اللطف واللطائف

​اللطف واللطائف​ المؤلف الثعالبي



بسم الله الرحمن الرحيم


وهو حسبي


أما بعد حمد الله عز اسمه على آلائه، والصلاة على رسوله المصطفى وآله، قد ألفت هذا الكتاب للشيخ العميد أبي سهل الحمدوني. وإن كان هو شخص الكمال وفرد الزمان وغرة الشرق وأمين النطق، فلا بد لأهل الأدب وأصحاب الكتب، وإن كانوا مخفضي الدرجات، من التقرب ببضاعتهم المزجاة، إلى خزانة كتبه، عمرها الله بدوام عمره، ولا سيما إذا كانوا من عبيده وخدمه ومتحلي نعمه. فلولا أني منهم لما تجاسرت على حمل كوز ماء أجاج، إلى بحر فرات عجاج، لكن قدم عبوديتي بحضرته حرسها الله وآنسها تنشطني لخدمته بمؤلفاتي، وإن كانت هيبته تقتضي عن أكثر مرادي، وقد قضيت عن كتاب البراعة، في التكلم من الصناعة، بهذا الكتاب الخفيف الحجم، الثقيل الوزن، الصغير الغنم، في لطائف الظرفاء من طبقات الفضلاء قولاً وفعلاً، وجداً وهزلاً، وأودعته ظرف الظرف وروح الروح وعقود الدر وعقد النحر نثراً ونظماً. فالألفاظ بين البلاغة والإيجاز، وخفة الأرواح مع الإعجاز، والمعاني بين الكرم والظرف والمروة والفتوة، مع المداعبة والمطايبة، والنوادر غير الفاترة. وأخرجت فيه ثلاثة أدعية ذكرتها ثلاثة من أفراد البلغاء أنها أوجز الأدعية وأحسنها وأجمعها، منهم الجاحظ إذ قال أوجزها وأبدعها: أدام الله لك السرور. ومنهم الصاحب إذ قال: بل قولهم: عش ما شئت كيف شئت. وكان أبو إسحاق الصابي يقول: مارست الكتابة ستين سنة، فلم يحضرني في الدعاء أحسن وأوجز وأجمع من قولي: جعل الله أيامك مطاياك إلى آمالك. وهذا ثبت أبواب الكتاب: الباب الأول: في لطائف الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.

وأرجو أنها تهز عطفه، وتقر عينه، وتشرح صدره، وتجري مجرى التذكرة لي بحضرته، والنائب عني في خدمة مجلسه، قرب الله السعود بعونه ومشيئته.

الباب الأول: لطائف الصحابة والتابعين

رأى أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بيده ثوب فقال: هو للبيع؟ فقال: لا أصلحك الله!. فقال رضي الله عنه: هلا قلت: لا وأصلحك، لئلا يشتبه الدعاء لي بالدعاء علي؟ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لو كنت تاجراً لما اخترت عن العطر شيئاً، إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه.

وكان عثمان رضي الله عنه يقول: ما مسست فرجي بيميني مذ بايعت النبي .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: ومما يقرب من هذا المعنى من إجلال السادة والكبراء ما سمعت نصر الشرابي يقول: ما أكلت بيدي دسماً قط طول الأيام التي كنت فيها صاحب شراب الأمير الحميد نوح بن نصر، وإنما كنت أتناوله بالملاعق.

ويروى عن الإمام علي كرم الله وجهه أنه نظر إلى رجل يجر ذيله على الأرض لطول ثيابه فقال: يا هذا قصر من هذا فإنه أبقى وأنقى وأتقى!.

وقالت امرأة له: يا أمير المؤمنين، إني زوجت بنية لي وهي أربعة أشبار وزوجها يطالبني بزفافها إليه. فقال: زفيها إليه فأربعة أشبار تستقبل بشبر واحد!.

وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يقول: إذا خلوتم بالنساء فداعبوهن ولاعبوهن، ولا تكونوا كالفحل يأتي البهيمة بغتة.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لجلسائه: أحمضوا رحمكم الله، أي خذوا في المفاكهات. والإحماض مشتق من الحمض وهو فاكهة الإبل.

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: الدنيا غموم فمن كان فيها في سرور فهو..

وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: الرخصة من الله صدقة فلا تردوا صدقته.

وكان كثيراً ما يقول: يروى عن النبي : الهدايا مشتركة. وأهدي إليه من مصر ثياب فأمر بتسليمها إلى خازنه، فقال له جلساؤه: ألم ترو لنا أن الهدية مشتركة؟ فقال: تلك ما يؤكل ويشرب، وأما في ثياب مصر فلا!.

وخطب معاوية بن سعيد امرأة فامتنعت عليه، فكتب إليها: إن تزوجتني ملأت بيتك خيراً وبطنك أيراً!.

وحضر الشعبي رحمه الله وليمة فرأى أهلها سكوتاً فقال: ما لي أراكم كأنكم في جنازة؟ أين الغناء أين الدف؟ وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر ذكري فإني آيسٌ من خيره!.

وقيل للشعبي رحمه الله: إن فلاناً يشرب النبيذ. فقال: دعوه يقتله القول.

ودخل ابن أبي عتيق رحمه الله على عائشة رضي الله عنها يعودها في مرضها الذي ماتت فيه فقال لها: جعلت فداك. فقالت: بالموت؟ فقال: فلا فداك فإني ظننت في الأمر مهلة!.

وقيل للحسن البصري رحمه الله: إن فلاناً يأكل الفالوذج ويعيبه فقال: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن! ما عاب هذا مسلم.

وكان مكحول الشامي رحمه الله يقول: عليك بالطيب فإنه من طاب ريحه زاد عقله، ومن نظف ثوبه قل همه.

وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخبز الحار، وما رأيت فارساً أحسن من لبن على تمر. وقال بعضهم: من كرامة الخبز ألا ينتظر مع الأدم.

الباب الثاني: لطائف الملوك المتقدمين

رأى الإسكندر رحمه الله رجلاً حسن الاسم قبيح السيرة، فقال له: إما أن تغير اسمك أو سيرتك!.

ورأى رجلاً خضيباً فقال له: إن صبغت الشيب فكيف تصبغ آثار الكبر؟ وقال بهرام جور: هموم الدنيا سم درياقه الراح.

وقيل له: إن فلاناً يحب ابنك فاقتله. فقال: إن قتلنا من يحبنا ومن يبغضنا يوشك ألا نبقي على ظهرها أحداً.

وقال أنوشروان: يوم الغيم للصيد، ويوم الريح للنوم، ويوم المطر للشرب، ويوم الشمس للحاجات.

وكان يقول: إني لأستحيي أن أباضع في بيت فيه نرجس لأنه يشبه العيون الناظرة!.

وكان آطليموس الأخير ملك الروم يقول: ينبغي للعاقل أن ينظر في المرآة، فإن رأى وجهه جميلاً فلا يشينه بقبيح، وإن رآه قبيحاً فلا يجمع بين قبيحين. وقيل في ذلك سريع:

يا حسن الوجه توق الخنا ... لا تخلطن الزين بالشين

ويا قبيح الوجه كن محسنا ... لا تجمعن بين قبيحين

وقال غيره: إن لم تصد قلوب الأحرار بالبر والبشر فبأي شيء تصيدها؟

الباب الثالث: لطائف ملوك الإسلام

كان معاوية رحمه الله تعالى يقول في الزمان: نحن الزمان فمن رفعناه ارتفع ومن وضعناه اتضع.

وقال غيره: المروءة اسم جامع للمحاسن كلها.

ومن كلامه: أني لأستحييي ممن لم يجد له ناصراً إلا الله تعالى.

مصعب بن الزبير رضي الله عنهما كان يقول: أني لأعشق الشرف كما أعشق الجمال في النساء.

عبد الملك بن مروان رحمه الله كان يقول: أفضل الناس من عفا عن قدرة، وتواضع عن رفعة، وأنصف عن قوة.

قتيبة بن مسلم رحمه الله تعالى لما أشرف على سمرقند استحسنها جداً فقال: كأنها السماء في الخضرة، وكأن قصورها النجوم الزاهرة، وكأن أنهارها المجرة.

المهلب بن أبي صفرة رحمه الله تعالى كان يقول: عجبت لمن يشتري العبد بماله ولا يشتري الأحرار بفعاله.

وقال لبنيه: أحسن ثيابكم ما كان على غيركم، وخير دوابكم ما رئي تحت سواكم.

سليمان بن عبد الملك رحمه الله تعالى، تكلم عنده قوم فأساؤوا، وتكلم رجل منهم فأحسن. فلما انصرفوا وصفهم سليمان فقال: ما أشبه كلامهم وكلامه إلا بمطر تلبدت عجاجته.

ولما هرب من طاعون الشام قيل له: إن الله تعالى يقول " قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً " قال: ذلك القليل أطلب.

سليمان بن الأحنف رحمه الله شكا إليه جند هشام بن عبد الملك تأخر أرزاقهم واختلال أحوالهم، فضمن لهم ما يصلحهم ثم قال لهشام: لو نادى مناد: يا فقير، لما بقي واحد من الجند إلا التفت إليه. فضحك هشام وأمر لهم بأرزاقهم.

الوليد بن يزيد بن عبد الملك كان يقول: لا تؤخروا لذة يوم إلى غد فإنه غير مأمون. ومن شعره الملوكي ما قاله خفيف:

أشهد الله والملائكة الأب؟ ... رار والعابدين أهل الصلاح

أنني أشتهي السماع وشرب الر ... اح والعض في الخدود الملاح

ونسيم الحلال والخادم الفا ... ره يسعى إلي بالأقداح

يفهم الوحي والإشارة بالكف ... ويهفو إلي هفو الراح

والنديم الكريم والكاعب الحس؟ ... ناء تهتز في سميط الوشاح

ومن شعره أيضاً رمل مجزوء

... ... ... ... ... كل مضفور الذؤابه

أنا للناس إمام ... غير أني ذو صبابه

مروان بن محمد الجعدي آخر ملوك بني أمية كتب إلى عامل له أهدى إليه غلاماً أسود فقال: لو علمت عدداً أقل من الواحد ولوناً شراً من الأسود لأهديته والسلام.

وكتب إليه: أنا وإياك كالحجر والزجاج، إن وقع عليها رضها، وإن وقعت عليه فضها.

نصر بن سيار والي خراسان، من ظريف كلامه: كل شيء يبدو صغيراً ويكبر إلا المصيبة تبدو كبيرة وتصغر. وكل شيء يرخص إذا كثر إلا الأدب فإنه إذا كثر كان أغلى.

الليث بن نصر بن سيار والي خراسان دفع إليه وكيله أربعين درهماً في جلاء مرآة، فضحك وقال: لو صدئت عين الشمس لم يبلغ جلاؤها أربعين درهماً.

أبو العباس السفاح أول ملوك بني العباس، من ظريف كلامه: التغافل عن ذنوب الناس وعيوبهم من أخلاق الكرام، والتهاون بمفاضحتهم من أخلاق اللئام.

وكان يقول: إذا عظمت القدرة قلت الشهوة.

وكان يوماً مشرفاً على صحن داره ينظرها ومعه امرأته أم سلمة فعبثت بخاتمها فسقط من يدها إلى الدار، فألقى السفاح أيضاً خاتمه، فقالت يا أمير المؤمنين ما أردت بهذا؟ قال: خشيت أن يستوحش خاتمك فآنسته بخاتمي غيرة عليه لانفراده.

أبو جعفر المنصور رحمه الله، رفع إليه رجل قصة في شكاية بعض عماله فوقع: اكفني أمر هذا وإلا كفيت أمرك والسلام.

وقال له بعض الهاشميين: إني صرورة. قال: فاحجج. قال: ليس لي نفقة. قال: ليس عليك حج! فقال: يا أمير المؤمنين إنما جئتك مستجدياً لا مستفتياً. فأمر له بعشرة آلاف درهم.

المهدي، ماتت له جارية فاشتد جزعه عليها، فكتب إليه أبوه المنصور: أتطمع أن أوليك أمر الأمة وهذا جزعك على أمة؟ فكتب إليه: يا أمير المؤمنين لم أجزع على قيمتها بل على موافقتها.

واستأذنه سلم بن قتيبة ليقبل يده فأبى، فقال: يا أمير المؤمنين، يدك أحق يد بالتقبيل لعلوها في المكارم وطهورها من المآثم. فقال: يا بن قتيبة إنا نصونك عنها ونصونها عن غيرك!.

هارون الرشيد رحمه الله تعالى أراد سفراً فقال جعفر بن يحيى: تثقل المؤنة يا أمير المؤمنين. فقال: ومتى خفت مؤنتنا؟ فبلغ ذلك ملك الروم فقال: والله هذا من كلام الملوك.

وكان يقرأ في المصحف فانتهى إلى قوله تعالى: " ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون " فقال: لعنه الله ما كان أوضعه، ادعى الربوبية بملك مصر! لأولينها أخس عبيدي، فولاها الخصيب. وفيه يقول أبو نواس سريع:

أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدافعا فكلاكما بحر

وكتب إليه نقفور ملك الروم يهدده، فكتب إليه توقيعاً: الجواب ما تراه لا ما تقراه.

جعفر بن سيلمان الهاشمي كان يقول: الطيب لسان المروءة.

وكان يقول: في الطيب أربع خصال: السنة والمروءة واللذة والقوة.

معن بن زائدة تعرض إليه رجل فقال: احملني أيها الأمير فقال: أعطوه جملاً وفرساً وبغلاً وحماراً وجارية وقال: لو علمت أن الله تعالى خلق مركوباً سوى ما ذكرناه لأمرنا لك به. فحكي هذا الحديث للمعلى بن أيوب فقال: رحم الله معناً، لو كان يعلم أن الغلام يركب لأمر له به، ولكنه كان عربياً محضاً لم يتدنس بقاذورات العجم!.

ولما مدح أبو القاسم الزعفراني الصاحب بقصيدته التي يقول فيها متقارب:

يا من عطاياه تعطي الغنى ... إلى راحتي من نأى أو دنا

كسوت المقيمين والزائرين ... كسى لم يخل مثلها ممكنا

وحاشية الدار يمشون في ... صنوف من البر إلا أنا

حكي للصاحب خبر معن فقال: اخلعوا عليه جبة وقميصاً ودراعة وعمامة وسراويل وفرجية ومنديلاً وطيلسانا وجورباً وقال: لو علمنا كسوة سوى هذه لأمرنا له بها. فامتثل أمره وراح الزعفراني وعليه بعضها، وبعضها في مناديل تحملها غلمانه.

محمد الأمين بن الرشيد أصبح ذات يوم وهو يسمع أصوات المحاصرين من ناحية، وأصوات جيشه ساعين في طلب الأرزاق من أخرى فقال: لعن الله الفريقين أما أحدهما فيطلب دمي، وأما الآخر فيطلب مالي. فقال بعض أصحابه: ما أظرف أمير المؤمنين في السراء والضراء!.

والمأمون من ظريف كلامه: إذا طالت اللحية تكوسج العقل.

وقال: النبيذ كلب والعقل ثعلب!.

وكان يقول: قد اجتمع في التفاح الصفرة الدرية، والحمرة الذهبية، والبياض الفضي. فالعين لحسنه، والفم لطعمه، والأنف لطيبه. وما أحسن تقسيمه الثمار على الأعضاء في قوله: مجلس النبيذ بساط يطوى مع إنقضائه. وقوله الرمان للكبد، والتفاح للقلب، و السفرجل للمعدة، والتين للطحال، والبطيخ للمثانة.

وقوله: مجلس النبيذ ستر فانظر مع من تهتكه.

وكان يقول: قرناء الرجل بمنزلة الشعر من جسده، فمنه ما يخدم ويكرم، ومنه ما يخفى وينفى.

وقال للبريدي: لم أرك منذ أيام، فقال: يا أمير المؤمنين، قد وجدت بأذني ثقلاً أكره معه أن أجيب على غير فهم، أو أتعبك في الاستفهام. فقال: أطيب ما كنت جليساً الآن! شئنا أن نسمعك أسمعناك، وإذا احتشمنا من شيء أسررناك، فأنت شاهد غائب.

وكان يقول: للفاكهة لذتان؛ الرائحة والطعم. فمن أكلها والغمر في يديه فاته أحداهما.

إبراهيم بن المهدي اختلف هو وإسحاق النديم في صوت فقالا: إلى من نتحاكم والناس ما عدانا بهائم؟!.

وحكى إسحاق قال: طهرت بعض أولادي فجاءتني رقعة إبراهيم بن المهدي وقال فيها: لولا أن البضاعة قصرت عن الهمة لبعثت المدى إليك. وقد كرهت أن تطوى صحيفة البر وليس لنا فيها ذكر، فبعثت المبدأ به لوليمته والمختتم به لنظافته: جراب ملح وجراب اشنان. فلما كان من الغد أهدى إليه ما قيمته ألف دينار.

عبيد الله بن عبد الظاهر كان يقول: سمن الكيس ونيل الذكر لا يجتمعان.

المعتصم بالله رفع إليه رجل قصة فيها: يا أمير المؤمنين، إني أتظلم ممن وافق اسمه فعله، فإنه غصبني ضيعتي. ولم يعرف مقصده حتى قال أنه يتظلم من ظلوم جاريته، وأمر وكيلها بإنصافه.

وصيف التركي والي الشام للمعتصم، أصابته مصيبة فركب إليه محمد بن عبد الملك الزيات فعزاه بأخبار وأشعار وأمثال. ثم أصيب محمد بمصيبة فركب إليه وصيف وقال: يا أبا جعفر، أنا رجل أعجمي لا أدري ما أقول، ولكن انظر ما عزيتني به ذلك اليوم فعز به نفسك الآن. فاستظرف الناس كلامه.

المتوكل على الله كان يعجبه الورد جداً فقال: أنا ملك السلاطين والورد ملك الرياحين، فكل منا أولى بصاحبه.

الفتح بن خاقان: مرض خاقان فعاده المعتصم بالله، والفتح إذ ذاك صبي صغير، فقال له المعتصم: داري خير أم دار أبيك؟ فقال: ما دام أمير المؤمنين في دار أبي فهي أحسن!.

وقيل له وعلى يده خاتم ياقوت أحمر في نهاية الحسن: أرأيت أحسن من هذا؟ قال: نعم، اليد التي هو فيها. وقيل إن الفتح بن خاقان قال لأحد ندمائه: يا فلان، دخلت قصري فاستقبلتني جارية فقبلتها، فوجدت في فيها هواء لو رقد المخمور فيه لصحا. فأخذ أبو الفرج الدمشقي هذا وقال رحمه الله تعالى طويل:

سقى الله ليلاً طاب إذ زاد وصلها ... فأفنيته حتى الصباح عناقا

بطيب نسيم منه يستوجب الكرى ... فلو رقد المخمور فيه أفاقا

واحتجب المتوكل عن ندمائه لرمد عرض له، فكتب إليه الفتح وهو من أظرف ما قيل في الرمد يقول بسيط:

عيناك أجمل من عيني بالرمد ... فاسلم وقيت الردى لآخر الأبد

من ضن عنك بعينيه ومهجته ... فلا رأى الخير في أهل ولا ولد

محمد بن عبد الله بن طاهر كان يقول: أربعة لا يستحى من الختم عليها: المال لنفي التهمة، والجواهر للأبدال، والدواء للاحتياط، والطيب للصيانة. المنتصر بالله: ما ذل ذو حق وإن أصفق عليه العالم، ولا عز ذو باطل وإن طلع من جبينه القمران.

المعتز بالله، لما حرضته أمه على طلب الثأر من الأتراك الذين قتلوا أباه فأبرزت إليه قميصه وشكت وبكت، فقال لها: ارفعيه وإلا صار القميص قميصين. فما عادت لعادتها بعد ذلك.

عبد الله بن طاهر نادمه المعتز فاستنشده هذين البيتين فقال طويل:

سقتني في ليل شبيهٍ بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب

فأمسيت في ليلين بالشعر والدجى ... وصبحين من كأسٍ ووجه حبيب

فاستزاده فأنشد طويل:

يقولون آثار وشتى مصائب ... فقلت مقالاً ما عليه غبار

إذا سلمت في الناس للمرء نفسه ... وأحبابه فالحادثات غبار

فأمر له بعشرة آلاف دينار وولاه شرطة شطر بغداد.

المعتضد قال لأحمد بن الطيب: يا سرخسي، إني أرى في لسانك طولاً وفي عقلك قصراً.

معقل بن عيسى كتب إلى أخيه أبي دلف في شأن أبي تمام: يا أخي إن لم تغلب عليه بفضلك غلب عليه فضل غيرك. فقال أبو دلف: ما أظرف ما أوصاني به أخي. وأفضل على أبي تمام غاية الإفضال لأجل كلامه.

إسماعيل بن أحمد عرض عليه غلام فقال: يصلح هذا للفراش والهراش.

وكان يقول: ما أشبه بخارى في حسن ظاهرها وقبح باطنها بالإنسان الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم، وباطنه كله قبح ونجاسة. عبد الله بن المعتز قال: الخطاب من شهود الزور.

وأظرف ما قيل: النساء مهر الجنة. ومن بخل بالدنيا جادت به.

المقتدر بالله كان يقول: لم يملكنا الله تعالى الدنيا لننسى نصيبنا منها. وما وسع علينا لنضيق على من في ظلالنا. ومن مداعباته قوله: من لذات الدنيا النظر إلى الوجوه المليحة، ونتف اللحى العريضة الطويلة، وصفق الأقفية اللحيمة الشحيمة، وغيبة الأرواح الثقيلة البغيضة.

ناصر الأطروش صاحب طبرستان، كان إذا كلمه الإنسان ولم يرفع صوته قال: يا هذا زد في صوتك فإن في أذني بعض ما بروحك.

وكان يقول: أشغل الناس من شغل مشغولا.

نصر بن أحمد صاحب طبرستان لما ولي وهو ابن تسع سنين خرج أعقل الناس وأظرف أقرانه، فجعل يقول سداداً ويفعل صواباً فقيل له: من علم الأمير هذه المحاسن؟ فقال: من علم ولد البط السباحة عند خروجه من البيضة؟ يعني أن له أصلاً في الملك ينزع إلى محاسنه بعرق، فيستوفي شرائطه بأدب وخلق.

وكان أبو الطيب الطاهري يهجو بني سامان ويمزق أعراضهم، ودخل إلى نصر مسلماً فقال له نصر: يا أبا الطيب حتى متى تأكل خبزك بلحوم الناس؟ فسقط في يديه وأمسك بلسانه ونصر يضحك في وجهه، فقبل الأرض وقام يجر ذيله خجلاً، وحين وصل إلى منزله تصدق بمال وتاب من الهجاء توبة نصوحاً ولم يعد إلى عادته. فتعجب الناس من كرم نصر وظرفه وتصوبه من استعصار مثله وكف عادية لسانه بتلك اللفظة.

وكان أبو غسان التميمي من المغتبطين بحضرته، وكان من الأدباء الذين يسيئون آدابهم، فدخل يوماً على نصر وفي يده دفتر فقال: ما هذا يا أبا غسان؟ قال: كتاب أدب النفس. قال: فلم لا تقول به؟ الراضي بالله كان يقول: الإنسان خادم الإحسان، والحر عبد البر.

وكان يقول: كل طعام أعيد عليه التسخين فهو لا شيء، وكل شراب لم يستكمل أربعة أشهر فهو لا شيء. وكل غناء يخرج من تحت السبال فهو لا شيء. ابن أبي علي أحمد بن محمد كان يقول: أبغض الأشياء إلي صبي يتشايخ وامرأة تتآمر، وكتاب ينفذ إلي بالفارسية، وامتناع من أدعوه إلى مداخلتي.

ودعا يوماً أبا منصور إلى مائدته فقال: أنا إنسان سوقي لا أحسن مؤاكلة الملوك. فقال: يا أبا منصور، ليكن طرف كمك نظيفاً وأظفارك مقلمة، وصغر اللقمة، ولا تدسم الخل والملح، وكل مع من شئت.

يوسف بن أبي الساج الدويداري كان يقول: الدنيا كلها مخاريق وإلا فلم يطول القاضي قلنسوته.؟ وكان يقول: الكيما حفظ ما ينفق عليه. عبد الله بن نوح كان يقول: لا يحسن بالملوك والسادة الأحرار لبس المصبغات والملونات، فإنها من لباس الغلمان والصبيان، وليس لهم غير الخفي النيسابوري والملحم المروزي.

سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان كان يقول: الصاحي بين السكارى كالحي بين الأموات، يضحك من فعلهم ويأكل من نقلهم.

وكان يقول: إعطاء الشعراء من فروض الأمراء.

وكان يخاطب بسيدنا، فخاطبه جعفر بن ورقاء بسيدي. قال: إن سمحت أن أكون سيدك فلا تبخل أن أكون سيد غيرك.

ركن الدولة أبو علي بن بويه كان يقول: مثل خراسان في صعوبة فتحها ونزارة دخلها كابن آوى صعب صيده ولا يحصل خيره. وهي في معنى قول الشاعر رجز:

إن ابن آوى لشديد المقتنص ... وهو إذا ما صيد ريح في قفص

ابن عضد الدولة أبو فناخسرو كان يقول: الدنيا أضيق من أن تسع ملكين اثنين.

أبو منصور محمد بن عبد الرزاق كان يقول: قد ألان الله تعالى لأهل طوس الحجر كما ألان لداود عليه السلام الحديد.

وركب يوماً إلى الصيد فرأى قوماً يصلون صلاة الفجر وكادت الشمس تطلع، فقال: ما رأيت صلاة الضحى في جماعة إلا هذه.

أبو الحسن بن إبراهيم بن سمحوج كان يقول: ثلاثة لا تخلو من ثلاثة: جسم من علل، وقلب من شغل، وكذ خدابية من خلل وكان يقول: من أكل الحلوى بالخبز فكأنما عانق المعشوق في الصدر.

وكان مأمون خوارزم شاه يوماً يشرف في باغه أي بستانه المعروف بالأخشيت مع ندمائه، ورائض يروض فرساً ليركبه ويدور حول الباغ، فانتهى إلى مجلسه وحاذاه والقدح بيد أحد ندمائه فخرج من الفرس ريح لها صوت. فقال خوارزم شاه بالعجلة: على شارب الشارب!.

أبو موسى هارون قال لولده: إني أعظك أن تكون من الجاهلين خف الله يخفك الناس، وكثر لهم اللطف لئلا تنسب إلى لؤم القدرة، ولا تفش سرك ولو إلى وزير فإن لكل وزير وزيراً.

عبد الرحمن صاحب أندلس، كتب إليه بسبة فوقع : أما بعد فإنك عرفتنا فسببتنا ولو عرفناك لأجبناك والسلام.

أبو القاسم محمود بن ناصر الدين سلطان الغازي الماضي كان يقول: حسن صورة الإنسان من عناية الله تعالى بعبده. فمن أحسن صورته ألقى عليه محبته وأحبته القلوب.

وقعد يوماً يعرض عسكره فقرئ ذكر فتى بقل وجهه، وكان موصوفاً بالجمال فقال: اكتبوا بطلب وجهه.

وكان يقول: نحن نوجب الصلاة كالصلاة.

الباب الرابع: لطائف الوزراء والكبراء

عبيد الله بن يحيى وزير مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية.، كان يقول: البلاغة ما رضيته الخاصة وفهمته العامة. الربيع بن يونس وزير المنصور كان يقول: من كلم الملوك في الحاجات في غير أوقات الكلام لم يظفر ببغتيه وضاع كلامه، وما أشبه الحال في ذلك إلا بأوقات الصلاة لا تقبل إلا فيها. فمن أراد خطاب الملوك فليترصد الوقت المنجح الذي يصلح فيه ذكر ما أراد ليحصل النجح وإلا فلا. أبو عبيد الله وزير المهدي كان يقول: حسن الشيم علم من أعلام النجح. ومن كلامه: خير الكلام ما قل وجل ودل ولم يمل. واعتذر إليه رجل بكلام غير حسن فقال له: ما رأيت عذراً أشبه باستئناف ذنب من هذا. يحيى بن خالد البرمكي كان يقول: الصديق ما ينفع أو يستنفع. وقوله: المواعيد شباك الأحرار والكرام يصيدون بها محامد الأخيار. وقوله: أنا مخير بين الإحسان إلى من لم أحسن إليه، ومرتهن إلى من أحسنت إليه. وقوله: الدنيا سعة المنزلة وكثرة الخدم وطيب الطعام ووطأة الفراش وطيب الرائحة وموافقة الأهل والقدرة على الإحسان بالإخوان. وقيل له: لم لا تستبدل بحاجبك فقد شاخ؟ قال: فمن يعرف إخواني القدماء؟ وكان يقول: ثلاثة تدل على عقول أربابها: الكتاب والرسول والهدية. الفضل بن يحيى رحمه الله تعالى، جرى يوماً مديح الناس إياه لجوده فقال: ما قدر الدنيا حتى يمدح من يجود بكلها فضلاً عن بعضها؟ وكان يقول: ما سروري بالموعد كسروري بإنجازه. جعفر بن يحيى رحمه الله اختصم إليه رجلان فقال لأحدهما: أنت خلي وهذا شجي، فجوابك يجري على برد العافية وجوابه يجري على حر المصيبة. إسماعيل بن صبيح، قال صاحب الكتاب: لم أسمع ولم أقرأ أحسن وأظرف في الجمع بين الشكر والشكاية في فصل قصير أوجز مما كتب إلي يحيى بن خالد: في شكر ما تقدم من إحسانك شاغل عن استبطاء ما تأخر منه. وما زلت أطلب شعراً في هذا المعنى حتى وجدته لأبي الطيب، قال متقارب: فإن فارقتني أمطاره ... فأكثر غدرانها ما نضب رأى الرشيد رحمه الله تعالى يوماً رجلاً في داره وبيده حزمة خيزران فقال: ما هذه؟ فقال: عروق القنا، لموافقته اسم أم الرشيد. وهو الذي يقول: إياكم ومخاطبة الملوك بما يقتضي جواباً، فإنه إذا جاوبكم اشتد عليهم وإن لم يجيبوكم اشتد عليكم. الفضل بن سهل ذو الرئاستين، من ظريف كلامه: ما استرضي الغضبان ولا استعطف السلطان، ولا سلت السخائم، ولا رفعت المغارم، ولا استمسك المحبوب ولا توقي المحذور بمثل الهدية. وقوله عند برئه من علة: إن في العلل نعماً لا ينبغي للعقلاء أن يجحدوها، منها تمحيص الذنب، وتعرضٌ لثواب الله تعالى، وإيقاظٌ من الغفلة، وإذكارٌ بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء التوبة، وحض على الصدقة. أخوه الحسن بن سهل، من ظريف كلامه: عجبت لمن يرجو من فوقه كيف يحرم من دونه. وقوله: لا يصلح للصدر إلا واسع الصدر. وقيل له: لا خير في السرف. فقال: لا سرف في الخير. فرد اللفظ واستوفى المعنى. وتعرض إليه رجل فقال: من أنت؟ فقال: أنا الذي أحسن إلي الأمير عام كذا وكذا. فقال: مرحباً بمن توسل غلينا بنا وشكر إحساننا. وقضى حوائجه. وكان يقول: من أدمن شم النرجس في الشتاء أمن البرسام في الصيف. وكان يقول: من طعام الملوك المح والمخ، والحمل الذي رضع شهرين ورعى شهرين، والدجاج الكسكري المسمن بلباب البر، وفرخ الحمام البيتي. ومن الحلاوات اللوزينج بالطبرزد، وماء الورد المبخر بالند. ومن الفواكه قصب السكر والرطب الأزاد والتين الوزيري والعنب الرزاقي والتفاح الشامي، ومن الرياحين الورد. ومن المسك الأذفر والبنفسج المعنبر، والنرجس المورد، والشاهسفرم المكوفر. أحمد بن يوسف كان يقول: نهار الكاتب العاقل لعلمه، وليه لطربه. ودعا صديقاً له فكتب إليه: يوم الالتقاء قصير فأعن عليه بالبكور. وطلب المأمون السكين، فناوله إياها وحدها مما يليه، فعلم أنه أخطأ فقال: في نحر أعدائك يا أمير المؤمنين. الفضل بن مروان، من لطيف كلامه: الشرب في ليالي الجمع من المروءة!. المعلى بن أيوب أهدى إلى المعتز بالله في نيروزه مرآة خسروانية في نهاية الحسن فقال: أهديتها ليذكرني بها إذا رأى حسن وجهه فيها. محمد بن عبد الملك الزيات كتب إلى عبد الله بن طاهر: قطعت كتبي عنك قطع إجلال لا قطع إخلال. أحمد بن أبي دؤاد كان يقول: الخبز ليومه والطبيخ لساعته والنبيذ لسنته. محمد بن الفضل الجرجاني عاتبه المتوكل على اشتغاله بالملاهي والقيان عن أعمال السلطان فقال: يا أمير المؤمنين، إني ربما أستعين على الجد بالهزل، وبالباطل على الحق لأن مقاساة المشرق والمغرب لا تتهيأ ولا تتمكن إلا باستجلاب شيء من السرور. فقال: صدقت يا محمد!. العباس بن عبد الله بن الحسين العلوي وصف ثقيلاً فقال: والله ما الحمام على الإصرار، والدين على الإعسار، والصوم في الأسفار، بأثقال من فلان. عيسى بن فرخان شاه، من ظريف كلامه وتشبيهه: القلم الرديء كالولد العاق. وكان يقول: إني لأشكر لحظه وأشكو لفظه. أحمد بن إسرائيل كان يقول: أربعة من تعودهم لا يصبر عنهم: السمع والند والحيس والثلج، وأربعة لا يقيمها إلا رجل حاذق: عمل السلطان واتخاذ القيان ومواصلة الدعوات. أحمد بن صالح بن سيروان وصف جارية كاتبة فقال: كأن خطها أشكال صورتها، وكأن مدادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قلمها بعض أناملها، وكأن بنانها سحر مقلتها، وكأن سكينها غنج لحظها، وكأنه قلب عاشقها. سليمان بن وهب من ظريف كلامه: ظرف الصداقة أملح من ظرف الصيانة، والنفس بالصديق آنس منها بالعشيق. وكان يقول: إني أغار على أصدقائي كما أغار على حرمي. قال: الشاعر طويل: وكن عالماً أني أغار على أخي ... وخلي كما أني أغار على أهلي ونظر يوماً في المرآة فرأى شيباً كثيراً في وجهه فقال: عيب لا عدمناه!. الحسن بن وهب سئل عن مبيته فقال: شربت على عقد الثريا ونطاق الجوزاء، فلما انتبه الصبح نمت، فلما أستيقظ إلا بلبسي قميص الشمس. ونظر إلى رجل في مجلسه يعبس في كأسه فقال له: ما أنصفتها! تضحك في وجهك وأنت تعبس في وجهها. ووصف مغنياً فقال: كأنه خلق من كل قلب فهو يغني كلاًّ بما يشتهيه. ومدح محمد بن عبد الملك الزيات فقال: خلق كما تشتهي إخوانه ودعاه محمد إلى الديوان فكتب إليه: لباس بهي وطعام شهي وشراب هني، فكيف أتحول من حال السعيد إلى حال الشقي؟ سعيد بن أحمد كتب إلى محمد بن مكرم يدعوه إلى مجلس أنسه: طلعت الكواكب وهي تنتظر بدرها، فرأيك في الطلوع قبل غروبها، فالأمر بمعنى من قال، شعر طويل: كأنا نجوم في السماء مضيئةٌ ... ولا بد من بدر فهل أنت طالع عبيد الله بن سليمان بن هب وقع في كتاب يستنجز أباه وعداً: الشرط أملك، والوعد كأخذ باليد، والوفاء من سجايا الكرام. القاسم بن عبيد الله كان يقول: عقل الكاتب في قلمه، والكلام الحسن من مصايد القلوب. وعزم يوماً على ترك الركوب فقال لندمائه: تعالوا بنا نسرق هذا اليوم من السلطان كما نسرق ماله. أبو العباس بن الفرات كتب إلى وزير الوقت: إن رأيت أن تكرمني بأمرك ونهيك فأما سلامتك فهي أجل من أن تخفى على أحد.

أخوه أبو الحسن بن الفرات كان يقول: والله ما رأيت أحداً علي ثان وليس لي إليه إحسانٌ مني إلا استحييت منه وصرفت همتي إلى إزالة فاقته وتحصيل مراده. ومن ظريف كلامه: إني لآلف كل شيء حتى الطرق. العباس بن الحسن قال له يونس المقتدري: ما أقصرك! قال: أقصر مني عمرك. أبو الفتح كشاجم من ظريف كلامه: لولا أن المخمور يعرف قصته لقدم وصيته. أبو عبد الله بن ثوابة دخل عليه صديق له ومجلسه غاص بأهله فقال ابن ثوابة: ما زادك بعدك عني إلا قرباً من قلبي، فقعد بعيداً. أبو القاسم الإسكافي من ظريف كلامه: استيعذوا بالله من نزغات الشيطان ونزوات الشبان. أبو الفضل بن العميد من ظريف كلامه: أطيب ما يكون الحمل إذا نزلت الشمس برج الحمل. وقوله: خير الكلام ما أغناك جده وألهاك هزله. ابنه أبو الفتح ذو الكفايتين كتب إلى رجل يستهديه الشراب: قد انتظمت يا سيدي مع رفقة في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المدام صرنا كبنات نعش، والسلام. وكتب إلى مؤدبه: وصلت رقعة الشيخ أصغر من أنملة نملة وعنفقة بقة. أبو سعيد الفرد كتب إلى ابن العميد: أنا أيد الله الأستاذ سليمان بيته، وأبو هريرة مجلسه، وأنس خدمته، وبلال دعوته، وحسان مدحته. أحمد بن أبي حذيفة كتب إلى وكيله: استكثر من غرس أشجار الفرصاد فإن سعفها حطب وثمرها رطب وورقها ذهب. الصاحب لما رجع عن العراق سأله ابن العميد عن بغداد فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد. ورفع إليه أن رجلاً غريب الوجه يدخل داره لاستراق السمع فوقع: دارنا هذه خان، يدخلها من وفى ومن خان. وذكر بعض الفقهاء وعداً وعده إياه فقال: وعد الكريم ألزم من دين الغريم. وفي وصف الحر: وجدت حراً يشبه قلب الصب، ويذيب دماغ الضب. وكتب: وصلت رقعة مولاي فكانت فاتحته أحسن من الفتح، وواسطته أنفس من واسطة العقد، وخاتمته أشرف من خاتم الملك. وكتب في الاستزارة: يومنا طاووسي الأرض فاختي السماء، وقد غابت شمس السماء عنا فلا بد أن تؤثر شمس الأرض منا. وكتب إلى من يعتذر لخوف الثقل: متى ثقل الجفن على العين؟ وأطال رجل المكث عنده ولم يقتد بغيره في القيام فقال: الفتى من أين؟ قال: من قم. قال: فإذا قم!. وقال له علي بن عبد العزيز: لعلي طولت. قال: بل تطولت. أبو العباس أحمد بن إبراهيم كتب إلى الصاحب: وصل كتاب مولانا وكان رحمه الله عند أيوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. وكتب في الاعتذار من انحيازه إلى يزدجرد: من حسن مفره حسن مقره. وكتب في وصف آثار الربيع: الأرض زمردة، والأشجار وشي، والهواء مسك والنسيم عنبر، والماء راح، والطيور قنا. أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، لم أسمع في إهداء الدواة والمرفع أحسن ولا أظرف من قوله: قد خدمت مجلس سيدنا بدواة يداوي بها مرض عفاته، ويدوي قلوب عداته، على مرفع يؤذن بدوام رفعته وارتفاع النوائب عن ساحته. وله من كتاب إلى الصاحب: كتبت كتابي وبودي أن بياض عيني طرسه، وسوداهما نفسه، شوقاً إلى لألاء غرته، وظمأ إلى ارتشاف أنامله. وله: رب حاضر لم تحضر نيته، وغائب لم تغب مشاركته. أبو الفتح المحسن بن إبراهيم كتب في وصف يوم بارد: هذا يوم جمد خمره وخمد جمره. ويخف فيه الثقيل إذا تأخر. وقال في ذكر الصبوح والشمس: فلما ذر قرنها وارتفع الحجاب عن حاجبها، ولمعت في أجنحة الطير، وأذهبت أطراف الجدران، افتضضنا عذرة الصباح بمباكرة الأقداح، فلم تترجل الشمس حتى ركبنا غوارب الأفراح. أبو الفتح البستي من ظريف كلامه: النعمة عروس فمهرها الشكر، والرشوة رشاء الحاجة، والبشر نور الإيجاب، والمعاشرة ترك المعاسرة، وعادات السادات سادات العادات. أبو نصر العتبي من ظريف كلامه: الشباب باكورة الحياة. وقوله: لسان التقصير قصير. وكان يقول: من فضل النرجس أن الرياحين كلها سكان أوعيته، ألا ترى أن أوعيتها كلها تسمى النرجسيات وإن كانت خالية من النرجس؟!. أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز كان يقول: الصدقة ترد بلاء الآخرة، والهدية ترد بلاء الدنيا. أبو الحسن محمد بن محمد المزني قال: من دخل على السادة فعليه بتخفيف السلام وتقليل الكلام وتعجيل القيام.

أبو منصور سعيد بن أحمد اليزيدي، سأله أبو بكر بن زيد عما يحبه ويشتهيه قال: قشور الدجاج الفتية المسمنة المشوية، والسكباج التي يجمع فيها بين لحم البقر ولحم الغنم السمين، ثم ينفى عنها لحم البقر، وتغلى بالسكر وتطيب بالعنبر، والهريسة بالحملان والفراريج السمان، والتعلية بالمح والمخ، وما على جنوب الحملان التي رضعت شهرين ورعت شهرين من اللحم المجزع، والمائعة بالأرز، والقطايف المعمولة باللوز المدقوق والسكر المسحوق، والمبخرة بالند، المشربة بالجلاب وماء الورد. فقال له: يا أبا منصور، قد تحلب فمي من هذا الوصف فأشهد أنك من أبناء النعم. الشيخ العميد أبو نصر بن ميكال، قال الأمير محمود بن القاسم بن باتكين الغازي رحمه الله تعالى يوماً لندمائه: يروى أن سليمان ابن داود كان يطوف في الليلة الواحدة على أربعين امرأة. فقال أبو نصر: لا بدع ولا عجب، ولقد كانت الريح مسخرة له تجري بأمره. فقهقه الأمير وأعجبه كلامه. أبو الفضل أحمد بن عبد الله الميكالي من ظريف كلامه: كلامك أعذب من فرات المطر، وأعبق من فتات المسك والعنبر.

الباب الخامس: لطائف الأدباء والبلغاء

أبو عمرو بن العلاء وصف رجلاً من أصدقائه فقال: إن كان لله عبد مخلوق من الذهب الأحمر والمسك الأذفر فهو ذاك. ونظر إلى رجل من أصحابه وعليه ثياب خضر مشهرة فقال: يا بني، كل ما تشتهي والبس ما تشتهيه الناس. قد نظمه بعضهم، شعر كامل: إن العيون رمتك من باجاتها ... وعليك من شهر اللباس لباس أما الطعام فكل لنفسك ما اشتهت ... والبس ثيابك ما اشتهته الناس أبو زيد الأنصاري كان يقول: دنياي من أربعة دراهم: درهم أدخل به حماماً في ضحاة النهار، ودرهم أشتري به كوزاً جديداً أستعذب فيه مائي، ودرهم أشتري به ريحاناً أغذي به روحي ودرهم أستكتب به وراقاً ينوب عني في الكتابة. الخليل بن أحمد البصري، قال اليزيدي: دخلت عليه يوماً فقال لي: إلي إلي يا أبا محمد، فإن سم الخياط لا يضيق على متصادقين، والدنيا لا تسع متباغضين. الأصمعي قال: دخلت على الفضل بن الربيع في يوم بارد وعلي ثياب قطن فقال لي: أين دواجك؟ فقلت: معك في خزائنك أصلحك الله. فضحك وأمر لي بدواج سمور. ومثله أبو العميثل دخل على عبد الله بن طاهر في يوم من أيام الخريف وعليه قباء خز فقال: يا أبا العميثل، ما أعددت للشتاء؟ قال: خلع الأمير. فقال: عجلوها له. واستقرض جار الأصمعي منه دريهمات فقال له: أين الرهن؟ قال: ألست واثقاً بي؟ قال: بلى، وهذا خليل الله صلوات الله وسلامه عليه كان واثقاً بربه حيث قال: " ولكن ليطمئن قلبي " . العتابي قال للمأمون في كلام جرى معه عنده: لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك. محمد بن سبالة كتب إلى صديق يستقرضه، فكتب يعتذر من الإضاقة. فقال له: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت ملوماً فجعلك الله معذوراً. ابن الحباب قيل له: أي متاع الدنيا عندك آثر؟ قال: رغيف أزهر، وطبيخ أصفر، وشراب أحمر، وغلام أحور، وكيس أعجز. أبو إسحاق النظام كتب إلى بعض الأصحاب الرؤساء: إن بناء الدنيا قد كلح وطمح وجمح فجرح فأفسد ما أصلح، فإن لم تعن عليه فضح. الجاحظ وصف الفروج بلفظتين متوازنتين متشابهتين لا أحسن ولا أظرف منهما: يخرج كاسياً كاسباً. ونظر يوماً في الحمام إلى القيم وقد انتشر عليه فقال: ينبغي أن يقعد أحد القيمين فقد كفانا واحد! وقال في وصف الدفتر: من لك ببستان يحمل في كم، وروضة نقلت في حجر، ينطق عن الموتى ويترجم كلام الأحياء؟. وكان يأكل الفالوذج مع محمد بن عبد الملك الزيات، فأمر محمد أن يجعل بين يدي الجاحظ ما رق من الجام، ثم قال: تقشعت سماؤك قبل سماء الناس! فقال: أصلحك الله، لأن غيمها كان رقيقاً!. أبو العيناء قال له المتوكل: كيف ترى دارنا هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت الناس يبنون الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. وقد نظم بعض الأدباء في الصاحب فقال وأجاد: هزج. ولي مسألة بعد ... فقابلني بأخبار بنيت الدار في دنيا ... ك أم دنياك في الدار ولقيه ابن مقلة سحراً فعجب من بكوره فقال: يا عجباً شاركني في الفعل وانفرد في التعجب. وقال : يا أمير المؤمنين، إنا يشتد السوق على العبد لأنه يتعذر عليه لقاء مولاه، وأما السيد فمتى أراد عبده دعاه. أبو العباس المبرد كان يقول: ما تنادر علي أحد قط كما تنادر سذاب الوراق، فإني اجتزت به يوماً وهو قاعد على باب داره، فقام إلي ولاطفني وعرض علي القرى فقلت: ما عندك؟ فقال: ما عندي أنت وعليه أنا، يعني اللحم المبرد بالسذاب. أبو العباس ثعلب كان يقول: وددت الليل نهاراً كله لئلا ينقطع عني أصحابي. أبو الحسن المنجم في الذم: هو الخس بالعربية والهندباء بالفارسية. وله في ثقيل هجم عليه وكدر ما صفا من عيشه فقال: لا مرحبا بقذى العين وسيئ الخلق وغصة الصدر وعظم اللقمة ومخطة الثوب وعثرة الفرس وذبابة القدح. وقوله: والشرب على غير الدسم سم، وعلى غير النغم غم. أبو بكر الخوارزمي لم أسمع فصلاً أطرف من قوله: قد أراحني الشيخ من بره، لكن أتعبني بسكره، وخفف ظهري من ثقل المحن، لا بل ثقله بأعباء المنن، وأحياني بتحقيق الرجاء، لا بل أماتني بفرط الحياء، فأنا له رقيق بل عتيق، وأسير بل طليق ومن الغرر الظريفة قوله: الكريم من أكرم الأحرار، والكبير من صغر الدينار. وقوله: من لم يذكر أخاه إلا إذا رآه فوجدانه كفقدانه، ووصله كهجرانه. ووصف رجلاً بالنسوان والغلمان فقال: قلم برأسين، وسكين بحدين، ومسجد بقبلتين، وقبض في ديوانين، وصيد لطائرين. ووصف شريفاً في أصله وضيعاً في نفسه فقال: استخرج المساوئ من المحاسن، وهو من الأسد بخره، ومن الدينار صفره، ومن اللجين خبثه، ومن الماء زبده، ومن الطاووس رجله، ومن الورد شوكه، ومن النار دخانها، ومن الخمر خمارها، ومن الدار ميضأتها. وكان يقول في التفضيل: فلان بيت القصيدة، وأول الجريدة، وغرة الكتيبة، وواسطة القلادة، ودرة التاج، وإنسان الحدقة، ونقش الفص. أبو الفضل البديع الهمذاني: أراني أذكر الشيخ كلما طلعت الشمس، وبرق البرق، وعرض الغيث، وذكر الليث، وضحك الروض، إذ الشمس محياه، والريح رياه، والنجم علاه، والبرق سناه، والغيث نداه، والليث حماه، والروض سجاياه، وفي كل شيء صالحة ذكراه، وعلى كل حالة أراه، فمتى أنساه واشدة شوقاه، عسى الله يجمعني وإياه. وكتب إلى مستمنح عاوده مراراً: مثل الإنسان في الإحسان كمثل الأشجار في الثمار، فيجب إذا أتى بالحسنة أن يرفه سنة. وله في جواب رقعة: الجود بالذهب ليس مثل الجود بالأدب، وهذا الخلق النفيس لا يساعده الكيس، وهذا الطبع الكريم لا يأخذه الغريم، والأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة. ولقد جهدت بالطباخ أن يطبخ من زائية الشماخ لوناً فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع أدب الكاتب فلم يقبل. واحتيج في البيت إلى شيء من الزيت فأنشدت من شعر الكميت مئتي بيت فلم يغن كما لا يغني لو وليت. ولو وقعت أرجوزة العجاج في توابل السكباج لما عدمت عندي ولكن ليست تقع فيما أصنع؟ وكتب إلى صديق له: قد حضرت دارك وقبلت جدارك، وما في حب الحيطان، ولكن شغف القطان. القاضي أبو محمد منصور ابن الأزدي كتب في قصة: أيد الله الشيخ، وقدر لقاه فرج، ولكن " ليس على الأعمى حرج " لا سيما والمجلس وطيء، والمركب بطيء، ووهج الصيف يثير الرهج. أبو القاسم الزعفراني قال لعائده: فصدت فصدت العلة. أبو عبد الله الثغري من أظرف قوله: وصل كتابك بألفاظ يكيف عندها الحصواء، وتقف عليها الأهواء، ووضعته على عيني فكان لها برودا، ونشرته فكأني أنشر برودا. أبو الفرج الببغاء دعا على القرامطة والباطنية فقال: سلط الله عليهم طوفان نوح، وريح عاد، وحجارة لوط، وصاعقة ثمود. ؟

الباب السادس: لطائف القضاة والعلماء

أبو يوسف القاضي رحمه الله تعالى، تحاكم إليه الرشيد وزبيدة في الفالوذج واللوزينج أيهما أطيب، فقال أبو يوسف: أنا لا أحكم على غائب. فأمر باتخاذهما وتقديمهما إليه، فجعل يأكل من هذا مرة ومن ذلك أخرى حتى نظف الجانبين ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أجدل منهما، إن أردت أن أسجل لأحدهما أدلى الآخر بحجة. وسأل الرشيد الأوزاعي عن اسم امرأة إبليس فقال: تلك وليمة لم أحضرها. يحيى بن أكثم كان يقول: قد أكرم الله أهل الجنة بأن أطاف عليهم الولدان في وقت رضاه عنهم لفضلهم على الحور، فما الذي يمنعنا عاجلاً من ترك هذه الكرامة وتحصيل هذه الزلفى؟ وخلا به المأمون يوماً على المداعبة والمطايبة والمجاراة في ميدان الغلمان، ومترف غلام المأمون يتسمع عليهما، وهو الذي حكى هذه القصة عنه فقال المأمون: يا أبا محمد، أخبرني عن أظرف غلام مر بك. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، تحاكم إلي غلام في نهاية الملاحة والظرف فأخذته عيني وتعلق به قلبي، فلم ينفصل أمره. ثم دخل علي فقال: أعني على خصمي، فقلت: من يعينني على عينيك؟ قال: شفتاي، قلت: ما بال شفتيك منشقتين؟ قال: أحلى ما يكون التين إذا تشقق. فقلت: يا بني ما أنحفك! فقال: كلما دق قصب السكر كان أحلى. علي بن عيسى كان مقتصداً في لباسه، وكان أبو عمر القاضي مبالغاً في لباسه والمغالاة به، فقال له علي في ذلك فقال: لباس الوزير يتجمل به وأنا أتجمل بلباسي. وسأل حامد بن العباس علي بن عيسى وهما على الدواوين عن دواء الخمار فتلجلج وقال: لست من رجال هذه المسألة، فأقبل على أبي عمر وقال: أيها القاضي أفتينا في دواء الخمار. فتنحنح وأصلح صوته ثم ذكر إسناداً رفعه إلى النبي أنه قال: " استعينوا على الصناعات بأربابها " . ومن أرباب هذه الصناعة الأعشى في الجاهلية، شعر متقارب: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها لكي يعلم الناس أني امرؤ ... أتيت المروءة من بابها وأبو نواس في الإسلام قال هذا البيت بسيط: ؟؟دع عنك لومي فإن اللوم اغراء وداوني بالتي كانت هي الداء فقال حامد لعلي: انظر إلى قاضي القضاة استشهد بالخبر والشعر!. ابن قريعة، ذكره الصاحب في كتاب له إلى ابن العميد فقال: شيخ ظريف خفيف الروح وله نوادر عجيبة منها أن كهلاً يتطايب بحضرة الأستاذ أبي محمد المهلبي، فسأله عن حد القفا، يريد تخجيله، فقال: ما اشتمل عليه جربانك، ومازحك فيه إخوانك، وأدبك عليه سلطانك، وباسطك فيه غلمانك، وهذه حدود أربعة. أبو العباس بن سريج كان يقول: ما حرم الله شراً إلا وأحل بإزائه خيراً: حرم الميتة وأباح المذكى، وحرم الخمر وأباح النبيذ، وحرم الزنى وأباح التزويج، وحرم الربا وأباح البيع. أبو سعيد القاضي كتب إلى ابنه عبد الحميد: قد بعثت إليك ألف جوزة، وألف من كل شيء كثير! أبو عبد الله الفارسي كان يتقلد قضاء بلخ، وكان صديق أبي يحيى العمادي، فكتب إليه يعاتبه: قد أهديت للشيخ عدل صابون ليغسل به طمعه عني، والسلام. أبو الحسن علي بن عبد العزيز القاضي كتب في صبائه إلى بعض أصدقائه الرؤساء: هذا الفتى حضر المراد، فما بالي فيه عسر المراد؟ وتوفر مولاي غير مستزاد، فما بالي حصلت على غير زاد؟ ولي في هذه الدولة آمال أستبطئ أوقاتها ولا أخشى فواتها. ودخل من أطال الجلوس عنده فقال: لعل القاضي يقول: أبرمت فقم! قال: لا بل أنعمت فدم!. القاضي أبو القاسم الداودي ذكر أمير المدينة فقال: غصن من شجرة رسول الله له جد، وسراك من أديمه قد. أبو محمد السرخسي كان من ظرفاء فقهاء بغداد. ركب يوماً في سفينة مع بعض مياسير النصارى، فلما بسطت سفرته سأل السرخسي مساعدته، فلما فرغ من الطعام أحضر شراباً يحكي عين الديك وفأرة المسك، وأراد أن يجد رخصة فقال: ما هذه؟ فقال: خمر شراه غلامي من يهودي. فقال: نحن أصحاب الحديث نكذب سفيان بن عيينة ويزيد بن هارون، أفنصدق نصرانياً عن غلامه عن يهودي؟ والله ما أشربها إلا لضعف الإسناد!. ومد يده إلى الكأس وملأها وشرب!. أبو شهاب الصعلوكي دخل على أبي الحسين القاضي أولى في يوم بارد والنار توقد بين يديه فقال: أيها الفقيه إلى النار! فقال: القاضي أولى أنت أولى بها صليا! أبو سليمان الخطابي كان يقول: من أراد أن لا يفارقه شم الشمامة من غير أن يحملها معه فليبخر لحيته مستقصياً، ثم إذا أراد شم الشمامة قبض عليها من داخل وأدناها من أنفه. أبو نصر المقدسي رحمه الله كان يقول: الموت أربعة: الفراق والشماتة والعزل ثم الموت. وكان من دعائه: لبست النعمة، وافترشت الأمن، وتغذيت السرور، وركبت السعادة. وكان يقول إذا رأى وجهاً " تبارك الله أحسن الخالقين " . أبو الحسن المؤمل عن الخليل بن أحمد أنه كان يقول: أف لرئيس لا تقع الأجفان على جفانه، ولا تجتمع الإخوان على خوانه.

الباب السابع: لطائف الفلاسفة والأطباء

أحمد بن الطيب السرخسي كان يقول: اللذات لحمانية: أكل اللحم، وركوب اللحم، وادخال اللحم في اللحم. يحيى بن عدي كان يقول: إن الطبيعة تمل الشيء الواحد فلذلك اتخذت الألوان والأطعمة، وأصناف الثياب، وأنواع الطيب، وفنون الأوتار، ورسم النقلة والتحول من مكان إلى مكان، والاستكثار من الإخوان، والتفنن في الآداب، والجمع بين الجد والهزل والزهد واللهو. علي بن ربن الطبري كان يقول: عليك بأربعة واجتنب ثلاثة؛ عليك بالدسم والحلاوة والحمام والطيب، واجتنب ثلاثة: الغبار والدخان والنتن. وكان يقول: الطبيب الجاهل مستحث الموت. إسحاق بن حنين قال: قليل الراح صديق الروح، وكثيرها عدو الجسم، قال صاحب الكتاب: اتفقت له هذه اللفظة الوجيزة الشريفة التي لم أسمع مثلها بين التجنيس والطباق والترصيع وصحة المعنى. بختيشوع بن جبريل قال للمأمون في كلام جرى بينهما: يا أمير المؤمنين، لا تجالس الثقلاء فإن مجالسة الثقلاء حمى الروح. وكان يقول: الشرب على الجوع رديء والأكل على الشبع أردأ منه. جبريل عد من كلامه: أربعة تهرم العمر: ادخال الطعام على الطعام قبل الانهضام، والشرب على الريق، ونكاح العجوز والتمتع في الحمام. تلميذ بختيشوع كان يقول: أربعة تغذي لا من أكل ولا من شرب: النظر إلى كل مليح، وشم كل رائحة طيبة، والنوم بعد الغداء، وافتراش الفراش الوطيء. وأربعة تضر البصر وتعود على النفس بالضرر: النظر إلى عين الشمس، ووجه العدو وإلى القتلى: والجرحى. يحيى بن ماسويه سئل عن الشر لا خير معه فقال: نكاح العجوز. أبو علي الصيمري قال: عرض لأبي علي بن يحيى الكاتب مرض شديد من الوحشة والضجر، وكان السبب فيه أن اللصوص نقبوا خزانته وفازوا بماله الكثير، فركد الهم على قلبه حتى كاد يوسوس. فأشار عليه الصيمري أني يصوغ إهليلجة من ذهب ويديم إمساكها في فيه فزال ما به وعاد إلى أحسن حالاته. فسئل الصيمري عن العلة فقال: إن للذهب خاصية في تقوية القلب ومسرة النفس. ثم أشار عليه باستعمال بيضة من العنبر وتقليبها والانتفاع بلطافتها وحسن أثرها على الدماغ والقلب. فتعجب الناس من هذا العلاج ولطافته. أبو أيوب الطبيب كان يقرأ القرآن فكان أغلب الأدعية على لسانه: اللهم اسقنا من رحمتك شربة تسهل علينا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم. ثابت بن قرة قال: ليس على الشيخ أضر من أن يكون له طباخ حاذق وجارية حسناء، لأنه يكثر من الطعام فيسقم، ومن النكاح فيهرم. وكان يقول: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة الروح في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام. المنيخي كان يقول: نومة بعد أكلةٍ خير من شرب دواء نافع. أبو الخير الخمار سئل عن وظيفته في كل يوم فقال: مرققة ومدققة ومليقة ومزوقة. عبدوس الخزاعي كان يقول: من لم يبتهج بالربيع ولم يستمتع بنعيمه ونسيمه ولم يتروح إلى أزهاره فهو فاسد المزاج محتاج إلى العلاج.

الباب الثامن: لطائف الجواري والنساء

زاد مهر جارية الفاروجي، كتب إليها عاشقها: عصمنا الله وإياك برحمته. فكتبت إليه: يا أحمق، إن استجيبت دعوتك لم نلتق أبداً. قبيحة جارية المتوكل كتبت على خاتمها: أنا قبيحة، فقدم الحاء قبل الباء!. سلمى بنت أيمن التميمية كانت من أحسن النساء وزوجها من أقبح الرجال، فقالت له يوماً: علمت أني أنا وأنت في الجنة. قال: ولم؟ قالت: لأني رزقت مثلك فصبرت ورزقت مثلي فشكرت، والصبور والشكور في الجنة.

وقيل لها: كيف تصبرين على قبحه وأنت من الحسن بحيث أنت؟ فقالت: أما إنه قد قدم حسنه عند الله، وأذنبت عنده ذنباً، فصيرني في ثوابه، وصيره في عقابي. ومثله: اشترى بعضهم جارية بديعة الحسن، وكان هو في غاية القباحة. فلما حصلت في داره نظر إليها فضحك ونظرت إليه فبكت. فقال لها كالمغضب: أنظر إليك فأضحك وتنظرين إلي فتبكين؟ فقالت: نعم نظرت إلى ما يسرك فضحكت، ونظرت إلى ما يسوؤني فبكيت. قراريط جارية أحمد بن سليمان قدمت إليه المائدة ونسيت الملح، فقال لها: أين الملح؟ فقالت: في وجهي. حسناء جارية المهدي، قال لها المهدي: نعم الفراش بطنك! فقالت: فلم لا تفترشه كل ليلة؟!. عمرة بنت بني زهرة مرت بقوم من بني نمير، فتأملوها جداً فقالت: يا بني نمير، لا قول الله أطعتم، ولا قول الشاعر اتبعتم، قال الله تعالى: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " وقال الشاعر: وافر فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلاباً رأى بعض الفقراء امرأة حسنة الوجه مسفرة في الطريق فقرأ " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " فقالت: يا بغيض تحشمني بالقرآن؟ تلك طوائف أخر غير مستحيات. قال رجل لمعشوقته: أعطيني خاتمك. فقالت: خاتمي من ذهب أخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود لعلك أن تعود. وكتب آخر إلى أخرى: طال العهد واشتد الوجد، فاستدركي رمقي بلسان تمضغينه وتجعلينه بين دينارين وتغذينه لأستشفي به. فكتبت إليه: امتثلت أمرك فتفضل برد الطبق والمكبة، وإن من الظرف رد الظرف! قالت قحبة لمساحقة: ما أطيب القثاء، يعني الذكر. قالت: إلا أنه ينفخ البطن، يعني يحبل!. وسأل الرشيد رحمه الله تعالى الفضل عن خبره في مبيته مع جواريه فقال: نعم يا أمير المؤمنين، كنت استلقيت على ظهري وعندي جاريتان مكية ومدنية وهما يغمزانني، فتناومت عليهما، فمدت المدنية يدها إلى ذلك الشيء حتى قام وقعدت عليه، فغالبتها المكية فقالت المدنية: أنا أحق به لأن مالك بن أنس حدثنا عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: " من أحيى أرضاً مواتاً فهي له " . قالت المكية: حدثنا معمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: " ليس الصيد لمن أثاره، إنما الصيد لمن صاده " . فضحك الرشيد وقال: هل تصفح عنهما؟ فقال: هما وسيدهما فداء نعل أمير المؤمنين. وأمر بإحضارهما وتسليمهما له. استعرض رجل جارية سوداء مليحة فقال لها: ما اسمك؟ قالت مكة. فقال: الله أكبر قد قرب الله الطريق، أفتأذنين في تقبيل الحجر الأسود؟ قالت: هيهات أن تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. كانت لمحمود الوراق جارية موصوفة بالجمال، فطلبت منه للمعتصم بعشرة آلاف دينار فأبى أن يبيعها. فلما مات محمود اشتريت من تركته بألف دينار فلما دخلت على المعتصم بالله قال لها: قد طلبناك بعشرة آلاف دينار فاشتريناك بألف دينار. فقالت: إذا كان مالك الأرض وخليفة الله ينتظر شهوته بالمواريث فكثير لمثلي مئة دينار!. فاستظرفها وعجب من جوابها وحظيت عنده. اقتراح رجل على مغنية هذا الصوت بسيط: سري وسرك لم يعلم به أحد ... إلا الإله وإلا أنت ثم أنا قالت: يا سيدي، والقوادة لا تنسها. حكى مطيع بن إياس قال: اطلعت على جاريتين تتساحقان، فرميت بنفسي على الفوقانية فأخذت في شأني، فقالت السفلانية: ما هذا؟ قالت الفوقانية: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " . جحظة البرمكي قدمت إليه الجارية المجمرة ولقت عليها مثلة من ند قال: فوضعتها تحتي، فوافق خروج ريح مني، قلت: ليست هذه المثلة بطيبة. فقالت: يا سيدي لأنك ربعتها.

فصل من كتاب الصاحب في ذكر الحنظلية الشاعرة

كانت بهمذان شاعرة ظريفة تعرف بالحنظلية فخطبها أبو علي كاتب بكر فلما ألح عليها وألحف كتبت إليه كلاماً معناه رجز مجزوء: أيرك أير ما له ... عند حري هذا فرج فاصرفه عن باب حري ... وادخله من حيث خرج قال صاحب الكتاب: هذه والله أشعر من كبشة أخت غيلان ذي الرمة، والخنساء أخت صخر، ومن جنوب الهذلية، وليلى الأخيلية. قال الباهلي: قلت لجارية سوداء: إن الحرارة فيكن أكثر! فقالت: إنما يعرف حرارة الحمام من دخله!. قال أبو العباس: اشتريت جارية مدنية ظريفة، فتناومت تحتي وأنا أقبلها وأبوسها وقالت: يا مولاي، أتحفظ قول أبي نواس سريع: حدثنا عن بعض أشياخه ... أبو بلال شيخنا عن شريك لا يشتفي العاشق مما به ... بالضم والتقبيل حتى ينيك فقلت: لست أحفظه ولكن أمتثل قول شريك فإنه من مشايخنا!! الجاحظ قال: استعرضت جارية فقلت لها: تحسنين تضربين بالعود فقال: لا ولكني أحسن أن أقعد عليه!. استعرض رجل جارية فقال: أشتهي أن أشتريك. قالت: يا مولاي إن اشتهيت أن تنيك!. المازني: سأل رجل جارية بالبصرة جميلة سرية من الجواري: في يديك عمل؟ قال: لا ولكن في رجلي. المأمون استعرض جارية فأعجبته فقال: هي للحاجة لولا عوج رجليها. فقالت: يا أمير المؤمنين، إنهما وراءك ولن يضراك. فاستحسن كلامها وأمر بشرائها.

الباب التاسع: المغنين والمطربين

إسحاق الموصلي سأله المعتصم عن معرفة النغم كيف يميز بينها على تشابهها واختلافها فقال: يا أمير المؤمنين، إن من الأشياء ما تحيط به المعرفة ولا تؤديه الصفة. وكان يقول: حق الصوت الحسن أن يردف أربعاً: فالأول للبديهة، والثاني للفهم، والثالث لفرح، والرابع للسمع. إبراهيم بن المهدي وصف مغنياً فقال: لغنائه في القلب موقع القطر من الجدب. ووصف آخر فقال: القلوب في غنائه على خطر فكيف الجيوب؟ زنام الزامر قال له المتوكل: تأهب للخروج معنا إلى الشام فقال: الناي في كفي والريح في فمي فاعزم. جحظة البرمكي قال: كان الباطقاني يستطيب غنائي ويكثر من قوله: أحسنت والله أنت، فلا أخلى الله منك، فقلت فيه خفيف: لي صديق يحب قولي وشدوي ... وله عند ذاك وجه صفيق إن تغنيت قال أحسنت زدني ... وبأحسنت لا يباع الدقيق قال: ودعاني بعض الرؤساء فلما صرت إلى بابه قيل إنه قد ركب فكتبت إليه بسيط مخلع: يا من دعاني ففر عني ... أخلفت والله حسن ظني ؟قد كنت أرضى بخبز بر وكامخ وقليل جبن وزكرة من نبيذ تمر ... أقام دهراً بقعر دن وليس يغلو بما ذكرنا ... محدث شاعر مغن ؟ فصل في لطائف غرر

تنخرط في هذا السلك من هذا الكتاب قال زرقان المتكلم: قد اختلف الناس في السماع فأباحه قوم وحذره الآخرون. وأنا أخالف الفريقين وأقول أنه واجب لكثرة منافعه وحاجة النفوس إليه واستمتاعها به. حضر طرخان المغني مجلس أنس فغناهم ساعة ثم سقوه ولم يطعموه فغنى متقارب: خليلي داويتما ظاهرا ... فمن ذا يداوي جوى باطنا فصل في تفضيل المطرب على الطبيب

قال صاحب الكتاب: قال لي الأمير أبو المظفر ناصر الدين: هل سمعت ما يقول أبو علي الكوسج في الطبيب والمطرب؟ قلت: لا وأيد الله الأمير. قال: فإنه يقول: ما على ظهرها أسوأ حالاً من الطبيب، ولا أنعم بالاً من المطرب، لأن الطبيب يغدو كل يوم إلى الأوجاع والأسقام، وينظر إلى القاذورات والجراحات، وإذا مات المريض يتطير منه ويتشاءم به، وربما يتهم بسم الملوك فيكون فيه إراقة دمه. والمطرب يدعى إلى مجالس اللهو والأنس والطرب ومواضع الخير والنعمة، يكرم مثواه ويحسن مرآه، ويعطى ويبر ويخلع عليه، فينقلب إلى أهله مسروراً طيب النفس ضاحك السن راضياً في الدهر، ثم يحمل على الأذقان، ويحده بتساوي النعم يوم وغد، ويقع تحت قول الأول طويل: هل العيش إلا ليلة طرحت بنا ... أواخرها في يوم لهو معجل وللسري الرفاء الموصلي طويل: إذا ما مضى يومٌ من الدهر صالح ... فصله بيوم صالح العيش من غد

الباب العاشر: لطائف الفضلاء والظرفاء من كل فن وطبقة

قال بعضهم في كلام دار بينه وبين الوليد بن يزيد: والله ما شرب الناس على أحسن من وجه السماء، ونسيم الهواء، وسعة الفضاء، وخضرة الكلاء، وخرير الماء. علي بن عبيدة الريحاني، قال الجاحظ: دخلت عليه أعوده فقلت له: ما تشتكي يا أبا الحسن؟ فقال: أعين الرقباء، وألسن الوشاة، وأكباد الحساد. ودخل عليه صديق له من قطيعة الربيع، فعاتبه على انقطاعه عنه طويلاً ثم قال: يا عجباه أعاتبك على القطيعة وأنت من أهل القطيعة!. وجمعه مجلس وقينة يهواها، وأذن الظهر، فقيل له: قد زالت الشمس، فقال: أما شمسي فلم تزل. أبو شراعة العتبي نظر في المرآة فرأى دمامة وجهه فقال: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه. ابن عائشة القرشي قال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإن موسى عليه السلام ذهب ليقتبس النار فكلمه الملك الجبار!. إبراهيم بن السندي، قال الجاحظ: سمعت إبراهيم يقول: قلت في أيام ولايتي الكوفة لرجل من أبنائها، لم أر أكرم ولا أظرف منه، وكان لا تجف لبده ولا تسكن حركته ولا يستريح قلمه من أغاثه الملهوف وإعانة المكروب: ما الذي هون عندك هذا الأمر وقواك على هذا التعب؟ قال: سمعت تغريد الأطيار، وتجاوب المزمار والأوتار، فلم أطرب كطربي لثناء حسن على محسن فقلت: أحسنت ولله أنت! فلقد حشيت كرماً كما ملئت ظرفا. سعيد بن سالم شكا إليه مؤدب ولده إياه وقال: إنه يتشاغل عن الأدب بالتعاشق. فقال: دعه فإنه يلطف وينصف ويظرف. محمد بن موسى الهاشمي بلغه أن عمر بن فرج السرخسي عتب عليه وتنكد به ، فطرقه ليلاً فاعتذر إليه حتى رضي عنه، فلما قام لينصرف قال: خذوا الشمعة بين يديه. فقال: دعني يا سيدي حتى أمشي في ضوء رضاك. فقال: كلامك هذا حل العقد الباقية من سخطي عليك! يحيى بن زياد الحارثي قال: قال مطيع بن إياس: إن في النبيذ لمعنى من الجنة، لأن الله تعالى حكى عنهم بالحمد لله الذي أذهب عنا الحزن والنبيذ يذهب الحزن. أبو الحارث جميز كان يقول: لو كان النبي كنزاً ما ورد في القرآن موضع سجدة. وقيل له: أما يكسوك فلان؟ فقال: لو جاء يعقوب والأنبياء شفعاء والملائكة ضمناء يستعير منه إبرة يخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر لما أعارها فكيف يكسوني. وقيل له في أوائل الشتاء: استوى الغني والفقير في الماء البارد. فقال: نعم ولكنهم لم يستووا في الماء الحار. أبو عبد الله بن الجماز قال: شممت مرة في دار فلان رائحة أطيب من رائحة العروس في أنف العاشق الشيق. وقال في دعوة: أتينا بمائدة أحسن من زمن البرامكة على العفاة. وكان يقول: لا يقوى على الصوم إلا من طاب أدمه وطال تلقمه ودامت نعمه. مزبد المدني سمع ضجيج الناس في يوم كسوف وريح عاصف وغبرة منكرة وقولهم: القيامة. فقال: ويحكم هذه قيامة على الريق، أين دابة الأرض؟ أين الدجال؟ أين نزول عيسى عليه السلام؟ أين طلوع الشمس من المغرب؟ أشهد أن هذه قيامة باردة. الحسن بن جميل عزله ابن مدبر عن مصر، فأشير عليه بمدحه، فقال: إنه لم يطعمني في عرس مصر فيطعمني في طلاقها. وتعشى ليلة عند صديق له، وخرج ويده زهمة إلى المنزل فقال: لأن أنصرف بها غمرةً إلى المنزل أحب إلي من أن أنصرف بها نظيفة إلى السجن. أحمد بن سليمان بن وهب كان يقول: أطيب الأصوات صوت المعشوق، وصوت مؤذن بالري والنعماء، ثم تجاوب الهزار على الأوتار والمزمار. وكان يقول: الرفق محمود إلا في أربعة مواضع: أكل الرمان والبطيخ وشرب الفقاع وفي البضاع. أبو عمر غلام ثعلب كان يقول: لم يكمل المرء حتى يقرأ صرف أبي عمرو، ويتفقه على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ويروي شعر ابن المعتز، ويلعب بالشطرنج. محمود بن داود الأصبهاني كان يقول: نزاع النفس أهون من نزاع الشوق وقطع الأوصال أهون من قطع الوصال. يحيى بن معاذ زار علويا فقال: إن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك فلفضلك، فلك الفضل زائراً ومزوراً. أبو المعالي الصوفي صاحب ابن المعتز، سمع أذاناً كريهاً فقال: هذا أذان يؤذي الآذان. أبو القاسم الصوفي نديم عضد الدولة سئل يوماً عما يقترحه فقيل له: ما الذي يشتهيه الأستاذ لخاص طعامه؟ فقال: الشهيد ابن الشهيد، والشيخ الطبري في الرداء العسكري، وقبور الشهداء. فقال: عنيت الحمل والأرز باللبن والقطايف. محمد بن أبي السيار وصف دعوة صديق له فقال: أتانا بأرغفة كالبدور متقطعة كالنجوم، وملح كالكافور السحيق، وخل كذوب العقيق، ونقل أهش من خضرة الشارب على المرد الملاح، وحمل له من الفضة جسم ومن الذهب بشر، وقلية أحمص من صنيع الذل في بلد الغربة، وأرزة ملبونة وفي السكر مدفونة، وخبيص أحلى من العافية وحسن العاقبة. وجاءنا غلام بشراب أحسن منه ذكره، ألطف منه وجهه، وأصفى منه وده، وأرق منه لطفه، وأذكى منه عرفه، وأعذب منه خلقه، وأطيب منه قربه. الرضي أبو الحسن الموسوي النقيب كان يقول: من هوان الدنيا على الله تعالى أن أخرج نفائسها من خسائسها، وأطايبها من خبائثها، فأخرج الذهب والفضة من حجارة، والمسك من فارة، والعنبر من ورث دابة، والعسل من ذبابة، والخز من كلبة، والديباج من دودة، والقصب من حشيشة والإنسان من نطفة، " فتبارك الله أحسن الخالقين " .

ابن حمدون النديم سأله المعتصم عن صيام العليل الذي يقدر على الجماع، فقال: لا يرخص له في الإفطار فدع ما سواه. علي بن حمزة بن عمارة الأصبهاني، كان أبوه حمزة من مياسير أصبهان، وكان مقتراً عليه ما يعطيه إلا القوت، وكان علي يستدين على موته، فلما مات كان يقول: فديت من أحياني بموته. بعضهم يقول: قولي لعذولي: أعزه الله، إنما مرادي أن يعزه الله من الدنيا حتى لا يوجد فيها.

الباب الحادي عشر: لطائف الشعراء نثرا

قال محمد بن جعفر لابن الأشعث في دار المهدي: يا شيخ، ما صناعتك؟ قال: ثقب الدر، يعني افتضاض الأبكار. وقيل له: أي شيء عندك من متاع الدنيا آثر؟ قال طعام حر، وشراب قر، وبنت عشرين بكر. أبو نواس الإمام في الباطل، دخل كرماً فرأى حصرماً، فاستقبل القبلة وقال: اللهم سود وجهه، واقطع حلقه، واسقني دمه! وكان يقول: تزودوا من لذة الدنيا لذة توجد في الجنة، يعني إتيان المحظي لأن أهل الجنة جرد مرد. ولما قال للفضل قصيدته التي يقول فيها طويل: سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا قال الفضل: ما زدت على أن جعلتني قواداً!. فقال: أصلحك الله، إنه جمع بفضل لا جمع بوصل. وسأل يوماً عن غلام مر به فاستشرفه فقيل له: إنه فاسد. فقال: فساده صلاحي. عبد الصمد بن المعذل، ذكر يوماً العافية فقال: أي غطاء وأي وطاء. ووصف السحاب المدلج فقال: ليست السماء حباتها وتنفست الصعداء. ومر أحمد بن المعذل ليلاً بغرفته وهو فيها يعزف ويقصف، فوقف ونادى بأعلى صوته " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون " فاطلع عبد الصمد وقال: " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " . وكان أحمد بن المعذل مر عليه النساك الجعيني وقد خضب لحيته وترك فيها شعرات بيضاً يوهم أن الشيب أول ما وخطه، فقال له: ما هذا؟ فقال: غش الغش. رؤبة بن العجاج سأله سليمان بن داود عن حالة متاعه فقال: يمتد ويشتد، وأستعين عليه باليد فيرتد! فقال سليمان: بودي أن هذه صفة ما عندك. العتابي قيل له: رأيناك تكلم فلاناً فتتلجلج. فقال: لأن معه ذل السؤال وخوف الردى. وقال للمأمون: لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك. مروان بن أبي حفصة رأى رجلاً يصلي صلاة خفيفة، فقال له: يا هذا صلاتك رجز! حماد عجرد أهدى إلى مطيع بن إياس غلاماً وكتب معه: قد أهديت لك من يتعلم وعليك كظم الغيظ. البحتري سمع منشداً يقول شعراً رمل مجزوء: ومغن يتغنى ... بطعام وشراب فإذا رمنا سكوتاً ... فبمال وثياب فقال: فذاك صاحب الفيل: يركب بدانق وينزل بدرهم!. وسمعه ابن المدبر يوماً يقول: الشكر يديم النعم وقال: والله يا أبا عبادة هذا أحسن من قصيدة غبراء. علي بن الجهم مر به يسأله ويلحف ويقول: واسونا. فقال: إن واسيناكم ساويناكم. وكان يقول: الهدية السحر الأكبر. أبو يعقوب الخريمي قدمت إليه سكباجة كثيرة العظام فقال: هذه شطر نجية. وأتبعت بفالوذجة قليلة الحلاوة فقال: عملت هذه قبل أن يوحي ربك إلى النحل!. جحظة البرمكي سئل عن دعوة حضرها فقال: كل شيء كان فيها بارداً إلا الماء. وكتب إلى المعتز وقد منعه توالي المطر عن خدمته: كنت على أن أجيب داعي الأمير فانقطع شريان الغيم فقطعني عن خدمته، فكتب إليه المعتز: إن فاتني السرور برؤيتك لم يفتني الأنس برقعتك.

فصل في نهاية الظرف أختم به هذا الكتاب

قال الصاحب: ثلاثة أخجلوني بجوابك في نهاية الحسن. منهم أبو الحسن البديهي إذ كان عندي في نفر من جلسائي بأصفهان، فقدمت إلينا أطباق الفواكه فأكب عليها البديهي وأمعن، وكان فيها من المشمش الأصبهاني ما يفوق على الرطب حسناً وطيباً، فقلت في عرض حديث جرى معهم: إن المشمش ليلطخ المعدة. فقال: لا يعجبني المضيف إذا تطبب!. ومنهم أبو الحسن الثريدي فإنه قال لي يوماً وقد انصرفت من الدار السلطانية في غير طريقي، وأنا ضجر من شيء عرض لي فشغل فكري، فقال: من أين أقبل مولانا؟ فقلت: من لعنة الله! فقال: رد الله غربتك!. فأحسن الشاب على إساءة الأدب. والثالث أبو الحسن المافروخي في أيام حداثته وسلطان ملاحته، فإني داعبته بقولي: رأيتك تحتي!. فقال على لسان دالته: مع ثلاثة مثلي!. فأخجلني وقطعني.

الباب الثاني عشر: لطائف الشعراء نظما

ً من ظرف امرئ القيس وعجيب شأنه أنه قال في الجاهلية بيتاً جاء فيه بشرائط الجنة مع أنه لا يعرفها، شعر طويل: ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل ينعمن ما كان في العصر الخالي وهل ينعمن إلا سعيدٌ مخلدٌ ... قليل هموم ما يبيت بأوجال فذكر السعادة التي تجمع خير الدارين، ثم الخلود الذي هو أحسن أحوال أهل الجنة، ثم ذكر قلة الهموم التي هي أجل الرغائب، ثم ذكر الأمن الذي هو أنفس المواهب، ولا مزيد على هذه الأربعة. بشار بن برد من ظريف شعره خفيف: أنا والله أشتهي سحر عيني؟ ... ؟ه وأخشى مصارع العشاق ولم أسمع في عشق الآذان أحسن من قوله ولا أظرف بسيط: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا عبد الملك بن عبد الرحيم أحسن الإفصاح عن هذا البيت وأرسله مثلاً طويل: وما زرتكم عمداً ولكن ذا الهوى ... إلى حيث يهوى القلب تسعى به الرجل قال عمر بن شبة: كان سفيان بن عيينة مع زهده وورعه مولعاً بشعر أبي نواس فقال يوماً: أحسن أبو نواس والله في قوله وأبدع وأملح سريع: بصرت ظبياً حل في مأتم ... يندب شجواً بين أتراب يبكي فيذري الدمع من نرجس ... ويلطم الورد بعناب ومن شعره قوله رجز مجزوء: أربعة مذهبةٌ ... لكل هم وحزن يحيا بها عينٌ ورو ... حٌ وفؤادٌ وبدن الماء والقهوة وال؟ ... ؟بستان والوجه الحسن وسئل عن أعظم خمرياته فأشار إلى قوله خفيف: اسقنا إن يومنا يوم رام ... ولرام فضلٌ على الأيام من شراب ألذ من نظر المع؟ ... شوق في وجه عاشق بابتسام لا غليظ تنبو الطبيعة عنه ... نبوة السمع عن شنيع الكلام أبو العتاهية، كان الجاحظ يقول في قوله رجز: ؟إن الشباب حجة التصابي ... روائح الجنة في الشباب يعني: كمغنى الطرب الذي ترتاح له القلوب ولا تقدر على وصفه الألسن. ؟ فصل في الذين حصروا أشعارهم على الغزل

وجعلوه في نهاية الظرف لا يشوبونه بغيره

العباس بن الأحنف بسيط: نزوركم لا نكافيكم بجفوتكم ... إن المحب إذا لم يستزر زارا يقرب الشوق دارا وهي نازحة ... من عالج الشوق لم يستبعد الدارا أبو حفص الشطرنجي قد أبدع وأملح في جارية سوداء سريع: أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده لا شك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحده أبو عيينة المهلبي بسيط: جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالروح في غربة والجسم في وطن فليعجب الناس مني أن لي بدنالا روح فيه ولي روح بلا بدن وقال أيضاً طويل: أرى عهدكم كالورد ليس بدائم ... فلا خير فيمن لا يدوم له عهد وعهدي بكم كالآس حسناً وخضرة ... له بهجة تبقى إذا فني الورد المؤمل بن أميل المحاربي له هذا البيت السائر الذي يتمثل به بسيط: إذا مرضتم أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر لا تحسبوني غنياً عن مودتكم ... إني إليكم وإن أيسرت مفتقر ابن عائشة القرشي أحد الظرفاء، قد أجاد في قوله رمل: لا ترعني بفراق وبعد ... أنا راض بفراق وبصد أنت كل الناس عندي فإذا ... غبت عن عيني فلم أنظر أحد كشاجم أبدع في قوله بسيط: عهدي بنا ورداء الوصل يجمعنا ... والليل أطول كاللمح بالبصر فالآن ليلي مذ غابوا فديتهم ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر ولغيره مدحة متقارب: أبا طلعة القمر الزاهر ... ويا قامة الغصن الناضر ويا غائباً حاضراً في الفؤاد ... سلاماً على الغائب الحاضر دعبل بن علي في حسن العهد بسيط: وإن أولى البرايا أن تواسيه ... عند المسرة من واساك بالحزن إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن أبو تمام في تحسين الحجاب بسيط: ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً ... إن السماء ترجى حين تحتجب وله أيضاً في المديح بسيط: لو أن أجماعنا في وصف سؤدده ... في الدين لم يختلف في الدين إثنان أبو علي البصير خفيف: لي صديق في خلقة الشيطان ... وعقول النساء والصبيان من تظنونه؟ فقالوا جميعاً: ... ليس هذا إلا أبو هفان أحمد بن يوسف ظرف في قوله في الإهداء للمأمون طويل: على العبد نذرٌ فهو لا شك فاعله ... وإن عظم المولى وجلت فضائله ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله أبو الفتح البستي بسيط: لا تنكرن إذا أهديت نحوك من ... علومك الغر أو آدابك النتفا وأحسن الحسن بن سهل يعتذر إلى محمد بن عبد الملك الزيات خفيف: أوجب العذر في تراخي اللقاء ... ما توالى من هذه الأنواء لست أدري ماذا أقول وأشكو ... من سماء تعوقني عن سماء غير أني أدعو على تلك بالثك؟ ... لِ وأدعو لهذه بالبقاء العطوي في اختيار التقديم طويل: يقولون قبل الدار جار موافق ... وقبل طريق القوم كيس رفيق فقلت وندمان الفتى قبل كأسه ... فما حث كأس المرء مثل صديق عوف الشيباني أحسن في التعريض بالصمم، بقوله لعبد الله بن طاهر، شعر سريع: يا بن الذي دان له المشرقان ... وألبس العدل به المغربان إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان قوله: وبلغتها، حشو أحسن من معنى البيت، ولقبه الصاحب بحشو اللوزينج. ابن المعتز كامل: أهلاً بفطر قد أتاك هلاله ... الآن فاغد إلى الشراب وبكر وانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر وله أيضاً خفيف: اسقني الراح في شباب النهار ... وأنف همي بالخندريس العقار قد تولت زهر النجوم وقد بش؟ ... ر بالصبح طائر الأزهار وكأن الربيع يجلو عروساً ... وكأنا في نوره من نثار وله أيضاً متقارب: وخمارة من بنات الهيود ... ترى الدن في بيتها مائلا وزنا لها ذهباً جامداً ... فكالت لنا ذهباً سائلا وله أيضاً في الريح اللينة بسيط: والريح تجذب أطراف الرداء كما ... أفضى الشقيق إلى تنبيه وسنان وله أيضاً سريع: ظبي يتيه بحسن صورته ... عبث الفتور بلحظ مقلته فكأن عقرب صدغه وقفت ... لما دنت من نار وجنته وله في غلام قد شرب سريع: ومهفهف كالغصن ذي ميل ... مازحته فاحمر من خجل لما شممت الخمر من فمه ... وفيته حداً من القبل عبد الله بن طاهر وقد تقدم طويل: سقتني في ليلٍ شبيهٍ بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب فما زلت في ليلين شعرٍ وظلمةٍ ... وشمسين من كأس ووجه حبيب ابن طباطبا كامل: نفسي الفداء لغائب عن ناظري ... ومحله في القلب دون حجابه لولا تمتع مقلتي بقدومه ... لوهبتها لمبشري بلقائه وله أيضاً طويل: وفي خمسةٍ مني حلت منك خمسةٌ ... فريقك منها في فمي أطيب الرشف ووجهك في عيني ولمسك في يدي ... ونطقك في سمعي وعرفك في أنفي وله أيضاً بسيط مخلع: طال اشتياقي وأنت عندي ... في سورة قد نعمت بالا مللت لما أطلت مكثي ... وسمت غلمانك الملالا فقال لي خادم شريف ... أتيته الآن؟ قلت: لا لا دعني فإني أنام أيضاً ... لعلنا نلتقي حلالا وله في علي الوسمي وقد هدم جانباً من سور أصفهان، شعر طويل:

وقد كان ذو القرنين يبني مدينة ... فأصبح ذو القرنين يهدم ما بنى كشاجم حيث يقول كامل: بأبي وأمي زائر متقنع ... لم يخف ضوء البدر تحت قناعه لم أستتم عناقه لقدومه ... حتى ابتدأت عناقه لوداعه قال صاحب الكتاب: قال لي الخوارزمي: أحفظ في هجاء المغنين ما ينيف على ألف بيت، لم أسمع أطرف من قول كشاجم رمل مجزوء: ومغن بارد النغ؟ ... مة مختل اليدين ما رآه أحد في ... دار قوم مرتين جحظة البرمكي كامل مجزوء: وإذا جفاني جاهل ... لم أستجر ما عشت قطعه وتركته مثل القبو ... ر أزوره في كل جمعه وله سريع: أنت امرؤٌ شكري له واجب ... ولم أكن قصرت في واجبه وكيف لا أشكر من لا أرى ... في منزلي إلا الذي جاد به ابن بسام من لطائف قلائده متقارب: بلوت أبا جعفر مرةً ... فألفيت منه ثقيلاً سخيفاً فلولا الضرورة لم آته ... وعند الضرورة نأتي الكنيفا وله في زائر خلع عليه كامل مجزوء: خلعوا عليه وميزوه ... وزينوه بكل رفعه وكذاك يفعل بالجزو ... ر لنحره في كل جمعه القاضي أبو القاسم التنوخي طويل: رضاك شباب ما عليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه طبيب كأنك في كل النفوس مركب ... فأنت إلى كل النفوس حبيب ابنه أبو علي طويل: خرجنا لنستسقي بيمن دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يلحق الأرضا فلما بدا يدعو تقشعت السما ... فلما تم إلا والغمام قد انفضا ابن لنكك البصري رمل: يا زماناً ألبس الأح؟؟ ... رار ذلاً ومهانه لست عندي بزمان ... إنما أنت زمانه وله في أبي رياش التمامي وافر: يطير إلى الطعام أبو رياش ... مبادرة ولو واراه قبر أصابعه إلى الحلواء صفر ... ولكن الأخادع منه حمر أبو الفتح نديم سيف الدولة بسيط: قم فاسقني بين خفق الناي والعود ... ولا تبع طيب موجود بمفقود نحن الشهود وخفق العود خاطبنا ... نزوج ابن سحاب بنت عنقود المتنبي بسيط: قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... واليوم كل عزيز بعدكم هانا وله بسيط: أزورهم وظلام الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي أبو العشائر الحمداني كامل: للعبد مسألة أريد جوابها ... إن كنت تذكره فهذا وقته ما بال ريقك ليس ملحاً طعمه ... ويزيدني عطشاً إذا ما ذقته أبو الفرج بن سلامة سريع: من سره العيد فما سرني ... بل زاد في همي وأشجاني لأنه فكرني ما مضى ... من عهد أحبابي وإخواني أبو الفرج الببغاء كامل: أوليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته وحييت بعد فراقه يا من يحاكي البدر عند تمامه ... ارحم فتى يحكيه عند محاقه وله أيضاً كامل: ومهفهف لما اكتست وجناته ... حلل الملاحة طرزت بعذاره لما انتصرت على أليم جفائه ... بالقلب كان القلب من أنصاره أبو الفرج الوأواء الدمشقي في سيف الدولة منسرح: من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شيئين أنت إذا جدت ضاحكاً أبداً ... وذاك إن جاد باكي العين أبو محمد المهلبي وافر: أراني الله وجهك كل يوم ... صباحاً للمساء مع السرور وأمتع مقلتي بناظريه ... لأقرا الحسن في تلك السطور وله في خادم مطرب خفيف: يا هلالاً يبدو فيزداد شوقي ... وهزاراً يشدو فيشتد عشقي زعم الناس أن رقك ملكي ... كذب الناس أنت مالك رقي ابن العميد كامل: قامت تظللني من الشمس ... نفس أعز علي من نفسي قامت تظللني فوا عجبا ... شمس تظللني من الشمس ابنه أبو الفتح ذو الكفايتين متقارب:

دعوت العلا ودعوت الندى ... فما أجاب دعوت الفرح وقلت لأيام شرخ الشباب ... إلي فهذا زمان الفرح إذا المرء أدرك آماله ... فليس له بعدها مقترح الصاحب سريع: قل لأبي أحمد هنيته ... هنيت ما أعطيت مليته كل جمال فائق آنق ... أنت برغم البدر أوتيته أبو العباس الضبي كامل: ومهفهف قال الإله لحسنه ... كن جامعاً للطيبات فكأنه زعم البنفسج أنه كعذاره ... حسناً فسلوا من قفاه لسانه وله كامل مجزوء: لا تركنن إلى الفرا ... ق فإنه مر المذاق فالشمس عند غروبها ... تصغر من ألم الفراق أبو القاسم بن أبي العلاء الأصفهاني رمل مجزوء: قلت للنزلة زولي ... وانزلي غير لهاتي واتركي حلقي بحقي ... فهو دهليز حياتي ابن سكرة الهاشمي رجز مجزوء: أصبحت صباً دنفاً ... بين عناءٍ وكمد أعوذ من شر الهوى ... بقل هو الله أحد وله كامل: ورد البشير بما لا أقر الأعينا ... وشفى النفوس فتلك غايات المنى وتقاسم الناس المسرة بينهم ... قسماً فكان أجلهم حظاً أنا الخوارزمي سريع: يا طالباً روحي ليبتاعها ... أنت رسول الهم والحسره غدوت بالبدرة فارجع بها ... لسنا نبيع البدر بالبدره خسرو فيروز بن ركن الدولة وافر: ولما أن تنفس صبح شيبي ... طوى عني رداء الليل طيا وولت منيتي عني فراراً ... ترى وصلي لدى الفتيات غيا فقلت عذرت يا سؤلي فقالت ... وهل تبقى مع الصبح الثريا أبو الوفاء الكاتب وافر: سقى الله الصبا صوب الدموع ... وأيام الحمى غيث الربيع سني طويتها شهراً فشهراً ... ولم أعرف جمادى من ربيع الفاضل أبو سعيد بن دوست رجز مجزوء: يفتل من عذاره ... ألف عذار ورسن وكان دهراً حسناً ... فصار تصحيف حسن أبو العلاء بن حبولة الكاتب وافر: أتاني بغتة من غير وعدٍ ... كذاك البدر موعده الأصيل كحيل الطرف ذو لطف خفي ... كأن عذاره أيضاً كحيل النظام الجزرجي وافر: سألتك أيها الأستاذ حاجه ... ولا شططا أروم ولا لجاجه فقمت ببعضها وتركت بعضاً ... ومن حق المقصر .... فإن أشكر ففي شكري نفاقٌ ... وإن أذمم ففي ذمي سماجه جزاك الله عني نصف خير ... لأنك قد مننت بنصف حاجه الشيخ العميد أبو سهل الحمدوني، أخرت ذكره على الرسم في تقديم القواد والجند في المواكل، ولأن الحلوى يؤخر تقديمها على الموائد، ولذلك قد ساد النبي كل الأنام وكان آخر مرسل. وأقول: هو أدام الله تمكينه سليل الرئاسة وغذي السياسة، وعمدة السلطان وغرة الزمان، وبدر الأرض وشمس الفضل وظرف الكرم. وربما يقول شعراً يصدر عن طبعه الشريف وفضله العميم، كقوله في سراج غير مضيئة بسيط مخلع: وظلمة الليل يا سراجي ... ظلمة كفر ويأس راجي وكقوله في الحكمة والموعظة الحسنة شعراً كامل مجزوء: الخمر عنوان الفساد ... ورتاج أبواب السداد إدمانه أصل الضلا ... ل وحبه رأس العناد قد ضل من ركب الفسا ... د عن الطريقة والرشاد فاحذر أبا سهل وتب ... من قبل ميعاد المعاد والبس ثياب تضرع ... وتندم قبل التناد تمت هذه اللطائف والظرائف، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وسلم. ويتلوه رسالة الطيف بهاء الدين علي الأربلي، عفا الله تعالى عنه بمنه.