الكتاب الأخضر/الفصل الأول/الحزب


الحزب هو الدكتاتورية العصرية .. هو أداة الحكم الدكتاتورية الحديثة ... إذ إن الحزب هو حكم جزء للكل ... وهو آخر الأدوات الدكتاتورية حتى الآن .وبما أن الحزب ليس فرداً، فهو يضفي ديمقراطية مظهرية بما يقيمه من مجالس ولجان ودعاية بواسطة أعضائه . فالحزب ليس أداة ديمقراطية على الإطلاق ، لأنه يتكون إما من ذوي المصالح الواحدة... أو الرؤية الواحدة .. أو الثقافة الواحدة ...أو المكان الواحد .. أو العقيدة الواحدة .. هؤلاء يكونون الحزب لتحقيق مصالحهم أو فرض رؤيتهم أو بسط سلطان عقيدتهم على المجتمع ككل، وهدفهم السلطة باسم تنفيذ برنامجهم. ولا يجوز ديمقراطياً أن يحكم أي من هؤلاء كل الشعب الذي يتكون من العديد من المصالح والآراء و الأمزجة والأماكن والعقائد .. فالحزب أداة حكم دكتاتورية تمكن أصحاب الرؤية الواحدة أو المصلحة الواحدة من حكم الشعب بأكمله... أيّ شعب... والحزب هو الأقلية بالنسبة للشعب. إن الغرض من تكوين الحزب هو خلق أداة لحكم الشعب ... أي حكم الذين خارج الحزب بواسطة الحزب... فالحزب يقوم أساساً على نظرية سلطوية تحكمية.. أي تحكّم أصحاب الحزب في غيرهم من أفراد الشعب .. يفترض أن وصوله للسلـطة هو الوسـيلة لتحقيق أهدافه ، ويفترض أن أهدافه هي أهداف الشعب ، وتلك نظرية تبرير دكتاتورية الحزب ، وهي نفس النظرية التي تقوم عليها أي دكتاتورية.

ومهما تعددت الأحزاب فالنظرية واحدة بل يزيد تعددها من حدة الصراع على السلطة … ويؤدي الصراع الحزبي على السلطة إلى تحطيم أسس أيّ إنجاز للشعب... ويخرب أي مخطط لخدمة المجتمع … لأن تحطيم الإنجازات وتخريب الخطط هو المبرر لمحاولة سحب البساط من تحت أرجل الحزب الحاكم ليحل محله المنافس له. والأحزاب في صراعها ضد بعضها ، إن لم يكن بالسلاح _ وهو النادر_ فبشجب وتسفيه أعمال بعضها بعضاً . وتلك معركة لابد أن تدور فوق مصالح المجتمع الحيوية والعليا ،ولابد أن تذهب بعض تلك المصالح العليا ضحية لتطاحن أدوات الحكم على السلطة إن لم تذهب كلها ، لأن انهيار تلك المصالح تأكيد لحجة الحزب المعارض ضد الحزب الحاكم ، أو الأحزاب المعارضة ضد الأحزاب الحاكمة. إن حزب المعارضة لكونه أداة حكم ولكي يصل إلى السلطة ، لابد لـه من إسقـاط أداة الحكـــم التي في السلطة ،ولكي يسقطها لابد أن يهدم أعمالها ويشكك في خططها، حتى ولو كانت صالحة للمجتمع ليبرر عدم صلاحها كأداة حكم… وهكذا تكون مصالح المجتمع وبرامجه ضحية صراع الأحزاب على السلطة . وهكذا برغم ما يثيـره صـراع تعـدد الأحزاب من نشاط سياسي إلا أنه مدمر سياسياً واجتماعياً واقتصادياً لحيـاة المجتمع من ناحية ،ومن ناحية أخرى فنتيجة الصراع هي انتصار أداة حكم أخرى كسابقتها، أي سقوط حزب وفوز حزب ولكن هزيمة الشعب … أي هزيمة الديمقراطية. كما أن الأحزاب يمكن شراؤها أو ارتشاؤها من الداخل أو من الخارج .

الحزب يقوم أصلاً ممثلاً للشعب ، ثم تصبح قيادة الحزب ممثلة لأعضاء الحزب، ثم يصبح رئيس الحزب ممثلا لقيادة الحزب. ويتضح أن اللعبة الحزبية لعبة هزلية خادعة تقوم على شكل صوري للديمقراطية ،ومحتوى أناني سلطوي أساسه المناورات والمغالطات واللعب السياسي ، ذلك ما يؤكد أن الحزبية أداة دكتاتورية ولكن عصرية. إن الحزبية دكتاتورية صريحة وليست مقنّعة، إلا أن العالم لم يتجاوزها بعد ، فهي حقاً دكتاتورية العصر الحديث. إن المجلس النيابي للحزب الفائز هو مجلس الحزب… والسلطة التنفيذية التي يكونها ذلك المجلس هي سلطة الحزب على الشعب ، وإن السلطة الحزبية التي يفترض أنها لمصلحة كل الشعب، هي في واقع الأمر عدو لدود لجزء من الشعب، وهو حزب أو أحزاب المعارضة وأنصارها من الشعب. والمعارضة ليست رقيباً شعبياً على سلطة الحزب الحاكم بل هي متربصة لمصلحة نفسها لكي تحل محله في السلطة، أما الرقيب الشرعي وفق هذه الديمقراطية الحديثة فهو المجلس النيابي الذي غالبيته هم أعضاء الحزب الحاكم، أي الرقابة من حزب السلطة، والسلطة من حزب الرقابة .هكذا يتضح التدجيل والتزييف وبطلان النظريات السياسية السائدة في العالم اليوم والتي تنبثق منها الديمقراطية التقليدية الحالية.

(( الحزب يمثل جزءاً من الشعب،وسيادة الشعب لا تتجزأ )).

((الحزب يحكم نيابة عن الشعب ، والصحيح لا نيابة عن الشعب )).

الحزب هو قبيلة العصر الحديث ... هو الطائفة، إن المجتمع الذي يحكمه حزب واحد هو تماماً مثل المجتمع الذي تحكمه قبيلة واحدة أو طائفة واحدة ، ذلك أن الحزب يمثل ، كما سبق ، رؤية مجموعة واحدة من الناس ، أو مصالح مجموعة واحدة من المجتمع ، أو عقيدة واحدة ، أو مكاناً واحداً ، وهو بالتالي أقلية إذا ما قورن بعدد الشعب ، وهكذا القبيلة والطائفة فهي أقلية إذا ما قورنت بعدد الشعب ، وهي ذات مصالح واحدة أو عقيدة طائفية واحدة ، ومن تلك المصالح أو العقيدة تتكون الرؤية الواحدة ولا فرق بين الحزب أو القبيلة إلا رابطة الدم والتي ربما وجدت عند منشأ الحزب.

إن الصراع الحزبي على السلطة لا فرق بينه إطلاقا وبين الصراع القبلي والطائفي ذاته، وإذا كان النظام القبلي والطائفي مرفوضاً ومستهجناً سياسياً فيجب أن يرفض ويستهجن النظام الحزبي أيضاً ، فكلاهما يسلك مسلكاً واحداً ، ويؤدي إلى نتيجة واحدة.

إن التأثير السلبي والمدمر للصراع القبلي أو الطائفي في المجتمع هو نفس التأثير السلبي والمدمر للصراع الحزبي في المجتمع.