اللغة العربية كائن حي/اللغة العربية وحدها

​اللغة العربية كائن حي​ المؤلف جورجي زيدان


على أننا لو اقتصرنا على مراجعة المعجمات العربية وحدها، لاتضح لنا هذا الناموس بأجلى بيان.. اذ نرى للمادة الواحدة او اللفظ الواحد عدة معان متفرعة من معنى واحد، ثم يتنوع المعنى على مقتضيات الأحوال. ولا نحتاج في اثبات ذلك الى ايراد الشواهد لأنه بديهي، وانما يحسن بنا أن نشير الى اسباب ذلك التنوع وهي كثيرة، وقد ذكرنا بعضها فيما تقدّم من الكلام في مقابلة الالفاظ العربية بألفاظ أخواتها، كاشتقاق معنى الملح من البحر، ومعنى الثلج من البياض، وغير ذلك مما بينه تناسب في المعنى. وقد تكتسب الكلمة معنى جديدا من عادة او عقيدة، مثل قولهم: "بنى على أهله أو بأهله" بمعنى تزوّج. وليس في أصل فعل البناء هذا المعنى، وانما اكتسبه من عادة كانت جارية عند العرب، وهي ان الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة الزفاف. ومن هذا القبيل تحوَّل معنى القمر الى الشهر، لأنهم كانوا يوقّتون بالقمر.
ومن أسباب زيادة النمو في اللغة العربية غير النحت ولابدال والقلب، التصحيف وهو تبديل بين الحروف المتشابهة شكلا كالباء والتاء والثاء والنون والياء، أو الجيم والخاء، أو الدال والذال، أو الراء والزاي، أو السين والشين، وقس عليه..
فمن أمثلة ما ورد بمعنى واحد وسببه التصحيف، قولهم رجل صلب وصلت، والدبر والدير، والكرت والكرب، ورغات ورغاب، والجلجلةوالحلحلة، وجاض وحاص، والنافجة والنافخة، وهو كثير.. وقد ذكر منه علماء اللغة مئات. والغالب أن ذلك التصحيف لم يحدث الا بعد تدوين اللغة، لأنه خطأ بقراءة الخطوط.
ومما اختصت به لغة العرب من نتائج هذا النمو، ورود الألفاظ الكثيرة للمعنى الواحد.. فعندهم للسنة 24اسما، وللنور 21اسما، وللظلام 25اسما، وللشمس 29اسما، وللسحاب 50اسما، وللمطر 84اسما، وللبئر 88اسما، وللماء 170اسما، وللبن 12اسما، وللعسل نحو ذلك، وللخمر 100اسم، وللأسد 350اسما، وللحيّة 100اسم، ومثل ذلك للجمل. أما الناقة فأسماؤها 255اسما.. وقس على ذلك أسماء: الثور، والفرس، والحمار، وغيرها من الحيوانات التي كانت مألوفة عند العرب، وأسماء الأسلحة: كالسيف، والرمح، وغيرها. ناهيك بمترادف الصفات، فعندهم للطويل 91لفظا، وللقصير 160لفظا، ونحو ذلك للشجاع، والكريم، والبخيل، مما يضيق المقام عن استيفائه.
ومن خصائص اللغة العربية أسماء الأضداد، فإن فيها مئات من الألفاظ يدل كل منها على معنيين متضادين: مثل قولهم "قعد" للقيام والجلوس و"نضح" للعطش والري و"ذاب" للسيولة والجمود و"أفسد" للاسراع والابطاء و"اقوى" للافتقار او الاستغناء.
ومن خصائصها أيضا، دلالة اللفظ الواحد على معان كثيرة.. فمن ألفاظها نيف ومائتا لفظ يدل كل منها على ثلاثة معان.. ونيف مائة لفظ يدل الواحد منها على اربعة، وكذلك التي تدل على خمسة معان. وقس على ذلك ما يدل على ستة معان، فسبعة فثمانية فتسعة الى خمسة وعشرين معنى، كالحميم، والفن، والطيس. ومما تزيد مدلولاته على ذلك "الخال" فإنها تدل على 27معنى، وللفظ "العين" 35معنى، وللفظ "العجوز" 60معنى.
فتكاثر المترادفات والاضداد ودلالة اللفظ الواحد على معان كثيرة، لا يحدث الا من تفرّع ألفاظ اللغة ومعانيها بالنمو والتجدد وتكاثر الدخيل. وبالطبع لم يتكون للشيء الواحد 100اسم أو 200اسم الا بتوالي الاجيال.. وأحدث تلك الالفاظ أكثرها استعمالا، وأقدمها أقربها الى الاهمال.