تحت جنس واحد فإذا وقع أحد الضدين ارتفع الآخر وهذا الوصف بعيد عن الباري تعالى وإنما التضاد كالخضرة والبياض اللذين يجمعهما اللون أو الفضيلة والرذيلة اللتين يجمعهما الكيفية والخلق ولا يكون الضدان إلا عرضين تحت جنس واحد ولابد وكل هذا منفي عن الخالق عز وجل فبطل بالضرورة أن يكون عز وجل ضداً لخلقه.

وأيضاً فإن قولهم لو كان خلافاً لخلقه من جميع الوجوه لكان ضداً لهم فاسد إذ ليس كل خلاف ضداً فالجوهر خلاف العرض من كل وجه حاشا الحدوث فقط وليس ضداً له ويقال أيضاً لمن قال هذا القول هل تثبت فاعلاً وفعلاً على وجه من الوجوه أو تنفي أن يوجد فاعل وفعل البتة فإن نفي الفاعل والفعل البتة كابر العيان لإنكاره الماشي والقائم والقاعد والمتحرك والساكن ومن دفع بهذا كان في نصاب من لا يكلم وإن أثبت الفعل والفاعل فيما بينا قيل له هل يفعل الجسم إلا الحركة والسكون فلابد من نعم والحركة والسكون خلاف الجسم وليسا ضداً له إذ ليسا معه تحت جنس واحد أصلاً وإنما يجمعها وإياه الحدوث فقط فلو كان كل خلاف ضداً لكان الجسم فاعلاً لضده وهو الحركة أو السكون وهذا هو نفس ما أبطلوا فصح بالضرورة أنه ليس كل خلاف ضداً وصح أن الفاعل يفعل خلافه ولابد من ذلك فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين.

إفساد الاعتراض الرابع

قال أبو محمد رضي الله عنه : ويقال لمن قال لا يخلو من أن يكون محدث الأجسام أحدثها لإحراز منفعة أو لدفع مضرة أو طباعاً أو لا لشيءٍ من ذلك إلى انقضاء كلامهم.

أما الفعل لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فإنما يوصف به المخلوقون المختارون.

وأما فعل الطباع فإنما يوصف به المخلوقون غير المختارين وكل صفات المخلوقين فهي منفية عن الله تعالى الذي هو الخالق لكل ما دونه.

وأما القسم الثاني وهو أنه فعل لا لشيءٍ من ذلك فهذا هو قولنا ثم نقول لمن قال إن الفعل لا لشيءٍ من ذلك أمر غير معقول ماذا تعني بقولك غير معقول أتريد أنه لا يعقل حساً أو مشاهدة أم تقول أنه لا يعقل استدلالاً فإن قلت إنه لا يعقل حساً ومشاهدة قلنا لك صدقت كما أن أزلية الأشياء لا تعقل حساً ومشاهدة وإن قلت إنه لا يعقل استدلالاً كان ذلك دعوى منك مفتقرة إلى دليل والدعوى إذا كانت هكذا فهي ساقطة فالاستدلال بها ساقط فكيف والفعل لا لشيءٍ من ذلك متوهم ممكن غير داخل في الممتنع وما كان هكذا فالمانع منه مبطل والقول به يعقل فسقط هذا الاعتراض ثم نقول لما كان الباري تعالى بالبراهين الضرورية خلافاً لجميع خلقه من جميع الوجوه كان فعله خلافاً لجميع أفعال خلقه من جميع الوجوه وجميع خلقه لا تفعل إلا طباعاً أو لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة فوجب أن يكون فعله تعالى بخلاف ذلك وبالله التوفيق.

إفساد الاعتراض الخامس

قال أبو محمد رضي الله عنه : ويقال لمن قال إن ترك الفاعل أن يفعل الأجسام لا يخلو أن يكون جسماً أو عرضاً إلى منتهى كلامهم إن هذه قسمة فاسدة بينة العوار وذلك أن الجسم هو الطويل العريض العميق وترك الفعل ليس طويلاً ولا عريضاً ولا عميقاً فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسماً والعرض هو المحمول في الجسم وترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس محمولاً فليس عرضاً فترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس هو جسماً ولا عرضاً وإنما هو عدم والعدم ليس معنى ولا هو شيئاً وترك الله تعالى للفعل ليس فعلاً البتة بخلاف صفة خلقه لأن الترك من المخلوق للفعل فعل برهان ذلك إن ترك المخلوق للفعل لا يكون إلا بفعل آخر منه ضرورة كتارك الحركة لا يكون إلا بفعل السكون وتارك الأكل لا يكون إلا باستعمال آلات الأكل في مقاربة بعضها بعضاً أو في مباعدة بعضها بعضاً وبتعويض الهواء وغيره من الشيء المأكول وكتارك القيام لا يكون إلا باشتغاله بفعل آخر من قعود أو غيره فصح أن فعل الباري تعالى بخلاف فعل خلقه وإن تركه للفعل ليس فعلاً أصلاً فبطل استدلالهم وبالله التوفيق.

قال أبو محمد رضي الله عنه : فإذ قد بطل جميع ما تعلقوا به ولم يبق لهم شغب أصلاً بعون الله وتأييده فنحن مبتدئون بتأييده عز وجل في إيراد البراهين الضرورية على إثبات حدوث العالم بعد أن لم يكن وتحقيق أن له محدثاً لم يزل لا إله إلا هو.

برهان أول

قال أبو محمد رضي الله عنه : فنقول وبالله التوفيق إن كل شخص في العالم وكل عرض في شخص وكل زمان فكل ذلك متناه ذو أول نشاهد ذلك حساً وعياناً لأن تناهي الشخص ظاهر بمساحته بأول جرمه وآخره وأيضاً بزمان وجوده وتناهي العرض المحمول ظاهر بين بتناهي الشخص الحامل له وتناهي الزمان موجود باستئناف ما يأتي منه بعد الماضي وفناء كل وقت بعد وجوده واستئناف آخر يأتي بعده إذ كل زمان فنهايته الآن وهو حد الزمانين فهو نهاية الماضي وما بعده ابتداء للمستقبل وهكذا أبداً يفنى زمان ويبتدىء آخر وكل جملة من جمل الزمان فهي مركبة من أزمنة متناهية ذات أوائل كما قدمنا وكل جملة أشخاص فهي مركبة من أجزاءٍ متناهية بعددها وذوات أوائل كما قدمنا وكل مركب من أجزاءٍ متناهية ذات أوائل فليس هو شيئاً غير أجزائه إذ الكل ليس هو شيئاً غير الأجزاء التي ينحل إليها وأجزاؤه متناهية كما بينا ذات أوائل فالجمل كلها بلا شك متناهية ذات أوائل والعالم كله إنما هو أشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولاتها ليس العالم كله شيئاً غير ما ذكرنا وأشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولاتها ذوات أوائل كما ذكرنا فالعالم كله متناه ذو أول ولا بد فغن كانت أجزاؤه كلها متناهية ذات أو بالمشاهدة والحس وكان هو غير ذي أول وقد أثبتنا بالضرورة والعقل والحس أنه ليس هو شيئاً غير أجزائه فهو ذو أول لا ذو أول وهذا عين المحال ويجب من ذلك أيضاً أن لأجزائه أوائل محسوسة وأجزاؤه ليست غيره وهو غير ذي أول فأجزاؤه إذن لها أول ليس لها أول وهذا محال وتخليط فصح بالضرورة أن للعالم أولاً إذ كل أجزائه لها أول وليس هو شيئاً غير أجزائه وبالله تعالى التوفيق.

برهان ثان

قال أبو محمد رضي الله عنه : فنقول كل موجود بالفعل فقد حصره العدد وأحصته طبيعته ومعنى الطبيعة وحدها هو أن تقول الطبيعة هي القوة التي في الشيء فتجري بها كيفيات ذلك الشيء على ما هي عليه وإن أوجزت قلت هي قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه وحصر العدد وإحصاء الطبيعة نهاية صحيحة إذ ما لا نهاية له فلا إحصاء له ولا حصر له إذ ليس معنى الحصر والإحصاء إلا ضم ما بين طرفي المحصي المحصور والعالم موجود بالفعل وكل محصور بالعدد محصي بالطبيعة فهو ذو نهاية فالعالم كله ذو نهاية وسواء في ذلك ما وجد في مدة واحدة أو مدد كثيرة إذ ليست تلك المدد إلا مدة محصاة إلى جنب مدة محصاة فهي مركبة من مدد محصاة وكل مركب من أشياء فهو تلك الأشثياء التي ركب منها فهي كلها مدد محصاة كما قدمنا في الدليل الأول فصح من كل ذلك أن ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده بالفعل وما لم يوجد إلا بعد ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده أبداً لأن وقوع البعدية فيه هو وجود نهاية له وما لا نهاية له فلا بعد له فعلى هذا لا يوجد شيءٌ بعد شيءٍ أبد الأبد والأشياء كلها موجودة بعضها بعد بعض فالأشياء كلها ذات نهاية وهذان الدليلان قد نبه الله تعالى عليهما وحصرهما بحجته البالغة إذ يقول وكل شيءٍ عنده بمقدار.

برهان ثالث

قال أبو محمد رضي الله عنه : ما لا نهاية له فلا سبيل إلى الزيادة فيه إذ معنى الزيادة إنما هو أن تضيف إلى ذي النهاية شيئاً من جنسه يزيد ذلك في عدده أو في مساحته فإن كان الزمان لا أول له يكون به متناهياً في عدده الآن فإذن كل ما زاد فيه ويزيد مما يأتي من الأزمنة منه فإنه لا يزيد ذلك في عدد الزمان شيئاً وفي شهادة الحس أن كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى زماننا هذا الذي هو وقت ولاية هشام المعتمد بالله هو أكثر من كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى وقت هجرة رسول الله فإن لم يكن هذا صحيحاً فيجب إذن أنه إذا دار زحل دورة واحدة في كل ثلاثين سنة وزحل لم يزل يدور دار الفلك الأكبر في تلك الثلاثين سنة إحدى عشرة ألف دورة غيرة خمسين دورة والفلك لم يزل يدور وإحدى عشرة ألف غير خمسين دورة أكثر من دورة واحدة بلا شك فإذن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له بنحو إحدى عشرة ألف مرة وهذا محال لما قدمنا ولأن ما لا نهاية له فلا يمكن البتة أن يكون عدد أكثر منه بوجه من الوجوه فوجبت في الزمان من قبل ابتدائه ضرورة ولا مخلص منها.

ويجب أيضاً من ذلك أن الحس يوجب ضرورة أن أشخاص الإنس مضافة إلى أشخاص الخيل أكثر من أشخاص الإنس مفردة عن أشخاص الخيل ولو كانت الأشخاص لا نهاية لها لوجب أن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له وهذا محال ممتنع لا يتشكل في العقل ولا يمكن وأيضاً فلا شك في أن الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة جزء للزمان مذ كان إلى وقتنا هذا وبلا شك أيضاً في أن الزمان مذ كان إلى وقتنا هذا كل للزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ولما بعده إلى وقتنا أفلا يخلو الحكم في هذه القضية من أحد ثلاثة أوج لا رابع لها أما أن يكون الزمان مذ كان موجوداً إلى وقتنا هذا أكثر من الزمان مذ كان إلى عصر الهجرة فالكل أقل من الجزء والجزء أكثر من الكل وهذا هو الاختلاط وعين المحال إذ لا يخيل على أحد أن الكل أكثر من الجزء وهذا ما لا شك فيه ببديهة العقل وضرورة الحس وإن كان مساوياً له فالكل مساو للجزء وهذا عين المحال والتخليط وإن كان أكثر منه وهذا هو الذي لا شك فيه فالزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ذو نهاية ومعنى الجزء إنما هو إبعاض الشيء ومعنى الكل إنما هو جملة تلك الأبعاض فالكل والجزء واقعان في كل ذي أبعاض والعالم ذو أبعاض هكذا توجد حاملاته ومحمولاته وأزمانها فالعالم كل لإبعاضه وإبعاضه أجزاء له والنهاية كما قدمنا لازمة لكل ذي كل وذي أجزاء والزمان إنما هو مدة بقاء الجرم ساكناً أو متحركاً ولو فارقه لم يكن الجرم موجوداً ولا كان الزمان أيضاً موجوداً والجزء والزمان موجودان فكلاهما لم يفارق صاحبه والزمان ذو أول والجرم ذو أول وهذا مما لا انفكاك له البتة وأما ما لم يأت بعد من زمان أو شخص أو عرض فليس كل ذلك شيئاً فلا يقع على شيء من ذلك عدد ولا نهاية ولا يوصف بشيء أصلاً لأنه لا وجود له بعد فإذا وجد لزمه حينئذ مالزم سائر ما قد وجد من أجناسه وأنواعه من النهاية والعدد وغير ذلك من الصفات.

وأيضاً فلا شك في أن ما وقع من الزمان ووجد من الزماان إلى يومنا هذا مساو لما من يومنا هذا إلى ما وقع من الزمان معكوساً وواجب فيه الزيادة بما يأتي من الزمان والمساوى لا يقع إلا في ذي نهاية فالزمان متناه ضرورة وقد ألزمت بعض الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني في هذا البرهان فأراد أن يعكسه علي في بقاء الباري عز وجل ووجودنا إياه فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط لأن الباري تعالى ليس في زمان ولا له مدة لأن الزمان إنما هو حركة كل ذي الزمان وانتقاله من مكان إلى مكان أو مدة بقائه ساكناً في مكان واحد والباري تعالى ليس متحركاً ولا ساكناً ولاشك أنه ليس في زمان ولا له مدة ولا هو في مكان أصلاً وليس هو جرماً ولا جوهراً ولا عرضاً ولا عدداً ولا جنساً ولا نوعاً ولا فصلاً ولا متحركاً ولا ساكناً وإنما هو تعالى حق في ذاته وجود مطلق بمعنى أنه معلوم لا إله غيره واحد لا واحد في العالم سواه مخترع للموجودات كلها دونه لا يشبه شيئاً من خلقه بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد نبه الله على هذا الدليل وحصره في قوله تعالى. يزيد في الخلق ما يشاء.

برهان رابع

قال أبو محمد رضي الله عنه : إن كان العالم لا أول له ولا نهاية له فالإحصاء منا له بالعدد والطبيعة إلى ما لا نهاية له من أوائل العالم الماضية محال لا سبيل إليه إذ لو أحصى ذلك كله لكان له نهاية ضرورة فإذا لا سبيل إليه فكذلك أيضاً هو محال أن تكون الطبيعة والعدد أحصيا ما لا نهاية له من أوائل العالم الخالية حتى يبلغا إلينا وإذا كان ذلك محالاً فالعدد والطبيعة إذاً لم يبلغا إلينا وقد تيقنا وقوع العدد والطبيعة في كل ما خلا من العالم حتى بلغا إلينا بلا شك فإذاً قد أحصى العدد والطبيعة كل ما خلا من أوائل العالم إلى أن بلغا إلينا فكذلك الإحصاء منا إلى أولية العالم صحيح موجود ضرورة بلا شك وإذ ذلك كذلك فللعالم أول ضرورة وبالله تعالى التوفيق.

برهان خامس

قال أبو محمد لا سبيل إلى وجود ثان إلا بعد أول ولا إلى وجود ثالث إلا بعد ثان وهكذا أبداً ولو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن ثان ولو لم يكن ثان لم يكن ثالث ولو كان الأمر هكذا لم يكن عدد ولا معدود وفي وجودنا جميع الأشياء التي في العالم معدودة إيجاب أنها ثالث بعد ثان وثان بعد أول وفي صحة هذا وجوب أول ضرورة وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل وعلى الذي قبله وحصرهما في قوله تعالى وأحصى كل شيء عدداً وأيضاً فالآخر والأول من باب المضاف فالآخر آخر للأول والأول أول للآخر ولو لم يكن أول لم يكن آخر ويومنا هذا بما فيه آخر لكل موجود قبله إذ ما لم يأت بعد فليس شيئاً ولا وقع عليه بعد شيء من الأوصاف فله أول ضرورة.

قال أبو محمد وقد أخبرني بعض أصدقائنا وهو محمد بن عبد الرحمن بن عقبة رحمه الله تعالى أنه عارض بهذا البرهان بعض الملحدين وهو عبد الله بن عبد الله بن شنيف فعارضه الملحد في قوله بخلود الجنة والنار وأهلهما فقال له ابن عقبة إنما أخذنا خلود داري الجزاء وخلود أهلهما بلا نهاية على غير هذا الوجه لكن على أن الله تعالى ينشىء لكل ذلك بقاء محدوداً وحركات حادثة ولذات مترادفة أبداً وقتاً بعد وقت إلا أن الأول والآخر جاريان حادثان في كل موجود من ذلك وإذا ثبت الأول فغير ممتنع تمادي الزمان حيناً بعد حين أبداً بلا نهاية وهذا مثل العدد فإنه لو لم يكن له أول لم يقدر أحد على عد أي شيء أبداً فالعدد له أول ضرورة يعرف ذلك بالحس والمشاهدة وهو قولنا واحد فإن هذا مبدأ العدد الذي لا عدد قبله ثم الأعداد يمكن فيها لزيادة أبداً لا بد لا إلى غاية لكن كلما خرج منه جزء إلى حد الوجود وحد الفعل فله نهاية وهكذا أبداً سرمداً وبالله تعالى التوفيق فانقطع الشنيفي ولم يكن عنده إلا الشغب.

قال أبو محمد وقد قال بعض اهل الإلحاد في هذه البراهين التي أوجبنا بها استحالة وجود موجودات لا أوائل لها أتقولون أن الله تعالى يوف أهل الجنة ما وعدهم من النعيم الذي لا آخر له ولا نهاية أم لا يوفيهم ما وعدهم من ذلك.

فإن قلتم أنه تعالى يوفيهم إياه دخل عليكم كل ما أدخلتموه علينا في هذه البراهين ولا فرق.

وإن قلتم أنه تعالى لا يوفيهم ذلك ألزمتموه خلف الوعد وهو كفر عندكم.

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه شغيبة قد طال ما حذرنا من مثلها في كتبنا التي جمعناها في حدود المنطق وهي منفسخة من وجهين أحدها أن تعلق المرء بما يقول خصمه ضعف وإنما يلزم المرء أن يخلص قوله مجرداً ولا أسوة له في تناقض خصمه بل لعل خصمه لا يقول ذلك الثاني إن المسؤل بها إن كان جهمياً سقط عنه هذا السؤال المذكور.

وأما نحن فعلينا بحول الله تعالى بيان فساد هذا الاعتراض وتمويهه فنقول وبالله التوفيق إن من شغب أهل السفسطة إدخال كلمة لا يوبه لها يجعلونها مقدمة وهي كذب فيموهون بها على الجهال وما يبنون عليها وهذا الاعتراض من هذا الباب وذلك أنهم أرادوا إلزامنا بأن الله عز وجل وعد أهل الجنة أن يوفيهم نعيماً لا نهاية له وهذا خطأ وكذب وما وعدهم الله عز وجل قط بأن يوفيهم نعيماً لا نهاية له وهذا خطأ وكذب وما وعدهم الله عز وجل قط بأن يوفيهم ذلك النعيم ولو وعدهم بذلك لكان ذلك النعيم إذا استوفي بطل وفني وانقضى وإنما وعدهم تعالى بنعيم لا نهاية له وكل ما ظهر ووجد من ذلك النعيم فهو محصور ذو نهاية وما لم يخرج إلى حد الفعل فهو عدمٌ يعد ولا يقع عليه عدد ولا صفة وهكذا أبداً فقد ظهر أن لفظة يوفيهم هي الشغيبة الفاسدة التي موهوا بها فإذا أسقطها المعترض من كلامه سقط اعتراضه جملة وصحت القضية وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إن الله تعالى يقول وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص قلنا هذا لا يخلوا من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون أراد بذلك نصيبهم من الجزاء أو يكون أراد نصيبهم من مساحة الجنة.

فإن كان عنى عز وجل بذلك نصيبهم من الجزاء بالعقاب والنعيم فهو صحيح لأن كل ما خرج من ذلك إلى حد الوجود فهو مستوفى بيقين وهكذا أبداً وإن كان تعالى عنى بذلك نصيب كل واحد من الجنة والنار فهذا صحيح لأن كل مكان منها متناه من جهة المساحة وإنما نفينا التوفية التي توجب الانقضاء بلا زيادة فيها وقد قال عز وجل فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وقال تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وهاتان الآيتان تبينان أن الأجر المستوفي هو ما يعطونه من مساحة الجنة وكل ما خرج إلى الوجود من النعيم لا يزال تعالى يزيدهم من فضلهه كما قال تعالى بغير حساب فهذا لا يستوفي أبداً لأنه لا نهاية له ولا كل ولو استوفي لم يمكن أن تكون فيه زيادة إذ بالضرورة يعلم أن ما استوفى فلا زيادة فيه وما تمكن الزيادة فيه فلم يستوف بعد والله تعالى قد نص على أن بعد تلك التوفية زيادة فصح أنها توفية لشيء محدود متناه وأن ما لا نهاية له فلا يستوفى أبداً فقد ثبت بكل ما ذكرنا أن العالم ذو أول.

وإذا كان ذو أول فلا بد ضرورة من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها وهي إما أن يكون أحدث ذاته وإما أن يكون حدث بغير أن يحدثه غيره وبغير أن يحدث هو نفسه وإما أن يكون أحدثه غيره فإن كان هو أحدث ذاته فلا يخلو من أحد أربعة أوجه لا خامس لها وهي إما أن يكون أحدث ذاته وهو معدوم وهي موجودة أو أحدث ذاته وهو موجود وهي معدومة أو أحدثها وكلاهما موجود أو أحدثها وكلاهما معدوم وكل هذه الأربعة الأوجه محال ممتنع لا سبيل إلى شيء منها لأن الشيء وذاته هي وهو هي وكل ما ذكرنا من الوجوه يوجب أن يكون الشيء غير ذاته وهذا محال وباطل بالمشاهدة والحس فهذا وجه قد بطل ثم نقول وإن كان خرج عن العدم إلى الوجود بغير أن يخرج هو ذاته أو يخرجه غيره فهو أيضاً محال لأنه لا حال أولى بخروجه إلى الوجود من حال أخرى ولا حال أصلاً هنالك فإذاً لا سبيل إلى خروجه وخروجه مشاهد متيقن فحال الخروج غير حال اللا خروج وحال الخروج هي علة كونه وهذا لازم في تلك الحال أعني إن حال الخروج يلزم في حدوثها مثل ما لزم في حدوث العالم من أن تكون أخرجت أنفسها أو أخرجها غيرها أو أخرجت بغير هذين الوجهين وهكذا في كل حال فإن تمادي الكلام وجب بما قدمناه إلا نهاية واللا نهاية في العالم من مبدأه باطل ممتنع محال فإذاً قد بطل أن يخرج العالم بنفسه وبطل أن يخرج دون أن يخرجه غيره فقد ثبت.

الوجه الثالث ضرورة إذ لم يبق غيره البتة فلابد من صحته وهو أن العالم أخرجه غيره من العدم إلى الوجود وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن الفلك بكل ما فيه ذو آثار محمولة فيه من نقلة زمانية وحركة دورية في كون كل جزء من أجزائه في مكان الذي يليه والأثر مع المؤثر من باب المضاف فإن لم يكن أثرٌ لم يكن مؤثرٌ وإن لم يكن مؤثرٌ أثرها ولا سبيل إلى أن يكون الفلك أو شيء مما فيه هو المؤثر لأنه يصير هو المؤثر والمؤثر فيه مع أن المؤثر والأثر من باب المضاف أيضاً ومعنى قولنا إن المؤثر والأثر والمؤثر فيه من باب المضاف إنما هو أن الأثر والمؤثر فيه يقتضيان مؤثراً ولابد ولم يرد أن الباري تعالى يقع تحت الإضافة فلابد ضرورة من مرثر ليس مؤثراً فيه وليس هو شيئاً مما في العلام فهو بالضرورة الخالق الأول الواحد تبارك وتعالى فصح بهذا أن العالم كله محدث وإن له محدثاً هو غيره هذا إلى ما نراه ويشاهد بالحواس من آثار الصنعة التي لا يشكل فيها ذو عقل.

ومن بعض ذلك تراكيب الأفلاك وتداخلها ودوام دورانها على اختلاف مراكزها ثم أفلاك تداويرها والبون بين حركة أفلاك التداوير والأفلاك الحاملة لها ودوران الأفلاك كلها من غرب إلى شرق ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب إلى شرق ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب وإدارته لجميع الأفلاك مع نفسه كذلك فحدث من ذلك حركتان متعارضتان في حركة واحدة فبالضرورة نعلم أن لها محركاً على هذه الوجوه المختلفة.

ثم تراكيب أعضاء الإنسان والحيوان من إدخال العظام المحدبة في المقعرة وتركيب العضل على تلك المداخل والشد على ذلك بالعصب والعروق صناعة ظاهرة لاشك فيها لا ينقصها إلا رؤية الصانع فقط.

ومن ذلك ما يظهر في الأصباغ الموضوعة في جلود كثير من الحيوان وريشه ووبره وشعره وظفره وقشره على رتبة واحدة ووضع واحد لا تخالف فيه كإصباغ الحجل والشفانين اليمام والسمان والبزاة وكثير من الطير والسلاحف والحشرات والسمك لا يختلف تنقيطه البتة ولا تكون أصباغه موضوعة إلا وضعاً واحداً كأذناب الطواويس وفي السمك والجراد والحشرات نوعاً واحداً كالذي يصوره المصور بيننا.

منها ما يأتي مختلفاً كأصباغ الدجاج والحمام والبط وكثير من الحيوان فبالضرورة والحس نعلم أن لذلك صانعاً مختاراً يفعل ذلك كله كما شاء ويحصيه إحصاء لا يضطرب أبداً عما شاء من ذلك وليس يمكن البتة في حس العقل أن تكون هذه المختلفات المضبوطة ضبطاً لا تفاوت فيه من فعل طبيعة ولابد لها من صانع قاصد إلى صنعة كل ذلك ومن دري ما الطبيعة علم أنها قوة موضوعة في الشيء تجري بها صفاته على ما هي عليه فقط وبالضرورة يعلم أن لها واضعاً ومرتباً وصانعاً لأنها لا تقوم بنفسها وإنما هي محمولة على ذي الطبيعة.

ومنها ما نرى في ليف النخل والدوم من النسج المصنوع يقيناً بنيرين وسدى كالذي يصنعه النساج ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط يقيناً بنيرين وسدى كالذي يصنعه النساج ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط وليس هذا البتة من فعل طبيعة ولا بنسج ناسج ولا بناء ولا صانع أصباغ مرتبة بل هو صنعة صانع مختار قاصد إلى ذلك غير ذي طبيعة لكنه قادر على ما يشاء هذا أمر معلوم بضرورة العقل وأوله يقيناً كما نعلم أن الثلاثة أكثر من الاثنين فصح أنه خالق أول واحد حق لا يشبه شيئاً من خلقه البتة لا إله إلا هو الواحد الأول الخالق عز وجل .

باب الكلام على من قال أن العالم لم يزل وله مع ذلك فاعل لم يزل

قال أبو محمد رضي الله عنه : قد أفسدنا بحول الله وقوته بالبراهين التي قدمنا هذه المقالة ولكن بقي لهم اعتراض وجب إيراده تقصياً لكل ما موهوا به

قال أبو محمد رضي الله عنه : اعتمد أهل هذه المقالة على أن قالوا إن علة فعل الباري تعالى إنما هو جوده وحكمته وقدرته وهو تعالى لم يزل جواداً حكيماً قادراً فالعالم لم يزل إذ علته لم تزل فهذا فاسد البتة بالدلالة التي قدمنا التي تضطر إلى المعرفة والتيقن بحدوث العالم ثم نقول أنه إنما يلزم هذا من أقر بهذه المقدمة أعني أن للعالم علة وأما نحن فإنا نقول أنه لا علة لتكوين الله عز وجل كل ما كونه وأنه لا شيء غير الخالق وخلقه ثم نقول على علم هؤلاء قولاً كافياً إن شاء الله تعالى وهو أن المفعول هو المنتقل من العدم إلى الوجود بمعنى من ليس إلى شيء فهذا هو المحدث ومعنى المحدث هو ما لم يكن ثم كان وهم يقولون أنه الذي لم يزل وهذا هو خلاف المعقول لأن الذي لم يكن ثم كان هو غير الذي لم يزل فالعالم إذاً هو غير نفسه وهذا عين المحال وبالله تعالى التوفيق فإن قال لنا قائل لما كان الباري تعالى غير فاعل على قولكم ثم صار فاعلاً فقد لحقته استحالة وتعالى الله عن ذلك قلنا له وبالله التوفيق هذا السؤال راجع عليكم إذ صححتموه فهو لكم لازم لا لنا إذ لم نصححه وذلك أنه إن كان عندكم الفعل منه بعد أن كان غير فاعل يوجب الاستحالة على الفاعل تعالى فإن فعله لما أحدث من الإعراض عندكم بعد أن كان غير محدث لها وإعدامه ما أعدم منها بعد أن كان غير معدم لها موجب عليه الاستحالة فأجيبوا عن سؤالكم الذي صححتموه ولا جواب لكم إلا بإفساده.

وأما نحن فنقول إن الاستحالة ليست ما ذكرتم وإنما معنى الاستحالة أنه حدوث شيء في المستحيل لم يكن فيه قبل ذلك صار به مستحيلاً عن صفته المحمولة عليه إلى غيرها وهذا المعنى منفي عن الله تعالى أي أنه تعالى يجل عن أن يكون حاملاً لصفة عليه بل بذاته لم يفعل إن كان غير فاعل وبذاته فعل إن فعل ولا علة لما فعل ولا علة لما لم يفعل وأيضاً فإن الذي لم يزل هو الذي لا فاعل له ولا مخرج له من عدم إلى وجود فلو كان العالم لم يزل لكان لا محرج له ولا فاعل له وقد أقر أهل هذه المقالة بأن العالم لم يزل وإن له فاعلاً لم يزل يفعل وهذا عين المحال والتخليط والفساد وبالله تعالى التوفيق.

باب الكلام على من قال أن للعالم خالقاً لم يزل

وأن النفس والمكان المطلق هو الخلاء والزمان المطلق الذي هو المدة لم تزل موجودة وأنها غير محدثة

قال أبو محمد رضي الله عنه : النفس عند هؤلاء جوهر قائم بنفسه حامل لأعراضه لا متحرك ولا منقسم ولا متمكن أي لا في مكان.

وقد ناظرني قوم من أهل الرأي ورأيته كالغالب على ملحدي أهل زماننا فألزمتهم إلزامات لم ينفكوا منها أظهرت بطلان قولهم بعون الله تعالى وقوته.

ولم نر أحداً ممن تكلم قبلنا ذكر هذه الفرقة فجمعت ما ناظرتهم به وأضفت إليه ما وجبت إضافته إليه مما فيه تزييف قولهم وما توفيقنا إلا بالله وهذا الزمان والمكان عندهم هما غير المكان المعهود عندنا وغير الزمان المعهود عندنا.

لأن المكان المعهود عندنا هو المحيط بالمتمكن فيه من جهاته أو من بعضها وهو ينقسم قسمين إما مكان يتشكل المتمكن فيه بشكله كالبر أو الماء في الخابية وما أشبه ذلك وإما مكان يتشكل هو بشكل المتمكن فيه كالماء لما حل فيه من الأجسام وما أشبهه.

والزمان المعهود عندنا هو مدة وجود الجرم ساكناً أو متحركاً أو مدة وجود العرض في الجسم ويعمه أن نقول هو مدة وجود الفلك وما فيه من الحوامل والمحمولات.

وهم يقولون أن الزمان المطلق والمكان المطلق هما غير ما حددنا آنفاً من الزمان والمكان ويقولون أنهما شيئان متغايران ولقد كان يكفي من بطلان قولهم إقرارهم بمكان غير ما يعهد وزمان غير ما يعهد بلا دليل على ذلك ولكن لابد من إيراد البراهين على إبطال دعواهم في ذلك بحول الله وقوته فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن هذا الخلاء الذي أثبتم وقلتم أنه كان موجوداً قبل حدوث الفلك وما فيه هل بطل بحدوث الفلك ما كان منه في مكان الفلك قبل أن يحدث الفلك أو لم يبطل.

فإن قالوا لم يبطل وبذلك أجابني بعضهم فيقال لهم فإن كان لم يبطل فهو انتقل عن ذلك المكان بحدوث الفلك في ذلك المكان أو لم ينتقل فإن قالوا لم ينتقل وهو قولهم قيل لهم فإذ لم يبطل ولا انتقل فأين حدث الفلك وقد كان في موضعه قبل حدوثه عندكم معنى ثابت قائم بنفسه موجود وهل حدث الفلك في ذلك المكان المطلق الذي هو الخلاء أم في غيره فإن كان حدث في غيره فههنا إذاً مكان آخر غير الذي سميتموه خلاء وهو إما مع الذي ذكرتم في حيز واحد أم هو في حيز آخر فإن كان معه في حيز واحد فالفلك فيه حدث ضرورة وقد قلتم أنه لم يحدث فيه فهو إذاً حادث فيه غير حادث فيه وهذا تناقض ومحال.

وإن كان في حيز آخر فقد أثبتم النهاية للخلاء إذ الحيز الآخر الذي حدث فيه الفلك ليس هو في ذلك الخلاء وهذا ينطوي فيه بالضرورة نهاية الخلاء الذي ذكرتم فهو متناهٍ لا متناهٍ وهذا تناقض وتخليط وإذا بطل أن يكون غير متناهٍ وثبت أنه متناه فهو المكان المعهود المضاف إلى المتمكن فيه وهذا هو المكان الذي لا يعرف ذو عقل سواه.

وإن كان الفلك حدث فيه والفلك ملاء بلا شك ولم ينتقل الخلاء عندكم ولا بطل فالفلك إذاً خلاءٌ وملاءٌ معاً في مكان واحد وهذا محال وتخليط.

فإن قالوا بطل بحدوث الفلك ما كان منه في موضع الفلك قبل حدوث الفلك أو قالوا انتقل فقد أوجبوا له النهاية ضرورة إما من طريق الوجود بالبطلان إذ لا يفسد ويبطل إلا ما كان حادثاً لا ما لم يزل وإما من طريق المساحة بالنقلة إذ لو لم يجد أين ينتقل لم تكن له نقلة إذ معنى النقلة إنما هو تصيير الجرم إلى مكان لم يكن فيه قبل ذلك أو إلى صفة لم يكن عليها قبل ذلك ووجوده مكاناً ينتقل غليه موجب أنه لم يكن في ذلك المكان الذي انتقل إليه قبل انتقاله إليه وهذا هو إثبات النهاية ضرورة فهذا هو الذي أبطلوا.

ويلزمهم في ذلك أيضاً أن يكون متحيزاً ضرورة لأن الذي بطل منه هو غير الذي لم يبطل والذي انتقل هو غير الذي لم ينتقل وهو إذا كان ذلك فإما هو جسم ذو أجزاء وإما هو محمول في جسم فهو ينقسم بانقسام الجسم وقد أثبتنا النهاية للجسم في غير هذا المكان من كتابنا هذا بما فيه البيان الضروري والحمد لله رب العالمين وأيضاً فإن كان لم يبطل فالذي كان منه في موضع الفلك ثم لم يبطل ولا انتقل لحدوث الفلك فيه فهو والفلك إذاً موجودان في حيز واحد معاً فهو إذاً ليس مكاناً للفلك لأن المكان لا يكون مع المتمكن فيه في مكان واحد وهذا يعرف بأولية العقل ولو كان ذلك لكان المكان مكاناً لنفسه ولما كان واحد منهما أولى بأن يكون مكاناً للآخر من الآخر بذلك ولا كان أحدهما أولى أيضاً بأن يكون متمكناً في الآخر من الآخر فيه وكل هذا فاسد ومحال بالضرورة وأيضاً فإن الخلاء عندهم مكان لا متمكن فيه والفلك عندهم موجود في الخلاء إذ لا نهاية للبخلاء عندهم من طريق المساحة فإذا كان الفلك متمكناً في الخلاء عندهم والخلاء عندهم مكان لا متمكن فيه فالخلاء إذاً مكان فيه متمكن ليس فيه متمكن وهذا محال وتخليط وهذا بعينه لازم في قولهم إن ذلك الجزء من الخلاء لم ينتقل لحدوث الفلك فيه.

فإن قالوا انتقل فإنما صار إلى مكان لم يكن فيه قبل ذلك خلاء ولا ملاء فقد ثبت عدم الخلاء والملاء فيما فوق الفلك ضرورة وهذا خلاف قولهم.

وإن قالوا بطل لزمهم أيضاً أنه قد عدته المدد ضرورة فإذا عدته المدد فقد تناهى من أوله بالمبدأ ضرورة فإن قالوا بل لم يحدث الفلك في شيء من ذلك المكان الذي هو الخلاء فقد أثبتوا حيزاً آخر ومكاناً للفلك غير الخلاء الشامل عندهم وإذا كان ذلك فقد تناهى كلا المكانين من جهة تلاقيهما ضرورة وإذا تناهيا من جهة تلاقيهما لزمتهما المساحة ووجب تناهيهما التناهي ذرعهما ضرورة ويسألون أيضاً عن هذا الخلاء الذي هو عندهم مكان لا متمكن فيه هل له مبدأ متصل بصفحات الفلك الأعلى أم لا مبدأ له من هنالك ولابد من أحد الأمرين ضرورة فإن قالوا لا مبدأ له وهو قولهم قيل لهم إن قول القائل مكان إنما يفهم منه ما يتمثل في النفس من المقصود بهذه اللفظة وموضعها في اللغة لتكون عبارة للتفاهم عن المراد بها أنها ساحة ولابد للساحة من الذرع ضرورة ولابد للذرع من مبدأ لأنه كمية والكمية أعداد مركبة من الآحاد فإن لم يكن له مبدأ من واحد اثنين ثلاثة لم يكن عدد وإذا لم يكن عدد لم يكن ذرع أصلاً وإذا لم يكن ذرع لم تكن مساحة ولا انفساح ولا مسافة وكل هذه ألفاظ واقعة إما على ذرع المذروع وإما على مذروع بالذرع ضرورة.

فإن قالوا له مبدأ من هنالك وجبت له النهاية ضرورة لحصر العدد لمساحته بوجود المبدأ له ويسألون أيضاً أمماس هذا الفلك أم غير مماس وبائن عنه أم غير بائن فإن قالوا لا مماس ولا بائن فهذا أمر لا يعقل بالحس ولا يتشكل في النفس ولا يقوم على صحته برهان أبداً إلا في الأعراض المحمولة في الأجسام وهم لا يقولون أن الخلاء عرض محمول في جسم وكل دعوى لم يقم عليها دليل فهي باطلة مردودة وإن أثبتوا المماسة أو المباينة وجب عليهم ضرورة إثبات النهاية له كما لزم بإثبات المبدأ إذ النهاية منطوية في ذكر المبدأ والمماسة والمباينة ضرورة لاشك فيها وبالله التوفيق ويسألون أيضاً عن هذا الخلاء الذي يذكرون والزمان الذي يثبتون أمحمولان هما أم حاملان أم أحدهما محمول والثاني حامل أم كلاهما لا حامل ولا محمول فأيهما أجابوا فيه فإنه حامل بلا شك في أن محموله غيره إذ لا يكون الشيء حاملاً لنفسه فله إذاً محمول لم يزل وهو غير الزمان فإن قالوا ذلك كلموا بما قدمنا قبل على أهل الدهر القائلين بأزلية العالم.

وأيضاً فإن كان المكان حاملاً فلا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون حاملاً لجرم متمكن فيه وهذا يوجب النهاية له لوجوب نهاية الجرم المتمكن فيه بالدلالة التي قدمنا في إثبات نهايات الأجرام وإما أن يكون حاملاً لكيفياته فإن كان حاملاً لكيفياته فهو مركب من هيولاه وأعراضه وجنسه وفصوله وبالضرورة يعلم كل ذي حسن سليم أن كل مركب فهو متناه بالجرم والزمان بالدلائل التي قدمنا ولا سبيل إلى حمل ثالث وأيهما قالوا فيه أنه محمول فإنه يقتضي حاملاً ويعكس الدليل الذي ذكرنا آنفاً سواءً بسواءٍ وأيهما قالوا فيه أنه حامل محمول وجب كل ما ذكرنا فيه أيضاً بعكسه وأيهما قالوا فيه لا حامل ولا محمول فلا يخلو من أن يكون باقياً أو يكون بقاءً فإن كان باقياً فهو مفتقر إلى بقاءٍ وهو مدته إذ لا باقي إلا ببقاء وإن كان بقاء فلا بد له من باق به وهو من باب الإضافة والمدة وهي البقاء إنما هي محمولة وناعتة للباقي بها ضرورة هذا الذي لا يقوم في العقل سواه ولا يقوم برهان إلا عليه ويسألون أيضاً عن هذا الزمان الذي يذكرون هل زاد في مدة اتصاله مذ حدث الفلك إلى يومنا هذا أو لم يزد ذلك في أمده فإن قالوا لم يزد ذلك في أمده كانت مكابرة لأنها مدة متصلة بها مضافة إليها وعدد زائد على عدد فإن قالوا زاد ذلك في أمده سئلوا متى كانت تلك المدة أطول أقبل الزيادة أم هي وهذه الزيادة معاً فإن قالوا هي والزيادة معاً فقد أثبتوا النهاية ضرورة إذ ما لا نهاية له فلا يقع فيه زيادة ولا نقص ولا يكون شيء مساوياً له ولا أكثر منه ولا أنقص منه ولا يكون هو أيضاً مفصلاً أصلاً فلا يكون مساوياً لنفسه كما هو ولا أكثر من نفسه ولا أقل منها فإن قالوا ليست هي والزيادة معها أطول منها قبل الزيادة فقد أثبتوا أن الشيء وغيره معه ليس أكثر منه وحده وهذا باطل وهم يقولون أن الخلاء والزمان المطلق شيآن متغايران فيقال لهم فإذا هما كذلك فبأي شيء انفصل بعضهما من بعض فإن قالوا انفصل بشيء ما وذكروا في ذلك أي شيء ذكروه فقد أثبتوا لهما التركيب من جنسهما وفصلهما وأيضاً فجعلهم لهما شيئين إيقاع منهم للعدد عليهما وكل عدد فهو متناه محصور وكل محصور فقد سلكته الطبيعة وكل ما سلكته الطبيعة فهو متناه ضرورة.

فإن أرادوا ألزامنا في الباري تعالى مثل ما ألزمناهم في هذا السؤال فقالوا أيما أكثر الباري تعالى وحده أم الباري وخلقه معاً قلنا هذا سؤال فاسد بالبرهان الضروري لأن هذا البرهان إنما هو على وجوب حدوث الزمان وما لم ينفك من الزمان وعلى حدوث النوامي وأيضاً فإن الباري تعالى ليس عدداً ولا بعض عدد وليس هو أيضاً معدوداً ولا بعضاً لمعدود لأن واحداً ليس عدداً بالبرهان الذي نورده في الباب الذي يتلو هذا الباب إن شاء الله تعالى ولا واحد على الحقيقة إلا الله عز وجل فقط فهو الذي لا يتكثر البتة ولا ينضاف إلى سواه إذ لا يجمعه مع شيء سواه عدد ولا صفة البتة لأن كل ما وقع عليه اسم واحد مما دونه تعالى فإنما هو مجاز لا حقيقة لأنه إذا قسم استبان أنه كان كثيراً لا واحداً فلذلك وقع العدد على الأجرام والأعداد المسماة آحاداً في العالم وأما الواحد في الحقيقة فهو الذي ليس كثيراً أصلاً ولا يتكثر بوجه من الوجوه فلا يقع عليه عدد بوجه من الوجوه لأنه يكون حينئذ واحداً لا واحداً كثيراً لا كثيراً وهذا تخليط ومحال وممتنع لا سبيل إليه فلا يجوز أن يضاف الواحد الأول إلى شيء مما دونه لا في عدد ولا كمية ولا في جنس ولا في صفة ولا في معنى من المعاني أصلاً وبالله تعالى التوفيق.

فإن ذكر ذاكر قول الله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا فمعنى قوله تعالى هو رابعهم وهو سادسهم إنما هو فعل فعله فيهم وهو أن ربعهم بإحاطته بهم لا بذاته وسدسهم بإحاطته لا بذاته أو قد يربعهم بملك يشرف عليهم ويسدسهم كذلك وبرهان هذا القول أن الله تبارك وتعالى إنما عنى بهذه الآية بلا خلاف بل بضرورة العقل من كل سامع أنه لا تخفى عليه نجواهم وهذا نص الآية لأنه تعالى افتتحها بذكر نجوى المتناجين وإنما أراد عز وجل علمه بنجواهم لا أنه معدود معهم بذاته إلى ذواتهم حاشى لله من ذلك إذ من المحال الممتنع الخارج عن رتبة الأعداد والمعدودين أن يكون الله عز وجل معدوداً بذاته مع ثلاثة بالهند ومع ثلاثة بالسند ومع ثلاثة بالعراق ومع ثلاثة بالصين في وقت واحد لأنه لو كان ذلك لكان الذين هو رابعهم بالهند مع الثلاثة الذين هو رابعهم بالصين ثمانية كلهم لأنهم أربعة وأربعة بلا شك فكأن تعالى حينئذ يكون اثنين وأكثر وهذا محال وكذلك إذا كان بذاته سادساً لخمسة ههنا فهم ستة ورابعاً لثلاثة هنالك فهم أربعة فهم كلهم بلا شك عشرة فهو إذاً اثنان وكذلك قوله تعالى في الآية نفسها إلا هو معهم أينما كانوا إنما أضاف تعالى الأينية إليهم لا إلى نفسه تعالى معناه أينما كانوا فهو تعالى معهم بإحاطته إذ محال أن يكون بذاته في مكانين فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين كثيراً

وليس قول القائل الله ورسوله والله وعمرو مما يعترض به علينا لأننا لم نمنع من ضم اسمه تعالى إلى اسم غيره معه لأن الاسم كلمة مركبة من حروف الهجاء وإنما منعنا من أن تعد ذاته تعالى مع شيء غيره إذ العدد إنما هو جمع شيء إلى غيره في قضية ما والله تعالى لا يجمعه وخلقه شيء أصلاً فصح انتفاء العدد عنه تعالى وإذا صح انتفاء العدد عنه صح أنه ليس معدوداً البتة والحمد لله رب العالمين ويسألون أيضاً هذا الزمان والمكان اللذان يذكران أهما واقعان تحت الأجناس والأنواع أم لا وهل هما واقعان تحت المقولات العشر أم لا فإن قالوا لا فقد نفوهما أصلاً وأعدموهما البتة إذ لا مقول من الموجودات إلا هو واقع تحتها وتحت الأجناس والأنواع حاشى الحق الأول الواحد الخالق عز وجل الذي علم بضرورة الدلائل ووجب بها خروجه عن الأجناس والأنواع والمقولات وبالجمة شاؤا أو أبوا فالخلاء والزمان المطلق اللذان يذكران إن كانا موجودين فهما واقعان تحت جنس الكمية والعدد ضرورة فإذا كان ذلك كذلك فهذا الزمان الذي ندريه نحن وهم وذلك الزمان الذي يدعونه هما واقعان جميعاً تحت جنس متى وكذلك المكان الذي يدعونه واقع مع المكان الذي نعرفه نحن وهم تحت جنس أين وبالضرورة يجب أن ما لزم بعض ما تحت الجنس مما يوجبه له الجنس فإنه لازم لكل ما تحت ذلك الجنس وإذ لا شك في هذا فهما مركبان والنهاية فيهما موجودة ضرورة إذ المقولات كلها كذلك.

وأيضاً فإن المكان لابد له من مدة يوجد فيها ضرورة فنسألهم هل تلك المدة هي الزمان الذي يدعونه أم هي غيره فإن كانت هي هو فهو زمان للمكان فهو محمول في المكان فهو ككل زمان لذي الزمان فلا فرق وإن كانت غيره فههنا إذن زمان ثالث غير مدة ذلك المكان وغير الزمان الذي ندريه نحن وهم وهذه وساوس لا يعجز عن ادعائها كل من لم يبال بما يقول ولا استحيا من فضيحة ويقال لهم إذ ليس المكان الذي تدعونه والزمان الذي تدعونه واقعين مع المكان المعهود والزمان المعهود تحت جنس وحدٍ واحد فلم سميتموه مكاناً وزماناً وهلا سميتموهما باسمين مفردين لهما ليبعدا بذلك عن الإشكال والتلبيس والسفسطة بالتخليط بالأسماء المشتركة فإن كانا مع الزمان والمكان المعهودين تحت حد واحد فقد بطلت دعواكم زماناً ومكاناً غير الزمان والمكان المعهودين بالضرورة وبالله التوفيق ويسألون أيضاً عن هذا الزمان والمكان غير المعهودين أهما داخل الفلك أم خارجه فإن قالوا هما داخل الفلك فالخلاء إذاً هو الملاء والمكان إذاً في المتمكن يعني في داخله وهذا محال والزمان إذن هو الذي لا يعرف غيره وإن قالوا هما خارج الفلك أوجبوا لهما نهاية ابتداء مما هو خارج الفلك وإن قالوا لا خارج ولا داخل فهذه دعوى مفتقرة إلى برهان ولا برهان على صحتها فهي باطل فإن قالوا أنتم تقولون هذا في الباري تعالى قلنا لهم نعم لأن البرهان قد قام على وجوده فلما صح وجوده تعالى قام البرهان بوجوب خلافه لكل ما في العالم على أنه لا داخل ولا خارج وأنتم لم يصح لكم برهان على وجود الخلاء والزمان الذي تدعونه فصار كلامكم كله دعوى وبالله التوفيق.

قال أبو محمد رضي الله عنه : ولم نجد لهم سؤالاً أصلاً ولا أتونا قط بدليل فنورده عنهم ولا وجدنا لهم شيئاً يمكن الشغب به في أزلية الخلاء والمدة فنورده عنهم وإن لم ينتبهوا وإنما هو

قال أبو محمد رضي الله عنه : ومما يبطل به الخلاء الذي سموه مكاناً مطلقاً وذكروا أنه لا يتناهى وأنه مكان لا متمكن فيه برهان ضروري لا انفكاك منه وأطرف شيء أنه برهانهم الذي موهوا به وشغبوا بإيراده وأرادوا به إثبات الخلاء وهو أننا نرى الأرض والماء والأجسام الترابية من الصخور والزئبق ونحو ذلك طباعها السفل أبداً وطلب الوسط والمركز وأنها لا تفارق هذا الطبع فتصعد إلا بقسر يغلبها ويدخل عليها كرفعنا الماء والحجر قهراً فإذا رفعناهما ارتفعا فإذا تركناهما عادا إلى طبعهما بالرسوب ونجد النار والهواء طبعهما الصعود والبعد عن المركز والوسط ولا يفارقان هذا الطبع إلا بحركة قسراً تدخل عليهما يرى ذلك عياناً كالزق المنفوخ والإناء المجوف المصوب في الماء فإذا زالت تلك الحركة القسرية رجعا إلى طبعهما ثم نجد الإناء المسمى سارقة الماء يبقي الماء فيها صعداً ولا ينسفك وتجد الزراقة ترفع التراب والزئبق والماء ونجد إذا حفرنا بئراً امتلأ هواء وسفل الهواء حينئذ ونجد المحجمة تمص الجسم الأرضي إلى نفسها فليس كل كل هذا إلا لأحد وجهين لا ثالث لهما إما عدم الخلاء جملة كما نقول نحن وإما لأن طبع الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء فنظرنا في قولهم أن طبع الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء فوجدناه دعوى بلا دليل فسقط ثم تأملناه أخرى فوجدناه عائداً عليهم لأنه إذا اجتذبت الأجسام ولابد فقد صار ملأً فالملأ حاضر موجود والخلاء دعوى لا برهان عليها فسقطت وثبت عدم الخلاء.

ثم نظرنا في قولنا فوجدناه يعلم بالمشاهدة وذلك أننا لم نجد لا بالحس ولا بتوهم العقل بالإمكان مكاناً يبقى خالياً قط دون متمكن فصح الملأ بالضرورة وبطل الخلاء إذ لم يقم عليه دليل ولا وجد قط وبالله تعالى التوفيق.

ثم نقول لهم إن كان خارج الفلك خلاء على قولكم فلا يخلو من أن يكون من جنس هذا الخلاء الذي تدعون أنه يجتذب الأجسام بطبعه أو يكون من غير جنسه ولابد من أحد هذين الوجهين ضرورة ولا سبيل إلى ثالث البتة فإن قالوا هو من جنسه وهو قولهم فقد أقروا بأن طبع هذا الخلاء الغالب بجميع الطبائع هو أن يجذب المتمكنات إلى نفسه فيمتلىء بها حتى أنه يحيل قوى العناصر عن طباعها فوجب أن يكون ذلك الخلاء الخارج عن الفلك لذلك أيضاً ضرورة لأن هذه صفة طبعه وجنسه فوجب بذلك ضرورة أن يكون متمكناً فيه ولابد وإذا كان هذا وذلك الخلاء عندهم لا نهاية له فالجسم الماليء له أيضاً لا نهاية له وقد قدمنا البراهين الضرورية أنه لا يجوز وجود جسم لا نهاية له فالخلاء باطل ولو كان ذلك أيضاً لكان ملأ لا خلاء وهذا خلاف قولهم.

فإن قالوا بل ذلك الخلاء هو من غير جنس هذا الخلاء.

يقال لهم فبأي شيء عرفتموه وبما استدللتم عليه وكيف وجب أن تسموه خلاء وهو ليس خلاء وهذا مخلص منه وبالله تعالى التوفيق وهم في هذا سواء ومن قال أن في مكان خارج من العالم ناساً لا يحدون بحد الناس ولا هم كهؤلاء الناس أو من قال أن في خارج الفلك ناراً غير محرقة ليست من جنس هذه النار وكل هذا حمق وهوس.

الكلام على من قال أن فاعل العالم ومدبره أكثر من واحد

قال أبو محمد رضي الله عنه : افترق القائلون بأن فاعل العالم أكثر من واحد فرقاً ثم ترجع هذه الفرق إلى فرقتين فإحدى الفرقتين تذهب إلى أن العالم غير مدبريه وهم القائلون بتدبير الكواكب السبعة وأزليتها وهم المجوس فإن المتكلمين ذكروا عنهم أنهم يقولون أن الباري عز ول لما طالت وحدته استوحش فلما استوحش فكر فكرة سوءٍ فتجسمت فاستحالت ظلمة فحدث منها اهرمن وهو إبليس فرام البارىء تعالى إبعاده عن نفسه فلم يستطع فتحرز منه بخلق الخيرات وشرع اهرمن في خلق الشر ولهم في ذلك تخليط كثير.

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا أمر لا تعرفه المجوس بل قولهم الظاهر هو أن الباري تعالى وهو أوورمن وإبليس وهواهر من وكام وهو الزمان وجام وهو المكان وهو الخلاء أيضاً ونوم وهو الجوهر وهو أيضاً الهيولي وهو أيضاً الطينة والخميرة خمسة لم تزل وإن اهرمن هو فاعل الشرور وإن اورمن فاعل الخير وإن نوم هو المفعول فيه كل ذلك.

وقد أفردنا في نقض هذه المقالة كتاباً في نقض كلام محمد بن زكريا الرازي الطبيب في كتابه الموسوم بالعلم الإلهي.

والمجوس يعظمون الأنوار والنيران والمياه إلا أنهم يقرون بنبوة زرادشت ولهم شرائع يضيفونها إليه ومنهم المزدقية وهم أصحاب مزدق الموبذ وهم القائلون بالمساواة في المكاسب والنساء والخرمية أصحاب بابك وهم فرقة من فرق المزدقية وهم أيضاً سر مذهب الإسماعيلية ومن كان على قول القرامطة وبني عبيد وعنصرهم.

وقد يضاف إلى جملة من قال إن مدبر العالم أكثر من واحد الصابئون وهم يقولون بقدم الأصلين على ما قدمنا من نحو قول المجوس إلا أنهم يقولون بتعظيم الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر ويصورونها في هياكلهم ويقربون الذبائح والدخن ولهم صلوات خمس في اليوم والليلة تقرب من صلوات المسلمين ويصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلاتهم الكعبة البيت الحرام ويعظمون مكة والكعبة ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون من القرائب ما يحرم على المسلمين وعلى نحو هذه الطريقة تفعل الهند بالبددة في تصويرها على أسماء الكواكب وتعظيمها وهو كان أصل الأوثان في العرب والدقاقرة في السودان حتى آل الأمر مع طول الزمان إلى عبادتهم إياها وكان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث وبدلوا شرائعه بما ذكرنا فبعث الله عز وجل إليهم إبراهيم خليله بدين الإسلام الذي نحن عليه الآن وتصحيح ما أفسدوه بالحنيفة السمحة التي أتى بها محمد من عند الله تعالى فبين لهم كما نص في القرآن بطلان ما أحدثوه من تعظيم الكواكب وعبادتها وعبادة الأوثان فلقي منهم ما نصه الله في كتابه وكانوا في ذلك الزمان وبعده يسمون الحنفاء ومنهم اليوم بقايا بحران وهم قليل جداً فهذه فرقة.

ويدخل في هذه الفرقة من وجه ويخرج منها وجه آخر النصارى فأما الوجه الذي يدخلون به فهو قولهم بالتثليث وأن خالق الخلق ثلاثة وأما الوجه الذي يخرجون به فهو أن للصابئين شرائع يسندونها إلى هرمس ويقولون أنه إدريس وإلى قوم آخرين يذكرون أنهم أنبياء كايلون ويقولون أنه نوح عليه السلام واسقلانيوس صاحب الهيكل الموصوف وعاظيمون ويوداسف وغيرهم والنصارى لا يعرفون هؤلاء لكن يقرون بنبوة كل نبي تعرفه من بني إسرائيل وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ولا يعرفون نبوة إسمعيل وصالح وهود وشعيب وينكرون نبوة محمد وعلى إخوته الأنبياء عليهم السلام والصابئون لا يقرون بنبوة أحد ممن ذكرنا أصلاً وكذلك المجوس لا يعرفون إلا زرادشت فقط وأما الفرقة الثانية فإنها تذهب إلى أن العالم هو مدبروه لا غيرهم البتة وهم الديصانية والمزقونية والمنانية القائلون بأزلية الطبائع الأربع بسائط غير ممتزجة ثم حدث الامتزاج فحدث العالم بامتزاجها فأما المنانية فإنهم يقولون أن أصلين لم يزالا وهما نور وظلمة وأن النور والظلمة حية وأن كليهما غير متناه إلا من الجهة التي لاقى منها الآخر وأما من جهاته الخمس فغير متناه وأنهما جرمان ثم لهم في وصف امتزاجهما أشياء شبيهة بالخرافات وهم أصحاب ماني.

وقال المتكلمون أن ديصان كان تلميذ ماني وهذا خطأٌ بل كان أقدم من ماني لأن ماني ذكره في كتبه ورد عليه وهما متفقان في كل ما ذكرنا إلا أن الظلمة عند ماني حية.

وقال ديصان هي موات وكان ماني راهباً بحران وأحدث هذا الدين وهو الذي قتله الملك بهرام بن بهرام إذ ناظره بحضرته إذرباذ بن ماركسفند موبذموبذان في مسألة قطع النسل وتعجيل فراغ العالم فقال له الموبذانت الذي تقول بتحريم النكاح ليستعجل فناء العالم ورجوع كل شكل إلى شكله وأن ذلك حق واجب فقال له ماني واجب أن يعان النور على خلاصه بقطع النسل مما هو فيه من الامتزاج فقال له اذرباذ فمن الحق الواجب أن يعجل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه وتعان على إبطال هذا الامتزاج المذموم فانقطع ماني فأمر بهرام بقتل ماني فقتل هو وجماعة من أصحابه وهم لا يرون الذبائح ولا إيلام الحيوان ولا يعرفون من الأنبياء عليهم السلام إلا عيسى عليه السلام وحده وهم يقرون بنبوة زرادشت ويقولون بنبوة ماني وقالت المزقونية أيضاً كذلك إلا أنهم قالوا نور وظلمة لم يزالا وثالث أيضاً بينهما لم يزل إلا أن هؤلاء كلهم متفقون على أن هذه الأصول لم تحدث شيئاً هو غيرها لكن حدث من امتزاجها ومن أبعاضها بالاستحالة صور العالم كله فهذه الفرق كلها مطبقة على أن الفاعل أكثر من واحد وإن اختلف في العدد والصفة وكيفية الفعل وإلزامات الشرائع وكلامنا هذا كلام اختصار وإيجاز وقصد إلى استيعاب قواعد الاستدلال والبراهين الضرورية والنتائج الواجبة من المقدمات الأولية الصحيحة وإضراب عن الشغب والتطويل الذي يكتفي بغيره عنه فإنما وكدنا بعون الله تعالى أن نبين بالبراهين الضرورية أن الفاعل واحد لا أكثر البتة ونبين بطلان أن يكون أكثر من واحد كما فعلنا بتأييد الله عز وجل إذ بينا بالبراهين الضرورية أن العالم محدث كان بعد أن لم يكن وإن له مخترعاً مدبراً لم يزل وسقطت خرافاتهم المضافة إلى الأوائل الفاسدة في وصفهم الفاعلين وكيفية أفعالهم إذ لا تكون صفة إلا لموصوف فإذا بطل الموصوف بطلت الصفة التي وصفوه بها.

وأما الاشتغال بأحكامهم الشرعية فلسنا من ذلك في شيء لأنه ليس من الشرائع العلمية شيء يوجبه العقل ولا شيء يمنع منه العقل بل كلها من باب الممكن فإذا قامت البراهين الضرورية على قول الآمر بها ووجوب طاعته وجب قبول كل ما أتى به كائناً ما كان من الأعمال ولو أنه قتل أنفسنا وأبنائنا وآبائنا وأمهاتنا وإذا لم يصح قول الآمر بها ولم يصح وجوب طاعته لا يلتفت إلى ما يأمر به أي شيء كان من الأعمال وكل شريعة كانت على خلاف هذا فهي باطلة فكلامنا مع الفرق التي ذكرنا في إثبات الفاعل الأول واحد لا أكثر وإبطال أن يكون أكثر من واحد وهو حاسم لكل شغب يأتون به بعد ذلك وكاف من التكلف لما قد كفته المرء بيسير من البيان وما تفويقنا إلى بالله تعالى.

ونبدأ بحول الله تعالى وقوته بإيراد عمدة ما موهوا به في إثبات أن الفاعل أكثر من واحد ثم ننقضه بحول الله تعالى وقوته بالبراهين الواضحة ثم نشرع إن شاء الله تعالى في إثبات أنه تعالى واحد بما لا سبيل إلى رده ولا اعتراض فيه كما فعلنا فيما خلا من كتابنا والحمد لله رب العالمين فنقول وبالله تعالى التوفيق.

عمدة ما عول عليه القائلون بأن الفاعل أكثر من واحد استدلالان فاسدان أحدهما هو استدلال المنانية والديصانية والمجوس والصابئة والمزدقية ومن ذهب مذاهبهم وهو أنهم قالوا وجدنا الحكيم لا يفعل الشر ولا يخلق خلقاً ثم يسلط عليه غيره وهذا عيب في المعهود ووجدنا العالم كله ينقسم قسمين كل قسم منهما ضد الآخر كالخير والشر والفضيلة والرذيلة والحياة والموت والصدق والكذب فعلمنا أن الحكيم لا يفعل إلا الخير وما يليق فعله به وعلمنا أن الشرور لها فاعل غيره وهو شر مثلها والاستدلال الثاني هو استدلال من قال بتدبير الكواكب السبعة والاثني عشر برجاً ومن قال بالطبائع الأربع وهو أن قالوا لا يفعل الفاعل أفعالاً مختلفة إلا بأحد وجوه أربعة إما أن يكون ذا قوى مختلفة وإما أن يفعل بآلات مختلفة وإما أن يفعل باستحالة وإما أن يفعل في أشياء مختلفة قالوا فلما بطلت هذه الوجوه كلها إذ لو قلنا إنه يفعل بقوى مختلفة لحكما عليه بأنه مركب فكان يكون من أحد المفعولات ولو قلنا إنه يفعل باستحالة لوجب أن يكون منفعلاً للشيء الذي أحاله فكان يدخل بذلك في جملة المفعولات ولو قلنا أنه يفعل في أشياء مختلفة لوجب أن تكون تلك الأشياء معه وهو لم يزل فتلك الأشياء لم تزل فكان حينئذ لا يكون مخترعاً للعالم ولا فاعلاً له قالوا فعلمنا بذلك أن الفاعلين كثير وإن كل واحد يفعل ما يشاكله

قال أبو محمد رضي الله عنه : فهذه عمدة ما عول عليه من لم يقل بالتوحدي وكلا هذين الاستدلالين خطأ فاحش على ما نبين إن شاء الله تعالى.

فيقال وبالله تعالى التوفيق لمن احتج بما احتجت به المنانية من أنه لا يفعل الحكيم الشر ولا العبث هل يخلو علمكم بأن هذا الشيء شر وعبث من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن تكونوا علمتموه بسمع وردكم وخبر وإما أن تكونوا علمتموه بضرورة العقل.

فإن قلتم أنكم علمتموه من طريق السمع.

قيل لكم هل معنى السمع الآتي غير أن مبتدع الخلق ومرتبة سمي هذ الشيء شراً وأمر باجتنابه وسمي هذا الشيء الآخر خيراً وأمر بإتيانه فلابد من نعم إذ هذا هو معنى اللازم عند كل من قال بالسمع.

فيقال لهم فإنما صار الشر شراً لنهي الواحد الأول عنه وإنما صار الخير خيراً لأمر به فلابد من نعم فإذا كان هذا فقد ثبت أن من لا مبدع ولا مدبر له ولا آمر فوقه لا يكون شيء من فعله شراً إذ السبب في كون الشر شراً هو الإخبار بأنه شر ولا مخبر يلزم طاعته إلا الله تعالى فإن قال فكيف يفعل هو شيئاً قد أخبر أنه شر قيل له ليس يفعل الجسم فيما يشاهد غير الحركة والسكون والحركة كلها جنس واحد في أنها نقلة مكانية وكذلك السكون جنس واحد كله فإنما أمرنا تعالى بفعل بعضها ونهانا عن فعل بعضها ولم يفعل هو الحركة قط على أنه متحرك بها ولا السكون على أنه ساكن به وإنما فعلهما على سبيل الإبداع فتحركنا نحن بحركة نهينا عنها وسكوننا بسكون نهينا عنه هو الشر وغيره أصلاً وكذلك اعتقاد النفس ما نهيت عنه وهذا كله غير موصوف به الباري تعاىل وإن قالوا علمنا ذلك ببداهة العقل قيل لهم وبالله التوفيق أليس العقل قوة من قوى النفس وداخلاً تحت الكيفية على الحقيقة أو تحت الجوهر على قول من لا يحصل فلا بد من نعم فيقال لهم إنما يؤثر العقل ما هو من شكله في باب الكيفيات فيميز بين خطائها وصوابها ويعرف أحوالها ومراتبها وأما فيما هو فوقه وفيما لم يزل العقل معدوم وفي مخترع العقل ومرتبه كما هو فلا تأثير للعقل فيه إذ لو أثر فيه لكان محدثاً على ما قدمنا من أن الأثر من باب المضاف فهي تقتضي مؤثراً فكان يكون الباري تعالى منفعلاً للعقل وكان يكون العقل فاعلاً فيه تعالى وحاكماً عليه جل الله عن ذلك.

وقد بينا في كتابنا هذا أن الباري تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا يجري مجرى خلقه في معنى ولا حكم وذكرنا أيضاً فيه إبطال قول من قال بتسمية الباري حياً أو حكيماً أو قادراً أو غير ذلك من سائر الصفات من جهة الاستدلال حاشى أربعة أسماء فقط وهي الأول الواحد الحق الخالق فقط وهذه الأسماء هي التي لا يستحقها شيءٌ في العالم غيره فلا أول سواه البتة ولا واحد سواه البتة ولا خالق سواه البتة ولا حق سواه البتة على الإطلاق وكل ما دونه تعالى فإنما هو حق بالباري تعالى ولولا الباري تعالى ما كان شيءٌ في العالم حقاً وكل ما دونه تعالى فإنما حق بالإضافة ولولا أن السمع قد ورد بسائر الأسماء التي ورد الخبر الصادق بها ما جاز أن يسمى الله عز وجل بشيءٍ منها ولكن قد بينا في مكانه من هذا الكتاب على أي شيءٍ تسميته بما ورد السمع وإن ذلك تسمية لايراد بها غيره تعالى ولا يرجع منها إلى شيء سواه البتة.

وأيضاً فإن دليلهم فيما سموا به الباري تعالى وأجروه عليه إقناعي شغبي وفيه تشبيه للخالق بخلقه وفي تشبيههم له بخلقه حكم عليه بالحدوث وأن يكون الفاعل مفعولاً وقد قدمنا إبطال ذلك.

ويقال لهم إن الترميم أن يكون فاعل الشر فيما عندنا عابثاً فقررتم بذلك عن أن يكون فاعل العالم واحداً وقد علمنا فيما بينا أن تارك الشيء لا يغيره وهو قادر على تغييره عابث ظالم ولا يخلو فاعل الخيرات عندكم من أن يكون قادراً على تغييره والمنع منه ولم يغيره فقد صار عندكم عابثاً ضرورة فقد وقعتم فيما عنه فررتم ضرورة وإن قلتم أنه غير قادر على تغييره ولا المنع منه فهو بلا شك عاجز ضعيف وهذه صفة سوء عندكم فهلا تركتم القول بأنه أكثر من واحد لهذا الاستدلال فإنه أصح على أصولكم ومقدماتكم وأما نحن فمقدمتكم عندنا فاسدة بالبرهان الذي ذكرناه

قال أبو محمد رضي الله عنه : والمنانية تزعم أن النور كان في العلو إلى ما لا نهاية له وأن الظلمة في السفل إلى ما لا نهاية له وأن كل واحد منها متناه المساحة من الجهة التي لاقى منها الآخر وغير متناه من جهاته الخمس وأن اللذة للنور خاصة لا للظلمة وأن الأذى للظلمة خاصة لا للنور.

قال أبو محمد رضي الله عنه : فأما بطلان هذا القول في عدم التناهي من الجهات الخمس فيفسد بما أوجبنا به تناهي جسم العالم وأما قولهم بالعلو والسفل فظاهر الفساد لأن السفل لا يكون إلا بالإضافة وكذلك العلو فكل علو فهو سفل لما فوقه حتى تنتهي إلى الصفحة العليا التي لا صفحة فوقها وهم لا يقرون بها فصح ضرورة أن في الظلمة على قولهم علواً وأن في النور سفلاً.

وأما قولهم في اللذة والأذى ففاسد جداً لأن اللذة لا تكون إلا بالإضافة وكذلك الأذى فإن الإنسان لا يلتذ بما يلتذ به الحمار ويتأذى بما لا يتأذى به الأفعى فبطل هوسهم بيقين والحمد لله رب العالمين.

سؤال على المنانية دامغ لقولهم بحول الله وقوته وهو أن يقال لهم ألهذه الأجساد أنفس أم لا فإن قالوا لا قيل لهم فهذه الأجساد لا تخلو على أصولكم من أن يكون في كل جسد منها نور وظلمة أو يكون بعض الأجساد نوراً محضاً وبعضها ظلمة محضة فإن قالوا في كل جسد نور وظلمة قيل لهم فهل يجوز من الظلمة فعل الخير فلا بد من لا لأنه لو فعل الخير لانتقلت إلى النور وكذلك لا يجوز أن يفعل النور شراً لأنه كان يصير ظلمة.

فيقال لهم فإي معنى لدعائكم إلى الخير ونهيكم عن النكاح والقتل وأخبرونا من تدعون إلى كل ذلك فإن كنتم تدعون النور فهو طبعه وهو فاعل له بطبعه قبل أن تدعوه إليه لا يمكنه أن يحول عنه فدعاؤكم له إلى ما يفعله وأمركم له بترك ما لا يفعله عبث من النور داع إلى المحال وهذا خلاف أصلكم وإن كنتم تدعون الظلمة فذلك عبث من النور لها إلى ذلك إذ لا سبيل لها إلى ترك طبعها.

وكذلك يقال لهم سواء بسواء إن قالوا إن من الأجساد ما هو نور محض ومنها ما هو ظلمة محضة وهكذا يسئلون في الأرواح أن أقروا بها ثم يسئلون عمن رأيناه ينكح ويقتل ويظلم ويكذب ثم يتوب عن كل ذلك من القاتل الظالم أهو النور أم الظلمة ومن التائب النور أم الظلمة فأي ذلك قالوا فهو هدم مذهبهم وقد جوزوا الاستحالة فإن قالوا معنى دعائنا إلى ما ندعو إليه من ذلك إنما هو حض للنور على المنع للظلمة من ذلك قيل لهم أكان النور قادراً على منعها قبل دعائكم أم لا فإن قالوا كان قادراً قيل لهم فقد ظلم بتركه إياها تظلم وهو يقدر على منعها قبل دعائكم وإن قلتم لم يذكر حتى نبه قيل لهم فهذا نقص منه وجهل وصفات شر لا تليق بالنور على قولكم وهذا ما لا انفكاك لهم منه وأيضاً فيقال لهم إن الداعي منكم إلى دينه لا يقول لمن دعاه كف غيرك على ظلمه إنما يقول له كف عن ظلمك وارجع عن ضلالك ولقد أحسنت في رجوعك عن الباطل إلى الحق فإن كنتم تأمرون بأن يخاطب بذلك الظلمة فالأمر بذلك كاذب آمر بالكذب وإن كنتم تأمرون بأن يخاطب بذلك النور فالأمر بذلك أيضاً كاذب آمر بالكذب فإن قالوا فأي معنى لدعائكم إلى الخير وقد سبق علم الله تعالى فيمن يعلمه ومن لا يعلمه قيل لهم جواب بعضنا في هذا هو أن كل من يدعى إلى الخير فممكن وقوعه منه وممكن أيضاً فعل الشر منه ومتوهم كل ذلك منه فوجه دعائنا له معروف وليس علم الله تعالى إجباراً وإنما هو أنه تعالى علم ما يختاره العبد.

وجواب بعضنا في ذلك هو أن فاعل كل ما يبدو في العالم فعل خلق وإبداع فهو الله عز وجل ولا يتعقب عليه فهو خالق دعائنا من ندعوه فإذ ذلك كذلك فلا يجوز سؤال الخالق لما شاء بل فعلت وهذا هو الجواب الذي نختاره ويقال لهم أيضاً أخبرونا عن ماني والمسيح وزرادشت وأنتم تعظمونهم أفيهم ظلمة أم كانوا أنواراً محضة فمن قولهم ولابد أن فيهم ظلمة لأنهم يتغوطون ويجزعون ويألمون فيقال لهم فما عجز النور الذي فيكم عن مثل ذلك فإن قالوا لقلته قيل لهم فكان يجب أن يأتي من المعجزات ولو بيسير على قدره وهذا ما لا مخلص لهم منه أصلاً.

ويقال لهم أيضاً إن من العجائب إلزامكم ترك النكاح لتعجلوا قطع النسل فهبكم قدرتم على ذلك فكيف تصنعون في الوحوش والطير وسائر الحيوان البري والحشرات وحيوان المياه والبحار التي تقتل بعضها بعضاً أشد من قتل بعض الناس لبعض وأكثر فكيف السبيل إلى قطع تناسلها وفراغ امتزاجها وهذا ما لا سبيل لكم إليه أصلاً فإن كان النور عاجزاً عن قطعها فلا سبيل له إلى خلاص أجزائه أبد الأبد وإن كان النور عاجزاً عن قطعها فلا سبيل له إلى خلاص أجزائه ولم يتركها تردد في الظلمات وأعجب شيء منعهم من القتل وهذا عون منهم على بقاء المزاج وعلى منع الخلاص وتأخره وكان القتل أبلغ شيء في تمام مرادهم وبغيتهم من تعجيل الخلاص واستنقاذ النور وقطع المزاج وهذا تناقض ظاهر منهم لا خفاء به وبالله تعالى نتأيد.

وكل ما قدمنا من البراهين على حدوث العالم وإيجاب النهاية في جرمه وأشخاصه وأزمانه فهو لازم الأصلين النور والظلمة على أصول المنانية وعلى كل من يقول بأن الفاعل أكثر من واحد وأنه لم يزل مع الفاعل غيره لزوم ضرورة وبالله تعالى التوفيق وأما الاستدلال الثاني الذي عولوا فيه على أقسام من يفعل أفعالاً مختلفة فهو استدلال فاسد أيضاً لأنهم إنما عولوا فيه على الأقسام الموجودة في العالم وقد قدمنا البراهين الضرورية على حدوث العالم وعلى أن محدثه لا يشبهه في شيء من الأشياء فلا سبيل إلى أن يدخل تحت شيء من أقسام العالم لكنه تعالى يفعل الأشياء المختلفة والأشياء المتفقة مختاراً لكل ذلك وحين شاء لا علة لشيء من ذلك إذ قدمنا أن ما حصرته الطبيعة فهو متناه والمتناهي محدث على ما قدمنا من أن يكون ذا قوى أو فاعلاً بآلات أو فاعلاً باستحالة أو فاعلاً في أشياء لأن هذا كله يقتضي أن يكون محدثاً تعالى الله عن ذلك وهو لم يزل فقد وجب ضرورة أن يكون الباري تعالى يفعل ما يشاء من مختلف ومتفق مختاراً دون علة موجبة عليه شيئاص من ذات ولا بقوة هي غيره وبالله تعالى التوفيق.

وكل ما ألزمنا من يقول أن العالم لم يزل من البراهين الضرورية فهو لازم للمنانية والديصانية والمزقونية والقائلين بأزلية الطبائع والهيولي لأن العالم عند هؤلاء ليس هوشيأ غير تلك الأصول التي لم تزل عندهو وإنما حدثت فيهم عندهم الصورة فقط ويدخل أيضاً عليهم القول بتناهي الأصلين لأنهما عندهم جسمان والجسم متناه ضرورة لبرهانين نوردهما إن شاء الله تعالى وذلك أننا نقول لا يخلو كل جرم من الأجرام من أن يكون متحركاً أو ساكناً فإن كان متحركاً فقد علمنا أن المسافة التي لا تتناهى لا تقطع أصلاً لا في زمان متناه ولا في زمان غير متناه ثم لا تخلو حركته من أن تكون إما باستدارة وإما إلى جهة من الجهات ولا ثالث لهذين الوجهين.

فإن كان متحركاً باستدارة وهو غير متناه فهذا محال لأن الخطين الخارجين من الوسط إلى المشرق وإلى العلو غير متناهين إذن فكان يجب أن يكون الجزء الذي في سمت المشرق منه لا يبلغه إلى العلو الذي هو سمت الرأس منه أبداً فقد بطلت الحركة على هذا فهذا إذن متحرك لا متحرك وهذا محال مع مشاهدة العيان لقطع كل جزء من الفلك الكلي جميع مسافته ورجوعه إلى حيث ابتدأ منه في كل أربع وعشرين ساعة.

وإن كان متحركاً إلى جهة من الجهات فهذا أيضاً محال لأن الحركة نقلة من مكان إلى مكان فإذا وجد هذا الجسم مكاناً ينتقل إليه لم يكن فيه قبل ذلك فقد ثبتت النهاية له ضرورة لأن وجوده غير كائن في المكان الذي انتقل إليه موجب لانقطاعه قبله وإن كان لم يزل في المكان الذي انتقل إليه وهكذا فيما بعده من الأمكنة فلم يزل غير منتقل وقد قلتم أنه لم يزل منتقلاً فهو إذن متحرك ولا متحرك وهذا محال.

وإن قلتم ساكن قلنا لكم اقطعوا من هذا الجرم قطعة بالوهم فإذا توهموا ذلك سألناهم متى كان هذا الجرم أعظم أقبل أن تقطع منه هذه القطعة أو بعد إن قطعت فأياً ما قالوا أو إن قالوا أنه مسا ولنفسه قبل أن تقطع منه هذه القطعة فقد أثبتوا النهاية إذ لا تقع الكثرة والقلة والتساوي إلا في ذي نهاية.

وأيضاً فإن المكان والجرم مما يقع تحت العدد كوقوع الزمان تحت العدد فكل ما أدخلناه فيما خلا من تناهي الزمان من طريق العدد فهو لازم في تناهي المكان والجرم من طريق العدد بالمساحة وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد رضي الله عنه : وكل ما ألزمناه من يقول بأن الأجسام لم تزل فهو لازم بعينه لمن يقول أن السبعة الكواكب والاثني عشر برجاً لم تزل لأنها أجسام جارية تحت أقسام الفلك وحركته فانظر هنالك ما ألزمناه من حدوث الأجسام وأزمانها فهو لازم لهؤلاء وتركنا ما ألزمناه في حدوث الأجسام في فروع أقوالهم كقولهم في المزاج والخلاص وصفات النور والظلمة إذ إنما قصدنا اجتثاث أصول المذاهب الفاسدة في أن الفاعل أكثر من واحد واعتمدنا البيان في إثبات الواحد فقط فإذ قد ثبت ذلك ببراهين ضرورية بطل كل ما فرعوه من هذا الأصل الفاسد إذ إنما قصدنا ما تدفع إليه الضرورة من الاستيعاب لما لا بد منه بإيجاز بحول الله تعالى وقوته وأما من جعل الفاعل أكثر من واحد إلا أ هم جعلوهم غير العالم كالمجوس والصابئين والمزدقية

ومن قال بالتثليث من النصارى فإنه يدخل عليهم من الدلائل الضرورية بحول الله وقوته ما نحن موردوه إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق إن ما كان أكثر من واحد فهو واقع تحت جنس العدد وما كان واقعاً تحت جنس العدد فهو نوع من أنواع العدد وما كان نوعاً فهو مركب من جنسه العام له ولغيره ومن فصل خصه ليس في غيره فله موضوع وهو الجنس القابل لصورته وصورة غيره من أنواع ذلك الجنس وله محمول وهو الصورة التي خصته دون غيره فهو ذو موضوع وذو محمول فهو مركب من جنسه وفصله والمركب مع المركب من باب المضاف الذي لابد لكل واحد منهما من الآخر فأما المركب فإنما يقتضي وجود المركب من وقت تركبه وحينئذ يسمى مركابً لا قبل ذلك وأما الواحد فليس عدداً لما سنبينه إن شاء الله تعالى فقد انقضى الكلام في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق.

ومن البرهان على أن فاعل العالم ليس واحداً أن العالم لو كان مخلوقاً لاثنين فصاعداً لم يخل من أن يكونا لم يزالا مشتبهين أو مختلفين فأياً ما قالوا فقد أثبتوا معنى فيهما أو في أحدهما به اشتبها أو به اختلفا فإن نفوا ذلك فقد نفوا الاختلاف والاشتباه معاً ولا يجوز ارتفاعهما معاً أصلاً لأن ذلك محال وموجب للعدم لأن وجود شيئين لا يشتبهان في شيء ولا يختلفان بوجه من الوجوه محال إذ في ذلك عدمهما لأن هذه الصفة معدومة فحاملها معدوم وهم قد أثبتوا وجودها فيلزمهم القول بموجود معدوم في وقت واحد من وجه واحد وهذا محال وهم إذا أثبتوهما موجودين لم يزالا فقد أثبتوا لهما معاني قد اشتبها فيها وهي كونهما مشتبهين في الوجود مشتبهين في الفعل مشتبهين في أن لم يزالا ولا يجوز أن تكون هذه الأشياء ليست غيرهما لأنها صفات عمتهما أعني اشتباههما في المعاني المذكورة فإن كان اشتباههما هو هما فهما شيءٌ واحد وكذلك أيضاً يلزم في كونهما مختلفين في أن كل واحد منهما غير صاحبه فإن كان هذا الاختلاف فيهما هو غيرهما فههنا ثالث وهكذا أيضاً أبداً.

وسنذكر ما يدخل في هذا إن شاء الله تعالى.

وإن كان التغاير هو هما والاشتباه هو هما فالتغاير هو الاشتباه وهذا هو عين المحال لأنه لابد من معنى موجود في المتغاير ليس اشتباهاً لأنه لا يجوز أن يكون الشيئآن مشتبهين بالتغاير فإذا قد ثبت ما ذكرنا ولم يكن بد من اشتباه أو اختلاف هو معنى غيرهما فقد ثبت ثالث وإذا ثبت ثالث لزم فيهم ثلاثتهم مثل ما لزم في الاثنين من السؤال وهكذا أبداً وهذا يوجب ضرورة أن كل واحد منهما أو أحدهما مركب من ذاته ومن المعنى الذي بان به عن الآخر أو به أشبه الآخر فإن أثبتوا ذلك لهما جميعاً وكلاهما مركب والمركب محدث فهما مخلوقان لغيرهما ولابد وإن أثبتوا ذلك لأحدهما فقط كان مركباً وكان الآخر هو الفاعل له فقد عاد الأمر إلى واحد غير مركب ولابد ضرورة.

ويوجب أيضاً إن تمادوا على ما ألزمناهم من وجود معنى به بأن كل من الآخر وجود قدماء لم يزالوا ووجود فاعلين آلهة أكثر من المألوهين وهذا محال لأنه لا سبيل إلى وجود أعداد قائمة ظاهرة في وقت واحد لا نهاية لها لأنه إن كان لها عدد فقد حصرها ذلك العدد على ما قدمنا وكل ما حصر فهو متناه وقد أوجبنا عليهم القول بأنها غير متناهية فلزمهم القول بأعداد متناهية لا متناهية وهذا من أعظم المحال فإن لم يكن لها عدد فليست موجودة لأن كل موجود فله عدد وكل ذي عدد متناه كما قدمنا فإن قال قائل فبأي شيء انفصل الخالق عن الخلق وبأي شيء انفصل الخلق بعضه من بعض وأراد أن يلزمنا في ذلك مثل الذي ألزمناه في الأدلة المتقدمة قيل له وبالله التوفيق الخلق كله حامل ومحمول فكل حامل فهو منفصل من خالقه ومن غيره من الحاملين بمحموله من فصوله وأنواعه وجنسه وخواصه وإعراضه في مكانه وسائر كيفياته وكل محمول فهو منفصل من خالقه ومن غيره من المحمولات بحامله وبما هو عليه مما باين فيه سائر المحمولات من نوعه وجنسه وفصله والباري تعالى غير موصوف بشيءٍ من ذلك كله وبالله تعالى التوفيق

وقد ذكرنا في باب الكلام في بقاء الجنة والنار وبقاء الأجسام فيها بلا نهاية وفيما خلا من كتابنا الانفصال ممن أراد أن يلزمنا هنالك ما ألزمناهم نحن هنالك من الأعداد التي لا تتناهى إلا أننا نذكر هنا من ذلك إن شاء الله تعالى طرفاً كافياً وبالله تعالى التوفيق وبه نستعين فنقول إن الفرق بين المسئلتين المذكورتين أننا لم نوجب نحن في الجنة والنار وجود أعداد لا تتناهى بل قولنا إن أعدادهم متناهية لا تزيد ولا تنقص وإن مساحة النار والجنة محدودة متناهية لا تزيد ولا تنقص وإن كل ما ظهر من حركاتهم ومددهم فيها فمحصورة متناهية وإنما نفينا عنها النهاية بالقوة بمعنى أن الباري تعالى محدث لهم في كلتا الدارين بقاء ومدداً ونعيماً وعذاباً أبداً لا إلى غاية وليس ما ظهر من ذلك بعضاً لما لم يظهر فليلزمنا أن يكون اسم كل ما يقع على الموجود والمعدوم لأن الموجود لا يكون بعضاً للمعدوم وإنما هو بعض لموجود مثه هذا يعلم بالحس لأن الأسماء إنما تقع على معانيها ومعنى الوجود إنما هو ما كان قائماً في وقت من الأوقات ماض من الأوقات أو حال منها فما لم يكن هكذا فليس موجوداً وأبعاض الموجودات كلها موجودة فكلها موجود وكلها كان موجوداً فليس الموجود بعضاً للمعدوم

والعدم هو إبطال الوجود ونفيه ولا سبيل إلى أن تكون أبعاض الشيء التي يلزمها اسمه الذي لا اسم لها سواه يبطل بعضها بعضاً وقد يمكن أن شغب مشغب في هذا المكان فيقول قد وجدنا أبعاضاً لا يقع عليها اسم كلها كاليد والرجل والرأس وسائر الأعضاء ليس شيء منها يسمى إنساناً فإذا اجتمعت وقع عليها اسم إنسان

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا شغب لأننا إنما تكلمنا على الأبعاض المتساوية التي كل بعض منها يقع عليه اسم الكل كالماء الذي كل بعض منه ماء وكله ماء وليس الجزء من هذا الباب وكل بعض من أبعاض الموجود فإنه يقع عليه اسم موجود وقد يمكن أن يشغب أيضاً مشغب في قولنا إن الأبعاض لا تتنافى فيقول إن الخضرة لا تنافي البياض وكلاهما بعض للون الكلي فهذا أيضاً ليس مما أردناه في شيء لأن قولنا موجود ليس جنساً فيقع على أنواع المتضادات وإنما هو إخبار عن وجودنا أشياء قد تساوي كلها في وجودنا إياها حقاً فهو يعم بعضها كما يعم كلها وأيضاً فإن الخضرة لا تضاد البياض في أن هذا لون بل يجتمعان في هذا المعنى اجتماعاً واحداً لا يختلفان فيه وإنما اختلفا بمعنى آخر وكذلك لا يخالف موجود موجوداً في أنه موجود والموجود يخالف المعدوم في هذا المعنى نفسه وليس بعضاً للمعدوم والمعدوم ليس شيئاً ولا له معنى حتى يوجد فإذا وجد كان حينئذ شيئاً موجوداً وقد تخلصنا أيضاً في باب التجزىء وكلامنا فيه في هذا الديون من مثل هذا الإلزام هنالك

الكلام على النصارى

قال أبو محمد رضي الله عنه : النصارى وإن كانوا أهل كتاب ويقرون بنبوة بعض الأنبياء عليهم الصلام فإن جماهيرهم وفرقهم لا يقرون بالتوحيد مجرداً بل يقولون بالتثليث فهذا مكان الكلام عليهم والمجوس أيضاً وإن كانوا أهل كتاب لا يقرون ببعض الأنبياء ولكنا أدخلناهم في هذا المكان لقولهم بفاعلين لم يزالا فالنصارى أحق بالإدخال ههنا لأنهم يقولون بثلاثة لم يزالوا.

والنصارى فرق منهم أصحاب أريوس وكان قسيساً بالإسكندرية ومن قوله التوحيد المجرد وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق وأنه كلمة الله تعالى التي بها خلق السموات والأرض وكان في زمن قسطنطين الأول باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم وكان على مذهب أريوس هذا.

ومنهم أصحاب بولس الشمشاطي وكان بطريركاً بأنطاكية قبل ظهور النصرانية وكان قوله التوحيد المجرد الصحيح وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله تعالى في بطن مريم من غير ذكر وأنه إنسان لا إلهية فيه وكان يقول لا أدري ما الكلمة ولا روح القدس.

وكان منهم أصحاب مقدونيوس وكان بطريركاً في القسطنطينية بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنطين باني القسطنطينية وكان هذا الملك أريوسياً كاتبه وكان من قول مقدونيوس هذا التوحيد المجرد وأن عيسى عبد مخلوق إنسان نبي رسول الله كسائر الأنبياء عليهم السلام وأن عيسى هو روح القدس وكلمة الله عز وجل وأن روح القدس والكلمة مخلوقان خلق الله كل ذلك.

ومنهم البربرانية وهم يقولون أن عيسى وأمه إلهان من دون الله عز وجل وهذه الفرقة قد بادت وعمدتهم اليوم ثلاث فرق فأعظمها )فرق الملكانية( وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشي الحبشة والنوبة ومذهب عامة أهل كل مملكة للنصارى حيث كانوا حاشي الحبشة والنوبة ومذهب جميع نصارى أفريقية وصقلية والأندلس وجمهور الشام وقولهم أن الله تعالى عبارة عن قولهم ثلاثة أشياء أب وابن وروح القدس كلها لم تزل وأن عيسى عليه السلام إله تام كله وإنسان تام كله ليس أحدهما غير الآخر وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل وأن الإله منه لم ينله شيءٌ من ذلك وأن مريم ولدت الإله والإنسان وأنهما معاً شيءٌ واحد ابن الله تعالى عن كفرهم وقالت النسطورية مثل ذلك سواءً بسواءٍ إلا أنهم قالوا إن مريم لم تلد الإله وإنما ولدت الإنسان وأن الله تعالى لم يلد الإنسان وإنما ولد الإله تعالى الله عن كفرهم وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان وهم منسوبون إلى نسطور وكان بطريركاً بالقسطنطينية وقالت اليعقوبية إن المسيح هو الله تعالى نفسه وأن الله تعالى عن عظيم كفرهم مات وصلب وقتل وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر والفلك بلا مدبر ثم قام ورجع كما كان وأن الله تعالى عاد محدثاً وأن المحدث عاد قديماً وأنه تعالى هو كان في بطن مريم محمولاً به وهم في أعمال مصر وجميع النوبة وجميع الحبشة وملوك الأمتين المذكورتين

قال أبو محمد رضي الله عنه : ولولا أن الله تعالى وصف قولهم في كتابه إذ يقول تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وإذ يقول تعالى حاكياً عنهم أن الله ثالث ثلاثة وإذ يقول تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع السمج السخيف وتالله لولا أننا شاهدنا النصارى ما صدقنا أن في العالم عقلاً يسع هذا الجنون ونعوذ بالله من الخذلان فأما اليعقوبية فإنهم ينسبون إلى يعقوب البرذعاني وكان راهباً بالقسطنطينية وهم فرقة نافرت العقل والحس منافرة وحشة تامة لأن الاستحالة نقلة والنقلة والاستحالة لا يوصف بهما الأول الذي لم يزل تعالى عن ذلك علواً كبيراً ولو كان كذلك لكان مخلوقاً والمحدث يقتضي محدثاً خالباً له ويكفي من بطلان هذا القول دخوله في باب المحال والممتنع الذي قد أوجب العقل والحس بطلانه وليس في باب المحال أعظم من أن يكون الذي لم يزل يعود محدثاً لم يكن ثم كان وأن يصير غير المؤلف مؤلفاً ويلزم هؤلاء القوم أن يعرفونا من دبر السموات والأرض وأدار الفلك هذه الثلاثة الأيام التي كان فيها ميتاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

ثم يقال للقائلين بأن الباري تعالى ثلاثة أشياء أب وابن وروح القدس أخبرونا إذ هذه الأشياء لم تزل كلها وأنها مع ذلك شيء واحد إن كان ذلك كما ذكرتم فبأي معنى استحق أن يكون أحدها يسمى أباً والثاني ابناً وأنتم تقولون أن الثلاثة واحد وأن كل واحد منها هو الآخر فالأب هو الابن والابن هو الأب وهذا هو عين التخليط وإ جيلهم يبطل هذا بقولهم فيه سأقعد عن يمين أبي وبقولهم فيه أن القيامة لا يعلمها إلا الأب وحده وأن الابن لا يعلمها فهذا يوجب أن الابن ليس هو الأب وإن كانت الثلاثة متغايرة وهم لا يقولون بهذا فليلزمهم أن يكون في الابن معنى من الضعف أو من الحدوث أو من النقص به وجب أن ينحط عن درجة الأب والنقص ليس من صفة الذي لم يزل مع ما يدخل على من قال بهذا من وجوب أن تكون محدثة لحصر العدد وجرى طبيعة النقص والزيادة فيها على حسب ما قدمناه في حدوث العالم.

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد لفق بعضهم أشياء قالوا أنها لا معنى لها إلا أننا ننبه عليها ليتبين هجنة قولهم وضعفه بحول الله تعالى وقوته وذلك أن بعضهم قال لما وجب أن يكون الباري تعالى حياً عالماً وجب أن تكون له حياة وعلم فحياته هي التي تسمى روح القدس وعلمه هو الذي يسمى الابن

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا من أغث ما يكون من الاحتجاج لأننا قد قدمنا أن الباري تعالى لا يوصف بشيء من هذا من طريق الاستدلال لكن من طريق السمع خاصة ولا يصح لهم دليل لا من إنجيلهم ولا من غيره من الكتب أن العلم يسمى ابناً ولا في كتبهم أن علم الله هو ابنه وقد ادعى بعضهم أن هذا تقتضيه اللغة اللاتينية من أن علم العالم يقال فيه أنه ابنه

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا باطل ظاهر الكذب لأن الإنجيل الذي كان فيه ذكر الأب والابن وروح القدس لا يختلف أحد من الناس في أنه إنما نقل عن اللغة العبرانية إلى السريانية وغيرها فعبر عن تلك الألفاظ العبرانية وبها كان فيه ذكر الأب والابن وروح القدس وليس في اللغة العبرانية شيء مما ذكروا وادعى وإن كانوا ممن يقولون بتسمية الباري عز وجل من طريق الاستدلال فقد أسقطوا صفة القدرة إذ ليس الاستدلال على كونه عالماً بأصح ولا أولى من الاستدلال على كونه قادراً لاسيما مع قول بولس وهو عندهم فوق الأنبياء أن المسيح قدرة الله وعلمه تعالى قال هذا النص في رسالته الأولى إلى أهل قريته فليضيفوا إلى هذه الثلاث صفة رابعة وهي القدرة وأخرى وهي السمع وأخرى وهي البصر وأخرى وهي الكلام وأخرى وهيالعقل وأخرى وهي الحكمة وأخرى وهي الجود.

فإن قالوا القدرة هي الحياة قيل لهم والعلم هو الحياة.

فإن قالوا ليس العلم الحياة لأنه قد يكون حي ليس عالماً كالمجنون قيل لهم قد يكون حيٌّ ليس قادراً كالمغشي عليه ونحو ذلك فالقدرة ليست الحياة وأيضاً فإن كان الابن هو العلم وروح القدس هو الحياة فما بال إقحامهم المسيح عليه السلام في أنه الابن وروح القدس أترى المسيح هو حياة الله وعلمه وما بال قول بعضهم أن مريم ولدت ابن الله أتراها ولدت علم الله وحياته إلا كحظ غيره ولا فرق وهذا لا مخلص منه وبالله التوفيق وقال بعضهم لما وجدنا الأشياء قسمين حياً ولا حياً وجب أن يكون الباري عز وجل حياً ولما وجدنا الحي ينقسم قسمين ناطقاً وغير ناطق وجب أن يكون الباري تعالى ناطقاً

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا الكلام في غاية الكلال لوجهين أحدهما أن هذه القسمة قسمة طبيعية واقعة تحت جنس لأنه إذا كان تسمية الباري تعالى حياً إنما هو من هذا الوجه فهو إذاً يقع مع سائر الأحياء تحت جنس الحي ويحد بحد الحي وبحد الناطق وإذا كان كذلك فهو مركب من جنسه وفضله وكل ما كان محدوداً فهو متناه وكل ما كان مركباً فهو محدث والوجه الثاني أن هذه القسمة التي قسموا منقوضة مموهة لأنه يلزمهم أن يبدؤا بأول القسمة الذي هو أقرب إلى الطبيعة فيقولوا وجدنا الأشياء جوهراً ولا جوهراً ثم يدخلوه تحت أي القسمين شاؤا وهم إنما يدخلونه تحت الجوهر فإذا أدخلوه تحت الجوهر فقد وجب ضرورة أن يحدوه بحد الجوهر فإذا كان ذلك وجب أن يكون مدثاً إذ كل محدود محدث كما قد بيناه ثم نعترضهم في قسمتهم من قبل أن يبلغوا إلى الحي الناطق وعلى بعض القسم قبله يقع الثاني وهذه كلها مخلوقات فلو كان الباري تعالى بعضها أو كانت هذه الصفات واقعة عليه من طريق وجوب وقوعها علينا لكان مخلوقاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وقال بعضهم لما كانت الثلاثة تجمع الزوج والفرد وهذا أكمل الأعداد وجب أن يكون الباري تعالى كذلك لأنه غاية الكمال

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا من أغث الكلام لوجوه ضرورية أحدها أن الباري تعالى لا يوصف بكمال ولا تمام لأن الكمال والتمام من باب الإضافة إن التمام والكمال لا يقعان البتة إلا فيما فيه النقص لأن معناهما إنما هو إضافة شيءٍ إلى شيءٍ به كملت صفاته ولولاه لكان ناقصاً لا معنى للتمام والكمال إلا هذا فقط والوجه الثاني أن كل عدد بعد الثلاثة فهو أتم من الثلاثة لأنه يجمع إما زوجاً وزوجاً وفرداً وإما أكثر من ذلك وبالضرورة يعلم أن ما جمع أكثر من زوج فهو أتم وأكمل مما لم يجمع إلا زوجاً وفرداً فقط فيلزمه أن يقول إن ربه أعداد لا تتناهى أو أنه أكثر الأعداد وهذا أيضاً ممتنع محال لو قاله وكفى فساداً بقول يؤدي إلى المحال والوجه الثالث أن هذا الاستدلال مضاد لقولهم أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة لأن الثلاثة التي تجمع الزوج والفرد هي غير الثلاثة التي هي عندكم واحد بلا شك لأن الثلاثة التي تجمع الزوج والفرد ليست الفرد الذي هو فيها وهي جامعة له ولغيره بل ولا هي بعض فالكل ليس هو الجزء والجزء ليس هو الكل والفرد جزء للثلاثة والثلاثة كل للفرد وللزوج معه فالفرد غير الثلاثة والثلاثة غير الفرد والعدد مركب من واحد يراد به الفرد وواحد كذلك وواحد كذلك إلى نهاية العدد المنطوق به فالعدد ليس الواحد والواحد ليس هو العدد لكن العدد مركب من الآحاد التي هي الأفراد وهكذا كل مركب من أجزاء فذلك المركب ليس هو جزأ من أجزائه كالكلام الذي هو مركب من حرف وحرف حتى يقوم المعنى المعبر عنه فالكلام ليس هو الحرف والحرف ليس هو الكلام والوجه الرابع أن هذا المعنى السخيف الذي قصده هذا الجاهل نجده في الإثنين لأن الإثنين عدد يجمع فرداً وفرداً وهو زوج مع ذلك فقد وجدنا في الإثنين الزوج والفرد فيلزمه أن يجعل ربه اثنين والوجه الخامس أن كل عدد فهو محدث وكذلك كل معدود يقع عليه عدد فهو أيضاً محدث على ما قد بينا فيما خلا من كتابنا هذا والمعدود لم يوجد قط إلا ذا عدد والعدد لم يوجد قط إلا في المعدود والواحد ليس عدداً على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى وبه يتم الكلام في التوحيد بحول الله وقوته

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهم يقولون أن الإله اتحد مع الإنسان بمعنى أنهما صارا شيئاً واحداً فقالت اليعقوبية كاتحاد الماء يلقي في الخمر فيصيران شيئاً واحداً وقالت النسطورية كاتحاد الماء يلقى في الزيت فكل واحد منهما باق بحسبه وقالت الملكية كاتحاد النار في

قال أبو محمد رضي الله عنه : وكل هذا في غاية الفساد أول ذلك أنها دعاو ولا يعجز عن مثلها متحامق وليس في إنجيلهم شيء من هذه الأقسام والثاني أنها كلها محال لأن قول الملكية في تمثيلهم بما مثلوا إنما هو عرض في جوهر ولا يتوهم غير ذلك فالإله على قولهم عرض والإنسان جوهر وهذا في غاية الفساد وقول اليعقوبية أفسد لأننا نقول لهم إن كان استحال الإله إنساناً فالمسيح إنسان وليس إلهاً وإن كان الإنسان استحال إلهاً فالمسيح إله وليس بإنسان وإن كان كلاهما لم يستحل واحد منهما إلى الآخر فهذا هو قول النسطورية لا قولهم وإن كان كل واحد منهما استحال إلى الآخر فقد صار الإله إنساناً لا إلهاً وصار الإنسان إلهاً لا إنساناً وحصلوا بعد هذا الحمق على قول النسطورية ولا مزيد وإن كانا استحالا إلى غير الإنسان والإله فالمسيح لا إله ولا إنسان وكل هذا خلاف قولهم.

وأما النسطورية فلم يزيد وأعلى أن قالوا إن الإنسان إنسان والإله إله وهكذا كل فاضل وفاسق في العالم هو إنسان والإله إله وهكذا كل فاضل وفاسق في العالم هو إنسان والإله إله فالمسحي وغيره من الناس سواء.

وأيضاً فإن ما قالوه محال لأن الذي لم يزل لا يستحيل إلى طبيعة الإنسان المحدث ولا يستحيل المحدث إلهاً لم يزل وهذا محال بذاته ممتنع لا يتشكك وكذلك الإنسان لا يجاور الإله مجاورة مكانية لأنه محال أيضاً وكذا لا يتوهم ولا يمكن أن يكون الإله عرضاً يحمله جوهر الإنسان ولا يمكن أيضاً أن يكون الإنسان عرضاً يحمله الإله في ذاته كما تدعي الملكية ي تشبيه ذلك الاتحاد بضوء الشمس في البيت وبالنار في الحديد المحماة فقد صح أن كل ما قالوا محال وباطل وسخف لا يقبله إلا مخذول ولا يمكنهم ادعاء وجود شيء من هذا في كتب الأنبياء أصلاً وأيضاً فإنهم يضيفون إلى ذكرهم الأب والابن وروح القدس شيئاً رابعاً وهو الكلمة وهي المتحدة عندهم بالإنسان الملتحمة به في مشيمة مريم عليها السلام فإن أمانتهم التي اتفقوا عليها كلهم هي كما نورده نصاً نؤمن بالله الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى وبالرب الواحد يسوع المسيح بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع الآه حق من الآه من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً وولد من مريم البتول وألم وصلب أيام قيطوش بلاطش ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي هو مشتق من أبيه روح محبة وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قدسية سليحية جاثليقية وبقيامة أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين وقال في أول إنجيل يوحنا التلميذ في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله كان الكلمة

قال أبو محمد رضي الله عنه : فهذه أقوال إذا تأملها ذو عقل علم أنها وساوس أو جنون ملقى من الشيطان لا يمتحن به إلا مخذول مشهود له ببراءة الله تعالى منه.

ويقال لهم الكلمة هي أو الأب الابن أو روح القدس أم شيء رابع.

فإن قالوا شيء رابع فقد خرجوا عن التثليث إلى التربيع.

وإن قالوا إنها أحد الثلاثة سئلوا عن الدليل على ذلك إذ الدعوى لا يعجز عنها أحد.

ثم يقال لهم الأب هو الابن أم هو غيره.

فإن قالوا هو غيره.

سئلوا أيضاً من الملتحم في مشيمة مريم المتحد مع طبيعة المسيح الأب أم الابن.

فإن قالوا الابن.

فقد بطل أن يكون هو الأب وخالفوا يوحنا إذ يقول في أول إنجيله إن الكلمة هي الله فإذا كانت هي الله والكلمة التحمت في مشيمة مريم فالله تعالى هو نفسه التحم في مشيمة مريم وفي أمانتهم أن الابن هو الذي التحم في مشيمة مريم وهذه وساوس لا نظير لها.

ويقال لهم أيضاً هل معنى التحم إلا صار لحماً وهذا غير قول النسطورية والملكية.

وإن قالوا بل الأب.

فقد بطل أن يكون هو الابن وخالفوا يوحنا والأمانة.

وإن قالوا هو الأب وهو الابن.

تركوا قولهم أن الابن يقعد عن يمين أبيه وأن الأب يعلم وقت القايمة والابن لا يعلمها وقولهم في إنجيل يوحنا الأب فوض الأمر إلى ابنه والأب أكبر من الابن فهذه نصوص على أن الابن غير الأب إذ لا يقعد المرء عن يمين نفسه ولا يفوض الأمر إلى نفسه ولا يجهل ما يعلم وهذا كله يبطل قولهم أن الابن هو العلم والقدرة أو غير ذلك لأن هذه الصفات لا تقعد عن يمين حاملها ولا يفوض إليها شيء.

وإن قالوا لا هو هو وإلا هو غيره دخل عليهم من الجنون ما يدخل على من ادعى أن الصفات لا هي الموصوف ولا هي غيره.

وإن قالوا الأب هو الابن وهو غيره لم يكن ذلك ببدع من سخافاتهم وخروجهم عن المعقول ولزمهم أن الابن ابن لنفسه وأب لنفسه وأن الأب أب لنفسه وابن لنفسه وليس في الحمق والهوس أكثر من هذا ولا متعلق لهم بشيء مما في الزبور ولا في كتاب شعياء وغيره لأنه ليس في شيء منها أن المراد بما ذكر هنالك هو عيسى بن مريم عليهما السلام وقد قال لوقا في آخر إنجيله أنه كان نبياً مقتدراً عبداً لله وهذا كله بين عظيم مناقضتهم وما توفيقنا إلا بالله.

فإن تعلقوا بما في الإنجيل من ذكر المسيح أنه ابن الله.

قيل لهم في الإنجيل أيضاً أبي وأبيكم الله إلهي وإلهكم وأمرهم إذا دعوا أن يقولوا يا أبانا السماوي فله من ذلك كالذي لهم ولا فرق.

فإن قالوا أنه أتى بالعجائب.

قيل لهم والحواريون أيضاً عندكم أتوا بالعجائب وموسى قبله والياس وسائر الأنبياء قد أتوا بمثل ما أتى به من إحياء الموتى وغيره فأي فرق بينه وبينهم على أنه ليس في شيء من الإنجيل نص الأمانة التي لا يصح الإيمان عندهم إلا بها من ذكر أب وابن وروح القدس معاً وسائر ما فيها وإنما هي تقليد لأسلافهم من الأساقفة ونعوذ بالله من الخذلان.

وأمانتهم التي ذكروا أنهم متفقون عليها موجبة أن الابن هو الذي نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً وقتل وصلب.

فيقال لهم هذا الابن الذي في أمانتكم أنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً أخبرونا قبل أن ينزل من السماء أمخلوقاً كان أو غير مخلوق بل كان لم يزل.

فإن قالوا كان مخلوقاً.

فقد تركوا قولهم لاسيما أن قالوا ليس هو غير الأب بل يصير الأب وروح القدس مخلوقين.

وإن قالوا كان قبل أن ينزل غير مخلوق.

قيل لهم فقد صار مخلوقاً إنساناً وهذا محال وتناقض.

وأيضاً فقد لزم من هذا أن الابن مخلوق وروح القدس مخلوق إذ صار إنساناً.

ثم يقال لهم أخبرونا عن هذا الابن الذي أخبرتم عنه بما لم تخبروا عن الأب والذي يقعد عن يمين الرب ثم ينزل لفصل القضاء أله علم وحياة أم لا علم له ولا حياة.

فإن قالوا لا علم له ولا حياة.

فارقوا إجماعهم ولزمهم ضرورة أن قالوا مع ذلك أنه غير الأب الذي له حياة وعلم إذ ما لا علم له هو بلا شك غير الذي له علم والذي لا حياة له هو بلا شك غير الذي له حياة وهذا ترك منهم للنصرانية.

وإن قالوا بل له علم وحياة لزمهم أن الأزليين خمسة الأب وعلمه وحياته والابن الذي هو علم الأب وعلمه وحياته.

وهكذا يسألون أيضاً عن روح القدس ولا فرق وقد قال يوحنا في أول إنجيله فمن تقبله منهم وآمن به أعطاهم سلطاناً أن يكونوا أولاد الله أولئك المؤمنون باسمه الذين لم يتوالدوا من دم ولا شهوة اللحم ولاباه رجل ولكن توالدوا من الله فصح بهذا أن لكل نصراني من ولادة الله والأزلية والكون من جوهر الأب كالذي لمسيح سواءً بسواء ولا فرق وإلا فقد كذب يوحنا اللعين قائل هذا الكفر وأهل الكذب هو وهذا ما لا انفكاك منه وهذا يلزم الأشعرية الذين يقولون بأن علم الله تعالى وقدرته هما غير الله تعالى عما يقولون علواً كبيراً ومما يعترض به علينا اليهود والناصرى ومن ذهب إلى إسقاط الكواف من سائر الملحدين إن قال قائلهم قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل وجاء القرآن بأنه لم يقتل ولم يصلب فقولوا لنا كيف كان هذا فإن جوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه.

فإن قلتم اشتبه عليهم فلم يتعمد وانقل الباطل.

فقد جوزتم التلبيس على الكواف فلعل كافتكم أيضاً ملتبس عليها فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم وقولوا لنا كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله.

فإن قلتم كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه.

وجب من قولكم الإقرار أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدين به وفي هذا ما فيه.

وإن قلتم كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه.

فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب الكواف وفي هذا إبطال قول كافتكم بل إبطال جميع الشرائع بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم ووقعتم

وفي هذا ما قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بياناً لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته.

فنقول وبالله التوفيق إن صلب المسيح عليه السلام لم يقله قط كافة ولا صح بالخبر قط لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي إما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ طرقهم وعدم التقائهم وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعداً وإما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما تواطؤا عليه فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه فما نقله أحد هاتين الصفتين عن مثل إحداهما وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه وسواء كانوا عدولاً أو فساقاً أو كفاراً ولا يقطع على صحته إلا ببرهان فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام فوجدناه كواف عظيمةً صادقة بلا شك في نقلها جيلاً بعد جيل إلى الذين ادعوا مشاهدة صلبه فإن هنالك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهاراً خوف العامة وإنما أخذوه ليلاً عند افتراق الناس عن الفصح وأنه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار وأ ه أنزل إثر ذلك وأنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار ليس موضعاً معروفاً بصلب من يصلب ولا موقوفاً لذلك وأنه بعد هذا كله رسي الشرط على أن يقولوا أن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك وأن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة لم تقدم على حضور موضع صلبه بل كانت واقفة على بعد تنظر هذا كله في نص الإنجيل عندهم فبطل أن يكون صلبه منقولاً بكافة بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوم متواطأ عليه وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم غيباً عن ذلك المشهد هاربين بأرواحهم مستترين وإن شمعون الصفا غرر ودخل دار قيقان الاهن أيضاً بضوء النهار فقال له أنت من أصحابه فانتفى وجحد وخرج هارباً عن الدار فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه على أن نظن به الصدق فكيف أن ينقله كافةٌ وهذا معنى قوله تعالى ولكن شبه لهم إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق الذين دبروا هذا الباطل وتواطؤا عليه هم شبهوا على من قلدهم فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون في ذلك عالمون أنهم كذبة ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت النبوات كلها إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس وفيمن يجالس وفي حيث هو فعله نائم أو مشبه على حواسه وفي هذا خروج إلى السخف وقول السوفسطائية والحماقة

وقد شاهدنا نحن مثل ذلك وذلك أننا اندرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر فرأيت أنا وغيري نعشاً فيه شخص مكفن وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة في بيت وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد ثم صلينا في ألوف من الناس عليه ثم لم يلبث إلا شهوراً نحو السبعة حتى ظهر حياً وبويع بعد ذلك بالخلافة ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه ورأيته وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام

قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما قوله قد جوزتم التمويه على الكافة فقد بينا أنها لم تكن كافة قط وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات فلو صح أنها كانت كافة لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم حاكماً على حواسهم ومحيلاً لها كخروج النبي صلا الله عليه وسلم ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه.

وأما ما لم يأت خبر عن الله عز وجل بأنه شبه على الكافة فلا يجوز أن يقال ذلك لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعة وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل فيلزم قبوله.

وأما التشيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك ولا يجوز على الجماعة كلها.

وقوله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليداً لأسلافهم من النصارى واليهود أنه عليه السلام قتل وصلب فهؤلاء شبه لهم القول أي أدخلوا في شبهة منه وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشرطهم المدعون أنهم قتلوه وصلبوه وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس ثم أنزلوه ودفنوه تمويهاً على العامة التي شبه الخبر لها.

ثم نقول لليهود والنصارى بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسئلة أن كوافكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقاً ووطء إماء وهو حرام عندكم وعن هارون عليه السلام أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه وقد نزه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام عن عبادة غيره وعن الأمر بذلك وعن كل معصية ورذيلة فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء منهم موسى عليه السلام وسائر أنبيائهم كان كل ما أمروهم به من جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان عليهما السلام وسائر أنبيائهم لاسيما وهم يقرون بأن العجل كان يخور بطبعه.

وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه نقل كافة ولكن نقل آحاد كذبوا فيه وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنه من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره لا أنه خار بطبعه قط وحتى لو صح أنه خار بطبعه لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من إثر جبريل عليه السلام والذي يعتمد عليه فهو قول ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكرناه وبالله تعالى التوفيق.

وأما قوله كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه الإقرار بصلبه أم الإنكار له فهذه قسمة فاسدة شغبية قد حذر منها الأوائل كثيراً ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام وذلك أنهم أوجبوا فرضاً ثم قسموه على قسمين إما فرض بإنكار وإما فرض بإقرار وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه وهذا لا يرضى به لنفسه إلا جاهل أو سخيف مغالط غابن لنفسه غاش لمن اغتر به وإنما الحقيقة ههنا أن يقول هل يلزم الناس قبل ورود القرآن فرض بالإقرار بصلب المسيح أو بإنكار صلبه أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح وحق الجواب أنه لم يلزم الناس قط قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك لا بإقرار ولا بإنكار وإنما كان خبراً لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري ممكن صدق قائله فقد قتل أنبياء كثيرة وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك وهو بمنزلة شيء مغيب في دار فيقال لهذا المعرض بهذا السؤال الفاسد ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار الإقرار بأن فيها رجلاً أم الإنكار لذلك فهذا كله لايلزم منه شيء.

ولم ينزل الله عز وجل كتاباً قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح ولا بإنكاره وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه.

فإن قالوا قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول.

قيل لهم وبالله التوفيق الناقلون لنبوتهم وإعلامهم ولقولهم بصلبه عليه السلام هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى مفتر عليه كافر به فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقاً أو كانوا كافة فما كان يوحنا ومتى وبولس إلا كفاراً كاذبين وما كانوا قط من صالحي الحواريين وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذباً فالكاذب لا يقوم بنقله حجة فبطل التمويه المتقدم والحمد لله رب العالمين.

وقال متكلموهم إن الاتحاد المذكور إنما هو تقليد للإنجيل ولم يكن نقلة ولا حركة ولا فارق الباري ولا العلم ما كانا عليه ولا انتقلا فيقال لهم هذا إبطال للاتحاد وقول منكم بأن حظه وحظ غيره في ذلك سواء وخلاف لأمانتكم التي فيها أن الابن نزل من السماء وتجسد وولد وقتل ودفن.

وقالت طائفة منهم المسيح حجاب الله خاطبه الله تعالى منه فيقال لهم أنتم تقولون أن المسيح رب معبود وإله خالق والحجاب عندكم مخلوق والمسيح عند بعضكم طبيعة واحدة وعند بعضكم طبيعتان ناسوتية ولاهوتية فأخبرونا أتعبدون الطبيعتين معاً اللاهوتية والناسوتية أم تبعدون إحداهما دون الأخرى.

فإن قالوا نعبدهما جميعاً أقروا بأنهم يعبدون إنساناً وحجاباً مخلوقاً مع الله تعالى وهذا أقبح ما يكون من الشرك.

وإن قالوا بل نعبد اللاهوت وحده قيل لهم فإنما تعبدون نصف المسيح لا كله لأنه طبيعتان ولستم تعبدون إلا أحدهما دون الأخرى.

وكذلك يسألون عن موت المسيح وصلبه فمن قول الملكية والنسطورية إن الموت والصلب إنما وقع على الناسوت خاصة.

فيقال لهم فأنتم في قولكم مات المسيح وصلب كاذبون لأنه إنما مات نصفه وصلب نصفه فقط لأن اسم المسيح عندكم واقع على اللاهوت والناسوت كليهما معاً لا على أحدهما دون الآخر وكل من قال من اليعقوبية الإنسان والإله شيء هو الإنسان فقد عبد إنساناً وربه إنسان مخلوق.

وكل من قال منهم الإله غير الإنسان فقد أبطل الاتحاد.

وهكذا يقال لهم في الحجاب مع الله تعالى سواء بسواء ويلزمهم جميعهم إذ قد أقروا بعبادة المسيح هكذا جملة وأنه رب خالق وفي الإنجيل أنه جاع وأكل الخبز والحيتان وعرق وضرب أن ربهم أكل وجاع وأن الإله ضرب ولطم وصلب وكفى بهذا رذالة وفحش قول وبيان بطلان.

ويقال للملكية واليعقوبية القائلين بأن المسيح ابن الله وابن مريم قد أقررتم أن المسيح إنسان وإله فالإنسان هو ابن الله وابن مريم والإله هو ابن مريم وهذه غاية الشناعة.

فإن قالوا ما تقولون فيما في كتابكم وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب وأنه تعالى كلم موسى من جانب الطور من الشجرة من شاطىء الوادي.

قلنا التكليم فعل الله تعالى مخلوق والحجاب إنما هو للتكليم والتكليم هو اذي حدث في الشجرة وشاطىء الوادي وجانب الطور وكل ذلك مخلوق محدث وكذلك تحول جبريل عليه السلام في صورة دحية إنما هو أن الله تعالى جعل للملائكة والجن قوة يتحولون بها فيما شاؤا من الصور وكلهم مخلوق تعاقب عليهم الإعراض بخلاف الله تعالى في ذلك.

قال أبو محمد رضي الله عنه : ومما يعترض به على النصارى وإن كان ليس برهاناً ضرورياً على جميعهم لكنه برهان ضروري على كل من تلقد منهم الشرائع التي يعمل بها الملكيون والنساطرة واليعاقبة والمارقبية قاطع لهم وهي مسئلة جرت لنا مع بعضهم وذلك أنهم لا يخلون من أحد وجهين إما أن يكونوا يقولون ببطلان النبوة بعد عيسى عليه السلام وإما أن يقولوا بإمكانها بعده عليه السلام.

فإن قالوا بإمكان النبوة بعده عليه السلام.

لزمهم الإقرار بنبوة محمد إذ ثبت نقل إعلامه بالكواف التي بمثلها نقلت إعلام عيسى وغيره عليهم الصلاة والسلام.

وإن قالوا ببطلان النبوة بعد عيسى عليه السلام.

لزمهم ترك جميع شرائعهم من صلاتهم وتعظيمهم الأحد وصيامهم وامتناعهم من اللحم ومناكحهم وأعيادهم واستباحتهم الخنزير والميتة والدم وترك الختان وتحريم النكاح على أهل المراكب في دينهم إذ كل ما ذكرنا ليس منه في أناجيلهم الأربعة شيء البتة بل أناجيلهم مبطلة لكل ما هم عليه اليوم إذ فيها أ ه عليه السلام قال لم آت لأغير شيئاً من شرائع التوراة وأنه كان يلتزم هو وأصحابه بعده السبت وأعياد اليهود من الفصح وغيره بخلاف كل ما هم عليه اليوم فإذا منعوا من وجود النبوة بعده وكانت الشرائع لا تؤخذ إلا عن الأنبياء عليهم السلام وإلا فإن شارعها عن غير الأنبياء عليهم السلام حاكم على الله تعالى وهذا أعظم ما يكون من الشرك والكذب والسخف فشرائعهم التي هي دينهم غير مأخوذة عن نبي أصلاً فهي معاص مفترات على الله عز وجل بيقين لاشك فيه

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا حين نبدأ بعون الله وتوفيقه وتأييده إن شاء الله لا إله إلا هو في تبيين أن الواحد ليس عدداً فنقول وبالله تعالى التوفيق أن خاصة العدد هو أن يوجد عدد آخر مساوٍ له وعدد آخر ليس مساوياً له هذا شيء لا يخلو منه عدد أصلاً والمساواة هي أن تكون إبعاضه كلها مساوية له إذا جزئت ألا ترى أن الفرد والفرد مساويان للإثنين وأن الزوج والفرد ليس مساوياً للزوج الذي هو الإثنان والخمسة مساوية للإثنين والثلاثة غير مساوية للثلاثة وهكذا كل عدد في العالم فهذا معنى قولنا أن المساوي وغير المساوي هو خاصة العدد وهذه المساواة أردنا لا غيرها فلو كان للواحد أبعاض مساوية له لكان كثيراً بلا شك فيه عند كل ذي حس سليم.

وكل ما كان له أبعاض فهو كثير بلا شك فهو إذاً بالضرورة ليس واحداً فالواحد ضرورة هو الذي لا أبعاض له فإذ لاشك فيه فالواحد الذي لا أبعاض له تساويه ليس عدداً وهو الذي أردنا أن نبين وأيضاً فإن الحس وضرورة العقل يشهدان بوجود الواحد إذ لو لم يكن الواحد موجوداً لم يقدر على عدد أصلاً إذ الواحد مبدأ العدد والمعدود الذي لا يوصل إلى عدد ولا معدود إلا بعد وجوده ولو لم يوجد الواحد لما وجد في العالم عدد ولا معدود أصلاً والعالم كله أعداد ومعدودات موجودة فالواحد موجود ضرورة فلما نظرنا في العالم كله نظراً طبيعياً ضرورياً لم نجد فيه واحداً على الحقيقة البتة بوجه من الوجوه لأن كل جرم من العالم فمنقسم محتمل للتجزئة متكثر بالانقسام أبداً بلا نهاية وكل حركة فهي أيضاً منقسمة بانقسام المتحرك بها والزمان حركة الفلك فهو منقسم بإنقسام الفلك فكل مدة فمنقسمة أيضاً بانقسام المتحرك بها الذي هو المدة وكذلك كل مقول من جنس أو نوع أو فصل وكذلك كل عرض محمول في جرم فإنه منقسم بانقسام حامله هذا أمر يعلم بضرورة العقل والمشاهدة وليس العالم كله شيئاً غير ما ذكرنا فصح ضرورة أنه ليس في العالم واحد البتة وقد قدمنا ببرهان ضروري آنفاً أنه لابد من وجود الواحد فإذاً لابد من وجوده وليس هو في شيء من العالم البتة فهو إذاً بالضرورة شيءٌ غير العالم فإذ ذلك كذلك فبالضرورة التي لا محيد عنها فهو الواحد الأول الخالق للعالم إذ ليس يوجد بالعقل البتة شيءٌ غير العالم إلا خالقه فهو الواحد الأول الله لا إله إلا هو الذي لا يتكثر البتة أصلاً لا بعدد ولا صفة ولا بوجه من الوجوه لا واحد سواه البتة ولا أول غيره أصلاً ولا مخترع فاعلاً خالقاً إلا هو وحده لا شريك له.

وإنما قلنا في كل فرد في العالم وهو الذي يسمى في اللغة عند العد واحداً على المجاز أنه كثير بمعنى أنه يحتمل أن يقسم وأن له مساحة كثيرة الأجزاء فإذا قسم ظهرت الكثرة فيه وأما ما لم يقسم فهو يعد فرداً حقيقياً وقد ذكرنا برهان وجوب احتمال الإنقسام لكل جزء في العالم في آخر كتبانا هذا ببراهين ضرورية لا محيد عنها وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فما تقول في الباء والتاء وسائر حروف الهجاء أليس كل واحد منها واحداً لا ينقسم قيل له وبالله التوفيق إن هذا شغب ينبغي أن تحفظ من مثله لأن الحرف إنما هو هواء يندفع من مخرج ذلك الحرف بعصر بعض آلات الصوت له من الرئة وأنابيب الصدر والحلق والحنك واللسان والأسنان والشفتين فإذ لاشك في هذا فذلك الهواء المندفع جسم طويل عريض عميق فهو محتمل الإنقسام ضرورة فذلك الهواء هو الحرف فالحرف هو جسم محتمل للقسم ضرورة وبالله تعالى التوفيق.

الكلام على من يقول أن البارىء خلق العالم جملة

كما هو بجميع أحواله بلا زمان

قال أبو محمد رضي الله عنه : رأينا من يقر بالخالق تعالى ولا يقر بالنبوة ومن يذهب إلى ذلك وناظرناه على ذلك فقلت إن الذي تقول ممكن في قوة الله تعالى والذي نقول نحن من أنه تعالى خلق من النوع الإنساني ذكراً واحداً وأنثى واحدة تناسل الناس كلهم منهما ممكن أيضاً فمن أين ملت إلى تلك الحيثية دون هذه فتردد ساعة فلما لم يجد دليلاً قال فمن أين ملتم أنتم أيضاً إلى هذه الحيثية دون تلك فقلت لبراهين ضرورية توجب ما قلنا وتنفي ما قلتم منها أنه لو كان ما قلت لكان كل من أخرجه الله تعالى حينئذ من العدم إلى الوجود من الشبان والشيوخ يعلمون ذلك ويحسونه من أنفسهم ويوقنون أنهم الآن به حدثوا وأنهم لم يكونوا قبل ذلك لكن حدثوا الآن في حال توليهم لصناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم من حرث وحصاد ونسج وخياطة وخبز وطبخ وغير ذلك ولو كان هذا لنقلوه إلى أولادهم نقلاً يقتضي لهم العلم الضروري بذلك ولابد كما يقتضي العلم الضروري كل نقل جاء بأقل من هذا المجيء مما كان قبلنا من الملوك والدول والوقائع وليبلغ الأمر إلينا كذلك ولعلمه جميع الناس علماً ضرورياً لأن شيئاً ينقله جميع أهل الأرض عن مشاهدتهم له لا يمكن التشكك فيه أبداً كما نقل طلوع الشمس وغروبها والموت والولاد وغير ذلك ونحن نجد الأمر بخلاف هذا لأنا نجد جميع أهل الأرض # قاطبة لا يعرفون هذا بل لا يدريه أحد منهم وإنما قلته أنت ومن وافقته أو من وافقك برأي وظن لا بخبر ونقل أصلاً هذا ما لا تخالفنا فيه أنت ولا أحد من الناس فمن المحال الممتنع أن يكون خبرٌ نقله جميع سكان العالم أولهم عن آخرهم إلى كل من حدث بعدهم عن ما شاهدوه يخفي حتى لا يعرفه أحد من سكان الأرض هذا أمرٌ يعرف كذبه بأول العقل وبديهته.

فقال والذي تحكونه أنتم أيضاً قد وجدنا جماعات ينكرونه فينيبغي أن يبطل بما عارضتنا به.

فقلت بين النقلين فرق لا خفاء به لأن نقلنا نحن لما قلناه إنما يرجع إلى خبر رجل واحد وامرأة واحدة فقط وهما أول من أحدثهم الله تعالى من النوع الإنساني وما كان هكذا فإنه لا يوجب العلم الضروري إذ التواطؤ ممكن في ذلك ولولا أن الأنبياء والذين جاؤا بالمعجزات أخبروا بتصحيح ذلك ما صح قولنا من جهة النقل وحده بل كان ممكناً أن يكون الله تعالى ابتدأ خلق جماعة تناسل الخلق منهم لكن لما أخبر من صححت المعجزة قوله بأن الله تعالى لم يبتدىء من النوع الإنساني إلا رجلاً واحداً وامرأة واحدة وجب تصديق قولهم وبرهان آخر وهو ا كم قد أثبتم ضرورة صحة قولنا من أن الله ابتدأ النوع الإنسان بأن خلق ذكراً وأنثى ثم ادعيتم زيادة أن الله تعالى خلق سواهما جماعات ولم تأتوا على ذلك ببرهان أصلاً ولا بدليل إقناعي فضلاً عن برهاني وقد صحت البراهين التي قدمنا قيل أنه لابد من مبدأ ضرورة فوجب ولابد حدوث ذكر وأنثى وكان من ادعى حدوث أكثر من ذلك مدعياً لما لا دليل له عليه أصلاً وما كان هكذا فهو باطل بيقين لا مرية فيه وكل ما ذكرت عنه نبوةٌ في الهند والمجوس والصابئين واليهود والنصارى والمسلمين فلم يختلفوا في أن الله تعالى إنما أحدث الناس من ذكر وأنثى وما جاء هذا المجيء فلا يجوز الاعتراض عليه بالدعوى وإنما اختلف عنهم في الأسماء فقط وليس في هذا معترض لأنه قد يكون للمرء أسماءً كثيرة فلم يمنع من هذا مانع وبالله تعالى التوفيق

قال أبو محمد رضي الله عنه : فلم نجد عندهم في ذلك معارضة أصلاً وما علمنا أحداً من المتكلمين ذكر هذه الفرقة أصلاً وقلت له في خلال كلامي معه أترى العالم إذا خرج دفعة أخرج فيه الحوامل يطلقن والطباقون قعوداً على أطباقهم يبيعون التين والسرقين فضحك وعلم أني سلكت به مسلك السخرية في قوله لفساده وقال لي نعم فقلت ينبغي أن يكونوا كلهم أنبياء يوحى إليهم أولهم عن آخرهم بما هم عليه من العلوم والصناعات أو يلهمون ذلك وفي هذا من بطلان الدعوى ما لا خافاء به وكان مما اعترض به أن ذكر الجزائر المنقطعة في البحار وأنه يوجد فيها النمل والحشرات وكثير من الطير وكثير من حشرات الأرض فقلت إن كان ذلك لا ينكر ذو حس دخوله في جملة رحالات المسافرين الداخلين إلى تلك البلاد فقد شاهدنا دخول الفيران في جملة الرحل كذلك وليس في ذلك ما يوجب ما ذكرت أصلاً مع أن الحيوان نوعان.

نوع متولد يخلقه الله تعالى من عفونات الأبدان وعفونات الأرض فهذا لا ينكر تولده بإحداث الله تعالى له في كل حين.

وقسم آخر متوالد قد رتب الله تعالى في بنية العالم أنه لا يخلقه إلا عن مني ذكر وأنثى فهذا هو الذي صار في تلك الجزائر عن دخول إليها بلا شك وبالله تعالى التوفيق.

وما ننكر في كل نوع ماعدا الإنسان أن يخلق الله منه أكثر من اثنين فهذا ممكن في قدرة الله تعالى ولم يأت خبر صادق بخلافه لأن الله تعالى قد قال في أمر نوح عليه السلام وسفينته حين الطوفان واحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومع هذا فقد يمكن أن يكون نوح عليه السلام مأموراً بأن يحمل من كل زوجين اثنين ولا يمنع ذلك من بقاء بعض أنواع نبات الماء وحيوانه في غير السفينة والله أعلم وإنما نقول فيما لا يخرجه العقل إلى الوجوب والامتناع بما جاءت به النبوة فقط وبرهان آخر وهو أنه لو كان إخراج الله تعالى لكل ما في العالم من المعلوم والعلماء بها والصناعات والصانعين لها دفعة واحدة لكان ذلك بضرورة العقل وأوله لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون ذلك بوحي إعلام وتوقيف منه تعالى وإما بطبع مركب فيهم يقتضي لهم ما علموا من ذلك وما صنعوا فإن كان بوحي إعلام وتوقيف فقد صحت النبوة لجميعهم إذ ليست النبوة معنى غير هذا وهذه دعوى ممن قال بهذا القول بلا دليل وما لا دليل عليه فهو باطل لا يجوز القول به لاسيما والقائلون بها منكرون للنبوة فلاح تناقض قولهم وإن كان كل ذلك عن طبيعة تقتضي لهم كونهم عالمين بالعلوم متكلمين باللغة متصرفين في الصناعات بلا تعليم ولا توقيف فهذا محال ضرورة وممتنع في العقل وفي الطبيعة إذ لو كان ذلك لوجدوا أبداً كذلك إذ الطبيعة واحدة لا تختلف وبالضرورة ندري أنه لا يوجد أحد أبداً في شيء من الأزمان ولا في مكان أصلاً يأتي بعلم من العلوم لم يعلمه إياه أحد ولا يتكلم بلغة لم يعلمه إياها أحد ولا بصناعة من الصناعات لم يوقفه عليها أحد.

وبرهان ذلك ما قدمنا قبل من أن البلاد التي ليست فيها العلوم وأكثر الصناعات كأرض الصقالبة والسودان والبوادي التي في خلال المدن ليس يوجد فيها أبداً أحد يدري شيئاً من العلوم ولا من الصناعات حتى يعلمه ذلك معلم وأنه لا ينطق أحد حتى يعلمه معلم فظهر فساد هذا القول ببرهان وقبل البرهان بتعريه من البرهان

الكلام على من ينكر النبوة والملائكة

قال أبو محمد رضي الله عنه : ذهبت البراهمة وهم قبيلة بالهند فيهم أشراف الهند ويقولون أنهم من ولد برهمي ملك من ملوكهم قديم ولهم علامة ينفردون بها وهي خيوط ملونة بحمرة وصفرة يتقلدونها تقلد السيوف وهم يقولون بالتوحيد على نحو قولنا إلا أنهم أنكروا النبوات.

وعمدة احتجاجهم في دفعها أن قالوا لما صح أن الله عز وجل حكيم وكان من بعث رسولاً إلى من يدري أنه لا يصدقه فلا شك في أنه متعنت عابث فوجب نفي بعث الرسل عن الله عز وجل لنفي العبث والعنت عنه.

وقالوا أيضاً إن كان الله تعالى إنما بعث الرسل إلى الناس ليخرجهم بهم من الضلال إلى الإيمان فقد كان أولى به في حكمته وأتم لمراده أن يضطر العقول إلى الإيمان به.

قالوا فبطل إرسال الرسل على هذا الوجه أيضاً ومجيء الرسل عندهم من باب الممتنع.

وأما نحن فنقول إن مجيء الرسل قبل أن يبعثهم الله تعالى واقع في باب الإمكان وأما بعد إن بعثهم الله عز وجل ففي حد الوجوب ثم أخبر الصادق عليه السلام عنه تعالى أنه لا نبي بعده فقد جد الامتناع ولسنا نحتاج إلى تكلف ذكر قول من قال من المسلمين أن مجيء الرسل من باب الواجب واعتلالهم في ذلك بوجوب الإنذار في الحكمة إذ ليس هذا القول صحيحاً وإنما قولنا الذي بيناه في غير موضع أنه تعالى لا يفعل شيئاً لعلة وأنه تعالى يفعل ما يشاء وإنك ل ما فعله فهو عدل وحكمة أي شيءٍ كان.

فيقال وبالله التوفيق لمن احتج بالحجة الأولى من أن الحكمة تضاد بعثة الرسل وأن الحكيم لا يبعث الرسل إلى من يدري أنه يعصيه أنكم اضطركم هذا الأصل الفاسد الحاكم بذلك إلى موافقة المنانية على أصولها أن الحكيم لا يخلق من يعصيه ولا من يكفر به ويقتل أولياءه وهم يقولن إن الله تعالى خلق الخلق ليدلهم بهم على نفسه.

ويقال لهم قد علمنا وعلمتم أن في الناس كثيراً يجحدون الربوبية والوحدانية فقولوا أنه ليس حكيماً من خلق دلائل لمن يدري أنه لا يستدل بها.

فإن قالوا أنه قد استدل بها كثير.

قيل لهم وقد صدق الرسل أيضاً كثير.

فإن قالوا أنه خلق الخلق كما شاء.

قيل لهم وكذلك بعث الرسل أيضاً كما شاء فبعثته تعالى الرسل هي بعض دلائله التي خلقها تعالى ليدل بها على المعرفة به تعالى وعلى توحيده.

ويقال لمن احتج بالحجة الثانية من أن الأولى به أنه كان يضطر العقول إلى الإيمان به أن هذا قول مرذول مردود عليكم في قولكم أن الله عز وجل خلق الخلق ليدلهم بهم نفسه ووحدانيته فيلزمكم على ذلك الأصل الفاسد أنه كان الأولى إذ خلقهم أن لا يدعهم والاستدلال وقد علم أن فيهم من لا يستدل وأن فيهم من يغمض عليه الاستدلال وقد علم أن فيهم من لا يستدل وأن فيهم من يغمض عليه الاستدلال فكان الأولى في الحكمة أن يضطر عقولهم إلى الإيمان به ولا يكلفهم مؤنة الاستدلال وأن يلطف بهم ألطافاً يختار جميعهم معها الإيمان كما فعل بالملائكة

قال أبو محمد رضي الله عنه : وملاك هذا كله ما قد قلناه في غير موضع من أن الخلق لما كانوا لا يقع منهم فعل إلا لعلة ووجب بالبراهين الضرورية أن البارىء تعالى بخلاف جميع خلقه من جميع الجهات وجب أن يكون فعله لا لعلة بخلاف أفعال جميع الخلق وأنه لا يقال في شيء من أفعاله تعالى أنه فعل كذا لعلة ولا إذ جاء الإنسان بالنطق وحرمه سائر الحيوان وخلق بعض الحيوان صائداً وبعضه مصيداً وباين بين جميع مفعولاته كما شاء فليس لأحد أن يقول لم خلق الإنسان ناطقاً وحرم الحمار النطق وجعل الحجر جامداً لا حياة له ولا نطق وهذا أصل قد وافقنا البراهمة عليه وسائر من خالفنا من تفريع هذا المعنى ممن يقول بالتوحيد وهكذا إذا بعث تعالى الأنبياء ليس لأحد أن يقول لم بعثهم أو لم بعث هذا الرجل ولم يبعث هذا الآخر ولا لم بعثهم في هذا الزمان دون غيره من الأزمان ولا لم بعثهم في هذا المكان دون غيره من الأمكنة كما لا يقال لم حباه بالسعد في الدنيا دون غيره وهكذا كل ما في العالم إذا نظر فيه تعالى الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون

قال أبو محمد رضي الله عنه : وإذ قد نقضنا شغبهم بحول الله تعالى وتأييده فلنقل الآن بعون الله تعالى وتأييده في إثبات النبوة إذا وجدت قولاً بيناً وبالله تعالى التوفيق قد قدمنا فيما خلا إثبات حدوث الأشياء وأن لها محدثاً لم يزل واحداً لا مبدأ له ولا كان معه غيره ولا مدبر سواه ولا خالق غيره فإذ قد ثبت هذا كله وصح أنه تعالى أخرج العالم كله إلى الوجود بعد أن لم يكن بلا كلفة ولا معاناة ولا طبيعة ولا استعانة ولا مثال سلف ولا علة موجبة ولا حكم سابق قبل الخلق يكون ذلك الحكم لغيره تعالى فقد ثبت أنه لم يفعل إذ لم يشأ وفعل إذ شاء كما شاء فيزيد ما شاء وينقص ما شاء فكل منطوق به مما يتشكك في النفس أو لا يتشكك فهو داخل له تعالى في باب الإمكان على ما بينا في غير هذا المكان إلا أننا نذكر ههنا طرفاً إن شاء الله عز وجل فنقول وبالله تعالى نتأيد.

إن الممكن ليس واقعاً في العالم وقوعاً واحداً ألا تري أن نبات اللحية للرجال ما بين الثمان عشرة إلى عشرين سنة ممكن وهو في حدود الأنثى عشر سنة إلى العامين ممتنع وإن فك الإشكالات العويصة واستخراج المعاني الغامضة وقول الشعر ابديع وصناعة البلاغة الرائقة ممكن لذي الذهي اللطيف والذكاء النافذ وغير ممكن من ذي البلادة الشديدة والغباوة المفرطة فعلى هذا ما كان ممتنعاً بيننا إذ ليس في بنيتنا ولا في طبيعتنا ولا من عادتنا فهو غير ممتنع على الذي لا بنية له ولا طبيعة له ولا عادة عنده ولا رتبة لازمة لفعله فإذا قد صح هذا فقد صح أنه لا نهاية لما يقوى عليه تعالى فصح أن النبوة في الإمكان وهي بعثة قوم قد خصهم الله تعالى بالفضيلة لا لعلة إلا أنه شاء ذلك فعلمهم الله تعالى العلم بدون تعلم ولا تنقل في مراتبه ولا طلب له ومن هذا الباب ما يراه أحدنا في الرؤيا فيخرج صحيحاً وما هو من باب تقدم المعرفة فإذ قد أثبتنا أن النبوة قبل مجيء الأنبياء عليهم السلام واقعة في حد الإمكان فلنقل الآن بحول الله تعالى وقوته على وجوبها إذا وقعت ولابد فنقول إذ قد صح أن الله تعالى ابتدأ العالم ولم يكن موجوداً حتى خلقه الله تعالى فبيقين ندري أن العلوم والصناعات لا يمكن البتة أن يهتدي أحد إليها بطبعه فيما بيننا دون تعليم كالطب ومعرفة الطبائع والأمراض وسببها على كثرة اختلافها ووجود العلاج لها بالعقاقير التي لا سبيل إلى تجريبها كلها أبداً وكيف يجرب كل عقار في كل علة ومتى يتهيأ هذا ولا سبيل له إلا في عشرة آلاف من السنين ومشاهدة كل مريض في العالم وهذا يقطع دونه قواطع الموت والشغل بما لا بد منه من أمر المعاش وذهاب الدول وسائر العوائق وكعلم النجوم ومعرفة دورانها وقطعها وعودها إلى أفلاكها مما لا يتم إلا في عشرة آلاف من السنين ولابد من أن يقطع دون ضبط ذلك العوائق التي قلنا وكاللغة التي لا يصح تربية ولا عيش ولا تصرف إلا بها ولا سبيل إلى الاتفاق عليها إلا بلغة أخرى ولابد فصح أنه لابد من مبدأ للغة ما وكالحرث والحصاد والدراس والطحن وآلاته والعجن والطبخ والحلب وحراسة المواشي واتخاذ الأنسال منها والغرس واستخراج الأدهان ودق الكتان والقنب والقطن وغزله وحياكته وقطعه وخياطته ولبسه وآلات كل ذلك وآلات الحرث والإرحاء والسفن وتدبيرها في القطع بها للبحار والدواليب وحفر الآبار وتريبة النحل ودود الخز واستخراج المعادن وعمل الأبنية منها ومن الخشب والفخار وكل هذا لا سبيل إلى الاهتداء إليه دون تعليم فوجب بالضرورة ولابد أنه لابد من إنسان واحد فأكثر علمهم الله تعالى ابتداء كل هذا دون معلم لكن بوحي حققه عنده وهذه صفة النبوة فإذاً لابد من نبي أو انبياء ضرورة فقد صح وجود النبوة والنبي في العالم بلا شك.

ومن البرهان على ما ذكرنا أننا نجد كل من لم يشاهد هذه الأمور لا سبيل له إلى اختراعها البتة كالذي يولد وهو أصم فإنه لا يمكن له البتة الاهتداء إلى الكلام ولا إلى مخارج الحروف وكالبلاد التي ليست فيها بعض الصناعات وهذه العلوم المذكورة كبلاد السودان والصقالبة وأكثر الأمم وسكان البوادي نعم والحواضر لا يمكن البتة منذ أول العالم إلى وقتنا هذا ولا إلى انقضائه اهتداء أحد منهم إلى علم يعرفه ولا إلى صناعة لم يعرف بها فلا سبيل إلى تهديهم إليها البتة حتى يعلموها ولو كان ممكناً في الطبيعة التهدي إليها دون تعليم لوجد من ذلك في العالم على سعته وعلى مرور الأزمان من يهتدي إليها ولو واحداً وهذا أمر يقطع على أنه لا يوجد ولم يوجد وهكذا القول في العلوم ولا فرق ولسنا نعني بهذا ابتداء جمعها في الكتب لأن هذا أمر لا مؤنة فيه إنما هو كتاب ما سمعه الكاتب وإحصاؤه فقط كالكتب المؤلفة في المنطق وفي الطب وفي الهندسة وفي النجوم وفي الهيئة والنحو واللغة والشعر والعروض إنما نعني ابتداء مؤنة اللغة والكلام بها وابتداء معرفة الهيئة وتعلمها فابتداء أشخاص الأمراض وأنواعها وقوى العقاقير والمعاناة بها وابتداء معرفة الصناعات فصح بذلك أنه لابد من وحي من الله تعالى في ذلك

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا أيضاً برهان ضروري على حدوث العالم وأن له محدثاً مختاراً ولابد إذ لا بقاء للعالم البتة إلا بنشأة ومعاش ولا نشأة ولا معاش إلا بهذه الأعمال والصناعات والآلات ولا يمكن وجود شيء من هذه كلها إلا بتعليم الباري تعالى فصح أن العالم لم يكن موجوداً إذ لا سبيل إلى بقائه إلا بما ذكرنا ثم وجد معلماً مدبراً مبتدئاً بتعليمه على ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد رضي الله عنه : وإذ قد تكلمنا على أنه لابد من نبوة وصح ذلك ضرورة فلنتكلم على براهينها التي صح بها علم صدق مدعيها إذ وقعت فنقول أنه قد صح أن البارىء تعالى هو فاعل كل شيء ظهر وأنه قادر عىل إظهار كل متوهم لم يظهر وعلمنا بكل ما قدمنا أنه تعالى مرتب هذه الرتب التي في العالم ومجريها على طبائعها المعلومة منا الموجودة عندنا وأنه لا فاعل على الحقيقة غيره تعالى ثم رأينا خلافاً لهذه الرتب والطبائع قد ظهرت ووجدنا طبائع قد أحيلت وأشياء في حد الممتنع قد وجبت ووجدت كصخرة انفلقت عن ناقة وعصى انقلبت حية وميت أحياه إنسان ومئين من الناس رووا وتوضؤا كلهم من ماء يسير في قدح صغير يضيق عن بسط اليد فيه لا مادة له فعلمنا أن محل هذه الطبائع وفاعل هذه المعجزات هو الأول الذي أحدث كل شيء ووجدنا هذه القوى قد أصحبها الله تعالى رجالاً يدعون إليه ويذكرون أنه تعالى أرسلهم إلى الناس ويستشهدون به تعالى فيشهد لهم بهذه المعجزات المحدثة منه تعالى في عين رغبة هؤلاء القوم إليه فيها وضراعتهم إليه في تصديقهم بها فعلمنا علماً ضرورياً لا مجال للشك فيه أنهم مبعوثون من قبله عز وجل وأنهم صادقون فيما أخبروا به عنه تعالى إذ لا سبيل في طبيعة مخلوق في العالم إلى التحكم على البارىء ولا على طبائع خلقه بمثل هذا ووجوب النبوة إذ ظهر على مدعيها معجزة من إحالة الطبائع المخالفة لما بني عليه العالم وقد تكلمنا في غير هذا المكان على أن هذه الأشياء لها طرق توصل إلى صحة اليقين بها عند من لم يشاهدها كصحتها عند من شاهدها ولا فرق وهي نقل الكافة التي قد استشعرت العقول ببدايتها والنفوس بأول معارفها أنه لا سبيل إلى جواز الكذب ولا الوهم عليها وإن ذلك ممتنع فيها فمن تجاهل وأجاز ذلك عليها خرج عن كل معقول ولزمه أن لا يصدق أن من غاب عن بصره من الانس بأنهم أحياء ناطقون كمن شاهد وأن صورهم على حسب الصورة التي عاين ولزم أن يكون عندهم ممكناً في بعض من غاب عن بصره من الناس أن يكونوا بخلاف ما عهد من الصورة إذ لا يعرف أحدا أن كل من غاب عن حسه فإنه في مثل كيفية ما شاهد من نوعه إلا بنقل الكواف ذلك كما نقلت أن بعضهم بخلاف ذلك في بعض الكيفيات فوجب تصديق ذلك ضرورة كبلاد السودان وما أشبه ذلك ويلزم من لم يصدق خبر الكافة ويجيز فيه الكذب والوهم أن لا يصدق ضرورة بأ أحداً كان قبله في الدنيا ولا أن في الدنيا أحداً إلا من شاهد بحسه فإن جوز هذا عرف بقلبه أنه كاذب وخرج عن حدود من يتكلم معه لأن هذا الشيء لا يعرف البتة إلا من طريق الخبر لا غير فإن نفر عن هذا وأقر بأنه قد كان قبله ملوك وعلماء ووقائع وأمم وأيقن بذلك ولم يكن في كثير منها شك بل هي عنده في الصحة كما شاهد ولا فرق سئل من أين عرفت ذلك وكيف صح عندك فلا سبيل له أصلاً إلى أن يصح ذلك عنده إلا بخبر منقول نقل كافة وبالله تعالى التوفيق فنقول له حينئذ فرق بين ما نقل إليك من كل ذلك وبين كل ما نقل إليك من علامات الأنبياء ولا سبيل له إلى الفرق بين شيء من ذلك أصلاً فإن قال الفرق بينها وبينها أنه لا ينكر أحد هذه الأمور وكثير من الناس ينكرون أعلام الأنبياء قيل له وبالله تعالى التوفيق أن كثيراً من الناس لا يعرفون كثيراً مما صح عندك من الأخبار العارضة لمن كان في بلادك قبلها فليس جهلهم بها ودفعهم لها لو حدثوا بها مخرجاً لها عن الصحة وكذلك جحد من جحد إعلام الأنبياء ليس مخرجاً لها عن الوجوب والصحة فإن قال إنه ليس نجد الناس على الكذب فيما كان قبلنا من الأخبار ما نجدهم على الكذب في إعلام النبوة قيل له وبالله التوفيق هذا كذب بل الأمران سواء لا فرق بينهما ومن الملوك من يشتد عليهم وصف أسلافهم بالجور والظلم والقبائح ويحمي هذا الباب بالسيف فما دونه فما انتفعوا بذلك في كتمان الحق قد نقل ذلك كله وعرف كما نقلت فضائل من يغضب ملوك الزمان من مدحه كفضائل علي رضي الله عنه ما قدر قط ملوك بني مروان على سترها وطيها وقد رام المأمون والمعتصم والواثق على سعة ملكهم لأقطار الأرض قطع القول بأن القرآن غير مخلوق فما قدروا على ذلك وكل نبي فله عدو من الملوك والأمم يكذبونهم فما قدروا قط على طي إعلامهم ولا على تحقيق ما زادوا على ذلك لمن يغضب له من لا دين له فصح أن الأمرين سواء وأن الحق حق فإن قال قائل فلعل هذا الذي ظهرت منه المعجزات قد ظفر بطبيعة وخاصية قدر معها على إظهار ما أظهر قيل له وبالله التوفيق إن الخواص قد علمت ووجوه الحيل قد أحكمت وليس في شيءٍ منها عمل يحدث عنه اختراع جسم لم يكن كنحو ما ظهر من اختراع الماء الذي لم يكن ولا في شيء منه إحالة نوع إلى نوع آخر دفعة على الحقيقة ولا جنس إلى جنس آخر دفعه على الحقيقة وهذا كله قد ظهر على أيدي الأنبياء عليهم السلام فصح أنه من عند الله تعالى لا مدخل لعلم إنسان ولا حيلة فيه ونحن نبين إن شاء الله الفرق الواضح بين معجزات الأنبياء عليهم السلام وبين ما يقدر عليه بالسحر وبين حيل العجابيين فنقول وبالله تعالى التوفيق إن العالم كله جوهر وعرض لا سبيل إلى وجود قسم ثالث في العالم دون الله تعالى فأما الجواهر فاختراعها من ليس إلى أنس وهو من العدم إلى الوجود فممتنع غير ممكن البتة لأحد دون الله تعالى مبتدىء العالم ومخترعه فمن ظهر عليه اختراع جسم كالماء النابع من أصابع رسول الله بحضرة الجيش فهي معجزة شاهدة من الله تعالى له بصحة نبوته لا يمكن غير ذلك أصلاً ولذلك إحالة الأعراض التي هي جوهريات ذاتيات وهي الفصول التي تؤخذ من الأجناس وذلك كقلب العصا حية وحنين الجذع وإحياء الموتى الذين رموا وصاروا عظاماً والبقاء في النار ساعات لا تؤذيه وما أشبه ذلك وكذلك الأعراض التي لا تزول إلا بفساد حاملها كالفطس والرزق ونحو ذلك فهذا لا يقدر عليه أحد دون الله تعالى بوجه من الوجوه وأما إحالة الأعراض من الغيرات التي تزول بغير فساد حاملها فقد تكون بالسحر ومنه طلسمات كتنفير بعض الحيوان عن مكان ما فلا يقر به أصلاً وكإبعاد البرد ببعض الصناعات وما أشبه هذا وقد يزيد الأمر ويفشو العلم ببعض هذا النوع حتى يحسبه أكثر الناس كالطير والاصباغ وما أشبه هذا وأما التخييل نوع من الخديعة كسكين مثقوبة النصاب تدخل فيها السكين ويظن من رآها أنها دخلت في جسد المضروب بها في حيل غير هذه من حيل أرباب العجائب والحلاج وأشباهه فأمر يقدر عليه من تعلمه وتعلمه ممكن لكل من أراده فالذي يأتي به الأنبياء عليهم السلام هو إحالة الذاتيات ومن ذلك صرف الحواس على طبائعها كمن أراك ما لا يراه غيرك أو مسح يده على مريض فأفاق أو سقاه ما يضر علته فبرىء أو أخبر عن الغيوب في الجزئيات عن غير تعديل ولا فكرة فهذه كلها إحالة الذاتيات وما ثبت إذ ثباتها لا يكون إلا لنبي فإذ قد تكلمنا على مكان النبوة قبل مجيئها ووجوبها حين وجودها فلنتكلم الآن بحول الله وقوته على امتناعها بعد ذلك فنقول وبالله تعالى التوفيق إذ قد صح كل ما ذكرنا من المعجزات الظاهرة من الأنبياء عليهم السلام شهادة من الله تعالى لهم يصدق بها أقوالهم فقد وجب علينا الانقياد لما أتوا به ولزمنا تيقن كل ما قالوا وقد صح عن رسول الله بنقل الكواف التي نقلت نبوته واعلامه وكتابه أنه أخبر أنه لا نبي بعده إلا ما جاءت الأخبار الصحاح من نزول عيسى عليه السلام الذي بعث إلى بني إسرائيل وادعى اليهود قتله وصلبه فوجب الإقرار بهذه الجملة وصح أن وجود النبوة بعده عليه السلام باطل لا يكون البتة وبهذا يبطل أيضاً قول من قال بتواتر الرسل ووجوب ذلك أبداً وبكل ما قدمناه مما أبطلنا به قول من قال بامتناعهما البتة إذ عمدة حجة هؤلاء هي قولهم إن الله حكيم والحكيم لا يجوز في حكمته أن يترك عباده هملاً دون إنذار

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد أحكمنا بحول الله تعالى وقوته قبل هذا إن الله تعالى لا شرط عليه ولا علة موجبة عليه أن يفعل شيئاً ولا أن لا يفعله وأنه تعالى لو أهمل الناس لكان حقاً وحسناً لو خلقهم كما خلق سائر الحيوان الذي لم يلزمه شريعة ولا خطر عليه شيءٌ وأنه تعالى لو واتر الرسل والنذارة أبداً لكان حقاً وحسناً لما فعل بالملائكة الذين هم حملة وحيه ورسله أبداً وأنه تعالى لو خلق الخلق كفاراً كلهم لكان ذلك منه حقاً وحسناً أو لو خلقهم مؤمنين كلهم لكان حقاً وحسناً كما أن الذي فعل تعالى من كل ذلك حق وحسن وأنه لا يقبح شيء إلا من مأمور منهي قد تقدمت الأوامر وجوده وسبقت الحدود المترتبة للأشياء كونه وأما من سبق كل ذلك فله أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء لا معقب لحكمه وأما الملائكة فكل من له معرفة ببنية العالم والأفلاك والعناصر فإنه يعلم أن الأرض وعمقها أقرب إلى الفساد من سائر العناصر ومن سائر الأجرام العلوية وأنها مواتية كلها وأن الحياة إنما هي في النفوس المنزلة قسراً إلى مجاورة أجساد الترابية المواتية من جميع الحيوان فقد ثبت يقيناً بضرورة المشاهدة أن محل الحياة وعنصرها ومعدنها وموضعها إنما هو هنالك من حيث جاءت النفوس الحية الناقصة بما فيه طبعها من مجاورة هذه الأجساد والتثبت بها عن كمال ما خص بالحياة الدائمة ولم يشن ولا نقص فضله وصفاؤه بمجاورة الأجساد الكدرة المملوءة آفات ودرناً وعيوباً فصح أن العلو الصافي هو محل الأحياء الفاصلين السالمين من كل رذيلة ومن كل نقص ومن كل مزاج فاسد المحبوين بكل فضيلة في الخلق وهذه صفة الملائكة عليهم السلام وصح بهذا أن على قدر سعة ذلك المكان يكون كثرة من فيه من أهله وعماره وأنه لا نسبة لما في هذا المحل الضيق والنقطة الكدراء ومما هنالك كما لا نسبة لمقدار هذا المكان من ذلك وبهذا صحت الرواية وهكذا أخبر رسول الله عن كثرة الملائكة في الأخبار المسندة الثابتة عنه وبهذا وجب أن يكونوا هم الرسل والوسائط بين الأول تعالى الذي خصهم بالنبوة والرسالة وتعليم العلوم وبين إنقاذ النفوس من الهلكة

قال أبو محمد رضي الله عنه : ذهب أحمد بن حابط وكان من أهل البصرة من تلاميذ إبراهيم النظام يظهر الاعتزال وما نراه إلا كافراً لا مؤمناً وإنما استخرنا إخراجه عن الإسلام لأن أصحابه حكوا عنه وجوهاً من الكفر منها التناسخ والطعن على رسول الله بالنكاح وكان من قوله أن الله عز وجل نبأ أنبياء من كل نوع من أنواع الحيوان حتى البق والبراغيث والقمل وحجته في ذلك قول الله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم ذكروا قوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله عز وجل يقول لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وإنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها قال الله تعالى يا أولي الألباب وقد علمنا بضرورة الحس أن الله تعالى إنما خص بالنطق الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه والتصرف في الصناعات على اختلافها الإنسان خاصة وأضفنا إليهم بالخبر الصادق مجرد الجن وأضفنا إليهم بالخبر الصادق وببراهين ضرورية الملائكة وإنما شارك من ذكرنا سائر الحيوان في الحياة خاصة وهي الحس والحركة الإرادية فعلمنا بضرورة العقل أن الله تعالى لا يخاطب بالشرائع إلا من يعقلها ويعرف المراد بها وبقوله تعالى لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ووجدنا جميع الحيوان حاشا الناس يجري على رتبة واحدة في تصرفها في معايشها وتناسلها لا يجتنب منها واحد شيئاً بفعله غيره هذا الذي يدرك حساً فيما يعاشر الناس في منازلهم من المواشي والخيل والبغال والحمير والطير وغير ذلك وليس الناس في أحوالهم كذلك فصح أن البهائم غير مخاطبة بالشرائع وبطل قول ابن حابط وصح أن معنى قول الله تعالى أمم أمثالكم أي أنواع أمثالكم إذ كل نوع يسمى أمة وإن معنى قوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير إنما عنى تعالى الأمم من الناس وهم القبائل والطوائف ومن الجن لصحة وجوب العبادة عليهم فإن قال قائل فما يدريك لعل سائر الحيوان له نطق وتمييز قيل له وبالله التوفيق بقضية العقول وبديهها عرفنا الأشياء على ما هي عليه وبها عرفنا الله تعالى وصحة النبوة وهي التي لا يصح شيء إلا بموجبها فما عرف بالعقل فهو واجب فيما بيننا نريد في الوجود في العالم وما عرف بالعقل أنه محال فهو محال في العالم وما وجد بالعقل إمكانه فجائز أن يوجد وجائز أن لا يوجد وبضرورة العقل والحس علمنا أن كل واقعين تحت جنس فإن ذلك الجنس يعطيهما اسمه وحده عطاء مستوياً فلما كان جنس الحي يجمعنا مع سائر الحيوان استوينا معها كلها استواء لا تفاضل فيه فيما اقتضاه اسم الحياة من الحس والحركة الإرادية وهذان المعنيان هما الحياة لا حياة غيرهما أصلاً وعلمنا ذلك بالمشاهدة لأننا رأينا الحيوان يألم بالضرب والنخس ويحدث لهما من الصوت والقلق ما يحقق ألمها كما نفعل نحن ولا فرق ولذلك لما شاركنا والحيوان جميع الشجر والنبات في النماء استوى جميع الحيوان فيما اقتضاه اسم النمو من طلب الغذاء واستحالته في المتغذى به إلى نوعه ومن طلب بقاء النوع مع جميع الشجر والنبات استواءً واحداً لا تفاضل فيه ولما شاركنا وجميع الحيوان والشجر والنبات وسائر الجمادات في أن كل ذلك أجسام طويلة عريضة عميقة جميع الأجرام استوى كل ذلك فيما اقتضاه له اسم الجسمية في ذلك استواءً لا تفاضل فيه ولم يدخل ما لم يشارك شيئاً مما ذكرنا في الصفة التي انفرد بها عنه هذا كله يعلمه ضرورة من وقف عليه ممن له حس سليم فلما كان النطق الذي هو في العلوم والصناعات قد خصنا دون سائر الحيوان وجب ضرورة أن لا يشاركنا شيء من الحيوان في شيء منه إذ لو كان فيه شيءٌ منه لما كنا أحق بكله من سائر الحيوان كما أنا لسنا بالحياة أحق منها ولا بالنمو ولا بالحركة ولا بالجسمية فصح بهذا أنه لا نطق لها أصلاً فإن قال قائل لعل نطقها بخلاف نطقنا قيل له وبالله التوفيق لا يتشكل في العقول ألبتة حياة على غير صفة الحياة عندنا ولا نماء على غير صفة النماء عندنا ولا حمرة على غير الحمرة عندنا ولا جسم على خلاف الأجسام عندنا وهكذا في كل شيء ولو كان شيء بخلاف ما عندنا لم يقع عليه ذلك الاسم أصلاً وكان كمن سمى الماء ناراً والعسل حجراً وهذا هو الحمق والتخليط فبالضرورة وجب أن كل صفة هي بخلاف نطقنا فليس نطقاً والنطق عندنا هو التصرف في العلوم والصناعات ومعرفة الأشياء على ما هي عليه فلو كان ذلك النطق بخلاف هذا لكان ليس معرفة للأشياء على ما هي عليه ولاتصرفاً في العلوم والصناعات فهو إذاً ليس نطقاً فبطل هذا الشغب السخف والحمد لله رب العالمين.

فإن اعترض معترض بفعل النحل ونسيج العنكبوت قيل له وبالله التوفيق إن هذه طبيعة ضرورية لأن العنكبوت لا يتصرف في غير تلك الصفة من النسج ولا توجد أبداً إلا لذلك وأما الإنسان فإنه يتصرف في عمل الديباج والوشي والقباطي وأنواع الأصباغ والدباغ والخرط والنقش وسائر الصناعات من الحرث والحصاد والطحن والطبخ والبناء والتجارات وفي أنواع العلوم من النجوم ومن الأغاني والطب والقبل والجبر والعبارة والعبادة وغير ذلك ولا سبيل لشيء من الحيوان إلى التصرف في غير الشيء الذي اقتضاه له طبعه ولا مفارقة تلك الكيفية فإن اعترض معترض بقول الله تعالى علمنا منطق الطير وبما ذكر الله تعالى من قول النملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم الآية وقصة الهدهد قيل له وبالله تعالى التوفيق لم ندفع أن يكون للحيوان أصوات عند معاناة ما تقتضيه له الحياة من طلب الغذاء وعند الألم وعند المضاربة وطلب السفاد ودعاء أولادها وما أشبه ذلك فهذا هو الذي علمه الله تعالى سليمان رسوله عليه السلام وهذا الذي يوجد في أكثر الحيوان وليس هذا من تمييز دقائق العلوم والكلام فيها ولا من عمل وجوه الصناعات كلها في شيء وإنما عنى الله تعالى بمنطق الطير أصواتها التي ذكرنا لا تمييز العلوم والتصرف في الصناعات الذي من ادعاه لها أكذبه العيان والله تعالى لا يقول إلا الحق وأما قصة النملة والهدهد فهما معجزتان خاصتان لذلك النمل وكذلك الهدهد وآيتان لسليمان رسول الله ككلام الذراع وحنين الجذع وتسبيح الطعام لمحمد آيات لنبوته عليه السلام وكذلك حياة حصا موسى عليه السلام آية لرسول الله موسى عليه السلام لأن هذا النطق شامل لأنواع هذه الأشياء

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد قاد السخف والضعف والجهل من يقدر في نفسه أنه عالم وهو المعروف بخويز منداد المالكي إلى أن جعل للجمادات تمييزاً

قال أبو محمد رضي الله عنه : ولعل معترضاً يعترض بقول الله تعالى وإن من شيء غلا يسبح بحمده وبقوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان الآية وبقوله تعالى حاكياً أنه قال للسموات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين وبقول رسول الله يوم يقتص للشاه الجماء من الشاة القرناء فهذا كله حق ولا حجة لهم فيه والحمد لله رب العالمين لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره كذلك كلام رسول الله ومن خالف ذلك كان عاصياً لله عز وجل مبدلاً لكلماته ما لم يأت نص في أحدها أو إجماع متيقن أو ضرورة حس على خلاف ظاهره فيوقف عند ذلك ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسباً الكذب إلى الله عز وجل أو كاذباً عليه وعلى نبيه عليه السلام نعوذ بالله من كلا الوجهين وإذ قال بينا قبل بالبراهين الضرورية أن الحيوان غير الإنس والجن والملائكة لا نطق له نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات وكان هذا القول مشاهداً بالحس معلوماً بالضرورة لا ينكره إلا وقح مكابر لحسه وبينا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا فإنه ليس تمييزاً وكان هذا أيضاً يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة فوجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها وأما معانيها فمختلفة لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا لأنه إن فعل كان مخبراً أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى ولولاه ما عرفناه ومن أجاز هذا كان كافراً مشركاً ومن أبطل العقل فقد أبطل التوحيد إذ كذب شاهده عليه إذ لولا العقل لم يعرف الله عز وجل أحد ألا ترى المجانين والأطفال لا يلزمهم شريعة لعدم عقولهم ومن جوز هذا فلا ينكر على النصارى ما يأتون به من خلاف المعقول ولا على الدهرية ولا على السوفسطائية ما يخالفون به المعقول لكنا نقول أن اللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه كما فعلنا في النزول وفي الوجه واليدين والأعين وحملنا كل ذلك على أنه حق بخلاف ما يقع عليه اسم ينزل عندنا واسم يد وعين عندنا لأن هذا عندنا في اللغة واقع على الجوارح والنقلة وهذا منفي عن الله تعالى فإذ لا شك في هذا فلنقل الآن على معاني الآيات التي ذركنا أنه ربما اعترض بها من لا يمعن النظر بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق أما تسبيح كل شيء فالتسبيح عندنا إنما هو قول سبحان الله وبحمده وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوام والحشرات والألوان لا تقول سبحان الله بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل فإذ لا شك في هذا فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء فإذ قد صح هذا فإن كل شيء في العالم بلا شك منزه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث وليس في العالم شيء إلا وهو دال بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعاً لا يشبه على أن الله تعالى منزه عن كل سوء ونقص وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس كما قال تعالى ولكن لا تفقهون تسبيحهم فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك وهذا المعنى حق لا ينكره موحد فإن كان قولنا هذا متفقاً على صحته وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه الكاذب وأيضاً فإن الله تعالى يقول وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم والكافر الدهري شيء لا يشك في أنه شيءٌ وهو لا يسبح بحمد الله تعالى ألبتة فصح ضرورة أن الكافر يسبح إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى وأن تسبيحه ليس هو قوله سبحان الله وبحمده بلا شك ولكنه تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبهاً لشيء مما خلق وهذا يقين لا شك فيه فصح بما ذكرنا أن لفظة التسبيح هي من الأسماء المشتركة وهي التي تقع على نوعين فصاعداً وأما السجود الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً فقد علمنا أن السجود المعهود عندنا في الشريعة واللغة هو وضع الجبهة واليدين والركبتين والرجلين والأنف في الأرض بنية التقرب بذلك إلى الله تعالى هذا ما لا يشك فيه مسلم وكذلك نعلم ضرورة لاشك فيها أن الحمير والهوام والخشب والحشيش والكفار لا تفعل ذلك لاسيما من ليس له هذه الأعضاء وقد نص تعالى على صحة ما قلنا وأخبر تعالى أن في الناس من لا يسجد له السجود المعهود عندنا بقوله تعالى واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار لا يسأمون فأخبر تعالى أن في الناس من يستكبر عن السجود له فلا يسجد وقال تعالى ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً فبين تعالى أن السجود كرهاً غير السجود بالطوع الذي هو السجود المعهود عندنا وإذ قد أخبر الله تعالى بهذا وصح أيضاً بالعيان فقد علمنا بالضرورة أن السجود الذي أخبر الله تعالى أنه يسجد له من في السموات والأرض هو غير السجود الذي يفعله المؤمنون طوعاً ويستكبر عنه بعض الناس ويمتنع منه أكثر الخلق هذا مما لا يشك فيه مسلم فإ هذا كذلك بلا شك فواجب علينا أن نطلب معنى هذا السجود ما هو ففعلنا فوجدناه مبيناً بلا إشكال في آيتين من كتاب الله وهما قوله تعالى وظلالهم بالغدو والآصال وقوله تعالى أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون فبين تعالى في هاتين الآيتين بياناً لا إشكال فيه أن ميل الفيء والظل بالغدوات والعشيات من كل ذي ظل هو معنى السجود المذكور في الآية لا السجود المعهود عندنا وصح بهذا أن لفظة السجود هي من الأسماء المشتركة التي تقع على نوعين فأكثر وأما قوله تعالى قالتا أتينا طائعين فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر والحلق والحنك واللسان والشفتين والأضراس بهواءٍ يصل إلى أذن السامع فيفهم به مرادات القائل فإذ لا شك في هذا فكل من لا لسان له ولا شفتين ولا أضراس ولا حنك ولا حلق فلا يكون منه القول المعهود منا هذا مما لا يشك فيه ذو عقل فإذ هذا هكذا كما قلنا بالعيان فكل قول ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته فإنه ليس هو القول المعهود عندنا لكنه معنى آخر فإذ هذا كما ذكرنا فبالضرورة قد صح أن معنى قوله تعالى قالتا أتينا طائعين إنما هو على نفاذ حكمه عز وجل فيهما وتصريفه لهما وأما عرضه تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال وإباية كل واحد منها فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك وهذا نص قوله تعالى ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق وأن له مبدئاً لا يشبهه البتة فأراد معرفة كيف كان فقد دخل في قوله تعالى وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السموات والأرض والجبال الأمانة إلا وقد جعل فيها تمييزاً لما عرض عليها وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها فلما أبتها وأشفقت منها سلبها ذلك التمييز وتلك القوة وأسقط عنها تكليف الأمانة هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل ولا مزيد عندنا على ذلك وأما ما كان بعد ابتداء الخلق فمعروف الكيفيات قال تعالى وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته فصح أنه لا تبديل لما رتبه الله تعالى مما أجرى عليه خلائقه حاشا ما أحال فيه الرتب والطبائع للأنبياء عليهم السلام فإن اعترضوا أيضاً بقول الله تعالى يصف الحجارة وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبي قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً فإذ لاشك في هذا فإن في قوله تعالى وإن منها لما يهبط راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة الآية فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوماً ما فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى وهذا أمر يشاهد بالعيان فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ويخشى العاصي وقد أخبر عز وجل أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم وكما أخبر تعالى أن من الأعراب من يؤمن بالله من بعد أن أخبر تعالى أن الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة.

والوجه الثاني أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره كما قلنا في قوله تعالى عز وجل حاكياً عن السماء والأرض قالتا أتينا طائعين وقد بين جل وعز ذلك موصولاً بهذا اللفظ فقال جل وعز فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها فبين الله تعالى بياناً رفع كل إشكال أن تلك الطاعة من السموات والأرض إنما هي تصرفه لها وقضاؤه تعالى إياهن سبع سموات ووحيه في كل سماءٍ أمرها فصح قولنا نصاً جلياً ببيان الله تعالى لذلك والحمد لله رب العالمين وصح بهذا أن إباية السموات والأرض والجبال من قبول الأمانة إنما هو لما ركبها الله تعالى عليه من الجمادية وعدم التمييز وقد علم كل ذي عقل امتناع قبول ما هذه صفته للشرائع والأوامر والنواهي وقد ذم الله تعالى من ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ولا يحل لمسلم أن ينسب إلى الله تعالى فعلاً ذمه.

والوجه الثالث أن يكون الله تعالى عنى بقوله وإن منها لما يهبط من خشية الله الجبل الذي صار دكاً إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة ويكون يهبط بمعنى هبط كما قال الله عز وجل وإذ يمكر بك الذين كفروا ومعناه بلا شك وإذ مكر وبين قوله تعالى مصدقاً إبراهيم خليله في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر وبقوله تعالى واتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون

قال أبو محمد رضي الله عنه : فصح بهذا صحة لا مجال للشك فيها أن الحجارة لا تعقل لأنها هي التي كانوا يعبدون مما لا يعقل وأما سائر ما كانوا يعبدون من الملائكة والمسيح وأمه عليهما السلام ومن الجن فكل هؤلاء عاقلون مميزون فلم يبق إلا الحجارة فصح بالنص أنها لا تعقل وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة وبالمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية المعهود كل ذلك عندنا وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.

وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان والكعبة كذلك وإن الجبال تطاولة وخشع جبل كذا فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف لا يصح شيء منها من طريق الإسناد أصلاً ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئاً منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث أو ما يستجاز روايته

مما قال أبو محمد رضي الله عنه : وكل من يخالفنا في هذا فإنه إذا أقر لنا أن القول المذكور في الآيات التي تلونا والسجود والتسبيح والخشية ليس شيء منه على الصفة المعهودة بيننا فقد وافقنا أحب أو كره وهم كلهم مقرون بذلك وقد جاء ذلك في أشعار العرب قال الشاعر شكى إلي جملي طول السرى وقال آخر فقالت له العينان سمعاً وطاعةً وقال الراعي قلق الفؤوس إذا أردن نصولا ومن هذا الباب قوله تعالى جداراً يريد أن ينقض وهذا بلا شك غير الإرادة المعهودة من الحيوان فصح قولنا بالنص والضرورة والحمد لله رب العالمين وأما قول رسول الله يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء فقد قال الله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحية إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون وقال تعالى وإذا الوحوش حشرت فصح أنها تحشر بلا شك ويسلط الله تعالى ما يشاء من خلقه على ما يشاء فإذا سلط القرناء على الجماء في الدنيا فله تعالى أن يسلط الجماء على القرناء في الآخرة يوم القيامة ولم يأت نص ولا إجماع ولا دليل عقل ولا دليل عقل ولا دليل خبر على أن المواشي متعبدة بشريعة وهذا مما نقر به ونقول يفعل الله ما يشاء ولا علم لنا إلا ما علمنا وبالله تعالى التوفيق

الرد على من زعم أن الأنبياء ليسوا أنبياء اليوم

ولا الرسل اليوم رسلاً

قال أبو محمد رضي الله عنه : حديث فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ليس هو الآن رسول الله ولكنه كان رسول الله وهذا قول ذهب إليه الأشعرية.

وأخبرني سليمان بن خلف الباجي وهو من مقدميهم اليوم أن محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني على هذه المسئلة قتله بالسم محمود ابن سبكتكين صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمه الله

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالى ولرسوله ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام مذ كان الإسلام إلى يوم القيامة وإنما حملهم على هذا قولهم الفاسد أن الروح عرض والعرض يفنى أبداً ويحدث ولا يبقى وقتين فروح النبي عندهم قد فنيت وبطلت ولا روح له الآن عند الله تعالى وأما جسده ففي قبره موات فبطلت نبوته بذلك ورسالته

قال أبو محمد رضي الله عنه : ونعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا ترداد فيه ويكفي من بطلان هذا القول الفاحش الفظيع أنه مخالف لما أمر الله عز وجل به ورسوله واتفق عليه جميع أهل الإسلام من كل فرقة وكل نحلة من الأذان في الصوامع كل يوم خمس مرات في كل قرية من شرق الأرض إلى غربها بأعلى أصواتهم قد قرنه الله تعالى بذكره أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله فعلى قول هؤلاء الموكلين إلى أنفسهم يكون الآذان كذباً ويكون من أمر به كاذباً وإنما كان يجب أن يكون الأذان على قولهم أشهد أن محمداً كان رسول الله وإلا فمن أخبر عن شيء كان وبطل أنه كائن الآن فهو كاذب فالأذان كذب على قولهم وهذا كفر مجرد وكذلك ما اتفق عليه جميع أهل الإسلام بلا خلاف من أحد منهم من تلقين موتاهم لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنه باطل على قول هؤلاء وكذلك ما عمل به رسول الله مدة قتاله الأمة وأمره عن الله عز وجل بأن يعمل به بعده أبداً وأجمع على القول به والعمل جميع أهل الإسلام من أول الإسلام إلى آخره ومن شرق الأرض إلى غربها إنسهم وجنهم بيقين مقطوع به دون مخالف فيما تخرج به الدماء من التحليل إلى التحريم أو إلى الحقن بالجزية من أن يعرض على أهل الكفر أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فيجب على قول هؤلاء المحرومين أن هذا باطل وكذب وإنما كان يجب أن يكلفوا أن يقولوا محمد كان رسول الله وكذلك قوله تعالى ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكذلك قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم وقوله تعالى وجيء بالنبيين والشهداء فسماهم الله رسلاً وقد ماتوا وسماهم نبيين ورسلاً وهم في القيامة وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء به النص من قول كل مصل فرضاً أو نافلة السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فلو لم يكن روحه عليه السلام موجوداً قائماً لكان السلام على العدم هدراً.

فإن قالوا كيف يكون ميتاً رسول الله وإنما الرسول هو الذي يخاطب عن الله بالرسالة قيل لهم نعم يكون من أرسله الله تعالى مرة واحدة فقط رسولاً لله تعالى أبداً لأنه حاصل على مرتبة جلالة لا يحطه عنها شيء أبداً ولا يسقط عنه هذا الاسم أبداً ولو كان ما قلتم لوجب أن لا يكون رسول الله رسولاً إلى أهل اليمن في حياته لأنه لم يكلمهم ولا شافههم ويلزم أيضاً أن لا يكون رسول الله إلا ما دام يكلم الناس فإذا سكت أو أكل أو نام أو جامع لم يكن رسول الله وهذا حمق مشوب بكفر وخلاف للإجماع المتيقن ونعوذ بالله من الخذلان وأيضاً فإن خبر الإسراء الذي ذكره الله عز وجل في القرآن وهو منقول نقل التواتر وأحد أعلام النبوة ذكر فيه رسول الله أنه رأى الأنبياء عليهم السلام في سماءٍ سماء فهل رأى إلا أرواحهم التي هي أنفسهم ومن كذب بهذا أو بعضه فقد انسلخ عن الإسلام بلا شك ونعوذ بالله من الخذلان وهذه براهين لا محيد عنها وقد صح عن رسول الله أنه أخبر أن لله ملائكة يبلغونه منا السلام وأنه من رآه في النوم فقد رآه حقاً ولقد بلغني عن بعضهم أنهم يقولون أن أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن لسن الآن أمهات المؤمنين لكنهن كن أمهات المؤمنين

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا ضلال بحت وحماقة محضة ولو كان هذا لوجب أن لا تكون أم المرء الذي ولدته وأبوه الذي ولده أباه ولا أمه إلا في حين الولادة والحمل من الأم فقط وفي حين الإنزال من الأب فقط لا بعد ذلك وهذا من السخف الذي لا يرضى به لنفسه ذو مسكة فإن قالوا أتقولون أن عمر أمير المؤمنين اليوم أو عثمان أيضاً كذلك قلنا لهم لا وهذا إجماع لأنه لا يكون أمير إلا من الائتمار لأمره واجب وليس هذا لأحد بعد موته إلا للنبي وإنما هو لخليفة بعد خليفة طول حياته فقط فبطل أن يكون لهم فيها متعلق

قال أبو محمد رضي الله عنه : افترق القائلون بتناسخ الأرواح على فرقتين فذهبت الفرقة الواحدة إلى أن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخر وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت وهذا قول أحمد بن حابط وأحمد بن نانوس تلميذه وأبي مسلم الخراساني ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب صرح بذلك في كتابه الموسوم بالعلم الإلهي وهو قول القرامطة وقال الرازي في بعض كتبه لولا أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح عن الأجساد المتصورة بالصور البهيمية إلى الأجساد المتصورة بصور الإنسان إلا بالقتل والذبح لما جاز ذبح شيء من الحيوان ألبتة

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذه كما ترى دعاوي وخرافات بلا دليل وذهب هؤلاء إلى أن التناسخ إنما هو على سبيل العقاب والثواب قالوا فالفاسق المسيء الأعمال تنتقل روحه إلى أجساد البهائم الخبيثة المرتطمة في الأقذار والمسخرة المؤلمة الممتهنة بالذبح واختلفوا في الذي كانت أفاعيله كلها شراً لا خير فيها فقال بعضهم أرواح هذه الطبقة هي الشياطين وقال أحمد بن حابط أنها تنتقل إلى جهنم فتعذب بالنار أبد الأبد واختلفوا في الذي كانت أفاعيله كلها خيراً لا شر فيها فقال بعضهم أرواح هذه الطبقة هي الملائكة وقال أحمد بن حابط إنها لاشك أنها تنتقل إلى الجنة فتنعم فيها أبد الأبد واحتجت هذه الطائفة المرتسمة بالإسلام أعني أحمد بن حابط وأ مد بن نانوس بقول الله تعالى يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك وبقوله تعالى جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه واحتج من هذه الطائفة من لا يقول بالإسلام بأن قالوا إن النفس لا تتناهى والعالم لا يتناهى لأمد فالنفس منتقلة أبداً وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير نوعها

قال أبو محمد رضي الله عنه : وذهبت الفرقة الثانية إلى أن منعت من انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت وليس من هذه الفرقة أحد يقول بشيءٍ من الشرائع وهم من الدهرية وحجتهم هي حجة الطائفة التي ذكرنا قبلها القائلة أنه لا تناهي للعالم فوجب أن تتردد النفس في الأجساد أبداً قالوا ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي أوجب لها طبعها الإشراف عليه وتعلقها به

قال أبو محمد رضي الله عنه : أما الفرقة المرتسمة باسم الإسلام فيكفي من الرد عليهم إجماع جميع أهل الإسلام على تكفيرهم وعلى أن من قال بقولهم فإنه على غير الإسلام وأن النبي أتى بغير هذا وبما المسلمون مجمعون عليه من أن الجزاء لا يقع إلا بعد فراق الأجساد للأرواح بالنكر أو التنعيم قبل يوم القيامة ثم بالجنة أو بالنار في موقف الحشر فقط إذا جمع أجسادها مع أرواحها التي كانت فيها.

وأما احتجاجهم بالآيتين فكفى من بطلان قولهم أيضاً ما ذكرناه من الإجماع وأن الأمة كلها مجمعون بلا خلاف على أن المراد بهاتين الآيتين غير ما ذكر هؤلاء الملحدون وأن المراد بقوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك أنها الصورة التي رتب الإنسان عليها من طول أو قصر أو حسن أو قبح أو بياض أو سواد وما أشبه ذلك وأما الآية الأخرى فإن معناها أن الله تعالى امتن علينا في أن خلق لنا من أنفسنا أزواجاً نتولد منها ثم امتن علينا بأن خلق لنا من الأنعام ثمانية أزواج ثم أخبر تعالى أنه يذرؤنا في هذه الأزواج يعني التي هي من أنفسنا فتبين ذلك بياناً ظاهراً لا خفاء به أن الله تعالى أخبرنا في هذه الآية نفسها أن الأزواج المخلوقة لنا إنما هي من أنفسنا ثم فرق بين أنفسنا وبين الأنعام فلا سبيل إلى أن يكون لنا أزواج نتولد فيها من غير أنفسنا ويكفي من هذا أن قولهم إنما هو دعوى بلا برهان وإنما رتبوه على أصلهم في العدل فأخرجوا هذا الوجه لما شاهدوه من إيلام الحيوان وكل قول لم يوجبه برهان فهو باطل ولم يأت هذا القول قط على أحد من الأنبياء وهؤلاء القوم مقرون بالأنبياء عليهم السلام فلاح يقيناً فساد قولهم.

وأما الفرقة الثانية القائلة بالدهر فإننا نقول وبالله التوفيق.

إنه يكفي من فساد قولهم هذا أنه دعوى بلا برهان لا عقلي ولا حسي وما كان هكذا فهو باطل بيقين لا شك فيه لكننا لا نقنع بهذا بل نبين عليهم بياناً لائحاً ضرورياً بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله تعالى نستعين إن الله تعالى خلق الأنواع والأجناس ورتب الأنواع تحت الأجناس وفصل كل نوع من النوع الآخر بفصله الخاص له الذي لا يشاركه فيه غيره وهذه الفصول المذكورة لأنواع الحيوان إنما هي لأنفسها التي هي أرواحها فنفس الإنسان حية ناطقة ونفس الحيوان حية غير ناطقة هذا هو طبيعة كل نفس وجوهرها الذي لا يمكن استحالته عنه فلا سبيل إلى أن يصير غير الناطق ناطقاً ولا الناطق غير ناطق ولو جاز هذا لبطلت المشاهدات وما أوجبه الحس وبديهة العقل والضرورة لانقسام الأشياء على حدودها.

وأما الفرقة الثالثة.

التي قالت أن الأرواح تنتقل إلى أجساد نوعها فيبطل قولهم بحول الله تعالى وقوته بطلاناً ضرورياً بكل ما كتبناه في إثبات حدوث العالم ووجوب الابتداء له والنهاية من أوله وبما كتبناه في إثبات النبوة وإن جميع النبوات وردت بخلاف قولهم وببرهان ضروري عليهم وهو أنه ليس في العالم كله شيئان يشتبهان بجميع أعراضهما اشتباهاً تاماً من كل وجه يعلم هذا من تدبر اختلاف الصور واختلاف الهيآت وتباين الأخلاق وإنما يقال هذا الشيء يشبه هذا على معنى أن ذلك في أكثر أحوالهما لا في كلها ولو لم يكن ما قلنا ما فرق أحد بينهما ألبتة وقد علمنا بالمشاهدة أن كل من يتكرر عليه ذلك الشيآن المشتبهان تكرراً كثيراً متصلاً أنه لابد أن يفصل بينهما وأن يميز أحدهما من الثاني وأن يجد في كل واحد منهما أشياء بان بها عن الآخر لا يشبهه فيها فصح بهذا أنه لا سبيل إلى وجود شخصين يتفقان في أخلاقهما كلها حتى لا يكون بينهما فرق في شيء منها وقد علمنا بيقين أن الأخلاق محمولة في النفس فصح بهذا أن نفس كل ذي نفس من الأجساد من أي نوع كانت غير النفس التي في غيره من الأجساد كلها ضرورة وقال أيضاً بعض من ذهب إلى التناسخ من الحاملين ذلك على سبيل الجزاء أن الله تعالى عدل حكيم رحيم كريم فإذ هو كذلك فمحال أن يعذب من لا ذنب له قال فلما وجدناه تعالى يقطع أجسام الصبيان الذين لا ذنب لهم بالجدري والقروح ويأمر بذبح بعض الحيوان الذي لا ذنب له وبطبخه وأكله ويسلط بعضها على بعض فيقطعه ويأكله ولا ذنب له علمنا أنه تعالى لم يفعل ذلك إلا وقد كانت الأرواح عصاة مستحقة للعقاب بكسب هذه الأجساد لتعذب فيها

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد تكلمنا على إبطال هذا الأصل الفاسد في غير هذا المكان في باب الكلام على البراهمة في كتابنا هذا بما يكفي وقد رددنا الكلام أيضاً في بيان بطلانه في غير ما موضع من كتابنا وفي باب الكلام على من أبطل القدر من المعتزلة في كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين.

ويكفي من بطلان هذا الأصل الفاسد أن يقال لهم إن طردتم هذا الأصل وقعتم في مثل ما أنكرتم ولا فرق وهوان الحكيم العدل الرحيم على أصلكم لا يخلق من يعرضه للمعصية حتى يحتاج إلى إفساده بالعذاب بعد إصلاحه وقد كان قادراً على أن يطهر كل نفس خلقها ولا يعرضها للفتن ويلطف بها ألطافاً فيصلحها بها حتى تستحق كلها إحسانه والخلود في النعيم وما كان ذلك ينقص شيئاً من ملكه فإن كان عاجزاً عن ذلك فهذه صفة نقص ويلزم حاملها أن يكون من أجل نقصه محدثاً مخلوقاً فإن طردوا هذا الأصل خرجوا إلى قول المانوية في أن للأشياء فلاعلين وقد تقدم إبطالنا لقولهم وبالله تعالى التوفيق وبينا أن الذي لا آمر فوقه ولا مرتب عليه فإن كل ما يفعله فهو حق وحكمة وإذ قد تعلق هؤلاء القوم بالشريعة فحكم الشريعة أن كل قول لم يأت عن نبي تلك الشريعة فهو كذب وفرية فإذ لم يأت عن أحد من الأنبياء عليهم السلام القول بتناسخ الأرواح فقد صار قولهم به خرافة وكذباً وباطلاً وبالله تعالى التوفيق

فصل في الكلام على من أنكر الشرائع من المنتمين إلى الفلسفة بزعمهم وهم أبعد الناس عن العلم بها جملة

قال أبو محمد رضي الله عنه : نبين في هذا الفصل بحول الله تعالى وقوته وجوب صحة الشرائع على ما توجبه أصول الفلاسفة على الحقيقة أولهم عن آخرهم على اختلاف أقوالهم في غير ذلك إن شاء الله تعالى

قال أبو محمد رضي الله عنه : الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها ليس هو شيئاً غير إصلاح النفس بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد وحسن السياسة للمنزل والرعية وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالفلسفة ولا بين أحد من العلماء بالشريعة فيقال لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه وهو ينكر الشريعة بجهله على الحقيقة بمعاني الفلسفة وبعده عن الوقوف على غرضها ومعناها أليست الفلسفة بإجماع من الفلاسفة مبينة للفضائل من الرذائل موقفة على البراهين المفرقة بين الحق والباطل فلا بد من نعم ضرورة فيقال له أليس الفلاسفة كلهم قد قالوا صلاح العالم بشيئين أحدهما باطن والآخر ظاهر فالباطن هو استعمال النفس للشرائع الزاجرة عن تظالم الناس وعن القبائح والظاهر هو التحصين بالأسوار واتخاذ السلاح لدفع العدو الذي يريد ظلم الناس والإفساد ثم أضافوا إلى إصلاح النفوس بما ذكرنا إصلاح الأجساد بالطب فلابد من نعم ضرورة فيقال لهم فهل صلاح العالم وانكفاف الناس عن القتل الذي فيه فناء الخلق وعن الزنا الذي فيه فساد النسل وخراب المواريث وعن الظلم الذي فيه الضرر على الأنفس والأموال وخراب الأرض وعن الرذائل من البغي والحسد والكذب والجبن والبخل والنميمة والغش والخيانة وسائر الرذائل إلا بشرائع زاجرة للناس عن كل ذلك فلابد من نعم ضرورة وإلا وجب الإهمال الذي فيه فساد كل ما ذكرنا فإذا لابد من ذلك ولولا ذلك لفسد العالم كله ولفسدت العلوم كلها ولكان الإنسان قد بطلت فضيلة الفهم والنطق والعقل الذي فيه وصار كالبهائم فلا تخلو تلك الشرائع من أحد وجهين إما أن تكون صحاحاً من عند الله عز وجل الذي هو خالق العالم ومدبره كما يقول أصحاب الشرائع وإما أن تكون موضوعة باتفاق من أفاضل الحكماء لسياسة الناس بها وكفهم عن التظالم والرذائل فإن كانت موضوعة كما يقول هؤلاء المخاذيل فقد تيقنا أن ما ألزموا الناس من ذلك كذب لا أصل له وزور مختلق وإيجاب لما لا يجب وباطل لا حقيقة له ووعيد ووعد كلاهما كذب فإن كان ذلك كذلك فقد صار الكذب الذي هو أرذل الرذائل وأعظم الشر لا يتم صلاح العالم الذي هو الغرض من طلب الفضائل إلا به وإذ ذلك كذلك فقد صار الحق باطلاً والصدق رذيلة وصار الباطل حقاً وصدقاً والكذب فضيلة وصار لا قوام للعالم أصلاً إلا بالباطل وصار الكذب نتيجة الحق وصار الباطل ثمرة الصدق وصار الغرور والغش والخديعة فضائل ونصيحة وهذا أعظم ما يكون من المحال والممتنع والخلف الذي لا مدخل له في العقل فإن قالوا أنه لو كشف السر في ذلك أتى العامة لم ترغب في الفضائل فوجب لذلك أن يؤتي بما ترهبه وتتقيه فاضطر في ذلك إلى الكذب لهم كما يفعل بالصبيان وكما أبحتم أنتم في شرائعكم كذب الرجل لامرأته ليستصلحها بذلك وفي دفاع الظالم على سبيل التقية وفي الحرب كذلك فيلزمكم في هذا ما ألزمتموه إيانا من أن الكذب صار حقاً وفضيلة

قال أبو محمد رضي الله عنه : فيقال لهم وبالله التوفيق أما نحن فقولنا أنه ليس كما ذكرتم قبيحاً إذ أباحه الله عز وجل الذي لا حسن إلا ما حسن وما أمر به ولا قبيح إلا ما قبح وما نهي عنه ولا آمر فوقه فلا يلزمه ما أردتم إلزامنا إياه ثم أيضاً على أصولكم فإنه ليس ما ذكرتم معارضة ولا ما شبهتم به مشبهاً لما شبهتموه به لأننا إنما أبحنا الكذب في الوجوه التي ذكرتم للضرورة الدافعة إلى ذلك بالنصر الوارد علينا بذلك كما جاز بالنص عند الضرورة دفع القتل عن النفس بقتل المريد لقتلها ولو أمكننا كف الصبي والمرأة بغير ذلك لما جاز الكذب أصلاً فإذا ارتفعت الضرورة وجب الرجوع إلى استعمال الصدق وعلى كل حال ولولا النص لم نبح شيئاً من ذلك ولا حرمناه وأنتم فيما تدعونه من مداراة الناس كلهم مبتدؤن لاختيار الكذب دون أن يأمركم به من يسقط عنكم اللوم بطاعته فأنتم لا عذر لكم على خلاف حكمنا في ذلك ثم إنكم لا تخلون من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن تطووا هذا السر عن كل أحد فتصيرون إلى ما ألزمناكم من أن قطع الصدق جملة فضيلة وأن الكذب على الجملة حق واجب وهذا هو الذي ألزمناكم ضرورة وإما أن تبوحوا بذلك لمن وثقتم به فهذا إن قلتم به يوجب ضرورة كشف سركم في ذلك لأنه لا يجوز البتة أن ينكتم أصلاً على كثرة العارفين به هذا أمر يعلم بالضرورة أن الشيء إذا كثر العارفون به فبالضرورة لابد من انتشاره فإن كنتم تقولون أن طيه واجب إلا عمن يوثق به وفي كشفه إلى من يوثق به ما يوجب انتشاره إلى من لا يوثق به وفي كشفه إلى من يوثق به ما يوجب انتشاره إلى من لا يوثق به فقد رجعتم إلى وجوب كشفه لأن كشفه البتة هو نتيجة كشفه إلى خاص دون عام وفي كشفه بطلان ما دبرتموه صلاحاً فقد بطل حكمكم بالضرورة لاسيما والقائلون بهذا القول مجدون في كشف سرهم هذا إلى الخاص والعام فقد أبطلوا علتهم جملة وتناقضوا قبح تناقض وعلى كل ذلك فقد صار الباطل والكذب لا يتم الخير والفضائل البتة في شيء من الأشياء إلا بهما وهذا خلاف الفلسفة جملة وأيضاً فإن كانت الشرائع موضوعة فليس ما وضعه واضع ما بأحق بأن يتبع مما وضعه واضع آخر هذا أمر يعلم بالضرورة وقد علمنا بموجب العقل وضرورته أن الحق لا يكون من الأقوال المختلفة والمتناقضة إلا في واحد وسائرها باطل فإذ لا شك في هذا فأي تلك الموضوعات هو الحق أم أيها هو الباطل ولا سبيل إلى أن يأتوا بما يحق منها شيئاً دون سائرها أصلاً فإذ لا دليل على صحة شيء منها بعينه فقد صارت كلها باطلة إذ ما لا دليل على صحته فهو باطل وليس لأحد أن يأخذ بقول ويترك غيره بلا دليل فبطل بهذا بطلاناً ضورياً كل ما تعلقوا به والحمد لله رب العالمين.

وبطل بهذا البرهان الضروري ما توهمه هؤلاء الجهال المجانين وصح يقيناً أن الشرائع صحاح من عند منشىء العالم ومدبره الذي يريده بقأه إلى الوقت الذي سبق في علمه تعالى أنه يبقيه إليه كما هو وإذ ذلك كذلك ضرورة لا يخلو الحكم في ذلك من أحد وجهين لا ثالث لهما ما أن تكون الشرائع كلها حقاً

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد رأيت منهم من يذهب إلى هذا وإما أن يكون بعضها حقاً وبعضها باطلاً لابد من أحد هذين الوجهين ضرورة فإن كانت كلها حقاً فهذا محال لا سبيل إليه لأنه لا شريعة منها إلا وهي تكذب سائرها وتخبر بأنها باطل وكفر وضلال وإلحادٌ فوجدنا هذا المخذول الذي أراد بزعمه موافقة جميع الشرائع قد حصل على خلاف جميعها أولها عن آخرها وحصل على تكذيب جميع الشرائع له كلها بلا خلاف وعلى تكذيبه هو لجميعها وما كان هكذا وهو يقول إنها كلها حق وهي كلها مكذبة له وهو مصدق لها كلها فقد شهد على نفسه بالكذب وبطلان قوله وصح باليقين أنه كاذب فيه وأيضاً فإن كل شريعة فهي مضادة في أحكامها لغيرها تحرم هذه ما تحل هذه وتوجب هذه ما تسقط هذه ومن المحال الفاسد أن يكون الشيء وضده حقاً معاً في وقت واحد حراماً حلالاً في حين واحد على إنسان واحد ووجه واحد واجباً كذلك وهذا أمر يعلمه باطلاً كل ذي حس سليم وليس في العقل تحريم شيء مما جاء فيها تحريمه ولا إيجاب شيء مما جاء فيها إيجابه فبطل أن يرجح بما في العقل إذ كل ذلك في حد الممكن في العقل فإذ قد بطل هذا الوجه ضرورة وهو أن الشرائع شريعة واحدة صحيحة من عند الله عز وجل وإن سائر الشرائع كلها باطل فإذ ذلك كذلك ففرض على كل ذي حس طلب تلك الشريعة وإطراح كل شريعة دون ذلك وإن جلت حتى يوقف عليها بالبراهين الصحاح إذ بها يكون صلاح النفس في الأبد وبجهلها يكون هلاك النفس في الأبد فالحمد لله الذي وفقنا لتلك الشريعة ووقفنا عليها وهدانا إلى طريقها وعرفناها حمداً كثيراً طيباً كما هو أهله ونحن نسأله تعالى أن يثبتنا عليها حتى نلقاه ونحن من أهلها وحملتها آمين رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وسلم تسليماً كثيراً فمن نازعنا في هذا القول وادعاه لنفسه فنحن في ميدان النظر وحمل الأقوال على السير بالبراهين فسنزيف الباطل والدعاوي التي لا دليل عليها حيثما كانت وبيد من كانت ويلوح الحق ثابتاً حيثما كان وبيد من كان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

الكلام على اليهود

وعلى من أنكر التثليث من النصارى ومذهب الصابئين وعلى من أقر بنبوة زرادشت من المجوس

قال أبو محمد رضي الله عنه : إن أهل هذه الملة يعني اليهود وأهل هذه النحلة يعني من أنكر التثليث من النصارى موافقون لنا في الإقرار بالتوحيد ثم بالنبوة وبآيات الأنبياء عليهم السلام دون بعض وكذلك وافقتنا الصابئة والمجوس على الإقرار ببعض الأنبياء فأما اليهود فإنهم قد افترقوا على خمس فرق وهي السامرية وهم يقولون إن مدينة القدس هي نابلس وهي من بيت المقدس على ثمانية عشر ميلاً ولا يعرفون حرمة لبيت المقدس ولا يعظمونه ولهم توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود ويبطلون كل نبوة كانت في بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام وبعد يوشع عليه السلام فيكذبون بنبوة شمعون وداود وسليمان واشعيا واليسع والياس وعاموص وحبقوق وزكريا وارميا وغيرهم ولا يقرون بالبعث ألبتة وهم بالشام لا يستحلون الخروج عنها والصدوقية ونسبوا إلى رجل يقال له صدوق وهم يقولون من بين سائر اليهود أن العزير هو ابن الله تعالى الله عن ذلك وكانوا بجهة اليمن والعنانية وهم أصحاب عانان الداودي اليهودي وتسميهم اليهود العراس والمس وقولهم إنهم لا يتعدون شرائع التوراة وما جاء في كتب الأنبياء عليهم السلام ويتبرؤن من قول الأحبار ويكذبونهم وهذه الفرقة بالعراق ومصر والشام وهم من الأندلس بطليطله وطليبره والربانية وهم الأشعنية وهم القائلون بأقوال الأحبار ومذاهبهم وهم جمهور اليهود والعيسوية وهم أصحاب أبي عيسى الأصبهاني رجل من اليهود كان بأصبهان وبلغني أن اسمه كان محمد بن عيسى وهم يقولون بنبوة عيسى بن مريم ومحمد ويقولون أن عيسى بعثه الله عن وجل إلى بني إسرائيل على ما جاء في الإنجيل وأنه أحد أنبياء بني إسرائيل ويقولن أن محمداً نبي أرسله الله تعالى بشرائع القرآن إلى بني إسماعيل عليهم السلام وإلى سائر العرب كما كان أيوب نبياً في بني عيص وكما كان بلعان نبياً في بني مواب بإقرار من جميع فرق اليهود

قال أبو محمد رضي الله عنه : ولقد لقيت من ينحو إلى هذا المذهب من خواص اليهود كثيراً وقرأت في تاريخ لهم جمعه رجل هاروني كان قديماً فيهم ومن كبارهم وأئمتهم وممن عصيت به ثلث بلدهم وثلث حروبهم وثلث جيوشهم أيام حرب طيطوس وخراب البيت وكان له في تلك الحروب آثار عظيمة وكان قد أدرك أمر المسيح عليه السلام واسمه يوسف ابن هارون فذكر ملوكهم وحروبهم إلى أن وصل إلى قتل يحيى بن زكريا عليه السلام فذكره أجمل ذكر وعظم شأنه وأنه قتل ظلماً لقوله الحق وذكر أمر المعمودية ذكراً حسناً لم ينكرها ولا أبطلها ثم قال في ذكره لذلك الملك هردوس بن هردوس وقبل هذا الملك من حكماء بني إسرائيل وخيارهم وعلمائهم جماعة ولم يذكر من شأن المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام أكثر من هذا

قال أبو محمد رضي الله عنه : وإنما ذكرت هذا الكلام لأرى إن هذا المذهب كان فيه ظاهراً فاشياً في أئمتهم من حينئذ إلى الآن ثم انقسم اليهود جملة على قسمين فقسم أبطل النسخ ولم يجعلوه ممكناً والقسم الثاني أجازوه إلا أنهم قالوا لم يقع وعمدة حجة من أبطل النسخ أن قالوا إن الله عز وجل يستحيل منه أن يأمر بالأمر ثم ينهى عنه ولو كان كذلك لعاد الحق باطلاً والطاعة معصية والباطل حقاً والمعصية طاعة

قال أبو محمد رضي الله عنه : لا نعلم لهم حجة غير هذه وهي من أضعف ما يكون من التمويه الذي لا يقوم على ساق لأن من تدبر أفعال الله كلها وجميع أحكامه وآثاره تعالى في هذا العالم تيقن بطلان قولهم هذا لأن الله تعالى يحيي ثم يميت ثم يحيي وينقل الدولة من قوم أعزة فيذلهم إلى قوم أذلة فيعزهم ويمنح من شاء ما شاء من الأخلاق الحسنة والقبيحة لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون ثم نقول لهم وبالله التوفيق ما تقولون فيمن كان قبلكم من الأمم المقبول دخولها فيكم إذا غزوكم أليس دماؤهم لكم حلالاً وقتلهم حقاً وفرضاً وطاعة ولابد من نعم فنقول لهم فإن دخلوا في شريعتكم أليس قد حرمت دماؤهم وصار عندكم قتلهم حراماً وباطلاً ومعصية بعد أن كان فرضاً وحقاً وطاعة فلا بد من نعم ثم إن عدوا في السبت وعملوا ليس قد عاد قتلهم فرضاً بعد أن كان حراماً فلا بد من نعم فهذا إقرار ظاهر منهم ببطلان قولهم وإثبات منهم لما أنكروه من أن الحق يعود باطلاً والأمر يعود نهياً وأن الطاعة تعود معصية وهكذا القول في جميع شرائعهم لأنها إنما هي أوامر في وقت محدود بعمل محدود فإذا خرج ذلك الوقت عاد ذلك الأمر منهياً عنه كالعمل هو عندهم مباح في الجمعة محرم يوم السبت ثم يعود مباحاً يوم الأحد وكالصيام والقرابين وسائر الشرائع كلها وهذا بعينه هو نسخ الشرائع الذي أبوه وامتنعوا منه إذ ليس معنى النسخ إلا أن يأمر الله عز وجل بأن يعمل عمل ما مدة ما ثم ينهى عنه بعد انقضاء تلك المدة ولا فرق في شيء من العقول بين أن يعرف الله تعالى ويخبر عباده بما يريد أن يأمرهم به قبل أن يأمرهم به ثم بأنه سينهى عنه بعد ذلك وبين أن لا يعرفهم به إذ ليس عليه تعالى شرط أن يعرف عباده بما يريد أن يأمرهم قبل أن يأتي الوقت الذي يريد إلزامهم فيه الشريعة وأيضاً فإن جميعهم مقربان شريعة يعقوب عليه السلام كانت غير شريعة موسى عليه السلام وإن يعقوب تزوج ليا وراحيل ابنتي لابان وجمعهما معاً وهذا حرام في شريعة موسى عليه السلام هذا مع قولهم أن موسى عليه السلام كانت عمة أبيه أخت جده وهي يوحانذا بنت لاوي وهذا في شريعة موسى حرام ولا فرق في العقول بين شيء أحله الله تعالى ثم حرمه وبين شيء حرمه الله ثم أحله والمفرق بين هذين مكابر للعيان مجاهر بالقحة ولو قلب عليه قالب كلامه ما كان بينهما فرق وفي توراتهم أن الله تعالى افترض عليهم بالوحي إلى موسى عليه السلام وأمرهم موسى بذلك في نص توراتهم أن لا يتركوا من الأمم السبعة الذين كانوا سكاناً في فلسطين والأردن أحداً أصلاً إلا قتلوه ثم أنه لما اختدعتهم الأمة التي يقال لها عباوون وهي إحدى تلك الأمم التي افترض عليهم قتلهم واستئصالهم فتحيلوا عليهم وأظهروا لهم أنهم أتوا من بلاد بعيدة حتى عاهدوهم فلما عرفوا بعد ذلك أنهم من السكان في الأرض التي أمروا بقتل أهلها حرم الله عز وجل عليهم قتلهم على لسان يوشع النبي بنص كتاب يوشع عندهم فأبقوهم ينقلون الماء والحطب إلى مكان التقديس وهذا هو النسخ الذي أنكروا بلا كلفة.

وفي توراتهم البداء الذي هو أشد من النسخ وذلك أن فيها أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام سأهلك هذه الأمة وأقدمك على أمة أخرى عظيمة فلم يزل موسى يرغب إلى الله تعالى في أن لا يفعل ذلك حتى أجابه وأمسك عنهم وهذا هو البداء بعينه والكذب المنفيان عن الله تعالى لأنه ذكر أن الله تعالى أخبر أنه سيهلكهم ويقدمه عى غيره ثم لم يفعل فهذا هو الكذب بعينه تعالى الله عنه وفي سفر اشعيا أن الله تعالى سيرتب في آخر الزمان من الفرس خداماً لبيته

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا هو النسخ بعينه لأن التوراة موجبة أن لا يخدم في البيت المقدس أحد غير نبي لاوي بن يعقوب على حسب مراتبهم في الخدمة فعلى أي وجه أنزلوا هذا القول من اشعيا فهو نسخ لما في التوراة على كل حال وأما في الحقيقة فهو إنذار بالملة الإسلامية التي صار فيها الفرس والعرب وسائر الأجناس في المساجد ببيت المقدس وغيره التي هي بيوت

قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما الطائفة التي أجازت النسخ إلا أنها أخبرت أنه لم يكن فإنه يقال لهم وبالله تعالى التوفيق بأي شيء علمتم صحة نبوة موسى عليه السلام ووجوب طاعته فلا سبيل إلى أن يأتوا بشيء غير إعلامه وبراهينه وإعلامه الظاهرة فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق إذا وجب تصديق موسى والطاعة لأمره لما ظهر من أحالة الطبائع على ما بيناه في باب الكلام في بيان إثبات النبوات فلا فرق بينه وبين من أتى بمعجزات غيرها وبإحالة لطبائع أخر وبضرورة العقل يعلم كل ذي حس أن ما أوجبه لنوع فإنه واجب لأجزائه كلها فإذا كانت إحالة الطبائع موجبة تصديق من ظهرت عليه فوجوب تصديق موسى وعيسى ومحمد واجب وجوباً مستوياً ولا فرق بين شيء منه بالضرورة ويقال لهم ما الفرق بينكم في تصديقكم بعض من ظهرت عليه المعجزات وتكذيبكم بعضهم وبين من صدق من كذبتم وكذب من صدقتم كالمجوس المصدقين بنبوة زرادشت المكذبين بنبوة موسى وسائر أنبيائكم أو المانوية المصدقة بنبوة عيسى وزرادشت المكذبة بنبوة موسى أو الصابئين المكذبين بنبوة إبراهيم عليه السلام فمن دونه المصدقين بنبوة إدريس وغيره وكل هذه الفرق والملل تقول في موسى عليه السلام وفي سائر أنبيائكم أكثر مما تقولون أنتم في عيسى ومحمد عليهما السلام تنطق بذلك تواريخهم وكتبهم وهي موجودة مشهورة وأقرب ذلك السامرية الذين ينكرون نبوة كل نبي لكم بعد موسى عليه السلام ولا سبيل إلى أن تأتوا على جميع من ذكرنا بفرق إلا أتوكم بمثله ولا تدعوا عليهم دعوى إلا ادعوا عليكم بمثلها ولا أن تطعنوا في نقلهم بشيء إلا أروكم في نقلكم مثله سواء بسواء وقد نبه الله تعالى على هذا البرهان بقوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد فنص تعالى على أن طريق الإيمان بما آمنوا به من النبوة وطريق ما آمنا به نحن منها واحد وأنه لا فرق بين شيء من ذلك وأن الإيمان بالإله الباعث لموسى هو الإيمان بالإله الباعث لمحمد صلى الله عليهما وسلم وأن طريق كل ذلك طريق واحدة لا فرق فيها وبالله التوفيق

وأما شغب من شغب منهم بأننا نؤمن بموسى وهم لا يؤمنون بمحمد فهو شغب ضعيف بارد لأنهم لا يخلون من أن يكونوا إنما صدقوا بنبوة موسى من أجل تصديقنا نحن ولولا ذلك لم يصدقوا به ويكون إنما صدقوا به لما أظهر من البرهان فقط فإن كانوا إنما صدقوا به من أجل تصديقنا نحن فواجب عليهم أن يصدقوا بمحمد من أجل تصديقنا نحن به وإلا فقد تناقضوا وإن كان إنما صدقوا به لما أظهر من الآيات فلا معنى لتصديق من صدقه ولا لتكذيب من كذبه والحق حق صدقه الناس أو كذبوه والباطل باطل صدقه الناس أم كذبون ولا يزيد الحق درجة في أنه حق إطباق الناس كلهم على تصديقه ولا يزيده مرتبة في أنه باطل تكذيب الناس كلهم له ولا يظن ظان أننا في مناظرتنا من نناظره من أهل ملتنا المخالفين لنا في بعض أقوالنا بالإجماع وقد نقضنا كلامنا في هذا المكان فليعلم أننا لام ننقضه لأن الإجماع حجة قد قام البرهان على صحتها في الفتيا في دين الإسلام وما قام على صحته البرهان فهو حجة قاطعة على من خالفه وعلى من وافقه وأما إن نحتج على مخالفنا بأنه موافق لنا في بعض ما نختلف فيه فليس حجة علينا فإن وجد لنا يوماً من الأيام فإنما نخاطب به جاهلاً نستكف تخليطه بذلك أو نبكته لنريه تناقضه فقط وأيضاً فإنا إنما آمنا بنبوة موسى الذي أنذر بنبوة محمد وبالتوراة التي فيها الإنذار برسالة محمد باسمه ونسبه وصفة أصحابه رضي الله عنهم وهكذا نقول في عيسى والإنجيل حرفاً حرفاً لا بنبوة من لم ينذر بنبوة النبي ولا نؤمن بموسى وعيسى ولا نؤمن بتوراة ولا إنجيل ليس فيهما الإنذار برسالة محمد وصفة أصحابه بل نكفر بكل ذلك ونبرأ منهم فلم نوافقهم قط على ما يدعونه فبطل شغبهم الضعيف وبالله تعالى التوفيق وجملة القول في هذا أن نقل اليهود والنصارى فاسد لما ذكرنا ونذكر إن شاء الله تعالى من عظيم الداخلة في كتبهم المبينة أنها مفتعلة وفساد نقلهم فإنما صدقنا بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام لأن محمداً صدقهما وأخبرنا عنهما وعن أعلامهما ولولا ذلك لما صدقنا بهما ولكانا عندنا بمنزلة إلياس واليسع ويونس ولوط في ذلك كما أننا لا نقطع بصحة نبوة سموال وحقاي وحبقوق وسائر الأنبياء الذين عندهم كموسى وسائر من ذكرنا ولا فرق ولكن نقول آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان المذكورون أنبياء فنحن نؤمن بهم وإن لم يكونوا أنبياء فلا ندخل في أنبياء الله تعالى من ليس منهم بأخبار اليهود والنصارى الكاذبة التي لا أصل لها الراجعة إلى قوم كفار كاذبين وبالله تعالى نتأيد وقال تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وقال تعالى في الرسل منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك فنحن نؤمن بالأنبياء جملة ولا نسمي منهم إلا من يسمي محمد فقط

قال أبو محمد رضي الله عنه : ويقال لسائر فرق اليهود حاشا السامرية ما الفرق بينكم وبين السامرية الذين كذبوا بنبوة كل نبي صدقتم أنتم به بعد يوشع بمثل ما كذبتم أنتم به عيسى ومحمداً لم يأتيا بالمعجزات بأن كذبهم ومجاهرتهم إذ قد نقلت الكواف عن النبي أنه سقى العسكر في تبوك وهم ألوف كثيرة من قدح صغير نبع فيه الماء من بين أصابعه عليه السلام وفعل أيضاً مثل ذلك بالحديبية وأنه أطعم عليه السلام في منزل أبي طلحة أهل الخندق حتى شبعوا وفي منزل جابر أيضاً ورمى هوازن في جيش فعمت عيون جميعهم بتراب يده وفيها أنزل الله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وشق القمر وسأله قومه آية فأنزل الله تعالى في ذلك اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آيةً يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر وكذلك حنين الجذع الذي سمعه كل من حضره من الصحابة رضوان الله عنهم ومن أبهر ذلك وأعظمه قوله لليهود الذين كانوا معه في وقته وهم زيادة على ألف بلا شك ولعلهم كانوا ألوفاً وهم بنو قريظة وبنو النضير وبنو أهدل وبنو قينقاع أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين في تكذيبهم نبوته وأعلمهم أنهم لا يستطيعون ذلك أصلاً فعجزوا عن ذلك أي عن تمني الموت وحيل بينهم وبين النطق بذلك وهذه قصة منصوصة في صورة الجمعة يقرأ بها كل يوم جمعة في جميع جوامع المسلمين من شرق الدنيا إلى غربها وقد كان أسهل الأمور عليهم أن يكذبوا بأن يتمنوا الموت لو استطاعوا وهم يسمعونه يقول فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا أمر لايدفعه إلا وقاح جاهل مكابر للعيان لأن القرون والاعصار نقلت هذه الآيات جيلاً جيلاً يخاطبون بها فكل أذعن وأقر ولم يمكن أحداً دفعه ودعا عليه السلام من حين مبعثه العرب كلهم على فصاحة ألسنتهم وكثرة استعمالهم لأنواع البلاغة من الإطالة والإيجاز والتصرف في أفانين البلاغة والألفاظ المركبة على وجوه المعاني إلى أن يأتوا بمثل هذا القرآن ثم ردهم إلى سورة فعجزوا كلهم عن ذلك على سعة بلادهم طولاً وعرضاً وأنه أقام بين أظهرهم ثلاثة وعشرين عاماً يستسهلون قتاله والتعرض لسفك دمائهم واسترقاق ذراريهم وقد أضربوا عما دعاهم إليه من المعارضة للقرآن جملة

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا لا يخفى على من له أقل فهم أنه إنما حملهم على ذلك العجز عما كلفهم من ذلك وارتفاع قوتهم عنه وأنه قد حيل بينهم وبين ذلك ثم عم الدنيا من البلغاء الذين يتخللون بألسنتهم تخلل الناقد ويطيلون في المعنى التافة إظهاراً لاقتدارهم على الكلام جماعات لا بصائر لهم في دين الإسلام منذ أربعمائة عام وعشرين عاماً فما منهم أحد يتكلف معارضته إلا افتضح وسقط وصار مهزأة ومعيرة يتماجن به وبما أتى به ويتطائب عليه منهم مسيلمة بن حبيب الحنفي لما رام ذلك لم ينطق لسانه إلا بما يضحك الثكلى وقد تعاطى بعضهم ذلك يوماً في كلام جرى بيني وبينه فقلت له اتق الله على نفسك فإن الله تعالى قد منحك من البيان والبلاغة نعمة سبقت بها ووالله لئن تعرضت لهذا الباب بإشارة ليسلبنك الله هذه النعمة وليجعلنك فضيحة وشهرة ومسخرة وضحكة كما فعل بمن رام هذا من قبلك فقال لي صدقت والله وأظهر الندم والإقرار بقبحه

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا الذي ذكرنا مشاهد وهي آية باقية إلى اليوم وإلى انقضاء

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد ظن قوم إن عجز العرب ومن تلاهم من سائر البلغاء عن معارضة القرآن إنما هو لكون القرآن في أعلا طبقات البلاغة

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا خطأ شديد ولو كان ذلك وقد أبى الله عز وجل أن يكون لما كان حينئذٍ معجزة لأن هذه صفة كل باسق في طبقته والشيء الذي هو كذلك وإن كان قد سبق في وقت ما فلا يؤمن أن يأتي في غد ما يقاربه بل ما يفوقه ولكن الإعجاز في ذلك إنما هو أن الله عز وجل حال بين العباد وبين أن يأتوا بمثله ورفع عنهم القوة في ذلك جملة وهذا مثل لو قال قائل إني أمشي اليوم في هذه الطريق ثم لا يمكن أحداً بعدي أن يمشي فيها وهو ليس بأقوى من سائر الناس وأما لو كان العجز عن المشي لصعوبة الطريق وقوة هذا الماشي لما كانت آية ولا معجزة وقد بينا في غير هذا المكان أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس لأن فيه الأقسام التي في أوائل السور والحروف المقطعة التي لا يعرف أحد معناها وليس هذا من نوع بلاغة الناس المعهودة وقد روينا عن أنيس أخي أبي ذر الغفاري رضي الله عنهما أنه سمع القرآن فقال لقد وضعت هذا الكلام على ألسنة البلغاء وألسنة الشعراء فلم أجده يوافق ذلك أو كلاماً هذا معناه فصح بهذا ما قلناه من أن القرآن خارج عن نوع بلاغة المخلوقين وأنه على رتبة قد منع الله تعالى جميع الخلق عن أن يأتوا بمثله ولنا في هذا رسالة مستقصاة كتبنا بها إلى أبي عامر أحمد بن عبد الملك ابن شهيد وسنذكر منها هنا إن شاء الله تعالى ما فيه كفاية في كلامنا مع المعتزلة والأشعرية في خلق القرآن من ديواننا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

قال أبو محمد رضي الله عنه : فإن قال قائل أنه منع المعارضون حينئذٍ من المعارضة أو عارضوا فستر ذك قيل له وبالله التوفيق لو أمكن ما تقول لأمكن لغيرك أن يدعي في آيات موسى عليه السلام مثل ذلك بل كان يكون أقرب إلى التلبيس لأن في توراتكم أن السحرة عملوا مثل ما عمل موسى عليه السلام حاشا البعوض خاصة فإنهم لم يطيقوه

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا هو الباطل والتبديل الظاهر لأن السحر لا يحيل عيناً ولا يقلبها ولا يحيل طبيعة إنما هو حيل قد بينا الكلام فيها بعون الله تعالى في موضعه من هذا الكتاب وفي غيره

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا الاعتراض هو على سبيل إبطال الكواف لا سبيل من أقر بشيء منها ثم يقال كل من ولي الأمر بعده عليه السلام معروف ليس منهم أحد إلا وله أعداء يخرجون من عداوته إلى أبعد الغايات من الحنق والغيظ فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما تعاديهما الرافضة وتبلغ عداوتهما وتكفيرهما أقصى الغايات وما قال قط أحد مؤمن ولا كافر عدو لهما ولا ولي أن أحداً منهما أجبر أحداً على الإقرار بآيات محمد ولا على ستر شيء عورض به ولا قدر أن يقول هذا أيضاً يهودي ولا نصراني وكذلك عثمان أيضاً وعلي تعاديهما الخوارج وتخرج في عداوتهما وتكفيرهما إلى أبعد الغايات ما قال قط قائل في أحدهما شيئاً من هذا وحتى لو رام أحد من الملوك ذلك لما قدر عليه لأنه لا يملك أيدي الناس ولا ألسنتهم يصنعون في منازلهم ما أحبوا وينشرونه عند من يثقون به حتى ينتشر وهذا أمر لا يقدر على ضبطه والمنع منه أحد لاسيما مع انخراق الدنيا وسعة أقطارها من أقصى السند إلى أقصى الأندلس فلو أمكنت معارضته ما تأخر عن ذلك من له أدنى حظ من استطاعة عند نفسه على ذلك ممن لا بصيرة له في الإسلام في شرق الأرض وغربها فإن قال قائل من اليهود أن موسى عليه السلام قال لهم في التوراة لا تقبلوا من نبي أتاكم بغير هذه الشريعة

قال أبو محمد رضي الله عنه : قلنا له وبالله تعالى التوفيق لا سبيل إلى أن يقول موسى عليه السلام هذا بوجه من الوجوه لأنه لو قال ذلك لكان مبطلاً لنبوة نفسه وهذا كلام ينبغي أن يتدبر وذلك أنه لو قال لهم لا تصدقوا من دعاكم إلى غير شريعتي وإن جاء بآيات فإنه يلزمه إذا كانت الآيات لا توجب تصديق غيره إذا أتى بها في شيء دعا إليه فهي غير موجبة تصديق موسى عليه السلام فيما أتى به إذ لا فرق بين معجزاته ومعجزات غيره إذ بالآيات صحت الشرائع ولم تصح الآيات بالشرائع لأن تصديق الشريعة موجبة للآية والآية موجبة تصديق الشريعة ومن قال

قال أبو محمد رضي الله عنه : وأيضاً فإن هذا القول المنسوب إلى موسى عليه السلام كذب موضوع ليس في التوراة شيء منه وإنما فيها من أتاكم يدعي نبوة وهو كاذب فلا تصدقوه فإن قلتم من أين نعلم كذبه من صدقه فانظروا فإذا قال عن الله شيئاً ولم يكن كما قال فهو كاذب هذا نص ما في التوراة فصح بهذا أنه إذا أخبر عن الله تعالى بشيء فكان كما قال فهو صادق وقد وجدنا كلما أخبر به النبي في غلبة الروم على كسرى وإنذاره بقتل الكذاب العنسي ويوم ذي قار وبخلع كسرى وبغير ذلك فإن قالوا إن في التوراة أن هذه الشريعة لازمة لكم في الأبد قلنا هذا محال في التأويل لأنه كذلك أيضاً فيها أن هذه البلاد يسكنونها أبداً وقد رأيناهم بالعيان خرجوا عنها

قال أبو محمد رضي الله عنه : فإن قال قائل فقد قال لكم محمد لا نبي بعدي قيل لهم وبالله تعالى نتأيد ليس هذا الكلام مما ادعيتموه على موسى عليه السلام لأننا قد علمنا من أخباره عليه السلام أنه لا سبيل إلى أن يظهر أحد آية بعده أبداً ولو جاز ظهورها لوجب تصديق من أظهرها ولكنا قد أيقنا أنه لا تظهر آية على أحد بعده عليه السلام بوجه من الوجوه فإن قال قائل وكيف تقولون في الدجال وأنتم ترون أنه يظهر له عجائب فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن المسلمين فيه على أقسام فأما ضرار ابن عمرو وسائر الخوارج فإنهم ينفون أن يكون الدجال جملة فكيف أن يكون له آية وأما سائر فرق المسلمين فلا ينفون ذلك والعجائب المذكورة عنه إنما جاءت بنقل الآحاد وقال بعض أصحاب الكلام أن الدجال إنما يدعي الربوبية ومدعي الربوبية في نفس قوله بيان كذبه قالوا فظهور الآية عليه ليس موجباً لضلال من له عقل وأما مدعي النبوة فلا سبيل إلى ظهور الآيات عليه لأنه كان يكون ضلالاً لكل ذي عقل

قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما قولنا في هذا فهو أن العجائب الظاهرة من الدجال إنما هي حيل من نحو ما صنع سحرة فرعون ومن باب أعمال الحلاج وأصحاب العجائب يدل على ذلك حديث المغيرة بن شعبة إذ قال للنبي أن معه نهر ماء ونهر خبز فقال له رسول الله هو أهون على الله من ذلك حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث حدثنا أحمد بن عبد الرحيم حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني حدثنا محمد بن بشار بندار حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا هشام بن حسان الفردوسي حدثنا حميد بن هلال عن أبي الدهماء عن عمران بن حصين عن النبي قال من سمع من أمتي الدجال فلينأ عنه فإن الرجل يأتيه وهو يحسبه مؤمن فيتبعه مما يرى من الشبهات

قال أبو محمد رضي الله عنه : فصح بالنص أنه صاحب شبهات

قال أبو محمد رضي الله عنه : وبهذا تتألف الأحاديث وقد بين رسول الله في هذا الحديث أن ما يظهر الدجال من نهر ماء ونار وقتل إنسان وإحيائه أن ذلك حيل ولكل ذلك وجوه إذا طلبت وجدت فقد تحيل ببعض الأجساد المعدنية إذا أذيب أه ماء وتحيل بالنفظ الكاذب أنه نار ويقتل إنسان ويغطي وآخر معدٌّ مخبو فيظهر ليرى أنه قنل ثم أحيي كما فعل الحسين بن منصور الحلاج في الجدي الأبلق وكما فعل الشريعي والنميري بالبغلة وكما فعل زبزن بالزرزور وأنا أدري من يطعم الدجاج الزرنيخ فتخدر ولا يشك في موتها ثم يصب في حلوقها الزيت فتقوم صحاحاً وإنما كانت تكون معجزة لو أحيى عظاماً قد أرمت فيظهر نبات اللحم عليها فهذه كانت تكون معجزة ظاهرة لا شك فيها ولا يقدر غير نبي عليها ألبتة وقد رأينا الدبر يلقى في الماء حتى لا يشك أحد أنها ميتة ثم كنا نضعها للشمس فلا تلبث أن تقوم وتطير وقد بلغنا مثل ذلك في الذباب المسترخي في الماء إذا ذر عليه سحق الآجر الجديد وآيات الأنبياء عليهم السلام لا تكون من وراء حائط ولا من مكان بعينه ولا من تحت ستارة ولا تكون إلا بادية مكشوفة وقد فضحت أنا حيلة أبي محمد المعروف بالحرق في الكلام المسموع بحضرته ولا يرى المتكلم وسمت بعض أصحابه أن يسمعني ذلك في مكان آخر أو بحيث الفضاء دون بنيان فامتنع من ذلك فظهرت الحيلة وإنما هي قصبة مثقوبة توضع وراء الحائط على شق خفي ويتكلم الذي طرف القصبة على فيه على حين غفلة ممن في المسجد كلمات يسيرة الكلمتين والثلاث لا أكثر من ذلك فلا يشك من في البيت مع المحرق الملعون في أن الكلام اندفع بحضرتهم وكان المتكلم في ذلك محمد بن عبد الله الكاتب صاحبه فإن اعترض معترض بقول الله تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون قيل وبالله تعالى التوفيق هذا يخرج على وجهين أحدهما أن معنى قوله تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون إنما هو على معنى التبكيت لمن قال ذلك وأورد تعالى كلامهم وحذف ألف الاستفهام وهذا موجود في كلام العرب كثيراً والثاني أنه إنما عنى تعالى بذلك الآيات المشترطة في الرقا إلى السماء وأن يكون معه ملك وما أشبه هذا وليس على الله تعالى شرط لأحد

قال أبو محمد رضي الله عنه : والقول الأول هو جوابنا لأن الله تعالى لا شيء يمنعه عنما يريد وكذلك إن اعترض معترض بقول النبي ما من الأنبياء إلا من قد أوتي ما على مثله آمن البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحي إلي وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة قيل لهم وبالله التوفيق إنما عنى رسول الله هذا القول آيته الكبرى الثابتة الباقية أبد الآباد التي هي أول معجزته حين بعث وهي القرآن لبقاء هذه الآية على الآباد وإنما جعلها عليه السلام بخلاف سائر آيات الأنبياء عليهم السلام لأن تلك الآيات يستوي في معرفة إعجازها العالم والجاهل وأما إعجاز القرآن فإنما يعرفه العلماء بلغة العرب ثم يعرفه سائر الناس بأخبار العلماء لهم بذلك مع ما في التوراة من الإنذار البين برسول الله من قوله تعالى فيها سأقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم أجعل على لسانه كلامي فمن عصاه انتقمت منه

قال أبو محمد رضي الله عنه : ولم تكن هذه الصفة لغير محمد وإخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل وقوله في السفر الخامس منها جاء الله من سينا والشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران

قال أبو محمد رضي الله عنه : وسيناء هو موضع مبعث موسى عليه السلام بلا شك وساعير هو موضع مبعث عيسى عليه السلام وفاران بلا شك هي مكة موضع مبعث محمد بيان ذلك أن إبراهيم عليه السلام أسكن إسماعيل فاران ولا خلاف بين أحد في أنه إنما أسكنه مكة فهذا نص على مبثع النبي والرؤيا التي فسرها دانيال في أمر الحجر الذي رأى الملك في نومه الذي دق الصنم الذي كان بعضه ذهباً وبعضه فضة وبعضه نحاساً وبعضه حديد أو بعضه فخار وخلطه كله وطحنه وجعله شيئاً واحداً ثم ربى الحجر حتى ملأ الأرض ففسره دانيال أنه نبي يجمع الأجناس ويبلغ ملك أمره ملء الآفاق فهل كان نبي قط غير محمد جمع الأجناس كلها على اختلافها واختلاف لغاتها وأديانها وممالكها وبلادها فجعلهم جنساً واحداً ولغة واحدة وأمة واحدة ومملكة واحدة وديناً واحداً فإن العرب والفرس والنبط والأكراد والترك والديلم والجيل والبربر والقبط ومن أسلم من الروم والهند والسودان على كثرتهم كلهم ينطقون بلغة واحدة وبها يقرؤن القرآن وقد صار كل من ذكرنا أمة واحدة والحمد لله رب العالمين فصحت النبوة المذكورة بلا أشكال والحمد لله رب العالمين وكل ما ذكرنا في هذا الباب أنه يدخل على النصارى الذين يقولون بنبوة عيسى عليه السلام فقط من الأريوسية والمقدونية والبولقانية سواء سواء مع ما في الإنجيل من دعاء المسيح عليه السلام في قوله اللهم ابعث البارقليط ليعلم الناس أن ابن البشر إنسان

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا غاية البيان لمن عقل لأن المسيح عليه السلام علم أنه سيغلوا قومه فيه فيقولون أنه الله وأنه ابن الله فدعا الله في أن يبعث الذي يبين للناس أنه ليس إلهاً ولا ابن إله وإنما هو إنسان من ولد امرأة من البشر فهل أتي بعده نبي يبين هذا إلا محمد وهذا لا يحيل بيانه على ذي حس سليم وإنصاف ونسأل الله إيزاع الشكر على ما وفق له من الهدى فإن قال قائل فإن المجوس تصدق بنبوة زرادشت وقوم من اليهود بنبوة أبي عيسى الأصبهاني وقوم من كفرة الغالية يصدقون بنبوة يزيع الحائك والمغيرة بن سعيد وبنان بن سمعان التميمي وغيرهم من كلاب الغالية فالجواب وبالله تعالى التوفيق.

أن أبا عيسى وبنان ويزيعاً وسائر من تدعي له الغالية بنبوة أو إلهية من خيار الناس وشرارهم لم تظهر لواحد منهم آية بوجه من الوجوه والآيات لا تصح إلا بنقل الكواف وكل هؤلاء كان بعد رسول الله وقد أخبر الذي جاءت البراهين بصدقه أنه لا نبي بعده فقد صح البرهان ببطلان ما ادعى لهؤلاء من النبوة وأما زرادشت فقد قال كثير من المسلمين بنبوته

قال أبو محمد رضي الله عنه : ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله لمن صحت عنه معجزة قال الله عز وجل وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وقال عز وجل ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وقالوا إن الذي ينسب إليه المجوس من الأكذوبات باطل مفتري منهم وبرهان ذلك أن المنانية تنسب إليه مقالتهم وأقوال هؤلاء كلهم متضادة لا سبيل إلى أن يقول بها قائل واحد صادق ولا كاذب في وقت واحد وكذا المسيح عليه السلام ينسب إليه الملكانية قولهم في التثليث وتنسب إليه النسطورية قولهم أيضاً وكذلك اليعقوبية وتنسب إليه المنانية أيضاً قولهم وكذلك المزقونية وهذا برهان ظاهر على كذب جميعهم عليهما بلا شك وقد رامت الغالية مثل هذا في القرآن ولكن قد تولى الله حفظه وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف مضمون فيهما وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند المؤبذ وعند ثلاثة وشعرين هربذاً لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم ولا يباح بشيءٍ من ذلك لأحد سواهم ثم دخل فيه الخرم يا حراق الإسكندر لكتابهم أيام غلبتهم لدار ابن دارا وهم مقرون بلا خلاف منهم أنه ذهب منه مقدار الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم وكذلك التوراة إنما كانت طول مدة ملك بني إسرائيل عند الكوهن الأكبر الهاروني وحده لا ينكر ذلك منهم إلا كذاب مجاهر وكذلك الإنجيل إنما هي كتب أربعة مختلفة من تأليف أربعة رجال فأمكن في كل ذلك التبديل وقد نقلت كواف المجوس الآيات المعجزات عن زرادشت كالصفر الذي أفرغ وهو مذاب على صدره فلم يضره وقوائم الفرس التي غاصت في بطنه فأخرجها وغير ذلك وممن قال أن المجوس أهل كتاب علي بن أبي طالب وحذيفة رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور أصحاب أهل الظاهر وقد بينا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى الإيصال في كتاب الجهاد منه وفي كتاب الذبائح منه وفي كتاب النكاح منه والحمد لله رب العالمين ويكفى من ذلك صحة أخذ رسول الله الجزية منهم وقد حرم الله عز وجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير كتابي

قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما العيسوية من اليهود فإنه يقال لهم إذا صدقتم الكافة في نقل القرآن عن النبي من أنه عليه السلام بعث إلى الناس كافة بقوله تعالى فيه آمراً لرسوله أن يقول يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً وقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقوله تعالى فيه قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وما فيه من دعاء اليهود إلى ترك ما هم عليه والرجوع إلى شريعته عليه السلام وهذا ما لا مخلص منه فإن اعترضوا بما في القرآن مما حرم عليهم يعني اليهود وحضهم على التزام السبت.

فإنما هو تبكيت لهم فيما سلف من أسلافهم الذين قفواهم آثارهم يبين هذا نص القرآن في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام أنه رسول الله إلى بني إسرائيل ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وهذا نص جلي على نسخ شريعتهم وبطلانها ثم ما لم ينكره أحد من مؤمن ولا كافر من أنه عليه السلام حارب يهود بني إسرائيل من بني قريظة والنضير وهذل وبين قينقاع وقتلهم وسباهم وألزمهم الجزية وسماهم كفاراً إذ لم يرجعوا إلى الإسلام وقبل إسلام من أسلم منهم فلو لم يكن نسخ دينهم ما حل له إجبارهم على تركه أو الجزية والصغار ولا جاز له قبول ترك ما ترك منهم بدين بني إسرائيل ومن المحال الممتنع أن يكون عند العيسويين رسولاً صادقاً نبياً ثم يجور ويظلم ويبدل دين الحق فوضح فساد قولهم وتناقضه بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين وهكذا يقال لمن أقر بنبوة بعض الأنبياء عليهم السلام من فرق الصابئين كإدريس وغيره ممن لا يوقن بصحة قولهم فيه كعادمون واسقلابيوس وايلون وغيرهم وللمجوس المقتصرين على زرادشت فقط أخبرونا بأي شيء صحت نبوة من تدعون له النبوة فليس ههنا إلا صحة ما أتوا به من المعجزات فيقال لهم فإن النقل إلى محمد في معجزاته أقرب عهداً وأظهر صحة وأكثر عدداً ناقلين وأدخل في الضرورة ولا فرق ولا مخلص لهم من هذا أصلاً لأنه نقل ونقل إلا أن نقلنا أفشى وأظهر وأقوى انتشاراً ومبدأ هذا مع ذهاب دين الصابئين وانقطاعهم ورجوع نقلهم إلى من لا يقوم بهم حجة لقلتهم ولعلهم اليوم في جميع الأرض لا يبلغون أربعين وأما المجوس فإنهم معترفون مقرون بأن كتابهم الذي فيه دينهم أحرقه الإسكندر إذ قتل دارا بن دارا وأنه ذهب منه الثلثان وأكثر وأنه لم يبق منه إلا أقل من الثلث وأن الشرائع كانت فيما ذهب فإذ هذا صفة دينهم فقد بطل القول به جملة لذهاب جمهوره وأن الله تعالى لا يكلف أحداً ما لا يتكفل بحفظه حتى يبلغ إليه وفي كتاب لهم اسمه خذاي بأنه يعظمونه جداً أن أنوشروان الملك منع من أن يتعلم دينهم في شيء من البلاد إلا في أزدشير خرة وفشا من داتجرد فقط وكان قبله لا يتعلم إلا باصطخر فقط وكان لا يباح إلا لقوم خصائص وكتابهم الذي بقي بعد ما أحرق الإسكندر ثلاثة وعشرون سفراً فلهم ثلاثة وعشرون هربذاً لكل هربذ سفر لا يتعداه إلى غيره وموبذ موبذ أن يشرف على جميع تلك الأسفار وما كان هكذا فمضمون تبديله وتحريفه وكل نقل هكذا فهو فاسد لا يوجب القطع بصحته هذا إلى ما في كتبهم التي لا يصح دينهم إلا بالإيمان بها من الكذب الظاهر كقولهم أن جرم الملك كان يركب إبليس حيث شاء وإن مبدأ الناس من بقلة الريباس وهي الشرالية ومن ولادة بيروان سياوش بن كيفاوش نبي مدينة كنكدر بين السماء والأرض وأسكنها ثمانين ألف راجل من أهل البيوتات هم فيها إلى اليوم فإذا ظهر بهرام هماوند على البقرة ليرد ملكهم نزلت تلك المدينة إلى الأرض ونصروه وردوا دينهم وملكهم

قال أبو محمد رضي الله عنه : وكل كتاب دون فيه الكذب فهو باطل موضوع ليس من عند الله عز وجل فظهر من فساد دين المجوس كالذي ظهر من فساد دين اليهود والنصارى سواء سواء والحمد لله رب العالمين

فصل في مناقضات ظاهرة وتكاذيب واضحة

في الكتاب الذي تسميه اليهود التوراة وفي سائر كتبهم وفي الأناجيل الأربعة يتيقن بذلك تحريفها وتبديلها وأنها غير الذي أنزل الله عز وجل

قال أبو محمد رضي الله عنه : نذكر إن شاء الله تعالى ما في الكتب المذكورة من الكذب الذي لا يشك كل ذي مسكة تمييز في أنه كذب على الله تعالى وعلى الملائكة عليهم السلام وعلى الأنبياء عليهم السلام إلى أخبار أوردوها لا يخفي الكذب فيها على أحد كما لا يخفى ضوء النهار على ذي بصر وقد كنا نعجب من إطباق النصارى على تلك الأقوال الفاسدة المتناقضة التي لا يخفى فسادها على أحد به رمق إلى أن وقفنا على ما بأيدي اليهود فرأينا أن سبيلهم وسبيل النصارى واحدة كشق الأنملة وثبت بذلك عند كل منصف من المخالفين صحة قولنا أن كل من خالف دين الإسلام ونحلة السنة ومذهب أصحاب الحديث فإنه عارف بضلال ما هم عليه إلا أنهم بخذلان الله تعالى إياهم مكابرون لعقولهم مغلبون لأهوائهم وظنونهم على يقينهم تقليداً لأسلافهم وعصبية واستدامة لرياسة دنيوية وهكذا وجدنا أكثر من شاهدناه من رؤسائهم فنحمد الله كثيراً على ما هدانا له من الإسلام ونحلة السنة واتباع الآثار الثابتة ونسأله تثبيتنا على ذلك وأن يجعلنا من الدعاة إليه حتى يدعونا إلى رحمته ورضوانه عند لقائه آمين

قال أبو محمد رضي الله عنه : وليعلم كل من قرأ كتابنا هذا أننا لم نخرج من الكتب المذكورة شيئاً يمكن أن يخرج عل وجه ما وإن دق وبعد فالاعتراض بمثل هذا لا معنى له وكذلك أيضاً لم نخرج منه كلاماً لا يفهم معناه وإن كان ذلك موجوداً فيها لأن للقائل أن يقول قد أصاب الله به ما أراد وإنما أخرجنا ما لا حيلة فيه ولا وجه أصلاً إلا الدعاوي الكاذبة التي لا دليل عليها أصلاً لا محتملاً ولا خفياً

فصل أول ذلك أن بأيدي السامرية توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود

قال أبو محمد رضي الله عنه : أول ذلك أن بأيدي السامرية توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود يزعمون أنها المنزلة ويقطعون أن التي بأيدي اليهود محرفة مبدلة وسائر اليهود يقولون أن التي بأيدي السامرية محرفة مبدلة ولم إلى آخره ولم يقع إلينا توراة السامرية لأنهم لا يستحلون الخروج عن فلسطين والأردن أصلاً إلا أننا قد أتينا ببرهان ضروري على أن التوراة التي بأيدي السامرية أيضاً محرفة مبدلة عندما ذكرنا في آخر هذه الفصول أسماء ملوك بني إسرائيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

فصل في أول ورقة من توراة اليهود التي عند ربانيهم وعانانيهم وعيسويهم

في أول ورقة من توراة اليهود التي عند ربانيهم وعانانيهم وعيسويهم حيث كانوا في مشارق الأرض ومغاربها لا يختلفون فيها على صفة واحدة لو رام أن يزيد فيها لفظة أو ينقص أخرى لافتضح عند جميعهم مبلغة ذلك إلى أحبارهم الذين كانوا أيام ملك الهارونية لهم قبل الخراب الثاني بدهر يذكرون أنها مبلغة ذلك من أولئك إلى عذراء الوراق الهاروني ففي صدرها قال الله تعالى اصنع بناء آدم كصورتنا كشبهنا

قال أبو محمد رضي الله عنه : ولو لم يقل إلا كصورتنا لكان له وجه حسن ومعنى صحيح وهو أن نضيف الصورة إلى الله تعالى إضافة الملك والخلق كما تقول هذا عمل الله وتقول للقرد والقبيح والحسن هذه صورة الله أي تصوير الله والصفة التي انفرد بملكها وخلقها لكن قوله كشبهنا منع التأويلات وسد المخارج وقطع السبل وأوجب شبه آدم لله عز وجل ولابد ضرورة وهذا يعلم بطلانه ببديهة العقل إذ الشبه والمثل معناهما واحد وحاشى لله أن يكون له مثل أو شبه فصل وبعد ذلك قال ونهر يخرج من عدن فيسقي الجنان ومن ثم يفترق فيصير أربعة رؤس.

اسم أحدها النيل وهو محيط بجميع بلاد زويله الذي به الذهب وذهب ذلك البلد جيد وبها اللؤلؤ وحجارة البلور.

واسم الثاني جيجان وهو محيط بجميع بلاد الحبشة.

واسم الثالث الدجلة وهو السائر شرق الموصل.

واسم الرابع الفرات وأخذ الله آدم ووضعه في جنات عدن

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الكلام من الكذب وجوه فاحشة قاطعة بأنها من توليد كذاب مستهزأ أول ذلك أخباره أن هذه الأربعة تفترق من النهر الذي يخرج من جنات عدن التي أسكن الله فيها آدم غذ خلقه ثم أخرجه منها إذ أكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن أكلها وكل من له أدنى معرفة بالهيئة وبنصبة الربع المعمور من الأرض الذي هو في سماك الأرض أو من مشى إلى مصر والشام والموصل يدري أن هذا كله كذب فاضح وأن مخرج النيل من عين الجنوب من خارج المعمور ومصبه قبالة تنيس وقبالة الإسكندرية في آخر أعمال مصر في البحر الشامي وأن مخرج الدجلة والفرات وجيجان من الشمال.

فأما جيجان فيخرج من بلاد الروم ويمر ما بين المصيصة وربضها المسمى كفرينا حتى يصب في البحر الشامي على أربعة أميال من المصيصة وأما دجلة فمخرجها من أعين بقرب خلاط من عمل أرمينية بقرب آمد من ديار بكر وتصب مياهها في البطائح المشهورة بقرب البصرة في أرض العراق متأخمه أرض العرب.

وأما الفرات فمخرجه من بلاد الروم على يوم من قالى قلا قرب أرمينيه ثم يخرج إلى ملطيه ثم يأخذ على أعمال الرقه إلى العراق وينقسم إلى قسمين كلاهما يقع في دجلة فهذه كذبة شنيعة كبيرة لا مخلص منها والله تعالى لا يكذب وأخرى وهي قوله إن النيل محيط ببلد زويلة.

وجيجان محيط ببلد الحبشة وهذه كذبة شنيعة فاحشة ما في جميع أرض السودان الحبشة وغير الحبشة نهر غير النيل أصلاً ويتفرع سبعة فروع كلها مخرج واحد ثم يجتمع فوق بلاد النوبة.

وكذبة ثالثة وهي قوله أن ببلد زويلة اللؤلؤ الجيد وهذا كذب ما للؤلؤ بها مكان أصلاً إنما اللؤلؤ في مغاصاته في بحر فارس وبحر الهند وأنهار بالهند والصين وهذه فضايح لا خفاء بها لم يقلها الله تعالى قط ولا إنسان يهاب الكذب.

فإن قال قائل فقد صح عن نبيكم أنه قال النيل والفرات وسيحان وجيجان من أنهار الجنة قلنا نعم هذا حق لاشك فيه ومعناه هو على ظاهره بلا تكليف تأويل أصلاً وهي أسماء لأنهار الجنة كالكوثر والسلسبيل.

فإن قيل قد صح عنه عليه السلام أنه قال ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة وروي عنه مقبري ومنبري روضة من رياض الجنة.

قلنا هذا حق وهو من أعلام نبوته لأنه أنذر بمكان قبره فكان كما قال وذلك المكان لفضله وفضل الصلاة فيه يؤدي العمل فيه إلى دخول الجنة فهي روضة من رياضها وباب من أبوابها ومعهود اللغة أن كل شيء فاضل طيب فإنه يضاف إلى الجنة ونقول لمن بشرنا بخبر حسن هذا من الجنة وقال الشاعر : روائح الجنة في الشباب.

وليس كذلك هذا الذي في توراة اليهود لأن واضعها لم يدعلها في لبس من كذبه بل بين أنه عنى النيل المحيط بأرض زويلة بلد الذهب الجيد ودجلة التي بشرقي الموصل وجيجان المحيط ببلد الحبشة التي لم تخلق بعد فلم يدع لطالب تأويل لكلامه حيلة ولا مخرجاً وأيضاً فإنهم لا يمكنهم ألبتة تخريج ما في توراتهم المكذوبة على ما وصفنا نحن الآن في نص توراتهم أن الجنة التي أخرج منها آدم لأكله من الشجرة التي فيها إنما هي هي شرقي عدن في الأرض لا في السماء كما نقول نحن فثبتت الكذبة لا مخرج منها أصلاً ولو لم يكن في توراتهم إلا هذه الكذبة وحدها لكفت في بيان أنها موضوعة لم يأت بها موسى قط ولا هي من عند الله تعالى فكيف ولها نظائر ونظائر ونظائر.

فإن قيل في القرآن ذكر سد يأجوج ومأجوج ولا يدري مكانه ولا مكانهم قلنا مكانه معروف في أقصى الشمال في آخر المعمور منه.

وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى وقد ذكر يأجوج ومأجوج والسد ارسطاطاليس في كتابه في الحيوان عند كلامه على الغرانيق وقد ذكر سد يأجوج ومأجوج بطليموس في كتابه المسمى جغرافيا.

وذكر طول بلادهم وعرضها وقد بعث إليه الواثق أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه ذكر ذلك أحمد بن الطيب السرخسي وغيره وقد ذكره قدامة بن جعفر والناس فهيهات خبر من خبر وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف في شيءٍ من المعمور مكانه لما ضر ذلك خبرنا شيئاً لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء حيث يكون ميل الشمس ورجوعها وبعدها كما هو في الجهة الشمالية بحيث تكون الآفاق كبعض آفاقنا المسكونة والهواء كهواء بعض البلاد التي يوجد فيها النبات والتناسل.

واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان فادخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان فهو كاذب مبطل جاهل أو مجاهل لاسيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره وإنما الشأن في المحال الممتنع التي تكذبه الحواس والعيان أو بديهة العقل فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر ونعوذ بالله من البلاء

فصل وقال الله هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر

ثم قال وقال الله هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر والآن كيلا يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيى إلى الدهر فطرده الله من جنات عدن

قال أبو محمد رضي الله عنه : حكايتهم عن الله تعالى أنه قال هذا آدم قد صار كواحد منا مصيبة من مصائب الدهر وموجب ضرورة أنهم آلهة أكثر من واحد ولقد أدى هذا القول الخبيث المفتري كثيراً من خواص اليهود إلى الاعتقاد أن الذي خلق آدم لم يكن إلا خلقاً خلقه الله تعالى قبل آدم وأكل من الشجرة التي أكل منها آدم فعرف الخير والشر ثم أكل من شجرة الحياة فصار إلهاً من جملة الآلهة نعوذ بالله من هذا الكفر الأحمق ونحمده إذ هدانا للملة الزهراء الواضحة التي تشهد سلامتها من كل دخل بأنها من عند الله تعالى

فصل وبعد ذلك وأسكن في شرقي جنة عدن

وبعد ذلك وأسكن في شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب بحراسة شجرة الحياة ورأيت في نسخة أخرى منها ووكل بالجنان المشتهر إسرافيل ونصب بين يديه رمحاً نارياً ليحفظ طريق شجرة الحياة

قال أبو محمد رضي الله عنه : إن لم يكن أحدهما خطأ من المترجم وإلا فلا أدري كيف هذا

فصل وبعد ذلك قال الله تعالى كل من قتل قابيل نفاديه إلى سبعة

وبعد ذلك قال الله تعالى كل من قتل قابيل نفاديه إلى سبعة ولاتنا كربين جميعهم في أن لامك بن متوشائيل بن محويائيل ابن عيراد بن حنوك بن قابين هو الذي قتل قابين جد جد أبيه وأ ه لم يقل به فنسبوا إلى الله تعالى الكذب لأنه وعده أن يفديه إلى السبعة ولم يفده وأيضاً فإن ذكر السبعة هنا حمق لأن لامك الذي قتله هو الخامس من ولد قابين وقابين هو الخامس من آباء لامك فلا مدخل للسبعة ههنا

فصل وقبل هذا ذكر هابيل بن آدم وأنه راعي غنم

وقبل هذا ذكر هابيل بن آدم وأنه راعي غنم ثم قال قبل ذلك بنحو ورقتين أن لامك المذكور آنفاً اتخذ امرأتين اسم إحداهما عادة والثانية صلة وولدت عادة يابال وهو أول من سكن الأخبية وملك الماشية وهاتان قضيتان تكذب إحداهما الأخرى ولابد

فصل وبعد ذلك قال فلما ابتدأ الناس يكثرون على ظهر الأرض

وبعد ذلك قال فلما ابتدأ الناس يكثرون على ظهر الأرض وولد لهم البنات فلما رأى أولاد الله بنات آدم أنهن حسان اتخذوا منهن نساءً وقال بعد ذلك كان يدخل بنو الله إلى بنات آدم ويولد لهم حراماً وهم الجبابرة الذين على الدهر لهم أسماء وهذا حمق ناهيك به وكذب عظيم إذ جعل الله أولاداً ينكحون بنات آدم وهذه مصاهرة تعالى الله عنها حتى أن بعض أسلافهم قال إنما عني بذلك الملائكة وهذه كذبة إلا أنها دون الكذب في ظاهر اللفظ

فصل وفي خلال هذا قال لا يدين روحي في الإنسان إلى الدهر

وفي خلال هذا قال لا يدين روحي في الإنسان إلى الدهر إذ هم منتشرون لزيغانه هو بشر فتكون أعمارهم مائة وعشرين سنة وهذا كذب فاحش ومصيبة الأبد لأنه ذكر بعد هذا القول أن سام بن نوح عاش بعد ذلك ستمائة سنة وارفحشاذ ابن سام عاش أربعمائة وخمساً وستين سنة وشالخ ابن ارفحشاذ عاش أربعمائة سنة وثلاثاً وثلاثين سنة وعار بن شالخ عاش أربعمائة سنة وأربعاً وستين سنة وفالغ بن عار عاش مائتي سنة وسبعاً وثلاثين سنة رعو بن فالغ عاش مائتي سنة وتسعاً وعشرين سنة وسروغ بن رعو عاش مائتي سنة وثلاثين سنة وناحور بن سروغ عاش مائة وثمان وأربعين سنة وتارح بن ناحور عاش مائتي سنة وخمسين سنة وإبراهيم بن تارح عاش مائة سنة وخمساً وسبعين سنة وإسحاق بن إبراهيم عاش مائة سنة وثمانين سنة وإسماعيل ابن إبراهيم عاش مائة سنة وسبعاً وثلاثين سنة ويعقوب بن إسحاق عاش مائة سنة وسبعاً وأربعين سنة ولاوي بن يعقوب عاش مائة سنة وسبعاً وثلاثين سنة وعمران بن فهث عاش كذلك أيضاً وفهث بن لاوي عاش مائة سنة وثلاثاً وثلاثين سنة وإن سارح بنت أشر ومريم بنت عمران وهارون بن عمران عاش كل واحد منهم أزيد من مائة وعشرين سنة بسنيهم فأعجبوا لهذه الفضائح ولعقول تتابعت على التصديق والتدين بمثل هذا الإفك الذي لا خفاء به

فصل وبعد ذلك ذكر أن متوشالح بن حنوك بن مارد عاش تسعمائة سنة وتسعاً وستين سنة

وبعد ذلك ذكر أن متوشالح بن حنوك بن مارد عاش تسعمائة سنة وتسعاً وستين سنة وأنه ولد له لامك وهو ابن مائة سنة وسبع وثمانين سنة وأن لامك المذكور إذ بلغ مائة سنة واثنين وثمانين سنة ولد له نوح عليه السلام فلا شك من أن متوشالح كان إذ ولد له نوح بن ثلاثمائة سنة وتسع وستين سنة فوجب من هذا ضرورة أن نوحاً عليه السلام كان ابن ستمائة سنة إذ مات متوشالح فاضبطوا هذا ثم قال إن في اليوم السابع عشر من الشهر الثاني من سنة ستمائة من عمر نوح اندفعت المياه بالطوفان ثم قال إن في اليوم سبعة وعشرين يوماً من الشهر الثاني من سنة إحدى وستمائة لنوح خرج نوح من التابوت يعني السفينة هو ومن كان معه فوجب من هذا ضرورة لا محيد عنها أن متوشالح بن حنوك دخل السفينة وأنه فيها مات قبل خروجهم منها بشهرين غير ثلاثة أيام وقد قطع فيها وبت على أنه لم يدخل التابوت أحد من الناس إلا نوح وبنوه الثلاثة وامرأة نوح وثلاثة نساء لأولاده وقد قطع فيها وبت على أنه لم ينج من الغرق إنسي أصلاً ولا حيوان في غير التابوت وهذه كذبات تفواضح نعوذ بالله من مثلها لأن في نصوص توراتهم كما أوردنا أن متوشالح لم يغرق لأنه لو غرق لم يستوف تمام السنة الموفية ستماية سنة لنوح وفي نصها أنه استوفاها وأيضاً فإنه عندهم محمود ممدوح لم يستحق الهلاك قط وأبطلوا أن يكون دخل التابوت إذ قطعوا بأنه لم يدخلها إنسي إلا نوح وبنوه الثلاثة ونساؤهم وأبطلوا أن ينجو في غير التابوت بقطعهم أنه لم ينج إنس ولا حيوان في غير التابوت ولابد لمتوشالح من أحد هذه الوجوه الثلاثة فلاح الكذب البحت في نقل توراتهم ضرورة وتيقن كل ذي عقل أنها غير منزلة من الله تعالى ولا جاء بها نبي أصلاً لأن الله تعالى لا يكذب والأنبياء لا تأتي بالكذب فصح يقيناً أنها من عمل زنديق جاهل أو مستخف متلاعب بهم ونعوذ بالله من مثل مقامهم وفي هذا الفصل كفاية فكيف ومعه أمثاله كثيرة

فصل وبعد ذلك أن نوحاً إذ بلغه فعل ابنه حام أبي كنعان

وبعد ذلك أن نوحاً إذ بلغه فعل ابنه حام أبي كنعان قال ملعون أبو كنعان عبد العبيد يكون لإخوته مستعبداً يكون لأخويه.

يبارك الإله ساماً ويكون أبو كنعان عبداً لهم.

إحسان الله ليافث ويسكن في أخبية سام ويكون أبو كنعان عبداً لهم ثم نسي نفسه المحرف أو تعاظم استخفافاً بهم فلم يطل لكنه بعد ستة أسطر قال إذ ذكر أولاد حام فقال بنو حام كوش ومصرايم وفوحا وكنعان وبنو كوش وصبان وزويلة ورغاوة ورعمة وسفتخا وبنور عمة السند والهند وكوش ولد نمردود الذي ابتدأ يكون جبارً في الأرض الذي كان جبار صيد بين يدي الله عز وجل وكان أول مملكته بابل فحصل من هذا الخبر تكذيب نوح في خبره وهو بإقرارهم نبي معظم جداً وإذ وصف أن ولد أبي كنعان صاروا ملوكاً على إخوة بني كنعان وعلى بنيهم ثم العجب كله أن على ما توجبه توراتهم كان ملك نمرود بن كوش بن كنعان بن حام على جميع الأرض ونوح حيوسام بن نوح حي لأن في نص توراتهم أن نوحاً عاش إلى أن بلغ إبراهيم بن تارح عليه السلام ثمانية وخمسين عاماً وأن سام بن نوح عاش إلى أن بلغ يعقوب وعيصا ابنا إسحق بن إبراهيم عليهما السلام خمساً وأربعين سنة على ما ذكره من مواليدهم أبا فأبا فمالنا نرى خبر نوح معكوساً فإن قالوا إن السودان تملكوا اليوم قلنا وفي السودان ملك عظيم جداً وممالك شتى كعانة والحبشة والنوبة والهند والتبت والأمر بينهم سواء يملكون طوايف من بني سام كما يملك بنو سام طوايف منهم وحاش لله أن يكذب نبي

فصل وقال توراتهم أن نوحاً لما بلغ خمسمائة سنة ولد له يافث وسام وحام

وقال توراتهم أن نوحاً لما بلغ خمسمائة سنة ولد له يافث وسام وحام ثم ذكر أن نوحاً إذ بلغ ستمائة سنة كان الطوفان ولسام يومئذ مائة سنة وقال بعد ذلك أن سام بن نوح لما كان ابن مائة سنة ولد ارقكشاد لسنتين بعد الطوفان وهذا كذب فاحش وتلون سمج وجهل مظلم لأنه إذا كان نوح إذ ولد له سام ابن خمسمائة سنة وبعد مائة سنة كان الطوفان فسام حينئذ ابن مائة سنة وإذ ولد له بعد الطوفان بسنتين ارفحشاد ابن مائة سنة وسنتين وفي نص توراتهم أنه كان ابن مائة سنة وهذا كذب لا خفاء به حاش لله من مثله

فصل وبعد ذلك أن الله تعالى قال لإبراهيم اعلم علماً أنه سيكون نسك غريباً في بلد

وبعد ذلك أن الله تعالى قال لإبراهيم اعلم علماً أنه سيكون نسك غريباً في بلد ليس له ويستعبدونهم ويعذبونهم أربعماية سنة وأيضاً القوم الذين يعذبونهم يحكم لهم وبعد ذلك بشرح عظيم وأنت تسير لآبائك بسلام وتدفن بشيبة صالحة والجيل الرابع من البنين يرجعون إلى ههنا

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل على قلته كذبتان فاحشتان شنيعتان منسوبتان إلى الله تعالى وحاش لله الكذب والخطأ فأحدهما قوله والجيل الرابع من البنين يرجعون إلى ههنا وهذا كذب لا خفاء به لأن الجيل الأول من بني إبراهيم عليه السلام وهم إسحاق وإخوته عليهم السلام والجيل الثاني هم يعقوب وعيصا وبنو أعمامهما والجيل الثالث أولاد يعقوب لصلبه وهم دوبان وشمعون ويهوذا ولاوي وساخار وزابلون ويوسف وبنيامين وادي وهباد وعاذ واشاد وأولاد عيصا ومن كان في تعدادهما من سائر عقب إبراهيم والجيل الرابع هم أولاد هؤلاء المذكورين وهم والجيل الثالث آباؤهم ويعقوب جدهم هم الداخلون مصر لا الخارجون منها بنص توراتهم وإجماعهم كلهم بلا خلاف من أحد منهم وإنما رجع إلى الشام بنص توراتهم وإجماعهم كلهم الجيل السادس من أبناء إبراهيم وهم أولاد الجيل الرابع المذكور وما رجع من الجيل الرابع ولا من الجيل الخامس ولا واحد إلى الشام وحاشى لله من أن يكذب في خبره.

فإن قيل إنما تعد الأجيال من الجيل المعذب قلنا هذا خلاف نص توراتهم لأن نصها الجيل الرابع من الأبناء وأيضاً فإنه لم يعذب أحد من أولاد يعقوب بل كانوا مبرورين وهم الجيل الثالث بنص توراتهم حرفاً حرفاً على ما نورد بعد هذا إن شاء الله تعالى فإنما ابتدأ التعذيب في أبناء يعقوب وهم الداخلون مع آبائهم وهم الجيل الرابع فعد من حيث شئت لست تخرج من شرك الكذب الفاضح وفي هذا كفاية والكذبة الثانية طامة من الطمات وهي قوله لإبراهيم أن نسلك سيكون غريباً في بلد ليس له ويستعبدونهم ويعذبونهم أربعمائة سنة من وقت بدإِ بتعذيب بني إسرائيل بمصر فإنما ذلك بعد موت يوسف عليه السلام إلى أن خرج بهم موسى عليه السلام نصاً إذ في سياق توراتهم ولما مات يوسف وجمع إخوته وذلك الجيل كله كثير بنو إسرائيل وتكاثروا وتقووا فملكوا الأرض وولى عند ذلك بمصر ملك جديد لم يعرف يوسف فقال لأهل مملكته إن بني إسرائيل قد كثروا وصاروا أقوى منا فإذ دلوهم بيننا نعماً لئلا يزدادوا كثرة ويكونوا عوناً لمن رام محاورتنا فقدم عليهم أصحاب صناعته لسخرتهم هذا نص توراتهم شاهدة بما قلنا وقد ذكر في توراتهم إذ ذكر من دخل مع يعقوب من ولده وولد ولده أن فاهث بن لاوي بن يعقوب والد عمران بن فاهاث وهو جد موسى عليه السلام وكان ممن ولد بالشام ودخل مصر مع أبيه لاوي وجده يعقوب وذكر فيها أيضاً أن جميع عمر فاهاث المذكور ابن لاوي وكان مائة سنة وثلاثاً وثلاثين سنة وأن جميع عمر عمران بن فاهاث المذكور كان مائة سنة وسبعاً وثلاثين سنة وذكر فيها نصاً أن موسى عليه السلام كان إذ خرج ببني إسرائيل من مصر ابن ثمانين سنة هكذا كله نص توراتهم حرفاً بحرف بإجماع منهم أولهم عن آخرهم فهبك أن فاهاث كان إذ دخلها ابن أقل من شهر وأن عمران ولد له سنة موته وأن موسى ولد لعمران سنة موته فالمجتمع من هذا العدد كله ثلاثمائة سنة وخمسون سنة وهذه كانت مدتهم بمصر من يوم دخولها إلى أن خرجوا عنها على هذا الحساب فأين الأربعماية سنة فكيف ولا بد أن يسقط سن فاهاث إذ دخل مصر مع أبيه لاوي المدة التي كانت من ولادة عمران لفاهث إلى موت فاهاث والمدة التي كانت من ولادة موسى عليه السلام إلى موت ابنه عمران وفي كتب اليهود أن فاهاث دخل مصر وله ثلاث سنين وأنه كان إذ ولد له عمران ابن ستين سنة وأن عمران كان إذ ولد له موسى عليه السلام ابن ثمانين سنة فعلى هذا لم يكن بقاء بني إسرائيل بمصر مذ دخلوها مع يعقوب إلى أن خرجوا منها مع موسى إلا مائتي عام وسبعة عشر عاماً فأين الأربعمائة عام فكيف ولابد أن يسقط من هذا العدد الأخير مدة حياة يوسف مذ دخل إخوته وأبوهم وبنوهم مصر إلى أ مات يوسف عليه السلام فطول هذا الأمد لم يكونوا مستخدمين ولا معذبين ولا مستعبدين بل كانوا أعزاء مكرمين وفي نص توراتهم أن يوسف عليه السلام كان إذ دخل على فرعون ابن ثلاثين سنة ثم كانت سنو الخطب سبع سنين وبدأت سنو الجوع ودخل يعقوب ونسله مصر بعد سنتين من سني الجوع فليوسف حينئذ تسع وثلاثون سنة وفي نص توراتهم أن يوسف كان إذ مات ابن ماية سنة وعشر سنين فصح أن مدتهم مذ دخلوا مصر إلى أن مات يوسف عليه السلام كانت إحدى وسبعين سنة فقط ولابد فالباقي مائة سنة وست وأربعون سنة يسقط منها ولابد بنص توراتهم مدة بقاء من بقي من إخوة يوسف بعده ولم نجد من ذلك إلا عمر لاوي فقط فإنه على نص التوراة كان يزيد على يوسف ثلاثة أعوام أو أربعة فعاش بعد يوسف ثلاثة وعشرين عاماً فقط ولابد من هذا العدد فالباقي ماية سنة وثلاث وعشرون سنة هذه مدة عذابهم واستخدامهم واستعبادهم على أبعد الأعداد وقد تكون أقل فأين الأربعمائة سنة ولعل وقاح الوجه أن يقول ما أعد ذلك إلا من دخول يوسف مصر مستعبداً مستخدماً معذباً ثم مسجوناً فاعلم أنه لا يزيد على المأتي عام وسبعة عشر عاماً التي ذكرنا قبل اثنين وعشرين عاماً فقط فذلك مائتا عام وتسعة وثلاثون عاماً فأين الأربعمائة سنة فظهر الكذب المفضوح الذي لا يدري كيف خفي عليهم جيلاً بعد جيل ورأيت لنزل منهم مقالة ظريفة وهي انه ذكر هذه القصة وقال إنما ينبغي أن تعد هذه الأربعماية سنة من حين خاطب الله عز وجل إبراهيم بهذا الكلام

قال أبو محمد رضي الله عنه : وأراد هذا الساقط الخروج من مزبلة فوقع في كنيف عذرة لأنه جاهر بالباطل وتعجل الفضيحة ونسبة الكذب إلى الله تعالى إذ نص ما حكوه عن الله تعالى أنه قال لإبراهيم أن نسلك يستعبد أربعمائة سنة ولم يقل له قط من الآن إلى انقضاء استخدامهم أربعمائة سنة وأيضاً فإن نص توراتهم أن الله تعالى إنما قال هذا الكلام لإبراهيم قبل ولادة إسماعيل هذا أيضاً فكان إبراهيم حينئذ ابن أقل من ستة وثمانين عاماً ثم عاش بعد ذلك أربعة عشر عاماً وولد له إسحاق وعاش إسحاق مائة وثمانين وسنة ومات إسحاق وليعقوب ماية وعشرون سنة ودخل يعقوب مصر وله ماية وثلاثون سنة كل هذا نصوص توراتهم بلا اختلاف منهم ممات إسحاق قبل دخول يعقوب مصر بعشرة أعوام فمن حين ادعوا أن الله تعالى قال هذا الكلام لإبراهيم إلى دخول يعقوب مصر مايتا عام وأربعة أعوام ومن دخول يعقوب مصر إلى خروج موسى عنها كما ذكرنا مائة عام وسبعة عشر عاماً فحصنا على أربعمائة عام وأربعة وعشرين عاماً فلا منجا من الكذب إما بزيادة أو نقصان وحاش لله أن يكذب في حساب بدقيقة فكيف بأعوام والله خالق الحساب ومعلمه عباده ومعاذ الله أن يكذب موسى عليه السلام أو يخطىء فيما أوحى الله تعالى إليه فوضح يقيناً لكل من له أدنى فهم يقيناً كما أن أمس قبل اليوم أنها ليست من عند الله تعالى ولا من أخبار نبي ولا من تأليف عالم يتقي الكذب ولا من عمل من يحسن الحساب ولا يخطىء فيما لا يخطي فيه صبي بحسن الجمع والطرح والقسمة والتسمية ولكنها بلا شك من عمل كافر مستخف ماجن سخر بهم وتطايب منهم وكتب لهم ماسخهم الله به وجوههم عاجلاً في الدنيا بالفضيحة وآجلاً في الآخرة بالنار والخلود فيها أو من عمل تيس أرعن تكلف إملاء ما لم يقم بحفظه جاهل مع ذلك مظلم الجهل بالهيئة وصفة الأرض وبالحساب وبالله تعالى وبرسله صلى الله عليهم وسلم فأملى ما خرج إلى فهمه من خبيث وطيب ولقد كان في هذا الفصل كفاية لمن نصح نفسه لو لم يكن غيره فكيف ومعه عجائب جمة ونحمد الله تعالى على نعمة الإسلام كثيراً

فصل وبعد ذلك ذكر أن الله تعالى قال لإبراهيم لنسلك أعطي هذا البلد من نهر مصر النهر الكبير إلى نهر الفرات

وبعد ذلك ذكر أن الله تعالى قال لإبراهيم لنسلك أعطي هذا البلد من نهر مصر النهر الكبير إلى نهر الفرات وهذا كذب وشهرة من الشره لأنه إن كان عني بني إسرائيل وهكذا يزعمون فما ملكوا قط من نهر مصر ولا على نحو عشرة أيام منه شبراً مما فوقه وذلك من موقع النيل إلى قرب بيت المقدس وفي هذه المسافة الصحاري المشهورة الممتدة والحضار ثم دفج وغزة وعسقلان وجبال الشراه التي لم تزل تحاربهم طول مدة دولتهم وتذيقهم الأمرين إلى انقضاء دولتههم ولا ملكوا قط من الفرات ولا على عشرة أيام منه بل بين أخر حوز بني إسرائيل إلى أقرب مكان من الفرات إليهم نحو تسعين فرسخاً فيها قنسرين وحمص التي لم يقبوا منها قط ثم دمشق وصور وصيدا التي لم يزل أهلها يحاربونهم ويسومونهم الخسف طول مدة دولتهم بإقرارهم ونصوص كتبهم وحاش لله عز وجل أن يخلف وعده في قدر دقيقة من سرابة فكيف في تسعين فرسخاً في الشمال ونحوها في الجنوب ثم قوله النهر الكبير وما في بلادهم التي ملكوا نهر يذكر إلا الأردن وحده وما هو بكبير إنما مسافة مجراه من بحيرة الأردن إلى مسقطه في البحيرة المتنتة نحو ستين ميلاً فقط فإن قال قائل إنما عنى الله بهذا الوعد بني إسماعيل عليه السلام قلنا وهذا أيضاً خطأ لأن هذا القدر المذكور ههنا من الأرض أقل من جزء من مائة جزء مما ملك الله عز وجل بني إسماعيل عليه السلام وأين يقع ما بين مصب النيل عند تنيس وبين الفرات من آخر الأندلس على ساحل البحر المحيط وبلاد البربر كذلك إلى آخر السند وكابل مما يلي بلاد الهند ومن ساحل اليمن إلى ثغور أرمينية وأذربيجان فما بين ذلك والحمد لله رب العالمين فكيف وهذه الدعوى باطلة لأن ذلك الكلام بعضه معطوف على بعض فالموعودون بملك ذلك البلد هم المتوعدون بأنهم يتملكون ويعذبون في البلد الآخر وقد أكرم الله تعالى بني إسماعيل وصانهم عن ذلك فوضح الكذب الفاحش في الأخبار المذكورة وصح أنه ليس من عند الله عز وجل ولا من كلام نبي أصلاً بل من تبديل وغد جاهل كالحمار بلادة أو متلاعب بالدين وفاسد المعتقد ونعوذ بالله من الخذلان

فصل ومنها أن الله تعالى قال لإبراهيم أنا الله الذي أخرجتك من أتون

ومنها أن الله تعالى قال لإبراهيم أنا الله الذي أخرجتك من أتون الكردانيين لأعطيك هذا البلد حوراً فقال له إبراهيم يا رب بماذا أعرف أني أرث هذا البلد

قال أبو محمد رضي الله عنه : حاشى لله أن يقول إبراهيم لربه هذا الكلام فهذا كلام من لم يثق بخبر الله عز وجل حتى طلب على ذلك برهاناً فإن قال قائل جاهل ففي القرآن أنه قال رب أرني كيف تحيي الموتى وأن زكريا قال لله تعالى إذ وعده بابن يسمى يحيى رب اجعل لي آية قلنا بين المراجعات المذكورة فرق كما بين المشرق والمغرب أما طلب إبراهيم عليه السلام رؤية إحياء الموتى فإنما طلب ذلك ليطمئن قلبه المنازع له إلى رؤية الكيفية في ذلك فقط.

بيان ذلك قوله تعالى له أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فوضح أن إبراهيم لم يطلب ذلك برهاناً على شك أزاله عن نفسه لكن ليرى الهيئة فقط وأما زكريا عليه السلام فإنما طلب آية تكون له عند الناس لئلا يكذبوه هذا نص كلامه والذي ذكروه عن إبراهيم عليه السلام كلام شاك يطلب برهاناً يعرف به صحة وعد ربه له تعالى الله عن ذلك وحاشى لإبراهيم منه

فصل وبعد ذلك قال وتجلى الله لإبراهيم عند بلوطات ممرأ وهو جالس عند باب الخباء

وبعد ذلك قال وتجلى الله لإبراهيم عند بلوطات ممرأ وهو جالس عند باب الخباء عند حمي النهار ورفع عينيه ونظر فإذا بثلاثة نفر وقوف أمامه فنظر وركض لاستقبالهم عند باب الخباء وسجد على الأرض وقال يا سيدي إن كنت قد وجدت نعمة في عينك فلا تتجاوز عبدك ليؤخذ قليل من ماء واغسلوا أرجلكم واستندوا تحت الشجرة وأقدم لكم كسرة من الخبز تشتد بها قلوبكم وبعد ذلك تمضون فمن أجل ذلك مررتم على عبدكم فقالوا اصنع كما قلت فأسرع إبراهيم إلى الخباء إلى سارة وقال لها اصنعي ثلاث صيعان من دقيق سميذ اعجنيه واصنعي خبز ملة وحضر إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصاً سميناً ودفعه للغلام واستعجل بإصلاحه وأخذ سمناً ولبناً والعجل الذي صنعوه وقدم بين أيديهم وهو واقف عليهم تحت الشجرة وقال كلوا

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل آيات من البلاء شنيعة نعوذ بالله من قليل الضلال وكثيره فأول ذلك إخباره أن الله تعالى تجلى لإبراهيم وأنه رأى الثلثة النفر فأسرع إليهم وسجد وخاطبهم بالعبودية فإن كان أولئك الثلاثة هم الله فهذا هو التثليث بعينه بلا كلفة بل هو أشد من التثليث لأنه إخبار بشخوص ثلاثة والنصارى يهربون من التشخيص وقد رأيت في بعض كتاب النصارى الاحتجاج بهذه القضية في إثبات التثليث وهذا كما ترى في غاية الفضيحة فإن كان أولئك الثلاثة ملائكة وهكذا يقولون فعليهم في ذلك أيضاً فضائح عظيمة وكذب فاحش من وجوه أولها من المحال والكذب أن يخبر بأن الله تعالى تجلى له وإنما تجلى له ثلاثة من الملائكة وثانيها أن يخاطب أولئك الملائكة بخطاب الواحد وهذا مما يزيد في ضلال النصارى في هذا الفصل وهذا أيضاً محال في الخطاب وثالثها سجوده للملائكة فإن من الباطل أن يسجد رسول الله وخليله لغير الله تعالى ولمخلوق مثله فهذه كذبة وإن قالوا بل لله سجد فهذه كذبة ولابد وأن يكون الله عندهم هم الثلاثة المتجلون لابد من إحداها وعادة البلية أشد ما كانت ورابعها خطابه لهم بأنه عبدهم فإن كان المخاطب بذلك هو الله تعالى وهو المتجلي له فقد عادت البلية وإن كان المخاطبون بذلك الملائكة فحاشى لله أن يخاطب إبراهيم عليه السلام بالعبودية غير الله تعالى ومخلوقاً مثله مع أن من المحال أن يخاطب ثلاثة بخطاب واحد وخامسها قوله يؤخذ قليل من ماء ويغسل أرجلكم وأقدم كسرة من الخبز تشتد بها قلوبكم فهذه الحالة لئن كان خاطب بهذا الخطاب الله تعالى فهي التي لا سوي لها ولا بقية بعدها والتي تملأ الفم وإن كان خاطب بذلك الملائكة فهذا أكذب لأن إبراهيم عليه السلام لا يجهل أن الملائكة لا تشتد قلوبهم بأكل كسر الخبز فهذه على كل حال كذبة باردة سمجة فإن قالوا ظنهم ناساً قلنا هذا أكذب لأن في أول الخبر يخبر أن الله تجلى له وكيف يسجد إبراهيم ويتعبد لخاطر طريق حاش له من هذا الضلال وسادسها إخباره أنهم أكلوا الخبز والشوى والسمن واللبن وحاشى له أن يكون هذا خبراً عن الله تعالى لا ولا عن الملائكة أين هذا الكذب البارد الفاضح الذي يشبه عقول اليهود المصدقين به من الحق المنير الواضح عليه ضياء اليقين من قول الله عز وجل في هذه القضية نفسها ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط الآيات هيهات نور الحق من ظلمات الكذب والحمد لله رب العالمين كثيراً وفيها أيضاً وجه سابع ليس كهذه الوجوه في الشناعة وهو إقرارهم بأن إبراهيم أطعم الملائكة اللحم واللبن والسمن معاً والربانيون منهم يحرمون هذا اليوم فأقل ما فيه النسخ على أن يكون سلامته من أطم الدواهي والسلامة والله منهم بعيدة

فصل ثم قال متصلاً بهذا الفصل وقالوا له أين سارة زوجتك فقال ها هي ذه في الخباء

ثم قال متصلاً بهذا الفصل وقالوا له أين سارة زوجتك فقال ها هي ذه في الخباء قال سأرجع إليك مثل هذا الوقت من قابل ويكون لها ابن وسارة تسمع في الخباء وهو وراءها وكان إبراهيم وسارة شيخين قد طعنا في السن وانتهى لسارة أن لا يكون لها عادة كالنساء فضحكت سارة في نفسها قائلة أبعد أن نليت يصير لي ذا وسيدي شيخ قال الله لإبراهيم لماذا ضحكت سارة قائلة هل لي أن ألد وأنا عجوز وهل يخفى عن الله أمري في هذا الوقت إذ قال عز من قائل يكون لسارة ابن فجحدت سارة وقالت لم أضحك لأنها خافت وقال السيد ليس كما تقولين بل قد ضحكت فقام القوم من ثم

قال أبو محمد رضي الله عنه : عاد الخبر بين سارة وإبراهيم وبين الله عز وجل وعاد الحديث الماضي ثم في هذا زيادة أن الله تعالى قال أن سارة ضحكت وقالت سارة لم أضحك فقال الله بلى قد ضحكت فهذه مراجعة الخصوم وتعارض الأكفاء وحاش لسارة الفاضلة المنبأة من الله عز وجل بالبشارة من أن تكذب الله عز وجل فيما يقول وتكذب هي في ذلك فتجحد ما فعلت فتجمع بين سوأتين إحداهما كبيرة من الكبائر قد نزه الله عز وجل الصالحين عنها فكيف الأنبياء والأخرى أدهى وأمر وهي التي لا يفعلها مؤمن ولو أنه أفسق أهل الأرض لأنها كفر ونعوذ بالله من الضلال

فصل وبعد ذلك وصف أن الملكين باتا عند لوط وأكلا عنده الخبز

وبعد ذلك وصف أن الملكين باتا عند لوط وأكلا عنده الخبز الفطير وأن لوطاً سجد لهما على وجه الأرض وتعبد لهما وقد مضى مثل هذا وأنه كذب وأن الملائكة لا تأكل فطيراً ولا مختمراً وأن الأنبياء عليهم السلام لا يسجدون لغير الله تعالى ولا يتعبدون لسواه

فصل وذكر أن إبراهيم عليه السلام قال لله عز وجل إذ ذكر له هلاك قوم لوط

وذكر أن إبراهيم عليه السلام قال لله عز وجل إذ ذكر له هلاك قوم لوط في كلام كثير أنت معاذ من أن تصنع هذا الأمر لا تقتل الصالح مع الطالح فأنت معاذ يا حاكم جميع العالم من هذا ولم ينكر الله تعالى عليه هذا القول وقال بعد ذلك إن لوطاً كلم أصحابه المتزوجين بناته وقال لهم اخرجوا من هذا الموضع فإن الله مهلكهم وأنه صار عندهم كاللاعب ثم قال بعد ذلك إن الملائكة أمسكوا بيد لوط وبيد زوجته وابنتيه لشفقة الله عليهم وأخرجوهم خارج القرية ثم ذكر هلاك القرية بكل ما فيها

قال أبو محمد رضي الله عنه : لا تخلو أصهار لوط وبنوه وبناته الناكحات من أن يكونوا صالحين أو طالحين فإن كانوا صالحين فقد هلكوا مع الطالحين وبطل عقد الله تعالى مع إبراهيم في ذلك وحاشى لله من هذا وإن كانوا طالحين فكيف تأمر الملائكة بإخراج الطالحين وهم كانوا مبعوثين لهلاكهم فلابد من الكذب في أحد الوجهين وبالجملة فأخبارهم معفونة جداً

فصل وبعد ذلك قال وأقام لوط في المغارة هو وابنتاه فقالت الكبرى للصغرى

وبعد ذلك قال وأقام لوط في المغارة هو وابنتاه فقالت الكبرى للصغرى أبونا شيخ وليس في الأرض أحد يأتينا كسبيل النساء تعالي نسق أبانا الخمر ونضاجعه ونستبق منه نسلاً فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة فأتت الكبرى فضاجعت أباها ولم يعلم بنومها ولا بقيامها فلما كان من الغد قالت الكبرى للصغرى قد ضاجعت أبي أمس تعالي نسقيه الخمر هذه الليلة وضاجعيه أنت ونستبقي من أبينا نسلاً فسقتاه تلك الليلة خمراً وأتت الصغرى فضاجعته ولم يعلم بنومها ولا بقيامها وحملت ابنتا لوط من أبيهما فولدت الكبرى ابناً وسمته مواب وهو أبو الموابين إلى اليوم وولدت الصغيرة ابناً سمته ابن عمي وهو أبو العمونيين إلى اليوم وفي السفر الخامس من التوراة بزعمهم أن موسى قال لبني إسرائيل إن الله تعالى قال لما انتهينا إلى صحراء بني مواب قال لي لا تحارب بني مواب ولا تقاتلهم فإني لم أجعل لكم فيما تحت أيديهم سهماً لأني قد ورثت بني لوط أدوا وجعلتها مسكناً لهم ثم ذكر أن موسى قال لهم إن الله تعالى قال له أيضاً أنت تخلف اليوم حوز بني مواب المدينة التي تدعي عاد وتنزل في حوز بني عمون فلا تحاربهم ولا تقاتل أحداً منهم فإني لم أجعل لكم تحت أيديهم سهماً لأنهم من بني لوط وقد ورثتهم تلك الأرض

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذه الفصول فضائح وسوآت تقشعر من سماعها جلود المؤمنين بالله تعالى العارفين حقوق الأنبياء عليهم السلام فأولها ما ذكر عن بنتي لوط عليه السلام من قولهما ليس أحد في الأرض يأتينا كسبيل النساء تعالي نسق أباناً خمراً ونضاجعه ونستبق منه نسلاً فهذا كلام أحمق في غاية الكذب والبرد أترى كان انقطع نسل ولد آدم كله حتى لم يبق في الأرض أحد يضاجعهما إن هذا لعجب فكيف والموضع معروف إلى اليوم ليس بين تلك المغارة التي كان فيها لوط عليه السلام مع بنتيه وبين قرية سكنى إبراهيم عليه السلام إلا فرسخ واحد لا يزيد وهو ثلاثة أميال فقط فهذه سوأة والثانية إطلاق الكذاب الواضع لهذه الخرافة لعنه الله هذه الطومة على الله عز وجل من أنه أطلق نبيه ورسوله على هذه الفاحشة العظيمة من وطء ابنتيه واحدة بعد أخرى فإن قالوا لا ملامة عليه في ذلك لأنه فعل ذلك وهو سكران وهو لا يعلم من هما قلنا فكيف عمل إذ رآهما حاملتين وإذ رآهما قد ولدتا ولدين لغير رشدة وإذ رآهما تربيان أولاد الزنا هذه فضائح الأبد وتوليد الزنادقة المبالغين في الاستخفاف بالله تعالى وبرسله عليهم السلام والثالثة إطلاقهم على الله تعالى أنه نسب أولاد ذينك الزنيمين فرخي الزنا إلى ولادة لوط عليه السلام حتى ورثهما بلدين كما ورث بني إسرائيل وبني عيسو ابني إسحاق سواء سواء تعالى الله عن هذا علواً كبيراً فإن قالوا كان مباحاً حينئذ قلنا فقد صح النسخ الذي تنكرونه بلا كلفة وقال قبل هذا إن إبراهيم إذ أمره الله تعالى بالمسير من حران إلى أرض كنعان أخذ مع نفسه امرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران وذكروا في بعض توراتهم أنه كلمته الملائكة وأن الله تعالى أرسلهم إليه فصح بإقرارهم أنه نبي الله عز وجل وهم يقولون أنه بقي في تلك المغارة شريداً طريداً فقيراً لا شيء له يرجع إليه فكيف يدخل في عقل من له أقل إيمان أن إبراهيم عليه السلام يترك ابن أخيه الذي تغرب معه وآمن به ثم تنبأ مثله يضيع ويسكن في مغارة مع ابنتيه فقيراً هالكاً وهو على ثلاثة أميال منه وإبراهيم على ما ذكر في التوراة عظيم المال مفرط الغنى كثير اليسار من الذهب والفضة والعبيد والإماء والجمال والبقر والغنم والحمير ويقولون في توراتهم أنه ركب في ثلاثمائة مقاتل وثمانية عشر مقاتلاً لحرب الذين سبوا لوطاً وماله حتى استنقذوه وماله فكيف يضيعه بعد ذلك هذا التضييع ليست هذه صفات الأنبياء ولا كرامة ولا صفات من فيه شيءٌ من الخير لكن صفات الكلاب الذين وضعوا لهم هذه الخرافات الباردة التي لا فائدة فيها ولا موعظة ولا عبرة حتى ضلوا بها ونعوذ بالله من الخذلان

فصل وفي موضعين من توراتهم المبدلة أن سارة امرأة إبراهيم عليه السلام

وفي موضعين من توراتهم المبدلة أن سارة امرأة إبراهيم عليه السلام أخذها فرعون ملك مصر وأخذها ملك الخلص أبو مالك مرة ثانية وأن الله سبحانه وتعالى أرى الملكين في منامهما ما أوجب ردها إلى إبراهيم عليه السلام وذكر أن سن إبراهيم عليه السلام إذ انحدر من حران خمسة وسبعون عاماً وأن إسحق ولد له وهو ابن مائة سنة ولسارة إذ ولد تسعون عاماً فصح أنه كان يزيد عليها عشر سنين وذكر أن ملك الخلص أخذها بعد أن ولدت إسحاق وهي عجوز مسنة بإقرارها بلسانها إذ بشرت بإسحاق فكيف بعد أن ولدته وقد جاوزت تسعين عاماً ومن المحال أن تكون في هذا السن تفتن ملكاً وأن إبراهيم قال في كلتا المرتين هي أختي وذكر عن إبراهيم أنه قال للملك هي أختي بنت أبي لكن ليست من أمي فصارت لي زوجة فنسبوا في نص توراتهم إلى إبراهيم عليه السلام أنه تزوج أخته وقد وقفت على هذا الكلام من بعض من شاهدناه منهم وهو إسماعيل بن يوسف الكاتب المعروف بابن النغزالي فقال لي إن نص اللفظة في التوراة أخت وهي لفظة تقع في العبرانية على الأخت وعلى القريبة فقلت يمنع من صرف هذه اللفظة إلى القريبة ههنا قوله لكن ليست من أمي وإنما هي بنت أبي فوجب أنه أراد الأخت بنت الأب وأقل ما في هذا إثبات النسخ الذي تفرون منه فخلط ولم يأت بشيء

فصل ثم ذكر موت سارة وقال تزوج إبراهيم عليه السلام امراة اسمها قطورة

ثم ذكر موت سارة وقال تزوج إبراهيم عليه السلام امراة اسمها قطورة وولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشبق وشوحا وأعطى إبراهيم جميع ماله لإسحاق وأعطى بني الإماء عطايا وأبعدهم عن إسحاق

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا نص الكلام كله متتابعاً مرتباً ولم يذكر له زوجة في حياة سارة ولا أمة لها ولد إلا هاجر أم إسماعيل عليه السلام ولا ذكر له بعد سارة زوجة ولا أمة ولا ولداً غير قطورة وبنيها وفي كتبهم أن قطورة هذه بنت ملك الربذ وهو موضع عمان اليوم بقرب البلقا وهذه أخبار يكذب بعضها بعضاً

فصل ثم ذكر أن رفعة بنت بتوئيل بن تارخ زوجة إسحاق عليه السلام

ثم ذكر أن رفعة بنت بتوئيل بن تارخ زوجة إسحاق عليه السلام كانت عاقراً قال فشفعه الله وحملت وازدحم الولدان في بطنها وقالت لو علمت أن الأمر هكذا كان يكون ما طلبته ومضت لتلتمس علماً من الله عز وجل فقال لها الله في بطنك أمتان وحزبان يفترقان منه أحدهما أكبر من الآخر والكبير يخدم الصغير فلما كانت أيام الولادة إذا بتؤمين في بطنها وخرج الأول أحمر كله كفروة من شعر فسمي عيسو وبعد ذلك خرج أخوه ويده ممسكة بعقب عيسو فسماه يعقوب

قال أبو محمد رضي الله عنه : لا مؤنة على هؤلاء السفلة في أن ينسبوا الكذب إلى الله عز وجل وحاش لله أن يكذب ولا خلاف بينهم في أن عيسو لم يخدم قط يعقوب وأن بني عيسو لم تخدم قط بني يعقوب بل في التوراة نصاً أن يعقوب سجد على الأرض سبع مرات لعيسو إذ رآه وأن يعقوب لم يخاطب عيسو إلا بالعبودية والتذلل المفرط وأن جميع أولاد يعقوب حاشا بنيامين الذي لم يكن ولد بعد كلهم سجدوا لعيسو وأن يعقوب أهدى لعيسو مداراة له خمسمائة رأس وخمسين رأساً من إبل وبقر وحمير وضأن ومعز وأن يعقوب رآها منة عظيمة إذ قبلها منه وأن بني عيسو لم تزل أيديهم على إقفاء بني إسرائيل من أول دولتهم إلى انقطاعها إما يتملكون عليهم أو يكونون على السواء معهم وأن بني إسرائيل لم يملكوا قط أيام دولتهم بني عيسو فأعجبوا لهذه الفضائح أيها المسلمون واحمدوا الله على السلامة مما ابتلي به غيركم من الضلال والعمى

فصل ثم ذكر أن إسحاق قال لابنه عيسو يا بني ق

ثم ذكر أن إسحاق قال لابنه عيسو يا بني ق شخت ولا أعلم يوم موتي فاخرج وصد لي صيداً واصنع لي منه طعاماً كما أحب وائتني به لآكله كي تباركك نفسي قبل أن أموت وإن رفقة أم عيسو ويعقوب أمرت يعقوب ابنها أن يأخذ جديين وتصنع هي منهما طعاماً ويأتي يعقوب إلى إسحاق أبيه ليأكله ويبارك عليه وأن يعقوب قال لأمه أن عيسو أخي أشعر وأنا أجرد لعل أبي أن يحس بي وأكون عنده كاللاعب وأجلب على نفسي لعنة لا بركة فقالت له أمه علي استدفاع لعنتك وإن يعقوب فعل ما أمرته به أمه فأخذت هي ثياب عيسو ابنها الأكبر وألبستها يعقوب وجعلت جلود الجديين على يديه وعلى حلقه وأعطته الطعام وجاء به إلى أبيه فقال له يا أبي فقال له إسحاق من أنت يا ولدي قال يعقوب أنا ابنك عيسو بكرك صنعت جميع ما قلت لي فاجلس وتأكل من صيدي لتبارك علي وأن إسحاق قال ليعقوب تقدم حتى أجسك يا بني هل أنت ابني عيسو أم لا فتقدم يعقوب فجسه إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب واليدان يدا عيسو وقال هل أنت هو ابن عيسو فقال أنا فبارك عليه وقال له في بركتك تلك.

تخدمك الأمم وتخضع لك الشعوب وتكون مولي إخوتك وتسجد لك بنوا أمك ثم ذكر أن عيسو أتى بالصيد إلى إسحاق فلما عرف إسحاق القصة قال لعيسو عن يعقوب قد صيرته سلطاناً وجعلت جميع إخوته عبيداً فرغب إليه عيسو أن يباركه أيضاً ففعل وقال في بركته هوذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك وبلا ندى السماء من فوق وبسيفك تعيش ولأخيك تستعبد ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره عن عنقك

قال أبو محمد رضي الله عنه : وفي هذا الفصل فضائح وأكذوبات وأشياء تشبه الخرافات فأول ذلك إطلاقهم على نبي الله يعقوب عليه السلام أنه خدع أباه وغشه وهذا مبعد عمن فيه خير من أبناء الناس مع الكفار والأعداء فكيف من نبي مع أبيه نبي أيضاً هذه سوآت مضاعفات أين ظلمة هذا الكذب من نور الصدق في قول الله تعالى يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وثانية وهي أخبارهم ان بركة يعقوب إنما كانت مسروقة مأخوذة بغش وخديعة وتخابث وحاش للأنبياء عليهم السلام من هذا ولعمري أنها لطريقة اليهود فما تلقى منهم إلا الخبيث المخادع إلا الشاذ وثالثة وهي إخبارهم أن الله تعالى أجرى حكمه وأعطى نعمته على طريق الغش والخديعة وحاش لله من هذا ورابعة وهي التي لا يشك أحد في أن إسحاق عليه السلام إذ بارك يعقوب إذ خدعه بزعم النذل الذي كتب لهم هذا الهوس إنما قصد بتلك البركة عيسو وله دعا لا ليعقوب فأي منفعة للخديعة ههنا لو كان لهم عقل وما أشبه هذه القضية إلا بحمق الغالية من الرافضة القائلين أن الله تعالى بعث جبريل إلى عليٍّ فأخطأ جبريل وأتى إلى محمد وهكذا بارك إسحاق على عيسو فأخطأت البركة ومضت إلى يعقوب فعلى كلتا الطائفتين لعنة الله فهذه وجوه الخبث والغش في هذه القضية.

وأما وجوه الكذب فكثيرة جداً من ذلك نسبتهم الكذب إلى يعقوب عليه السلام وهو نبي الله تعالى ورسوله في أربعة مواضع أولها قوله لأبيه إسحاق أنا ابنك عيسو وبكرك فهذه كذبتان في نسق لأنه لم يكن ابنه عيسو ولا كان بكره وثالثة قوله لأبيه صنعت جميع ما قلت لي فاجلس وكل من صيدي فهذه كذبتان في نسق لأنه لم يكن قال له شيئاً ولا أطعمه من صيده وكذبات أخر وهي بطلان بركة إسحاق إذ قال له تخدمك الأمم وتخضع الشعوب وتكون مولي إخوتك ويسجد لك بنو أمك وقوله لعيسو ولأخيك تستعبد وهذه كذبات متواليات والله ما خدمت الأمم قط يعقوب ولا بنيه بعده ولا خضعت لهم الشعوب ولا كانوا موالي إخوتهم ولا سجد لهم ولا له بنوا أمه بل بنوا بني إسرائيل خدموا الأمم في كل بلدة وفي كل أمة وهم خضوا للشعوب قديماً وحديثاًُ في أيام دولتهم وبعدها فإن قالوا سيكون هذا قلنا لهم قد حصلتم على الصغار يقيناً والأماني بضائع السخفاء هيهات ترجى ربيع أن تحيي صغارها بخير وقد أعيا ربيعاً كبارها لاسيما مع تقصي جميع الآماد التي كانوا ينبون بأنها لا تنقضي حتى يرجع أمرهم واعلموا أن كل أمة أدبرت فإنهم ينتظرون من العودة ويمنون أنفسهم من الرجعة بمث ما تمنى به بنوا إسرائيل أنفسها ويذكرون في ذلك مواعيد كمواعيدهم فأملٌ كاملٍ ولا فرق كانتظار مجوس الفرس بهرام هماوند راكب البقرة وانتظار الروافض للمهدي وانتظار النصارى الذين ينتظرون في السحاب تمن يلذ المستهام بمثله وإن كان لا يغني فتيلاً ولا يجدي وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ولكنه غيظ الأسير على الجد وأما قوله تكون مولي إخوتك ويسجد لك بنو أمك فلعمري لقد صح ضد ذلك جهاراً إذ في توراتهم أن يعقوب كان راعي ابن عمه لابان ابن ناحور بن لامك وخادمه عشرين سنة وأنه بعد ذلك سجد هو وجميع ولده حاشا من لم يكن خلق منهم بعد لأخيه عيسو مراراً كثيرة وما سجد عيسو قط ليعقوب قط ولا ملك قط أحد من بني يعقوب بني عيسو وأن يعقوب تعبد لعيسو في جميع خطابه له وما تبعد قط عيسو ليعقوب وسأله عيسو عن أولاده فقال له يعقوب هم أصاغر من الله بهم على عبدك وأن يعقوب طلب رضاء عيسو وقال له إني نظرت إلى وجهك كمن نظر إلى بهجة الله فارض عني واقبل ما أهديت إليك وأن عيسو بالحرا قبل هدية يعقوب حينئذٍ فما نرى عيسو وبنيه إلا موالي يعقوب وبنيه وكذلك ملك بنوا عيسوا بإقرار توراتهم ميراثهم لساعير وهي جبال الشراة وبنوا لوط ميراثهم بمواب وعمان قبل أن يملك بنو إسرائيل ميراثهم بفلسطين والأردن بدهر طويل ثم لم يزالوا يتغلبون على بني إسرائيل أو يساوونهم طول دولة بني إسرائيل بإقرار كتبهم وما ملك بنو إسرائيل قط بني عيسو ولا بني لوط ولا بني إسماعيل بإقرارهم ولقد بقي بنوا عيسو وبنوا لوط بإقراركتبهم في ميراثهم بساعير ومواب وعمان بعد هلاك دولة إسرائيل واخروجهم عن ميراثهم ثم ملكهم بنوا إسماعيل إلى اليوم فما نرى تلك البركة كانت إلا معكوسة ونعوذ بالله من الخذلان ولكن حق البركة المسروقة المأخوذة بالخبث في زعمهم أن تخرج معكوسة منكوسة

فصل ثم ذكر أن يعقوب إذ مضي إلى خله لابان بن نثوال خطب إليه ابنته راحيل

ثم ذكر أن يعقوب إذ مضي إلى خله لابان بن نثوال خطب إليه ابنته راحيل وقال له أخدمك سبع سنين في راحيل ابنتك الصغرى فقال له لابان إن أعطيك إياها أحسن من أن أعطيها رجلاً آخر أقم عندي وخدم يعقوب في راحيل سبع سنين وصارت عنده أياماً يسيرة في محبته لها وقال يعقوب للابان أعطني زوجتي إذ قد كملت أيامي فأدخل بها وجمع لابان جميع أهل الموضع وصنع وليمة فلما كان بالعشي أخذ ليئة ابنته وزفها إليه ودخل بها فلما كان بالغد ورأى أنها ليئة قال للابان ماذا صنعت أليس في راحيل خدمتك فلم خدعتني فقال لابان لا نصنع هذا في موضعنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى أكمل أسبوع هذه وأعطيك أيضاً هذه بخدمة تخدمها سبع سنين أخرى وصنع يعقوب كذلك وأكمل أسبوع ليئة وأعطى راحيل ابنته لتكون له زوجة

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل آبدة الدهر وهي إقرارهم أن يعقوب عليه السلام تزوج راحيل فأدخلت عليه غيرها فحصلت ليئة إلى جنبه بلا نكاح وولد لها منه ستة ذكور وابنة وهذا هو الزنا بعينه أخذ امرأة لم يتزوجها بخديعة وقد أعاذ الله نبيه من هذه السوءة وأعاذ أنبياءه عليهم السلام موسى وهارون وداود وسليمان من أن يكونوا من مثل هذه الولادة وهذا يشهد ضرورة أنها من توليد زنديق متلاعب بالديانات.

فإن قالوا لابد أنه قد تزوجها إذ علم أنها ليست التي تزوج.

قلنا فعلي أن نسمح لكم بهذا فالنسخ ثابت ولابد لأن نكاح أختين معاً حرام في توراتكم وقد قال لي بعضهم في هذا لم تكن الشرائع نازلة من الله تعالى قبل موسى فقلت هذا كذب أليس في نص توراتكم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام كل دبيب حي يكون لكم أكله كخضراء العشب أعطيتكم لكن اللحم بدمه لا تأكلوه وأما دماؤكم في أنفسكم فسأطلبها فهذه شريعة إباحة وتحريم قبل موسى عليه السلام

فصل وبعد ذلك ذكر أن يعقوب رجع من عند خاله لابان نسائه وأولاده

وبعد ذلك ذكر أن يعقوب رجع من عند خاله لابان نسائه وأولاده قال ولما أصبح أجاز امرأتيه وجارتيه وأحد عشر من ولده المخاضة وبقي وحده وصارعه رجل إلى الصبح فلما عجز عنه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه وقال له خلني لأنه قد طلع الفجر قال لست أدعك حتى تبارك علي فقال له كيف اسمك قال يعقوب قال له لست تدعى من اليوم يعقوب بل إسرائيل من أجل أنك كنت قوياً على الله فكيف على الناس فقال له يعقوب عرفني باسمك فقال له لم تسألني عن اسمي وبارك عليه في ذلك الموضع فسمي يعقوب ذلك الموضع فنيئيل وقال رأيت الله تعالى مواجهة وسلمت نفسي وبزغت له الشمس بعد أن جاوز فنيئيل وهو يعرج من رجله ولهذا لا يأكل بنوا إسرائيل العقب الذي على حق الفخذ إلى اليوم لأنه ضرب حق فخذ يعقوب لمس الله وانقباضه

قال أبو محمد في هذا الفصل شنعة عفت على كل ما سلف يقشعر منها جلود أهل العقول وبالله العظيم لولا أن الله عز وجل قص علينا كفرهم بقولهم يد الله مغلولة وبقولهم إن الله فقير ونحن أغنياء لما نطقت ألسنتنا بحكاية هذه العظائم لكنا نحكيه منكرين له كما نتلوه فيما نصه عز وجل لنا تحذيراً من إفكهم

قال أبو محمد رضي الله عنه : ذكر في هذا المكان أن يعقوب صارع الله عز وجل تعالى الله عن ذلك وعن كل شبه لخلقه فكيف عن لعب الصراع الذي لا يفعله إلا أهل البطالة وأما أهل العقول فلا لغير ضرورة ثم لم يكتفوا بهذه الشهرة حتى قالوا إن الله عز وجل عجز عن أن يصرع يعقوب بنص كلام توراتهم وحقق ذلك قولهم عن الله تعالى أنه قال كنت قوياً على الله تعالى فكيف على الناس ولقد أخبرني بعض أهل البصر بالعبرانية أنه لذلك سماه إسرائيل وإيل بلغتهم هو اسم الله تعالى بلا شك ولا خلاف فمعناه أسر الله تذكيراً بذلك الضبط الذي كان بعد المصارعة إذ قال له دعني فقال له يعقوب لا أدعك حتى تبارك علي ولقد ضربت بهذا الفصل وجوه المتعرضين منهم للجدال في كل محفل فثبتوا على أن نص التوراة أن يعقوب صارع الوهيم وقال أن لفظ الوهيم يعبر بها عن الملك فإنما صارع ملكاً من الملائكة فقلت لهم سياق الكلام يبطل ما تقولون ضرورة فيه كنت قوياً على الله فكيف على الناس وفيه أن يعقوب قال رأيت الله مواجهة وسلمت نفسي ولا يمكن البتة أن يعجب من سلامة نفسه إذ رأى الملك ولا يبلغ من مس الملك لما نص يعقوب أن يحرم على بني إسرائيل أكل عروق الفخذ في الأبد من أجل ذلك وفيه أنه سمي الموضع بذلك فنيئيل لأنه قابل فيه إيل وهو الله عز وجل بلا احتمال عندكم ثم لو كان ملكاً كما تدعون عند المناظرة لكان أيضاً من الخطاء تصارع نبي وملك لغير معنى فهذه صفة المتحدين في العنصر لا صفة الملائكة والأنبياء فإن قيل قد رويتم أن نبيكم صارع ركانة بن عبد يزيد قلنا نعم لأن ركانة كان من القوة بحيث لا يجد أحداً يقاومه في جزيرة العرب ولم يكن رسول الله موصوفاً بالقوة الزائدة فدعاه إلى الإسلام فقال له إن صرعتني آمنت بك ورأى إن هذا من المعجزات فأمره عليه السلام بالتأهب لذلك ثم صرعه للوقت وأسلم ركانة بعد مدة فبين الأمرين فرق كما بين العقل والحمق ولكن لكل مقام مقال ولكن إذا أكل الملائكة عندكم كسور الخبز حتى تشتد بها قلوبهم والشاي واللبن والسمن والفطاير فما ينكر بعضهم للصراع مع الناس في الطرقات وهذه مصائب شاهدة بضلالهم وخذلانهم وصحة فصل وفي الفصل المذكور أن الله تعالى قال ليعقوب لست تدعي من اليوم يعقوب لكن إسرائيل ثم في السفر الثاني من توراتهم قال الله تعالى قل لآل يعقوب وعرف بني إسرائيل فقد سماه بعد ذلك يعقوب وهذه نسبة الكذب إلى الله تعالى

فصل ثم قال وبينا إسرائيل بذلك الموضع ضاجع رأوا بين ابن ليئة سرية أبيه بلهة وهي

ثم قال وبينا إسرائيل بذلك الموضع ضاجع رأوا بين ابن ليئة سرية أبيه بلهة وهي أم دان ونفتالي وهما أخواه وابنا يعقوب ثم أكد هذا بأن ذكر في قرب آخر السفر الأول ذكر موت يعقوب عليه السلام ومخاطبته لبنيه ابناً ابناً أن يعقوب قال لرؤابين ابنه أنك صعدت على سرير أبيك ووسخت فراشه وليس مما ابتذلت فراشي تخلص بعد أن ذكر في توراتهم أن شكيم بن حمور الحوى أخذ دينة بنت يعقوب عليه السلام واضطجع معها وأذلها ثم بعد ذلك خطبها إلى يعقوب أبيها إلى أن ذكر قتل لاوي وشمعون لحمور وشكيم ابنه وجميع أهل مدينته وإنكار يعقوب على ابنيه قتلهما لهم

قال أبو محمد رضي الله عنه : معاذ الله أن يخذل الله نبيه ولا يعصمه في حرمة امرأته وابنته من هذه الفضائح ثم لا ينكر ذلك بأكثر من التعزير الضعيف فقط

فصل وبعد ذلك قال وأولاد يعقوب اثنا عشر

وبعد ذلك قال وأولاد يعقوب اثنا عشر فأولاد ليئة رؤابين بكر يعقوب وشمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون وأبناء راحيل يوسف وبنيامين وابنا بلهة أمة راحيل دان ونفتالي وابنا

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا كذب ظاهر لأنه ذكر قبل أن بنيامين لم يولد ليعقوب إلا باقراشا بقرب بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس بعد رحيله من فدان ارام بدهر والله تعالى لا يتعمد الكذب ولا ينسى هذا النسيان

فصل وبعد ذلك قال وكان إسرائيل يحب يوسف لأنه كان ولد له في شيخوخته

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه العلة توجب محبة بنيامين لأنه ولد له بعد يوسف بازيد من ست سنين بنص توراتهم وتوجب مشاركة يساكر وزبولون في المحبة ليوسف لأنه ذكر قبل هذا أن يعقوب قال للابان خاله خدمتك عشرين سنة من ذلك أربع عشرة سنة لابنتيك وست سنين لأدواتك وذكر أن بعد سنين أعطاه ليئة فقط وأن ليئة ولدت له روابين ثم شمعون ثم لاوي ثم يهوذا ثم قعدت عن الولد وأن راحيل أعطت بعد ذلك يعقوب أمتها بلهة فتزوجها فولدت له دانا ثم نفتالي ثم أعطت ليئة أمتها زلفة ليعقوب فتزوجها فولدت له جاداً ثم أشير ثم أطلقت له راحيل مماسة ليئة في لقاح أخذتها منها فولدت له راحيل يوسف ثم بعد ولادة يوسف ابتدأ يعقوب بمعاملة خاله لابان على أجرة ذكرها لرعاية غنمه فرعاها له ست سنين هذا كله نص توراتهم فصح أن يسوف كان له عند تمام الست سنين ست سنين فقط بلا شك وإن جميع اولاد يعقوب حاشا بنيامين فإنما ولدوا ولابد في السبع سنين التي كانت قبل الست سنين المذكورة بلا شك والأولاد سبعة ففي كل عشرة أشهر ولدت ولداً لا يمكن أقل من هذا فلا شك في أن زابولون لا يزيد على يوسف إلا سنة واحدة فقط ولا يزيد عليه يساكر إلا سنتين فقط وأقل هذا على أ تلفي المدة التي ذكرنا أن ليئة قعدت فيها عن الولد والمدة التي اعتزلها فيها يعقوب ولابد أن لها مقداراً ما فعلى هذا فزابلون ويوسف ولدا معاً والمدة تضييق عن هذه القسمة ففي هذا الخبر كذب مقطوع به ضرورة ولابد ولا يجوز قليل الكذب ولا كثيره على الله تعالى ولا على نبي من الأنبياء فصح أنها مفتعلة مبدلة ولو كان لهذا الخبر وجه وإن غمض ومخرج وإن بعد أو أمكنت فيه حيلة أو ساغ فيه تأويل ما ذكرناه ونسأل الله العافية.

وفي توراتهم عند ذكر أولاد عيسو خبال شديد وتخليط في الأسماء والوالدات إلا أنه ربما خرج على وجوه بعيدة ضعيفة فلم نعتن بإيراده لذلك ولكن نبهنا عليه فالأظهر الأغلب فيه الكذب وأنه إيراد جاهل بتلك القضية بلا شك

فصل ثم ذكر بيع إخوة يوسف ليوسف

وأن إخوته كانوا مجتمعين حينئذ يرعون إذ وادهم ثم قال وفي ذلك الزمان اعتزل يهوذا عن إخوته وكان مع رجل من أهل عدلام يدعي اسمه حيرة فبصر في ذلك الموضع بابنة رجل كنعاني اسمه شوع فتزوجها وضاجعها فحملت وولدت ولداً اسمه عيرا ثم حملت ووضعت ثانياً وسماه أونان ثم حملت ووضعت وسمته شيلة ثم أمسكت عن الولد فزوج يهوذا عير بكر ولده امرأة وكان عير بكر يهوذا مذنباً بين يدي السيد ولذلك قتل فقال يهوذا لابنه أونان أدخل إلى امرأة أخيك وضاجعها لتحيي نسله فلما علم أنه لا ينسب إليه من ولد له منها دخل إلى امرأة أخيه وكان يعزل عنها لئلا يولد لأخيه منه ولذلك أهلكه السيد للفاحشة التي اطلع عليها منه فعند ذلك قال يهوذا لثامار كنته كوني أرملة في بيت أبيك إلى أن يكبر ابني شيلة وكان يتوقع أن يصيبه من الموت ما أصاب أخاه إن ضاجعها فسكنت في بيت أبيها وبعد أيام كثيرة توفيت بنت شوع امرأة يهوذا فصبر يهوذا وتسلى عنه حزنها وتوجه إلى جزاز غنامه مع حيرة صديقه العدلامي إلى تمنة وقيل لثامار إن خنتك صاعد إلى تمنة ليجزأ غنامه فألقت عن نفسها ثياب الأرامل وتقنعت وقعدت في مجمع الطرق المسلوكة التي تمنة فعلت ذلك مذ كبر شيلة ولم تزوج منه فلما رآها يهوذا ظنها زانية وكانت غطت وجهها لئلا تعرف فمال إليها وقلا ائذني لي في مضاجعتك وكان يجهل أنها كنته فقالت له ماذا تعطيني إن أمكنتك من مضاجعتي قال لها أبعث إليك جدياً من الغنم فقالت نعم إن أعطيتني رهناً إلى أن تبعث ما وعدت فقال لها يهوذا وما أرهنه لك قالت أرهن لي خاتمك وحزامك والعصا التي بيدك فحبلت من مضاجعة واحدة ثم انطلقت وألقت الشكل التي كانت فيه وعادت إلى شكل الأرامل وبعث يهوذا الجدي مع صديقه العدلامي ليأخذ من المرأة الرهن الذي وضعه عندها فسأل عنها إذ لم يجدها من سكان ذلك الموضع فقال أين المرأة القاعدة في مجمع الطرق فقالوا له لم تكن في هذا الموضع زانية فانصرف إلى يهوذا فقال له لم أجدها وقال لي سكان ذلك الموضع لم تكن ههنا زانية فقال له يهوذا تأخذ ما عندها مخافة ان تكون ضحكة فإني قد أرسلت الجدي إليها وأنت تقول لم أجدها وبعد ثلاثة أشهر قيل ليهوذا إن كنتك ثامار قد زنت وقد بدا بطنها يظهر فقال يهوذا أخرجوها لتحرق فلما أخرجت بعثت إلى يهوذا إنما حبلت من الذي له هذا فاعرف هذا الخاتم والزنار والعصا فلما عرف قال هي أعدل مني إذ منعتها شيلة ولدي ولم يضاجعها بعد ذلك فلما أدركتها الولادة ظهر فيها تؤمان ففي وقت خروجهما بدر أحدهما وأخرج يده فربطت القابلة في يده خيطاً أرجواناً وقالت هذا يخرج أولاً فأدخل يده إلى نفسه وأخرج الولد الآخر فقالت له القابلة لم افترصت أخاك فسمي فارصاً وبعده خرج الذي ربط في يده الخيط الأرجوان وسمي زارح ثم الفصل

قال أبو محمد رضي الله عنه : ثم بعد فصول وقصص ذكر أولاد يعقوب المولودين بالشأم الذين دخلوا معه مصر إذ بعث يوسف عليه السلام فيهم كلهم فذكر يهوذا وبنيه الثلاثة الأحيأ شيلة وفارص وزارح وذكر لفارص هذا نفسه اثنين وهما حصرون وحامول ابنا فارص بن يهوذا المذكور

قال أبو محمد رضي الله عنه : ففي هذا الكلام عار وفضيحة مكذوبة وكذب فاحش مفرط القبح فأما العار فالذي ذكر عن يهوذا من طلبه الزنا بامرأة لقيها في الطريق على أن يعطيها جدياً ثم جوره في الحكم عليها بالحرق فلما علم أنه صاحب الخصلة أسقط الحكم عن نفسه وعنها ثم شنعة أخرى وهي قوله أن أونان بن يهوذا لما عرف أنه لا ينسب إليه من يولد له من امرأته التي تزوجها بعد موت أخيه جعل يعزل عنها وهذا عجب جداً أن تلد امرأة من رجل من زوجها من لا ينسب إليه لكن إلى غيره ممن قد مات قبل أن يتزوجها هذا فلعل فيهم الآن ولادات وأنسان في كتبهم مثل هذه فهذه والله أمور سمجة ثم دع يهوذا فليس نبياً ولا ينكر ممن ليس نبياً مثل هذا إنما الشأن كله والعجب في أنهم مطبقون بأجمعهم قطعاً على أن سليمان بن داود عليهما السلام بن أشماي بن عونين بن يوغز بن بشاي بن مخشون ابن عمينا ذاب بن نورام بن حصرون بن فارص المذكور بن يهوذا فجعلوا الرسولين الفاضلين مولودين من تلك الولادة الخبيثة راجعين إلى ولادة الزنا ثم أقبح ما يكون من الزنا رجل مع امرأة ولده حاش لله من هذا الإفك المفتري

ولقد قال لي بعضهم إذ قررته على هذا الفصل إن هذا كان مباحاً حينئذ فقلت له فلم امتنع من مضاجعتها بعد ذلك وكيف يكون مباحاً وهي لم تعرفه بنفسها ولا عرفها عند تلك المعاملة الخبيثة بالجدي المسخوط والرهن الملعون وإنما وطئها على أنها زانية إذ اغتلم إليها لا على أنها امرأة الميت ولده إلا إن قلتم إن الزنا جملة كان مباحاً حينئذ فقد قرت عيونكم فسكت خزيان كالحاً وتالله ما رأيت أمة تقر بالنبوة وتنسب إلى الأنبياء ما ينسبه هؤلاء الكفرة فتارة ينسبون إلى إبراهيم عليه السلام أنه تزوج أخته فولدت له إسحق عليهما السلام ثم ينسبون إلى يعقوب أنه تزوج إلى امرأة فدست إليه أخرى ليست امرأته فولدت له أولاداً منهم انتسل موسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام ثم ينسبون إلى روبان بن يعقوب أنه زنى بربيبته زوج النبي أبيه وأم أخويه ثم ينسبون إلى نبيه يعقوب عليه السلام أنه فسق بها كرهاً وافتضها غلبة ثم ينسبون إلى يهوذا ما ذكرنا من زناه بامرأة ولديه فحبلت وولدت من الزنا ولداً منه انتسل داود وسليمان عليهما السلام ثم ينسبون إلى يوشع بن نون أنه تزوج رحب الزانية المشهورة الموقفة نفسها للزنا لكل من دب وهب في مدينة أريحا ثم ينسبون إلى عمران ابن فهث بن لاوي أنه تزوج عمته أخت والده واسمها يوحانذ ولدت لجده بمر فولد له منها هارون وموسى عليهما السلام هكذا ذكر نسبها في قرب آخر السفر الرابع ثم ينسبون إلى داوود عليه السلام أنه زنى جهاراً بامرأة رجل من جنده محصنة وزوجها حي وأنها ولدت منه من ذلك الزنا ابناً ذكراً ثم مات ذلك الفرخ الطيب ثم تزوجها وهي أم سليمان بن داوود عليهما السلام ثم ينسبون إلى أمثون بن داود عليهما السلام أنه فسق بسراري أبيه علانية أمام الناس ثم ينسبون إلى سليمان عليه السلام العهر وأنه تزوج نساءً لا يحل له زواجهن وأنه بنى لهن بيوت الأوثان وقرب لهن القرابين للأوثان مع ما ذكرنا قبل ونذكر إن شاء الله تعالى من نسبتهم الكذب إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف عليهم السلام ولكن أين هذا مما في توراتهم من نسبتهم لعب الصراع إلى الله تعالى مع يعقوب والكذب المفضوح فيما وعده وأخبر به فعلى من يصدق بشيءٍ من كل هذا الإفك لعنة الله وغضبه فأعجبوا لعظيم كفر هؤلاء القوم وما افتراه الكفرة أسلافهم الإنتان على الله تعالى وعلى رسله عليهم السلام ثم على كل كتاب حقق فيه شيءٌ من هذا وعلى كاتبه لعنة الله وغضبه عدد كل شيءٍ خلق الله فأحمدوا الله معاشر المسلمين على ما هداكم له من الملة الزهراء التي لم يشبها تبديل ولا تحريف والحمد لله رب العالمين

قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما الكذبة الفاحشة المفضوحة التي هي من المحال المحض والافتراء المجرد فهو ما أذكره إن شاء الله تعالى فتأملوه تروا عجباً ذكر في توراتهم نصاً أن يهوذا بن يعقوب كان مع إخوته يرعون إذ وادهم إذ باعوا أخاهم يوسف وأن يهوذا أشار عليهم ببيعه وإخراجه من الجب ليخلصه بذلك من الموت ثم ذكر بعد ذلك أن يهوذا اعتزل عن إخوته وصار مع حيرة العدلامي ورأى ابنة رجل كنعاني اسمه شوع فتزوجها وولدت له ولداً اسمه عير ثم ولداً آخر اسمه أونان ثم ولداً آخر اسمه شيلة كما ذكرنا آنفاً حرفاً حرفاً وذكر بعد ذلك أن عير تزوج امرأة اسمها ثامار ودخل بها وكان مذنباً ولذلك قتله الله تعالى فزوجها من أخيه أونان فكان يعزل عنها فمات لذلك وبقيت أرملة ليكبر شيلة وتزوج منه وأن شيلة كبر ولم تزوج منه وقد اعترف بذلك يهوذا إذ قال هي أعدل مني إذ منعتها شيلة ابني وذكر بعد ذلك أنها تحيلت حتى زنت بيهوذا نفسه والد زوجها وحبلت منه وولدت منه تؤامين فارص وزارح كما ذكرنا قبل ثم ذكر بعد ذلك نسل يعقوب وأولاد أولاده المولودين بالشام ودخلوا معه مصر فذكر فيهم حصرون وحامول ابني فارص بن يهوذا فاضبطوا هذا وذكر في توراتهم أن يوسف عليه السلام إذ بلغ ست عشرة سنة كان يرعى ذوداً مع إخوته عند أبيه وأنهم باعوه فصح أنه كان ابن سبع عشرة سنة إذ باعوه وهكذا ذكر في توراتهم ثم ذكر في توراتهم أن يوسف عليه السلام كان إذ دخل على فرعون

وفسر له رؤياه في البقرات والسنابل وولاه أمر مصر ابن ثلاثين سنة ثم ذكر في توراتهم أن يوسف عليه السلام كان إذ دخل أبوه مصر مع جميع أهله ابن تسع وثلاثين سنة هذا منصوص فيها بلا خلاف من أحد منهم فصح يقيناً أنه لم يكن بين دخول يعقوب مع نسله مصر وبين بيع يوسف إلا اثنان وعشرون سنة وربما أشهر يسيرة زايدة لا أقل ولا أكثر هذا حساب ظاهر لا يخفى على جاهل ولا عالم وقد ذكر في توراتهم أن في هذه المدة تزوج يهوذا بنت شوع وولدت له ولداً ثم ثانياً ثم ثالثاً وأن الأكبر بلغ فزوج زوجة ثم مات بعد دخوله بها فزوجت بعده من أخيه فكان يعزل عنها فمات وبقيت مدة حتى كبر الثالث ولم تزوج منه فزنت بيهوذا والد زوجها فولد له منها تؤامان ثم ولد لأحد ذينك التؤمين ابنان وهذا محال ممتنع لا خفاء به لا يمكن البتة في طبيعة بشر ولا سبيل إليه في الجبلة والبنية بوجه من الوجوه هبك أن يهوذا اعتزل عن إخوته وتزوج بنت شوع باثر بيع يوسف بيوم وحبلت زوجته وولدت له الولد الأكبر في عامها الثاني ثم الثاني في عام آخر ثم الثالث في عام ثالث وهبك أن الأكبر زوج وله اثنا عشر عاماً من جملة اثنين وعشرين عاماً وبقي معها ما بقي معها ما بقي ثم زوجت من الثاني وله اثنا عشر عاماً فبقي يعزل عنها لئلا ينسب إلى أخيه من يولد له منها ثم مات وبقيت تنتظر أن يكبر شيلة وتزوج منه حتى طال عليها ورأت أنه قد كبر ولم تزوج منه وهذا لا يكون البتة في أقل من عام فهذه أربعة عشر عاماً ثم زنت بيهوذا فحملت فولدت فهذا عام أو أقل بيسير فلم يبق من الاثنين وعشرين عاماً إلا سبعة أعوام إلى ثمانية أعوام لا أكثر البتة فمن المحال الممتنع في العقل أن يوجد لرجل ابن ثمان سنين أو سبع سنين ولدان ما رأيت أجهل بالحساب من الذي عمل لهم التوراة وحاش لله أن يكون هذا الخبر البارد الكاذب عن الله تعالى أو عن موسى عليه السلام ولا عن إنسان يعقل ما يقول ويستحي من تعمد الكذب الفاضح ونسأل الله تعالى العافيةت

فصل وبعد ذلك ذكر عدد بني يعقوب المولودين بالشام عند خاله لابان الداخلين معه مصر

فذكر الذين ولدت له ليئة وهم ست ذكور وابنة واحدة وذكر أولاد هؤلاء الستة وسماهم فذكر لرأو بين أربعة ذكور ولشمعون ستة ذكور وللاوي ثلاثة ذكور وليهوذا ثلاثة ذكور وابني ابن له فهم خمسة وليساخر أربعة ذكور ولزابلون ثلاثة ذكور المجتمع من بني ليئة في نص توراتهم بعق تسميتهم.

هؤلاء بنو ليئة وعدد أولادها وبناتها ثلاثة وثلاثون هكذا نص توراتهم وهذا خطأٌ في الحساب تعالى الله عن أن يخطىء في الحساب أو يخطىء فيه موسى عليه السلام فصح أنها من توليد جاهل غث أو من عابث سخر بهم وكشف سوآتهم

فصل ثم ذكر بعد هذا أولاد راحيل

فذكر يوسف وبنيامين وبنيهما قال وهم أربعة عشر ذكراً أولاد زلفي عاد وأشار وبنيهما وهم ستة عشر وذكر أولاد بلهة دان ونفتالي وبنيهما قال وهم سبعة ثم وصل ذلك بأن قال وعدد نسل يعقوب الذين دخلوا معه مصر سوى نساء أولاده ستة وستون وأبناء يوسف اللذان ولدا له بمصر اثنان فجميع الداخلين إلى مصر سبعون

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا خطأ فاحش لأن المجتمع من الأعداد المذكورة تسعة وستون فإذا أسقطت منهم ولدي يوسف اللذان ولدا له بمصر بقي سبعة وستون وهو يقول ستة وستون فهذه كذبة ثم قال فجميع الداخلين معه إلى مصر سبعون فهذه كذبة ثانية وقد قدمنا أن الذي عمل لهم التوراة كان ضعيف البصارة بالحساب وليست هذه صفة الله عز وجل ولا صفة من معه مسكة عقل تردعه عن الكذب وتعمده على الله تعالى وعن تكلف ما يحسن ولا يقوم به وذكر في هذا الفصل قصة أخرى فيها الاعتراض إلا أنها تخرج على وجه ما فلذلك لم نفرد لها فصلاً وهي أنه ذكر أولاد بنيامين فقال بالع وباكر واشبيل وجير ونعمان وابجي وروش ومفيم وحفيم وارد ثم ذكر في السفر الرابع من توراتهم فذكر بالع واشبيل واجير ومفيم وحفيم فقط ثم قال وأبناء بالع ازد ونعمان ابني بالع فإن لم يكن هذا على أنه لم ينسل من أولئك العشرة إلا خمسة الذين ذكرهم في الرابع وإن ازد ونعمان ابني بالع هما غير ازد ونعمان ابني بنيامين وإلا فهي كذبة وقد قلنا إن كل ما يمكن تخريجه بوجه وإن بعد فلسنا نخرجه في فضائح كتابهم المكذوب

فصل ثم ذكر بركة يعقوب عليه السلام على بنيه

وأنه وضع يده اليمنى على رأس افرايم بن يوسف واليسرى على رأس منسي بن يوسف وإن ذلك شق على يوسف عليه السلام وقال لا يحسن هذا يا أبت لأن هذا بكر ولدي فاجعل يمينك على رأسه يعني منسي فكره ذلك يعقوب وقال علمت يا بني علمت وستكثر ذرية هذا وتعظم ولكن أخوه الأصغر يكون أكثر منه نسلاً وعدداً يعني أن افرايم يكون عدد نسله أكثر من عدد نسل منسي ثم ذكر في مصحف يوشع أن بني منسي كانوا إن دخلوا الشام وقسمت عليهم الأرض اثنين وخمسين ألف مقاتل وسبعماية وإن بني أفرايم كانوا حينئذ اثنين وثلاثين ألفاً وخمسمائة وذكر في كتاب لهم معظم عندهم اسمه سفطيم أنه ذكر بني إسرائيل قبل داود عليه السلام أربعة من ملوك بني منسي وأربعة من بني أفرايم وأن من جملة بني منسي المذكورين رجلاً اسمه مفتاح بن علفاذ قتل من بني أفرايم اثنين وأربعين ألف مقاتل حتى كاد يستأصلهم وفي كتاب لهم آخر معظم عندهم أيضاً اسمه ملاخيم أنه ملك عشرة أسباط من بني إسرائيل بعد سليمان عليه السلام إلى أن ذهب الأسباط المذكورون وسبوا من بني أفرايم ملكين كانت مدتهما جميعاً ستة وعشرين سنة فقط وهما باريعام وابنه باباط ووليهم من بني منسي خمسة ملوك واتصلت دولتهم مائة عام وعامين وهما زحر بابن باريعام بن نواس بن نهر باحار بن بهو كلهم ملك بن ملك بن ملك بن ملك بن ملك ولم يكن فيمن ملك الأسباط العشرة أقوى ملكاً من هؤلاء المنسانين وهذا ضد قول يعقوب الذي حكوه عنه وحاش لله أن يكذب نبي فيما ينذر به من الله عز وجل فإن قالوا إن يوشع بن نون وربورانسه وملحي المورشي النبي كلهم كان من بني أفرايم وكان بنو أفرايم إذ أخرجوا من مصر أربعين ألف مقاتل وخمسمائة مقاتل ومائتي مقاتل وكان بنو منسي يومئذ اثنين وثلاثين ألف مقاتل ومائتي مقاتل قلنا لم تذكروا أن يعقوب قال يكون الشرف في نسل أفرايم إنما حكيتم أنه قال إن أفرايم يكون أكثر نسلاً وعدداً من منسي على التأبيد والعموم وإيصال البركة لا على وقت خاص قليل ثم يعود الأمر بخلاف ذلك فتبطل البرطة ويصير

فصل ثم ذكر عن يعقوب عليه السلام أنه قال لرأوبين في ذلك الوقت

أنت أول المواهب مفضل في الشرف مفضل في العز ولا تفضل منهملة ماء

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا كلام يكذب أوله آخره

فصل ثم ذكر أنه عليه السلام قال ليهوذا حينئذ لا تنقطع من يهوذا المخصرة

ولا من نسله قائد حتى يأتيني المبعوث الذي هو رجاء الأمم

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا كذب قد انقطعت من ولد يهوذا المخصرة وانقطعت من نسله القواد ولم يأت المبعوث الذي هو رجاؤهم وكان انقطاع الملك من ولد يهوذا من عهد بخت نصر مذازيد من ألف عام وخمسمائة عام إلا مدة يسيرة وهي مدة زربائيل بن صلثائيل فقط وقد قررت على هذا الفصل أعلمهم وأجدلهم وهو أشموال بن يوسف اللاوي الكاتب المعروف بابن النفرال في سنة أربع وأربعمائة فقال لي لم تزل رؤس الجواليت ينتسلون من ولد داوود وهم من بني يهوذا وهي قيادة وملك ورياسة فقلت هذا خطأ لأن رأس الجالوت لا ينفذ أمره على أحد من اليهود ولا من غيرهم وإنما هي تسمية لا حقيقة لها ولا له قيادة ولا بيده مخصرة فكيف وبعد احرب بابن برام لم يكن من بني يهوذا وال أصلاً مدة من ستة أعوام ثم بعده نشأ الملقب صدقيا بن يوشيا لم يكن منهم لأحد له معين ولا من يملك على أحد اثنين وسبعين عاماً متصلة حتى ولي زرباييل ثم انقطع الولاة منهم جملة لا رأس جالوت ولا غيره مدة ولات الهارونيين ملكاً ملكاً مئين من السنين ليس لأحد من يهوذا في ذلك أمر إلى دولة المسلمين أو قبلها بيسير فلوقعوا اسم رأس الجالوت على رجل من بني داود إلى اليوم إلا أن بعض المؤرخين القدما كذر أن هردوس وابنيه وابن ابنه اعريفاس بن اعريفاس كانوا من بني يهوذا والأظهر أنهم من الروم عند كل مؤرخ فظهر كذب هؤلاء الأنزال بيقين وحاش لله أن يكذب نبي

فصل ثم ذكر أن يعقوب عليه السلام قال للاوي وشمعون سأبددهما في يعقوب وأفرقهما في إسرائيل

قال أبو محمد رضي الله عنه : أما لاوي فكان نسله مبدداً في بني إسرائيل كما ذكر وأما بنو شمعون فلا بل كانوا مجتمعين في البلد الذي وقع لهم كسائر الأسباط ولا فرق وليس إنذار النبوة مما يكذب في قصة ويصدق في أخرى هذه صفات إنذارات الحساب القاعدين على الطرق للنساء ولمن لا عقل له

فصل وقال في السفر الثاني من توراتهم أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام قل لفرعون السيد يقول الأسرائيل

بكر ولدي ويقول لك ائذن لولدي ليخدمني وإن كرهت الآن سأهلك بكر ولدك

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا عجب ناهيك به ليت شعري ماذا ينكرون على النصارى بعد هذا وهل طرق للنصارى سبيل الكفر في أن يجعلوا لله ولداً ونهج لهم طريق التثليث على ما ذكرنا قبل هذا إلا هذه الكتب الملعونة المبدلة إلا أن النصارى لم يدعوا بنوة لله تعالى إلا لواحد أتى بمعجزات عظيمة وأما هذه الكتب السخيفة وكل من تدين بها فإنهم ينسبون بنوةً لله إلى جميع بني إسرائيل وهم أوسخ الأمم وأرذلهم وكفرهم أوحش وجعلهم أفحش

فصل ثم ذكر أن هارون ألقى العصا بين يدي فرعون وعبيده فصارت حية

فدعى فرعون بالعلماء والسحرة وفعلوا بالرقى المصري مثل ذلك ولكن عصى موسى ازدرت عصيهم.

ثم ذكر أن موسى وهارون فعلا ما أمرهما السيد فرفع العصا وضرب بها ماء النهر بين يدي فرعون وعبيده فعاد دماً ومات كل حوت فيه ونتن النهر ولم يجد المصريون سبيلاً إلى الشرب منه وصار الماء في جميع أرض مصر دماً ففعل مثل ذلك سحرة مصر برقاهم.

ثم ذكر أن هارون مد يده على مياه مصر وخرجت الضفادع منها وغطت أرض مصر ففعل السحرة برقاهم مثل ذلك وأقبلوا بالضفادع على أرض مصر ثم ذكر أن هارون مد يده بالعصا وضرب بها غبار الأرض فتخلق منها بعوض في الآدميين والأنعام وعاد جميع الغبار بعوضاً في جميع أرض مصر فلم يفعل السحرة مثل ذلك برقاهم وراموا اختراع البعوض فلم يقدروا عليه فقال السحرة لفرعون هذا صنع الله

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه الآبدة المصمئلة والصيلم المطبقة ولو صح هذا لبطلت نبوة موسى عليه السلام بل نبوة كل نبي ولو قدر السحرة على شيءٍ من جنس ما يأتي به النبي لكان باب السحرة وباب مدعي النبوة واحداً ولما انتفع موسى بازدراه عصاه لعصيهم ولا بعجزهم عن البعوض وقد قدروا على قلب العصي حيات وعلى إعادة الماء دماً وعلى المجيء بالضفادع ولما كان لموسى عليه السلام عليهم بنبوته أكثر من أنه أعلم بذلك العمل منهم فقط ولو كان كما قال هؤلاء الكذابون الملعونون لكان فرعون صادقاً في قوله إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ولا منفعة لهم في قول السحرة في البعوض هذا صنع الله لأنه يقال لبني إسرائيل فعلى موجب قول السحرة لم يكن من صنع الله قلب العصا حية والماء دماً والمجيء بالضفادع بل من غير صنع الله وهذه عظيمة تقشعر منها الجولد أين هذا الإفك المفترى البارد من نور الحق الباهر إذ يقول الله عز وجل " إنما صنعوا كيد ساحر " وإذ يقول تعالى " وجاء السحرة فرعون قالوا أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون " وإذ يقول تعالى " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " فأخبر عز وجل أن الذي عمل موسى حق وأن عصاه صارت ثعباناً على الحقيقة بقوله تعالى " فإذا هي ثعبان مبين " فصح أنه تبين ذلك لكل من رآه يقيناً وأخبر أن الذي عمل السحرة إنما هو إفك وتخييل وكيد وهذا هو الحق الذي تشهد به العقول لا في الكتاب المبدل المحرف.

فصح أن فعل السحرة حيلة مموهة لا حقيقة لها وهذا الذي يصححه البرهان إذ لا يحيل الطبائع إلا خالقها شهادة لرسله وأنبيائه وفرقاً بين الصدق والكذب لا قولهم عمل السحرة مثل ما عمل موسى في وقت تكليفه برهانٌ على صدق قوله وعند تحديه لهم على أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين وهو كاذب فأتوا بمثله فانظروا النتيجة يرحمكم الله.

هذه سوءة تشهد شهادة قاطعة صادقة بأن صانع ذلك الكتاب الملعون المكذوب الذي يسمونه الحماس ويدعون أنه توراة موسى عليه السلام إنما كان زنديقاً مستخفاً بالباري تعالى ورسله وكتبه وحاش لموسى منه وأنهم إلى الآن يزعمون أن إحالة الطبائع وقلب الأجناس عن صفاتها الذاتية إلى أجناس أخر واختراع الأمور والمعجزات في البنية يقدر على ذلك بالرقى والصناعات.

واعلموا أن من صدق بهذا مبطل للنبوة بلا مرية إذ لا فرق بين النبي وغيره إلا في هذا الباب فإذا أمكن لغير النبي فلم يبق إلا دعوى لا برهان عليها ونعوذ بالله من الضلال.

ولقد شاهدناهم متفقين إلى اليوم على أن رجلاً من علمائهم ببغداد دخل من بغداد إلى قريظة في يوم واحد وأنبت قرنين في رأس رجل من بني الإسكندراني كان ساكناً بقرب دار اليهود عند فندق الحرقة كان يؤذي يهود تلك الجهة ويسخر منهم وهذه كذبة وفضيحة لا نظير لها والموضع مشهور عندنا بقرطبة داخل المدينة وبنو عبد الواحد بن يزيد الإسكندري من بيته رفيعة مشهورة أدركنا آخرهم كانت فيهم وزارة وعمالة ليس فيهم مغمور ولا خفي إلى أن بادوا ما عرف قط أحد منهم هذه إلا حموقة مختلفة.

والقوم بالجملة أكذب البرية أسلافهم وأخلافهم وعلى كثرة ما شاهدنا منهم ما رأيت فيهم قط متحرياً للصدق إلا رجلين فقط

فصل قصة قلب الماء دماً فضيحة أخرى ظاهرة الكذب

قال أبو محمد رضي الله عنه : وفي قصة قلب الماء دماً فضيحة أخرى ظاهرة الكذب وهي أن في نص الكلام الذي يزعمونه التوراة ثم قال السيد لموسى قل لهارون مد يدك بالعصا على مياه مصر وأنهارها وأوديتها ومروجها وجناتها لتعود دماً وتصير ماء في آنية التراب والخشب دماً ففعل موسى وهارون كما أمرهما به السيد إلى قوله وصار الماء في جميع أرض مصر دماً ففعل مثل ذلك سحرة مصر برقاهم واشتد قلب فرعون ولم يسمع لهما على حال ثم انصرف فرعون ودخل بيته ولم يوجه قلبه إلى هذا أيضاً وحفر جميع المصريين حوالي النهر ليصيبوا الماء منها لأنهم لا يقدرون على شرب الماء من النهر

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا نص كتابهم فأخبر أن كل ماء كان بمصر في أنهارها وأوديتها ومروجها وجناتها وأواني الخشب والتراب والماء كله في جميع أرض مصر صار دماً فأي ماء بقي حتى تقلبه السحرة دماً كما فعل موسى وهارون أبى الله إلا فضيحة الكذابين وخزيهم فإن قالوا قلبوا ماء الآبار التي حفرها المصريون حول النهر قلنا لهم فكيف عاش الناس بلا ماء أصلاً أليس هذه فضائح مرددة وهل يخفى أن هذا من توليد ضعيف العقل أو زنديق مستخف لا يبالي بما أتى به من الكذب ونعوذ بالله من الضلال

فصل وبعد ذلك ذكر الله تعالى أمر موسى أن يقول لفرعون ستكون يدي على مكسبك الذي لك

في الفحوص وخيلك وحميرك وجمالك وبقرك وأغنامك بوباء شديد ويظهر السيد هذا في الأرض ففعل السيد ذلك في يوم آخر وماتت جميع دواب المصريين ولم يمت لبني إسرائيل دابة فاشتد قلب فرعون ولم يأذن لهم.

ثم ذكر بعد ذلك أمر الله تعالى موسى بأن يأخذ ما حملت الكف من رماد الكانون ويلقيه إلى السماء بين يدي فرعون ليصير غباراً في جميع أرض مصر فيكون في الآدميين والأنعام خراجات ونفاطات فأخذ رماداً من كانون ووقف بين يدي فرعون ورماه موسى إلى السماء وصارت منه نفاطات في الآدميين والأنعام ولم تقدر السحرة على الوقوف عند موسى لما كان أصابهم من ألم النفاطات وكان مثل ذلك في جميع أرض مصر والسحرة فشدد الله قلب فرعون ولم يسمع لهما على حال ما عهد السيد إالى موسى.

وبعد ذلك قال إن الله أمر موسى أن يقول لفرعون غداً هذا الوقت أمطر برداً كثيراً جداً لم ينزل مثله على مصر من اليوم الذي أسست فيه إلى هذا الوقت فابعث واجمع أنعامك وكل من تملكه في الفدان فكل ما أدركه البرد في الفدان ولم يدخل البيوت فمن خاف وعيد السيد من عبيد فرعون أدخل عبيده وأنعامه في البيوت ومن استهان بوعيد السيد أبقى عبيده وأنعامه في الفدان.

وقال السيد لموسى مد يدك إلى السماء لينزل البرد في جميع أرض مصر فمد موسى يده بالعصا فأتى السيد بالرعد والبرد المختلف على الأرض ثم أمطر السيد البرد في جميع أرض مصر مخلوطاً بنار ولم ينزل بعظمة في تلك الأرض من حين سكن ذلك الجنس فأهلك البرد في جميع أرض مصر كلما ظهر به في الفدادين من الآدميين والأنعام وجميع عشبهما وكسر جميع شجرها ولم ينزل منه شيء في أرض قوس حيث كان بنو إسرائيل

قال أبو محمد رضي الله عنه : تأملوا هذا الكذب الهجين اللائح.

ذكر أولاً أن موسى أتى بالوباء وأخبر عن الله تعالى أنه قال لفرعون سأهلك مكسبك الذي في الفحوص وخيلك وحميرك وجمالك وبقرك وأغنامك فعمم جميع الناس ما أدخل في البيوت وما لم يدخل يعم جميع الحيوان صنفاً صنفاً ثم أخبر أن جميع دواب المصريين ماتت ولم تمت لبني إسرائيل ولا دابة ثم ذكر أمر النفاطات ثم ذكر أمر البرد وأن موسى أنذر فرعون من الله تعالى وأمره بإدخال أنعامه في البيوت وأن ما أدرك البرد منها في الفحص يهلك فليت شعري أي دابة بقيت لفرعون وأهل مصر وقد ذكر أن الوباء أهلك جمعيها وبين الإبل والحمير والخيل والغنم والبقر أليس هذا عجباً وليس يمكن أن يقول إن دواب بني إسرائيل هلكت آخراً إذ سلمت أولاً لأنه قد بين أنه لم يقع من البرد شيءٌ في أرض قوس حيث سكنى بني إسرائيل ولم يكن بين آية وآية بإقرارهم وقت يمكن فيه جلب أنعام إليهم من بلد آخر لأنه لم يكن بين الآية والآية إلا يوم أو يومان أو قريب من ذلك ومصر واسعة الأعمال ولا تتصل بشيءٍ من العماير بل بين جميع انتهاء أقطارها من كل جهة وبين أقرب العماير إليها مسيرة أيام كثيرة كالشام وبلاد الغرب وأرض النوبة والسودان وأفريقة فظهر كذب من عمل ذلك الكتاب المبدل المحرف المفترى الذي يزعمونه التوراة وحاش لله من ذلك والحمد لله على السلامة من مثل عملهم وضلالهم كثيراً

فصل وبعد ذلك قال وكان مسكن بني إسرائيل بمصر أربع مائة وثلاثين سنة

فلما انقضت هذه السنون خرج ذلك اليوم معسكر السيد من أرض مصر

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه فضيحة الدهر وشهرة الأبد وقاصمة الظهر يقول هاهنا أن مسكن بني إسرائيل بمصر أربع ماية سنة وثلاثون سنة وقد ذكر قبل أن فاهاث بني لاوي دخل مصر مع جده يعقوب ومع أبيه لاوي ومع سائر أعمامه وبني أعمامه وإن عمر فاهاث بن لاوي المذكور كان مائة سنة وثلاثة وثلاثين سنة وأن عمران بن فاهاث بن لاوي المذكور كان عمره مائة سنة وسبعاً وثلاثين سنة وأن موسى بن عمران بن فاهاث بن لاوي المذكور كان إذ خرج ببني إسرائيل من مصر مع نفسه ابن ثمانين سنة هذا كله منصوص كما نذكره في الكتاب الذي يزعمون أنه التوراة فهبك أن فاهاث دخل مصر ابن شهر أو أقل وأن عمران ابنه ولد بعد موته وأن موسى بن عمران ولد بعد موت أبيه ليس يجتمع من كل ذلك إلا ثلاث مائة عام وخمسون عاماً فقط فأين الثمانون عاماً الباقية من جملة أربع مائة سنة وثلاثين سنة.

فإن قالوا نضيف إلى ذلك مدة بقاء يوسف بمصر قبل دخول أبيه وإخوته قلنا قد بين في التوراة أنه كان إذ دخله ابن سبع عشرة سنة وأنه كان إذ دخلها أبوه وإخوته ابن تسع وثلاثين سنها فأما كان مقامه بمصر قبل أبيه وإخوته اثنين وعشرين سنة ضمها إلى ثلثماية سنة وخمسين سنة يقوم من الجميع بلا شك ثلاثمائة واثنان وسبعون سنة أين الثماني والخمسون الباقية من أربعماية وثلاثين سنة هذه شهرة لا نظير لها وكذب لا يخفى على أحد وباطل يقطع بأنه لا يمكن البتة أن يعتقده أحد في رأسه شيءٌ من دماغ صحيح لأنه لا يمكن أن يكذب الله تعالى في دقيقة ولا أن يكذب رسوله عامداً ولا مخطئاً في دقيقة فيقره الله تعالى على ذلك فكيف ولابد أن يسقط من هذه المدة سن فاهاث إذ ولد له عمران وسن عمران إذ ولد له موسى عليه السلام والصحيح الذي يخرج على نصوص كتبهم أن مدة بني إسرائيل مذ دخل يعقوب وبنوه مصر إلى أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام لم تكن إلا مائتي عام وسبعة عشر عاماً فهذه كذبة في مائتي عام وثلاثة عشر عام ولو لم يكن في توراتهم إلا هذه الكذبة وحدها لكفت في أنها موضوعة مبدلة من حمار في جهله أو مستخف سخر بهم ولابد

فصل وبعد ذلك قال وعند ذلك مجد موسى وبنو إسرائيل بهذه السورة

وقالوا مجد بنا السيد فإنه يعظم ويشرف وأغرق في البحر الفرس وراكبه قوتي ومديحي للسيد وقد صار خلاصي هذا إلهي أمجده وإله أبي أعظمه السيد قاتل كالرجل القادر وفي السفر الخامس اعلموا أن السيد إلهكم الذي هو نارٌ أكول

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه سؤة من السوآت لتشبيه الله عز وجل بالرجل القادر ويخبر بأنه نار.

هذه مصيبة لا تجبر ولقد قال بعضهم أليس الله تعالى يقول عندكم " الله نور السماوات والأرض " قلت نعم وقد قال رسول الله إذ سأله أبو ذر.

هل رأيت ربك فقال نورٌ أنى أراه.

وهذا بين ظاهر أنه لم يعن النور المرئي لكن نور لا يرى.

فلاح أن معنى نور السماواتوالأرض إذ ثبت أنه ليس هو النور المرئي الملون أنه الهادي لأهلهما فقط وأن النور اسم من أسماء الله تعالى فقط وأما قوله تعالى " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة إلى قوله ولو لم تمسسه نار " فإنه شبه نوره الذي يهدي به أولياءه بالمصباح الذي ذكر فإنه شبه مخلوقاً بمخلوق.

وبيان ذلك قوله تعالى متصلاً بالكلام المذكور في الآية نفسها " نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء " فصح ما قلناه يقيناً من أنه تعالى إنما عنى بنوره هداه للمؤمنين فقط وهذا أصح تشبيه يكون لأن نور هداه في ظلمة الكفر كالمصباح في ظلمة الليل

فصل ثم وصف المن النازل عليهم من السماء فقال وكان أبيض شبيهاً بزريعة الكزبر ومذاقهه كالسميد المعل

ثم قال في السفر الرابع كان المن شبيهاً بزريعة الكزبر ولونه إلى الصفرة وكان طعمه كطعم الخبز المعجون بالزيت

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا تناقض في الصفة واللون والطعم وإحدى الصفتين تكذب الأخرى بلا شك

فصل وبعد ذلك قال إن الله عز وجل قال لبني إسرائيل لقد رأيتموني كلكم من السماء فلا تتخذوا معي آلهة الفضة

ثم قال بعد ذلك ثم صعد موسى وهارون وناداب وابيهو وسبعون رجلاً من المشايخ ونظروا إلى إله إسرائيل وتحت رجليه كلبنة من زمرد فيروزي وكسماء صافية ولم يمد الرب يده إلى خيار بني إسرائيل الذين نظروا إلى الله وأكلوا وشربوا وقال بمقربة من ذلك وكان منظر عظمة السيد كنار آكلة في قرن الحيل يراه جماعة من بني إسرائيل

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا تجسيم لا شك فيه وتشبيه لا خفاء به وليس هذا كقول الله تعالى " وجاء ربك والملك صفاً صفاً " ولا كقوله تعالى " إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " ولا كقول رسول الله .

ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة في ثلث الليل الباقي إلى سماء الدنيا.

لأن هذا كله على ظاهره بلا تكلف تأويل إنما هي أفعال يفعلها الله عز وجل تسمى مجيئاً وإتياناً وتنزلاً ولا مثل قوله تعالى " يد الله فوق أيديهم " " ويبقى وجه ربك " وسائر ما في القرآن من مثل هذا فكله ليس بمعنى الجارحة لكن على وجوه ظاهرة في اللغة قد بيناها في غير هذا المكان عمدتها إن كل ذلك خبر عن الله تعالى لا يرجع بشيء من ذلك إلى سواه أصلاً ثم كيف يجتمع ما ذكرنا عن توراتهم مع قوله في السفر الخامس كلمكم الله من وسط اللهيب فسمعتم صوته ولم تروا له شخصاً وهاتان قضيتان تكذب كل واحدة منهما الأخرى ولابد

فصل وبعد ذلك قال فلما أطال موسى المقام اجتمع بنو إسرائيل إلى هارون

وقالوا قم واعمل لنا إلهاً يتقدمنا فإننا لا ندري ما أصاب موسى الرجل الذي أخرجنا من مصر فقال لهم هارون اقلعوا أقراط الذهب عن آذان نسائكم وأولادكم وبناتكم وائتوني بها ففعلوا ما أمرهم به وأتوه بالأقراط فلما قبضها هارون أفرغها وعمل لهم منها عجلاً وقال هذا إلهكم يا بني إسرائيل الذي أخرجكم من مصر فلما بصر بها هارون بنى مذبحاً بين يدي العجل وبرح مسمعاً غداً عيد السيد فلما قاموا صباحاً قربوا له قرباناً وأهدوا له هدايا وقعدت العامة تأكل وتشرب وقاموا للعب.

ثم ذكر إقبال موسى وأنه لما تدانى من المعسكر بصر بالعجل وجماعات تنثني وبعد ذلك ذكر أنه قال لهارون ماذا فعلت بك هذه الأمة إذ جعلتم تذنبون ذنباً عظيماً فقال له هارون لا تغضي سيدي فإنك تعرف رأي هذه الأمة في الشر قالوا لي اعمل لنا إلهاً يتقدمنا لأننا نجهل ما أصاب موسى الذي أخرجنا من مصر فقلت لهم من كان عنده منكم ذهب فليقبل به إلي وألقيته في النار وخرج لهم منه هذا العجل فلما رأى موسى القوم قد تعروا وكان هارون قد عراهم بجهالة قلبه وصيرهم بين يدي أعداهم عراة

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا الفصل عفا على ما قبله وطم عليه أن يكون هارون وهو نبي مرسل يتعمد أن يعمل لقومه إلهاً يعبدونه من دون الله عز وجل وينادي عليه غداً عيد السيد ويبني للعجل مذبحاً ويساعدهم على تقريب القربان للعجل ثم يجردهم ويكشف استاههم للرقص وللغناء أمام العجل إلا أن تكون أحق استاه كشفت إن هذا لعجبٌ نبي مرسل كافر مشرك يعمل لقومه إلهاً من دون الله أو يكون العجل ظهر من غير أن يتعمد هارون عمله فهذه والله معجزة كمعجزات موسى ولا فرق إلا أن هذا هو الضلال والتلبيس والإشكال والتدليس المبعد عن الله تعالى إذ لو كان هذا لما كان موسى أولى بالتصديق من عابد العجل الملعون أترى بعد استخفاف النذل الذي عمل لهم هذه الخرافة بالأنبياء عليهم السلام استخفافاً حاش لله من هذا أو ترون بعد حمق من يؤمن بأن هذا من عند موسى رسول الله وكليمه عن الله تعالى حمقاً نحمد الله على العافية أين هذا الهوس البارد والكذب المفترى من نور الحق الذي يشهد له العقل بالصحة الذي جاء به محمد رسول الله عن الله عز وجل حقاً إذ يقول في هذه القصة نفسها ما لا يمكن سواه " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوارٌ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين " وقوله عز وجل " فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ َفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا َلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي " وقوله " قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي" فهذا هو الصدق حقاً إنما عمل لهم العجل الكافر الضال السامري وأما هارون فنهاهم عنه جهده وإنهم عصوه وكادوا يقتلونه وقد بين الصبح لذي عينين ولاح صدق قوله تعالى من كذب الآفكين.

وأما الخوار فقد صح عن ابن عباس ما لا يجوز سواه وأنه إنما كان دوي الريح تدخل من قبله وتخرج من دبره وهذا هو الحق لأنه تعالى أخبر أنه لا يكلمهم ولو خار من عند نفسه لكان ضرباً من الكلام ولكانت حياة فيه وهو محال إذ لا تكون معجزة ولا إحالة لغير نبي أصلاً وبالله تعالى التوفيق

فصل وفي خلال هذه الفصول ذكر أن الله عز وجل قال لموسى دعني أغضب عليهم وأهلكهم وأقدمك على أمة عظيمة

وأن موسى رغب إليه وقال له تذكر إبراهيم وإسرائيل وإسحاق عبيدك الذين خلقتهم بيدك وقلت لهم سأكثر ذريتكم حتى يكونوا كنجوم السماء وأورثتهم جميع هذه الأرض التي وعدتهم بها ويملكونها فحن السيد ولم يتم ما كان أراد إنزاله من المكروه بأمته

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل عجايب.

أحدها إخباره بأن الله تعالى لم يتم ما أراد إنزاله من المكروه بهم وكيف يجوز أن يريد الله عز وجل إهلاك قوم قد تقدم وعده لهم بأمور ولم يتمها لهم بعد وحاش لله من أن يريد إخلاف وعده فيريد الكذب.

وثانيها نسبتهم البدآء إلى الله عز وجل وحاش لله من ذلك والعجب من إنكار من أنكر منهم النسخ بعد هذا ولا نكرة في النسخ لأنه فعل من أفعال الله أتبعه بفعل آخر من أفعاله مما قد سبق في علمه كونه كذلك وهذه صفة كل ما في العالم من أفعاله تعالى وأما البدآ فمن صفات من يهم بالشيء ثم يبدو له غيره وهذه صفة المخلوقين لا صفة من لم يزل لا يخفى عليه شيء يفعله في المستأنف.

وثالثها قوله فيها ويمكلونها وهذا كذب ظاهر ما ملكوها إلا مدة ثم خرجوا عنها إلى الأبد والله تعالى لا يكذب ولا يخلف وعده

فصل وبعد هذا ذكر أن الله تعالى قال لموسى اذهب واصعد من هذا الموضع أنت وأمتك

التي أخرجت من مصر إلى الأرض التي وعدت بها مقسماً إبراهيم وإسحاق ويعقوب لا ورثها نسلهم وابعث بين يديك ملكاً لإخراج الكنعانيين والأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين تدخل في أرض تفيض لبناً وعسلاً لست أنزل معكم لأنكم أمة قساة الرقاب لئلا تهلك بالطريق فلما سمعت العامة هذا الوعيد الشديد عجبت ولم تأخذ زينتها فقال السيد لموسى قل لبني إسرائيل أنتم أمة قد قست رقابكم سأنزل عليكم مرة وأهلكم فضعوا زينتكم لأعلم ما أفعل بكم وبعد ذلك بفصول قال إن موسى قال لله تعالى إن كنت سيدي عني راضياً فأنا أرغب إليك أن تذهب معنا وبعد ذلك إن الله تعالى قال لموسى سأخرج بنفسي بين يديك

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل كذبتان وتشبيه محقق أما الكذبتان.

فأحدهما قوله أنه سيبعث بين يدي موسى ملكاً لإخراج الأعداء وأما هو تعالى فليس ينزل معهم ثم نزل معهم وهذا كذب لا مخلص منه تعالى الله عن هذا وحاش له من أن يقول سأفعل ثم لا يفعل وأن يقول لا أفعل ثم يفعل.

والثانية قوله إني سأنزل إليكم مرة وأهلككم ثم لم يفعل حاش لله من هذا وأما التشبيه المحقق فامتناعه من أن ينزل بنفسه واقتصاره على أن يبعث ملكاً لنصرتهم ثم أجاب إلى النزول معهم وهذا ما لا يسوغ فيه ما يسوغ فمن حديث التنزيل من أنه فعل بفعله تعالى لأنه لو كان هذا لكان إرسال الملك أقوى ما يوجد في العالم فإذ قد بطل فقد صح أنه نزول نقلة ولابد

فصل وفي خلال هذه الفصول قال وكان السيد يكلم موسى مواجهة فماً بفم كما يكلم المرء صديقه

وإن موسى رغب إلى الله تعالى أن يراه وأن الله تعالى قال له سأدخلك في حجر وأحفظك بيميني حتى أجتاز ثم أرفع يدي وتبصر ورائي لأنك لا تقدر أن ترى وجهي ففي هذين الفصلين تشبيه شنيع قبيح جداً من إثبات آخر بخلاف الوجه وهذا ما لا مخرج منه

فصل وفي السفر الثالث أن الباري تعالى قال له من ضاجع امرأة عمه أو خاله أو كشف عورة بنته فيحملان جميعاً ذنوبهما ويموتان من غير أولاد

قال أبو محمد رضي الله عنه : كنا ذكرنا أننا لا نخرج عليهم من توراتهم كلاماً لا يفهم معناه إذ للقائل أن يقول قد أصاب الله به ما أراد لكن هذا المكان لم يتخلف فيه وعدنا لأنها شريعة

فصل وفي السفر الرابع ذلك أن عدد بني إسرائيل الخارجين من مصر القادرين على القتال

خاصة من كان ابن عشرين سنة فصاعداً كانوا ستمائة ألف مقاتل وثلاثة آلاف مقاتل وخمسمائة مقاتل وخمسين مقاتل وأنه لا يدخل في هذا العدد من كان له أقل من عشرين ولا من لا يطيق القتال ولا النساء جملة وإن عددهم إذ دخلوا الأرض المقدسة ست مائة ألف رجل والف رجل وسبع مائة رجل وثلاثون رجلاً لم يعد فيهم من له أقل من عشرين سنة وأن على هؤلاء قسمت الأرض المغنومة وعلى النساء وعلى من كان دون العشرين أيضاً.

وفي كتبهم أن داود عليه السلام أحصى في أيامه بني إسرائيل فوجد بني يهوذا خاصة خمسماية ألف مقاتل ووجد التسع الأسباط الباقية حاش بني لاوي وبني بنيامين فلم يحصهما ألف ألف مقاتل غير ثلاثين ألفاً وسوى من لا يقدر على القتال من صبي أو شيخ أو معذور وكل هؤلاء إنما كانوا في فلسطين والأردن وبعض عمل الغور فقط والبلد المذكور بحالته كما كان لم يزد بالاتساع ولا نقص وفي كتبهم أيضاً أن ابنا ابن ربعام بن سليمان بن داود قتل من العشرة الأسباط من بني إسرائيل خمس مائة ألف رجل وأن ابنا قتل اثنين وخمسين ألف مقاتل

قال أبو محمد رضي الله عنه : البلد المذكور باق لم ينقض ولا صغرت أرضه وحده بإقرارهم في الجنوب غزة وعسقلان ورجح وطرق من جبال الشراة بلد عيسو ولا خلاف بينهم في أنهم لم يملكوا قط قرية فما فوقها من هذه البلاد وأنهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها محاربين مرة لبني إسرائيل ومراراً عليهم وحد ذلك البلد في القرب البحر الشامي وحده في الشمال صور وصيدا وأعمال دمشق التي لا يختلفون في انهم لم يملكوا قط منها مضرب وتدوانهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها محاربين لهم فمرة عليهم ومرة لهم وفي أكثر ذلك يملكون بني إسرائيل ويسومونهم سوء العذاب ومرة يخرج بنو إسرائي عن ملكهم فقط وحد البلد المذكور في الشرق بلاد مواب وعمون وقطعة من صحراء العرب التي هي الفلوات والرمال.

ولا خلاف بينهم في ان نص توراتهم أن الله تعالى قال لموسى وبني إسرائيل إلى هنا لا تحاربوا بني عيسو ولا بني مواب ولا بني عمون فإني لم أورثكم من بلادهم وطأة قدم فما فوقها لأني قد ورثت بين عيو وبني لوط هذه البلاد كما ورثت بني إسرائيل تلك التي وعدتهم بها وأنهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها يحاربونهم فمرة يملكهم بنو عمون وبنو مواب ومرة يخرجون عن رقهم فقط وطول بلاد بني إسرائيل المذكورة بمساحة الخلفاء المحققة من عقبة أنيق وهي على أربعة وخمسين ميلاً من دمشق إلى طبرية ثمانية أميال وهي جبل أفرايم إلى الطور اثني عشر ميلاً وإلى اللجون اثني عشر ميلاً إلى علمين عندهما ينقطع عمل الأردن ومبدأ عمل فلسطين ميل واحد إلى الرملة نحو أربعين ميلاً إلى عسقلان ثمانية عشر ميلاً وموضع الرملة هو كان آخر عمل بني إسرائيل فذلك ثلاثة وسبعون ميلاً وعرضه من البحر الشامي إلى أول عمل جبل الشراة وأول عمل مواب وأول عمل عمان نحو ذلك أيضاً وعمل صغير شرقي الأردن يسمى الغور فيه مدينة بيسان تكون أقل من ثلاثين ميلاً ولا يزيد وكان هذا العمل الذي بشرقي الأردن بزعمهم وقع لبني رؤابين وبني جاد ونصف بني منسي بن يوسف عليه السلام لأنه كان يصلح لرعي المواشي

وكان هؤلاء أصحاب بقر وغنم فأعجبوا لهذا الكذب المفضوح وهذا المحال الممتنع أن تكون المسافة المذكورة تقسم أرضها على عدد يكون أبناء العشرين منهم فصاعداً خاصة أزيد من ستماية ألف فأين من دون العشرين وأين النشأ والكل بزعمهم أخذ سهمه من الأرض المذكورة ليعيش من زرعها وثمرتها واعلموا أنه لا يمكن البتة أن يكون في المساحة المذكورة على أن تكون مساحة كل قرية ميلاً في ميل مزارعها ومشاجرها إلا ستة آلاف قرية ومائتا قرية هذا على أن يكون جميع العمل المذكور عمراناً متصلاً لا مرج فيه ولا شجر أولاً أرض محجرة لا تعمر ولا أرض مرملة كذلك ولا سبخة ملح كذلك وهذا محال أن يكون فعلي هذا يقع لكل قرية من الرجال المذكورين مائة رجل أو نحو ذلك سوى من هو دون العشرين بينهم وسوى النساء ولا سبيل البتة على هذا أن يدركوا فيها المعاش وهذا كذب لا خفاء به لاسيما إذ بلغوا ألف ألف مقاتل وخمس مائة مقاتل سوى من لا يقاتل وسوى النساء أين هذا الكذب البارد من الحق الواضح في قول الله تعالى حاكياً عن فرعون أنه قال إذ تبع بني إسرائيل " إن هؤلاء لشرذمة قليلون " هذا الذي لا يجوز غيره ولا يمكن سواه أصلاً وكذبة أخرى وهي أنهم ذكروا في كتاب يوشع أن البلد المذكور كان فيه من المدن في سهم بني يهوذا مائة مدينة وأربعة مدن وفي سهم بني شمعون سبع عشرة مدينة وفي سهم بنيامين ثمان وعشرون مدينة وفي سهم بني زبلون اثني عشر مدينة وفي سهم بني نفتالي تسع عشرة مدينة وفي سهم بني دان ثمان عشرة مدينة فذلك مائتا مدينة واثنتان وست وثلاثون مدينة

قال في الكتاب المذكور سوى قراها لا يحصيها إلا الله عز وجل وذكر فيه أنه وقع لنصف بني منسي بن يوسف بشرقي الأردن باشان وعملها وأن مدائنهم المحصنة ستون مدينة سوى قارها لا يحصيها إلا الله فالمجتمع من هذا المدن المذكورة ثلاث مائة مدينة غير أربع مدن ولم يذكر عدد مدائن بني رؤابين ولا عدد مدائن بني عاد ولا عدد مدائن نصف بني منسي الذي بغرب الأردن ولا مدائن بني أفرايم وهذه الأسباط التي لم تذكر مدنها تقع على ما توجبه توراتهم في الربع من جميع بني إسرائيل يقع لهم على هذا الحساب نحو مائة مدينة إذا ضمت إلى العدد الذي ذكرنا فتمام الجميع نحو أربعمائة مدينة فأعجبوا لهذه الشهرة أن تكون البقعة التي قد ذكرنا مساحتها على قلتها وتفاهتها تكون فيها هذه المدن وقد ذكر أن نصف سبط بني منسي الذين وقعوا بشرقي الأردن ووقع في خطهم ستون مدينة كانوا ستة وعشرين ألف رجل مقاتلين كلهم ليس فيهم ابن أقل من عشرين سنة والعمل باق إلى اليوم لعله اثني عشر ميلاً في مثلها ما رأيت أقل حياً من الذي كتب لهم تلك الكتب المرذولة وسخم بها وجوههم ونعوذ بالله من الضلال

فصل ويتصل بهذا الفصل فصل آخر هو أشنع منه في شهرة الكذب وشنعة المحال وظهور التوليد وبشاعة الافتعال

ذكر في صدر السفر الثاني إذ ذكر خروج بني إسرائيل عن مصر مع موسى عليه السلام أن الله تعالى أمر موسى أن يعد بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر بسنة واحدة وشهر واحد فقد فعد جميع قبائلهم فقال هؤلاء أكابر البيوت في قبائلهم حنوك وفلو وحصرون وكرمي وهم بنو رؤابين بكر ولد إسرائيل هذه قبائل روابين.

وذكر في أول السفر الرابع أن مقدمهم كان اليصور بن شديئور وأن عددهم كان ستة وأربعين ألف رجل لم يعد منهم من له أقل من عشرين سنة ولا من لا يطيق الحرب وذكر في صدر السفر الثاني فقال وبنو شمعون يموئيل ويامين وأوهد وياكين وصوحر وشأول بن الكنعانية هذه قبائل شمعون.

وذكر في أول السفر الرابع أن مقدمهم كان شلوميئيل بن صور يشداي وأن عددهم كان تسعة وخمسين ألف رجل لم يعد فيهم من له أقل من عشرين سنة ولا من لا يطيق الحرب.

وقال في صدر السفر الثاني هذه تسمية بني لاوي في قبائلهم جرشون وقهات ومراري وابنا جرشون لبني وشمعي في قبائلهما وبنوقهات عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل وابنا مراري محلى وموشي هذه أنساب بني لاوي في قبائلهم فتزوج عمران يوكابد عمته فولدت له موسى وهارون وبنو يصهار قورح ونافج وذكري وبنو قورح أسير والقانة وابياساف وبنو عزيئيل ميشائيل والصافان وستري فتزوج هارون إلى اليشابع بنت عمينا داب أخت نحشون فولدت له ناداب وابيهو العازار وايثامار فتزوج العازار بن هارون في بنات بني فوطيئيل فولدت فيخاس وقال في صدر السفر الرابع فكلم السيد موسى في مغازسينا وقال له عد بني لاوي في بيوت آبائهم وأهاليهم فكل ذكر ابن شهر فصاعداً حسبهم موسى كما عهد إليه السيد فوجد ولد لاوي على أسمائهم مسمين جرشون وقهات ومراري وولد جرشون لبني وشمعي وولد قهات عمرام ويصهار وعزيئيل وولد مراري محلي وموشي وأنه عد عامة ذكور بني جرشون ابن شهر فصاعداً فكانوا ستة آلاف وخمس مائة كانوا في ساقة القبة في الغرب تحت أيدي الياساف بن لا يل وبعد ذلك ذكر أنه حسب ألفي رجل وستماية رجل وثلاثين رجلاً ثم قال هذه نسبة قهات خرج منه رهط عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل فحسب من كان منهم ذكراً ابن شهر فصاعداً فوجدهم ثمانية آلاف رجل وستمائة ذكر مقدمهم ليصافان بن عزيئيل المذكور وأمرهم أن يكونوا في جنوب القبة حاشا موسى وهارون وأولادهما فإنهم يكونون أمام القبة في الشرق وأنه حسب من كان منهم ابن ثلاثين سنة إلى ابن خمسين سنة فقط فوجدهم ألفي رجل وسبعمائة رجل وخمسين رجلاً وذكر أنه حسب بني مراري محلي وموشي بني مراري ومن كان منهم ابن شهر فصاعداً من الذكور فوجدهم ستة آلاف ومائتين مقدمهم صوريئيل ابن أبيحايل وأمرهم أن يكونوا في شمال القبة وأنه حسب من كان منهم ابن ثلاثين سنة فصاعداً إلى خمسين سنة فوجدهم ثلاثة آلاف رجل ومائتي رجل وبعد أن ذكر من كان من بني لاوي ابن شهر فصاعداً من الذكور كما أوردنا قال فجميع اللاوايين الذين حسب موسى وهارون من كل ذكر من ابن شهر فصاعداً اثنان وعشرون ألفاً.

وأن السيد أوحى إلى موسى أحسب بكور ذكور ولد إسرائيل المذكور من ابن شهر فصاعداً وتأخذ لي اللاويين عن بكور جميع ولد إسرائيل فعد موسى بكور ولد بني إسرائيل المذكور من ابن فصاعداً فوجدهم اثنين وعشرين ألفاً ومائتين وثلاثة وسبعين فقال السيد لموسى خذ بني لاوي عن بكور ذكور ولد إسرائيل ليكون بنو لاوي لي وعن المائتين والثلاثة والسبعين الزائدين عن عدد بني لاوي تأخذ عن كل واحد خمسة أثقال بوزن الهيكل فأخذ موسى دراهم الزائدين فبلغت ألفاً وثلاثمائة وخمسة وستين ثقلاً وأعطاها لهارون وولده على ما عهد عليه السيد.

ثم ذكر في سفر يوشع أن العازار بن هارون بنفسه أتى إلى يوشع بن نون إذ فتحت الأرض المقدسة وكلمه في أن يعطي بني لاوي مدائن للسكنى ففعل وأنه وقع لبني هارون خاصة ثلاثة عشرة مدينة من مدائن بني يهوذا وبنيامين وشمعون وأنه وقع لسائر بني فاهاث بن لاوي عشر مدائن بني يهوذا وبنيامين وشمعون وأنه وقع لسائر بني فاهاث بن لاوي عشر مدائن بني دان وبني أفرايم ونصف سبط منسي الذين مع سائر الأسباط وأنه وقع لبني جرشون بن لاوي ثلاث عشرة مدينة من مدائن يساخار وأشير ونفتالي ونصف سبط منسي الذي بشرقي الأردن وأنه وقع لبني مراري بن لاوي ثنتي عشرة مدينة من مدائن بني زابلون وبني روأبين وجاد بن يعوقب بشرقي الأردن فذلك لبني لاوي ثمان وأربعون مدينة وذكر في السفر الرابع أنه أحصى أيضاً بني جاد بن يعقوب الرجال خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعداً المبارزني للحرب فوجدهم خمسة وأربعين ألف رجل وخمسين رجلاً مقدمهم الياساف بن رعوئيل.

وأ ه أحصى بني يهوذا الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعداً المبارزين للحرب خاصة فوجدهم أربعة وسبعين ألفاً وستمائة رجل وقد ذكر قبل وبعد أ هذا العدد كله إنما هم من ولد شيلة وفارص وزارح بني يهوذا فقط مقدمهم نحشون بن عميناداب ابن أرام بن حصرون ابن فارص بن يهوذا بن إسرائيل.

وأنه أحصى بني يساكر الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعداً المبارزين للحرب خاصة فوجدهم أربعة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل مقدمهم نثنائيل بن صوغر وأنه أحصى بني زبلون الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعداً المبارزين للحرب خاصة فوجدهم سبعة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل مقدمهم الياب بن حيلون وأنه حسب بني يوسف عليه السلام الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين فصاعداً المبارزين للحرب خاصة فوجدهم اثنين وسبعين ألف رجل وسبعمائة رجل منهم من ولد أفرايم بن يوسف أربعون ألف رجل وخمسمائة رجل ومقدمهم اليشمع بن عميهود ومن ولد منسي بن يوسف اثنان وثلاثون ألف رجل ومائتا رجل مقدمهم جمليئيل بن فدهصور وأنه حسب بني بنيامين الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعداً المبارزين للحرب خاصة فكانوا خمسة وثلاثين ألف رجل وأربعمائة رجل مقدمهم ابيدن بن جدعوني وأنه حسب بني دان الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين فصاعداً من المبارزين للحرب خاصة فكانوا اثنين وستين ألف رجل وسبعمائة رجل مقدمهم أخيعزر بن عميشداي وكلهم من ولد حوشيم بن دان وأنه حسب بني أشير الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين فصاعداً من المبارزين للحرب خاصة فوجدهم واحد وأربعين ألف رجل وخمسمائة رجل مقدمهم فجعيئيل ابن عكرن وأنه حسب بني نفتالي من كان منهم من الذكور خاصة ابن عشرين فصاعداً من المبارزين للحرب خاصة فوجدهم ثلاثة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل مقدمهم أخيرع ابن عينن وأن هذا الحساب كان بعد عام واحد وشهر واحد من خروجهم من مصر حاشا قسمة المدائن المذكورة وأنها بعد دخولهم فلسطين والأردن.

فليتأمل كل ذي تمييز صحيح من الخاصة والعامة هذا الكذب الفاحش الذي لا خفاء به والمحال الممتنع والجهل المفرط الموجب كل ذلك ضرورة أنها كتب محرفة مبدلة من تحريف فاسق سخر بهم وأنها لا تمكن وأنها ألبتة أن تكون من عند الله ولا من عند نبي ولا من عمل صادق اللهجة.

فمن ذلك أخباره بأن رجال بني دان كانوا إذا خرجوا من مصر اثنتين وسبعين ألفاً وسبعمائة رجل لم يعد فيهم من كان منهم ابن أقل من عشرين سنة ولا من لا يطيق البروز للحرب ولا النساء وأنهم كلهم راجعون إلى حوشيم بن دان وحده ولم يكن لدن بإقرارهم ولد غير حوشيم مع قرب أنسابهم من حوشيم لأن في نص توراتهم أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام أن الجيل الرابع من الأولاد يرجعون إلى الشام فاضبطوا هذا يظهر لكم الكذب علانية لا خفاء به وأن بني يهوذا كانوا أربعة وسبعين ألفاً وستمائة رجل ليس يعد فيهم من له أقل من عشرين سنة وكلهم راجعون كما ذكرنا إلى ثلاثة أولاد ليهوذا لم يعقب له غيرهم وفي الحياة يومئذ رئيسهم نحشون بن عمينا داب بن أرام ابن حصرون بن فارص بن يهوذا وأن بني يوسف عليه السلام كانوا اثنين وسبعين ألف رجل وسبعمائة رجل ليس يعد فيهم من له أقل من عشرين سنة وكلهم راجع إلى أفرايم ومنسي لم يعقب ليوسف غيرهما وفيهم يومئذ في الحياة صلفحاد بن حافر بن جلعاد بن منسي بن يوسف عليه السلام وقد ذكر أيضاً في توراتهم أولا أفرايم فلم يجعل له ثلاثة ذكور ولم يجعل لمنسي إلا ولدين وذكر أولاد جلعاد المذكور بن منسي ولم يجعل له إلا ستة ذكور فقط.

فاجعلوا لمنسي وأفرايم أقصى ما يمكن أن يكون للرجل من الأولاد ثم لجلعاد وإخوته وبني عمه مثل ذلك ثم لحافر وطبقته مثل ذلك وانظروا هل يمكن أن يبلغ ذلك ثلث هذا العدد والأمر في ولد دان أفحش من سائر ما في ولد إخوته وإن كان الكذب في كل ذلك فاحشاً لأن البضع والسبعين ألف رجل وزيادة لم يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة يرجعون إلى ثلاثة من ولد يهوذا واثنين من ولد يوسف وأما الاثنان وستون ألف رجل ونيف لا يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة فإنما يرجع إلى واحد فقط لم يمكن لدان غيره بلا خلاف منهم فكيف إذا أضيف إلى هذا العدد من له أقل من عشرين سنة من الرجال والأغلب أنهم قريب من عدد المتجاوزين عشرين سنة أو أقل بيسير وجميع النساء والأغلب أنهن في عدد الرجال أو قريباً من ذلك فيجتمع من ولد حوشيم بن دان وحده في مدة مائتي عام وسبعة عشر عاماً نحو مائة ألف وستين ألف إنسان هذا المحال الممتنع الذي لم يكن قط في العالم على حسب بنيته وتربيته ويجتمع من ولد يوسف عليه السلام على هذا أرجح من مائتي ألف إنسان ومن ولد يهوذا نحو ذلك وليس يمكنهم أن يقولوا أن الطبقات من الولادات كانت كثيرة جداً الوجهين أحدهما قوله في توراتهم أن الجيل الرابع من الأولاد يرجعون إلى الشام

والثاني أن الذي ذكر أنسابهم من بني لاوي وبني يهوذا وبني يوسف وبني رأوبين كانوا متقاربين في التعدد كموسى وهارون ومريم بني عمران بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل واليصافان بن عزيئيل بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل وقورح وإخوته بنو يصهار بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل ونحشون وإخوته بنو عمينا داب بن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن إسرائيل وأحار بن كرمي بن سيداي بن شيلة بن يهوذا بن إسرائيل ودابان وأبيرام ابنا الباب بن ملوكن بن روبان بن إسرائيل وإخوتهم وأولادهم وأولاد أولادهم هذا نص ذكر أنسابهم في توراتهم فوضح أن الأمر متقارب في تعددهم وظهر بهذا عظيم الكذب الفاحش في الأعداد التي ذكروا ولا يمكنهم البتة أن يقولوا أنه كان لإسرائيل غير من سمينا من الأولاد الاثني عشر ولا أنه كان لأولاد إسرائيل المذكورين غير من سمينا من الأولاد وعددهم أحد وخمسون رجلاً فقط لبنيامين عشرة ولجاد سبعة ولشمعون ستة ولرؤبين وأشير وليساكر ونفتالي لكل واحد منهم أربعة أربعة وليهوذا وللاوي وزبلون لكل واحد منهم ثلاثة ثلاثة وليوسف اثنان ولدان واحد فيا للناس كيف يمكن أن يتناسل من ولادة واحد وخمسين رجلاً فقط في مدة مائتي عام وسبعة عشر عاماً فقط أزيد من ألفي ألف إنسان هذا غاية المحال الممتنع لأنه نص في توراتهم أنه انتسل نهم ستماية ألف وثلاثة آلاف رجال كلهم لم يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة ولعل من دون العشرين عاماً منهم يقاربون هذا العدد ثم النساء ولعلهن نحو هذا العدد فأعجبوا لهذه الفضائح.

وقد رام بعض من صككت وجهه من علمائهم بهذه الفضيحة أن يلود بهذا السقب فقلت دع عنك هذا التمويه فقد سدت عليك توراتك كل المذاهب لأن فيها بعلمك حيث ذكر خروجهم من مصر وحيث ذكر دخولهم إلى الشام وحيث ذكر قسمة الأرض عليهم في سفر يوشع ذكر أفخاذ قبائلهم وتسمية أسباطهم اسماً اسماً فلم يزد على من سمينا ولا واحداً فلو كان ما تقول لكانت أيضاً قد كذبت في هذا الموضع إذ ذكرت بزعمك هذا قسمة الأرض وربتة الجيوش وأعداد الأسباط بخلاف ما تزعم فلا بد فيها من الكذب المتيقن كيفما تصرفت الحال فسكت خاسئاً.

فإن قيل ألم يقل يعقوب إذ عرض عليه يوسف ابنه أفرايم ومنسي فقال له يعقوب أفرايم ومنسي يكونان لي وينسبان إلي ومن ولد لك بعدهما ينسبان إليك.

قلنا لا يخلو يوسف عليه السلام من أن لا يكون له ولد غيرهما ممن أعقب خاصة كما نقول نحن وتشهد به نصوص توراتكم وجميع كتبكم أو يكون ليوسف ولدأعقب غير أفرايم ومنسي فلو كان ذلك فكتبكم كلها كاذبة أولها عن آخرها من التوراة فما ورآها لأنه في كل مكان ذكر فيه رتبة معسكر الأسباط سبطاً سبطاً وعددهم إذ خرجوا من مصر وعددهم إذ دخلوا الشام وعددهم إذ أهدوا الكباش والعجول وحقاق الذهب وعددهم إذ وقفوا على الجبلين للبركة واللعنة وعددهم إذ نقشت أسماؤهم في الفصوص المرتبة على صدر هارون في أزيد من ألف موضع في سائر كتبهم ولم يذكر ليوسف الإسبطين فقط سبط منسي وسبط أفرايم فبطل الاعتراض بذلك الكلام المذكور وبالله التوفيق.

وقد علم كل من يميز م الرجال والنساء أن الكثرة الخارجة من الأولاد لم توجد في العالم لصعوبة الأمر في تربية أطفال الناس ولكون الإسقاط في الحوامل ولإبطاء حمل المرأة بين بطن وبطن ولكثرة الموت في الأطفال فهذه أربع عوارض قواطع دون الكثرة الخارجية في الأولاد للناس ثم كون الإناث في الولادات أيضاً ولو طلبنا أن نعد من عاش له عشرون ولداً فصاعداً من الذكور وبلغوا الحلم فما وجدناهم إلا في الندرة ثم في القليل من الملوك وذوي اليسار المفرط الذين تنطلق أيديهم عن الكثير من النساء والإماء ثم على الخدام اللواتي هن العون على التربية والكفاية وعلى كثرة المال الذي لا يكون المعاش إلا به وأما من لا يجد إلا الكتاب وفوقه مما لا يبلغ الإكثار من الوفر ولا يقدر إلا على المرأة والمرأتين ونحو ذلك فلا يوجد هذا فيهم البتة بوجه من الوجوه ولا يمكن ذلك أصلاً لهم لما ذكرنا آنفاً من القواطع الموانع وقد شاهدنا الناس وبلغتنا أخبار أهل البلاد البعيدة وكثر بحثنا عما غاب عنا منا ووصلت إلينا التواريخ الكثيرة المجموعة في أخبار من سلف من عرب وعجم في كثير من الأمم فما وجدنا في ذلك المعهود من عدد أولاد الذكور في المكثرين الذين يتحدث بهم عند كثرة الولد إلا من أربعة عشر ذكراً فأقل وأما ما زاد إلى العشرين فنادر جداً هذه الحال في جميع بلاد أهل الإسلام والذي بلغنا عن ممالك النصارى إلى أرض الروم وممالك الصقالية والترك والهند والسودان قديماً وحديثاً وأما الثلاثون فأكثر فما بلغنا ذلك إلا عن نفر يسير عمن سلف.

منهم أنس بن مالك الأنصاري وخليفة بن أبي السعدي وأبو بكرة فإن هؤلاء لم يموتوا حتى مشي بين يدي كل واحد منهم مائة ذكر من ولده وعمر بن عبد الملك فإنه كان يركب معه ستون رجلاً من ولده وجعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس فإنه عاش له أربعون ذكراً من ولده سوى أبنائهم وعبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية فإنه ولد له خمسة وأربعون ذكراً عاش منهم نيف وثلاثون وموسى ابن إبراهيم بن موسى بن جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فإنه بلغ له منهم مبلغ الرجال واحد وثلاثون ابناً ذكوراً كلهم وكان أبوه أميراً على اليمن مرة قائماً ومرة والياً للمأمون ووصيف مولى المعتصم التركي كان له خمسة وخمسون ذكراً بالغون من ولده الأدنين وتامرت مولي بني مناد صاحب طرابلس فإنه كان يركب ومعه ثمانون ذكراً من أولاده الأدنين إلا أن هذا كان يغتصب كل امرأة أعجبته من أمة أو حرة بولدها ورجل من ملوك البربر من بني دمر معتزلي كان يركب معه مائتا فارس من ولده وولد ولده وتميم بن يزيد بن يعلي بن محمد العرني فإنه بلغنا أنه كان له نيف وخمسون ذكراً بالغون وكان ملك بني نفر من ملك بلاداً عظيمة وأبو البهار بن زيري ابن منكاد فكان يركب معه ثلاثون ذكراً من ولده الأدنين ومرزوق بن أشكر بن الثغري بجهة لارده فكان يركب معه ثلاثون فارساً من ولده الأدنين وبلغنا عن ملك من ملوك الهند أنه كان له ثمانون ولداً ذكوراً بالغون.

وتذكر اليهود في تواريخهم أن رئيساً كان يدبر أمرهم كلهم يسمى جدعون ابن بواش من بني منسي بن يوسف عليه السلام كان له سبعون ولداً ذكوراً وإن آخر منهم أيضاً من سبط منسي يسمى بابين بن جلعاد كان له اثنان وثلاثون ولداً ذكوراً وآخر من مدبريهم اسمه عبدون بن هلال من بني أفراييم بن يوسف كان له أربعون ابناً ذكوراً بالغون وآخر من مدبريهم من سبط يهوذا اسمه افصان من سكان بيت لحم كان له ثلاثون زوجة وثلاثون ابناً ذكوراً وثلاثون بنتاً وتزعم الفرس أن جودرز الملك علي كرمان كان له تسعون ابناً ذكوراً بالغون فإذا كانت هذه الصفة لم نجدها منذ نحو ثلاثة آلاف عام إلا في أقل من عشرين إنساناً في مشارق الأرض ومغاربها في الأمم السالفة والخالفة ممن علت حاله وامتد عمره وكثرت أمواله وعياله فكيف يتأتى من هذا العدد ما لم يسمع بمثله قط في الدهر لا في نادر ولا في شاذ لبني إسرائيل كافة بمصر وحالهم فيها معروفة مشهورة لا يقدر أحد على إنكارها وهي أنهم كانوا في حياة يوسف عليه السلام في كفاف من العيش أصحاب غنم فقط ولم يكونوا في يسار فائض ثم كانوا بعد موت يوسف وإخوته عليه السلام في فاقة عظيمة وعذاب ونصب وسخرة متصلة وذل رابت وبلاءٍ دائب وتعب زاهق يكاد يقطع عن الشبع فكيف عن الاتساع في العيال والأشرفي الاستكثار من الولد فهذه كذبة عظيمة مطبقة فاضحة.

وثانية وهي أن في توراتهم أنهم كانوا ساكنين في أرض قوس فقط وأن معاشهم كان من المواشي فقط.

وذكر في توراتهم أنهم إذ خرجوا من مصر خرجوا بجميع مواشيهم.

فاعجبوا أيها السامعون وتفكروا ما الذي يكفي ستمائة ألف وثلاثة آلاف لم يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة سوى النساء للقوت والكسوة من المواشي ثم اعلموا يقيناً أن أرض مصر كلها تضيق عن مسرح هذا المقدار من المواشي فكيف أرض قوس وحدها وهم يقولون في توراتهم أن إبراهيم ولوطاً عليهما السلام لم يحمل كثرة مواشيهم أرض واحدة ولا أمكنهما أن يسكنا معاً فكيف بمواش تقوم بأزيد من ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان لقد كان الذي عمل لهم هذه اكتب الملعونة المكذوبة ضعيف العقل قليل الفكرة فيما يطلق به قلمه فهذه كذبة فاحشة ثانية عظيمة جداً.

وثالثة أنه ذكر في توراتهم أنهم كانوا كلهم يسخرون في عمل الطوب وتالله إن ستمائة ألف طواب لكثير جداً لاسيما في قوس وحدها وليس يمكنهم أن يقولوا أنهم كانوا متفرقين فإن توراتهم تقول غير هذا وتخبر أنهم كانوا مجتمعين ذكر ذلك في مواضع جمة منها حيث أمرهم بذبح الخرفان ومس العنب بالدم ومنها حيث أباح لهم فرعون الخروج مع موسى عليه السلام فكانوا كلهم مجتمعين بمواشيهم يوم خروجهم وهذه كذبة عظيمة ثالثة لا خفاء بها.

والرابعة أنه ذكر بني لاوي ثلاثة رجال فقط قهات وجرشون ومراري وأن ذكور نسل هؤلاء الثلاثة فقط كانوا اثنين وعشرين ألفاً من الذكور خاصة من ابن شهر فصاعداً من جملتهم ثمانية آلاف رجل وخمسمائة رجل وثمانون رجلاً ليس فيهم ابن أقل من ثلاثين سنة ولا ابن أكثر من خمسين سنة ثم ذكر أولاد مراري فلم يذكر له إلا ولدين محلي وموشي فقط وذكر أولاد جرشون بن لاوي فلم يذكر له إلا ولدين لبني وشمعي وذكر أولاد قهات بن لاوي فلم يذكر إلا أربعة فقط عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل فرجع نسل لاوي كله إلى هؤلاء الثمانية فقط ثم لم يجعلوا لتوجيه التأويل في كذبهم مساغاً بل عد أولاد عمرام بأنهم موسى وهارون عليهما السلام فقط والعازار وفرصوم ابني موسى عليه السلام وكانا صغيرين حينئذ جداً وأربعة أولاد لهارون عليه السلام وعد أولاد يصهار فذكر قورح وإخوته وثلاثة أولاد لقورح وبقي سائر العدد المذكور من الألوف وهي ثمانية آلاف رجل وستمائة رجل لا يعد فيهم ابن أقل من شهر من بني قهات خاصة راجعاً إلى أولاد حبرون وعزيئيل وأخوي قورح فقط هذا والصافان بن عزيئيل حي مقدم طبقته سوى النساء ولعل عددهن كعدد الرجال وهذا من الحمق الذي لا نظير له ومن قلة الحياء في الدرجة العليا ومن الكذب البحث في المقدمة ومن المحال في المحل الأقصى وجار مجرى الخرافات التي تقال عند السمر بالليل ولعمري لو ضل بتصديق هذا الهوس الفاجر واحد واثنان لكان عجباً فكيف أن يضل به عالم عظيم وجيل بعد جيل مذ أزيد من ألف وخمسمائة عام مذ كتب لهم عزر الوراق هذا السخام الذي أضلهم به ونحمد الله على عظيم نعمته علينا كثيراً ونسأله العصمة في باقي أعمارنا مما امتحن به من شاء ضلاله آمين آمين.

والخامسة قوله في سفر يوشع أنه وقع لبني هارون ثلاث عشر مدينة والعازار بن هارون حي قائم فيا للناس أفي المحال أكثر من أن يدخل في عقل أحد أن نسل هارون بعد موته بسنة وأشهر يبلغ عدد الأيسعة للسكنى إلا ثلاث عشرة مدينة هل لهذا الحمق دواء إلا الغل والقيد والمجمعة وما يتبع ذلك من الكي والسوط ونعوذ بالله من الخذلان.

وكذبة سادسة ظريفة جداً وهي أنه ذكر في توراتهم أن عدد ذكور بني جرشون بن لاوي من ابن شهر فصاعداً كانوا ستة آلاف وخمسمائة وإن عدد ذكور بني قهات بن لاوي من ابن شهر فصاعداً كانوا ثمانية آلاف وستمائة وإن عدد ذكور بني مراري بن لاوي من ابن شهر فصاعداً كانوا ستة آلاف ومائتين ثم قال فجميع الذكور من بني لاوي من ابن شهر فصاعداً اثنان وعشرون ألفاً فكان هذا ظريفاً جداً وشيئندي منه الاباط وهل يجهل أحد أن الأعداد المذكورة إنما هي يجتمع منها واحد وعشرون ألفاً وثلاث مائة.

هذا أمر لا ندري كيف وقع أتراه بلغ المسخم الوجه الذي كتب لهم هذا الكتاب الأحمق من الجهل بالحساب هذا المبلغ أن هذا لعجب ولقد كان الثور أهدي منه والحمار أنبه منه بلا شك أترى لم يأت بعده من اليهود مذ أزيد من ألف عام وخمسمائة عام من تبين له أن هذا خطاء وباطل ولا يمكن أن يدعي هنا غلط من الكتاب ولا وهم من الناسخ في بعض النسخ لأنه لم يدعنا في لبس من ذلك ولا في شك من فساد ما أتى به بل أكد ذلك وبينه وفضحه وأوضحه بأن قال إن بكور ذكور بني إسرائيل كانوا اثنين وعشرين ألفاً ومائتين وثلاثة وسبعين وإن الله تعالى أمر موسى أن يأخذ بني لاوي الذكور عن بكور ذكور بني إسرائيل وأن يأخذ عن المائتين والثلاثة والسبعين الزائدين من بكور ذكور بني إسرائيل عن الاثنين وعشرين ألفاً من بني لاوي عن كل رأس خمسة أشقال فضة فاجتمع من ذلك ألف شقل وثلمثائة شقل وخمسة وستون شقلاً فارتفع الأشكال جملة وبالله التوفيق.

وتالله ما سمعنا قط بأخبث طينة ولا أفسد جبلة ممن كتب لهم هذا الضلال إلا من اتبعه وصدق بضلاله فهذه ست كذبات في نسق لو لم يكن في توراتهم منها إلا واحدة لكان برهاناً قاطعاً موجباً لليقين بأنها كتاب موضوع بلا شك مبدل محرف صغير مكذوب فكيف بجميع ما أوردنا من ذلك ونورد إن شاء الله ونعوذ بالله من الخذلان ويتلو هذا كذبة شائعة بشيعة شنيعة وهي أنهم لا يختلفون في أن داود عليه السلام هو ابن ابشباي بن عونيذ بن بوعز بن اشلومون بن نحشون بن عمينا داب بن ارام بن حصرون لا يختلفون في أن عونيذ المذكور جد داوود أبا أبيه كانت أمه روث العمونية التي لها كتاب مفرد من كتب النبوة ولا يختلفون في أن من خروجهم من مصر إلى ولاية داود عليه السلام كانت ستمائة سنة وست وستين.

وفي نص التوراة عندهم وبلا خلاف منهم أن مقدمهم بني يهوذا إذ خرجوا من مصر كان نحشون بن عمينا داب المذكور وأنه أخو امرأة هارون عليه السلام.

وفي نص توراتهم أنهم قالوا قال الله تعالى أنه لا يدخل الأرض المقدسة من خرج من مصر وله عشرون سنة فصاعداً لا يهوشع بن نون الافرايمي وكالب بن يفنة اليهوذاني فصح ضرورة أن نحشون مات في التيه وأن الداخل في أرض الشام هو ابنه سلومان.

فأقسموا الآن ستمائة وستين على أربع ولادات فقط وهذه ولادة بوعز بن شلومون الداخل ثم ولادة عونيذ بن بوعز بن روث العمونية ثم ولادة ابشاي بن عونيذ ثم ولادة داود عليه السلام ثم أبشاي ثم لا تختلف كتبهم في أن داود عليه السلام ولي ثلاث وثلاثون سنة عند تمام الستمائة سنة وست وستين فينبغي أن تسقط سنو داود إذ ولي من العدد المذكور يكون الباقي خمسمائة سنة وثلاثاً وسبعون سنة لثلاث ولادات وهي ولادة أبشاي وولادة عونيذ وولادة بوعز.

فتأملوا بن كم كان واحد منهم إذ ولد له ابنه المذكور تعلموا أنه كذب مستحيل في نسبة ذلك من أعمارهم يومئذ لأن في كتبهم نصاً أنه لم يعش أحد بعد موسى عليه السلام في بني إسرائيل مائة وثلاثين سنة إلا يهوباراع الكوهن الهاروني وحده وبالضرورة يجب أن كل واحد ممن ذكرنا كان له أزيد من مائة ونيف وأربعين إذ ولد له ابنه المذكور وهذه أقوال يكذب بعضها بعضاً فصح ضرورة لا محيد عنها أنها كلها مبدلة مستعملة محرفة مكذوبة ملعونة وثبت أن ديانتهم المأخوذة من هذه الكتب ديانة فاسدة مكذوبة من عمل الفساق ضرورة كالشيء المدرك بالعيان واللمس ونحمد الله على السلامة

فصل ثم وصف قيام بني إسرائيل على موسى عليه السلام وطلبهم منه اللحم للأكل

وذكروا أشواقهم إلى القرع والقثاء والبصل والكراث والثوم الذي تشبه رائحته في الروائح عقولهم في العقول وذكروا ضجرهم من المن والله عز وجل قال لموسى عليه السلام تقول للعامة تقدسوا غداً تأكلوا اللحم ها أنا أسمعكم قائلين من ذا يطعمنا أكل اللحم قد كنا بخير بمصر ليعطينكم السيد اللحم فتأكلون ليس يوماً واحداً ولا يومين ولا خمسة ولا عشرة حتى تكمل أيام الشهر حتى يخرج على مناخركم ويصيبكم التخم لما تخليتم عن السيد الذي هو في وسطكم ويكون قدامه قائلين لماذا أخرجنا من مصر فقال موسى لله تعالى ستمائة ألف رجل وأنت تقول أنا أعطيهم اللحوم شهراً طعماً أترى تكثير بذبائح البقر والغنم فيقتاتون بها أم تجتمع حيتان البحر معاً لتشبعهم فقال له الرب أترى يد السيد عاجزة سترى أن يوافيك كلامي أم لا ثم ذكر أن الله تعالى أرسل ريحاً فأتت بالسماني من خلف البحر إلى بني إسرائيل فأكلوها ودخل اللحم بين أضراسهم وأصابتهم التخم وأخذها وباء شديد مات منهم به كثير وإن هذا كان في الشهر الثاني من خروجهم من مصر

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل آيات من الله رب العالمين وما تأتي له طامة ألا تكاد تنسي ما قبلها فأول ذلك إخبار اللعين المبدل للتوراة بأن الله تعالى إذ قال لموسى غداً تأكلون اللحم إلى تمام الشهر قال له موسى هم ستمائة ألف رجل وأنت تقول أنا أعطيهم اللحوم طعاماً شهياً أترى تكثر بذبائح البقر والغنم يقتاتون بها أو تجتمع حيتان البحر معاً لتشبعهم

قال أبو محمد رضي الله عنه : حاش لله أن يراجع رجل له من العقل مسكة ربه عز وجل هذه المراجعة وأن يشك في قوته على ذلك وعلى ما هو أعظم منه فكيف رسول نبي أترى موسى عليه السلام دخله قط شك في أن الله تعالى قادر على أن يكثر بذبائح البقر والغنم حتى يشبعهم أو على أن يأتيهم من حيتان البحر بما يشبعهم منه حاش لله من ذلك أتراه خفي على موسى عليه السلام أن الله تعالى هو الذي يرزق جميع بني آدم في شرقي الأرض وغربها اللحم وغير اللحم وأنه تعالى رازق سائر الحيوانات كلها من الطائر والعائم والمنساب والماشي على رجلين وأربع وأكثر حتى يستنكر أن يشبع شرذمة قليلة لا قدر لها من اللحم حاش له من ذلك فكيف يقول موسى عليه السلام هذا الكلام الأحمق حاش له من ذلك وقبل ذلك بعام وشهر وبعض آخر طلبوا اللحم فأتاهم بالسماني والمن وأكلوا ذلك بنص توراتهم أتراه نسي ذلك في هذه المدة اليسيرة أو يظن أنه قدر على الأولى ويعجز عن الثانية حاشا له من هذا الهوس.

ثم زيادة في بيان هذا الكذب في توراتهم أن بني إسرائيل إذ خرجوا من مصر مع موسى خرجوا بجميع مواشيهم من البقر والغنم وأن أهل بيت منهم ذبحوا جدياً أو خروفاً في تلك الليلة.

وذكر في مواضع منها أنهم أهدوا الكباش والتيوس والخرفان والجديان والبقر والعجول إلى قبة العهد.

وذكروا في آخرها أن بني روابين وبني جاد ونصف سبط بني منسي كان معهم غنم كثير ومن البقر عدد لا يحصى في حين ابتداء قتالهم وفتحهم لأرض الشام فأي عبرة في إشباعهم من اللحم واللحم حاضر معهم كثير لا قليل ثلاثة من الغنم كانت تكفي الواحد منهم شهراً كاملاً وثور واحد كان يكفي أربعة منهم شهراً كاملاً على أن يأكلوا اللحم قوتاً حتى يشبعوا بلا خبز فكيف إذا تأدموا به فأي عجب في إشباعهم باللحم حتى يراجع موسى ربه تعالى بإنكار ذلك من قوة ربه عز وجل فهل في العالم أحمق ممن كتب هذه الكذبة الشنيعة الباردة السخيفة الممزوجة بالكفر اللهم لك الحمد على تسليمك لنا مما امتحنتهم به.

فإن قالوا إن في كتابكم أن الله تعالى قال لزكريا " إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى " الآية وأن زكريا قال لربه تعالى " أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً قال كذلك قال ربك هو علي هين " الآية " قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً ".

وفي كتابكم أيضاً أن الملك قال لمريم " أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً قالت رب أنى يكون لي غلام " الآية " قال كذلك قال ربك هو علي هين " الآية.

قلنا ليس في جواب زكريا ومريم عليهما السلام اعتراض على بشرى الباري عز وجل لهما كما في كتابكم عن موسى عليه السلام ولا في كلام زكريا ومريم عليهما السلام إنكار على أن يعطيهما ولدين وهما عقيم وبكر إنما سألا أن يعرفا الوجه الذي منه يكون الولد فقط لأن إني في اللغة العربية التي بها نزل القرآن بلا خلاف أن معناها من أين فصح ما قلنا من أنهما سألاه أن يعرفهما الله تعالى من أن يكون لهما الولدان أو من أي جهة بنكاح زكريا لامرأة أخرى أم نكاح رجل لمريم أم من اختراعه تعالى وقدرته فإنما سأل زكريا الآية ليظهر صدقه عند قومه ولئلا يظن أنهما أخذاه وادعياه هذا هو ظاهر الآيتين اللتين ذكرنا من القرآن دون تكلف تأويل بنقل لفظ أو زيادة أو حذف بخلاف ما حكيتم عن موسى من الكلام الذي لا يحتمل إلا التكذيب فقط

فصل وبعد ذلك ذكر قيام مريم وهارون أخو موسى عليه السلام معاندين لموسى من أجل امرأته الحبشية

قال أبو محمد رضي الله عنه : وكيف تكون حبشية وقد قال في أول توراتهم أنها بنت يثرون المدياني وهو بلا شك من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام فأحد هذين القولين يكذب الآخر

فصل ذكر كما ذكرنا أن في الشهر الثاني من السنة الثانية من خروجهم من مصر

كان طلبهم اللحم كما ذكرنا وأنه بعد ذلك وقع لهارون ومريم الشغب مع موسى أخيهما عليه السلام كما ذكرنا وأن مريم مرضت وأخرجت من المعسكر سبعة أيام حتى برئت ثم رجعت وأن بعد ذلك وجه موسى الله تعالى الاثني عشر رجلاً الذين كان من جملتهم هوشع ابن نون الافرايمي وكالب بن يفنة اليهوذاني ليروا الأرض المقدسة وذكر أنهم طافوها في أربعين يوماً ثم رجعوا وخوفوا بني إسرائيل حاشا كالب وهوشع وأن الله تعالى سخط عليهم وأهلكهم وأوحى إلى موسى أما جيفكم فستكون ملقاة في المفاز ويكون أولادكم سابحين في المفاز أربعين سنة على عدد الأربعين يوماً التي دوختم فيها البلد اجعل لكم كل يوم سنة وتكافئون أربعين سنة بخطاياكم وأنهم بقوا في التيه أربعين سنة فلما أتموها أمرهم الله عز وجل بالحركة فتحركوا ثم ماتت مريم أخت موسى عليها السلام ثم مات هارون عليه السلام ثم حارب موسى عوج وسحون الملكين وأخذ بلادهما وأعطى بلادهما لبني روابين وبني جاد ونصف سبط منسي ثم حارب المدينتين وقتل ملوكهما ثم إنه عليه السلام مات وله مائة سنة وعشرون سنة وفي صدر توراتهم أنه عليه السلام

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا كذب فاحش وقد قلنا أن الذي عمل لهم التوراة التي بأيديهم كان قليل العلم بالحساب ثقيل اليد فيه جداً أو عياراً ماجناً مستخفاً لا دين له سخر منهم بأمثال التيوس والحمير لأنه إذا خرج وله ثمانون سنة وبقي بعد خروجه سنة أو شهر ثم تاهوا أربعين سنة ثم قاتلوا ملوكاً عدة وقتلوهم وأخذوا بلادهم وأموالهم فقد اجتمع من ذلك ضرورة زيادة على المائة وعشرين سنة أكثر من سنة ولابد والأغلب أنهما سنتان زائدتان فكذب ولابد في سن موسى إذ مات أو كذب الوعد الذي أخبر عن الله تعالى بتيههم أربعين سنة حاشا للباري تعالى أن يكذب أو أن يغلط في دقيقة أو أقل وحاشا لنبيه من مثل ذلك وصح أنها مولدة موضوعة

فصل ثم ذكر في السفر الخامس فقال إن طلع فيكم نبي

وادعى أنه رأى رؤيا وأتاكم بخبر ما يكون وكان ما وصفه ثم قال لكم بعد ذلك اتبعوا أبناء إلهة الأجناس فلا تسمعوا له

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل شنعة من أشنع الدهر وتدسيس كافر مبطل للنبوات كلها لأنه أثبت النبوة بقوله إن طلع فيكم نبي ويصدقه في الأخبار بما يكون ثم أمرهم بمعصيته إذا دعاهم إلى اتباع آلهة الأجناس وهذا تناقض فاحش ولئن جاز أن يكون نبي يصدق فيما ينذر به يدعو إلى الباطل والكفر فلعل صاحب هذه الوصية من أهل هذه الصفة وما الذي يؤمننا من ذلك وها هنا شيء يوجب تصديقه واتباعه ويبينه من الكاذبين إلا ما صحح نبوته من المعجزات فلما لزمت معصيته إذا أمر بباطل فإن معصية موسى لازمة وغير جائزة في شيء مما أمر به إذ لعله أمر بباطل إذ كان في الممكن أن يكون نبي يأتي بالمعجزات يأمر بباطل وحاش لله من أن يقول موسى عليه السلام هذا الكلام والله ما قاله قط ولقد كذب عليه الكذب المبدل للتوراة وكذلك حاش لله أن يظهر آية على يدي من يمكن أن يكذب أو يأمر بباطل هذا هو التلبيس من الله على عباده ومزج الحق بالباطل وخلطهما حتى لا يقوم برهان على تحقيق حق ولا إبطال باطل.

واعلموا أن هذا الفصل من توراتهم والفصل الملعون الذي فيه أن السحرة عملوا مثل بعض ما عمل موسى عليه السلام فإنهما مبطلان على اليهود المصدقين بهما نبوة كل نبي يقرون له بنبوة قطعاً لأنه لا فرق فيهما بين موسى وسائر أنبيائهم وبين الكذابين والسحرة وحاش لله من هذا وبه تعالى نعوذ من الخذلان.

هذا مع قوله بعد ذلك وأيما نبي أحدث فيكم من ذاته نبوة مما لم نأمر به ولم أعهد إليه به أو تنبأ فيكم يدعو للآلهة والأوثان فاقتلوه فإن قلتم في أنفسكم من أين يعلم أنه من عند الله أو من ذاته فهذا علمه فيكم إذا أنبأ بشيء ولم يكن فاعلموا أنه من ذاته

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا كلام صحيح وهذا مضاد للذي قبله من أنه ينبىء بالشيء فيكون كما قال وهو مع ذلك يدعو إلى عبادة غير الله والقوم مخذولون نقلوا دينهم عن زنادقة مستخفين لا مؤنة عليهم أن ينسبوا إلى الأنبياء عليهم السلام الكفر والضلال والكذب والعمد كالذي ذكرنا قبل وكنسبتهم إلى هارون عليه السلام أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وبنى له مذبحاً وقرب له القربان وجرد استاه قومه للرقص والغناء قدام العجل عراة وكما نسبوا إلى سليمان عليه السلام أنه قرب القرابين للأوثان على الكدي وأنه قتل يواب بن صوريا صبراً وهو نبي مثله وكما نسبوا إلى شاول وهو نبي عندهم يوحي إليه قتل النفوس ظلماً ونسبوا إلى بلعام بن باعورا وهو نبي عندهم يوحي الله تعالى إليه مع الملائكة العون على الكفر وأن موسى وجيشه قتلوه ثم نسبوا النبوة إلى منسي بن حزقيا الملك وهو بإقرارهم كافر ملعون يعبد الأوثان ويقتل الأنبياء وينسبون المعجزات إلى شمسون الدابي وهو عندهم فاسق مشهور بالفسق متعشق للفواسد ملمٌّ بهن وينسبون المعجزات إلى السحرة فأعجبوا لعظيم بليتهم واحمدوا الله على السلام واسألوه العافية لا إله إلا هو

فصل ثم قال في آخر توراتهم فتوفي موسى عبد الله بذلك الموضع في أرض مواب مقابل بيت فغور

ولم يعرف آدمي موضع قبره إلى اليوم وكان موسى يوم توفي ابن مائة وعشرين سنة لم ينقص بصره ولا تحركت أسنانه فنعاه بنو إسرائيل في أوطنة مواب ثلاثين يوماً وأكملوا نعيه ثم إن يشوع ابن نون امتلأ من روح الله إذ جعل موسى يديه عليه وسمع له بنو إسرائيل وفعلوا ما أمر الله به موسى ولم يخلف موسى في بني إسرائيل نبي مثله ولا من يكلمه الله مواجهة في جميع عجائبه التي فعل على يديه بأرض مصر في فرعون مع عبيده وجميع أهل مملكته ولا من صنع ما صنع موسى في جماعة بني إسرائيل

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا آخر توراتهم وتمامها وهذا الفصل شاهد عدل وبرهان تام ودليل قاطع وحجة صادقة في أن توراتهم مبدلة وأنها تاريخ مؤلف كتبه لهم من تحرض بجهله أو تعمد بفكره وأنها غير منزلة من عند الله تعالى إذ لا يمكن أن يكون هذا الفصل منزلاً على موسى في حياته فكان يكون أخباراً عنهما لم يكن بمساق ما قد كان وهذا هو محض الكذب تعالى الله عن ذلك وقوله لم يعرف قبره آدمي إلى اليوم بيان لما ذكرنا كاف وأنه تاريخ ألف بعد دهر طويل ولابد

قال أبو محمد رضي الله عنه : ها هنا انتهى ما وجدنا من التوراة لليهود التي اتلق عليها الربانيون والعانانيون والعيسويون والصدوقيون منهم مع النصارى أيضاً بلا خلاف منهم فيها من الكذب الظاهر في الأخبار وفيما يخبر به عن الله تعالى ثم عن ملائكته عن رسله عليهم السلام من المناقضات الظاهرة والفواحش المضافة إلى الأنبياء عليهم السلام ولو لم يكن فيها إلا فصل واحد من الفصول التي ذكرنا لكان موجباً ولابد لكونها موضوعة محرفة مبدلة مكذوبة فكيف وهي سبعة وخمسون فصلاً من جملتها فصول تجمع الفصل الواحد منها سبع كذبات أو مناقضات فأقل سوى ثمانية عشر فصلاً تتكاذب فيها نص توراة اليهود مع نص تلك الأخبار بأعيانها عند النصارى والكذب لائح ولابد في إحدى الحكايتين فما ظنكم بمثل هذا العدد من الكذب والمناقضة في مقدار توراتهم وإنما هي مقدار مائة ورقة وعشرة أوراق في كل صفحة منها من ثلاثة وعشرين سطراً إلى نحو ذلك بخط هو إلى الانفساح أقرب يكون في السطر بضع عشرة كلمة

قال أبو محمد رضي الله عنه : ونحن نصف إن شاء الله تعالى حال كون التوراة عند بني إسرائيل من أول دولتهم إثر موت موسى عليه السلام إلى انقراض دولتهم إلى رجوعهم إلى بيت المقدس إلى أن كتبها لهم عزرا الوراق بإجماع من كتبهم واتفاق من علمائهم دون خلاف يوجد من أحد منهم في ذلك وما اختلفوا فيه من ذلك نبهنا عليه ليتيقن كل ذي فهم أنها محرفة مبدلة وبالله تعالى نستعين

قال أبو محمد رضي الله عنه : دخل بنو إسرائيل الأردن وفلسطين والغور مع يوشع بن نون مدبر أمرهم عليه السلام إثر موت موسى عليه السلام ومع يوشع العازار بن هارون عليه السلام صاحب السرادق بما فيه وعنده التوراة لا عند أحد غيره بإقرارهم فدبر يوشع عليه السلام أمرهم في استقامة وألزمهم للدين إحدى وثلاثين سنة مذ مات موسى عليه السلام إلى أن مات يوشع ثم دبرهم فيخاس بن العازار بن هارون وهو صاحب السرادق والكوهن الأكبر والتوراة عنده لا عند أحد غيره خمساً وعشرين سنة في استقامة والتزام للدين ثم مات وطائفة منهم عظيمة يزعمون أنه حي إلى اليوم وثلاثة أنفس إليه وهم الياس النبي الهاروني عليه السلام ومليكصيذق بن فالج بن عابر بن ارفحشاذ بن سام بن نوح عليه السلام والعبد الذي بعثه إبراهيم عليه السلام فلما انقضت المدة المذكورة لفيخاس بن العزار كفر بنو إسرائيل وارتدوا كلهم وعبدوا الأوثان علانية فملكهم كذلك ملك صور وصيدا مدة ثمانية أعوام على الكفر.

ثم دبر أمرهم عسال بن كنار بن أخي كالب بن يفنة بن يهوذا أربعين سنة على الإيمان ثم مات فكفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا الأوثان علانية فملكهم كذلك عقلون ملك بني مواب ثمان عشرة سنة على الكفر ثم دبر أمرهم أهوذ بن قاراقيل أنه من سبط أفرايم وقيل من سبط بنيامين واختلف أيضاً في مدة رئاسته فقيل ثمانون سنة وقيل وخمس وخمسون سنة على الإيمان إلى أن مات ثم دبرهم سمعان بن غاث بن سبط أشار خمساً وعشرين سنة على الإيمان ثم مات فكفر بنو إسرائيل كلهم وعبدوا الأوثان جهاراً فملكهم كذلك مراش الكنعاني عشرين سنة على الكفر ثم دبرت أمرهم دبورا النبتية من سبط يهوذا وكان زوجها رجلاً يسمى السدوث من سبط أفرايم إلى أن ماتت وهم على الإيمان فكان مدة تدبيرها لهم أربعون سنة فلما ماتت كفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا الأوثان جهاراً فملكهم عوزيب وزاب ملك بني مدين سبع سنين على الكفر ثم دبر أمرهم جدعون بن بواس من سبط أفرايم وقيل بل من سبط منسي وهم يصفون أنه كان نبياً وكان له واحد وسبعون ابناً ذكوراً فملكهم على الإيمان أربعين سنة ثم مات وولي ابنه أبو ملك ابن جدعون وكان فاسقاً خبيث السيرة فارتد جميع بني إسرائيل وكفروا وعبدوا الأوثان جهاراً وأعانه أخواله من أهل نابلس من بني إسرائيل من سبط يوسف بتسعين ديراً من بيت ماعل الصنم ومضوا معه فقتل جميع إخوته حاشا واحداً منهم أفلت

وبقي كذلك ثلاث سنين إلى أن قتل ودبرهم بعده مولع بن قوامن سبط يساخر ولم نجد بياناً هل كان على الإيمان أو على الكفر خمساً وعشرين سنة ثم مات ثم دبر أمرهم بعدها بابين بن جلعاد من سبط منسي اثنين وعشرين عاماً على الإيمان إلى أن مات وكان له اثنان وثلاثون ولداً ذكوراً قد ولي كل واحد منهم مدينة من مدائن بني إسرائيل فارتد بنو إسرائيل كلهم بعد موته وعبدوا الأوثان جهاراً وملكهم بنوا عمون ثلاث عشرة سنة متصلة على الكفر ثم قام فيهم رجل من سبط منسي اسمه هيلع بن جلعاد ولا يختلفون في أنه كان ابن زانية وكان فاسقاً خبيث السيرة نذران أظفره الله بعدوه أن يقرب لله سبحانه أول من يلقاه من منزله فأول من لقيه ابنته ولم يكن له ولد غيرها فوفي بنذره وذبحها قرباناً وكان في عصره نبي فلم يلتفت إليه وأنه قتل من بني أفرايم اثنين وأربعين ألف رجل فملكهم ست سنين ثم مات فوليهم بعده أفصات من سبط يهوذا من سكان بيت لحم وكان له ثلاثون ابناً ذكوراً فوليهم سبع سنين وقيل ست سنين ثم مات والأظهر من حاله على ما توجبه أخبارهم الاستقامة ووليهم بعده إيلون من سبط زبلون عشر سنين إلى أن مات.

وولي بعده عبدون بن هلال بن سبط أفرايم ثماني سنين على الإيمان وكان له أربعون ولداً ذكوراً فلما مات ارتد بنو إسرائيل كلهم وكفروا وعبدوا الأوثان جهاراً فملكهم الفلسطينيون وهم الكنعانيون وغيرهم أربعين سنة على الكفر ثم دبرهم شمشون ابن مانوح من سبط داني وكان مذكوراً عندهم بالفسق واتباع الزواني فدبرهم عشرين سنة وينسبون إليه المعجزات ثم أسر ومات فدبر بنو إسرائيل بعضهم بعضاً في سلامة وإيمان أربعين سنة بلا رئيس يجمعهم ثم دبرهم الكاهن الهاروني على الإيمان عشرين سنة إلى أن مات ثم دبرهم مشموال بن فتان النبي من سبط أفرايم قبل عشرين سنة وقيل أربعين سنة كل ذلك في كتبهم على الإيمان وذكروا أنه كان له ابنان قوهال وببايجوران في الحكم ويظلمان الناس وعند ذلك رغبوا إلى شموال أن يجعل لهم ملكاً فولى عليهم شاول الدباغ بن قيش بن انيل بن شارون بن بورات بن آسيا بن خس من سبط بنيامين وهو طالوت فوليهم عشرين سنة وهو أول ملك كان لهم ويصفونه بالنبوة وبالفسق والظلم والمعاصي معاً وأنه قتل من بني هارون نيفاً وثمانين إنساناً وقتل نسائهم وأطفالهم لأنهم أطعموا داود عليه السلام خبزاً فقط فاعلموا الآن أنه كان مذ دخلوا الأرض المقدسة إثر موت موسى عليه السلام إلى ولاية أول ملك لهم وهو شاول المذكور سبع ردات فارقوا فيها الإيمان وأعلنوا بعبادة الأصنام فأولها بقوا فيها ثمانية أعوام والثانية ثمانية عشر عاماً والثالثة عشرين عاماً والرابعة سبعة أعوام والخامسة ثلاثة أعوام وربما أكثر والسادسة ثمانية عشر عاماً والسابعة أربعين عاماً.

فتأملوا أي كتاب يبقى مع تمادي الكفر ورفض الإيمان هذه المدد الطوال في بلد صغير مقدار ثلاثة أيام في مثلها فقط ليس على دينهم واتباع كتابهم أحد على ظهر الأرض غيرهم.

ثم مات شاول المذكور مقتولاً وولى أمرهم داود عليه السلام وهم ينسبون إليه الزنا علانية بأم سليمان عليه السلام وأنها ولدت منه من الزنا ابناً مات قبل ولادة سليمان فعلى من يضيف هذا إلى الأنبياء عليهم السلام ألف ألف لعنة وينسبون إليه أنه قتل جميع أولاد شاول لذنب أبيهم حاشا صغيراً مقعداً كان فيهم فقط وكانت مدته عليه السلام أربعين سنة.

ثم ولي سليمان عليه السلام وقد وصفوه بما ذكرنا قبل وذكروا عنه أن نفقته فرضها على الأسباط لكل سبط شهر من السنة وأن جنده كانوا اثني عشر ألف فارس على الخيل وأربعين ألفاً على الرمك خلافاً لما في التوراة أن لا يكثروا من الخيل وهو بني الهيكل في بيت المقدس وجعل فيه السرادق والمذبح والمنارة الآن والقربان والتوراة والتابوت وسكينة بني هارون فكانت ولايته أربعين سنة ثم مات عليه السلام فافترق أمر بني إسرائيل فصار بنو يهوذ وبنو بنيامين لبني سليمان بن داود عليه السلام في بيت المقدس وصار ملك الأسباط العشرة الباقية إلى ملك آخر منهم يسكن بنابلس على ثمانية عشر ميلاً من بيت المقدس وبقوا كذلك إلى ابتداء إدبار أمرهم على ما نبين إن شاء الله تعالى فنذكر بحول الله تعالى وقوته أسماء ملوك بني سليمان عليه السلام وأديانهم ثم نذكر ملوك الأسباط العشرة وبالله عز وجل نتأيد ليرى كل واحد كيف كانت حال التوراة والديانة في أيام دولتهم

قال أبو محمد رضي الله عنه : ولي أثر موت سليمان بن داود عليه السلام ابنه رحبعام بن سليمان وله ست عشرة سنة وكانت ولايته سبعة عشر عاماً فأعلن الكفر طول ولايته وعبد الأوثان جهاراً هو وجميع رعيته وجنده بلا خلاف منهم ويقولون أن جنده كانوا مائة ألف وعشرين ألفاً مقاتلاً وفي أيامه غزي ملك مصر في سبعة آلاف فارس وخمسة عشر ألف رجل إلى بيت المقدس فأخذها عنوة بالسيف وهرب رحبعام وانتهب ملك مصر المدينة والقصر والهيكل وأخذ كل ما فيها ورجع إلى مصر سالماً غانماً ثم مات رحبعام على الكفر فولي مكانه ابنه أبياوهل ثمان عشرة سنة فبقي على الكفر هو وجنده ورعيته وعلى عبادة الأوثان علانية وكانت ولايته ست سنين ويقولون قتل من الأسباط العشرة في حروبه معهم خمسمائة ألف إنسان ثم ولي بعد موته ابنه اشا بن ابيا وله عشر سنين وكان مؤمناً فهدم بيوت الأوثان وأظهر الإيمان وبقي في ولايته إحدى وأربعين سنة على الإيمان وذكروا أن جنده كانوا ثلاثمائة ألف مقاتل من بني يهوذا واثنين وخمسين ألفاً من بني بنيامين ومات وولي بعده ابنه يهوشافاط بن اشا وهو ابن خمس وثلاثين سنة فكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وذكروا عنه أنه كان على الإيمان إلى أن مات فولي ابنه يهورام بن يهوشافاط ولم نجد أمر سيرته ودينه إلا أنه كان مؤلفاً العبادة الأوثان من ملوك سائر الأسباط وولي له اثنان وثلاثون سنة وكانت ولايته ثمانية أعوام ومات فولي مكانه ابنه اخزيا وله اثنان وعشرون سنة فأظهر الكفر وعبادة الأصنام في جميع رعيته وكانت ولايته سنة وقتل فوليت أمه عثليا بنت عمري ملك العشرة الأسباط فتمادت على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان وقتلت الأطفال وأمرت بإعلان الزنا في البيت المقدس وجميع عملها وعهدت أن لا تمنع امرأة ممن أراد الزنا معها وعهدت أن لا ينكر ذلك أحد فبقيت كذلك ست سنين إلى أن قتلت فولي ابن ابنها يواش بن اخزيا وله سبع سنين فاتصلت ولايته أربعين سنة وأعلن الكفر وعبادة الأوثان وقتل زكريا النبي عليه السلام بالحجارة ثم قتله غلمانه فولي بعده ابنه امصيا بن يواش وله خمس وعشرون سنة

فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته فبقي كذلك إلى أن قتل وهو على الكفر وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة وفي أيامه انتهب ملك الأسباط العشرة البيت المقدس وأغاروا على كل ما فيه مرتين ثم ولي بعده عزيا بن امصيا وله ست عشرة سنة فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته إلى أن مات وكانت ولايته اثنين وخمسين سنة وهو قتل عاموص النبي عليه السلام الداوودي فولي بعده ابن يوثام بن عزيا وله خمس وعشرون سنة ولم نجد له سيرة وكانت ولايته ست عشرة سنة فمات فولي مكانه ابنه احاز بن يوثام وله عشرون سنة فأعلن الكفر وعبادة الأوثان وكانت ولايته ست عشرة سنة فأعلن الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات فولي بعده ابنه حزقيا بن اجاز وله خمس وعشرون سنة وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة فأظهر الإيمان وهدم بيوت الأوثان وقتل خدمتهما وبقي على الإيمان إلى أن مات هو وجميع رعيته وفي السنة السابعة من ولايته انقطع ملك العشرة الأسباط من بني إسرائيل وغلب عليهم سليمان الأعسر ملك الموصل وسباهم ونقلهم إلى أمد وبلاد الجزيرة وسكن في بلاد الأسباط العشرة أهل أمد والجزيرة فأظهروا دين السامرة الذين هناك إلى إلى اليوم ثم مات حزقيا وولي بعده ابنه منسي بن حزقيا وله ثنتا عشرة سنة ففي السنة الثالثة من ملكه أظهر الكفر وبنى بيوت الأوثان وأظهر عبادتها هو وجميع أهل مملكته وقتل شعيا النبي قيل نشره بالمنشار من رأسه إلى مخرجه وقيل قتله بالحجارة وأحرقه بالنار والعجب كله أنهم يصفون في بعض كتبهم بأن الله أوحى إليه مع ملك من الملائكة

وأن ملك بابل كان أسره وحمله إلى بلده وأدخله في ثور نحاس وأوقد النار تحته فدعا الله فأرسل إليه ملكاً فأخرجه من الثور ورده إلى بيت المقدس وأنه تمادى مع ذلك كله على كفره حتى مات وكانت ولايته خمساً وخمسين سنة فقولوا يا معشر السامعين بلد تعلن فيه عبادة الأوثان وتبني هياكلها ويقتل من وجد فيه من الأنبياء كيف يجوز أن يبقى فيه كتاب الله سالماً أم كيف يمكن هذا فلما مات منسي ولي مكانه ابنه أمون بن منسي وهو ابن اثنين وعشرين عاماً فكانت ولايته سنتين على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات فولي مكانه ابنه يوشيا بن آمون وهو ابن ثمان سنين ففي السنة الثالثة من ملكه أعلن الإيمان وكسر الصلبان وأحرقها واستأصل هياكلها وقتل خدامها ولم يزل على الإيمان إلى أن قتل قتله ملك مصر وفي أيامه أخذ أرميا النبي السرداق والتابوت والنار وأخفاها حيث لا يدري أحد لعلمه بفوت ذهاب أمرهم ثم ولي بعده ابنه يهوخار بن يوشيا وهو ابن ثلاث وعشرين سنة فرد الكفر وأعلن إلى عبادة الأوثان وأخذ التوراة من الكاهن الهاروني ونشر منها أسماء الله حيث وجدها وكانت ولايته ثلاثة أشهر وأسره ملك مصر فولي مكانه الياقيم بن يوشيا أخوه وهو ابن خمس وعشرين سنة فأعلن الكفر وبنى بيوت الأوثان هو وجميع أهل مملكته وقطع الدين جملة وأخذ التوراة من الهاروني فأحرقها بالنار وقطع أثرها وكانت ولايته إحدى عشرة سنة ومات فولي مكانه ابنه يهوباكين بن الياقيم وتلقب نخيا وهو ابن ثمان عشرة سنة فأقام على الكفر وأعلن عبادة الأوثان وكانت ولايته ثلاثة أشهر وأسره بخت نصر فولي مكانه عمه متينا بن يوشيا وتلقب صدقيا وهو ابن إحدى وعشرين سنة فثبت على الكفر وأعلن عبادة الأوثان هو وجميع أهل مملكته وكانت ولايته إحدى عشر سنة وأسره بخت نصر وهدم البيت والمدينة واستأصل جميع بني إسرائيل وأخلى البلد منهم وحملهم مسبيين إلى بلاد بابل وهو آخر ملوك بني إسرائيل وبني سليمان جملة فهذه صفة ملوك بني سليمان بن داود عليهما السلام.

فاعلموا الآن أن التوراة لم تكن من أول دولتهم إلى انقضائها إلا عند الهاروني الكوهن الأكبر وحده في الهيكل فقط وأما ملوك الأسباط العشرة فلم يكن فيهم مؤمن قط ولا واحد فما فوقه بل كانوا معلنين بعبادة الأوثان مخيفين للأنبياء مانعين القصد إلى بيت المقدس لم يكن فيهم نبي قط إلا مقتولاً أو هارباً مخافاً.

فإن قيل أليس قد قتل الياس جميع أنبياء بابل لأجل الوثن الذي كان يعبده الملك والنخلة التي كانت تعبدها بني إسرائيل وهم ثمانمائة وثمانون رجلاً.

قلنا إنما كان ذلك بإقرار كتبهم في مشهد واحد ثم هرب ومن وقته وطلبته امرأة الملك لتقتله وما بصره أحد فأول ملوك الأسباط العشرة يربعام بن نابطا الافرايمي وليهم إثر موت سليمان النبي فعمل من حينه عجلين من ذهب وقال هذان إلا إلاهاكم اللذان خلصاكم من مصر وبنى لهما هيكلين وجعل لهما سدنة من غير بني لاوي وعبدهما هو وجميع أهل مملكته ومنعهم من المسير إلى بيت المقدس وهو كان شريعتهم لا شريعة لهم غير القصد إليه والقربان فيه فملك أربعاً وعشرين سنة ثم مات وولي ابنه ناداب بن يربعام على الكفر المعلن سنتين ثم قتل هو وجميع أهل بيته وولى بعشا بن ايلة من بني يساكر على عبادة الأوثان علانية أربع وعشرين سنة وولي ولده ايلة بن بعشا على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قام عليه رجل من قواده اسمه زمري فقتله وجميع أهل بيته وولي زمري سبعة أيام فقتل وأحرق عليه داره وافترق أمرهم على رجلين أحدهما يسمى تبني بن جينة والآخر عمري فبقيا كذلك اثنتي عشرة عاماً ثم مات تبني وانفرد بملكهم عمري فبقي كذلك ثمانية أعوام على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات وولي بعده ابنه اخاب بن عمري على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان إحدى وعشرين سنة وفي أيامه كان الياس النبي عليه السلام هارباً عنه في الفلوات وعن امرأته بنت ملك صيدا وهما يطلبانه للقتل ثم مات اخاب وولي ابنه اخزيا بن أخاب على الكفر وعبادة الأوثان ثلاث سنين ثم مات وولي مكانه أخوه يهورام ابن أخاب على الكفر وعبادة الأوثان اثنتي عشرة سنة إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته وفي أيامه كان اليسع عليه السلام

وولي مكانه ياهو بن نمشي من سبط منسي فكان أقلهم كفراً هدم هياكل ما على الوثن وقتل سدنته إلا أنه لم ينقص قطع عبادة الأوثان بل ترك الناس عليها ولم يظهر الإيمان فولي كذلك ثمانية وعشرين سنة ومات وولي مكانه ابنه يهواحاز بن ياهو سبع عشرة سنة فبنى بيوت الأوثان وأعلن عبادتها هو ورعيته إلى أن مات وفي كتبهم أن أمر الأسباط العشرة ضعف في أيامه حتى لم يكن معه من الجند إلا خمسون فارساً وعشرة آلاف رجل فقط لأن ملك دمشق غلب عليهم وقتلهم وولي مكانه ابنه يواش بن يهواحاز ست عشرة سنة على أشد من كفر أبيه وأخذ في عبادة الأوثان وهو الذي غزا بيت المقدس وأغار عليه وعلى الهيكل وأخذ كل ما فيه وهدم من سور المدينة أربعمائة ذراع وهرب عنه ملك يهوذا ثم مات وولي مكانه ابنه بارنعام بن يواش خمساً وأربعين سنة على مثل كفر أبيه وعبادة الأوثان وغزا أيضاً بيت المقدس وهرب أمامه ملكها الداوودي فأتبعه فقتله ثم مات وولي مكانه ابنه زخريا بن بارنعام بن يواش بن يهواحاز بن ياهو بن نمسي ستة أشهر على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته وولي مكانه شلوم ابن نامس من سبط نفتالي فملك شهراً واحداً على الكفر وعبادة الأوثان ثم قتل وولي بعده مياخيم بن قارا من سبط يساكر عشرين سنة على عبادة الأوثان والكفر ومات.

وولي مكانه ابنه محيا بن مياخم على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته وولي مكانه ناجح بن مليا من سبط داني فملك ثمانياً وعشرين سنة على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته.

وفي أيامه أجلي تباشر ملك الجزيرة بني روأبين وبني جاد ونصف سبط منسي من بلادهم بالغور وحملهم إلى بلاده وسكن بلادهم قوماً من بلادهم ثم ولي مكانه هوسيع بن إيلا من سبط جاد على الكفر وعبادة الأوثان سبع سنين إلى أن أسره كما ذكرنا سليمان الأعسر ملك الموصل وحمله والتسعة الأسباط ونصف سبط منسي إلى بلاده أسرى وسكن بلادهم قوماً من أهل بلده وهم السامرية إلى اليوم وهوسيع هذا آخر ملوك الأسباط العشرة وانقضى أمرهم فبقايا المنقولين من أمد والجزيرة إلى بلاد بني إسرائيل هم الذين ينكرون التوراة جملة وعندهم نزراة أخرى غير هذه التي عند اليهود ولا يؤمنون بنبي بعد موسى عليه السلام ولا يقولون بفضل بيت المقدس ولا يعرفونه ويقولون أن المدينة المقدسة هي نابلس فأمر توراة أولئك أضعف من توراة هؤلاء لأنهم لا يرجعون فيها إلى نبي أصلاً ولا كانوا هنالك أيام دولة بني إسرائيل وإنما عملها لهم رؤساهم أيضاً.

فقد صح يقيناً أن جميع أسباط بني إسرائيل حاشا سبط يهوذا وبنيامين ومن كان بينهم من بني هارون بعد سليمان عليه السلام مدة مائتي عام وواحد وسبعين عاماً لم يظهر فيهم قط إيمان ولا يوماً واحداً فما فوقه وإنما كانوا عباد أوثان ولم يكن قط فيهم نبي إلا مخاف ولا كان للتوراة عندهم لا ذكر ولا رسم ولا أثر ولا كان عندهم شيءٌ من شرائعها أصلاً مضى على ذلك جميع عامتهم وجميع ملوكهم وهم عشرون ملكاً قد سميناهم إلى أن أوجلوا ودخلوا في الأمم وتدينوا بدين الصابئين الذين كانوا بينهم متملكين وانقطع رسم رميمهم إلى الأبد فلا يعرف منهم عين أحد وظهر يقيناً أن بني يهوذا وبني بنيامين كانت مدة ملكهم بعد موت سليمان عليه السلام أربعمائة سنة على أعوام على اختلاف من كتبهم في ذلك في بضعة عشر عاماً وقد قلنا أنها كتب مدخولة فاسدة ملك هذين السبطين في هذه المدة من بني سليمان بن داود عليهما السلام تسعة عشر رجلاً ومن غيرهم امرأة تموا بها عشرين ملكاً قد سميناهم كلهم آنفاً كانوا كفاراً معلنين بعبادة الأوثان حاشا خمسة منهم فقط كانوا مؤمنين ولا مزيد وهم اشا بن أسا ولي إحدى وأربعين سنة وابنه يهوشافاط بن اشا ولي خمساً وعشرين سنة فهذه ستة وستون اتصل فيهم الكفر ظاهراً وعبادة الأوثان ثم ثمانية أعوام ليورام بن يهوشافاط لم نجد له حقيقة دين فحملناه على الإيمان لسبب أبيه ثم اتصل الكفر ظاهراً وعبادة الأوثان في ملوكهم وعامتهم مائة عام وستين عاماً مع كفر سائر أسباطهم فعمهم الكفر وعبادة الأوثان في أولهم وآخرهم فأي كتاب أو أي دين يبقى مع هذا ثم ولي حزقياً المؤمن تسعاً وعشرين سنة ثم اتصل الكفر بعد في عامتهم وملوكهم وعبادة الأوثان سبعاً وخمسين سنة

ثم ولي يوشا المؤمن الفاضل إحدى وثلاثين سنة ثم لم يل بعده إلا كافر معلن بعبادة الأوثان مدة اثنين وعشرين عاماً وستة أشهر منهم من نشر أسماء الله من التوراة ومنهم من أحرقها وقطع أثرها ولم نجد بعد هؤلاء ظهر فيهم إيمان إلا الكفر وقتل الأنبياء عليهم السلام إلى أن انقطع أمرهم جملة بغارة بخت نصر وسبوا كلهم وهدم البيت واستأصل أثره إلى غاراة كانت على مدينة بيت المقدس وهيكلها الذي لم يكن التوراة عند أحد إلا فيه لم يترك فيها شيء مرة أغار عليهم صاحب مصر أيام رحبعام بن سليمان ومرتين في أيام امصيا الملك من قبل صاحب العشرة الأسباط إلى أن أملها عليهم من حفظة عزرا الوراق الهاروني وهم مقرون أنه وجدها عندهم وفيها خللٌ كثير فأصلحه وهذا يكفي وكان كتابة عزرا للتوراة بعد أزيد من سبعين سنة من خراب بيت المقدس وكتبهم تدل على أن عزرا لم يكتبها لهم ويصلحها إلا بعد نحو أربعين عاماً من رجوعهم إلى البيت بعد السبعين عاماً التي كانوا فيها خالين ولم يكن فيهم حينئذ نبي أصلاً ولا القبة ولا التابوت واختلف في النار كانت عندهم أم لا ومن ذلك الوقت انتشرت التوراة ونسخت وظهرت ظهوراً ضعيفاً أيضاً ولم تزل تتداولها الأيدي مع ذلك إلى أن جعل أنطاكيوس الملك الذي بنى أنطاكية وثناً للعبادة في بيت المقدس وأخذ بني إسرائيل بعبادته وقربت الخنازير على مذبح البيت ثم تولى أمرهم قوم من بني هارون بعد مئين من السنين وانقطعت القرابين فحينئذ انتشرت نسخ التوراة التي بأيديهم اليوم وأحدث لهم أحبارهم صلوات لم تكن عندهم جعلوها بدلاً من القرابين وعملوا لهم ديناً جديداً ورتبوا لهم الكنائس في كل قرية بخلاف حالهم طول دولتهم

وبعد هلاك دولتهم بأزيد من أربعمائة عام وأحدثوا لهم اجتماعاً في كل سبت على ما هم عليه اليوم بخلاف ما كان طول دولتهم فإنه لم يكن لهم في شيءٍ من بلادهم بيت عبادة ولا مجمع ذكر وتعلم ولا مكان قربان قربة البتة إلا بيت المقدس وحده وموضع السرادق قبل بنيان بيت المقدس فقط وبرهان هذا أن في سفر يوشع بن نون بإقرارهم أن بني رأوبين وبني جاد ونصف سبط منسي إذ رجعوا بعد فتح بلاد الأردن وفلسطين إلى بلادهم بشرقي الأردن بنوا مذبحاً فهم يوشع بن نون وسائر بني إسرائيل بغزوهم من أجل ذلك حتى أرسلوا إليه أننا لم نقمه لا لقربان ولا لتقديس أصلاً ومعاذ الله أن نتخذ موضع تقديس غير المجتمع عليه الذي في السرادق وبيت الله فحينئذ كف عنهم ففي دون هذا كفاية لمن عقل في أنها كتاب مبدل مكذوب موضوع ودين معمول خلاف الدين الذي يقرون أن موسى عليه السلام أتاهم به وما يزيد الشيطان منهم أكثر من هذا ولا في الضلال فوق هذا ونعوذ بالله من الخذلان وأيضاً فإن في التوراة التي ترجمها السبعون شيخاً لبطليموس الملك بعد ظهور التوراة وفشوها هي مخالفة للتي كتبها لهم عزرا الوراق وتدعي النصارى أن تلك التي ترجم السبعون شيخاً في اختلاف أسنان الآباء بين آدم ونوح عليهما السلام التي من أجل ذلك الاختلاف تولد بين تاريخ اليهود وتاريخ النصارى زيادة ألف عام ونيف على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى فإن كان هو كذلك فقد وضح اليقين وكذب السبعين شيخاً وتعمدهم لنقل الباطل وهم الذين عنهم أخذوا دينهم وأفٍ أفٍ لدين أخذ عن متيقن كذبه.

وايضاً فإن في السفر الخامس من أسفار التوراة الذي يسمونه التكرار أن الله تعالى قال لموسى اصنع لوحين على حال الأولين واصعد إلى الجبل واعمل تابوتاً من خشب لأكتب في اللوحين العشر كلمات التي أسمعكم السيد في الجبل من وسط اللهيب عند اجتماعكم إليه وبري بهما إلي فانصرفت من الجبل وجعلتهما في التابوت وهما فيه إلى اليوم وفي السفر المذكور أيضاً بعد هذا الفصل قال ومن بعد أن كتب موسى هذه العهود في مصحف واستوعبها أمر بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب وقال لهم خذوا هذا المصحف واجعلوه في المذبح واجعلوا عليه تابوت عهد الرب إلهكم ليكون عليكم شاهداً وقال قبل ذلك في السفر المذكور أيضاً إذا استجمعتم على تقديم ملك عليكم على حال ملوك الأجناس فلا تقدموا إلا من ارتضاه الرب من عدد إخوتكم ولا تقدموا أجنبياً على أنفسكم إلى أن قال فإذا قعد على سرير ملكه فليكتب من هذا التكرار في مصحف ما يعطيه الكوهن المتقدم من بني لاوي بما يشاكله ويكون ذلك معه فيقرأه كل يوم طول ولايته ليخاف الرب إلهه ويذكر كتابه وعهده فهذا كله بيان واضح بصحة ما قلنا من أن العشر كلمات ومصحف التوراة إنما كان في الهيكل فقط تحت تابوت العهد وفي التابوت فقط عند الكوهن الأكبر وحده لأنه بإجماعهم لم يكن يصل إلى ذلك الموضع أحد سواه وفيه أيضاً أنه أمر أن يكتب الكوهن المذكور من السفر الخامس فقط شيئاً يمكن أن يقرأه الملك كل يوم ومثل هذا لا يكون إلا يسيراً جداً ورقة أو نحو ذلك مع أنهم لا يختلفون في أنه لم يلتفت إلى ذلك ألبتة بعد سليمان عليه السلام أحد من ملوكهم إلا أربعة أو خمسة كما قدمنا فقط من جملة أربعين ملكاً وأيضاً فإنه قال في السفر المذكور ثم كتب موسى هذا الكتاب وبري به إلى الكهنة من بني لاوي الذين كانوا يحسنون عهد الرب وقال لهم موسى إذا اجتمعتم للتقديس بين يدي الرب إلهكم في الموضع الذي تخيره الرب فاقرؤا ما في هذا المصحف في جماعة بني إسرائيل عند اجتماعهم فقط يسمعوا ما يلزمهم

قال أبو محمد رضي الله عنه : وفي نص توراتهم أنهم كانوا لا يلزمهم المجيء إلى بيت المقدس إلا ثلاث مرات في كل سنة فقط فإنما أمر بنص التوراة كما أوردنا أن يقرأها عليهم الكوهن الهاروني عند اجتماعهم فقط فثبت أنها لم تكن إلا في الهيكل فقط عند الكوهن الهاروني فقط لا عند أحد سواه وقد أوضحنا قبل أن العشرة الأسباط لم يدخل قط بيت المقدس منهم أحد بعد موت سليمان عليه السلام إلى أن انقطعوا وأن بني يهوذا وبنيامين لم يجتمعوا إليه إلا في عهد الملوك الخمسة المؤمنين فقط فظهر بهذا كلما قلنا وصح تبديلها بيقين ولاشك في أن تلك المدة الطويلة التي هي أربعمائة سنة غير شيء قد كان في الكهنة الهارونيين ما كان في غيرهم في الكفر والفسق وعبادة الأوثان كالذي يذكرون عن ابني علي الهاروني وغيرهما ممن يقرؤن في كتبهم أنهم خدموا الأوثان وبيوتها من بني هارون وبني لاوي ومن هذه صفته فلا يؤمن عليه تغيير ما ينفرد به وهذه كلها براهين أضوء من الشمس على صحة تبديل توراتهم وتحريفها

قال أبو محمد رضي الله عنه : إلا سورة واحدة ذكر في توراتهم أن موسى عليه السلام أمر بأن تكتب وتعلم جميع بني إسرائيل ليحفظوها ويقوموا بها ولا يمتنع أحد من نسلهم من حفظها وهذا نصها حرفاً بحرف اسمعي يا سموات قولي وتسمع الأرض كلامي يكثر كالمطر وبل كالرذاذ كلامي ويكون كالمطر على العشب وكالرذاذ على الخصب لأني أنادي باسم الرب فيعظمه الرب الهنا الذي أكمل خلقته واعتدلت أحكامه الله الأمين الذي لا يجوز العدل القيوم أذنب لديه غير أوليائه ومحت الأمة العاصية المستحيلة وهذا شكر للرب يا أمة جاهلة قيمة أما هو أبوكم الذي خلقكم ومليكم فتذكروا القديم وفكروا في الأجناس وسلوا ىباكم فيعلمونكم وأكابركم فيعرفونكم إذا كان يقسم العلي الأجناس ويميز بين يد آدم جعل قسمة الأجناس على حساب بني إسرائيل فهم الرب أمته ويعقوب قسمته وجده في الأرض المقفرة وفي موضع قبيح غير مسلوك فأطلقه وأقبل به وحفظه كحفظ الشعر للعين وأطارهم كما يستطير العقاب بفراخها وتحوم عليها وتبسط جناحها حفظاً لها فأقبل بهم وحملهم على منكبيه فالرب وحده كان قائدهم ولم يكن معه إله غيره فجعلهم في أشرف أرضه ليأكلوا خبزها ويصيبوا عسل حجارتها وزيت جنادلها وسمن مواشيها ولبن ضأنها وشحوم خرفانها وكباش بني بلسان ولحوم التيوس لبان البر ودم العنب وتعاصوا سمنوا ودبروا وأشعوا ثم تخلوا من الله خالقهم وكفروا بالله مسلمهم فألجوه لعبادتهم الأوثان إلى أن سخط عليهم ولسجودهم للشيطان لا لله ولسجودهم لإلهه الأجناس كانوا يجهلونها

ولم يعدها قبلهم آباؤهم فتخلوا من الله الذي ولدهم فنسبو الرب خالقهم فبصر الرب بهذا وغضب له إذ تحلى بنوه وبناته فقال اخفي وجهي عنهم حتى أعلم آخر أمرهم فإنها أمة كافرة عاصية وقد أسخطوني بعبادة من ليس إلهاً وأغضبوني بفواحشهم وسأغيرهم على يدي أمة ضعيفة وأخف بهم على يدي أمة جاهلة ويتقدم غضبي نار تحرق إلى الهواء فتأتي على الأرض بمعاتسته وتذهب أصول الجبال فأجمع عليهم بأس وأثقبهم بنبلي وأهلكهم جوعاً وأجعلهم طعماً للطير وأسلط عليهم أنياب السباع وأعصب عليهم الحياة فإن برزوا أهلكتهم رماحاً وإن تحصنوا أهلكت الشاب منهم والعذار والطفل والشيخ رعباً حتى أقول أين هم فأقطع من الأرض ذكرهم لكني رفهت عنهم لشدة حرد أعدائهم لئلا يزهوا ويقولوا أيدينا القوة فعلت لا الرب فهذه الأمة لا أرى لها ولا تمييز فليتها عرفت وفهمت وأبصرت ما يدركها في آخر أمرها كيف يتبع واحد منهم ألفاً ويفر عن اثنين عشرة آلاف أما هذا بأن ربهم أسلمهم وربهم أعلق فيهم ليس إلهنا مثل آلهتهم وصار حكماً كرمهم من كرم سدوم وعناقيدهم من أرباض عامورا فعناقيدهم عناقيد المرارة وشرابهم مرارة الثعابيبن ومن السم الذي لا دواء له أما هذا في علمي ومعروف في خزائني لي الانتقام وأنا أكافىء في وقته فترهق أرجلكم فكان قد حان وقت خرابهم وإلى ذلك تسرع الأزمنة سيحكم الرب على أمته ويرحم عبيده إذا أبصرهم قد ضعفوا وأغلق عليهم وذهبوا وذهب أواخرهم وقال أين آلهتهم التي يتقون ويأكلون من قربانهم ويشربون منه فليقوموا وليغيثوهم في وقت حاجتهم.

فتبصروا تبصروا أنا وحدي ولا إله غيري أنا أميت وأنا أحيي وأنا أمرض وأنا أبري ولا يتخلص شي من يدي فأرفع إلى السماء يدي وأقول بحياتي الدائمة لئن حددت رمحي كالصاعقة وابتدأت يميني بالحكم لا كافاني أعدائي وأهل السنان ولأسكرن نبلي دماً ولأقطعن برمحي لحوماً فأمد حوايا معشر الأجناس أمة فإنه سيأخذ بدماء عبيده وينتقم من أعدائهم ويرحم أرضهم

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه السورة التي أبيحت لهم وأمروا بحفظها وكتابتها لا ما سواها بنص توراتهم بزعمهم وقد بينا قبل أنهم لم يشتغلوا بعد موت سليمان عليه السلام لا بهذه السورة ولا بغيرها إلا مدة الملوك الخمسة فقط لاقدانهم عبدوا كلهم الأوثان وقتلوا الأنبياء وأخافوهم وشردوهم هذا ما لا يشك فيه كافر ولا مؤمن.

على أن هذه في السورة من الفضائح ما لا يجوز أن ينسب إلى الله عز وجل مثل قوله إن الله تعالى هو أبوهم الذي ولدهم وأنهم بنوه وبناته حاش لله من هذا وهل طرق للنصارى وسهل عليهم أن يجعلوا لله ولداً إلا ما وجدوا في هذه الكتب الملعونة المكذوبة المبدلة بأيدي اليهود وليس في العجب أكثر من أن يجعلهم أنفسهم أولاد الله تعالى وكل من عرفهم يعرف أنهم أو ضر الأمم وأبردهم طلعة وأغثهم مفاظع وأتمهم خبثاً وأكثرهم غشاً وأجبنهم نفوساً وأشدهم مهانة وأكذبهم لهجة وأضعفهم همة وأرعنهم شمائل بل حاش لله من هذا الاختيار الفاسد.

ومثل قوله في هذه السورة أنه تعالى حملهم على منكبيه.

ومثل قوله أنه قد قسم الأجناس من بني آدم وجعل قسمة الأجناس على حساب بني إسرائيل وجعلهم سهمه فهذا كذب ظاهر حاش لله منه لأن أولاد بني إسرائيل ثنتا عشر فعلى هذا يجب أن يكون أجناس بني آدم اثنتي عشر وليس الأمر كذلك فإن كان عني من تناسل من بني إسرائيل فكذب حينئذ أشنع وأبشع لأن عددهم لا يستقر على قدر واحد بل كل يوم يزيدون وينقصون بالولادة والموت هذا ما لا شك فيه فكل هذه براهين واضحة بأنها محرفة مبدلة مكذوبة فإن هي كذلك فلا يجوز البتة في عقل أحد أن يشهد في تصحيح شريعة ولا في نقل معجزة ولا في إثبات نبوة وبنقل مكذوب مفتري موضوع هذا ما لا شك فيه وقد قلنا أو نقول إن نقل اليهود فاسد مدخول لأنه راجع إلى قوم أتبعوا من أخرجهم من الذل والبلاء والسخرة والخدمة في عمل الطوب وذبح أولادهم عند الولادة وحال لا يصبر عليها كلب مطلق ولا حمار مسيب إلى العز والراحة والعافية والتملك للأموال وأن يكونوا آمرين مخدومين آمنين على أولادهم وأنفسهم ولا ينكر في مثل هذا الحال أن يشهد المخلص للمخلص بكل ما يريد منه ومع هذا كله فإن اتباعهم لموسى عليه السلام الذي أخرجهم من تلك الحالة إلى هذه الأخرى وطاعته له كانت مدخولة ضعيفة مضطربة.

وقد ذكر في نص توراتهم إذ عملوا العجل نادوا هذا إله موسى الذي يخلصهم من مصر ومرة أخرى أرادوا قتله وتصايحوا قدم على أنفسنا قائداً ونرجع إلى مصر ومع هذا كله قولهم إن السحرة عملوا مثل كثير مما عمل موسى وإن كل ذلك بيان ممكن بصناعة معروفة وفي هذا كفاية وهم مقرون بلا خلاف من أحد منهم أنه لم يتبع موسى أمة سواهم ولا نقلت لهم معجزة طائفة غيرهم وأما النصارى فعنهم أخذوا نبوة موسى ومعجزاته وأما سائر الأمم والملل كالمجوس والفرس والصابئين والسريانين والمنانية والسمنية والبراهمة والهند والصين والترك فلا أصلاً ولا على أديم الأرض مصدق بنبوة موسى وبالتوراة التي بأيديهم إلا هم ومن هو شعبة منهم كالنصارى.

وأما نحن المسلمون فإنما قبلنا نبوة موسى وهارون وداود وسليمان والياس واليشع عليهم السلام وصدقنا بذلك وآمنا بهم وإن موسى الذي أنذر بمحمد لأخبار رسول الله بصحة نبوتهم ومعجزاتهم فقط ولولا إخباره عليه السلام بذلك ما كانوا عندنا إلا كشموال وايراث وحداث وحقاي وحبقون وعدوا ويؤال وعاموص وعوبديا وميسخا وناحوم وصفينا وملاخي وسائر من تقر اليهود بنبوته كإقرارهم بنبوة موسى سواء بسواء ولا فرق بين طرق نقلهم لنبوة جميعهم ونحن لا نصدق نقل اليهود في شيء من ذلك بل نقول إنه قد كان لله تعالى أنبياء في بني إسرائيل أخبر بذلك الله تعالى في كتابه المنزل على نبيه الصادق المرسل فنحن نقطع بنبوة من سمي لنا منهم ونقول في هؤلاء الذين لم يسم لنا محمد أسماءهم.

الله عز وجل أعلم إن كانوا أنبياء فنحن نؤمن بهم وإن لم يكونوا أنبياء فلسنا نؤمن بهم.

آمنا بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله.

وهكذا نقر بنبوة صالح وهود وشعيب وإسماعيل وبأنهم رسل الله يقيناً ولا نبالي بإنكار اليهود لنبوتهم ولا بجهلهم بهم لأن الصادق عليه السلام شهد برسالتهم وأما التوراة فما وافقنا قط عليها لأننا نحن نقر بتوراةٍ حقٍ أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام وأصحابه لأنه تعالى أخبرنا بذلك في كتابه الناطق على لسان رسول الله الصادق ونقطع على أنها ليست هذه التي بأيديهم بنصها بل حرف كثيرم منهم وبدل وهم يقرون بهذه التي بأيديهم ولا يعرفون التي نؤمن نحن بها وكذلك لا نصدق بشريعتهم التي هم عليها الآن بل نقطع بأنها محرفة مبدلة مكذوبة وهم لا يؤمنون بموسى الذي بشر بمحمد وبرسالته وبأصحابه.

فاعلموا أننا لم نوافقهم قط على التصديق بشيء من دينهم ولا مما هم عليه ولا مما بأيديهم من الكتاب ولا بالنبي الذي يذكرونه لما قد أوضحناه من فساد نقلهم ووضوح الكذب فيه وعموم الدواخل فيه

قال أبو محمد رضي الله عنه : ونذكر إن شاء الله تعالى طرفاً مما في سائر الكتب التي عندهم التي يضيفونها إلى الأنبياء عليهم السلام من الفساد كالذي ذكرنا في توراتهم ولا خلاف في أن اهتبالهم بالتوراة كان أشد وأكثر أضعاف مضاعفة من اهتبالهم بسائر كتب أنبيائهم.

أما كتاب يوشع فإن فيه براهين قاطعة بأنه أيضاً تاريخ ألفه لهم بعض متأخريهم بيقين وأن يوشع لم يكتبه قط ولا عرفه ولا أنزل عليه.

فمن ذلك أن فيه نصاً فلما انتهى ذلك إلى دوسراق ملك بيوس التي بنى فيها سليمان بن داود بيت المقدس فعل أمراً ذكره

قال أبو محمد رضي الله عنه : ومن المحال الممتنع أن يخبر يوشع أن سليمان بنى بيت المقدس ويوشع قبل سليمان بنحو ستمائة سنة ولم يأت هذا النص في كتاب يوشع المذكور على سبيل الإنذار أصلاً إنما مساقه بلا خلاف منهم مساق الأخبار عنما قد مضوا.

وفيه قصة بشيعة جداً وهي أن عخار بن كرمي بن سذان بن شيلة بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام غل من المغنم خيطاً أرجواناً وحق ذهب فيه خمسون مثقالاً ومائتا درهم فضة فأمر يوشع برجمه ورجم بنيه ورجم بناته حتى يموتوا كلهم بالحجارة وأمر بإحراق مواشيه كلها وحاش لله أن يحكم نبي بهذا الحكم فيعاقب بأغلظ العقوبة من لا ذنب له من ذرية لم تجن شيئاً بجناية أبيهم مع أن نص التوراة لا يقتل الأب بذنب الابن ولا الابن بذنب الأب.

فلابد ضرورة من أن يقولوا نسخ يوشع هذا الحكم فيثبتوا النسخ من نبي لشريعة نبي قبله وفي شريعة موسى أيضاً أو ينسبوا الظلم وخلاف أمر الله إلى يوشع فيجعلوه ظالماً عاصياً لله مبدلاً لأحكامه وما فيها حظ لمختار منهم وبالله تعالى التوفيق.

وفيه أن كل من دخل من بني إسرائيل الأرض المقدسة فإنهم كانوا مختونين وفيه أبناء تسعة وخمسين عاماً وأقل وإن موسى عليه السلام لم يختن ممن ولد بعد خروجه من مصر أحداً هذا مع إقرارهم أن الله تعالى شدد في الختان وقال من لم يختتن في يوم أسبوع ولادته فلتنف نفسه من أمته بمعنى فليقتل فكيف يضيع موسى هذه الشريعة الوكيدة حتى يختنهم كلهم يوشع بعد موت موسى بدهر.

ولقد فضحت بهذا وجه بعض علمائهم فقال لي كانوا في التيه في حل وارتحال فقلت له فكان ماذا فكيف وليس كما تقولون بل كانوا يبقون المدة الطويلة في مكان واحد.

وفي نص كتاب يوشع بزعمكم أنه إنما ختنهم إذ جازوا الأردن قبل الشروع في الحرب وفي أضيق وقت وختنهم كلهم حينئذ وهم رجال كهول وشبان وتركوا الختان إذ لا مؤنة في ختانهم أطفالاً تحمله أمه مختوناً كما تحمله غير مختون ولا فرق فسكت منقطعاً وأما الكتاب الذي يسمونه الزبور ففي المزمور الأول منه قال لي الرب أنت ابن اليوم ولدتك

قال أبو محمد رضي الله عنه : فأي شيء تنكرون على النصارى في هذا الباب ما أشبه الليلة بالبارحة.

وفيه أيضاً أنتم بنو الله وبنو العلي كلكم وهذه أطم من التي قبلها ومثل ما عند النصارى أو أنتن.

وفيه في المزمور الرابع وأربعين منه عرشك يا الله في العالم وفي الأبد قضيت العدل قضيت ملكك أحببت الصلاح وأبغضت المكروه وكذلك دهنك إلهك بزيت القرح بين إشراكك

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه سوأة الأبد ومضيعة الدهر وقاصمة الظهر وإثبات إله آخر على الله تعالى دهنه بالزيت إكراماً له ومجازاة على محبته الصلاة وإثبات إشراك الله تعالى وهذا دين النصارى بلا مؤنة ولكن إثبات إلهٍ دون الله وقد ظهر عند اليهود هذا علانية على ما نذكر بعد أن شاء الله تعالى وبعده بيسير يخاطب الله تعالى وقفت زوجتك عن يمينك وعقاصها من ذهب أيتها الابنة اسمعي وميلي بأذنيك وأبصر وآنسي عشيرتك وبيت أبيك فيهواك الملك وهو الرب والله فاسجدي له طوعاً

قال أبو محمد رضي الله عنه : ما شاء الله كان أنكرنا الأولاد فأتونا بالزوجة والأختان تبارك الله فما نرى لهم على النصارى فضلاً أصلاً ونعوذ بالله من الخذلان.

وفيه في المزمور الموفي مائة وسبعاً قال الرب لربي اقعد على يميني حتى أجعل أعداك كرسي قدميك

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا كالذي قبله في الجنون والكفر رب فوق رب ورب يقعد عن يمين رب ورب يحكم على رب ونعوذ بالله من الخذلان.

وفيه في المزمور السادس وثمانين منه يقول روح القدس لصيهون يقال رجل ورجل ولد فيها وهو الذي أسسها الرب العلي الذي خلقها عند مكتنه الأمة

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا دين النصارى الذي يشنعون به عليهم من أن الله ولد صهيون لو انهدمت الجبال من هذا ما كان عجباً.

وفيه في المزمور السابع وسبعين منه الرب قام كالمنتبه من نومه كالجبار الذي يقر به إثر الخمار كما يقوم الجريش وفيه اتقوا ربكم الذي قوته كقوة الجريش

قال أبو محمد رضي الله عنه : ما سمع في الحمق اللفيف ولا في الكفر السخيف بمثل هذا الفعل مرة يشبه قيام الله تعالى بالمنتبه من نومه وقد علمنا أنه لا يكون المرأ أكسل ولا أحوج إلى التمدد ولا أثقل حركة منه حين قيامه منه ومرة يشبهه بجبار ثمل وما عهد للمرأ وقت يكون فيه أنكد ولا أثقل عينين ولا أخبث نفساً ولا آلم صداعاً ولا أضعف عويلاً منه في حان الخمار ومرة يمثله بالجريش وما الجريش والله ما هو إلا ثور من الثيران بقرن في وسط رأسه حاش لله من هذه النحوس التي حق من يؤمن بها السوط حتى يعتدل دماغه ويحمق بالكل ويقذف الناس بالحجارة ويسقط عنه الخطاب ونعوذ بالله من البلاء.

وفيه من المزمور الحادي وثمانين قام الله في مجتمع الآلهة وقف آله العزة وسطهم.

وهذه حماقة ممزوجة بكفر سمج مجتمع الآلهة وقيام الله بينهم ووقوفه في وسط أصحابه ما شاء الله كان إلا أن هذا أخبث من قول النصارى لأن الآلهة عند النصارى من ثلاثة وهم عند هؤلاء السفلة الأراذل جماعة ونعوذ بالله من الخذلان.

وفيه في المزمور الثامن والثمانين من ذا يكون مثل الله في جميع بني الله.

وبعده يقول إن داود يدعوني والداً وأنا جعلته بكر بني وبعده إن عرش داود يبقى ملكه سرمداً أبداً

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه كالتي قبلها صارت الآلهة قبيلة وبنوا أب وكان فيهم واحد هو سيدهم ليس فيهم مثله والآخرون فيهم نقص بلا شك تعالى الله عن ذلك ونحمده كثيراً على نعمة الإسلام ملة التوحيد الصادقة التي تشهد العقول بصحتها وصحة كل ما فيها مع كذب الوعد في بقاء ملك داود سرمداً.

وفيها مما يوافق قول الملحدين الدهرية الناس كالعشب إذا خرجت أرواحهم نسوا ولا يعلمون مكانهم ولا يفهمون بعد ذلك

قال أبو محمد رضي الله عنه : وإن دين اليهود ليميل إلى هذا ميلاً شديداً لأنه ليس في توراتهم ذكر معاد أصلاً ولا لجزاء بعد الموت وهذا مذهب الدهرية بلا كلفة فقد جمعوا الدهرية والشك والتشبيه وكل حمق في العالم على أن فيه بما لم يطلقهم الله على تبديله وأبقاه حجة لنا عليهم ومعجزة لنبينا .

وفي المزمور الحادي وستين منه أن العرب وبني سبا يؤدون إليه المال ويتبعونه وإن الدم يكون له عنده ثمن وهذه صفة الدية التي ليست إلا في ديننا وفيه أيضاً ويظهر من المدينة هكذا نصاً وهذا إنذار بين برسول الله وأما الكتب التي يضيفونها إلى سليمان عليه السلام فهي ثلاثة واحدها يسمى شارهسير ثم معناه شعر الأشعار وهو على الحقيقة هوس الأهواس لأنه كلام أحمق لا يعقل ولا يدري أحد منهم مراده إنما هو مرة يتغزل بمذكر ومرة يتغزل بمؤنث ومرة يأتي منه بلغم لزج بمنزلة ما يأتي به المصدوع والذي فسد دماغه وقد رأيت بعضهم يذهب إلى أنه رموز على الكيميا وهذا وسواس آخر ظريف والثاني يسمى مثلاً معناه الأمثال فيه مواعظ وفيه أن قال قبل أن يخلق الله شيئاً في البدء من الأبد أنا صرت ومن القديم قبل أن تكون الأرض وقبل أن تكون النجوم أنا قد كنت استلمت وقد كنت ولدت وليس كان خلق الأرض بعد ولا الأنهار وإذ خلق الله السماواتقد كنت حاضراً وإذ كان يجعل للنجوم حداً صحيحاً ويدق بها وكان يوثق السماوات في العلو ويقدر عيون المياه وإذ كان يحدق على البحر تنجمه ويجعل للمياه نحى لئلا تجاوز جوزها وإذ كان يعلق أساسات الأرض أنا معه كنت مهيئاً للجميع

قال أبو محمد رضي الله عنه : فهل في الملحنة أكثر من هذا وهل يضاف هذا الحمق إلى رجل معتدل فكيف إلى بني إسرائيل وهل هذا الإشراك صحيح وحاش لله أن يقول سليمان عليه السلام هذا الكلام تالله ما عبط أهل الإلحاد بإلحادهم إلا هذا ومثله ورأيت بعضهم يخرج هذا على أنه إنما أراد علم الله تعالى

قال أبو محمد رضي الله عنه : ولا يعجز من لا حيأ له عن أن يقلب كل كلام إلى ما اشتهى بلا برهان ووصف الكلام عن موضعه ومعناه إلى معنى آخر لا يجوز إلا بدليل صحيح غير ممتنع المراد في اللغة والثالث يسمى فوهلث معناه الجوامع فيه إن قال مخاطباً لله تعالى اخترني أمير إلا أمتك وحاكماً على بنيك وبناتك وهذا كالذي سلف وحاش لله أن يكون له بنات وبنون لاسيما مثل بني إسرائيل في كفرهم في دينهم وضعفهم في دنياهم ورذالتهم في أحوالهم النفسية والجسدية.

وفي كتاب حزقيا يقول السيد سأمد يدي على بني عيسو وأذهب عن أرضهم الآدميين والأنعام وأفقرهم وأنتقم منهم على يدي أمتي بني إسرائيل

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا ميعاد قد ظهر كذبه يقيناً لأن بني إسرائيل قد بادوا جملة وبنو عيسو باقون في بلادهم بنص كتبهم ثم بعد ذلك باد بنو عيسو فما على أديم الأرض منهم أحد يعرف أنه منهم وصارت بلادهم للمسلمين وسكانها لخم وغيرهم من العرب وبطل بذلك أن يدعوا أن هذا يكون في المستأنف وفي كتاب لشعيا أنه رأى الله عز وجل شيخاً أبيض الرأس واللحية وهذا تشبيه حاشا لنبي أن يقوله.

وفيه قال الرب من سمع قط مثل هذا أنا أعطي غيري أن يلد ولا ألد أنا وأنا الذي أرزق غيري أفأكون أنا بلا ابن

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا أطم ما سمع به أن يقيس الله عز وجل نفسه في كون البنين على خلقه وكل هذا أشنع من قول النصارى في إضافة الشرك والولد والزوجة إلى الله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان

قال أبو محمد رضي الله عنه : لم نكتب مما في الكتب التي يضيفونها إلى الأنبياء عليهم السلام إلا طرفاً يسيراً دالاً على فضيحتها أيضاً وتبديلها وقد قلنا إنهم كانوا في بلد صغير محاط به ثم لا ندري كيف يمكنهم اتصال شيءٍ من ذلك إلى نبي من أنبيائهم لاسيما من لم يكن إلا في أيام كفرهم مخافاً ومقتولاً فصح بلا شك أنها من توليد من عمل لهم الصلوات التي هم عليها والشرائع التي يقرون أنها من عمل أحبارهم الثابتة إذ ظهر دينهم وانتشرت بيوت عبادتهم فصارت لهم مجامع يتعلمون فيها دينهم وعلماء يعلمونهم في كل بلد بخلاف ما أوضحنا أنهم كانوا عليه أيام دولتهم الأولى من كونهم كلهم كفاراً أميين من السنين وكونهم لا مسجد لهم أصلاً إلا بيت المقدس ولا مجمع بعلم لهم أصلاً ولا عالماً يعلمهم بوجه من الوجوه ولا جامع لشيءٍ من كتبهم والحمد لله رب العالمين ولو تقصينا ما في كتب أنبيئاهم من المناقضات والكذب لكثر ذلك جداً وفيما أوردناه كفاية

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد اعترض بعضهم فيما كان يدعي عليهم من تبديل التوراة وكتبهم والمضافة إلى الأنبياء قبل أن يبين لهم أعيان ما فيها من الكذب البحت فقال قد كان في مدة دولتهم أنبياء وبعد دولتهم ومن المحال أن يقر أولئك الأنبياء على تبديلها

قال أبو محمد رضي الله عنه : فجواب هذا القول أن يقال إن كان يهودياً كذبت ما في شيءٍ من كتبكم أنه رجع إلى البيت مع زربائيل بن صيلئال بن صدقياً الملك نبني أصلاً ولا كان معه في البيت نبي بإقرارهم أصلاً وكان ذلك قبل أن يكتبها لهم عزرا الوراق بدهر وقبل رجوعهم إلى البيت مع زربائيل مات دانيال آخر أنبيائهم في أرض بابل وأما الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل بعد سليمان فكلهم كما بينا إما مقتول بأشنع القتل أو مخاف مطرود منفي لا يسمع منهم كلمة إلا خفية حاشا مدة الملوك المؤمنين الخمسة في بني يهوذا أو بني بنيامين خاصة وذلك قليل تلاه ظهور الكفر وحرق التوراة وقتل الأنبياء وهو كان خاتمة الأمر وعلى هذا الحال وافاهم انقراض دولتهم أيضاً فليس كل نبي يبعث بتصحيح كتاب من قبله فبطل اعتراضهم بكون الأنبياء فيهم جملة.

وإن كان نصرانياً يقر بالمسيح وزكريا ويحيى عليهم السلام قيل له إن المسيح بلا شك كانت عنده التوراة المنزلة كما أنزلها الله تعالى وكان عنده الإنجيل المنزل قال الله تعالى " ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل " إلا أنه عرض في النقل عنه بعد رفعه عارض أشد وأفحش من العارض في النقل إلى موسى عليه السلام فلا كافة في العالم متصلة إلى المسيح عليه السلام أصلاً والنقل إليه راجع إلى خمسة فقط وهم متى وباطره بن نونا ويوحنا ابن سبذاي ويعقوب ويهوذا أبناء يوسف فقط ثم لم ينقل عن هؤلاء إلا ثلاثة فقط وهو لوقا الطبيب الأنكاكي ومارقس الهاروني وبولس البنياميني وهؤلاء كلهم كذابون وقد وضح عليهم الكذب جهاراً على ما نوضحه بعد هذا إن شاء الله تعالى وكل هؤلاء مع ما صح من كذبهم وتدليسهم في الدين فإنما كانوا منتشرين بإظهار دين اليهود ولزوم السبت بنص كتبهم ويدعون إلى التثليث سراً وكانوا مع ذلك مطلوبين حيث ما ظفروا بواحد منهم ظاهراً قتل فبطل الإنجيل والتوراة برفع المسيح عليه السلام بطلاناً كلياً وهذا الجواب إنما كان يحتاج إليه قبل أن يظهر من كذب توراتهم وكتبهم ما قد أظهرنا وأما بعد ما أوضحنا من عظيم كذب هذه الكتب بما لا حيلة فيه فاعتراضهم ساقط لأن يقين الباطل لا يصححه شيءٌ أصلاً كما أن يقين الحق لا يفسده شيءٌ أبداً.

فاعلموا الآن أن ما عورض به الحق المتيقن ليبطل به أو عورض به دون الكذب المتيقن ليصحح به فإنما هو سغب وتمويه وإيهام وتخييل وتحيل فاسد بلا شك لأن يقينين لا يمكن البتة في البنية أن يتعارضا أبداً وبالله تعالى التوفيق.

فإن قيل فإنكم تقرون بالتوراة والإنجيل وتشهدون على اليهود والنصارى بما فيها من ذكر صفات نبيكم وقد استشهد نبيكم عليهم بنصها في قصة الراجم للزاني المحصن.

وروي أن عبد الله بن سلام ضرب يد عبد الله بن صوريا إذ وضعها على آية الرجم.

وروي أن النبي أخذ التوراة وقال آمنت بما فيك.

وفي كتابكم " يا أهل الكتاب لستم على شيءٍ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ".

وفيه أيضاً " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " وفيه أيضاً " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " وفيه " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " وفيه " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " وفيه " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم ".

قلنا وبالله التوفيق كل هذا حق حاشا قوله عليه السلام آمنت بما فيك فإنه باطل لم يصح قط وكله موافق لقولنا في التوراة والإنجيل بتبديلهما وليس شيء منه حجة لمن ادعى أنهما

قال أبو محمد رضي الله عنه : أما إقرارنا بالتوراة والإنجيل فنعم وأي معنى لتمويهكم بهذا ونحن لم ننكرهما قط بل نكفر من أنكرهما إنما قلنا إن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام حقاً وأنزل الزبور على داود عليه السلام حقاً وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام حقاً وأنزل الصحف على إبراهيم وموسى عليهما السلام حقاً وأنزل كتباً لم يسم لنا على أنبياء لم يسموا لنا حقاً نؤمن بكل ذلك قال تعالى " صحف إبراهيم وموسى " وقال تعالى " وإنه لفي زبر الأولين " وقلنا ونقول إن كفار بني إسرائيل بدلوا التوراة والزبور فزادوا ونقصوا وأبقى الله تعالى بعضه حجة عليهم كما شاء " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " " لا معقب لحكمه " وبدل كفار النصارى الإنجيل كذلك فزادوا ونقصوا وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

فدرس ما بدلوا من الكتب المذكورة ورفعه الله تعالى كما درست الصحف وكتب سائر الأنبياء جملة فهذا هو الذي قلنا وقد أوضحنا البرهان على صحة ما أوردنا من التبديل والكذب في التوراة والزبور ونورد إن شاء الله تعالى في الإنجيل وبالله تعالى نتأيد.

فظهر فساد تمويههم بأننا نقر بالتوراة والإنجيل والزبور ولم ينتفعوا بذلك في تصحيح ما بأيديهم من الكتب المكذوبة المبدلة والحمد لله رب العالمين.

وأما استشهادنا على اليهود والنصارى بما فيهما من الإنذار بنبينا فحق وقد قلنا آنفاً أن الله تعالى أطلعهم على تبديل ما شاء رفعه من ذينك الكتابين كما أطلق أيديهم على قتل من أراد كرامته بذلك من الأنبياء الذين قتلوهم بأنواع المثل وكف أيديهم عما شاء إبقاءه من ذينك الكتابين حجة عليهم كما كلف أيديهم الله تعالى عمن أراد أيضاً كرامته بالنصر من أنبيائه الذين حال بين الناس وبين أذاهم.

وقد أغرق الله تعالى قوم نوح عليه السلام وقوم فرعون نكالاً لهم وأغرق آخرين شهادة لهم وأملى لقوم ليزدادوا فضلاً.

هذا ما لا ينكره أحد من أهل الأديان جملة وكان ما ذكرنا زيادة في أعلام النبي الواضحة وبراهينه اللائحة والحمد لله رب العالمين.

فبطل اعتراضهم علينا باستشهادنا رسول الله بالتوراة في أمر رجم الزاني المحصن وضرب بن سلام رضي الله عنه يد ابن صوريا إذ جعلها على آية الرجم فحق وهو مما قلنا آنفاً إن الله تعالى أبقاه خزياً لهم وحجة عليهم وإنما يحتج عليهم بهذا كله بعد إثبات رسالته بالبراهين الواضحة الباهرة بالنقل القاطع للعذر على ما قد بينا ونبين إن شاء الله تعالى ثم نورد ما أبقاه الله تعالى في كتبهم المحرفة من ذكره عليه السلام إخزاء لهم وتبكيتاً وفضيحة لضلالهم لا لحاجة منا إلى ذلك أصلاً والحمد لله رب العالمين.

وأما الخبر بأن النبي عليه السلام أخذ التوراة وقال آمنت بما فيك.

فخبر مكذوب موضوع لم يأت قط من طرق فيها خير ولسنا نستحل الكلام في الباطل لو صح فهو من التكلف الذي نهينا عنه كما لا يحل توهين الحق ولا الاعتراض فيه.

وأما قول الله عز وجل " يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " فحق لا مرية فيه وهكذا نقول ولا سبيل لهم إلى إقامتها أبداً لرفع ما أسقطوا منها فليسوا على شيء إلا بالإيمان بمحمد فيكونون حينئذ مقيمين للتوراة والإنجيل كلهم يؤمنون حينئذ بما أنزل الله منهما وجداؤ عدم ويكذبون بما يدل فيهما مما لم ينزله الله تعالى فيهما وهذه هي إقامتهما حقاً فلاح صدق قولنا موافقاً لنص الآية بلا تأويل والحمد لله رب العالمين.

وأما قوله تعالى " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فنعم إنما هو في كذب كذبوه ونسبوه إلى التوراة على جاري عادتهم زائد على الكذب الذي وضعه أسلافهم في توراتهم فبكتهم عليه السلام في ذلك الكذب المحدث بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فظهر كذبهم.

وكم عرض لنا هذا مع علمائهم في مناظراتنا لهم قبل أن نقف على نصوص التوراة فالقوم لا مؤنة عليهم من الكذب حتى الآن إذا طعموا بالتخلص من مجلسهم لا يكون ذلك إلا بالكذب وهذا خلق خسيس وعار لا يرضى به مصحح ونعوذ بالله من مثل هذا.

وأما قوله تعالى " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله " فنعم هذا حق على ظاهره كما هو وقد قلنا إن الله تعالى أنزل التوراة وحكم بها النبيون الذين أسلموا كموسى وهارون وداود وسليمان ومن كان بينهم من الأنبياء عليهم السلام ومن كان في أزمانهم من الربانيين والأحبار الذين لم يكونوا أنبياء بل كانوا حكاماً من قبل الأنبياء عليهم السلام ومن كان في أزمانهم من الربانيين والأحبار قبل حدوث التبديل.

هذا نص قولنا وليس في هذه الآية أنها لم تبدل بعد ذلك أصلاً لا بنص ولا بدليل.

وأما من ظن لجهله من المسلمين أن هذه الآية نزلت في رجم النبي لليهوديين اللذين زنيا وهما محصنان فقد ظن الباطل وقال بالكذب وتأول المحال وخالف القرآن لأن الله تعالى قد نهى نبينا عليه السلام عن ذلك نصاً بقوله " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً " وقال عز وجل " ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك "

قال أبو محمد رضي الله عنه : فهذا نص كلام الله عز وجل الذي ما خالفه فهو باطل.

وأما قوله تعالى " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه " فحق على ظاهره لأن الله تعالى أنزل فيه الإيمان بمحمد واتباع دينه ولا يكونون أبداً حاكمين بما أنزل الله تعالى فيه إلا باتباعهم دين محمد فإنما أمرهم الله تعالى بالحكم بما أنزل في الإنجيل الذي ينتمون إليه فهم أهله ولم يأمرهم قط تعالى بما يسمى إنجيلاً وليس بإنجيل ولا أنزله الله تعالى كما هو قط والآية موافقة لقولنا وليس فيها أن الإنجيل لم يبدل لا بنص ولا بدليل إنما فيه إلزام النصارى الذين يتسمون بأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه وهم على خلاف ذلك.

وأما قوله تعالى " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " فحق كما ذكرناه قبل ولا سبيل لهم إلى إقامة التوراة والإنجيل المنزلين بعد تبديلهما إلا بالإيمان بمحمد فيكونون حينئذ مقيمين للتوراة والإنجيل حقاً لإيمانهم بالمنزل فيهما وجحدهم ما لم ينزل فيهما وهذه هي إقامتهما حقاً.

وأما قوله تعالى " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم " فنعم هذا عموم قام البرهان على أنه مخصوص وأنه تعالى إنما أراد مصدقاً لما معكم من الحق لا يمكن غير هذا لأننا بالضرورة ندري أن معهم حقاً وباطلاً ولا يجوز تصديق الباطل ألبتة فصح أنه إنما أنزله تعالى مصدقاً لما معهم من الحق وقد قلنا أن الله تعالى أبقى في التوراة والإنجيل حقاً ليكون حجة عليهم وزائداً في خزيهم وبالله تعالى التوفيق فبطل تعلقهم بشيءٍ مما ذكرنا والحمد لله رب العالمين

قال أبو محمد رضي الله عنه : وبلغنا عن قوم من المسلمين ينكرون بجهلهم القول بأن التوراة والإنجيل اللذين بأيدي اليهود والنصارى محرفان وإنما حملهم على هذا قلة اهتبالهم بنصوص القرآن والسنن أترى هؤلاء ما سمعوا قول الله تعالى " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون " وقوله تعالى " وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون " وقوله تعالى " وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " إلى آخر الآية وقوله تعالى " يحرفون الكلم عن مواضعه " ومثل هذا في القرآن كثير جداً.

ونقول لمن قال من المسلمين إن نقلهم نقل تواتر يوجب العلم وتقوم به الحجة لاشك في أنهم لا يختلفون في أن ما نقلوه من ذلك عن موسى وعيسى عليهما السلام لا ذكر فيه لمحمد أصلاً ولا إنذاراً بنبوته فإن صدقهم هؤلاء القائلون في بعض نقلهم فواجب أن يصدقهم في سائره أحبوا أم كرهوا وإن كذبوهم في بعض نقلهم وصدقوهم في بعض فقد تناقضوا وظهرت مكابرتهم ومن الباطل أن يكون نقل واحدٌ جاء مجيئاً واحداً بعضه حق وبعضه باطل فقد تناقضوا وما ندري كيف يستحل مسلم إنكار تحريف التوراة والإنجيل وهو يسمع كلام الله عز وجل " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار " وليس شيءٌ من هذا فيما بأيدي اليهود والنصارى مما يدعون أنه التوراة والإنجيل فلابد لهؤلاء الجهال من تصديق ربهم جل وعز أن اليهود والنصارى بدلوا التوراة والإنجيل فيرجعون إلى الحمق ويكذبوا ربهم جل وعز ويصدقوا اليهود والنصارى فيلحقوا بهم ويكون السؤال عليهم كلهم حينئذ واحداً فيما أوضحناه من تبديل الكتابين وما أوردناه مما فيهما من الكذب المشاهد عياناً مما لم يأت نص بأنهم بدلوهما لعلمنا بتبديلهما يقيناً كما نعلم ما نشهده بحواسنا مما لا نص فيه.

وقد اجتمعت المشاهدة والنص.

حدثنا أبو سعيد الجعفري.

حدثنا أبو بكر الأرفوي محمد بن علي المصري.

ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس.

ثنا أحمد بن شعيب عن محمد بن المثني عن عثمان بن عمر.

ثنا علي هو ابن المبارك.

ثنا يحيى بن أبي كثير عن سلمة عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال.

كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام بالعربية فقال رسول الله لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين. ما نزل القرآن والسنة عن النبي بتصديق صدقا به.

وما نزل النص بتكذيبه أو ظهر كذبه كذبنا به.

وما لم ينزل نص بتصديقه أو تكذيبه وأمكن أن يكون حقاً أو كذباً لم نصدقهم ولم نكذبهم وقلنا ما أمرنا رسول الله أن نقوله كما قلنا في نبوة من لم يأتنا باسمه نص والحمد لله رب العالمين.

حدثنا البخاري. ثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. أنا ابن شهاب بن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود قال ابن عباس. كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله حدث تقرؤنه محضاً لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقد قالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً

قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا أصح إسناد عن ابن عباس رضي الله عنه عنه وهو نفس قولنا وماله في ذلك من الصحابة مخالف.

وقد روينا أيضاً عن عمر رضي الله عنه أنه أتاه كعب الحبر بسفر وقال له هذه التوراة أفأقرؤها فقال له عمر بن الخطاب إن كنت تعلم أنها التي أنزل الله على موسى فاقرأها آناء الليل والنهار فهذا عمر لم يحققها

قال أبو محمد رضي الله عنه : ونحن إن شاء الله تعالى نذكر طرفاً يسيراً من كثير جداً من كلام أحبارهم الذين عنهم أخذوا كتابهم ودينهم وإليهم يرجعون في نقلهم لتوراتهم وكتب الأنبياء وجميع شرائعهم ليرى كل ذي فهم مقدارهم من الفسق والكذب فيلوح أنهم له كانوا كذابين مستخفين بالدين وبالله تعالى التوفيق.

ولقد كان يكفي من هذا إقرارهم بأنهم عملوا لهم هذه

قال أبو محمد رضي الله عنه : ذكر أحبارهم وهو في كتبهم مشهور لا ينكرونه عند من يعرف كتبهم أن إخوة يوسف إذ باعوا أخاهم طرحوا اللعنة على كل من بلغ إلى أبيهم حياة ابنه يوسف ولذلك لم يخبره الله عز وجل بذلك ولا أحد من الملائكة.

فأعجبوا لجنون أمة تعتقد أن الله خاف أن يقع عليه لعنة قوم باعوا النبي أخاهم وعقوا النبي أباهم أشد العقوق وكذبوا أعظم الكذب فوالله لو لم يكن في كتبهم إلا هذا الكذب وهذا الحمق وهذا الكفر لكانوا به أحمق الأمم وأكفرهم وأكذبهم فكيف ولهم ما قد ذكرنا ونذكر إن شاء الله تعالى.

وفي بعض كتبهم أن هارون عليه السلام قال لله تعالى إذ أراد أن يسخط على بني إسرائيل يا رب لا تفعل فلنا عليك ذمام وحق لأن أخي وأنا أقمنا لك مملكة عظيمة

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذه طامة أخرى حاشا لهارون عليه السلام أن يقول هذا الجنون أين هذا الهوس وهذه الرعونة من الحق النير إذ يقول تعالى " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " وفي بعض كتبهم أن الصورتين اللتين أمر الله تعالى موسى أن يصورهما على التابوت خلف الحجلة في السرادق إنما كانتا صورة الله وصورة موسى عليه السلام معه تعالى الله عن كفرهم علواً كبيراً.

وفي بعض كتبهم أن الله تعالى قال لبني إسرائيل من تعرض لكم فقد تعرض حدقة عيني.

وفي بعض كتبهم أن علة تردد بني إسرائيل مع موسى في التيه أربعين سنة حتى ماتوا كلهم إنما كانت لأن فرعون كان بنى على طريق مصر إلى الشام صنماً سماه باعل صفون وجعله طلسماً لكل من هرب من مصر يحيره ولا يقدر على النفاد.

فأعجبوا لمن يجيز أن يكون طلسم فرعون يغلب الله تعالى ويجيز بتيه موسى ومن معه حتى يموتوا فأين كان فرعون عن هذه القوة إذ غرق في البحر.

وفي بعض كتبهم أن دينة بنت يعقوب عليها السلام إذ غصبها شكيم بن حمور وزنا بها حملت وولدت ابنة وأن عقاباً خطف تلك الفرخة الزنا وحملها إلى مصر ووقعت في حجر يوسف فرباها وتزوجها وهذه تشبه الخرافات التي يتحدث بها النساء بالليل إذا غزلن.

وفي بعض كتبهم أن يعقوب إنما قال في ابنه نفتال ايل مطلق لأنه قطع من قرية إبراهيم عليه السلام التي بقرب بيت المقدس إلى منف التي بمصر ورجع إلى قرية الخليل في ساعة من النهار لشدة سرعة لا لأن الأرض طويت له ومقدار ذلك مسيرة نيف وعشرين يوماً.

وفي بعض كتبهم مما لا يختلفون في صحته أن السحرة يحيون الموتى على الحقيقة وأن ههنا أسماءً لله تعالى ودعاء وكلاماً ومن عرفه من صالح أو فاسق أحال الطبائع وأتى بالمعجزات وأحيى الموتى وإن عجوزاً ساحرة أحيت لشاول الملك وهو طالوت شمؤال النبي بعد موته فليت شعري إذا كان هذا حقاً فما يؤمنهم أن موسى وسائر من يقرون بنبوته كانوا من أهل هذه الصفة ولا سبيل إلى فرق بين شيء من هذا أبداً.

وفي بعض كتبهم أن بعض أحبارهم المعظيمن عندهم ذكر لهم أنه رأى طائراً يطير في الهواء وأنه باض بيضة وقعت على ثلاث عشرة مدينة فهدمتها كلها.

وفي بعض كتبهم أن المرأة المدينة التي ذكر في التوراة التي زنى بها زمري بن خالو من سبط شمعون طعنه فنخاس بن العزار بن هارون برمحه فنفذه ونفذ المرأة تحته ثم رفعهما في رمحه إلى السماء كأنهما طائران في سفود وقال هكذا نفعل بمن عصاك قال كبير من أحبارهم معظم عندهم أنه كان تكسير عجز تلك المرأة مقدار مزرعة مدى خردل وفي كتبهم أن طول لحية فرعون كان سبعماية ذراع وهذه والله مضحكة تسلي الثكالى وترد الأحزان

قال أبو محمد رضي الله عنه : عن مثل هؤلاء فلينقل الدين وتباً لقوم أخذوا كتبهم ودينهم عن مثل هذا الرقيع الكذاب وأشباهه.

وفي بعض كتبهم المعظمة أن جباية سليمان عليه السلام في كل سنة كانت ستمائة ألف قنطار وستة وثلاثين ألف قنطار من ذهب وهم مقرون أنه لم يملك قط إلا فلسطين والأردن والغور فقط وأنه لم يملك قط رفج ولا غزة ولا عسقلان ولا صور ولا صيدا ولا دمشق ولا عمان ولا البلقا ولا مواب ولا جبال الشراة فهذه الجباية التي لو جمع كل الذهب الذي بأيدي الناس لم يبلغها من أين خرجت وقد قلنا أن الأحبار الذين عملوا لهم هذه الخرافات كانوا ثقالاً في الحساب وكان الحياء في وجوههم قليلاً جداً.

وذكورا أنه كان لمائدة سليمان عليه السلام في كل سنة إحدى عشر ألف ثور وخمسمائة ثور وزيادة وستة وثلاثين ألف شاة سوى الإبل والصيد فانظروا ماذا يكفي لحوم من ذكرنا من الخبز وقد ذكروا عدداً مبلغه ستة آلاف مدى في العام لمائدته خاصة واعلموا أن بلاد بني إسرائيل تضيق عن هذه النفقات هذا مع قولهم أنه عليه السلام كان يهدي كل سنة ثلثي هذا العدد من برٍ ومثله من زيت إلى ملك صور فليت شعري لأي شيء كان يهاديه بذلك هل ذلك إلا لأنه كفؤه ونظيره في الملك وهذه كلمات كذبات ورعونة لا خفاء بها وأخبار متناقضة.

وذكروا أنه كانت توضع في قصر سليمان عليه السلام كل يوم مائة مائدة ذهب على كل مائدة مائة صفحة ذهب وثلاثمائة طبق ذهب على كل طبق ثلاثمائة كأس ذهب فأعجبوا لهذه الكذبات الباردة.

واعلموا أن الذي عملها كان ثقيل الذهن في الحساب مقصراً في علم المساحة لأنه لا يمكن أن يكون قطر دائرة الصفحة أقل من شبر وإن لم تكن كذلك فهي صحيفة لا صحفة طعام ملك فوجب ضرورة أن تكون مساحة كل مائدة من تلك الموائد عشرة أشبار في مثلها لا أقل سوى حاشيتها وأرجلها.

واعلموا أن مائدة من ذهب هذه صفتها لا يمكن ألبتة أن يكون في كل مائدة من تلك الموائد أقل من ثلاثة آلاف رطل ذهب فمن يرفعها ومن يضعها ومن يغسلها ومن يمسحها ومن يديرها فهذا الذهب كله وذا الأطباق من أين.

فإن قيل أنتم تصدقون بأن الله تعالى أتاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وأن الله سخر له الريح والجن والطير وعلمه منطق الطير والنمل وأن الريح كانت تجري بأمره وأن الجن كانوا يعملون له المحاريب والتماثيل والجفان والقدور.

قلنا نعم ونكفر من لم يؤمن بذلك وبين الأمرين فرق واضح وهو أن الذي ذكرت مما نصدق به نحن هو من المعجزات التي تأتي بمثلها الأنبياء عليهم السلام داخل كله تحت الممكن في بنية العالم والذي ذكروه هو خارج عن هذا الباب داخل في حد الكذب والامتناع في بنية العالم.

وفي بعض كتبهم المعظمة عندهم إن زارح ملك السودان غزا بيت المقدس في ألف ألف مقاتل وأن اسابن ابنا الملك خرج إليه في ثلاثمائة ألف مقاتل من بين يهوذا وخمسين ألف مقاتل من بني بنيامين فهزم السودان.

وهذا كذب فاحش ممتنع لأن من أقرب موضع من بلد السودان وهم النوبة إلى مسقط النيل في البحر نحو مسيرة ثلاثين يوماً.

ومن مسقط النيل إلى بيت المقدس نحو عشرة أيام صحارى ومفاوز ألف ألف مقاتل لا تحملهم إلا البلاد المعمورة الواسعة وأما الصحارى الجرد فلا ثم في مصر جميع أعمال مصر فكيف يخطوها إلى بيت المقدس هذا ممتنع في رتبة الجيوش وسيرة الممالك ومن البعيد أن يكون عند ملك السودان حيث يتسع بلدهم ويكثر عددهم اسم بيت المقدس فكيف أن يتكلفوا غزوها لبعد تلك البلاد عن النوبة وأما بلد النوبة والحبشة والبجاة فصغير الخطة قليل العدد وإنما هي خرافات مكذوبة باردة وفي كتاب لهم يسمى شعر توما من كتاب التلموذ والتلموذ هو معولهم وعمدتهم في فقههم وأحكام دينهم وشريعتهم وهو من أقوال أحبارهم بلا خلاف من أحد منهم ففي الكتاب المذكور أن تكسير جبهة خالقهم من أعلاها إلى أنفه خمسة آلاف ذراع حاش لله من الصور والمساحات والحدود والنهايات.

وفي كتاب آخر من التلموذ يقال له سادرناشيم ومعناه تفسير أحكام الحيض أن في رأس خالقهم تاجا فيه ألف قنطار من ذهب وفي اصبعه خاتم تضيء منه الشمس والكواكب وأن الملك الذي يخدم ذلك التاج اسمه صندلفوت تعالى الله عن هذه الحماقات.

ومما أجمع عليه أحبارهم لعنهم الله أن من شتم الله تعالى وشتم الأنبياء يؤدب ومن شتم الأحبار يموت أي يقتل.

فاعجبوا لهذا واعلموا أنهم ملحدون لا دين لهم يفضلون أنفسهم على الأنبياء عليهم السلام وعلى الله عز وجل ومن الأحبار فعليهم ما يخرج من أسافلهم وفيما سمعنا علماءهم يذكرونه ولا يتناكرونه معنى أن أحبارهم الذين أخذوا عنهم دينهم والتوراة وكتب الأنبياء عليهم السلام اتفقوا على أن رشوا بولس البنياميني لعنه الله وأمروه بإظهار دين عيسى عليه السلام وأن يضل أتباعهم ويدخلهم إلى القول بالإهيته وقالوا له نحن نتمحل إثمك في هذا ففعل وبلغ من ذلك حيث قد ظهر.

واعلموا يقيناً أن هذا عمل لا يستسهله ذو دين أصلاً ولا يخلو أتباع المسيح عليه السلام عند أولئك الأحبار لعنهم الله من أن يكونوا على حق أو على باطل لابد من أحدهما.

فإن كانوا عندهم على حق فكيف استحلوا ضلال قوم محقين وإخراجهم عن الهدى والدين إلى الضلال المبين هذا والله لا يفعله مؤمن بالله تعالى أصلاً.

وإن كانوا عندهم على ضلال وكفر فحسبهم ذلك منهم وإنما يسعى المؤمن ليهدي الكافر والضال وإما أن يقوي بصيرته في الكفر ويفتح له فيه أبواباً أشد وأفحش مما هو عليه فهذا لا يفعله أيضاً من يؤمن بالله تعالى قطعاً ولا يفعله إلا ملحد يريد يسخر بمن سواه فعن هؤلاء أخذوا دينهم وكتب أنبيائهم بإقرارهم.

فأعجبوا لهذا وهذا أمر لا نبعده عنهم لأنهم قد راموا ذلك فينا وفي ديننا فبعد عليهم بلوغ إربهم من ذلك وذلك بإسلام عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوء اليهودي الحميري لعنه الله ليضل من أمكنه من المسلمين فنهج لطائفة رذلة كانوا يتشيعون في علي رضي الله عنه أن يقولوا بإلهية علي ونهج بولس لاتباع المسيح عليه السلام من أن يقولوا بإلهيته وهم الباطنية والغالية إلى اليوم وأخفهم كفراً الإمامية على جميعهم لعائن الله تترى وأشنع من هذا كله نقلهم الذي لا تمانع بينهم فيه عن كثير من أحبارهم المتقدمين الذين عنهم أخذوا دينهم ونقل توراتهم وكتب الأنبياء بأن رجلاً اسمه إسماعيل كان إثر خراب البيت المقدس سمع الله تعالى يئن كما تئن الحمامة ويبكي وهو يقول الويل لمن أخرب بيته وضعضع ركنه وهدم قصره وموضع سكينته ويلي على ما أخربت من بيتي ويلي على ما فرقت من بني وبناتي فأمتي منكسة حتى أبني بيتي وأردد إليه بني وبناتي.

قال هذا النذل الموسخ ابن الأنذال إسماعيل فأخذ الله تعالى بثيابي وقال لي أسمعتني يا بني يا إسماعيل قلت لا يا رب فقال لي يا بني يا إسماعيل بارك علي قال الجيفة المنتنة فباركت عليه ومضيت

قال أبو محمد رضي الله عنه : لقد هان من بالت عليه الثعالب والله ما في الموجودات أرذل ولا أنتن ممن احتاج إلى بركة هذا الكلب الوضر فأعجبوا لعظيم ما انتظمت هذه القصة عليه من وجوه الكفر الشنيع.

فمنها أخباره عن الله تعالى أن يدعو على نفسه بالويل مرة بعد مرة الويل حقاً على من يصدق بهذه القصة وعلى الملعون الذي أتى بها.

ومنها وصفه الله تعالى بالندامة على ما فعل وما الذي دعاه إلى الندامة أتراه كان عاجزاً هذا عجب آخر وإذا كان نادماً على ذلك فلم تمادى على تبديدهم وإلقاء النجس عليهم حتى يبلغ ذلك إلى إلقاء الحكة في أدبارهم كما نص في آخر توراتهم ما في العالم صفة أحمق من صفة من يتمادى على من يندم عليه هذه الندامة.

ومنها وصفه الله تعالى بالبكاء والأنين.

ومنها وصفه لربه تعالى بأنه لم يدر هل سمعه أم لا حتى سأله عن ذلك ثم أظرف شيء إخباره عن نفسه بأنه أجاب بالكذب وأن الله تعالى قنع بكذبه وجاز عنده ولم يدر أنه كاذب.

ومنها كونه بين الخرب وهي مأوى المجانين من الناس وخساس الحيوان كالثعالب والقطط البرية ونحوهما.

ومنها وصفه الله تعالى بتنكيس القامة.

ومنها طلبه البركة من ذلك المنتن ابن المنتنة والمنتن وبالله الذي لا إله إلا هو ما بلغ قط ملحد ولا مستخف هذه المبالغة الذي بلغها هذا اللعين ومن يعظمه وبالله تعالى نتأيد ولولا ما وصفه الله تعالى من كفرهم وقولهم يد الله مغلولة والله فقير ونحن أغنياء ما انطلق لنا لسان بشيء مما أوردنا ولكن سهل علينا حكاية كفرهم ما ذكره الله تعالى لنا من ذلك ولا أعجب من أخبار هذا الكلب لعنه الله عن نفسه بهذا الخبر فإن اليهود كلهم يعني الربانيين منهم مجمعون على الغضب على الله وعلى تلعيبه وتهوين أمره عز وجل فإنهم يقولون ليلة عيد الكبور وهي العاشرة من تشرين الأول وهي أكتوبر يقوم الميططرون ومعنى هذه اللفظة عندهم الرب الصغير تعالى الله عن كفرهم قال ويقول وهو قائم ينتف شعره ويبكي قليلاً قليلاً ويلي إذ خربت بيتي وأيتمت بني وبناتي فأمتي منكسة لا أرفعها حتى أبني بيتي وأردد إليه بني وبناتي ويردد هذا الكلام.

واعلموا أنهم أفردوا عشرة أيام من أول أكتوبر يعبدون فيه رباً آخر غير الله عز وجل فحصلوا على الشرك المجرد.

واعلموا أن الرب الصغير الذي أفردوا له الأيام المذكورة يعبدونه فيها من دون الله عز وجل هو عندهم صندلفون الملك خادم التاج الذي في رأس معبودهم وهذا أعظم من شرك النصارى.

ولقد وقفت بعضهم على هذا فقال ليس ميططرون ملك من الملائكة.

فقلت وكيف يقول ذلك الملك ويلي على ما خربت من بيتي وفرقت بني وبناتي وهل فعل هذا إلا الله عز وجل.

فإن قالوا تولى ذلك الملك ذلك الفعل بأمر الله تعالى.

قلنا فمن المحال الممتنع ندامة الملك على ما فعله بأمر الله تعالى هذا كفر من الملك لو فعله فكيف إن يحمد ذلك منه وكل هذا إنما هو تحيل منهم عند صك وجوههم بذلك.

وإلا فهم فيه قسمان.

قسم يقول أنه الله تعالى نفسه فيصغرونه ويحقرونه ويعيبونه.

وقسم يقول أنه رب آخر دون الله تعالى.

واعلموا أن اليهود يقومون في كنائسهم أربعين ليلة متصلة من إيلول وتشرين الأول وهما ستنبر وأكتوبر فيصيحون ويولولون بمصائب.

منها قولهم لأي شيءٍ تسلمنا يا الله هكذا ولنا الدين القيم والأثر الأول لم يا الله تتصمم عنا وأنت تسمع وتعمى وأنت مبصر هذا جزآ من تقدم إلى عبوديتك وبدر إلى الإقرار بك لم يا الله لا تعاقب من يكفر النعم ولا تجازي بالإحسان ثم تبخسنا حظنا وتسلمنا لكل معتد وتقول إن أحكامك عدلة.

فأعجبوا لوغادة هؤلاء الأوباش ولرذللة هؤلاء الأنذال الممتنين على ربهم عز وجل المستخفين به وبملائكته وبرسله وتالله ما بخسهم ربهم حظهم وما حقهم إلا الخزي في الدنيا والخلود في النار في الآخرة وهو تعالى موفيهم نصيبهم غير منقوص واحمدوا الله على عظيم منته علينا بالإسلام الملة الزهراء التي صححتها العقول وبالكتاب المنزل من عنده تعالى بالنور المبين والحقائق الباهرة نسأل الله تثبيتنا على ما منحنا من ذلك بمنه إلى أن نلقاه مؤمنين غير مغضوب علينا ولا ضالين

قال أبو محمد رضي الله عنه : هنا انتهى ما أخرجناه من توراة اليهود وكتبهم من الكذب الظاهر والمناقضات اللائحة التي لا شك معه في أنها كتب مبدلة محرفة مكذوبة وشريعة موضوعة مستعملة من أكابرهم ولم يبق بأيديهم بعد هذا شيء أصلاً ولا بقي في فساد دينهم شبهة بوجه من الوجوه والحمد له رب العالمين.

وإياكم أن يجوز عليكم تمويه من يعارضكم بخرافة أو كذبة فإننا لا نصدق في ديننا بشيء أصلاً إلا ما جاء في القرآن أو ما صح بإسناد الثقات ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى رسول الله فقط وما عدا هذا فنحن نشهد أنه باطل واعلموا أننا لم نكتب من فضائحهم إلا قليلاً من كثير ولكن فيما كتبنا كفاية قاطعة في بيان فساد كل ما هم عليه وبالله تعالى التوفيق تم الجزء الأول من فصل الملل ويليه الجزء الثاني