المدينة المسحورة (1946)/الليلة التاسعة


فلما كانت الليلة التاسعة قالت :

كانت الشمس – يا مولاي – قد آذنت بالشروق حينا وصلت الساحرة تيتى ومعها الفتاة الراعية ، فانتحت الساحرة جانبا ، وأوقدت النار في مجمرة صغيرة ، وألقت فيها بالبخور ، وأخذت تتلو التعاويذ ، وقد بدا على ملامحها فرح وحشى وجحظت عيناها الغائرتان ، وانتفضت جوارحها في حركات تشنجية ، والفتاة واقفة خلفها تفرك يديها في انتظار المعجزة التي ترد إليها حبيبها ، كما قالت لها الساحرة . وكانت المدينة تتهيأ من الداخل لاستقبال البطل الذي أنقذها ، واستقبال الأفراح التي تنتظرها ، وكان القصر الملكي يستعد لاستقبال المنقذ العريس . أما الأميرة فكانت قد قضت شطراً طويلا من الليل ساهرة ترتقب مطلع الصبح البهيج ، ذلك الصبح الذي تلتقى فيه يقظة الدنيا بيقظة قلبها المتفتح ، والذي يسجل دورة من دورات الفلك عادية ، ويسجل في حياتها بدء عهد سعيد . فلما امتد بها الليل ، وأوشك الفجر ، أخذتها سنة من النوم فراحت في سبات ، وانثالت الرؤى على خاطرها انثيالا ، وكلها ناعم وضيء شفيف . فلما قارب الموعد انبعثت النغمات الرقيقة ، وتسلل الأرج الذكي ، وتمشت الخطوات الهامسة في البهو خارج مخدعها، وتقدمت الوصيفة تفتح الباب لتحييها تحية ۱۱۳ الصباح . وكانت الأميرة قد استيقظت على النغمات الهامسة ، والنفحات الأريجة ، فهمت تعتدل ولم تستو جالسة بعد في الفراش . وفى هذه اللحظة كان الفارس قدقارب سور المدينة ، وهو يمرق بفرسه في لهفة ، وكأنه يطير من فوقها وهي تطير . وقبيل أن ينبعث أول خيط من خيوط الشمس كان الحراس قد تأهبوا لفتح البوابة الكبيرة ، ووقف الحرس خلفها استعداداً لتحية البطل الفاتح قاهر الأعداء ، وعريس الأميرة ، وولى العهد منذ الصباح. فلما أشع أول خيط ذهبي أخذوا في دفع البوابة الكبيرة في هذه اللحظة كانت الساحرة قد انتهت من التمتمة ، وقد انعقد دخان البخور في الجو ، وتلوى فوق المجمرة كأذرع الأخطبوط . وهنا انبعثت من فمها الأدرد صيحة مرعبة كادت الفتاة تصعق لها من الذعر ، ولم تكن إلا هذه الكلمات وهي تشير بيدها إلى المدينة : وقف الزمن . جمدت الحياة . وقف الزمن . جمدت الحياة . ونظرت الفتاة إلى حيث تشير الساحرة ، فإذا الحراس ا الذين يفتحون البوابة قد جمدوا في أماكنهم واستحالوا تماثيل . والبوابة في أيديهم قد وقفت في منتصف الفتحة حيث كانت عندما أرسلت الساحرة صيحتها العجيبة . وذهلت الفتاة لحظة ، فما انتبهت إلا والساحرة تقهقه كالشيطان ، في فرح جنوبى بشع ، وهي تقول : سحرت المدينة . سحرت المدينة . شفيت الضغينة . شفيت الضغينة . ولم يستغرق ذلك كله إلا مدى خطوات الفارس السريعة . . . فلما كان بقرب الباب برزت له ابنة عمه ، وقد أفاقت ، فاعترضت سبيله وزعقت في وجهه ليسمع - كل شيء قد انتهى. وقف الزمن. سحرت المدينة . كل من ... . = فيها تماثيل . انظر للحراس . إنهم جامدون – وهو في سرعته الخاطفة – لم يسمع إلا قليلا ، وكاد يدوس الفتاة التي اعترضته لولا لفتة سريعة لعنان الفرس، فتفاداها وانطلق في سبيله ، فدخل البوابة ركضاً. ولكن البوابة لا تتم فتحتها، وأيدى الحراس جامدة عليها ، وهيئتهم وهم يدفعونها، وقد مالوا بوجوههم وأيديهم إلى الأمام في عنف ، وأرجلهم مثبتة في الأرض ، وقد انفرجت اليمنى

- عن اليسرى . وها هم أولاء رجال الحرس المهيأ لتحيته . إنهم . واقفون وقفة عسكرية في استعداد للتحية ، ولكنهم جامدون . ورن في أذنه صوت الفتاة ، فاستعاد ما التقطته أذنه ألفاظها ، و بدأ يفيق قليلا ، ولكنه يمضى في المدينة و يمضى ، ا من مئات فماذا يرى ؟ رجال جامدون على هيئتهم : هذا يفتح باب داره من الداخل و يخطو برجله اليمنى ثم يقف جامداً والباب موارب . وهذا بائع وضع المفتاح في قفل دكانه وأخذ يديره ثم جمد على هيئته ، وهذا فتح باب الدكان وهم بالدخول . وهذا فلاح يسوق ماشيته وهو والماشية قد جمدوا في وسط الطريق . وهذه امرأة تطل من النافذة وقد بقيت على هيئتها . . . وهكذا وهكذا الصور والأوضاع والحركات وحسب نفسه في حلم مزعج ، فنزل عن صهوة الفرس ، وراح يلمس هذه التماثيل الآدمية في توجس وخيفة ، ثم يهزها، ثم يصرخ في وجهها ، ولا من يسمع أو يجيب . ولكنه سار في طريقه إلى القصر ، وهل يمكن أن يكون قد مس القصر ما مس المدينة ؟ ووجد أبواب القصر تفتح والحراس متهيئين للاستقبال ولكن وا أسفاه ! إنهم تماثيل . وارتجف قلبه رجفة شديدة . . . ، ... ۱۱۶ واندفع يهز الحراس و يصرخ في وجوههم صرخات جنونية . . . ولكن ماذا ؟ ليكن الجميع قد سحروا وجمدوا. أما هي . هي التي تنبض بالحياة والإشراق ، فلن يمسها السحر أبداً . . . واندفع يركض، ويقفز السلاصعداً في وثبات سريعة . و يتلفت هنا وهناك في الغرف والأبهاء : فهذا هو الملك في طريقه إلى المائدة ولكنه جامد على خطوته ، وهذه هي الملكة خارجة من الحمام ، ثم انتهت خطواتها في الطريق ، وهؤلاء هن الوصائف والخدم في حركات الصباح ، والجميع على هيئتهم الأولى وزاد جنونه وهو يبحث عن مخدع الأميرة ، وكلما لقيه تمثال جامد زاده اضطرابا وفزعا ولهفة ... ثم ها هو ذا يجد حجرة الأميرة والوصيفة ببابها : رجل في في الداخل وأخرى في الخارج ، فيمر الفتى من جانبها، ثم ينظر إلى فتاته ... يا الله، إنها حية ! ها هي ذي تهم بالجلوس في فراشها ، وقد اشرأب عنقها الجميل، وافتر ثغرها الفاتن عن ابتسامة وضيئة، وهاتان العينان ، إن فيهما لاستبشاراً وحلماً ! وانتفضت كل ذرة فيه ، وهو يندفع إليها في جنون ولهفة فيعانقها و يصيح : ها أنت ذي وحدك التي نجوت في المدينة ! وصعق صعقة شديدة وهو يلمس الجسد البارد ، و يحس التمثال الهامد . وندت من فيه صيحة جنونية وانطلق من الغرفة عدواً يقفز السلم قفزاً ، و يجرى إلى حيث قد ترك فرسه . فيقفز على ظهرها ، وينطلق إلى خارج المدينة ، ورمحه مشرع في يده ، وقد انتفخت أوداجه، وامتلأت عيناه بالدم، وجز على أسنانه في غيظ، وفارقته كل خالجة إنسانية ، فانقلب وحشاً هائجا مجنوناً . وحينها برز من البوابة لمحته ابنة عمه التي كانت واقفة بجوار الساحرة تنتظر أو بته، وقد أحست أنها استردنه .. لمحته فرأت الشر في عينيه فأسرعت تتوارى . و إن هي إلا لحظة حتى كان قد -

حاذي الساحرة ، وفي الدفاع عنيف أغمد الرمح في صدرها ، فخرج يلمع . من ظهرها ، وهو يضرس على أنيا به قائلا : فعلتها أيتها الشيطانة ! ونطقت العجوز في صوت متقطع :

لو أمهلتنى لأطلعتك على السر . . . ! وكاد يجن فنزل من فوق الفرس وأخذ يهزها في عنف وهو يصرخ :

.

۱۱۷

قولى . قولى أيتها الشيطانة . قولى . والساحرة تردد : ۱۱۸ الماء . الماء ، الماء فقفز إلى ظهر فرسه وأركضها ركضاً شديداً وما كاد يتوارى حتى برزت الفتاه والساحرة تحشرج . وخافت الفتاة أن تفصح للشاب عن السر ، فإذا بها تمد يدها إلى وسطها فتستل منه خنجراً ، تغمده في عنق الساحره . وفياهي لفظ أنفاسها الأخيرة، نطقت في نبرات متقطعة لاهثة : عقد السحر على حقد كظيم . و يفك السحر على حب عظيم . وحينما عاد الفتى يحمل إناء الماء ، كان كل شيء قد انتهى فوقف أمام الجثة مذهولا وقف أمامها لحظات ، ثم اندفع نحو المدينة كرة أخرى الصرخ صرخات مجنونة تشبه العواء ، فلا يجيب صرخاته إلا الصدى ، يرن في جنبات المدينة المسحورة . وظل الفتى يامولاى - أياما يجول في المدينة ويصعد القصر ، و يدخل المخدع ، عسى أن تقع المعجزة فيبطل السحر . ولكن هيهات . - . . وساءت حالته فامتنع عن الطعام والشراب ، وهام في الغابة كالوحش الذاهل ، يجول في منعرجاتها ومنفسحاتها ، ويصعد البرج القائم فيها. ثم يرتد إلى المدينة، فيظل يصرخ في جنباتها صرخات مذعورة إلى أن يدركه الإعياء، فينطرح على الأرض حيثما اتفق : في الطريق، أو على عتبة دار، أو في منعرج من الغابة. والفتاة تتبعه حيثما ذهب، وتلمحه عن كثب، خيفة أن تفترسه الوحوش، أو يموت من الجوع. وفى لحظات ذهوله تجرعه جرعة ماء، أو تدس في فمه لقمة أو ثمرة فاكهة، حتى لا يقتله الظمأ والطوى.

وظل على هذه الحال أياما طويلة والفتاه الوفية المحجبة تتبعه كظله، حتى أفاق من غاشيته، وسرى اليأس إلى قلبه، وعلم أنه كان حلم وانتهى كما تنتهي الأحلام، فعاد إلى حبيبته الأولى

ولاحظ ذات يوم أن الزمن في المدينة لا يتغير، فهو أبداً مطلع صبح. وعندئذ أدرك مع ابنة عمه معنى قول الساحرة العجوز :

وقف الزمن. جمدت الحياة

وأدرك شهر زاد الصباح، فكنت من الكلام المباح.

***

Public domain هذا العمل في الملك العام في مصر وفق قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002، إما لأن مدة حماية حقوق المؤلف قد انقضت بموجب أحكام المواد 160–163 منه أو لأن العمل غير مشمول بالحماية بموجب المادتين 141 و142 منه.
مصر
مصر